الاثنين، 31 مارس 2014

ولادة أنسي الحاج الشعرية...(2)...الحذو على ثورات الحداثة وقصرها على جدة مصطلحها

 المستقبل، 30/3/2014 
 حملت مقدمة "لن" (1960)، وبيانها الشعري و"التاريخي"، ولادة قصيدة النثر والشعر الحر، وشاعرهما الحر معهما وقبلهما، على انقلاب الازمنة وعلاماتها، وعلى ثورة تعبر بـ"الجميع... الى الحرية" (عطفاً على مقالة سابقة، المستقبل- نوافذ، 16/3/2014). وإذا صورت المقدمة – البيان شاعر القصيدة الجديدة في صور المصطفى الكثيرة، لم تحصر هذه الصور فيه ولم تقفها عليه. ورمت الشاعر في لجة تتلاطم فيها مياه الهذيان والجنون واللعنة والفوضوية والعرافة والتأله والنبوة. وهو، الشاعر، قد يشترك في هذه المياه، ويغوص فيها، مع آخرين لا يحصون من الهاذين والمجانين والملعونين وغيرهم مثلهم، وهذا ما يلمح إليه صاحب البيان من طرف غير مبين ولا صريح. وقد ينفرد بحاله هذه، ويتقدم جموع المنتظرين والمنقطعين الى صاحبهم المزمع سفراً وهجرة وحده.
 وسَوْقُ البيان – المقدمة القصَص الذي يمهد الطريق والعلل الى ولادة قصيدة النثر وشاعرها، ويقضي بضرورتها (وضرورة شاعرها) وحتمها، يترجح بين حدين: حد التعليل والتسويغ التاريخيين والعامِّين، ويدخل هذا الحد "الجميع" أو "أقلية التقدم" و"الكتلة الطليعية" على وجه التقليل، وحد البعث أو المبعث من غير علة ولا داع، إلا الايمان ربما، على شاكلة الخلاص البولسي (نسبة الى بولس الرسول او الحواري) في تأويله اللوثري. ويحشر الحد الاول شاعر قصيدة النثر في جمع أو قوم أو جمهور لا يتميز آحاده بعضهم من بعض، ولا واحدهم من غيره، ويفرده الحد الثاني على حدةٍ، ويخصه بحالٍ لا يشاركه فيها غيره تقريباً. ويستعير قصصُ البيانَ رواية جمعية أو جميعية (على معنى اللفظة في قول الشاعر: فسلني عن جميعك أين حلوا/...، ويربد بها جسم القبيل الواحد)، أسطورية، يؤدي بها ولادة ما أو من لا تعقل ولادته، أي شعر قصيدة النثر وصاحبها، ويطرأ على الوجود والكون من خارج سلسلة العلل المرصوصة والمتصلة. وما مترادفات الهذيان والجنون والهستيريا وغيرها إلا قرينة ملحة، وتكاد تكون مستميتة، على خلق "مطلق" من عدم، أو من شبه عدم (بعض الترجمات من هنا، وشيء من النثر من هناك، الى تفعيلة من هنالك...).
 ويجمعُ الترجحُ نازعين أو أثرين مختلفين. فيوكل حده أو وجهه الجميعي الحادثةَ الفريدة والفارقة، وهي لا محالة يتهددها ضعف الدلالة بالذواء والخفة، الى التاريخ الكبير وانعطافاته المزلزلة (" ألف عام" من امور كثيرة قاتلة). ويحمل حدُّه الفردي القصيدة العتيدة على الشاذ والفذ وغير المشروط. فيولد من هذا "كائن" تام الجمعية، أو الجميعية، وتام الفردية، معاً وفي آن، مفرد في صيغة الجمع وجمع في صيغة الفرد، من غير تدافع ولا تناقض. ويسكت القصص البياني عما يحصل حين تنعقد "جمعية" الهاذين والمهسترين (وتذكيرهم خُلف وعلامة مثاقفة واقتباس متعجلين) والمجانين والمتألهين والشتامين والضديين..، سكوته عن قصائد النثر المولود من جمعيتهم المتخيلة والمفترضة.
 وهذه الجمعية ليست حلقة مجلة "شعر" في الاحوال كلها. وبعض إحالات البيان – المقدمة الى هذا من غير ذاك من المتحلقين، وتنويهه بنثر ناثرَيْن من دائرة قرابة وحرفة حميمة، تنم بآصرة جميعية أو "قومية" بعيدة من "غرابة" المجانين والهاذين والعرافين، ومن فوضوية الضديين. فيبقى القول في الحدين، وفي جماعتَهْما، متوازناً. فلا ترجح كفة أحديهما ولا تشيل الكفة الاخرى. ويسع المهرج والمهلل وأشباه هذا وذاك الاستقواء بظهر تاريخي عظيم، والانتساب الى قوة كونية وجيولوجية (أراضية، على اشتقاق الشيخ العلايلي) طاغية، من غير إنكار فرادته الفذة والشاذة أو الخجل بها والتستر عليها.
 ويسع الجمهور، المؤتلف من آحاد لا قيد على انتسابهم الى التهريج والتهليل والمجانية والإسراف إلا من أنفسهم ورغبتهم، الدخول في مذهب قصيدة النثر أفواجاً وزرافات ومتفرقين ووحداناً من غير رقيب ظاهر أو شيخ مجيز. ولكن كثرة المدعوين لا تؤذن، على مثال ديني صارم، بخلاصهم أو اصطفائهم كلهم. فالصفوة قلة قليلة، وعلامة اصطفائها غامضة وملتبسة. وقصص بيان "لن" ومقدمتها لا يثبت هذا ولا ينفيه. ولكنه، على المثال الديني إياه، يكتب مقالة المنهج المفضي الى بلوغ محجة "الحرية" على وجوهها، ويشبِّه على الجمهور ويوهمه بأن المنهج يتوجه على العموم ولا يخص. وساوى بين "الجميع" في "العبور" الى المحجة. وهم، على حدٍ واحد، من "عَبَروا" وبلغوا، ومن اجتهدوا ربما أو اقتصروا على القراءة والانحياز والحماسة. وهؤلاء جميعهم يقرهم البيان على "أحوالهم"، على المعنى الصوفي العامي، وعلى مقامهم وموقفهم.
الفعل الحَصان 
وعلى هذا، وربما للمرة الألف، يسوّى الفرد ("العربي"؟) من طينة جميعية وفي هذه الطينة، ويُقدّ في مادتها المتماسكة والصخرية. وللمرة الالف تكتب المقالة في المنهج أو الطريقة قبل انعقاد ثمرتها وقطافها، وقبل أكلها و"معرفة الخير والشر" التي يؤدي أكل الثمرة إليها (الى معرفة الأمرين)، على مثال "الآلهة" التوارتيين. فـ"مناهج الألباب" – على قول رفاعة رافع من أهل طهطا، ووسمه كتابه الجامع في "النهضة"، و"انتاج الانتاج"، والدولة آلته المتقدمة حركة المجتمع نفسه- تتقدم "مباهج (آداب العصر)". ويقدم "التكنيكي"، على زعم شاعر قيتولي الراحل، "الشعري" الذي لا يعثر قارئ البيان – المقدمة على آية غير تكنيكية أو غير منهجية عليه. فـ(لن)، الاداة النحوية ووسم الديوان، لا تعمل في موضوع أو مادة، وهي تتعالى عن التعيين وعن الأعيان. وإذا اضطرت الى مثل هذا العمل أو الإعمال- وهي مضطرة إليه إيفاءً بعقد كتابي أو طباعي مضمر لا سبيل الى انتهاكه إلا بالتزام الصمت المطبق ونسيان ما تقدم من كتابة علنية- تجنبت وسعها، على خلاف صنيع شوقي أبي شقرا وصنيع أدونيس على وجهين متفرقين، الخوض في اختبار جوهري، حسي واجتماعي. وترفعت عن الاختبار والخوض بذريعة إحصان الفعل الشعري الخالص، وتجريده القاطع و"الضدي"، وتخففه أو تحلله من معاني الاعيان السابقة والمحايثة، من قيم استعمالها.
 وإذا هي خرجت ظاهراً عن تعاليها وتجريدها، على ما ذهب إليه مؤرخو مجموعات أو "دواوين" أنسي الحاج ومراحل موضوعاتها (من الثورة والعبث الى المرأة والعشق فالتصوف، إلخ.)، لم تَلِغْ في الإنّيات أو الاعيان الزمنية والدنيوية إلا حين لبست لبوس النثر الصريح في مرحلة ثالثة أو رابعة مفترضة. وهذه المرحلة أقام المريدون والسالكون على النفخ في رمادها والإيقان بأن الرماد النثري الظاهر يشتمل على ذهب محجوب ومكنون يتجلى في الشكل النيتشوي، بعد الروح الرامبالدي والبريتوني فالتوراتي النبوي، وليس الخبري بديهة.
 فدأب المقالة ("العربية"؟) في المنهج أو الطريقة تعظيم قيمة التبادل والتدوال، أي مفعول دعوى النهضة والثورة والتجديد التي يختزنها المنهج ويخلقها أو يوجبها، إذا عمت دعواه وفشت و"سارت في الناس". فالمنهج المجدد "يبيع" بضاعته أو سلعته العظيمة والموعودة، وهي "الجديد" من غير تعيين يتعدى "موت الموت"، على قول بعض المتكلمين المسلمين، الناشب في "الحياة" و"أبناء الحياة". وهي، البضاعة أو السلعة، تطوي السلعة القديمة والمنقضية، وتصرمها بسلعة غير مسبوقة تقتصر جدتها على فرق هو الفارق كله. وذلك بثمن ينبغي أن يكافئها، إذا جازت المكافأة بمثل أو عدلٍ في هذا المضمار. ولما كانت دعوى الطريقة، اي المقالة في الطريقة، على هذا القدر من الضخامة وغلاء الثمن، استحى غير المنخرط في سوق المزاودة، والمشكك في الصفقة، من امتحان صفة البضاعة الموعودة.
 والحق ان مثل هذا الامتحان متعذر، ولا سبيل حقيقة وفعلاً إليه. فإذا وَضَع بيان قصيدة النثر- وهو وعد بشعر بودلير ورامبو والسورياليين وانطونان أرتو وسان جون بيرس ونشيد الاناشيد، معاً، أو بآثار هذا الشعر ومفاعيله اللغوية والمعنوية – مولوداً لا يرقى، على اضعف القول، الى انجاز الوعد. ولم يجد صاحب القول الضعيف في البيان العتيد ما يعينه على امتحان رأيه ومناقشته من غير إفحام وترهيب وحَرْم. وقد يكون القياس على ولائد المقالات في مناهج الإحياء والنهضة والبعث والتجديد من أشباه "دول" وأنظمة وسياسات أقرب الى الإيضاح من المقالات "الثقافية".
 ويسع أصحاب المقالات في المناهج والطرائق على الدوام ردَّ امتحان طرائقهم ودعاوى المتحفظين بيسر، وازدراءَ من يتناول مقالاتهم من خارج، وإبطال أصل دعواه. فهم، على مثال بيان "لن" وبيانات ترويج السلع التي تشبههه، لم ينشدوا على زعمهم غير تجديد الحياة وحركتها وتحولها وزمنها وإبداعها ولغتها، ولم يرغبوا إلا في هذا. ومن قد يتحفظ عن ثمرة المقالة في المنهج الشعري الجديد، أو "الشعرية الجديدة"، أو يفحص عن صفتها، إنما يطعن، في قرارة نفسه التي يجهلها، على أركان المقالة وأصولها ومبادئها الاولى. وفي اعقاب نحو نصف قرن (46 عاماً عداً ونقداً) على البيان، حين سألته ندوة دراسية عن دعوته الى قصيدة النثر، لم يعدُ القول: "أنا قصيدة النثر الصغيرة الدخيلة، عشبة هوجاء لم يزرعها بستاني القصر ولا ربة المنزل، بل طلعت من بركان أسود هو رحم الرفض (...) لن أدخل حديقة الطاعة (...) لأني ولدت من التمرد..." . وهذا عود حرفي ومجازي (العبارة) على ابتداء البيان- المقدمة، وسُوق سلعته وترويجه وتبادله وتداوله. ويرث الرفض والتمرد جمهرة الألفاظ المتناسلة التي حشدها البيان قبل نحو نصف القرن وجمحت، يومذاك، الى تخوم الجنون والهذيان وصورهما الباردة والمجلدة في أغلفة من البلاستيك.
المنحول والضرير
 ويبدو الترويج هذا، وتعظيمه قيمة التداول والتبادل الموعودة والمسبقة، وجهاً من وجوه الحداثة الرأسمالية والديموقراطية المتضافرة، ومقالاتها المنتخية والمتبجحة في نفسها وبنفسها، على ما لاحظ نيتشه في اواخر القرن التاسع عشر الاوروبي. فمقالات الحداثة تزعم صدق هذه المقالات، وتحملها على على جزء لا يتجزأ من حقيقتها، وتنزلها منزلة العلامة الفارقة على اختلافها وبَيْنها من الازمة الغابرة والقديمة. فـ"نحن" المحدثين والمعاصرين على يقين من ملابستنا وغشياننا وصنعنا زمناً جديداً ليس كالازمنة المنصرمة. فهذه غفلت عن وجوب ابتدائها زمناً ليس كالأزمنة، ومنقطعاً منها. وانفردت الحداثة بتنبهها على ابتدائها المفترض والمدعى، وعلى وعيها معاصرتها، قرينةً ساطعة على مشروعيتها القلقة وعلو مكانتها. ولعل كثرة البيانات الثورية وتواترها، على أصنافها ومذاهبها، مرآة هذا اليقين الهش والمتشاوف. وإذا نجم عن حمى الابتداء "الثوري"، ومزاعمه المرسلة، تناثر الأوقات وتقطعها وتذررها، وعسر إدراجها في زمن وتقليد مديدين ومتماسكين، رضخت الحداثة "المشبوبة" او "السائلة" على ما يصفها بعض المعاصرين المتأخرين، الى الاقلاع عن رواية حوادثها الذاوية والمشكلة، وعن عقلها والقول فيها على المثال البطولي أو الدرامي المصطنع والكاذب.
 ولكن الحداثة "العربية" المنحولة، ومقالاتها الضريرة والصماء، أقامت على اسلتهام مثالات "الثورات" المنصرمة والناجزة، وحملتها على "أحدث (عمل) في الموضوع"، على قول مقدمة "لن" في عمل مدرسي ركيك (ترددت اصداء الاعجاب به في كثير من تآبين اليوم، غداة نصف قرن على المقدمة). وبدا الاستلهام نفسه، اي التنبه على واقعته وحدوثه تجديداً ثورياً عميقاً وراسخاً، بقطع النظر عن دلالات ما يستلهم، وعن محله من سياقته الاصلية، ومن غير اعتبار السياقات التي تدعى المثالات المفترضة الى توطنها. فحملت على الإحياء والثورة والحرية المراثي الأليمة والمريرة في "مرض" الحياة الخاسرة، وخيبة الافراد وانقسامهم على أنفسهم وقصورهم عن انجاز "عمل". وحُمل عليها (على الإحياء...) تقرير خروج العالم من إهابه وجلده، وتبدد مادته تشبيهات وصوراً من غير قوة وأصناماً. ونسب الى اعتقاد البطولة والنبوة والألوهة واستئنافهما إقرار محبط بطيها الى غير رجعة، وفوتها وتحلل جثتها. ورواية بيان "لن"، واقتفاء أصحاب التآبين والمراثي خطى البيان، ولادة الفرد الشعري ولغته "الهاذية" و"المجنونة" والفذة في مباني القَصص وتراكبيه دليل ابتدائي على الانتحال والصمم، وعلى تحوير المثالات وإعمال بدائلها وتماثيلها الفقيرة في مواد مقلدة من تنك وكرتون.
 ويبلغ مديح النثر الذي كتبت به المقدمة ومن بعدها عجالات ملحق "النهار" الاسبوعي، ومساواته بالشعر الذي سبق رفعه الى أعلى عليين، ذروة من ذرى النحل والمراوغة. فيتستر المديح على ما يستحيل أن يخفى قارئ المقدمة وشعر الديوان و"قصائده". والمحال الخفاء هو كراهية الكاتب لغة عربية حجرت بلاغتها وخطابتها الرتيبتان والفائتتان أوصال العبارة فيها وبها ويبستها، وإدارةُ الظهر من غير تردد الى إعمال مواردها في تحفيز احتمالات واستجابات مجلية (تجلو وتخطر) والخلوص من هذا الى زعم اجتراح بلاغة وخطابة خافتتين ومكتومتين لا تدينان بشيء للتقليد "الفصيح" وبديعه الرنان والطنان والخاوي.
 وبعض النحل والمراوغة في هذا الزعم مرده الى الايهام بأن المثالات المستلهمة والملهمة تدعو إليه وتسوغه. فينكر الزعم خاصية جوهرية في المثالات المفترضة هي رغبة جارحة في التحاف طينة اللغة الحسية والمادية، والفيء الى ثناياها الايقاعية السمعية والحلقية اللفظية، والتسليم والانقياد لها. فحفظ الشعرُ للغات الاوروبية (طيف) "شيئية" أو جسمانية ناسوتية خسرتها مع خروجها من عالم التوقيعات "الغوطي"، وهو حمل أشكال الحروف وقِراناتها ومجاميعها في الالفاظ على أنداد الاشياء وتصاويرها ودلالاتها، الى عالم الهندسة والمناسبة الكلاسيكي و"المباشر". وعاد هذا الخيال أو الطيف يلح على عتبة عصر أضعف كيانات "الاشياء"، ورمى بها في لجة تناسل الاشباه والبدائل والنظائر وحررها من موادها الجوهرية. وصدّق بعض قراء "لن" وغيرها من مجموعات أنسي الحاج دعواه في تحرر بلاغته وخطابته النثريين والشعريين من أسر العربية وخوائها. فذهب مؤبنه الكنسي الرسمي، راعي أبرشية بيروت المارونية وأسقف رعيتها وكرسيها المطران بولس مطر، الى ان الراحل كان "محباً للفكر المنفلت من الكلمات، والرامي الى تذوق الحقيقة بمكاشفة العشق لها، والتوحد به، في نشوة الإيحاءات" (علامات الوقف مني).
 والقول أن إرادة التخفف من كل بديع أو وسيط لغوي غنائي ومزخرف أفضت فعلاً وحقيقةً، الى لغة اصطلاحات وهيكلة دارت أو داوت هيكليتها بالاغراق في اصطناع الاستعارات وشبكها على رجاء استيلادها مسكة صورية ومادية ذاتية- هذا القول يحتاج الى تحقيق يتناول المجموعات نفسها وقصائدها. وهو يخرج عن قصد العجالة ولكنه لا ينكر غايتها. وتجاري هذه الارادة، شأن المقالة الارادية (الارادوية) في المنهج وتعظيم قيمة تبادلها وجعلها صنو للشعر نفسه وأدائها الفردية في صيغة القصص الاسطوري...، و"روح العصر" (العربي) ونازعه المجهض والمتنازع الى حداثة روحية ونقدية (على معنى العملة) واصطلاحية تقوم مقام أداة تبادل عامة، ولا قيد عليها من مادة وآداب صنع ونعمة. والمجاراة الفاقعة دعت جمهور المؤبنين الكثر، على مراتبهم، الى التقيد بآداب التأبين "الجمهورية". فلم يشذ واحدهم عن عروض المعنى المتوقع ووزنه وقافيته. وسلموا كلهم بحقيقة بلوغ أنسي الحاج وانجازه ما أراده وأزمعه، كأنه خلق كما شاء، على قول الشاعر النبوي في ممدوحه. فصوروا راحلهم في صورة شيخ طريقة، وآيتها العظمى. وهذه ذريعة تكاد تكون غير مواربة في حشر أنفسهم، و"عملهم" (فكلهم كاتب ومعظمهم شاعر)، في زمرة النخبة أو الصفوة الناجية.

 وقد لا يكون استسهال حشر النفس في الشلة المصطفاة من أهل الحداثة (العربية)، من غير شك فيه ولا سؤال أو حساب عن ذيوله ومترتباته، من أقل انجازات الوجه النهاري آنفاً ولاحقاً (على رغم دعوى كفء "هبت" الاستخباري الامني والباسدراني). وهو يتجاوز من غير مشقة حواجز الدور والصفة والمرتبة والشارات الى "الشخص" نفسه، والى نواته، من غير إغفال التحفظ والامتناع اللذين أحاط الرجل نفسه بهما. فهو نفسه، على خلاف قول "السابق"، في لغة جبران الطاغية، أنه غيره وسواه. وهو جمهرة المؤبنين المريدين وجمهورهم الجميع والواحد. وهو "قصيدة النثر". فلم يترك سبيلاً على ما فعل وكتب وقال بعد توحيده نفسه في فعله وكتابته ومقاله. وهو لم يحرر، على المعنى الصحافي، ما كتب في رحيله- بحسب رواية رب عمله الامني والباسدراني- وحسب، فعمد الى اختطاط تشييعه ومواقف التشييع، وتابعه المشيعون على رغبته فرحين وصاغرين.  

الأحد، 16 مارس 2014

ولادة أنسي الحاج الشعرية في كنف قَصَص أسطوري وتعليمي إيمائي

 المستقبل، 16/3/3014

  غشي المشهدُ البدئي، أو الحكاية التي تروي ما كان حين لم يكن بعد "شيء" أو زمن أول، مشاهدَ موت أنسي الحاج ومواقف رحيله. فرجع جمهور المشاهد والمواقف من الكتّاب يومذاك، غداة 18 شباط (2014) الذي وقع فيه رحيله، وفي ايام تالية تطاولت الى اسبوعين او اكثر، الى ما أثبته معظمهم بشارة الولادة والظهور والدعوة والتمكين، والعلامةَ عليها. ونجمة الصبح هذه، على ما لم يشك احد تقريباً من عشرات المتقاطرين على وداع شاعرهم وإنسانهم وصديقهم ومعلمهم وعلى توقيع وداعهم في مدونة مضياف، هي كتاب الراحل "لن" (خريف 1960)، مقدمة وبياناً في "قصيدة النثر" ومتناً او جسداً محققاً دعوى البيان. فحج جمهورُ الكاتبين، على مراتبهم ودرجاتهم وأعمارهم وقراباتهم وشفاعاتهم، الى الينبوع وخزائنه التي لم تنضب بعد، على قولهم، في اعقاب اربعة اعوام وخمسين عاماً، وتستقبل ربما قروناً من التجدد والذراري المولود بعضها من بعض. واحتج الحاجون (أو الحاج، لولا شبهة اللعب باللفظة وعليها) بالمجموعة الشعرية الاولى، وبيان "نوعها المستقل"، لتمام صاحبهم وعبقريته ومقامه من ثورة الشعر (العربي الحديث، على مضض كوني شديد) وثورة الحياة منذ حَبْوه الاول والظاهر. وتمام صاحب "لن" و"لن" (الديوان؟) نفسه، مذ ذاك والى غيب لا علم للناس به، شاهد صادق على جواز تصفح الختام في المطلع، ووصل ذاك بهذا، على ما تصنع الاساطير في حوادث المبتدأ والمعاد وما بينهما.
"كن"
 ويرجو العود على المطلع او المشهد البدئي ألا يكون اسطورياً ولا خطابياً، اي مصدقاً في الاحوال كلها لفكرة في ذهن صاحب القول وصدره وعزائمه، على عسر الامر. وما يحدو الكاتب، الموقع اعلاه، الى عودٍ ينكره على غيره من جمهور كتاب المشاهد والمواقف يشبه باعث الجمهور، على قصد المشهد البدئي، وهو قراءة العلامات والانباء (وفيها النبؤات في اللغة). وما ينقص عودي هو الايمان بالهداية ووعدها، وربما ينقصه الانتظار والاقامة عليه وتعليقه على آتٍ حقٍ (ليس ثمرة تصدع ينشأ عنه الزمن وأوقاته). فبديل مثل هذا الايمان، وزيارة ما يحسبه المؤمنون مهداً، والمهد هو المشهد البدئي والمضمِر الاوقات كلها، يزور العود على البداية المفترضة عملاً او فعلاً درامياً، ومسرحَ هذا الفعل واحوالَ شخوصه، أو "أقنعتهم" على ما سمى اصحاب المسرح الاوائل السارحين على المرسح. وقد يسوغ هذا الضربَ من الزيارة خطابةُ البيان- المقدمة وتصاويرها.
 فسؤال البيان هو عن الإمكان والجواز والاستطاعة، وعن إيجاب أو إيجاد ما ليس موجوداً بعد، وهو "قصيدة النثر". ويُوضع السؤال على فعل الإخراج أو الخروج. والفعل أي اللفظة يحيل قارئ العربية الى الخلق الإلهي: يُخرج الحي من الميت، والنور من الظلمة، ويرعى النسل والحرث، وينبت من الجماد الأصم ما ينتشر من تلقائه... وشأن الخلق الإلهي، الرشدي (ينسبه الى ابن رشد)، يقع الخلق على طبائع ("طبيعة النثر مرسلة... طبيعة القصيدة") وماهيات ("القصيدة عالم مغلق... النثر سرد...") وغائيات تنضبط عليها السيرورات والافعال والاحوال. وتنتقل هذه السيرورات...، بين "أضداد" ("طبيعة النثر شيء ضد") لا تصل جسور متماسكة الضد منها بضده. فليس إخراج قصيدة النثر، "العالم المستقل الكامل المكتفي بنفسه"، من النثر بالأمر اليسير والسائر، وعلى الاخص المتصل. وهو يقتضي انقلاباً أو تحولاً ليس أقل قوة وترجيحاً من "كن" ونفاذها في الكينونة. فلا عجب إذا استوى النثر و"القصيدة"، ذروة الشعر وماهيته المكثفة، على مرتبتين. فيتصدر الشعر، ويتربع على "الاعمق" و"الاسبق" وفي قمة "الاشراق والايحاء والتوتر". ويتخلف النثر الى مشاغل الوعظ والإخبار، والحجة والبرهان"، ويتورط في "الزمن الموقت والقيمة العابرة".
 ويخلص البيان – المقدمة من نصب تعريفاته وتماثيله و"أفكاره"، المغرقة في تقليد مدرسي وتعليمي (من التعليم الديني) رمادي، الى اجتراح "قصيدة النثر" على صورة "الهذيان". ويولد هذا من زواج جوهرين او "كائنين" متباينين، حُمل تباينهما واختلافهما على الهوية المستوفية التعريف: "القصة... هي كائن نثري" و"القصيدة... هي كائن شعري"، ثم على الضدية. والكلام على ضدية حيث يتناول الامر وجهين أو نحوين من العبارة او الدلالة، مجازي خالص وتشبيه. وكان كانط، الألماني، ناقد الميتافيزيقا وماهياتها الجوهرية وأضدادها ومراتبها، أوضح تهافت القول ان الحركة ضد السكون، أو القول ان القوة التي تحمل جسماً على جهة من الجهات هي نقيض القوة التي تحمله على جهة أخرى معاكسة. فحال الجسم حين لا يتحرك هي حال معينة وموصوفة بسور، أي بعدد يحصي "أفراد" أو آحاد الجسم أو القوة. فالسكون ليس واحداً في أحوال الاجسام كلها وأوزانها ومواضعها. ونتيجة تضاد القوتين اللتين تتنازعان وجهة الجسم، ولو كانت صفراً، هي كذلك صفر موصوف ومحصور. وعلامة السلب أو الطرح ليست قرينة على الانتفاء والعدم بل تفترض سلم قيم متصلاً وواحداً. وحين يكتب صاحب "لن"، فرحاً ومحتفلاً، ان البحث في قصيدة النثر "يبدو... هذياناً"، فهو يحسب أنه يجمع الضدين في واحد، ويقترب من احوال او مواقف تعاقب عليها او تعاقبت على من رتبهم تقليد نقدي ظرفي ومتقلب أعلامَ "قصيدة النثر" أو شعره، مثل بودلير ورامبو وعشرات الشعراء الذين جاؤوا بعدهما. وهؤلاء يشترك بعضهم، على مقادير متفاوتة، في كتابة سعت في تخليط الحواس، ولم تقتصر عليه. فأدخلت النهار في الليل، واليقظة في الحلم، والمنطق في الرغبة، والمعرفة في الهلوسة، والقبيح في الحسن، والموت في الحياة... وأضافت الطعم المرهف واللذيذ الى الجثث. وجمعت هذا الصنف من الإضافات الى "الكتابة الأوتوماتيكية"، وعهدت الى هذه بتوحيد "المتفجر"، المتأتي من حمل المتنافر على الائتلاف عنوة، في "الثابت" القائم في نفسه والصادر عنها. وعرفت الجميل بالتوحيد هذا، وبتسويغه فعل التوحيد في النفس، ومن جهتها "الذاتية"، على خلاف حمل الجمال على معايير مثالية وموضوعية على النفس الاقرار بها والاجماع عليها.
الإله والعراف والنبي
 وتضطلع النسبة الى "الهذيان" بدور راجح في استطلاع "قصيدة النثر" العربية المرجوة، وفي وصف مثالها او مرجعها الفرنسي المدعى. فالهذيان، أو ما هو في معناه، يسري في "الهزة الشعرية"، و"الزلزلة" العميقة، و"المعارضة" و"المجازفة الخرقاء" (على زعم المحافظين") و"عجلات النهضة" (على خلاف "الرجعة" و"منطق اللغة والتراكم الادبي وحاجات الشعوب العربية...") و"المقاومة" بـ"الجنون" رداً على "الاختناق"، و"التمرد" و"(الوقوف) في الشارع و(الشتم) بصوت عال، و(اللعن) و(التنبؤ)" و"الهسترة المستميتة"، و"(بج) الالف عام"، و"الهدم والهدم والهدم..." و"السرطان" و"المرض" و"الفوضوية" و"النبوة" و"التأله"... وإذا اجتمعت لهذه، ومرادفاتها الكثيرة وغير الحصرية، عوامل أو أدوات فن شعري منهجي ("هندسي" و"هيكلي") ترعى بؤرة فعل شعري خالص ومركز ("واحد مغلق" و"رؤيا" حاملة و"عمق تجربة فذة" و"إشعاع" غامر وغاش...) – بلغت "قصيدة النثر" غرضها التمامي والغائي:" التأثير الكلي المنبعث من وحدة عضوية راسخة... لا زمنية"، تقوم بنفسها من تلقاء نفسها، ولا تدين لخارج حادث وغير ضروري بشيء. ولكنها، إذا أتمت عدتها وبلغت غايتها، تفتقت عن نتائج عظيمة في وجوه اللغة والاحساس والعقل والاخلاق والحرية والتاريخ والمجتمع والموت والحياة. واستوى "الشاعر الحر"، شاعر قصيدة النثر الموعودة، "النبي، العراف، والإله"، و"المطلق"، "(معبر) الجميع... الى الحرية".
 وانقلاب البيان – المقدمة من استيلاد قصيدة في النثر" على وجه البداء والاحتمال الى إيجابها على وجه الاطلاق الكلي، وذلك بين مستهل يلتمس طريقاً وعرة وضيقة وبين خاتمة مجنحة وأثيرية، يحاكي مثالاً سبقت اليه، قبل نحو قرن ونصف القرن، المقالات العربية التاريخية التي تناولت مسائل الانحطاط والنهضة، والتقليد والتجديد، والعقل والنقل، والتأخر والتقدم، والفرد والمجتمع، والتنظيم والارتجال، والاتباع والابداع... ولم تنفك المقالات التاريخية العربية تبدي في المسائل هذه وتعيد، الى اليوم. والصور أو المثالات التي جلتها عواملَ حاسمة في الانقلاب من الانحطاط والتأخر والتقليد والفوضى والاتباع الى اضدادها ونقائضها، أي صور البطل والقائد والزعيم والمصلح والمستبد العادل والغازي والحزب الطليعي والامة العالمة والروح الجماهيرية والشعب الواحد والدولة العضوية والخلافة الراشدة...، هذه الصور والمثالات غلب رسمها على بيان (طريق) الخلاص من النظم الميت الى "قصيدة النثر" الحية والمتجددة لا الى غاية أو نهاية، ومعها "الجميع" و"كل شيء".
 فمشكلة البيان – المقدمة العسيرة هي تعليل الخروج من بلادة النثر المنظوم الى "قصيدة النثر" الشعرية والمتلألئة، وتسويغ الخروج، أو الإخراج، نثراً ومن طريق مقالة في المنهج تسبق الحجة الناجزة. فيتصدى للمعضلة العملية والمنطقية المستغلقة من طرق متفرقة، يترددُ تفرقُها في ترجح "البيان" بين لغات ومباني احتجاج وخطابة شتى. ووجه الاستدلال الاول على حقيقة الشكل المنشود هو القسمة الماهية على الطبائع والكيانات، على ما تقدم القول.  وما يعقل مفهومه وكماله في المفهوم والفكرة لا مشاحة في عقل وجوده وضرورة هذا الوجود. والوجه الثاني هو إثبات هذا الوجود في دائرة شعرية وأدبية اخرى فرنسية، ولا قوة للتذرع بأجنبيتها على إبطالها أو بطلانها: فالشعر "طبيعة" والنثر "كائن" في اللغات والثقافات كلها، ولا فضل للغة على عجمة أو هجنة إلا بجلائها البيان الاقرب الى الطبائع. والوجه الثالث هو الانصراف عن النسب المدسوس والمنحول، وأدعياء الشكل الجديد "المهرجين" والمهللين"، الى نسب صحيح وأصيل "جدي" لم تتعدَّ بشارته العامين عداً ونقداً (أي 1958 حين كتابة المقدمة وطباعة المجموعة في 1960، أي عام طباعة العدد الاول من مجلة "شعر"). والوجه الرابع هو دعوة الى ارجاء الحكم أو الرأي الى حين ولادة الوليد المنتظر وحضور "نتاج بين يديْنا للحكم" عليه. والوجه الخامس هو دليل الجواز أو عدم الاستحالة: "ما دام الشعر لا يعرَّف بالوزن والقافية، فليس ما يمنع أن يتألف من النثر شعر"، الخ.
 ويستقوي الاحتجاج البياني بأدلة حسية وواقعية (تجريبية) حيية. فثمة ترجمة "نشيد الاناشيد" السليماني التوراتي. وثمة "تمهيد مباشر" للمولود المنتظر والموعود هو "ارتفاع مستوى النثر (...) عندنا"، على يد فؤاد سليمان والياس خليل زخريا. و"ضعف الشعر التقليدي وانحطاطه" حجة قاطعة على "لا حجيته"، على قول بعض الفقهاء. و"هناك الوزن الحر، القائم على مبدأ التفعيلة لا البيت"، وهو "يعمل" منذ عقد ويقرب الشعر من النثر و"قصيدته" المنشودة. وفي الاثناء، اقترب "جميع الشعراء العرب الشيوعيين والواقعيين (...) من النثر"، أسلوباً وجواً وأداءً. وأخيراً مهدت الترجمة عن الشعر الغربي الى العربية "بزوغ النوع الجديد" ، وشقت الطريق الى "الشكل" في انتظار بلوغها "الأذواق" وتربيتها على "التهيؤ الطبيعي". فـ(تتبين) النوع الجديد (وتتجنب) ما ليس قصيدة نثر".

النقائض والأضداد
 والحجج الحسية والادبية جزء وضعي ظاهر من حركة ثورية تاريخية بل زمنية عريضة عصفت بـ"العالم" و"الانسان" و"الاحساس" وزجت بهذه (وهؤلاء) في "التغير" و"النفض والبحث والخلق". والشاعر، "الحقيقي" بديهة وطبعاً، في طليعة حرب "أقلية" "التقدم" و"الكتلة الطليعية" و"النهضة" ("نهضة العقل، والحس، والوجدان") و"التحرر النفسي والفكري" و"الانتفاضة الفيزيكية والميتافيزيكية" على "المحافظة" و"الرجعة" و"العواطف القشرية للجماهير" و"(استخدام) منطق اللغة والتراكم الادبي وحاجات الشعوب العربية وظروفها السياسية والاجتماعية والروحية"، و"طليعة حرب الاقلية نفسها على "الارهاب وسيطرة الجهل وغوغائية (النخبة) والرعاع" و"الشتبث بالتراث (الرسمي)" . ويتفق وصف الوجه السياسي والاجتماعي و"الروحي"، المعنوي والنفسي، من المحافظة والرجعة العربيتين و(مع) وجههما الشعري واللغوي. فكلاهما إخباري وبرهاني ووعظي و"ذو هدف زمني"، و"سلاحه" خطابي و"(متورط) في الزمن الموقت والقيمة العابرة"، ولا "يعيد النظر... في عناصره"؛ وكلا الوجهين "خارجي" الأثر والفعل و"قشريهما"، وكان "قالباً صالحاً" في عالم كان "مناسبا" لزمنه و"انسانه" وتغير في الاثناء وكف عن "الارتياح الى أدوات جاهزة وبالية". ويراكم وصف المحافظة والرجعة (وصفاً) بلاغياً وشكلياً مطاعن لا قيد عليها، ولا على احصائها المتناسل، إلا من معجم الالفاظ وتداعياته: التقليد والركود والاحتماء بالماضي، وإعمال أسلحة التعصب والهزء و"صليبية المنطق التاريخي... (المزور)"، و"ابتسار النظرة" وإرادة "البقاء حيث هم"، الى إعمال "ألف عام من الضغط، ألف عام ونحن عبيد وجهلاء وسطحيون"... وتتداعى على النحو نفسه من البلاغية والشكلية صفة "الضد"، شعراً ("قصيدة النثر") وشاعراً متلازمين. والبيان – المقدمة أوكل الى حرف النصب "لن"، وسم الديوان وبيان بيانه وقصائده، العبارة الجامعة عن معاني "الثورة" والخروج على المحافظة والرجعة.
 ويسثنى من قلب العلامات والقيم، ومن تعكيسهما، سبيلاً الى الاستدلال على حقيقة الكائن الهائل والمنتظر، ووشك ولادته ومجيئه وخروجه وظهوره، إيماءٌ غامض الى "طلب" رامبو لغة "تختصر كل شيء، العطور والاصوات، والألوان"، والى "قول" بودلير"انه من الضروري استعمال شكل (مرن ومتلاطم بحيث يتوافق وتحركات النفس الغنائية، وتموجات الحلم، وانتفاضات الوجدان)". وأغمض من الايماءة المستعارة إشارة خاطفة الى "جناح آخر"، هو جناح "الهيكل"، أو "التنظيم الفني"، محضه رامبو "قصيدة النثر". فطارت القصيدة العتيدة بجناحين "نقيضين" جناح الفوضوية وجناح الهيكل، أو "تفجرت ديناميكيتـ(ها)" في عبارة أنسي الحاج المتسامية الى الشعر الصافي والدقيقة كالشفرة أو المبضع، على ما مدحها أصحاب المراثي غداة الفراق وقبله. والقول، في أول الفقرة، "يستثنى"، أقرب الى التمني منه الى التقرير. فما أن يهم البيان بالتعيين "الفيزيكي" و"الميتافزيكي"، أي الكلام في الاختبارات اللغوية والحسية والمعنوية والاجتماعية التاريخية، أو ييمم إليه، حتى يراوح محله في شرك النقائض والاضداد الشكلية والصورية. وإذا هو استعار أسانيد وشواهد من الحوادث والوقائع والاعيان (الشعرية والسياسية الاجتماعية) وجردها من آحادها وأفرادها،روابطها وحركتها ومعانيها، وأحالها "هياكل" عظمية مقطعة الاوصال تطفو على صفحة مياه راكدة.
 فكاتب البيان – المقدمة شاءه بياناً على معنى "بيان السوريالية" الاول فالثاني فالثالث وتضمينه معنى "البيان الشيوعي" الذي ردد معنى البيانات الدينية والسياسية الثورية المشهودة- يؤذن ببشائر عالم جديد آتٍ، ويدل عليها بالاصبع والعين وسمت الجسم كله. فجاء تأريخ الولادة الموعودة، واستشراف مصائرها ومآلاتها وثمراتها، على شاكلة قيد إدارة تكنيكي" بصفات أو سمات الوليد المنتظر وعلاماته الموجبة تصديق دعوته واتباعه ونصرة سلطانه. وهذا قريب من القصص، على معنى الاسطورة التي لا حادثة فيها وتقتصر على تنضيد الوقائع والكائنات ونظمها نظماً مرتبياً مجرداً من الزمن؛ وعلى معنى وعظ القصاص. وهؤلاء دأبهم القياس على أمهات حوادث وأقدار مقسومة، والتذكير بتحدر الحوادث من رحم القسمة السابقة.
 فـيجمع القَصَص على صورة "البطل" وفي صورته المتصدرة، وهو في مقدمة "لن" الشاعر والنبي ورسوله والعراف الهاذي والمجنون والملعون والرافض والفوضوي...، ما يستغلق على الاحاطة بالحادثة إحاطة حدسية وفيضية مستوفية وتامة. ووجه جمع القصص الملحمي والاسطوري والوعظي على المثال النبوي البطولي ما يعصى العقل الحدسي والفيضي هو التثنية أو الازدواج. فالشاعر والبطل والنبي... هو (هم) اسم أو شارة من تعصى ولادتُه الحادثةُ التأريخَ المتصل والمتشابك الحلقات على نحو مفهوم من غير آلة أو واسطة. فينصب القَصَص الاسمَ علماً على قاع متناسلة لا الى غاية أو قاعٍ أخيرة، ويضمِّن الاسمَ علل وجوده المكنونة ومصائره المرصودة من غير عبارة. وعلى هذا، وعلى خلاف اضمار البيانات والشواهد الفرنسية والتلويح بها، تؤول المقدمة الى اثبات ضرورة كائن جائز او ممكن الولادة، تام الاوصاف، ولكنه لم يولد بعد، ولا علم بدواعي ارجاء ولادته بعد "ألف عام من الضغط". ويدعى الجمهور الى الاحتفال بالوليد الهائل، والايمان به، والدخول في أمته، والهذيان والجنون والتأله والتنبؤ واللعان والهدم والعرافة والشتم والابداع على طريقته الموصوفة. فيكنّي القصص عن ظهور أو خروج الذات الفردية التاريخية من عموم الوجدان (فعل "وجود" النفس نفسها في نفسها) الانساني من طريق مثال أسطوري وجميعي ينقض على الفردية وعلى التاريخية ويُصدق امتناعهما.

  ولعل مقالات "الاحتفال" الجماهيري والكرنفالي برحيل انسي الحاج تتمة القصص هذا، على ما قد يأتي القول. 

تجريد السلطان العربي من خصائص الجماعات و"أوحالها"...من تدبير العمران الى قيادة الحرب العشوائية والعمومية

المستقبل، 2/3/2014

لا يبدو أن إعمال القتل والعنف المباشرين والعمدين والجماعيين في السكن المدني، بذريعة القضاء على مسلحين وأعداء اهليين مقاتلين، يصلح حجة سياسية ومعنوية راجحة في عوالمنا، العربية المعاصرة، على "صاحب" القتل والعنف ومعملهما في "شعبه" ورعيته من مواطنيه. فالرئيس السوري السابق، حافظ الاول (1970- العام 2000، رسمياً)، سحق انتفاضة مسلحة وأهلية بحماة، في شتاء 1982، أسفرت عن مقتل نحو 30 ألفاً. وهؤلاء فيهم 5 آلاف من القوات الخاصة، جيش الطغمة المذهبية المستولية، ومثلهم ربما من مسلحي الجناح الاخواني "الطليعي المقاتل"، ونحو 20 ألفاً، أي ضعفي الجماعتين المسلحتين التقاتلتين، من سواد الناس وسائرهم، وهؤلاء غير ذي صفة، على ما قد يقال في تعريفهم القضائي أو القانوني او الروائي. وهم قتلوا- على ما روى أولادهم، أو صغار إخوتهم وأولاد اخوتهم، في اعقاب ربع قرن على الحادثة على حسابات او حيطان وسائط الاتصال الاجتماعي والشبكي التي يشتبه توسيطها أو توسلها "الزنى" على قول الهيئة الشرعية الداعشية بدير الزور- هؤلاء الـ20 ألفاً قتلوا على هامش الاشتباك وأطرافه وفيما هم يمرون ببنيَّات طرقه المتغلغلة في لحم السكن الاهلي والمديني. وتولى قتلهم، بعد اعتقالهم وجمعهم وفرزهم واستنطاقهم وتعذيبهم والتمثيل بهم، "رجال موت" حافظ (والشقيق) رفعت الاسد، ومتطوعون مساعدون معلومون ومجهولون.

الابادة ليست حجة ديبلوماسية
وفي أثناء 18 سنة تكاد تكون تامة، وسع الرجل الاول من رجال الموت هؤلاء، وهم كتبوا اسمهم ولقبهم مدلين بهما على جدران مقارهم ببيروت (فالعبارات الوحيدة الجائزة على جدران سوريا هي "مع الاسد الى الابد")، حكم سوريا، وقيادة "دولتها"، و"بناء نهضتها"، والصراع بها وباسمها على الشرق الاوسط، وخطف عشرات الآلاف من السوريين من وراء أظهر أشكال العلانية ومبانيها كلها ونفي عشرات آلاف آخرين هرباً من تعقب رجال الموت وأرصاده وقانونهم- وسع رجل الموت الاول الاختيال في المحافل الدولية والاقليمية، موفور المشروعية السياسية، ممتلئ الجسد المقوي والخَرِب بقومية ملايين السوريين وثاراتهم وأحلامهم ونوازعهم الى حياة هي "وقفة عز فقط"، ووظيفة ثابتة، وانطواء على ضغينة مريرة. فلم يُسأل الرجل العَلَم على نظامه، ومن أضيفت سوريا اليه، وجمعت شظاياها الخرساء والمقهورة على اسمه، عن هذا الكحل القاتم في جفونه، أو الحدبة الكازيمودية والابن الرومية في ظهره. فأغضى "الزملاء" من اهل القوة والسلطة والسيطرة عن فعلة صاحبهم. وامتدح الحكام والولاة بالحق المشروع والحر الاستقرارَ والامن والاقتراع في المواقيت الدستورية، وغمزوا غمزاً رفيقاً وحيياً من بعض ارهاب هنا (و"هنا"تقتصر على مطارات وشوارع ومرابع أوروبية) وتجارة مخدرات هناك، على ضفاف اللجج اللبنانية والفلسطينية والسورية والعراقية والايرانية، وملاحمها.
 وأهل الإغضاء والحياء من "الزملاء" معظمهم على شاكلة رجل الموت السوري الاول. وبعضهم لم تتح له فرص الاستيلاء والسياسة، وإدارة الازمات الاهلية والحربية، والمواقع الاستراتيجية المفتاحية والفريدة، التي تؤهل صاحبها الى الاضطلاع بأعباء القتل والموت، الجماعيين. فالعقيد معمر القذافي، وهو حلَّ "دولته" في زحف انصار ومحاسبين وموظفين، وضوى كتل العصبيات المتفرقة والمتناحرة الى اجهزته وسلطها على الخصوم والمعارضين والآخرين – ند لرجل الموت السوري الاول، وأخ شقيق. وصدام حسين توأم روح لواء سلاح الجو وقائد فرع استخباراته، في المرتبة الاولى والاخيرة. والفريق عمر حسن البشير هو وارث حروب الجنوب ودارفور وكردفان وملايين قتلاها، وخطيب الشمال العربي وراقصه الاول. والعقيد الجزائري والالوية الذين آلت إليهم الكرسي، أبطال حرب تحرير من الكولونيالية البشعة والمستشرقة، فكيف تنكر أفضالهم، وينكر جهادهم وحقهم بـ"الامر" وحدهم. ومعظم الآخرين رجال "امن" وشبكات واستخبار وإيقاع واستدراج وعمليات بالتلزيم. و"الامر" أو الحكم، على ما اختبروا وعركوا وعجموا وتحدر اليهم من أوائل السلف العظيم والفاتح، مَكسر وقوة وصلابة وفحولة و"فروسية". فكيف يسأل هؤلاء عن جواز جمعهم من غير فرق ولا فصل في واحد. والحكم والقتل العمد، وإعماله في عموم الناس في اثناء "الحرب" أو العمليات الامنية، وقبلها وبعدها الى ذراري الجيل الثالث موقتاً؟ ومن يحق له سؤال واحدهم؟
 وعلى هذا، بدا انكارُ قتل الحاكم وأجهزة حكمه و"دولته" الخاصة والمشتركة المتظاهرين والمعتصمين  والمحتجين، غريباً ومفاجئاً. والحق ان مصدر الإنكار هو المحكومون أو الرعية، وليس "الزملاء". وعظّم الغرابة أن موضوع الإنكار الاول هو الشاب التونسي البوزيدي الذي قتل نفسه بيده حرقاً. فنُسب القتل الى من سماه ياسر عرفات، في بعض مواقفه الأريحية، "الزين" (ويقصد طبعاً زين العابدين بن علي). وهو لم يكن هذه المرة القاتل مباشرة بيده أو بيد أحد مأموريه من طريق الجهاز البيروقراطي المأجور. فنسب مقتل بائع الخضار المتجول الى رئيس جهاز الامن السابق والمستوي على "عرش" تونس منذ 24 عاماً، والى نظامه أو حاشيته المركبة والمؤتلفة (على منازعات عقارب) من اصحاب إقطاعات وإنعامات خاصة ومن خدمهم الموظفين "الكبار" وحرسهم وأهل فُتاتهم ونثرهم. وإذا تبع انكارُ "الزملاء" انكارَ بعض العامة والجمهور، فإنما جاء ذلك على سبيل التحوط والتدارك، من وجه، وسعياً في حفظ فرص التأثير في الاحوال اللاحقة والناجمة عن انهيار السلطة المتآكلة والمتخبطة، وفي مقارعة المنافسين والخصوم، من وجه آخر. فلم يُطعن على العنف المتعمد والقاتل لأنه يغلب على التدبير السياسي وينافيه من وجوه كثيرة، ولا لأنه يخرب علاقات الجماعات الوطنية بعضها ببعض وينأى بها من دوائر التأليف المركب والمتنازع ويشرِّعها على الاستقواء بموارد ومساعدة خارجية تطيل أمد الاقتتال لا إلى أجل وتحرره من التزام قيود مدنية حقوقية و"انسانية". فوُصم القتل على نحو ما يصم بعضهم ارهاب "القاعدة" وفروعها، بـ"الجبن"، وبأنه "يضعف الامة في وجه العدو" ويهدر طاقاتها ويفرق صفوفها...
إنشاء الحكم ومباشرته
  وهذه المآخذ على النتائج والمآلات لا تنكر، ولكنها لا تتناول الأسس أو الاركان التي يصدر عنها إعمال القتل على شاكلة مؤسسة أو مؤسسات حكم وسلطة، والتوسل اليه بالنار على اشكالها، وبالحصار والتجويع وقطع الموارد والخطف والاعتقال والتهجير، والحؤول دون الاغاثة وزج قوى أهلية وعصبية في القتل... وقصر الاستنكار والطعن على نتائج العنف العمد المفضية الى الضعف والتفرقة وهدر الطاقات، من غير التطرق الى (نفي) مشروعية إعماله و(بطلان) أهلية "النظام" المبادر إليه، هو من قبيل احتجاج الأنظمة المستولية والمستبدة لعنفها القاتل والمددمر وتسويغه برد العدوان على السيادة القومية وعلى مناعة معسكر المقاومة والدور المحوري والرائد التي تضطلع به الانظمة في قيادة حركات التحرر... والاحتجاج المزدوج، على إعمال العنف ولإعماله، يعمى في صيغتيه عن محل السلطة الحاكمة من الجماعات المحكومة، ويتعمد تجاهل شروط هذا المحل وشغله أو إشغاله، وتبعات الشغل. فإذا استُبعدت أو علقت المقالات المعيارية والملائكية الملفقة في وظائف الدولة المفترضة و"ضرورة" انصرامها الى "خدمة المجتمع والشعب" ورعاية وحدتهما، والسهر على أمنهما ومنعتهما، وإسعاد المواطنين (على قول رئيس مقاول وحاكم بقروضه) ، لم يجز إغفال اختلاف حاد بين اجراءات تكوين الحكم (او السلطة) وإنشائه وإقراره على موقعه ومشروعيته وبين مباشرة طواقم الحكم والادارة وأجهزة القوة سلطاتها، وإعمالها الفعلي هذه السلطات. فإجراءات التكوين والانشاء والاقرار تنص على الفصل بين الصلاحيات المقيدة وبين معمليها أو ولاتها الموقتين، وتقيد شغل المحال وأداء الاعمال بالتكليف والمداولة، وتميز أجسام الادارة وتكليفها من الهيئات المنتخبة وتكليفها. وهي تقضي بدوام أعمال أو وظائف (القضاء والتدريس) وبانصرام أخرى من طريق مداولتها بين المنتَخَبين، على نحو ما تقضي بتفتيت الاجسام العصبية والاهلية وحل لُحماتها ومُسكاتها في إرادات وأهواء وأفهام فردية. وتُوجت هذه بدستور ملزم وإعلان حقوق.
 ولا تتستر الاجراءات على مصادرها البورجوازية التنويرية، والديموقراطية الاجتماعية المختلطة والاوروبية. ولم تحل صفة المصادر المعلنة والمعروفة وبين غلبتها الشكلية على أنظمة من يجهرون مناوأتها ومناهضتها، إما باسم الثورة الاجتماعية (يساراً) وإما باسم أصالة حضارية وثقافية، اعتقادية أو قومية، لا تسبر فرادتها ("يميناً"). والجماعات والاقوام التي قامت على دولها المستعمِرة الاوروبية، غالباً، وقاتلتها قتالاً شديداً، لم يصرفها قيامها ولا قتالها عن إنشاء دولها وتكوينها على الشاكلة الاجرائية نفسها. ولكن اجراءات التكوين والانشاء والاقرار أخرجتها "الدولة" العصبية والبيروقراطية الريعية (التي خلفت الدولة "الليبرالية" والكولونيالية ) من أدوارها ومبانيها ومقاصدها أو معانيها. فوحدت صلاحيات من غير قيد في ولاتها الأبديين. وألغت قيود التكليف والمداولة والمراقبة ودمجت الهيئات المنتخبة في أجسام إدارية متسلطة ومنقادة طائعة. وحكمت في الاعمال والوظائف والمواقع كلها إما بالدوام أو بالإقالة الاستنسابية. وأقرت الاجسامَ العصبية والاهلية على لحماتها أو سعت في إضعاف بعضها وإلحاقه بعصبية "دولة" غالبة، وأذكت تالياً تناحر العصبيات. وأنزلت الدستور غير الملزم وإعلان الحقوق منزلة "الاوراق التي تبلّ وتشرب ماؤها" على قول متأمر مسلح على جماعة خلاصية لا تأنف من ركوب سيارات الدفع الرباعي ولا من المقامرة في سوق ودائع موازية وفوائد من رقمين، شأن نسبتي البطالة والتضخم في بلدان هذه الانظمة.
 وتطلب الطواقم الحاكمة والمتسلطة على "الدولة" العصبية والبيروقراطية الريعية لنفسها سلطات "كينونية" (على قول روح الله خميني في ولاية إمام الزمان) تتولى من الناس أو الرعايا أنفسهم من غير مساومة. والولاية أو التولي من الناس (وعلى الناس) أنفسَهم لم تنسب، في صيغتها الدينية والقَبَلية، إلا الى الله وحده، قبل ان يعلمنها فقهاء الاحكام السلطانية والامامية (على معنى الامام الحاكم)، ويحملوها على الحاكم "الامير" (صاحب الامر والقائم به). وعظمت الفرق الباطنية وحركاتها المسلحة والمقاتلة، وبعض الحركات الدعوية الخالصة، أمر ولاية "أولي الامر"، في مراحل المفاصلة والهجرة على الخصوص. وكان التعظيم هذا، في كثرة الأحيان، سلماً الى الغلو في التعظيم، والى التأليه والتشبيه والحمل على الحاكمية المطلقة. فوسع شيخ الجبل الاسماعيلي، وإمام فرقة الحشيشية، الايماء برأسه أو اصبعه الى مريديه أن اقفزوا من سور الحصن الى أعماق الوادي السحيق، وألقوا موتاً محققاً يُشهد عليه الزائر الاجنبي، الفرنجي والصليبي (حقاً)، برهاناً على ان حبكم الموت يفوق حب قومه الحياة ومتاعها الزائل. وتردد رجع هذا العمل- أمر المريدين بالموت وانفاذهم الامر في الحال على سبيل اختبار الطاعات- وهو مؤسسة شديدة التماسك، في مؤسسات معاصرة ثورية التقى مؤسسوها وقادتها على تسميتها بـ"الحرس": الحرس الاحمر (السوفياتي) والحراس الحمر (الصينيون الماويون)، والحرس الثوري (الغني الايدي المباركة والمشهودة عن التعريف)، والحرس الوطني (أو قوات الدفاع الوطني، توأم لواء الفضل بن العباس وتوأم الجماعة الخمينية المسلحة)، كناية عن اليقظة والسهر على الدماء والفروج.
 محو الفروق
 وما كان أو ارتسم خيالاً أو يوتوبيا، على معنى الاشتراكية الخيالية أو "الطوباوية"، وتحقق في جماعات أو فرق ضيقة اعتزلت الجماعات الكبيرة وديراتها وربوعها، وخرجت على معتقداتها وسننها وسلطانها، جعلته مجتمعات "الازمنة الحديثة" ودولها المبتدعة والجاهلة حقائق ووقائع عامة قلبت مباني السلطة وإوالياتها ومقاصدها رأساً على عقب. وثورة "الديموقراطية"، في اميركا أولاً ثم في أوروبا على زعم ليبرالي وسطي من القرن التاسع عشر، هي اسم هذا الانقلاب الذي أنزل السلطان من عليائه وقدسه، وألغى مفارقته "المجتمع" وجماعاته وعلاقات الجماعات بعضها ببعض، وأدخله على دقائق روابط الاجتماع والتفريق وأحكام عمل الافراد والاحاد وسيرورات أحاسيسهم وأفهامهم. وآية هذه الثورة الفريدة تصديعها على نحو غير مسبوق مباني الجماعات "الطبيعية" الناشئة عن القرابة والجوار وسنن التبادل المتوارثة والمنازعة على الموارد الوافرة، وانشاؤها انشاء جديداً أو استئنافها على صورة "مجتمعات أفراد" توجب من نفسها أو تزعم إيجاباً تاماً، ومن تلقاء إرادات افرادها ورغباتهم وأفهامهم، شرائعها وروابطها ومعايير عملها والغايات التي تسعى في بلوغها. وهذه كلها "غير مسبوقة بوصية" (رينيه شار) أو مثال محترم (يتمتع بحرمة).
 فلا محل، بهذه الحال، لمراتب أو أجسام وسيطة تلزم صاحب "السلطان" أو أهله بتوسيطها بينه (أو بينهم) وبين الرعايا- وهم عوام الجماعات المتماسكة في أجسام منفصلة وقائمة برأسها. فلا يضويها صاحب السلطان إلا من خارج ومن فوق، ويحكمها حكم استتباع من طريق مشايخها وأشرافها القائمين على لحمتها و"وحدتها". ولا سبيل الى وحدة الشعب السياسي، أو وحدة "الدولة – الامة"، ما وسع الجماعات، وعشائرها وطوائفها وأصنافها و"نقاباتها"، حفظ قوامها ومسكة هذا القوام. والامر هذا وسعها على الدوام، الى يومنا، في حفظ عصبياتها وأمنها، وفي حفظ "دول" ملية أو قومية (على المعنى العصبي الدموي والقرابي، غالباً) هي سلطانات مموهة وراء قناع "دولة حديثة". وحين حافظت طواقم الحكم الجديدة- المتحدر معظم جيلها الثاني من انقلابات عسكرية وتأميمات جهازية، وسيطرة حزبية وبيروقراطية أمنية على مرافق الدولة وموارد  المجتمع وعلى أبنية الدولة الموروثة من "التنظيمات" العثمانية، ثم من ابنية إدارة الدول الاستعمارية واحتلالها، استثمرت أو استغلت حتى الثمالة موارد الصيغة الديموقراطية ومنازعها الذرائعية والمركزية المتسلطة. ولكنها ابتكرت، على مثال حربي وتعبوي، صناعي وجماهيري، أنظمة هجينة أو موقوفة. وولَّت هذه الانظمة السلطانَ المستولي، والمستقوي بعصبية دموية وأهلية وسلكية ساحقة، سلطات وصلاحيات نافذة على رعايا خسروا معظم حمايات جماعاتهم الاهلية الضعيفة والمتصدعة، ولم يكسبوا أو يربحوا سلطة الافراد والمواطنين المنتجين والناخبين الغفل، ولا (شرعة) حقوقهم وإحصانها إياهم من التعسف المرتبي ووساطاته. ففازت "الدولة" العصبية والبيروقراطية الريعية، وطواقمها المتسلطة، بحرمة السلطان المتأله وخارجيته وفوقيته، من جهة، وبصلاحيات الولاية والتشريع والانفاذ غير المقيدة بمثالات تقليدية، والصادرة عن "الشعب" أو الامة مباشرة ومن غير جواز نقض أو احتكام الى نصاب يعلوها، من جهة أخرى. ويجمع هذا المخلوق العجيب والغريب صفات وأحوالاً ينقض بعضها بعضاً ويدفعه. فهو مفارق متعال ومحايث ومطوي حلولي معاً، وهو متشخص متجسد وكثير غفل، وهو كيان قائم بنفسه ومنفصل وكيان شعبه وأمته المتصل، وهو ارادة مستقلة وحرة وقدر مقسوم ومحتوم، وهو الكل والاجزاء. أو هو، بعبارات اخرى، الدولة والمجتمع، الحزب والشعب، الطليعة والقاعدة، القيادة والجماهير. ولا يترجح "الحيوان الاسطوري" هذا بين هذه الاقطاب في زمن يعاقب بين الاوقات والاوان بل يدمجها أو يدحوها في أزل لا قبل فيه ولا بعد.
 وما يبدو ميتافيزيقا مبهمة وملغزة هو فيزيقا (مادة طبيعية) بائسة الوضوح والتفاهة. فما أن كتب أولاد درعا السورية على بعض جدرانها، قبل 3 أعوام ناقصة اسبوعين بالتمام والكمال، ما حسبوه إرادة "الشعب" حتى تحسس "الحيوان الاسطوري" أركانه وأسسه التي مادت تحته وهجم شاهراً أسلحة جيش يعد نحو 400 ألف جندي كان ادُّخر وسلح ودرب لقتال "أقوى آلة عسكرية في الشرق الاوسط" ولتحقيق "توازن استراتيجي" يسحقها حال انجازه. وأتبع هجومه الجرار بقتل وتدمير واعتقال وتعذيب وحصار وإغلاق وعزل وحظر وتقطيع أوصال وتسميم على ما كان يحصل في فتوحات البرابرة القدماء، وقبل الاستئمان وطلب الصلح والنزول على شروط التسليم. ورأس البربرية في هذا هو حمل "الدولة" المستولية المتظاهرين والمستنكرين والمحتجين العزل على اهل حرب وقتال، وحملها الشوارع والساحات وأحياء السكن، في الارياف "القبيحة"  والمتأخرة ("سياسياً) والمدن "الحسنة" والتقدمية والمستكينة، على ميادين قتل حر، وذلك على قول أميركي "فيتنامي" ثم "دروني" في حروب خارج القانون ومتحللة منه (على خلاف تقليد أوروبي غربي سعى في تقييد الحرب من طريق تصنيف وسائلها الجائرة وغير الجائرة وتمييز "اهلها" من غير اهلها، وتقنين معاملة الاسرى، وإنشاء قضاء ينظر في جرائمها...).
كيانا الحرب
 فالنظام العصبي لا يسعه الاقرار بأضعف فرق فعلي أو مبدئي بينه، أي بين دولته وأجهزة القوة فيها وبيروقراطيتها البوليسية المركزية والميليشيات الاهلية، وبين "الشعب" المتخيل والمتوهم والمبدئي الذي توجبه إيديولوجيته المعلنة، وأساطيره المغرقة في إنكار الفروق ومحوها. وهو ينكر فروقاً تفترضها قوانينه الاساسية، والمواثيق الدولية التي أدرج بعضها في قوانينه على مضض شديد. وأولها الفرق بين الدولة وبين الشعب أو بين الدولة وبين المجتمع (على صفتيهما المختلفتين). ويضطلع هذا الفرق، وموجباته ومترتباته، بحماية الشعب او المجتمع من الدولة وتسلطها وبنودها حرمة الشخص المواطن وأهله وبيته وملكه، وإناطة الاجراءات في هذه الابواب بالقضاء وليس بالادارة "الامنية"، والفصل بين السلطات واستقلال القضاء، ومراقبته الاعمال الاجرائية غير التنفيذية مثل الاشراف على الانتخابات وصون الحريات وإحصان الحياة الشخصية، من غاياتها الجوهرية إرساء الفرق بين الدولة وبين الشعب والمجتمع على مداميك قانونية صلبة وثابتة. وعلى هذا، فإباحة شن حرب نظامية وكلية أو شاملة على جزء من المواطنين وعلى مرافق عملهم وموارد رزقهم ومعاشهم، وحمل انكارهم العدوان على حقوقهم وانتهاكها الصريح والمزمن على عصيان عسكري موصوف، يلغيان (الاباحة والحمل) دخول "الدولة" وشعبها ومجتمعها المفترضين تحت كيان واحد ومشترك هو كيان الدولة الوطني والحقوقي. فلا يستقيم الكيان الواحد والمشترك إلا على شرطي عمومية الوطنية والحقوقية. فلا تستأثر بصفة الوطنية جماعة من الجماعات، ولا توقف مراعاة الحقوق على ناس دون ناس. وإلا وقعت الحرب بين كيانين أو "دولتين" أو أهلين. وغفلت "الدولة"، أي الكتلة الغالبة والمتسلطة، عن ان حربها على كتلة كبيرة من محكوميها المنتفضين، وعلى عمرانهم ومواردهم ومعاشهم، تنتقص من مشروعيتها الاعتبارية والدولية إن لم تلغها أصلاً، وتدمر مواردها وتلعق دمها وهي تلحس المبرد الحربي.
 والحق أن أنظمة الدولة العصبية والبيروقراطية الريعية العربية (والشرق أوسطية، على انحاء كثيرة ومتفرقة)، وحركاتها السياسية واحزابها ومثقفيها، مهدت تمهيداً مديداً، يكاد يكون في بعض الاحوال استراتيجياً، لتفتيت مسارح النزاعات والحروب الداخلية، وتناثر ميادينها، وفشو عنفها. فهي شاءت وتعمدت، منذ استيلائها على دولها وأجهزة حكمها، إناطة استيلائها وتسويغه بقدرتها وحدها على الاضطلاع بوحدة الدولة، وقيامها بلوازم الحفاظ عليها. وما قد يبدو بدائه لا جدال فيها لكثرة ترديدها يتستر على خُلْفٍ كثير الاوجه والتبعات. فالدولة التي ادعت الجماعة المستولية الاضطلاع بوحدتها، ونسبت الى نفسها وحدها القدرة عليه، ليست الكيان الجامع والمركب من عناصر متفرقة هي الشعب والمجتمع والمواطنون والاقاليم والعمران والمعاش والجماعات والاحزاب والهيئات والاجهزة والحكومة او الحكومات والسلطات، ولا اجتماعها كلاً وجميعاً في كيان رمزي هو "السلطة". فدولة الاستيلاء العصبي، في تعريف المستولين وعلى حدهم، هي السلطة الجوهرية والناجزة من غير عناصر ولا تركيب ولا تأليف. ووحدتها لا مضمون لها إلا صورتها وشكلها. ويوجب هذا حملَها على مثالات قصوى ومجردة. فهي واحدة على معنى ينفي انقساماتها وفروقها البلدانية الجغرافية والسياسية والتاريخية والقومية والاهلية والطبقية الاجتماعية والمذهبية الاعتقادية والمصلحية؛ وهي مستقلة وسيدة على معنى يغفل احتياجاتها وتبعياتها الطبيعية والاستراتيجية والامنية والقانونية والاقتصادية والسكانية؛ وهي مركزية على وجه يمحو المستويات البلدية والمحلية والاقليمية والخارجية من تقسيم عمل الادارات والسلطات؛ وهي وطنية قومية على نحو ينكر الفروق بين المسائل والمعالجات السياسية والتشريعية والقضائية والادارية والعرفية. ودولة الاستيلاء العصبي قطر وشعب وإدارة (دولة) موقتة في انتظار تمام الامة المعلق والمحتم.
 ويقود هذا الاختلاط المعمي، والشديد الشبه بالعُظام الذي يسدل على الوقائع المشتركة والعمومية (على مقادير متفاوتة) نكراناً صفيقاً، الى اخراج البشر وخصائصهم من الحساب، الاستراتيجي والكوني على الدوام. وتعليق الوقائع الجزئية والثانوية على المعادلات الاستراتيجية والكونية التاريخية يجعل السياسة، أي تدبير العمران ضرباً من التمرين الرياضي (من الرياضيات) أو الجبري المنطقي والبسيط. ومقالات أو خطب "رجل الموت" السوري الاول الحالي، ومقالات طاقم سياسته الخارجية، وصمت الاعوان الآخرين كلهم، أمارات على نازع ديكتاتوريات حديثة كثيرة الى تغليب الاستدلال، وتعظيم السلطان من بعد، فوق ما يطيق البشر.