الخميس، 18 مايو 2023

روسيا وأوكرانيا... أو تظاهرة انتقال القوة من الغرب إلى الشرق

 

ننقسم، ينقسم الناس على واقعة سياسية، والأرجح تاريخية كبيرة مثل حرب روسيا على الجارة الأوكرانية ودفاع الأوكرانيين عن دولتهم وأمتهم، تبعاً لمعيار جوهري هو هوية المتحاربين. وغالباً ما يتقدم هذا المعيار معايير أخرى تتناول غاياتهم وأساليبهم ومناهجهم، وما تفترضه هذه من أحكام وحقوق، وتبرره من سياسات وقواعد، وتجره من نتائج على علاقات الدول والمجتمعات بعضها ببعض.

فـ"الهوى الروسي"، المتخلّف عن الماضي القيصري والأرثوذكسي، وربما عن الرهط الذهبي، المغولي، وخلطه تاريخ البلد الشاسع والقائم على ضفتي آسيا الوسطى (وشرقها الأقصى) وشرق أوروبا، أو المتخلف عن الماضي "السوفياتي" و"الثوري الأممي" القريب- هذا الهوى داعٍ قوي إلى التخفّف من التحفّظ عن تسويغ العدوان بحرب وقائية يزعم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، و"طباخه" (وصاحب "فاغنر") يفغيني بريغوجين، شنّها رداً على حرب كان "الغرب" الأطلسي، أو الجماعي والمشترك، يزمع شنّها على روسيا.

ويبعث الهوى الحار هذا على إسكات التحفظ "الإنساني" عن بربرية الحرب الروسية، وقصفها المتعمّد وحرقها مرافق الحياة المدنية، وتوسلها إلى تدمير الشعب الأوكراني بحيل "قانونية" مثل ضم أراضٍ محتلة إلى الأراضي الإقليمية والوطنية الروسية وإعلانها جزءاً أصيلاً منها، ثم "تجويز" الدفاع عنها بسلاح نووي تكتيكي. ويغضي أصحاب الهوى الروسي عن تذرّع بوتين برواية تاريخية كاذبة. يزعم "وحدة" أبدية بين الروس وبين شعب أوكرانيا، "صنعها الله ولم نصنعها نحن" تقريباً.

وينكر وقائع قريبة، من قيام دولة أوكرانية، عام 1991، في حدود دولية (وهو ما حاول سفير بكين في فرنسا الرجوع عنه قبل أن "تصححه" وزارة الخارجية)، إلى مقايضة أوكرانيا تخليها عن السلاح النووي السوفياتي، في 1994، لقاء اعتراف روسي بحدودها الدولية التي لا تستثني شبه جزيرة القرم المحتلة (منذ 2014). وينسى الهوى الروسي المقارنة بين زعم تضليل ("ديزانفورماتسيا" يوري أندروبوف، أحد أواخر رؤساء الاتحاد السوفياتي المرضى، 1982- 1984) موسكو أن حكام كييف "طغمة نازية" متسلطة، وبين حصول مرشحي التيار النازي في أوكرانيا على 2.02 في المئة من أصوات المقترعين، في دورتي الانتخابات النيابية الأخيرتين.

 

"انتقال القوة..."

 

وإفضاء سابقة مثل العدوان الروسي، إلى فوضى دولية، وإطلاق يد إمبراطوريات مستبدة ومتعسكرة تنكر الكيانات الوطنية، وتحملها على عَرَض ترتب على انحلال الإمبراطوريات ليس إلا (وهذا ركن "نظرية" ألكسندر دوغين، مرشد بوتين الفكري أو أحد مرشديه في العلاقات الاستراتيجية في حقبة ما بعد الحداثة) في دوائر نفوذ خاصة، هذا الإفضاء الراجح لا يعكر بال أو مزاج من يستبد بهم الهوى الروسي، ويسدد أحكامهم السياسية والتاريخية ويقيم معاييرها.

فيجوز السؤال عن مصدر الميل إلى سياسة مثل السياسة البوتينية، وقبول ذرائعها وعللها المتهافتة، والسكوت المريب عن عنفها وتطرفها (النووي على الأخص) وآفاتها المدمرة. ويجمع شطر من المحللين الغربيين على تعليل الميل أو الهوى هذا- وهو يشمل في أحوال كثيرة صين شي جينبينغ، وتركيا رجب طيب أردوغان، وهند ناريندرا مودي، وإيران علي خامنئي وقبله روح الله خميني... ناهيك عمن هم أقل حجماً وأحياناً أشد أذى- بعداء "الغرب"، والضغينة على استعماره وإمبرياليته وسطوه على تاريخ "الجنوب" وموارده، وبالثأر لهذا الجنوب المقهور والتصدي إلى قيادة العالم.

ولا شك في أن التلويح بأفول الغرب، وتقلص نفوذه يوماً بعد يوم في الشرق الأوسط (وهذه عبارة "غربية") على الخصوص، في إطار "انتقال القوة من الغرب إلى الشرق" وموقع إيران منه، على ما يظن إسماعيل قاآني خليفة قاسم سليماني ويأمل، عَلَم بارز على المرحلة، وعلى بعض مقالاتها. وتنسب هذه المقالات إلى "الغرب"، متكاتفاً ومتآمراً ومتعمداً، أمراض "الشرق"، أو "الجنوب"، و"زماناته"، على قول رابع الأئمة محمد الباقر في علل بعض النبوات. وفي حسبان الجنوبيين هؤلاء لا يعقل ألا تكون الحرب، والروسية على أوكرانيا خصوصاً وأولاً، غير غربية، أكانت خلافاً أهلياً، شأن حركة الإيرانيين والإيرانيات على "الديكتاتور" وعماماته ورشاشات وسموم حرسه، أم خارجياً، شأن "أم حروب" البوتينية في العقد الثالث من القرن.

ولكن ما ينكره من ينصبون أنفسهم ألسنه جنوب تصنعه إخفاقاتهم وأوهام عظمتهم، على الغرب وسياساته الدولية، اذا نُحِّي العتب على الكيل بمكيالين، على ما يصنعون هم في علاقاتهم البينية والداخلية أضعافاً مضاعفة، (ما ينكرونه) هو ما يطعن في استبدادهم، ويقيد وطأة أنظمه حكم تنزع الى إرساء "دولة- حزب واحد" لا شريك لها في الأمر والرأي.

أما الغرب الرأسمالي والإنتاجي الذي يدمر موارد الكوكب ويبددها، الغرب الاستهلاكي الذي يحيل علاقات البشر إلى أنماط رتيبة من الردود المأذونة والمقررة، والعلاقات السياسية والاجتماعية إلى شعائر تمثيل صورية، هذا الغرب يتربع في سدة "الرؤى" التي تقود خطى أولياء "انتقال القوة من الغرب إلى الشرق".

وما يفتن الأولياء والدعاة الجنوبيين أو الشرقيين هؤلاء في غربهم هو تجاوزه القيود الحيوية التي يقيد بها اجتماع وعمران حيّان و"مهذبان"، على قول جورج أورويل (1901- 1949) القوة وأسبابها وعواملها. وكانت الكلِّيانيَّتان (التوتاليتاريتان) اللينينية- الستالينية والهتلرية المثالين القصويين لنازع الحداثة الرأسمالية والعقلانية إلى إنشاء "عالم" لا حدود لفتوحه البلدانية والاقتصادية والسياسية والعلمية (على نحو صداقة شي جينبينغ وفلاديمير بوتين عشية الغزو).

 

مغالبة التاريخ

 

ويغلب على محاولات تجاوز الحدود (الإمبراطورية) وإلغائها نازع إحيائي أو "بعثي"، على المعنى الحرفي أو المعجمي. فما يعلن بوتين إرادته والسعي في إنجازه أو تحقيقه، هو قيامة "عالم روسي" لم يَخلُ يوماً- على ما يتوهم، ويدحض المؤرخون هذا الوهم- من أوكرانيا وبيلاروسيا. وبينما الإتحاد الروسي، وهو اسم "روسيا" الرسمي، خليط من الأقوام والأعراق واللغات والمجتمعات، يرسي الرئيس الروسي ومنظروه وحدة عالمه المفترضة على اللغة والإثنية "القوميتين".

وهو ينيط عودة روسياه بعاملين يفرقان بين مواطني الاتحاد ويبعدان بينهم. وذلك لأن اللحمة الفعلية، على ما يعلم بوتين وأمثاله- في بلدان العالم التي ورثت إمبراطوريات تاريخية، ولا تزال ثابتة على غلبة المعنى الإمبراطوري، شأن من نعلم-، هي القوة العارية والغاشمة. ولكنهما عاملان يغالبان التاريخ، وأطواره المتقلبة والمتغيرة، ويوهمان بـ"طول البقاء" من بعد الحدثان.

وتنهض قيامة الإمبراطورية، ولا تخفى أصداء الصورة الدينية والعُلَوية، على موت الجماعات أو الشعوب المقهورة وذوائها واندثارها. وبينما يُنشد بوتين هيامه بأوكرانيا، مهد "روس كييف" والنطفة الروسية الأولى، وينفخ البطريرك كيريل رأس الكنيسة الروسية الأرثوذكسية في الروح الذي تجسد في الأرض الواحدة والعائلة الواحدة، تلاحق مسيراته، وصواريخه الباليستية وقنابله الذكية، أضعف بصيص ضوء، أو رعشة تيار كهربائي، في زاوية ملجأ من ملاجئ باخموت او خاركيف.

فدعا هذا مؤرخاً أميركياً بارزاً من أصول أوروبية بلطيقية وشرقية- تيموثي سنايدر، صاحب أرض الدم، أوروبا بين هتلر وستالين، 2010، في العلاقات الألمانية- السوفياتية في أثناء الحرب الثانية، وتجديد بناء الأمم، بولندا، أوكرانيا، ليتوانيا، بيلاروسيا، 1569- 1999، 2003- دعاه إلى وصف الحرب الروسية على أوكرانيا بالحرب "الكولونيالية" أو الاستعمارية. وهو يدرجها في سلك حروب كولونيالية أوروبية مثلها سبقتها، أبرزها الحرب العالمية الثانية. فهي، على قول سنايدر، "حرب كولونيالية ألمانية فاشلة" (حوار مع لوموند اليومية الفرنسية في 10/4/2023).

وأعقبتها حروب كولونيالية، فرنسية (في أفريقيا وآسيا)، وهولندية (في شرق آسيا)، وبورتغالية (في أفريقيا)... وعلى هذا، فـ"أوروبا اليوم مجموعة دول ما بعد كولونيالية". وقياساً على هذه الحروب، لا شك في أن روسيا بوتين تعامل أوكرانيا معاملة المستعمرة. وقول بوتين أن لا وجود لأمة أوكرانية، أو دولة أوكرانية- على شاكلة نفي الدولة الفرنسية، وأحزابها اليمينية واليسارية، حقيقة "أمة جزائرية"، أو رد عرب مشرقيين دول المشرق، ما عدا دولتهم الممزقة والأهلية، إلى صنيع السيدين سايكس وبيكو- "من تقاليد خطابة التفوق الاستعماري".

 

الأمم/ الإمبراطوريات

 

ويقارن المؤرخ الأميركي- البلطيقي بين أطوار روسيا وأوكرانيا السياسية والثقافية بعد 1991، تاريخ حل الاتحاد السوفياتي واستقلال الدول الوطنية عنه (ويزعم دوغين البوتيني أن الحل والنشأة هذين هما مثال تكون الدول- الأمم الحديثة والمعاصرة عموماً، ويخلص إلى أن التاريخ الحقيقي هو تاريخ الكيانات الإمبراطورية وصراع البحرية منها مع البرية، وروسيا، والصين بعدها، طليعتها المظفرة والغالبة).

ويلاحظ سنايدر أن أوكرانيا بعد 1991، ثم بعد 2014 وثورة ميدان "الأوروبية"، غلّبت السياسة والتجريب السياسي، على العوامل الثابتة و"اللاتاريخية" التي تستقوي بها الأوليغارشية الروسية المتسلطة (العرق واللغة والدين). فتعاظم تمكين المجتمع المدني وجمعياته وروابطه ونقاباته، على خلاف القمع الذي جرَّم صور التجمع والتعاون والمراقبة والمحاسبة وأبنيتها المستقلة في روسيا.

وبلور المجتمع الأوكراني، في الأثناء، نخباً فتية وجديدة خرج من صفوفها حكام شباب، أربعينيون، هم من يمثلون الأوكرانيين اليوم، ويوليهم هؤلاء ثقتهم، وتنتخبهم نسبة راجحة منهم تبلغ 70 في المئة (وهي حال فلوديمير زيلنسكي، "السكير" و"مدمن المخدرات" و"داعي المثلية"، بحسب ديمتري ميدفيديف وسيرغي لافروف، من حلقة بوتين الضيقة).

بينما عمد ضباط الاستخبارات الروسية السابقون، وهم "النخبة" البوتينية وزملاء "القيصر" السابقون، إلى تزوير الانتخابات، واغتيال المعارضين أو سجنهم، وتخوين الجمعيات الأهلية "العميلة"، وخنق المنابر الإعلامية والثقافية، فضيَّعوا على المجتمع الروسي فرصة بناء مجتمع مدني، ورعاية نخب سياسية متنوعة ومختلفة. وزج الضباط الأمنيون السابقون بالشباب الروسي في الحرب العبثية، الكولونيالية، التي يتصدرها مرتزقة "فاغنر"، ونخبة معتقلي القانون الجنائي الروس، وقد يخلفهم شيشان قديروف، في شرق أوكرانيا وجنوبها.

وقطع الطرق كلها إلى تكوين نخب سياسية وإدارية واقتصادية، تخلف الأوليغارشية المتسلطة ولا تقطع الرجاء من انتقال غير فوضوي أو مخيف للسلطة، هو من مناهج السياسات الاستبدادية، وأحد أبرز "انتصاراتها"، على قول إبراهيم رئيسي وغيره من قيادات الإقليم المزمنة. ولا سبيل إلى تكوين مثل هذه النخبة إلا من طريق "(تفتح) مئة زهرة، و(تنافس) مئة مدرسة"، على قول ماوتسي تونغ، (1893- 1976) ولكن عشية قمعه في الدم حركة مدنية خاف نتائجها، في 1957- 1958. والحرب- فعلية كانت على شاكلة روسيا اليوم، أم سُلِّط تهديدها وجوازها على البلد، على شاكلة حروب "عربية" معلقة- هي من غير شك أنجع ذريعة إلى إذابة السياسة، وأدواتها وموازينها، في قسمة الولاء والخيانة ("الكفر") القاتلة.

 

رحم الحروب

 

والأرجح أن سعي الرئيس الروسي (منذ 24 سنة) في إيقاد "الحروب" المتسلسلة، الخارجية و(شبه) الداخلية، مرده إلى الحؤول دون شق السياسة طريقاً في الحياة والجسم الروسيين. وتماشيه ميول تاريخية واجتماعية روسية تدعو شطراً راجحاً من الروس إلى الاستقالة.

فيلاحظ كاتب فرنسي- أميركي من أصول روسية، جوناثان ليتل (روائي ربات الصفح، 2006، التي تجري حوادثها في ألمانيا وروسيا، في الحرب العالمية الثانية)، أحد ضباط الاستخبارات الذي تربع في كرسي بوريس يلتسين في 1999 افتتح عهده بشن حرب ثانية، مدمرة، على بلاد الشيشان. وأرسى صيت الحزم والحسم الذي أراد أن تُعرَف سلطته به، على قمع ساحق طاول المدنيين قبل المقاتلين، والحجر والبشر على حد سواء، وكان الروائي الشاب، يومها، شاهداً "إنسانياً" عليه (في العدوان الروسي، كتابات سجالية، 2022).

وقبل أن يثنّي بالحرب على جورجيا، عمد إلى تطهير الداخل. فاغتالت أجهزته يوري شيكوتشيخين، وأنّا بوليتكوفسكايا وبوريس نيمتسوف وآخرين. وغزت القوات الروسية جورجيا، في 2008، في أعقاب حيلة أوقع بوتين فيها الرئيس الجورجي. وحين استعاد كرسي الرئاسة من رئيس وزرائه، وظله، ديميتروف، في 2012، تظاهر روس كثيرون، ونددوا بقفل الانتخابات الرئاسية على حلقة ضيقة من الأوليغارشية. وبرز نافالني علماً على الحركة المدنية المنددة بالفساد. فرد الرئيس المرشح بالدعوة إلى تظاهرات مضادة في الأماكن التي دعا المعارضون إلى التظاهر فيها، وفي رعاية الأمن الروسي، على نهج خبره اللبنانيون والسوريون والعراقيون عن كثب.

واستن الرئيس "الجديد" قوانين قمعية ملأت السجون بآلاف المعتقلين والموقوفين الذين دين معظمهم بعقوبات "إسرائيلية"، طالت أعواماً لا نهاية لها إلا بالمرض المُقعِد، في أحسن الأحوال، وتوسل الرئيس ذو الولايات المتعاقبة، والآخذ بعضها بتلابيب بعض، إلى إرضاء "الشعب" الروسي، والاقتصاص من أوكرانيا على طردها رئيساً موالياً له وناكصاً عن وعده لناخبيه بالانضمام إلى أوروبا واتحادها، وهو انتخب على هذا الوعد، بالانقضاض على شبه جزيرة القرم، وضمها عنوة، وفي غفلة عن أهل شبه الجزيرة، وعن الأوروبيين والغربيين المنتشين بالسلم والغاز الروسيين.

وأشعل "القيصر فلاديمير"، على ما مدحه إعلامٌ بعضه خانع متملق وبعضه مأجور، قتالاً أهلياً في الدونباس، لوهانسك وليتوفسك، شرق أوكرانيا، مستميلاً أوكرانيين من أصول روسية، "عرقية" ولغوية، على مثال قومي ضيق وبائس. ويلاحظ جوناثان ليتل أن احتلال القرم، تحت ستار "استعادة"، وثأر من اقتطاع واغتصاب مجحفين وعدوانيين ومن ضعف (خروتشيفي، ولينيني أثيم قبله)، أثار حماسة معظم الروس، 91 في المئة منهم، وتوّج بوتين بطلاً قومياً، فاتحاً أو غازياً، على قول جمهور أردوغان، ومنصوراً.

وفرح "المثقفون" بما بدا لهم روسيا "جديدة"، ولا تحول جِدّتها بينها وبين بعث فتوح بطرس الأكبر (1672- 1725)، وقبله القديس ألكسندر نيفسكي (1220- 1263)، ولم لا إيفان الرهيب (1530- 1584). ويعود التاريخ القومي والأسطوري فيصل المطلع المجيد بخاتمة "الحرب الوطنية الكبرى" (أو الحرب العالمية الثانية في صيغتها الخاصة). فالداعي الأول إلى مبايعة طغاة التاريخ الروسي هو الرعب من عودة "زمن الاضطرابات" وأهواله التي سبقت استتباب الأمر لآل رومانوف. وتمزج الأيديولوجية الملاحم والفتوحات العظيمة بـ"صغائر" الرواتب والعوائد والهبات والريوع التي تجزي السير في ركاب الجهاز البوتيني.

ويخاطب ليتل "أصدقاءه" الروس، فيكتب: "وعدتم (غداة ضم القرم واندلاع القتال في الدونباس) إلى الأدب والسينما ولوائح إيكييا (للمفروشات)، أو أقدمتم على التمتع بالحدائق الجديدة التي زينت (موسكو) منذ 2012، ومقاعدها الرخوة والوثيرة، والإنترنت المجاني والمقاهي على الموضة. نعم، كان الدونباس بعيداً، بينم العيش في موسكو رخياً، ويزداد رخاؤه يوماً بعد يوم." (ص18).

ثم شرَّق بوتين إلى سوريا في 2015، غداة انتصاراته الغربية. وذهب جوناثان ليتل، الصحافي، إلى سوريا. ودخل باب عمرو بحمص شهرين قبل سقوط الحي، وقبل مؤازرة الطيران الحربي الروسي "قوات الاتحاد الوطني" السورية، والفرقة الرابعة، والفيلق الخامس... وشهد بأم العين اغتيال القناصة الأطفال دون العاشرة في طرق المدينة الظليلة والقديمة. وأتم العمل، على قول العسكريين الأميركيين، بقصفٍ ترك حلب، العاصمة الاقتصادية السابقة، قماشة متخرقة لنصف قرن قادم، على أضعف تقدير ورغم "عودة"- عودة أخرى- سوريا إلى الحضن العربي، على زعم أحمد أبو الغيط، أمين عام جامعة عربية متفرقة.

 

أفق الدهر

 

وتلد الحرب على الخارج القريب- وهي عبارة روسية المعنى، وتدل على الحزام الإمبراطوري الذي تطوق به دولة فاتحة قوية وخائفة نفسها، وتترجح بين الاحتماء به وبين ضمه أو ضم أجزاء منه، على شاكلة روسيا مع فنلندا- انقساماً من صنف مؤاتٍ لطبقة الحكام. ويرى الصحافي الروسي، أندري ف. كوليسنيكوف أن الحرب الروسية، في أعقاب التعبئة الجزئية، قد تغير "أنموذج العقد الاجتماعي" برمته. فتشرك الدولة "طبقات (اجتماعية) مختلفة ومتفرقة... في عمليتها الخاصة." (من تقرير أعده الصحافي إلى مؤسسة كارنيغي للسلام العالمي، ونشرته على موقعها الإلكتروني في 10/4/2023).

وقد تحولها إلى "حرب شعبية توحّد الأمة". فعلى حين كان العقد السابق والسائد يعارض "نحن"، الشعب أو الناس والعامة، بـ"هم"، أعلى الهرم الاجتماعي، يعارض العقد، المولود من الحرب "نحن"، الروس كلهم، بالأعداء الأوكرانيين، ومن ورائهم من يصدرون إليهم الأوامر، على قول لافروف في المسيّرتين اللتين انفجرتا فوق جناح الدوما بالكرملين، الأميركيين و"النايتو" والغرب "الجماعي" وعملائه.

و"نحن" هذه تسعى في تسريع "انتقال القوة" من غرب أميركي، متصدّع ومتآكل، إلى جنوب أو شرق يكاد لا يدري ما يصنع بموارد القوة التي تتدفق من خلاياه كلها، بينما يدب الضعف في مفاصل عدوه المتهاوي. وإذا كان الانتصار المؤزّر على الغرب هو هدف الحرب الشعبية المقدسة، ففي وسع بوتين وشي جينبينغ والآخرين "قضاء البقية الباقية من الدهر في السير نحو الأفق (المتحرك) هذا"، على قول كولسنيكوف.

موقع رصيف الخميس 11 مايو

الجمعة، 6 مايو 2022

الحرب تعود جزءاً ملازماً لبيئة العلاقات الدولية

 


الجمعة 6 مايو

طُبع وصدر كتاب فرانسوا هيسبورغ، المستشار الخاص لمؤسسة البحث الاستراتيجي الفرنسية ورئيس المعهد الدولي اللندني للدراسات الاستراتيجية سابقاً، "عودة الحرب"، أو رجوعها، في تشرين الأول/ أكتوبر 2021، عن دار أوديل جاكوب الباريسية. وكُتب، على الأرجح، في ربيع وصيف العام نفسه. وآخر واقعة يشير إليها الكاتب، وتأخرت عن كتابته، هي جلاء القوات الأميركية، المتوقع، عن الأراضي الأفغانية، عشية الذكرى العشرين لمهاجمة "القاعدة" برجيْ مركز التجارة العالمي بنيويورك وجناح البنتاغون في واشنطن.

 

 وعلى هذا، فالحرب العائدة أو الراجعة ليست حرب روسيا على أوكرانيا، وليست على وجه التخصيص حرباً على الأرض الأوروبية التي لم تشهد حرباً "كبيرة" منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ويصدق هذا التأريخ إذا أُغضي عن حرب كوسوفو وانفجار يوغوسلافيا في العقد العاشر، وعن قتلها 200 ألف إنسان معظمهم من المدنيين، وإذا نُسي الهجوم السوفياتي على تشيكوسلوفاكيا في صيف 1968، وسُهي عن هجوم سوفياتي سابق على بودابست المجرية في 1956، والهجومان خلّفا الآلاف من الضحايا، وغُفل عن حربي روسيا على جورجيا (2008) وأوكرانيا (2014).

 

وفي الأثناء، أي منذ الحرب العالمية الثانية إلى يومنا، فشت الحروب المتفرقة، حروب الدول، وحروب الأهل، والحروب الإقليمية، والحروب غير النظامية، والإرهاب، والأغلب حروب تخلط هذه الأصناف والأبواب على مقادير متفاوتة، في أرجاء الكوكب من غير كابح ولا حاجز تقريباً. فأين الجدّة في حرب أو حروب عائدة مطلع العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين، إذا لم يقصد بها حرب أوروبية؟

 

يتناول "عودة الحرب" أمرين، على الخصوص، أشد هولاً من الجبهات العسكرية المتناثرة، ومن الحرب المشبوبة والمدمّرة التي تقودها موسكو على الشعب الأوكراني "الشقيق"، هما الحرب العالمية (الجائزة) بين القوتين العظميين، الولايات المتحدة الأميركية والصين "الشعبية"، أولاً، واجتماع عوامل متراكمة ومتضافرة، ناجمة عن أزمات واختلالات وابتكارات (تقنية)، مزمنة أو طارئة، يخلق اجتماعها وتضافرها بيئة تيسّر المبادرة إلى الحرب ولا تلجمها إذا هي اندلعت، وتعوق المفاوضة على السلم، ثانياً. والأمران يحتسبان، في ضوء حروب القرن العشرين، أحجام الحروب ومستوياتها، وأنماط تسلسلها وأطوارها في إصعادها نحو ذروتها المزدوجة والمروّعة، العالمية والنووية.

 

حادثة بحرية ضئيلة

ولعل ما يدعو المراقب إلى تقرير هذه العودة، ووصف الأعراض المؤذنة أو المرهصة بها، هو بعض الحوادث الطفيفة التي تدل على عدم تهيُّب الإقدام على أفعال تترتّب عليها، في السياق الذي تُرتكب فيه، عواقب غير محمودة، على أضعف تقدير، ويعلم مرتكبوها أنها قد تجر إلى خسائر فادحة. ويمثل فرانسوا هيسبورغ على مثل هذه الحوادث بالدقائق القليلة التي كاد الطرّاد التركي، "أوروش ريّس"، في 10 حزيران/ يونيو 2020، أن يطلق فيها النار على الفرقاطة الفرنسية "كوربيه"، حين اعترضت هذه طريقه، وأرادت تفتيشه في إطار عملية حلف الأطلسي "سي غارديان"، على الشواطئ الليبية، ومهمتها منع أعمال التهريب على أنواعها إلى ليبيا ومنها.

 

واقتربت الدولتان وهما حليفتان في منظمة واحدة، من حافة الاشتباك. وتتصل المناوشة بين "أوروش ريس" و"كوربيه" بالنزاع الليبي بين شرق البلد، وعلى رأسه خليفة حفتر، وبين غربه، وعلى رأسه (يومها) فايز السرّاج. وتؤيد روسيا، من طريق شركة "فاغنر" الأمنية، حفتر، بينما تحضن تركيا رئيس مجلس الدولة. وروسيا وتركيا يتنازعان، من غير اشتباك مباشر، السيطرة على شطر من سوريا. وكانا، في آخر فصل حربي بين أذربيجان وأرمينيا، على مسرح القوقاز، على طرفي القتال.

 

"عودة الحرب، على معنى شيوع الشروط التي تيسّر تصوّرها وقبول جوازها أو احتمالها، ومباشرتها أو الوقوع فيها، وَجه من وجوه انحسار العولمة أو انقباضها وانكفائها النسبيّين"

والحادثة، الضئيلة إذا أُفردت على حدة، تستدرج إلى معانٍ "كبيرة" حين تُدخل في شبكة حوادث أو عوامل مشابهة لها. فعلى شاكلة قريبة منها، تتعقب البحرية الصينية في بحر الصين الجنوبي، وفي الناحية الشرقية منه، سفن صيد البلدان المشاطئة، مثل فيتنام والفيليبين، أو سفناً حربية ترفع علم اليابان أو أستراليا أو الولايات المتحدة الأميركية، وتقترب منها على نحو يهدد سلامة الملاحة.

 

ويُعطف ذلك على استملاك بكين عنوة جزراً متنازعة في الدائرة البحرية، وعلى رفضها الاعتراف باتفاقات مشتركة وجماعية تنص على تقاسم حقوق متوازنة. وتقدّم عليها اتفاقات ثنائية، تفرّق صفوف المفاوضين، وتحرّض بعضهم على بعضهم الآخر، وتثير المنافسة بينهم.

 

السلاح الديمقراطي

ومن جهة أخرى، بعيدة من المقارنة بين الصين وتركيا، اضطلعت المسيّرات التركية بدور راجح في الحرب الأذرية-الأرمينية. ويذهب هيسبورغ إلى أن المسيّرات، شأن الاتصالات الخلوية والشبكات السيبرانية، ذات أثر قوي في تقليص تكلفة الحرب، والمساواة بين الدول، وقواتها العسكرية الثقيلة التجهيز، وبين الجماعات المحاربة والمتنقلة من ملجأ إلى ملجأ.

 

ويترتب على الهجمات السيبرانية، وعُسر تعيين مصدرها، وعلى مفاعيلها الباهظة في أحيان كثيرة، تضييق الفرق بين الحرب والسلم وتوسيع المنطقة الرمادية بين الحدّين. فتكثر الشبهات السياسية والجنائية ومعها الدواعي إلى الظن في مقاصد من قد لا يكونون، ظاهراً، خصوماً.

 

ولا شك في أن انخراط كيانات سياسية مختلفة، ومتفاوتة الصفة، تترجّح بين الحلف الدولي والدولة الإقليمية وبين الفريق المحلي وجزء أهلي من بلد متداعٍ و"فاشل"، في كتلة واحدة، يضيّع معالم المساءلة والتعارف القانونيين. فالبحرية التركية التي ترابط على الشاطئ الليبي، وتتذرّع بتعاملها مع دولة ذات سيادة، وقّعت معها معاهدات "بين دولة ودولة"، إنما ترعى جزءاً من أهالي البلد وجماعاته وأحزابه، وميليشياته، ومرتزقته. ولا تثبت أحوال هذا الجزء على تماسك مضطرب إلا بعض الوقت، وفي ظروف متغيّرة، داخلية وخارجية، ولقاء أثمانٍ بعضها غير مشروع.

 

"فَقدت الفروق بين ما هو حرب وما ليس بحرب جلاءها ووضوحها السابقين. إلا أن ‘المناطق الرمادية’ و‘النزاعات غير المرئية’ و‘الحروب الهجينة’ غالباً ما تمهّد الطريق إلى حروب صريحة، وتتعدّى المراحل الوسيطة إلى هذه النهايات"

وعلى هذا، قد ينقلب التزام البحرية التركية النظامية الدفاع عن حق سيادي ودولي يقرّ لها بالحصانة من التفتيش المتعسّف، إلى الضلوع في قرصنة مبتذلة، والتستّر على عملية تهريب عادية وسائرة. فالخليط المتفاوت والمختلف الذي يعقد بين كيانات متباينة الأحوال والأوضاع "يخلط" بدوره صفة الأفعال الصادرة عن الأطراف والكيانات، ويجر الفعل والطرف إلى قتال مشتبه.

 

العولمة الملجومة

ولا تستقيم دلالات الملاحظات الجزئية والمبعثرة إلا بحملها على اتجاهات وأطوار "مزمنة"، طويلة الأمد الزمني، وعمومية التظاهر. فعودة الحرب، على معنى شيوع الشروط التي تيسّر تصوّرها وقبول جوازها أو احتمالها، ومباشرتها أو الوقوع فيها، وَجه من وجوه انحسار العولمة أو انقباضها وانكفائها النسبيّين. فمنذ أزمة 2008- 2009 المالية والاقتصادية تأخر تنامي المبادلات الدولية السلعية (وليس المالية والمصرفية) عن نمو الاقتصاد العالمي، واصطدم انتقال البشر بمعوقات وحواجز طارئة، وذلك من الحدود الأميركية-المكسيكية إلى حوض المتوسط.

 

وعمدت الصين إلى تشييد "سور (رقمي) عظيم" سوّرت به تدفّق المعلومات والبيانات. ورفع الاتحاد الأوروبي دوائر حماية حول المعطيات التي تتعلق بخصوصيات الأفراد. وأولت روسيا اهتمامها فك فضائها الرقمي من الشبكة العنكبوتية العالمية، وعزله عنها. وأقدمت ديكتاتوريات موصوفة، وبعض الديمقراطيات، على حظر الولوج إلى الشبكة، في أثناء الاضطرابات الداخلية أو تلافياً لأخطار إرهابية، مفترضة أو حقيقية. وتهدّدت البلقنة أو التجزئة الإنترنت، عنوان العولمة الأول والأبرز.

 

وتعثّرت الولايات المتحدة الأميركية، وهي محور النظام الاقتصادي والاستراتيجي العالمي، وراعيته وضمانته، وزلّت قدمها منذ اجتياح جورج دبليو بوش العراق، وحملته البائسة عليه. وعظّم العثرة إحجام باراك أوباما عن الاضطلاع بدور الريادة الأميركية عام 2013 في سوريا. وعلى خطاه سار دونالد ترامب. وقد لا يفلح جو بايدن في تصويب المسار، بينما تمضي الصين على توسيع دورها.

 


وأدّت جائحة "كوفيد-19" إلى تعميق هذه الاتجاهات. وثبّتتها الأزمة الاقتصادية القاسية التي كبحت العولمة وأصابتها في مواضع شديدة الحساسية. فغذت انكفاء البلدان والمجتمعات على نفسها، وأذكت المنافسة بينها. وبدلاً من عقد الأيدي، واجتماعها على معالجة الأزمة الصحية، شهد العالم تفرّق الجهود، وانفضاضها عن الغرض المشترك، وانصراف كل طرف إلى علاج شاغله ومشكلته في معزل عن غيره.

 

ولا يؤذن هذا بتضافر الجهود على التصدّي لما يفوق جوائح فيروسية كثيرة خطراً، وهو التغيُّر المناخي المتعاظم. فالصين، وهي البلد الي تدنّت خسارته من الجائحة عن خسائر غيره على رغم أنه حضنها الأول، تخرج على النظام الليبرالي والديمقراطي الذي ازدهرت في كنفه، وتدين له ولقواعده بـ"إقلاعها"، ومواردها التكنولوجية، وبعض أسواقها. وتصاحبها في خروجها روسيا المستميتة في طلب ثأرها لانهيار الاتحاد السوفياتي.

 

وكلا البلدين يقصّر تقصيراً فادحاً عن رسم خطوط علاقات دولية في إطار مجتمع دولي لا تسوده فوضى مدمّرة، أو يستوي على شاكلة النظام الذي صنعه الاتحاد السوفياتي في أثناء الحرب الباردة. وفوضى عالمنا اليوم لا تشبه الحرب الباردة، واستقرارها الغريب، ولا تُنذر باندلاع الحرب حتماً جراء خوف القوى الغالبة والراسخة من منافسة قوى جديدة ناشئة، على مثال ينسب إلى توقيديدس (توسيديد) اليوناني، الذي أرّخ لحروب المدن اليونانية تحت لواءي أثينا وإسبارطة (431 ق.م.- 404).

 

أينما توجّهتم...

ولعل الشّبه الأقرب بين صورة عالمنا وبين صورة سابقة للعلاقات الدولية، ومحل الحرب منها، هو بألمانيا الغليومية (غليوم أو فيلهلم الثاني، قيصر الإمبراطورية 1888- 1918)، وبروزها على المسرح الدولي في عقد 1890. أو الشبه بعقد 1929- 1939، وفي أثنائه عجزت القوة المهيمنة الآفلة، أي الإمبراطورية البريطانية، عن الاضطلاع بضبط العالم، أو رفضت الاضطلاع بالضبط، بينما لم تكتمل شروط القيام بالمهمة للقوة الأميركية الخالفة. وفي كلتا الحالين، كانت الحرب العالمية على الموعد.

 

وفي هذا الوقت، لم تكفّ الأسلحة المتجددة عن الاصطباغ بصبغة عمومية، أو ديمقراطية، ولم تكفّ دوائر استعمالها عن الاتساع والانتشار، على ما تقدّم القول. وبين الحرب السيبرانية والمعلوماتية اليومية، وهي قليلاً ما تقتل، وبين الكارثة النووية، وتهديد طيفها الماثل والمقيم على طيفيته وافتراضيته لحسن الحظ، فقدت الفروق بين ما هو حرب وما ليس بحرب جلاءها ووضوحها السابقين. إلا أن "المناطق الرمادية" و"النزاعات غير المرئية" و"الحروب الهجينة" غالباً ما تمهّد الطريق إلى حروب صريحة، وتتعدّى المراحل الوسيطة إلى هذه النهايات.

 

وفي عالم من غير نظام أو ترتيب يضبطه، تغلب "تجربة" (على معنى الصلاة: "نجّنا من التجربة") النازع إلى استعمال القوة في موضعين: على أبواب أوروبا وفي مركز العالم الاقتصادي والاستراتيجي، أي منطقة الهند- المحيط الهادئ. ويترجّح هذا الاستعمال، على ما سبق القول كذلك، بين مستوى الجماعات والعصابات غير النظامية وبين الدول العظمى.

 

وفي خضمّ هذا الاضطراب يعوّل بعض الدول الأوروبية على الحماية الأميركية، في وقت تترنّح الثقة في هذه الحماية، وتتردّد الولايات المتحدة في ضمانها، وتقدم مواجهة ارتقاء الصين إلى مرتبة القوة العظمى على غيرها من المشاغل. ويلوح في شرق أوروبا خطر روسيا الداهم. ودول شرق أوروبا على دراية تامة به، ويكاد ينسيها مصادر التهديد الأخرى.

 

فأينما توجّهت مجتمعات عالم اليوم مَثَلَ أفق الحرب. ولا تشذ أوروبا عن سواد العالم، على خلاف حالها، وإنْ نسبياً، في العقود الثمانية المنصرمة. وهي التي يدعوها هيسبورغ إلى دمج ديون دولها، وتوزيع تسديدها على قدم المساواة بين دولها الشمالية الغنية ودول جنوبها الأقل ثراءً وتزمتاً مالياً. ويحضّها على التخلّي عن هذا التزمُّت، وانتهاج سياسة إرادوية مشتركة، من نتائجها المحتملة لجم نازع بعض جيرانها إلى الحرب.

السبت، 30 أبريل 2022

بوتين في مرآة بوتين

 يروي الصحافي الألماني في تلفزيون ARD، هوبرت سايبيل، أنه التقى الرئيس الروسي فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين في 2010، أي بين ولايتيه الرئاسيتين الثانية والثالثة.

وأثمر اللقاء الأول عملين صحافيين وإعلاميين طويلين، أولهما هو شريط وثائقي تلفزيوني وسمه الصحافي الألماني بـ"أنا بوتين- صورة" (أو بورتريه)، عرضته المحطة في 2012، بعد سنتين على المحاورة الظرفية الأولى. وبلغت ثقة السياسي الروسي بمحاوره أو محادثه مبلغاً دعاه إلى القبول ببث الشريط من غير أن يشاهده صاحب العلاقة وموضوع "الصورة".

وجرّت الثقة هذه، وقد اختبرها الرجلان في عشرات المحاورات واللقاءات المتصلة، والمتنقلة بين موسكو وسوتشي (على البحر الأسود) وسان بترسبيرغ (إلى الغرب) وفلاديفوستوك (إلى الشرق)، وعلى متن طائرات الرئيس، جرّت أو وَلّدت عملاً ثانياً هو كتاب نُشر صيف 2015، بعنوان "بوتين- رؤيا للسلطة" (نقله إلى الفرنسية، في السنة نفسها، كلود هانغلي وطبعته دار "دي سيرت" الباريسية).

واستمرت المقابلات والمحاورات إلى عشية صدور الكتاب. وصادفت العشية الطباعية عشية انخراط روسيا في الحروب السورية، أواخر أيلول/ سبتمبر 2015.

ولا شك في تعمُّد الصحافي التلفزيوني والكاتب الموازنة بين العملين والعنوانين. فينسب الوثائقي المرئي روايته المصوّرة إلى ضمير المتكلم الفرد، وإلى خاصِّه أو خصوصيته، بينما يُبرز الكتاب عمومية موضوعه السياسية، ويجرّد الفاعل ورجل الدولة و"يرفعه" إلى مرتبة "الرؤيا" أو الفكرة الجامعة والمتماسكة.




ويعارض بوتين بين الخصوصية وبين العمومية. فيسأل: "لماذا أسأل عن بنتيّ؟ بنتاي لا تشغلان عملاً سياسياً، وعلاقاتي الشخصية لا صلة لها بالسياسة، وهي شأني وحدي". ولم يكن الإعلام تناول يومها تستّر بوتين ببنتيه على ثروتهما الشخصية، والصحافي لم يسأله عن الأمر كله، ولا سأله عن صداقاته "الشخصية" بغيرهارد شرودر، المستشار الألماني السابق، أو فرنسوا فيون، رئيس وزراء فرنسا في رئاسة نيكولا ساركوزي (2007-2012)، أو بالثري الأوكراني الأول.

 

الموضوعي الأوحد

المقابلة أو المناقضة بين العام السياسي والتاريخي وبين الخاص الشخصي والذاتي معيار رأي يربط أجزاء الكتاب من غلافه الأول إلى دفّته الأخيرة. فهوبرت سايبيل ينعي على بعض الإعلام الألماني، وتلفزيون ARD منه، انحيازه وتحامله على السياسة الروسية، البوتينية في العشرين عاماً الأخيرة، من غير تبصُّر "حقيقي واستراتيجي" في هذه السياسة، على قوله.

ويشبّه أحكام هذا الشطر من الإعلام (ويعدد الصحافي، برهاناً على صدقه، كبريات الصحف اليومية، فرانكفورتر ألغماينه زايتونغ، وداي زايت وسودويتشه زايتونغ...) بالأسئلة التي يطرحها "المتنعّمون" بحياة رخيّة: أين في وسعي أكل أفضل صحن نباتي هذا المساء؟ أو أي ملابس عليَّ أن أرتديها؟ ولماذا لا يبيح بوتين زواج المثليين والمثليات في روسيا؟ (ص15-16 من الطبعة الفرنسية).

والتمثيل بهذا الصنف من الأسئلة على خفة الصحافة والرأي العام الألمانيّين، والغربيّين عموماً من بعد، قد يكون صدى لملاحظات الرئيس الروسي، وقد يعبِّر عن ظن محاور الرئيس الشخصي. وفي كلتا الحالين تفضي المقارنة بين الموقفين- الغربي، الألماني والأميركي والأوروبي والأوكراني والجورجي...، والروسي، البوتيني على الدوام أو المتفرّع عنه وعلى لسان أحد مساعديه- إلى مواجهة أو مجابهة بين الذاتي المغرق في ذاتيته واعتباطه، و"غير المشترك"، وبين "موازنة مصالح سياسية متباينة".

وهذه الموازنة يتولاها طرف واحد، هو فلاديمير بوتين، في المسائل كلها: في الشيشان، وكوسوفو، وغرق الغواصة كورسك، وغزو العراق، و"الثورات الملونة" الجورجية والأوكرانية، وفي ليبيا وسوريا "العربيتين"، وإسقاط الطائرة الماليزية MH17، وألعاب الشتاء الأولمبية بسوتشي، ومعالجة (أي قمع) الجمعيات والمنظمات غير الحكومية والمدنية، وإلغاء معظم الصحافة المستقلة. ولا عجب في تولي الرجل الموازنة على هذا النحو. فبينما يحسب الآخرون، وفي المرتبة الأولى أنغيلا ميركل وباراك أوباما ويليهما في المرتبة بعض وزراء الخارجية الأطلسيين، أن المسائل الاستراتيجية والتاريخية الكبيرة تعالَج من طريق تشبيه بوتين بالتلميذ المشاغب والجالس في المقعد الخلفي من الصف (أوباما) أو بلومه على عبوسه وحرده (ميركل)- ينصرف هو إلى التدقيق في "محل (المسألة) من سلّم المراتب والأولويات".

 

"عقل العالم"

فـ"أنا، بوتين"، أي رواية الحوادث من "وجهة نظر بوتين الموضوعية" (ص20)- على ما يكتب هوبرت سايبيل غافلاً عن الفرق المحتمل بين وجهة نظر شخص فرد، وبين استخلاص الموضوعية وإيجابها من المقارنة الواسعة بين جملة الفاعلين- تصبح في الكتاب على قدر صحتها في "الصورة" التلفزيونية والوثائقية الذاتية. وإذا جاز لبوتين الكلام على سيرته الخاصة والفردية بلسان المتكلم وضميره، لا ينبغي أن يحول حائل أو مانع بينه وبين الكلام المستفيض والجازم والصادق في قضايا "عصرنا" و"سماته"، على ما كانت تفعل توصيات المؤتمرات السوفياتية وندواتها العالمية و"كونفرانساتها".

"يُختصر بوتين في إرادته بعث ‘أمته’، وتجديد ثقتها في مكانتها وقيمتها، ودورها الفريد في عالم يدير ظهره لعظمتها، ويتلهّى بقشور تافهة مثل الحقوق الإنسانية عموماً وحقوق المثليين والمثليات"

فالرئيس الروسي الاتحادي، في مرآة نفسه ومرآة محادثه، هو على شاكلة الإمبراطور الفرنسي، نابليون الأول، في اليوم التالي لمعركة يينا (1806)، ماراً تحت نافذة الفيلسوف الألماني ج.ف.ف. هيغيل، بوصفه "عقل العالم على حصان" أو هو، على أضعف تقدير، عقل روسيا، "عموم الروسيا". و"ما كان للرئيس الروسي أن يضطلع طوال 15 عاماً بأعلى المناصب السياسية لو ماشت قراراته أهواءه وميوله الشخصية، بمنأى من التاريخ الروسي، ومن المنازعات الداخلية والمواجهات الشاملة" (ص19).

ومن بديع الاتفاقات أن مراحل حياة بوتين، من طفولته في سان بترسبيرغ، وخدمته في شرق ألمانيا، وعودته إلى مدينته، توازي موازاةً تامة انقطاعات تاريخ وطنه وأمّته (المصدر نفسه). ويُختصر الرجل في إرادته بعث "أمته"، وتجديد ثقتها في مكانتها وقيمتها، ودورها الفريد في عالم يدير ظهره لعظمتها، ويتلهّى بقشور تافهة مثل الحقوق الإنسانية عموماً وحقوق المثليين والمثليات.

ويصوغ الرئيس في صيغ كثيرة، ويكرر صداه الإعلامي صياغاته، مقالته الذائعة في أن انهيار الاتحاد السوفياتي هو "أعظم مأساة جيوسياسية أو استراتيجية في القرن العشرين". وينفي، في الآن نفسه، إرادته إحياء الاتحاد السوفياتي. ويذهب، ساخراً، إلى أن مَن يراوده مثل هذا العلم "مجنون" أو لا عقل له، ولكن مَن لا يأسى للكارثة "لا قلب له". والاستدراك المزدوج، وجنون الحالم و"لا قلب" المتشفّي، أو غير المبالي، يضمر طعناً قاسياً وثأرياً على مَن حملوا انهيار الاتحاد السوفياتي على فرصة أممهم ودولهم التاريخية في التحرر من "سجن الشعوب" الذي كانه اتحاد الجمهوريات الاشتراكية والسوفياتية ("أربع كذبات في أربع كلمات"، على قول أحدهم). وهي حال دول المعسكر الاشتراكي السابق ومعظم شعوبها.

 

إرث الانهيار

ويدعو الإقلاع، طوعاً أو كرهاً، عن إحياء الاتحاد السوفياتي إلى تدبّر تعليل مقبول لانهياره، وللنهج السياسي الذي ينتهجه اليوم الرئيس الروسي "الأبدي". ويمر المتحاوران على "نهاية الشيوعية" من غير إلحاح. فهي ثمرة "إفلاس" أو قصور ضخم. وتتحمّل النخبة السوفياتية الحاكمة التبعة عن الإفلاس أولاً، وعن غفلتها عنه، وعدم توقّعها إياه، ثانياً. وعلى رأس هذه النخبة آخر أمين عام للحزب الشيوعي وآخر رئيس الاتحاد، ميخائيل غورباتشيف.

والأمر الذي يستحوذ على اهتمام فلاديمير بوتين ليس تعليل الانهيار، على رغم شغفه بالتاريخ، و"تاريخيته" الشخصية الروسية والعميقة، بل ما خلّفه الانهيار. وهو لا يشك في أن ثورة الشيشان على موسكو في أوائل عهد بوتين رئيساً للوزراء وخلافته بوريس يلتسين، وغرق الغواصة "كورسك" في مياه بحر بارينتس القطبية وفيها 171 بحاراً، وتقاسم الأوليغارشية الرأسمالية المحدثة مرافق الدولة والاقتتال عليها، وتهريب عوائدها إلى الأسواق والمنتجعات الأوروبية- هي أعراض الضعف المميت الذي دبّ في أوصال الإمبراطورية العظيمة.

وهو لا يعزو هذه الأعراض إلى "الغرب"، مباشرة وعمداً. ويلاحظ، قلِقاً و"موضوعياً"، أن منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية، والسياسيين الغربيين من ورائها، تتناسى "جنون" الإسلاميين الشيشان و"إرهابهم" (قبل 11 أيلول/ سبتمبر 2001، يقول منبّهاً ومدلاً بسبقه) وطردهم 200 ألف روسي مقيمين بينهم، وتتحفظ عن أساليب حرب القوات الروسية، وانتهاكات الكي جي بي "الذي لم يفهم معنى قيم الحضارة والسيادة خارج النظام السوفياتي السابق" (ص159)، أي في دول الغرب ومجتمعاته الهاجسة، على ما يرى الرئيس والإعلامي، بالمثلية والطعام الصحي والمحافظة على البيئة.

"الغرب لا يفهم"

وليس مصدر حملة الرئيس المزمن على الغرب، وعلى "أدواته" الصريحة والمواربة، كراهية أصيلة أو ضغينة قاصرة. فثمرة اختباراته ومشاهداته، المطابقة انعطافات التاريخ الروسي على ما تقدّم القول، هي أن روسيا، الشعب والأمة والحضارة، ودولتها، أمر أو شيء واحد. ولا تعقل روسيا من غير نهضة دولتها القوية. وتقييد إنهاض الدولة المتصدّعة والمتداعية بشروط قانونية أو إنسانية أو سياسية أو أخلاقية، على ما يفعل الغرب، عدوان صريح على روسيا و"روحها" وقيمها وطريقها الخاص أو عبقريتها.

"ثمرة اختبارات ومشاهدات بوتين... هي أن روسيا، الشعب والأمة والحضارة، ودولتها، أمر أو شيء واحد. ولا تعقل روسيا من غير نهضة دولتها القوية. وتقييد إنهاض الدولة المتصدّعة والمتداعية بشروط قانونية أو إنسانية أو سياسية أو أخلاقية، على ما يفعل الغرب، عدوان صريح"

وتتكرر جملة "هذا ما لا يفهمه الغرب" في الأمور والحوادث التي تتعلق، من قريب أو بعيد، بإعمال القوة في المجالات كلها، ويعود معظمها إلى تاريخ سابق، قريب أو بعيد. فلما أمر بوتين، غداة انفجارات دمّرت مباني سكنية بموسكو، في أيلول/ سبتمبر 1999- ونسبها رئيس الوزراء الجديد إلى الشيشان، وشن الحرب الروسية الثانية رداً عليها- لاحظ مراقبون روس وأجانب أن دستور 1992 الروسي لا يخوّل رئيس الوزراء تحريك الجيش، وينيط ذلك برئيس الجمهورية، وهذا ما لم يكنه الرجل بعد. فعلّق مثلث الرئاسات، "هو يحتسي فنجان قهوة" (ص158)، أن الغرب لم يفهم مبادرته إلى الحرب، على رغم القيد الدستوري، إلا بعد تعرُّض نيويورك وواشنطن لإرهاب الإسلاميين الجهاديين.


فلاديمير بوتين (رويترز)

وفي شأن الشيشان، كما في شؤون جورجيا وأوكرانيا وسوريا، لا يفهم "داعية" الديموقراطية والحقوق الإنسانية والمحكمة الجنائية الدولية، الغربي، أن سجل القوم منذ القدم ("التاريخ") يدعو إلى الشك: فسبق لستالين أن "اضطر" إلى ترحيل نصف مليون شيشاني عقاباً (اضطرارياً)، على تعاونهم والجيش الألماني الغازي. والخلاف بين جورجيا وبين أوسيتيا الجنوبية، وهو "السبب" المعلن في "تدخّل روسيا وحربها على الدولة القوقازية القريبة وعلى رئيسها ‘الأميركي’، قديم" (ص211). وعلى مثال الشيشان، وميلهم إلى العمالة والخيانة، ينوء الأوكرانيون بأوزار عمالة وخيانة و"نازية" ثابتة في أثناء "الحرب الوطنية الكبرى". ولا يفهم الغرب أن على أوكرانيا تسديد حسابها عن انحرافها ووصمتها الأبديّين.

 

تقويض الدولة

واستنهاض روسيا، أو عموم "العالم الروسي"، على قول بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية الموسكوبية ورأسها، كيرللس- وهي غير كنيسة إسطنبول، وغير الكنيسة اليونانية- لا يستقيم من غير جمع "أراضيها" أو "أوطانها"، على معنى صوفيّ وإمبراطوري بيزنطي، تحت راية موسكو، أو "روما الثالثة"، بحسب مزاعم رأسي الدولة والكنيسة، الخلاصية والأخروية. والأراضي المجموعة، والمقدّسة، لا تشترط رضا الأهالي أو السكان، ولا تشترط بالأحرى رأي المواطنين، واستفتاءهم على هويتهم ووطنهم وأمتهم، على خلاف المذهب الغربي.

والدعوات إلى استفتاء من هذا الصنف، وفي مثل هذه المسائل "الجبرية"، على وصف الكلام الإسلامي، بذريعة الديموقراطية والمجتمع المدني والحقوق الإنسانية والسياسية والمدنية، لا غرض لها إلا تقويض الدولة، وإضعافها، وتركها فريسة سائغةً للسياسة الأطلسية. والغرب عامل انحطاط وأفول، على ما ترى الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، على لسان الكاهن تيخون- معرِّف فلاديمير بوتين ومناوله (الاعتراف والمناولة هما، إلى القداس، الشعيرتان المسيحيتان المقدمتان) في مصلّاه أو كنيسته المنزلية)-، مندوب الكنيسة إلى محاورات الكتاب (ص 85- 93).

"واستنهاض روسيا، أو عموم ‘العالم الروسي’، على قول بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية الموسكوبية، لا يستقيم من غير جمع ‘أراضيها’ أو ‘أوطانها’، على معنى صوفيّ وإمبراطوري بيزنطي، تحت راية موسكو، أو ‘روما الثالثة’... والأراضي المجموعة، والمقدّسة، لا تشترط رضا الأهالي أو السكان"

ولا يفهم الرئيس بوتين، ومعه الصحافي الذي يحاوره ويذيع أقواله، تحفّظ الغرب عن حكم القانون الروسي، منذ 2012، بالعمالة في جمعيات تقرّ هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الأميركية، بتمويلها، ولا يتستّر جورج سوروس على رصد مؤسسته عشرات ملايين الدولارات لمساعدتها. فجمعية غولوس الروسية، وهي من هذا الصنف، تزعم لنفسها الحق في مراقبة نزاهة الانتخابات الروسية، وتحاسب الحكومة والرئاسة على إنفاقهما الانتخابي. وأدت المراقبة والمحاسبة إلى خروج عشرات آلاف المتظاهرين، في عشرات المدن الروسية، إلى الطرقات العامة، احتجاجاً على نتائج انتخابات 2012 الرئاسية. ولولا نشاط غولوس، و"مئات الجمعيات مثلها"، في رعاية الولايات المتحدة الأميركية (ص99)، لما تظاهر المتظاهرون.

وهذا المنطق في التعليل لا يرى موجباً لواقعةٍ اجتماعية وسياسية تاريخية، تتناول مصائر بلدان وشعوب، إلا من طريق عوامل أجنبية أمنية، أو دعوات إعلامية و"تدريبية" إلى تبنّي أنموذج ثقافي وسياسي يفترض دخيلاً على المجتمعات، ويقتصر أنصاره على بعض مَن درسوا في جامعات "أطلسية"، وأقاموا أعواماً طويلة في المهاجر. فالمجتمعات، وجماعاتها الجزئية وظروفها، ليست سبباً. ولا يجوز التعليل بها، في حسبان "السياديين" الروس وغيرهم، بالغاً ما بلغ عرض الحركة واتساعها وشمولها فئات مختلفة، وما بلغت معقولية المطاليب المرفوعة ومشروعيتها و"عفويتها".

والحوادث التي يستعرضها الرئيس وصحافيُّه (وسبق الإلماح إليها) كلها قضايا دولة. ويُرجع في بتّها إلى علل الدولة، وتحاذي الحرب على الدوام لأنها تدور على الأمن الوطني أو "القومي"، وتلابس وجود الدولة- الشعب وبقاءها (بوتين في 23/2/2022، عشية العدوان على أوكرانيا: "أي طعم يبقى للعالم إذا خلا من روسيا"، وليس في صيغة سؤال). والشاهد الكبير على الأمر هو الحرب العالمية "الثالثة". ويحرص المتحاوران على ألاّ يُتناول الموضوع إلا بواسطة شاهد غربي، ألماني هو هيلموت شميدت المستشار الأسبق، أو جون كينيدي، الرئيس الأميركي.

فيحتج الرئيس الروسي لرفضه توسُّع "الأطلسي"، وضمّه أوكرانيا، بشاهد من رسالة كينيدي إلى نيكيتا خروتشيف في تشرين الثاني/ نوفمبر 1962. فيومها كتب الرئيس الأميركي: "الأسلحة النووية بالغة التدمير، والصواريخ الباليستية بالغة السرعة، وأي تنقيلٍ في مواضع نصبها قد يُحمل على تهديد متعمّدٍ ودقيقٍ للسلم"، ويعلّق الصحافي قائلاً بلسان محادثه: الحال انقلبت، وروسيا اليوم هي هدف الصواريخ الأميركية (ص 290).

والمقارنة تهويل خالص. فالإحدى عشرة دولة التي انضمّت إلى الأطلسي، في 1999- 2008، وهي سعت في الانضمام خوفاً من إمبريالية روسيا البوتينية، لم ينشر الحلف فيها سلاحاً نووياً. واقتصر نشره على ألمانيا، على ما هي الحال منذ العقد السادس. وفي الأثناء تقلّص عدد الجنود الأميركيين المرابطين في إطار الحلف من 305 آلاف، إلى 64 ألفاً في 2020. وثمة اتفاق مكتوب على نظام المناورات وعدد مَن يشارك فيها، والمسافة التي تفصل مسرحها عن الحدود، وأنظمة السلاح...

https://raseef22.net/article/1087543-%D8%A8%D9%88%D8%AA%D9%8A%D9%86-%D9%81%D9%8A-%D9%85%D8%B1%D8%A2%D8%A9-%D8%A8%D9%88%D8%AA%D9%8A%D9%86

رصيف، 29/4/2022

الاثنين، 28 فبراير 2022

اغتيالات "صغيرة" داخل انهيارات مصيرية"صغيرة" داخل انهيارات مصيرية

السبت 26 فبراير 2022

موقع رصيف 22  

بينما كان يُعِدّ أطراف البيت الشيعي العراقيون المنضوون في إطار تنسيقي يرعاه "فيلق القدس" الحرسي الإيراني العدة لإعلان مبادرة حلّ تُنهي الخلاف بين الفرضيتين أو العصبيتين الصدرية والمالكية-الخزعلية، اغتيل في العاشر من شباط/ فبراير شخصان في قلب مدينة ميسان الإداري، عاصمة محافظة العمارة بجنوب العراق، وسبق اغتيالهما مقتل أحد قادة "سرايا السلام"، منظمة المسلحين الصدريين، في المدينة نفسها.

الأهل والوظيفة

وقُتل في الأثناء، وفي المدينة، "قاضٍ رفيع"، على وصف الوكالات، هو رئيس "الهيئة القضائية" الناظرة في قضايا المخدرات وتجّارها وموزّعيها. وافتتح الشهر إرداء رائد في قوى الأمن، يسبق تعريفه الأهلي تعريفه الوظيفي، فهو شقيق أحد أنصار (يكتب صحافي: "أتباع") قيس الخزعلي، قائد "عصائب أهل الحق"، المنشقّة عن "جيش المهدي"، "والد" "سرايا السلام". وجاء قتل القائد الصدري رداً على قتل الرائد، شقيق القائد "العصائبي". وعلى المثال نفسه، والعين بالعين، هجم مسلحون على منزل الشيخ إبراهيم القطبي، الصدري، غداة اغتيال القاضي.

وبينما اغتيل الرائد، الموظف الرسمي، بالمسدس وخفيةً، قُتل شقيقه علناً، إذا جاز القول، في حراك 2019 وتظاهراته، وقتلته، في ميسان، جموع المتظاهرين المنكرين على السلطات الأمنية المتواطئة، وعلى أنصار الجماعات المسلحة الحاكمة والولائية الموالية لمراكز قوى إيرانية، قنص متظاهرين وخطفهم وتغييبهم، وحماية قنصليات الدولة الإيرانية في محافظات الجنوب، الشيعية في معظمها.

السابقة الكبيرة

والحق أن دلالة صور اللحظة هذه لا تنعقد إلا إذا أُدرجت في ملابساتها المتشابكة، وفي الزمن الذي يتجاوز الأسبوع والشهر أو السنة، أي الوقت الذي التُقطت الصور فيه. والوقوف عندها، واختيارها موضوعاً للنظر، دعا إليه، أو أملاه تداخلها مع الملابسات التي تحف بها، وتكرارها سوابق كثيرة.

والسابقة العراقية الكبيرة التي تنطوي على أشباه كثيرة تعود إلى سنتي الحراك العراقي المديني في الوسط والجنوب، في 2019- 2020/2021. والاغتيالات الأخيرة تصدر كلها، من طرف أو آخر، عن وقائع الحراك وحوادثه، ونشأت في ثناياه. فهو جمع في سياق متصل ومترابط- من حيث الشعارات والمطاليب ومواقف الحراكيين وإخراج المشاهد الدرامي والتوقيت...- معظم المنازعات والخلافات والتطلعات التي تمخّضت عنها أعوام الاحتلال الأميركي (2003- 2011)، غداة إسقاط صدام حسين، وأعوام حكومتي "الدعوة" ونصف حكومتها الأخيرة والمقنّعة.

فإلى أنقاض الجماعات والإدارات والاقتصادات والدويلات والأحزاب التي خلّفتها "القيادة" المجيدة، أضاف "النظام" الجديد علاته وأمراضه. فهو وُلد من تواطؤ الغزو الأميركي المضلِّل والمضلَّل مع دولة إيرانية تترجح بين جموحٍ إمبراطوري وبين عقلنة جمهورية حابية، ومع طاقم حاكم اقتصرت آدابه السياسية على التربص والاغتيالات وضيافة وفتنة على جيران يسنّون الأنياب والأظافر.

وحين نصّب الطاقم هذا حاكماً على العراقيين انصرف إلى لمّ الخردة والفتات، في أرضها ومن غير تكلّف تصنيعها. ودعا "الرعايا" إلى الحذو حذوه، والقناعة من استعادة العراق، وصدارته وتنوعه ومحوريته وثرواته، ببقايا الغنيمة البائتة: سمسرات على السرقات، وتزوير المناقصات، ورشوة هيئات التحكيم، وجباية العمولات على التهريب وتكثير مرافقه، والاستحواذ على نفقات موظفين ومجنّدين طيفيين. وكان هذا الشق الاقتصادي من سياسة لا قيد على تشرذمها وتفتتها، ولا على حدّة عداواتها وولاءاتها وعنفها الجهير والفظ.

"منحرفون" و"منحرفات"

وتظاهر المحتجون المدنيون والمدينيون والشباب والمتعلمون، والأرجح أن معظمهم من الشيعة ومن أنصار الأحزاب الشيعية المسلحة في أول أمرهم، واعتصموا في الساحات، ونصبوا الخيم فيها، واختلطوا وهتفوا وخطبوا وناموا وطبخوا وأكلوا وغنّوا ورقصوا ودبكوا، ودخّنوا كثيراً. وامتد حراكهم وفشا في عواصم المحافظات ومدنها الكبيرة. فكان رد جواب "الأحزاب"، وهي تسمي نفسها "عصائب" و"كتائب" و"سرايا" و"جيوشاً"، أي أسماء حربية، نفي الصفات السياسية والوطنية والأخلاقية "السويّة" عن المحتجين. وصوّرتهم في صورة المنحرفين (والمنحرفات) العقليين والاجتماعيين، الساعين (والساعيات) في إشباع غرائز ونوازع فردية ومتمرّدة على الأعراف والتقاليد.

في العراق، تظاهر المحتجون المدنيون والمدينيون "فكان رد جواب ‘الأحزاب’، وهي تسمي نفسها ‘عصائب’ و‘كتائب’ و‘سرايا’ و‘جيوشاً’، أي أسماء حربية، نفي الصفات السياسية والوطنية والأخلاقية ‘السويّة’ عن المحتجين"

وأردفت بالصورة الأولى هذه، ودورها هو نفي مضمون السياسة، وجدّها واعتبارها، عن الحراك وأصحابه، ونزع صفة المعارضة ابتداءً عنهم، صورة أخرى. فألحقتهم عنوة، ومن غير دليل سوى أقوال بعض السفراء والمبعوثين الدوليين والديبلوماسيين الأجانب في مديح علانية الحراك وأهله، بالسفارات الغربية. وهذه إضافة قديمة خَبِرتها السجالات الإعلامية والدعاوية العربية منذ ذر قرن الخلافات القبلية، وجدد "إعلام" أصفر محدث، لبناني وغير لبناني، خبثها المميت. وسوّغ هذا الإلحاق، الملحّ والخطابي، وصم الحراك بالمصائب التي خلّفها على العراقيين صدام حسين وجورج بوش الأب وجورج بوش الأبن وباراك أوباما وأبو بكر البغدادي وأبو إبراهيم القرشي...، مجتمعين متكافلين ومعجونين من طينة واحدة.

 

فكان أن قُتل من الحراكيين، وممن هم على ضفاف الحراك و"أريافه" قريباً من ستمئة قتيل. قُتل هؤلاء، وفيهم طلاب ومدرّسون وأطباء ومحامون ورواد مقاهٍ وسعاة بريد وهتّافون وإعلاميون وكتبة بيانات وموزعوها وقراؤها ومتطوّعو إعداد طعام ومعمّرو أرجيلة ومنشدو مجالس عزاء وحُداة قتلى الثارات... قُتلوا غيلة وقصداً، في ساحات الاعتصام وعند منصرفهم منها وعودتهم إلى منازلهم، وهم يديرون محرك سيارتهم صباحاً ويركنونها مساءً، وهم محمولون على أكتاف المتظاهرين أو يطلّون من نافذة "المطعم التركي"، يرتشفون القهوة على باب الخيمة أو يستقبلون زائراً صديقاً طال غيابهم عنه.

أبواب القَتَلة

والقتلة أصناف متفرّقة. والأرجح، على قول أصحاب القتلى ورفاقهم وشهود مصارعهم، أن معظمهم من قوى الأمن والشرطة، والقوات العسكرية. وهؤلاء أوكلت بهم وإليهم حماية المعتصمين من متظاهرين حزبيين مناهضين ومعادين ندبتهم أحزابهم وشيعهم المسلّحة إلى إجهاض الحراك، والاقتصاص من ناشطيه ووجوهه "المُلهِمة"، على وصف سائر. ويُفهم انقلاب الحماة والحرس إلى متربّصين وقتلة إذا عُرفت مصادر المجنّدين في السِلْكين، الأمني والعسكري.

فالكثرة (الكاثرة) منهم جزء من "الكوتا" الحزبية. وهي الحصة من الموظفين، المنسوبين على قول العراقيين، التي تقرّ الحكومات المتعاقبة بحق الجماعة الحزبية في تسديد الدولة راتباً لهم من الخزينة الوطنية. وتتولى الجماعة المنظمة تسميتهم وتزكيتهم. ويدخل هؤلاء الأسلاك المتفرقة، الإدارية والخدمية والأمنية والفنية، مثقلين بانتماءاتهم وأنسابهم الأهلية، وبالولاءات الناجمة عنها، والآسرة على رغم صفة الدولة المفارقة "المكونات"، والمتعالية عنها. و"الدفاع" عن الموصل في وجه "الدولة"، في صيف 2014، من إنجازات هذا التدبير الساطعة.

"تمثيل المكوّنات (العراقية)، عدداً وثقلاً نوعياً، في صلب أجهزة الدولة، والأمنية الداخلية والدفاعية منها، لا يشبع الشهوة الحزبية لاستدخال الأجهزة (التغلغل فيها)، ولا للتذرّع بها وبصفتها القانونية والمشروعة، وتنفيذ الجرائم الحزبية والأهلية والخاصة من وراء ستارتها"

وتمثيل المكوّنات، عدداً وثقلاً نوعياً، في صلب أجهزة الدولة، والأمنية الداخلية والدفاعية منها، لا يشبع الشهوة الحزبية لاستدخال الأجهزة (التغلغل فيها)، ولا للتذرّع بها وبصفتها القانونية والمشروعة، وتنفيذ الجرائم الحزبية والأهلية والخاصة من وراء ستارتها. فبعض الضحايا قتلهم حزبيون من غير "منسوبي" الأجهزة الحكومية، أو خارج أوقات عمل وظيفتهم أو "خدمتهم" المقررة. واندسّ مسلحون، حزبيون، في صفوف القوى النظامية، وضلعوا في الاغتيال من غير رادع.

ولا شك في أن بعض القتلة مجرمون "عامون" أو مجرمو "الحق العام"، على ما يسميهم المصطلح القضائي الفرنسي، أي عاديون، حملتهم على القتل العمد مصالحهم أو ثاراتهم الشخصية. وقاضي قضايا المخدرات القتيل، في ميسان، قد يكون من ضحايا الباب الأخير في القتل، وقرينة على كثرة الدواعي إليه، وعلى انتهاز فرصٍ "سياسية" في سبيل الإقدام عليه.

والخليط الظرفي من نزاعات وخلافات سياسية واجتماعية كثيرة الوجوه والأطراف والخصوم، ومن منافسة على المصالح والعوائد والشراكات والحمايات، يعمّي على وكلاء القتل وعلى الأصيلين الآمرين، على حد سواء. فبين قتلى الحراك، وبعضهم قُتل من غير أن يكون حراكياً أو ناشطاً، "صدريون" اغتنم خصومهم السياسيون أو الشخصيون فرصة زيارة إلى ساحة اعتصام أو تظاهرة وقتلوهم.

ولا يبرأ صدريون من تهمة اغتيال مشاركين في الحراك، أنكروا عليهم سلوكاً جنسياً لم يحتملوه أو شبهة سلوك. وقُتل في خضم الحراك، وعلى جنباته، مثليون ومثليات، أو نُسبت إليهم وإليهن المثلية. وقُتل موزّعو مخدرات بعضهم يعمل في إطار تجارة منظّمة، وآخرون يصطادون فرصة سانحة. والفروع على الاغتيال السياسي هذه لا تطعن في صدارة صرعى رأيهم وموقفهم السياسيّين المعارضين، وسعيهم في إنشاء معارضة فعلية ترسي الخلاف والانقسام على أركان ومحاور تقبل الجمع والتأليف والصلح، ولا تنفي النزاع ولا تقلل من حقه العاجل أو المؤجل من الاستيعاب والتقسيط والتحكيم.

الحدود والأحكام

يعود الخليط الظرفي والمديد الذي يضرب الاغتيال جذوره في تربته الوطنية والاجتماعية ويتجدد ويأمن المحاكمة، إلى استحالة ترتيب الفاعلين السياسيين على مراتب واضحة ومعروفة، وإلى ضياع أو امّحاء الحدود بين "القضايا". فحين يسع أبو علي العسكري، المسؤول الأمني لكتائب "حزب الله العراق"، القول إنه لن يتنازل عن سلاحه إلا لإمام الزمان، على ما قال المدعو فعلاً، ولا حق لمَن تنصّبه الانتخابات والقوانين مشرعاً، أو والياً (حاكماً)، أو عاملاً (على مصلحة أو مرفق)، في طلب الانقياد لأمره، يصبح تمييز رأي "أبو علي" في مهاجمة مطار في أربيل أو في ضاحية بغداد من إرادة أحد أنصاره إنفاذ حكمه بالقتل في متنشق مسحوق هيرويين، أمراً عسيراً أو محالاً.

وذلك أن مرجع الاقتصاص باليد ومباشرةً ممن "ينتهكون" الأوامر والنواهي في المسائل كلها، من أحكام الطهارة والنكاح إلى "أحكام" الحرب والصلح الدولية والإقليمية والوطنية، هذا المرجع يهتز تعيينه وتعريفه في أوقات الأزمات الحادة كتلك التي تعصف بمعظم بلداننا ومجتمعاتنا. ويستتبع انهيار الدولة- وهو لا يقتصر على تفكك القوات المسلحة والشرطة، وعلى انفراد أجهزة الأمن والاستخبارات بالسطوة المتعسفة، على ما تزعم الديكتاتوريات المزمنة، بل يتطاول الانهيار إلى موازين المعاملات ومعاييرها المعلنة والمضمرة معاً- (يستتبعه) دخول الطبقات الاجتماعية بعضها في بعض، وتلاشي معالمها، وانحلالها إلى جماعات مائعة.

فتقتتل الجماعات، أو يهادن بعضها بعضاً، وتتنقل بين العداوة والمسالمة بناء على ذرائع متقلبة ومتناقضة. ويَجمع أفراد الجماعات، المتذررين ذرات، بين التصوّف المتألّه، الديني الملّي، أو القومي العنصري، وبين السعي الخسيس في المنفعة الضيقة، من غير حرج. ويختلط أخص الخاص بأعم العام. وتنكفئ الجماعات الجزئية على معتقداتها وتحملها على مطلق لا يتسع لاجتهاد أو تباين. ولا تتماسك الجماعات إلا بواسطة الحرب. فتقيم على مجتمع حرب تسوده أحكام طوارئ، مضمرة ومرتجلة.

ألم تكن هذه العلامات على دنو قيام الساعة ولائحة أشراطها؟

 https://raseef22.net/article/1086624-%D8%A7%D8%BA%D8%AA%D9%8A%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AA-%D8%B5%D8%BA%D9%8A%D8%B1%D8%A9-%D8%AF%D8%A7%D8%AE%D9%84-%D8%A7%D9%86%D9%87%D9%8A%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D9%85%D8%B5%D9%8A%D8%B1%D9%8A%D8%A9