الاثنين، 9 نوفمبر 2009

تاريخ المنزع الزمني والأرضي الدنيوي ديني من ألفه الى يائه

المستقبل - الاحد 8 تشرين الثاني 2009

فيما قد يبدو مفارقة غريبة، قياساً على فرق ما بين نظام البشر وبين ركنه، وقياساً على فرق مراتب البشر وانقسامهم على أنفسهم على قدر ما يتعالى الآلهة ويتعاظمون يتحرر البشر من قيود النواميس والتقليد والسنن والأوامر والنواهي. وتضعف، على خلاف المنطق وبحسب الملاحظة، إلزامات الشريعة المتنزلة من فوق. فالألوهة الواحدة والمحدثة والمستوية فوق خلقها، لا تحول ولا تزول، تتوجه على خلقها العاقل بالكلام، ويتوجه عليها خلقها بعقلهم وتأويلهم. ونظير تعاليها عن خلقها، وقيامها منه مقام المصدر و«السبب»، ينقسم مخلوقها الإنسي على نفسه، ويبعد من هذه النفس المزدوجة ومن العالم الذي ينزله. ويدلف المخلوق الى الخالق من طريق النفس «المطوية» على نفسها، وعلى دواخلها العميقة والبعيدة الغور.
ويزدوج تناول (عالم) الخلق. فالخلق، على وجه أول، حادث عن محدِث أراده على ما هو عليه منذ الأزل. وهو، على وجه آخر، يُعقل في نفسه من غير حمل على علة أو على خارج. والمعنى، إذ ذاك، ليس منزّلاً، ولا نقلاً خالصاً أو ذكراً، بل هو محتجب وراء حجب، ويبلغ من طريق النظر وإعداد النفس. ويترتب على تعالي الألوهة الفرقُ بين النقل والعقل، على نحو ما يترتب عليه الفرق بين ذات النفس وبين الشيء أو الموضوع. و«موضوعية» الظواهر، أو استواؤها في نفسها، تفترض (أو يفترضها) تنزيه الألوهة عن الحلول في الخلق ومخالطته، وانطواؤها على نفسها. وهذا التنزيه هو ركن قيام الأنا المحض والواقع المحض واحدهما بإزاء الآخر وتلقاءه. ولا تقدح عظمة الخالق التي لا يحاط بها، ولا تدرك، بقيام العقل بنفسه واستقلاله بعلله. فالفرق الإلهي هو رحم صور الفكر المتمدنة، ولغو الفلسفة المبتدئ، والانقلاب من الأسطورة الى المعارف الوضعية، من طريق اللاهوت وكلامه. وما كان «انطباعاً» جعله الفرق الأعظم والأول «فهماً»، وما كان عطاء او فيضاً صار في الوسع تملكه. وفي الأثناء حالت أو تبدلت طبيعة العلل وطبيعة العلاقة بها، وحال ما يوجَب موضوعاً للتفكر وموارد المفكر. وطرأ على تناول الخلق أو الكون، وعلى الاندراج في أحواله ومراتبه (جواز) حمله على وحدة جامعة. فجمع المخلوقات أو المَكُونات إنما يعرفه انضباط المخلوقات أو المكونات هذه على رابطة عامة، أو عروة تلم شتاتها، وتحملها على ضرورة لا عيب فيها. والموجودات هي اجزاء كل وجميع علته التامة والمستوفية من نفسه.
[ الواحد مسرحاً
والحق ان العبارة عن الحال الجديدة مشتبهة. فالخلق، أو الإحداث، يتصور في صورة البدء الأول الأسطوري، ويجدد الوحي صورة الفيض والعطاء. فما على المخلوقات إلا الصدوع والذكر. ولكن الوحي، على خلاف اتصال الحاضر والأزمان الخالية اتصالاً لا شق فيه، حادثة «تاريخية» أو زمنية تقطع الاتصال الأسطوري، وترتب الأزمان على قبل وبعد متباينين. وإلى هذا، فرب الوحي يوحي في زمان ومكان، ولا يقتصر على الخلق مرة واحدة. والوحي، اخيراً، هو فعل عقل «يريد» ان يُعرف ويعقل، ويدعو إليهما، فلا يقتصر على الانطباع في مخلوقات ذاهلة وبكماء. فما يتعالى عن الفهم والإحاطة، ويتنزه عن الشبه والنظير، هو معنى يُكتنه من داخل، ويسع العقل اكتناهه. ويترجح العقل (البشري)، لا إلى غاية أو قرار، بين دعاة قوة العقل على التوحيد وبين القول بتعالي العقل الإلهي من غير قياس.
والمثنوية العرفانية او الغنوصية تضمر الواحد مسرحاً لنزاع الأصلين المفترضين وحربهما. وعلى خلاف مذهب المسيحية في وحدانية الذات الإلهية المطلقة، ترتب المثنوية الكون والمَكُونات على مراتب، من أعلى عليين الى أسفل سافلين. ويتصل التراث العرفاني بالمذاهب الروحانية الشرقية من غير ان ينقطع من التاريخ الديني الأوروبي. فهو مفترق ديني تاريخي عظيم المكانة والدلالة. فمن المثنوية المانوية الى الهرمسية الصوفية، فهرطقة الألفية الأولى، فالكاتارية، تعاقبت حركات دينية هي بمنزلة ردود (اجوبة) على انفكاك الشاهد المرئي، او دنيا الأنس، من الغيب، وخروجها من سلطانه. وترجحُ تاريخ الغرب الأوروبي على المفترق الديني هذا معلمٌ يستدِل به تأريخ الخروج من التدين، وتبديد السحر ورفعه من العالم.
فنزعَ اللاهوت العقلاني، أو الكلام المتفلسف، الى استقراء الألوهة في مرآة خلق بديع النظم والترتيب، ومن طريق النظم والترتيب هذين. وهذان هما البرهان على استيفاء الخلق أو العالم علته. وهما، في الآن نفسه، الحجة على بلوغ الذات الإلهية تمامها في الخلق، ومن طريقه. و«البرهان» على حقيقة الخالق ووجوده هو، في هذا المعرض، اتفاق المعقولات والمخلوقات أو الكائنات، وصدور صفحتيهما أو لوحيهما عن رسم أو خط واحد. فيسع العقل، من غير إكراه من خارج أو وازع، التزام نواميسه، وبلوغ علل الموجودات وإدراكها، معاً. وليس هذا إلا صورة وحدة الذات الإلهية (وعظمتها) على وجهيها، المعقول والإنّي، وتواردهما. وبعض اللاهوت هذا تتردد اصداؤه في الفلسفة العقلانية الحديثة، من ديكارت الى هيغيل وبينهما كانط: فخلق الحقائق الأزلية، وبلوغ العقل المطلق تمامه في صورة العارف، والحدس العقلي، هي من اصداء الواحد في الإثنينية الحديثة.
وتطاولَ افتراق الترتيبين، ترتيب المعقولات وترتيب الموجودات، الى العمران البشري وهيئته. فالملك، أو ولي الأمر، طلّق تمثيل المحسوس والشاهد على الغيب، على رغم استظهاره بـ «حق إلهي» يوهم بدوام حلول الغيب في الشهود. والحق أنه أمارة افتراقهما، والقرينة على ترك الله الإنس الى أنفسهم، يدبرون اجتماعهم وعمرانهم من تلقائهم. والأنظمة الملكية المطلقة،الأوروبية، وجه من دينامية «علمانية» وديموقراطية على قول مارسيل غوشيه على خطى ألكسيس دو توكفيل ومقالته في «الثورة الديموقراطية». فهي، الأنظمة المطلقة، خلعت نفسها من الرسامة العلوية، وأرست سلطانها على حرية الأفراد الميتافيزيقية، وعلى إجماعهم. وارتضت الصدور عن الإجماع محل الأسماء القدسية وتوارثها في الأصلاب النورانية و «الممسوحة».
ويلاحظ ان نظريات العقد الاجتماعية الحديثة، أي الفردية، صيغت إبان ظهور الأنظمة المطلقة. وما دعت النظريات هذه الى تفكره وتعقله، وهو ولاية الاجتماع على نفسه واستبطانه هذه الولاية، ينبغي حمله على الدولة المطلقة (السيادة والولاية)، وفهمه في ضوء قيامها واستتباب الأمر لها. وهذه الدولة تتولى تماسك الجماعة (الأمة) والحق العام في التدبير «الأرضي»، أي تدبير الشؤون الدنيوية والزمنية. ويسوغ اضطلاع الدولة بالحق في التدبير العام قيامُ الدائرة الدنيوية والزمنية بنفسها، واستقلالها بأودها. والدولة، أي السلطان العام، هي صورة الهوية التي يتماسك بها، من داخل، جسم الأمة. وانقلاب السلطان من التمثيل على رابط الأرض بالسماء الى تجسيد هوية الجماعة المتماسكة، لم يلبث ان أوهن البناء المرتبي والهرمي الذي تتربع السموات في ذروته بينما تقوم الأرض منه مقام الحضيض، وصدعه.
فعلى قدر بسط صاحب الولاية والسلطان ولايته وسلطانه على الاجتماع ومرافقه ووجوهه، يضعف صورة استواء هيئة الاجتماع سابقة (على) الذين تأتلف منهم الهيئة (وهم، لاحقاً، الأفراد المواطنون و «كانوا» رعية المملكة وحكامها)، وفوق الذين تأتلف منهم. فتبدو هيئة الاجتماع، على خلاف ما بدت عليه في الطور السابق، صنيع إرادات الأفراد، من وجه أول، ومتأخرة زمناً عن الإرادات هذه، من وجه آخر. ويقضي سبق الأفراد، وقيامهم بأنفسهم، وعزلتهم، وتقضي هذه مجتمعة بمساواتهم بعضهم بعضاً، وواحدهم الآخرين كلهم. ويستوي النصاب السياسي، أو نشأته المُعْلَمة والحادثة، ركناً تصدر عنه الجماعة، وعَلَماً تسعى في تحقيقه الفعلي، ومثالاً لا ينفك يسري في عروق هيئاتها ومؤسساتها. وفي آخر هذا المطاف، يبسط البشر (أي جماعاتهم و«اممهم») سلطانهم على آصرة اجتماعهم، وعروة هذا الاجتماع، ويتولون هم صنع الآصرة أو العروة هذه. والتاريخ الغربي فريد في هذا الباب. فهو المسرح الذي بلغت عليه اثنينية الإلهية و «الإنسانيات»، وهذه طبيعيات وأناسيات...، آماداً بعيدة. واقتضى استيعاب الفرق الإلهي نحو عشرين قرناً من الزمن.
[ الاثنان... الشاهد والغيب
والتاريخ المديد هذا ديني من أدناه الى أقصاه، على خلاف مذهب من يذهبون الى ان مقصدي العقل والحرية لابسا، في ابتداء أمريهما، الاعتقاد والتصديق، ثم انقلبا على لتدين وخرجا من سرحه، وعادا فأجهزا عليه. والحق ان المنزع الزمني والأرضي الدنيوي (الطبيعي والإنسي) اغتذى من ضرع التدين وحليبه، وبسط جائزاً من جوازاته الجوهرية وأظهره. وهو أعمل في هذا السبيل، على المنوال الديني «الرسمي» أو الكنسي، براهين الاعتقاد وحججه سواء بسواء. فخرج المنزع هذا من رحم تأويلات متباينة ومختلفة تناولت الفرق الإلهي. ولم تلده «شعبة» عقلانية وديموقراطية مادية قامت بإزاء التاريخ الديني، وبمنأى منه، ولم تلبث ان تغلبت عليه. وتاريخ الخروج (الغربي) من التدين، من طريق الديانة وأدوارها وصراعاتها وتأويلاتها، هو تاريخ ديني على معنى يفيض عن تاريخ الديانة أو الديانات. فهو ليس تاريخ «الأفكار» أو «المعتقدات» بل تاريخ إنشاء أواصر الجماعات والهيئات في سياقة بناء تأويلها وتعقلها والنظر فيها. فالعقلانية والفردية، والحرية وتملك العالم الطبيعي من طريق التقنية والعلم إنما شرطها جميعاً، وأصلها الذي تفرعت عليه وعنه، هو الانتقال من الواحد الأحد الى الاثنين المنفصلين والمنفكين واحدهما (الشاهد) من الآخر (الغيب).
ولعل حمل الألوهة على ذات، وعلى صفات الذات، العلم والإرادة والرحمة...، هو ابتداء تصدع رؤيا الخليقة على صورة كون مرتب على مراتب ودرجات، ومباشرة تناول الظاهرات على مثال علّي أو سببي. وأفضى انفكاك الكون ومكوناته من الوحدة و «سلسلتها» الى فك الشاهد (الطبيعي)من الغيب (العلوي)، وإلى كثرة الوجوه التي يجوز تناول الخلق ودوائره عليها، والفحص في نسيج الدوائر هذه عن ضروب العلل الموضعية والمحلية التي تخص الدوائر، دائرة دائرة، من غير توارد بين الدوائر ولا شبه. وعلى هذا، قام الى جنب المرء الاجتماعي على النحو الذي أنشأته عليه نسبته الى الجماعة، وإطاعته السلطان (القيصر)، أو تحت هذا المرء، قام إنسان صاحبُ طوية لا يملك أحد غيره من أمر علاقته بخالقه شيئاً. وجرد التزامُ الإنسان الآخرة من تبعاته وروابطه في الدنيا. وعلى قدر تعالي إله التوحيد (المسيحي)، وإمعانه في السمو، نحت العلاقة به الى التخفف من الوساطة، وبنيانها الكنسي والإكليركي، وإلى الرسو على رابطة ذاتية محض. فليس من «نظير» للذات الإلهية، على معنى التضايف والمحاورة أو المخاطبة، غير الحضور في النفس. فصارت الطوية فرداً أو شخصاً دينياً، على حدة من أواصر المراتب ودرجات الخلق. وتصدعت الأواصر هذه حين خسرت واسطة عقدها.
وباشرت الدولة، مستظهرة بعبارتها عن الجماعة وضويها الجماعة في إهابها، بسط سلطانها داخل الجماعة من طريق فك الأفراد من روابطهم العصبية، وتصديع سبق القانون إرادات الأفراد، وإنكار هذا السبق أو الأسبقية. فإذا تقدم الأفراد، وإراداتهم، على الرابطة العصبية الجمعية وفرائضها وموجباتها، انحلت الرابطة العصبية الجمعية وفرائضها وموجباتها، وتضعضعت. وصدرت الرابطة عن (اصحاب) إرادات حرة يلون أمرهم بأنفسهم. فلا سلطان إلا بتكليف صريح من أحرار، ولا ولاية إلا بندب إليها. وآخر المطاف الديموقراطي هذا يتوّج سيرورةَ تعاظم السلطان الناجم عن الانتحاء الإلهي، وعن تولي السلطان، أي نصاب السياسة والدولة، أعباء المُسكة الجماعية. ووحده السلطان المولود من المجتمع في مقدوره تولي الأعمال والولايات التي ندبه إليها انفكاك ملكوت الأرض من ملكوت السماء. وتربع الفردُ صاحب الطوية في ملك نفسه، وقام بها. وصحب ذلك خلعَ الفرد من تبعات الانتساب العصبي، ونقلَ البعد الجماعي بقضه وقضيضه الى بنيان الدولة ودائرتها. وخلفت مدينة الأسوة والأنداد (الديموقراطية) أمة «أولياء الله».
وعلاقة البشر بالأشياء وطبائعها، وبالبيئة الطبيعية التي تحفهم وتحوطهم، ترسمها وتحدها علائقهم بعضهم ببعض. فما كان «في البدء»، وجرى عليه السلف الأول، وصار عرفاً وشريعة لا يجوز الحياد عنهما، يسري على الليل والنهار، وعلى الفصول والقمر والشمس والحيوان والنبات... ويصدق تنزيه احوال البشر عن إعمال الرأي والهوى على أحوال طبائع الأشياء الصماء والحيوانات غير العاقلة. وليست علة التنزيه، أو التزام ترك الأشياء «تسير» على حالها «وعين الله ترعاها»، هي القصور عن إعمال العلم والتقنية، بدائيين ام متقدمين، أو تأخرهما قياساً على حال (غربية) لاحقة. فالـ «التطور» ليس متصلاً، وعوامل الطور من الأطوار ليست واحدة في كلا الطورين الأول والآخر (وليس الأول فالثاني)، وهي لا تأتلف على صورة واحدة تجوز مقارنتها بالصورة الأخرى. وما ينزع إليه نظم العوامل وترتيبها في طور هو ما يريد نظمها وترتيبها في الطور الآخر تحاشيه، والحؤول دون بلوغه.
فما ناطه القرن التاسع عشر الأوروبي بـ «العمل» الصناعي والتقني من إنزال البشر منزلاً في الأرض جديداً، يخالف مخالفة رأسية «إنشاء» المجتمعات والشعوب عالمَ أو عوالم الخلق من قبل، ويخالف «إنشاءها» دواخل مجتمعاتها وجماعاتها، وترتيبَ علائقها الاجتماعية والسياسية في داخلها. والحق ان تناول الأشياء، على وجوه التناول الإنسي كلها، يوسّط على الدوام «تناول» البشر بعضهم بعضاً أو عروة اجتماعهم. وعمدت «آلة» الاستبداد «العظمى»، على قول لويس مومفورد، الى إعمال التغيير في الأشياء من طريق استعباد البشر وجعلهم اشياء. وعلى طرف آخر ونقيض، أنجز الأفراد الأحرار، ونظام الحرية السياسي، الإطباق الصناعي والآلي على عالم الأشياء وطبائعها. والسلطان العظيم الذي يفترضه الاستبداد، ويُعمله في «الأهرامات» والأنصاب والري والحرب، لا يضطلع بتعظيم الموارد وتكثيرها على قدر ما يماشي منزعه الى تعاظمه هو، وتفاخمه ومد جذوره.
ولا ريب في ان الاقتصادات الزراعية القديمة أعملت آلات وتقنيات زراعية جديدة. ويذهب الدارسون الى ان معظمها يتحدر من اقتصاد الكفاف الذي صُنعت في إطاره، واستعملت فيه زمناً طويلاً من غير انتهاك حدوده وضوابطه. وما أخرجها من إطارها القديم والثابت هو صناعة السلطان السياسي الفلاحَ ودوره الاجتماعي. فالفلاح هو المسترق المنتج. وهو اضطلع بتوسيع دائرة العالم المادي، وركن ما يسميه المحدثون والمعاصرون تاريخاً، على معنى دقيق. وبقي داعي الاضطلاع هذا، والباعث عليه، من خارج المبنى الاجتماعي نفسه. فهو إما داع من فوق، من السلطان واحتياجاته، وإما داع من تحت، من عدد الأفواه التي ينبغي إطعامها. وأما داعي «الإنتاج» نفسه فكان فعله محالاً قبل الخروج من انطواء «العالم الأكبر» على «أجرامه» (على قول المعري)، وفك الطبيعة من تبعيتها للعروة الاجتماعية، والتخلية بينها وبين الفحص عن مبانيها. وكان التوحيد، ودياناته، الفصل الأول من فصول الخروج والفك هذين.
[ الحرز الحريز
فحمل الخلق (الكون او العالم) على محدِث أو ذات إلهية مفارقة يجيز فك الإنسان من النظام الكوني وتمييزه منه. ولكن الجواز هذا يبقى معلقاً ما أقامت الذات الإلهية على قربها من الكون، وما أقامت الكائنات على وحدتها وتماسكها. وتوجّهُ الفعل البشري على «الدنيا»، وإعماله فيها وفي تملكها، سبقهما ابتعاد الآخرة، جراء الانسحاب الإلهي، أو تصور الطريق إليها مشروطاً بآداب الدنيا وأحكام عملها. فانقلبت الآصرة بالطبيعة تملكاً وحيازة، وصار الامتثال للمقسوم والمقدر منزعاً الى التغيير والاستيعاب. ولعل مبتدأ الانقلاب هذا هو قيام وجوب الخلق، أو واجب الإنشاء (الإنسي)، محل الدَّين الديني الى الخليقة وخالقها، وحمل البشرية على التقيد بدَينها هذا، وإلزامها تبعات المدين، وأولها الحفظ والإحجام عن مد اليد والإمساك عن التبديد والاستعمال والتبديل... فالتوحيد وحده، على المثال الإسلامي، من غير تصديع «وحدة الوجود» العضوية ومن غير إنكار انطواء الدنيا على العدل والطهارة، هذا التوحيد لا يوجب الخلق، ولا يبعث عليه أو يبيحه، محل حفظ الدَّين والتزام حرماته.
وما لم يجر طلب الآخرة ونشدانها مجرى الطعن في الدنيا، والإزراء بها وبخسها «حقها»، قصَّر التوحيد عن الانقطاع من دائرة الدَّين، وأقام على محافظته، وعلى اعتقاد «وحدة الوجود» وامتناع الخليقة من «التبديل» والانتهاك. وانتهى التوحيد المسيحي الى الانقطاع من دائرة الدَّين، والى الفروع التي ترتبت عليه، من طريق متعرجة وملتوية. فالحط من الدنيا، وحرثها ونسلها ومالها وبنيها وطيبات رزقها، ومن عالم المحسوس، إنما كان فصلاً من فصول سعي متجدد في تحصيل «وحدة الوجود»، وبعثها. وافتُرض ان الواحد الأحد، من غير اثنينية الشاهد (الدنيوي الطبيعي) والغيب (الإلهي)، يُبلغ من جديد، ويستوي على عرشه غير منازع ولا منقوص، إذا انتقص من (قدر) الشاهد وحط من معناه، وبُلغ به حد الذواء والملاشاة. فإذا ردمت الهوة لم يبق إلا الحق كله، ونفي منه ما يقدح في وحدانيته وأحديته. ولعل البوذية هي الصورة التامة عن نفي الدنيا في دائرة العدم، وعن بعث الواحد في «التعالي» وتبديد وهم الفرادة والذاتية. وتردم الهوة، على نحو آخر، إذا أجري الخلق إجراء صارماً على إرادة الخالق وإيجابه.
وتفادت المسيحية «الحلّين» هذين او المخرجين، وجمعت بينهما، معاً. ففكرة ذات خالقة تستبعد رمي الخلق في لجة الذواء والبَدَد، من وجه أول. ولا يستقيم، من وجه آخر، نداء الحياة الحق في «ملكوت السماء»، وتوجهه على نفس المؤمن على حدة من الجماعة والعصب ودعوة المؤمن الى وقف طاقته وجهاده على تلبية النداء، لا يستقيم هذا وإثباتَ تأويل مباشر ويقيني لحكمة الخالق في خلقه، ولا يتفق واستواءَ أمة من المؤمنين على صدوع تام بالشريعة التي أنزلت عليهم وختمت بها الرسالات والشرائع. فثمة وصلة بين الإقرار ببعض المُسكة لدنيا الشاهد والتقلب بين أظهرها وبين انكار قبولها على حالها والرضا بها. و «سر» التجسد هو مناط الوصلة هذه. فهو القرينة الحية على فرق ما بين الشهود والغياب، وعلى مُسْكة كلتا الحقيقتين، الواحدة الأخرى في نفسها. ومسكة الحقيقة الأرضية والدنيوية، على رغم مرتبتها المتأخرة والسفلية، تجعلها اهلاً لاستقبال الكلمة، ولا تطعن في جواز الاستقبال.
ومذذاك، توسط عقد الإيمان والتصديق «سر» التحام الانتحاء (والفرق) بالمباينة (الغيرية) وجمعهما في صورة المخلص. فلا مناص من مكابدة الحياة الدنيا، وهي يزكيها ويدعو الى ارتضاء فقرها وبؤسها استحقاقها شرف بشرية المسيح وشحمانيته. ولا سبيل كذلك، الى الخلود الى حرف الشريعة، وأوامرها ونواهيها، والرضا بها. فتحصن «الأب السماوي» في حرزه يمنع من تصوره، ويحجز بينه وبين الأفهام، ويحول دون اكتناه مقاصده ومراده على وجه اليقين، ويجلل حقيقته بغموض لا يستوفي تأويله. وهو يحول، في آن، دون إقرار اجتماع المؤمنين على أمة لا يأتيها الباطل من قدام ولا من خلف. والغيرية الإلهية في إطار التجسد تجمع ضدين: فهي تعظم نداء الخارج، وتغذي المجاهدة في سبيل الخلاص، وتَنهى عن الاعتزال والهرب والصرم، معاً. وهي بهذه الحال، تدعو الى تألف الفرق وقبوله حين تباعد بين شقيه وحديه. وعلى هذا، فالاضطلاع اضطلاعاً تاماً بالدائرة الأرضية الدنيوية، واحتمال البشر أعباءها وتصديهم لتثميرها وعمارتها، هي السبيل الوحيد الى مضاهاة المطلق المفارق.
وهذا الذي قد يبدو استباقاً لمنطق الإصلاح البروتستانتي ومذهبه، غداة 15 قرناً على ولادة المسيح ونحو 10 قرون على بيانه اللاهوتي، يبسط عوامل المنازعات والخلافات والمساومات والصيغ الوسيطة التي حبلت بها القرون هذه. فالإصلاح البروتستانتي إنما جاهر بمضمر منطق المباينة الغيرية (الإلهية)، ومضى به على حد المحال من غير ان يخرج عن جادته أو يتنكبها ويحيد عنها. وليس «روح الرأسمالية»، على قول ماكس فيبير، إلا عبارة «جزئية جداً» (م. غوشيه) عن المنطق هذا. والمسيحية، منذ ابتدائها، قبلت احتمال الناسوت الدنيوي، وشحمانية الدنيا، على نحو غير مسبوق. فكانت حادي منهاج تمدين وعمارة زمنيين ومكانيين لا نظير له. وخُلُقُ الفعل المديد والمتزامن في أمكنة ومحال كثيرة، ونظام العمل الاجتماعي والمتماسك، على مثال ابتدأته القرون الوسطى الأوروبية وجلته، لا يعقلان إلا في ضوء إقرار المسيحية الشاهد (الجسدي) على مكانته العالية، وإعمالها فيه وجوه صنع مبتكرة ومتجددة.
والجسد، في المعرض اللاهوتي هذا، ليس عيناً ماثلاً متمكناً ومستوفياً احتمالاته، بل هو تمثيل على معنى يسبق إدراك الفاعلين. وهو باعثهم على الفعل على خلاف إرادتهم في أوقات كثيرة. والحال هذه، يخلّف «سر التجلي» قلقاً وانتظاراً لا تلبي الشعائر ولا يلبي التقليد إلحاحهما وانشدادهما الى الآتي المجهول ووعوده، وطلبهما معنى حياً ووَلوداً. وهذا تلبيه العقيدة (الكنسية). وهي تشارك في الحقيقة من طريق دالة (سلطان) وسيط. وتجدد العقيدة، وشروطها، منازعة التجسد: فالإيمان يفيء الى طوية النفس حين العقيدة سندها دالة مطاعة. وما يدعو الى تثبيت اركان اعتقاد تقطع دابر تأويل هائم وضابط، لا ينكر على النفس (القلب) «حديثها عن ربها»، على قول صوفي مشهور وعلى معنى غير معناه المأثور. فيصل الاعتقاد القويم والصحيح، على مثال كنسي وإكليركي، بالانحراف عنه الى الهرطقة، أو الانحياز الى ايمان يحتكم الى يقين المؤمن وحده. وهذا «ديانة الهرطقة». وهي تجمع جواز الانحياز الماثل والمقيم الى تدبير النفوس بواسطة بيروقراطية تسوس المعنى والفهم. ويتصور الحق في ما يلي العقل، ووراء حجاب اللغة فلا يبلغ إلا من طريق «القلب». وعلى القدر نفسه تشتد وطأة التدبير البيروقراطي على سياسة المعاني.
[ شقة الملكوتين
فأنشأ الإصلاح الغريغوري أول بيروقراطية غربية، في القرن العاشر الميلادي. وأُلزمت أداء عملها، والانضباط على القصد المرسوم لها، من غير اعتبار معايير المجتمع الذي يحوطها وموازينه القرابية والمرتبية الإقطاعية. وجمعت شرائط تعهد العالم الدنيوي تعهداً مستقلاً، وقائماً بنفسه، الى شرائط الديانة الشخصية والفردية. ولكن انتصاب الجسم الكنسي قوّاماً على فهم الغيب والسماء والآخرة، والعلاقة بها، وإقراره بجواز ايمان قلبي، حررا الدائرة الدنيوية والأرضية من سطوة الغيب المقتصر على عليائه، والمتربع في سدتها. وتوسل السلطان الزمني والأرضي بهذه الثغرة او الفسحة الى تسويغ استقلاله بعمله وولايته عن الملكية الروحانية وسلطانها، وإلى السعي في بسط سلطان تام وغير منازع، على ملكه. وتولت حركات الإصلاح، في السياقة عينها، بلورة الإيمان الذاتي والقلبي، بمنأى من المنطق الثيوقراطي، وتوحيده الأرض بالسماء، الذي نزعت البابوية الى تغليبه. فجاءت ثمرة تضافر الحركات الثلاث هذه، الكنسية والملكية والإصلاحية، على الضد من المنزع الوحدوي الثيوقراطي. فباعدت الشقة بين الملكوتين، الأرضي والسماوي، وقسمت التدبير شطرين: أوكلت بالأول رعاية النفوس والضمائر، وبالثاني حكومة البشر وعلائقهم.
ومَعين السيرورة الغربية هذه ومصدرها، على ما يذهب إليه مارسيل غوشيه مقارناً مقارنة مفصلة بين ديانتي التوحيد الكبيرتين، هو لاهوت التجسد، و«اقتصاده» (على معنى المباني) السياسي والاجتماعي والفكري التاريخي، وتمهيده الطريق الى حل العلاقة المرتبية التي تجدد، من طرق مواربة، «توحيد الوجود» وربط الموجودات بسلسلة متصلة يلم الواحد الأحد فرقها وشتاتها الظاهرين. ويحول دون التئام الواحد حمل الكلمة المتجسدة على حادثة، و «ليس على بنية». وتكرار مجيء المخلص في القربان الأفخاريستي إنما هو احتفال بغياب، وتجديد لفعل مضى وانصرم. وما يدعو القداس إليه هو تأمل الحادثة والواقعة الحقيقية، على وجهها هذا وليس على وجه حلول الغيب في الشاهد حلولاً مادياً، على طعن الإصلاحيين في عقيدة الأفخارستية الكاثوليكية. وربوبية المسيح ركن ضروري ينهض عليه معنى الحادثة (على خلاف البنية أو المبنى الثابت). فإذا اقتصر المسيح على رسول عُهد إليه بأداء رسالة، لزم عن هذه الحال استيفاءُ تبليغ الرسالة معنى المجيء، وامحاء المعنى في حرف الرسالة، وشفُّ الرسول عن مرسله ومصدره (وإلى هذا ذهب النساطرة وغلب مذهبهم على معظم الكنائس المشرقية الى القرن السابع ب.م.).
وعلى خلاف البلاغ أو التبليغ تنم الكلمة المتجسدة ببعض معنى غير المخلوق، وتحمل المخلوق على اختبار قصوره وعالته. فليس الله من يكلم بني الإنسان في الكلمة المتجسدة وإنما «ابن الإنسان» هو المتكلم والوسيط. والإصعاد من الابن الى الأب معراج لا يسع الآدميين اجتيازه. فلا قياس بين البلاغ وبين من يبلّغ عنه. وما يبلغ البشر من الله صيغ في لغة البشر، وهو يفيض عن اللغة فيضاً لا تتسع له اللغة. وهذا معين تأويل مستفيض. وجواز التأويل يفترض حرية الضمير. وهو يوجب الحرية هذه الى إيجابه صدق العقيدة الصحيحة معاً.
والترجح لا إلى نهاية أو مستقر يقوم بالمحل الوسط الذي تنزله الكلمة المتجسدة. فهي من طبيعة بشرية حقيقية، ومن طبيعة إلهية لا شائبة فيها. وشبكُ الطبيعتين على هذا النحو يفتح على التأويل والمسألة المرسلين، فلا يقيدهما «حرف» الرسول ووساطته وذواؤه في تبليغه. ويتوجه التأويل والمسألة على الغيب الإلهي من غير قيام الطبيعة البشرية منهما مقام الجواب الجامع والمانع او مقام الختام. فالغيب هذا ليس في نفسه عظيماً لا يسع البشر تصور عظمته قياساً على الشاهد، بل هو غيرٌ. وعلى هذا فغيريته أو مباينته غير المرتبية، وغير القياسية (على حرية البشر وولايتهم على انفسهم)، هي شرط حل البنية المرتبية التي حمل البشر عليها، وعلى حكمها، تاريخهم المديد قبل «ثورة المساواة».
واعتقاد غيرية «الأب السماوي» يلزم المؤمن بالصدوع بما بينه وبين «أبيه» من فرق لا قاع له، ويقسره على قبول مُسكة الدائرة الأرضية. ويترتب على هذا تمجيد الخالق بواسطة عمارة خليقته وأرضه. وحال طويلاً دون فعل «المفصل» الإلهي والبشري، وبسطه، تأويله على معنى مرتبي يشد الأدنى الى الأعلى، وينتهي الى إلحاق الأدنى بالأعلى، ويمحو الفروق بين الدرجات، ويذيبها في توارد وتناظر عقيمين ودائريين. فينبغي ان ينحو الفرق الإلهي نحواً قاطعاً، وأن تتقطع العرى المرتبية والدرجات المتصلة في إطار «وحدة الوجود» و«سلسلته الكبرى»، لكي يضطلع البشر بعمارة الأرض ويصوغوا ايمانهم صوغاً فردياً وشخصياً من غير وساطة جسم أو سلك يتولى الخلاص. وينتسب المقاول الرأسمالي الى الناسك المتأمل والمترهب، والمؤمن في كنف الكنيسة الى صاحب الطوية والقلب، من طريق فك المراتب والدرجات وحلها.

ليست هناك تعليقات: