ننقسم، ينقسم الناس على واقعة سياسية، والأرجح تاريخية كبيرة مثل حرب روسيا على الجارة الأوكرانية ودفاع الأوكرانيين عن دولتهم وأمتهم، تبعاً لمعيار جوهري هو هوية المتحاربين. وغالباً ما يتقدم هذا المعيار معايير أخرى تتناول غاياتهم وأساليبهم ومناهجهم، وما تفترضه هذه من أحكام وحقوق، وتبرره من سياسات وقواعد، وتجره من نتائج على علاقات الدول والمجتمعات بعضها ببعض.
فـ"الهوى الروسي"،
المتخلّف عن الماضي القيصري والأرثوذكسي، وربما عن الرهط الذهبي، المغولي، وخلطه
تاريخ البلد الشاسع والقائم على ضفتي آسيا الوسطى (وشرقها الأقصى) وشرق أوروبا، أو
المتخلف عن الماضي "السوفياتي" و"الثوري الأممي" القريب- هذا
الهوى داعٍ قوي إلى التخفّف من التحفّظ عن تسويغ العدوان بحرب وقائية يزعم الرئيس
الروسي، فلاديمير بوتين، و"طباخه" (وصاحب "فاغنر") يفغيني
بريغوجين، شنّها رداً على حرب كان "الغرب" الأطلسي، أو الجماعي
والمشترك، يزمع شنّها على روسيا.
ويبعث الهوى الحار هذا على
إسكات التحفظ "الإنساني" عن بربرية الحرب الروسية، وقصفها المتعمّد
وحرقها مرافق الحياة المدنية، وتوسلها إلى تدمير الشعب الأوكراني بحيل
"قانونية" مثل ضم أراضٍ محتلة إلى الأراضي الإقليمية والوطنية الروسية
وإعلانها جزءاً أصيلاً منها، ثم "تجويز" الدفاع عنها بسلاح نووي تكتيكي.
ويغضي أصحاب الهوى الروسي عن تذرّع بوتين برواية تاريخية كاذبة. يزعم
"وحدة" أبدية بين الروس وبين شعب أوكرانيا، "صنعها الله ولم نصنعها
نحن" تقريباً.
وينكر وقائع قريبة، من قيام
دولة أوكرانية، عام 1991، في حدود دولية (وهو ما حاول سفير بكين في فرنسا الرجوع
عنه قبل أن "تصححه" وزارة الخارجية)، إلى مقايضة أوكرانيا تخليها عن
السلاح النووي السوفياتي، في 1994، لقاء اعتراف روسي بحدودها الدولية التي لا
تستثني شبه جزيرة القرم المحتلة (منذ 2014). وينسى الهوى الروسي المقارنة بين زعم
تضليل ("ديزانفورماتسيا" يوري أندروبوف، أحد أواخر رؤساء الاتحاد
السوفياتي المرضى، 1982- 1984) موسكو أن حكام كييف "طغمة نازية" متسلطة،
وبين حصول مرشحي التيار النازي في أوكرانيا على 2.02 في المئة من أصوات المقترعين،
في دورتي الانتخابات النيابية الأخيرتين.
"انتقال
القوة..."
وإفضاء سابقة مثل العدوان
الروسي، إلى فوضى دولية، وإطلاق يد إمبراطوريات مستبدة ومتعسكرة تنكر الكيانات
الوطنية، وتحملها على عَرَض ترتب على انحلال الإمبراطوريات ليس إلا (وهذا ركن
"نظرية" ألكسندر دوغين، مرشد بوتين الفكري أو أحد مرشديه في العلاقات
الاستراتيجية في حقبة ما بعد الحداثة) في دوائر نفوذ خاصة، هذا الإفضاء الراجح لا
يعكر بال أو مزاج من يستبد بهم الهوى الروسي، ويسدد أحكامهم السياسية والتاريخية
ويقيم معاييرها.
فيجوز السؤال عن مصدر الميل
إلى سياسة مثل السياسة البوتينية، وقبول ذرائعها وعللها المتهافتة، والسكوت المريب
عن عنفها وتطرفها (النووي على الأخص) وآفاتها المدمرة. ويجمع شطر من المحللين
الغربيين على تعليل الميل أو الهوى هذا- وهو يشمل في أحوال كثيرة صين شي جينبينغ،
وتركيا رجب طيب أردوغان، وهند ناريندرا مودي، وإيران علي خامنئي وقبله روح الله
خميني... ناهيك عمن هم أقل حجماً وأحياناً أشد أذى- بعداء "الغرب"،
والضغينة على استعماره وإمبرياليته وسطوه على تاريخ "الجنوب" وموارده،
وبالثأر لهذا الجنوب المقهور والتصدي إلى قيادة العالم.
ولا شك في أن
التلويح بأفول الغرب، وتقلص نفوذه يوماً بعد يوم في الشرق الأوسط (وهذه عبارة
"غربية") على الخصوص، في إطار "انتقال القوة من الغرب إلى
الشرق" وموقع إيران منه، على ما يظن إسماعيل قاآني خليفة قاسم سليماني ويأمل،
عَلَم بارز على المرحلة، وعلى بعض مقالاتها. وتنسب هذه المقالات إلى
"الغرب"، متكاتفاً ومتآمراً ومتعمداً، أمراض "الشرق"، أو
"الجنوب"، و"زماناته"، على قول رابع الأئمة محمد الباقر في
علل بعض النبوات. وفي حسبان الجنوبيين هؤلاء لا يعقل ألا
تكون الحرب، والروسية على أوكرانيا خصوصاً وأولاً، غير غربية، أكانت خلافاً
أهلياً، شأن حركة الإيرانيين والإيرانيات على "الديكتاتور" وعماماته
ورشاشات وسموم حرسه، أم خارجياً، شأن "أم حروب" البوتينية في العقد
الثالث من القرن.
ولكن ما ينكره من ينصبون أنفسهم ألسنه جنوب تصنعه
إخفاقاتهم وأوهام عظمتهم، على الغرب وسياساته الدولية، اذا نُحِّي العتب على الكيل
بمكيالين، على ما يصنعون هم في علاقاتهم البينية والداخلية أضعافاً مضاعفة، (ما
ينكرونه) هو ما يطعن في استبدادهم، ويقيد وطأة أنظمه حكم تنزع الى إرساء "دولة-
حزب واحد" لا شريك لها في الأمر والرأي.
أما الغرب
الرأسمالي والإنتاجي الذي يدمر موارد الكوكب ويبددها، الغرب الاستهلاكي الذي يحيل
علاقات البشر إلى أنماط رتيبة من الردود المأذونة والمقررة، والعلاقات السياسية
والاجتماعية إلى شعائر تمثيل صورية، هذا الغرب يتربع في سدة "الرؤى" التي
تقود خطى أولياء "انتقال القوة من الغرب إلى الشرق".
وما يفتن الأولياء والدعاة
الجنوبيين أو الشرقيين هؤلاء في غربهم هو تجاوزه القيود الحيوية التي يقيد بها
اجتماع وعمران حيّان و"مهذبان"، على قول جورج أورويل (1901- 1949)
القوة وأسبابها وعواملها. وكانت الكلِّيانيَّتان (التوتاليتاريتان) اللينينية-
الستالينية والهتلرية المثالين القصويين لنازع الحداثة الرأسمالية والعقلانية إلى
إنشاء "عالم" لا حدود لفتوحه البلدانية والاقتصادية والسياسية والعلمية
(على نحو صداقة شي جينبينغ وفلاديمير بوتين عشية الغزو).
مغالبة التاريخ
ويغلب على محاولات تجاوز
الحدود (الإمبراطورية) وإلغائها نازع إحيائي أو "بعثي"، على المعنى
الحرفي أو المعجمي. فما يعلن بوتين إرادته والسعي في إنجازه أو تحقيقه، هو قيامة
"عالم روسي" لم يَخلُ يوماً- على ما يتوهم، ويدحض المؤرخون هذا الوهم-
من أوكرانيا وبيلاروسيا. وبينما الإتحاد الروسي، وهو اسم "روسيا" الرسمي،
خليط من الأقوام والأعراق واللغات والمجتمعات، يرسي الرئيس الروسي ومنظروه وحدة
عالمه المفترضة على اللغة والإثنية "القوميتين".
وهو ينيط عودة روسياه بعاملين
يفرقان بين مواطني الاتحاد ويبعدان بينهم. وذلك لأن اللحمة الفعلية، على ما يعلم
بوتين وأمثاله- في بلدان العالم التي ورثت إمبراطوريات تاريخية، ولا تزال ثابتة
على غلبة المعنى الإمبراطوري، شأن من نعلم-، هي القوة العارية والغاشمة. ولكنهما
عاملان يغالبان التاريخ، وأطواره المتقلبة والمتغيرة، ويوهمان بـ"طول البقاء"
من بعد الحدثان.
وتنهض قيامة الإمبراطورية،
ولا تخفى أصداء الصورة الدينية والعُلَوية، على موت الجماعات أو الشعوب المقهورة وذوائها
واندثارها. وبينما يُنشد بوتين هيامه بأوكرانيا، مهد "روس كييف" والنطفة
الروسية الأولى، وينفخ البطريرك كيريل رأس الكنيسة الروسية الأرثوذكسية في الروح الذي
تجسد في الأرض الواحدة والعائلة الواحدة، تلاحق مسيراته، وصواريخه الباليستية
وقنابله الذكية، أضعف بصيص ضوء، أو رعشة تيار كهربائي، في زاوية ملجأ من ملاجئ باخموت
او خاركيف.
فدعا هذا مؤرخاً أميركياً
بارزاً من أصول أوروبية بلطيقية وشرقية- تيموثي سنايدر، صاحب أرض الدم، أوروبا
بين هتلر وستالين، 2010، في العلاقات الألمانية- السوفياتية في أثناء الحرب الثانية،
وتجديد بناء الأمم، بولندا، أوكرانيا، ليتوانيا، بيلاروسيا، 1569- 1999،
2003- دعاه إلى وصف الحرب الروسية على أوكرانيا بالحرب "الكولونيالية" أو
الاستعمارية. وهو يدرجها في سلك حروب كولونيالية أوروبية مثلها سبقتها، أبرزها
الحرب العالمية الثانية. فهي، على قول سنايدر، "حرب كولونيالية ألمانية فاشلة"
(حوار مع لوموند اليومية الفرنسية في 10/4/2023).
وأعقبتها حروب كولونيالية،
فرنسية (في أفريقيا وآسيا)، وهولندية (في شرق آسيا)، وبورتغالية (في أفريقيا)...
وعلى هذا، فـ"أوروبا اليوم مجموعة دول ما بعد كولونيالية". وقياساً على
هذه الحروب، لا شك في أن روسيا بوتين تعامل أوكرانيا معاملة المستعمرة. وقول بوتين
أن لا وجود لأمة أوكرانية، أو دولة أوكرانية- على شاكلة نفي الدولة الفرنسية،
وأحزابها اليمينية واليسارية، حقيقة "أمة جزائرية"، أو رد عرب مشرقيين
دول المشرق، ما عدا دولتهم الممزقة والأهلية، إلى صنيع السيدين سايكس وبيكو-
"من تقاليد خطابة التفوق الاستعماري".
الأمم/ الإمبراطوريات
ويقارن المؤرخ الأميركي-
البلطيقي بين أطوار روسيا وأوكرانيا السياسية والثقافية بعد 1991، تاريخ حل
الاتحاد السوفياتي واستقلال الدول الوطنية عنه (ويزعم دوغين البوتيني أن الحل
والنشأة هذين هما مثال تكون الدول- الأمم الحديثة والمعاصرة عموماً، ويخلص إلى أن
التاريخ الحقيقي هو تاريخ الكيانات الإمبراطورية وصراع البحرية منها مع البرية،
وروسيا، والصين بعدها، طليعتها المظفرة والغالبة).
ويلاحظ سنايدر أن أوكرانيا
بعد 1991، ثم بعد 2014 وثورة ميدان "الأوروبية"، غلّبت السياسة والتجريب
السياسي، على العوامل الثابتة و"اللاتاريخية" التي تستقوي بها
الأوليغارشية الروسية المتسلطة (العرق واللغة والدين). فتعاظم تمكين المجتمع
المدني وجمعياته وروابطه ونقاباته، على خلاف القمع الذي جرَّم صور التجمع والتعاون
والمراقبة والمحاسبة وأبنيتها المستقلة في روسيا.
وبلور المجتمع الأوكراني، في
الأثناء، نخباً فتية وجديدة خرج من صفوفها حكام شباب، أربعينيون، هم من يمثلون
الأوكرانيين اليوم، ويوليهم هؤلاء ثقتهم، وتنتخبهم نسبة راجحة منهم تبلغ 70 في
المئة (وهي حال فلوديمير زيلنسكي، "السكير" و"مدمن المخدرات"
و"داعي المثلية"، بحسب ديمتري ميدفيديف وسيرغي لافروف، من
حلقة بوتين الضيقة).
بينما عمد ضباط الاستخبارات الروسية
السابقون، وهم "النخبة" البوتينية وزملاء "القيصر" السابقون،
إلى تزوير الانتخابات، واغتيال المعارضين أو سجنهم، وتخوين الجمعيات الأهلية
"العميلة"، وخنق المنابر الإعلامية والثقافية، فضيَّعوا على المجتمع
الروسي فرصة بناء مجتمع مدني، ورعاية نخب سياسية متنوعة ومختلفة. وزج الضباط الأمنيون
السابقون بالشباب الروسي في الحرب العبثية، الكولونيالية، التي يتصدرها مرتزقة
"فاغنر"، ونخبة معتقلي القانون الجنائي الروس، وقد يخلفهم شيشان قديروف،
في شرق أوكرانيا وجنوبها.
وقطع الطرق كلها إلى تكوين نخب سياسية
وإدارية واقتصادية، تخلف الأوليغارشية المتسلطة ولا تقطع الرجاء من انتقال غير
فوضوي أو مخيف للسلطة، هو من مناهج السياسات الاستبدادية، وأحد أبرز
"انتصاراتها"، على قول إبراهيم رئيسي وغيره من قيادات الإقليم المزمنة.
ولا سبيل إلى تكوين مثل هذه النخبة إلا من طريق "(تفتح) مئة زهرة، و(تنافس)
مئة مدرسة"، على قول ماوتسي تونغ، (1893- 1976) ولكن عشية قمعه في الدم حركة
مدنية خاف نتائجها، في 1957- 1958. والحرب- فعلية كانت على شاكلة روسيا اليوم، أم
سُلِّط تهديدها وجوازها على البلد، على شاكلة حروب "عربية" معلقة- هي من
غير شك أنجع ذريعة إلى إذابة السياسة، وأدواتها وموازينها، في قسمة الولاء
والخيانة ("الكفر") القاتلة.
رحم الحروب
والأرجح أن سعي الرئيس الروسي (منذ 24
سنة) في إيقاد "الحروب" المتسلسلة، الخارجية و(شبه) الداخلية، مرده إلى
الحؤول دون شق السياسة طريقاً في الحياة والجسم الروسيين. وتماشيه ميول تاريخية
واجتماعية روسية تدعو شطراً راجحاً من الروس إلى الاستقالة.
فيلاحظ كاتب فرنسي- أميركي من أصول روسية،
جوناثان ليتل (روائي ربات الصفح، 2006، التي تجري حوادثها في ألمانيا
وروسيا، في الحرب العالمية الثانية)، أحد ضباط الاستخبارات الذي تربع في كرسي
بوريس يلتسين في 1999 افتتح عهده بشن حرب ثانية، مدمرة، على بلاد الشيشان. وأرسى
صيت الحزم والحسم الذي أراد أن تُعرَف سلطته به، على قمع ساحق طاول المدنيين قبل
المقاتلين، والحجر والبشر على حد سواء، وكان الروائي الشاب، يومها، شاهداً
"إنسانياً" عليه (في العدوان الروسي، كتابات سجالية، 2022).
وقبل أن يثنّي بالحرب على جورجيا، عمد إلى
تطهير الداخل. فاغتالت أجهزته يوري شيكوتشيخين، وأنّا بوليتكوفسكايا وبوريس
نيمتسوف وآخرين. وغزت القوات الروسية جورجيا، في 2008، في أعقاب حيلة أوقع بوتين
فيها الرئيس الجورجي. وحين استعاد كرسي الرئاسة من رئيس وزرائه، وظله، ديميتروف،
في 2012، تظاهر روس كثيرون، ونددوا بقفل الانتخابات الرئاسية على حلقة ضيقة من
الأوليغارشية. وبرز نافالني علماً على الحركة المدنية المنددة بالفساد. فرد الرئيس
المرشح بالدعوة إلى تظاهرات مضادة في الأماكن التي دعا المعارضون إلى التظاهر فيها،
وفي رعاية الأمن الروسي، على نهج خبره اللبنانيون والسوريون والعراقيون عن كثب.
واستن الرئيس "الجديد" قوانين
قمعية ملأت السجون بآلاف المعتقلين والموقوفين الذين دين معظمهم بعقوبات
"إسرائيلية"، طالت أعواماً لا نهاية لها إلا بالمرض المُقعِد، في أحسن
الأحوال، وتوسل الرئيس ذو الولايات المتعاقبة، والآخذ بعضها بتلابيب بعض، إلى
إرضاء "الشعب" الروسي، والاقتصاص من أوكرانيا على طردها رئيساً موالياً
له وناكصاً عن وعده لناخبيه بالانضمام إلى أوروبا واتحادها، وهو انتخب على هذا
الوعد، بالانقضاض على شبه جزيرة القرم، وضمها عنوة، وفي غفلة عن أهل شبه الجزيرة،
وعن الأوروبيين والغربيين المنتشين بالسلم والغاز الروسيين.
وأشعل "القيصر فلاديمير"، على
ما مدحه إعلامٌ بعضه خانع متملق وبعضه مأجور، قتالاً أهلياً في الدونباس، لوهانسك
وليتوفسك، شرق أوكرانيا، مستميلاً أوكرانيين من أصول روسية، "عرقية"
ولغوية، على مثال قومي ضيق وبائس. ويلاحظ جوناثان ليتل أن احتلال القرم، تحت ستار
"استعادة"، وثأر من اقتطاع واغتصاب مجحفين وعدوانيين ومن ضعف (خروتشيفي،
ولينيني أثيم قبله)، أثار حماسة معظم الروس، 91 في المئة منهم، وتوّج بوتين بطلاً
قومياً، فاتحاً أو غازياً، على قول جمهور أردوغان، ومنصوراً.
وفرح "المثقفون" بما بدا لهم
روسيا "جديدة"، ولا تحول جِدّتها بينها وبين بعث فتوح بطرس الأكبر
(1672- 1725)، وقبله القديس ألكسندر نيفسكي (1220- 1263)، ولم لا إيفان الرهيب
(1530- 1584). ويعود التاريخ القومي والأسطوري فيصل المطلع المجيد بخاتمة
"الحرب الوطنية الكبرى" (أو الحرب العالمية الثانية في صيغتها الخاصة).
فالداعي الأول إلى مبايعة طغاة التاريخ الروسي هو الرعب من عودة "زمن
الاضطرابات" وأهواله التي سبقت استتباب الأمر لآل رومانوف. وتمزج
الأيديولوجية الملاحم والفتوحات العظيمة بـ"صغائر" الرواتب والعوائد
والهبات والريوع التي تجزي السير في ركاب الجهاز البوتيني.
ويخاطب ليتل "أصدقاءه" الروس،
فيكتب: "وعدتم (غداة ضم القرم واندلاع القتال في الدونباس) إلى الأدب
والسينما ولوائح إيكييا (للمفروشات)، أو أقدمتم على التمتع بالحدائق الجديدة التي
زينت (موسكو) منذ 2012، ومقاعدها الرخوة والوثيرة، والإنترنت المجاني والمقاهي على
الموضة. نعم، كان الدونباس بعيداً، بينم العيش في موسكو رخياً، ويزداد رخاؤه يوماً
بعد يوم." (ص18).
ثم شرَّق بوتين إلى سوريا في 2015، غداة
انتصاراته الغربية. وذهب جوناثان ليتل، الصحافي، إلى سوريا. ودخل باب عمرو بحمص
شهرين قبل سقوط الحي، وقبل مؤازرة الطيران الحربي الروسي "قوات الاتحاد
الوطني" السورية، والفرقة الرابعة، والفيلق الخامس... وشهد بأم العين اغتيال
القناصة الأطفال دون العاشرة في طرق المدينة الظليلة والقديمة. وأتم العمل، على
قول العسكريين الأميركيين، بقصفٍ ترك حلب، العاصمة الاقتصادية السابقة، قماشة
متخرقة لنصف قرن قادم، على أضعف تقدير ورغم "عودة"- عودة أخرى- سوريا
إلى الحضن العربي، على زعم أحمد أبو الغيط، أمين عام جامعة عربية متفرقة.
أفق الدهر
وتلد الحرب على الخارج القريب- وهي عبارة
روسية المعنى، وتدل على الحزام الإمبراطوري الذي تطوق به دولة فاتحة قوية وخائفة
نفسها، وتترجح بين الاحتماء به وبين ضمه أو ضم أجزاء منه، على شاكلة روسيا مع
فنلندا- انقساماً من صنف مؤاتٍ لطبقة الحكام. ويرى الصحافي الروسي، أندري ف.
كوليسنيكوف أن الحرب الروسية، في أعقاب التعبئة الجزئية، قد تغير "أنموذج
العقد الاجتماعي" برمته. فتشرك الدولة "طبقات (اجتماعية) مختلفة
ومتفرقة... في عمليتها الخاصة." (من تقرير أعده الصحافي إلى مؤسسة كارنيغي
للسلام العالمي، ونشرته على موقعها الإلكتروني في 10/4/2023).
وقد تحولها إلى "حرب شعبية توحّد
الأمة". فعلى حين كان العقد السابق والسائد يعارض "نحن"، الشعب أو
الناس والعامة، بـ"هم"، أعلى الهرم الاجتماعي، يعارض العقد، المولود من
الحرب "نحن"، الروس كلهم، بالأعداء الأوكرانيين، ومن ورائهم من يصدرون
إليهم الأوامر، على قول لافروف في المسيّرتين اللتين انفجرتا فوق جناح الدوما
بالكرملين، الأميركيين و"النايتو" والغرب "الجماعي" وعملائه.
و"نحن" هذه تسعى في تسريع "انتقال القوة" من غرب أميركي، متصدّع ومتآكل، إلى جنوب أو شرق يكاد لا يدري ما يصنع بموارد القوة التي تتدفق من خلاياه كلها، بينما يدب الضعف في مفاصل عدوه المتهاوي. وإذا كان الانتصار المؤزّر على الغرب هو هدف الحرب الشعبية المقدسة، ففي وسع بوتين وشي جينبينغ والآخرين "قضاء البقية الباقية من الدهر في السير نحو الأفق (المتحرك) هذا"، على قول كولسنيكوف.
موقع رصيف الخميس 11 مايو