الأحد، 24 يوليو 2011

محمد أبي سمرا في "طرابس ساحة الله وميناء الحداثة"...مدوَّنة المترحّل الغريب في الأقاليم المتحرّكة وأخلاط أهلها وهجنائها

المستقبل - الاحد 24 تموز 2011


هجم المجتمع الوضيع هجمة نرجس واحد على آلة (التصوير) الرخيصة

ليبث في الشعب القرف من التاريخ.

بودلير (1862)



لو لم أغادر اميركا لما رغبت في تصوير نيويورك. وحين ألقيت عليها نظرة بكر، أدركت انها بلادي أنا، وأن عليَّ تصويرها صوراً فوتوغرافية.

بيرينيس أبوت (1939)



في قص محمد أبي سمرا أو روايته، أو ريبورتاجه ("الحمل من جديد" حرفياً)، يخرج الناس الى كثرتهم وزركشتهم، شأن الأشياء والمواضع والحوادث والمشاهد والمعاني حين يتناولها صاحب "طرابلس ساحة الله وميناء الحداثة" (2011، دار الساقي، بيروت). فهو لا يرى، حين يكتب ويخبر، ما يراه إذا لم تنفخ فيه الجهات والأصوات واللهجات والوجوه، ولا تقوم له قائمة، في الرواية المكتوبة، إذا لم تتنازعه الألوان والنوايا والذكريات والأحكام. وإذا جاس بباب التبانة (الفصل السابع) في المرحلة الأولى من سفره الى خليل عكاوي، الشاب الذي أنشأ غداة مقتل أخيه علي رمياً بالرصاص في دمشق (1974) "إمارة" لجان شعبية بالحي، ورحلته إلى ما بقي من الشاب الذي قتل بطرابلس في 1984 وهو خارج من لقاء بضابط أمن سوري، وكان مقدم لجان الأحياء والمساجد التقى الرئيس السوري حافظ الأسد 4 ساعات تامة بدمشق قبل أيام قليلة من مصرعه هجمت على أجزاء الباب التي يتناولها القص "أشياء (لا تسمى)"، لشدة غموضها وبعثرتها و "تستيفها" (مراكمتها بعضها فوق بعض)، وتركها "من أزمنة لتعتق على رفوف متآكلة"، ولعسر تصنيفها من غير "تحديق" يفردها شيئاً فشيئاً على حدة، وإذا لم يحدق النظر ولم يصنف أفضى بها "مشهدُها الإجمالي (إلى) باب المهملات".

وواسطة الكاتب الراوي الى المشهد، وبابه على المشهد، هو صاحب المحل أو الدكان، رجل أربعيني جالس متهالكاً على "كرسي متهالك" بباب المحل. ويستقبل الرجل، في 2007 على ما قال الراوي مدققاً، الصحافي الزائر بالمقارنة بين "الحياة في باب التبانة" والحياة، إذا صدق القول إنها حياة، في مخيم نهر البارد، يوم كان المخيم ساحة حرب ابتدأتها "فتح الإسلام"، المولودة من "فتح الانتفاضة" بين عشية وضحاها، بذبح نحو عشرين جندياً لبنانياً غيلة. ويخلص رجل المحل من مقارنته الى تفضيل الحياة في مخيم نهر البارد، أو غيره على الحياة في باب التبانة. فالمخيمات اسم نوع يَكْني عن نفي الحياة أو انتفائها. ولا يقدِّم تخصيص المخيم باسم وموضع في تعريفه ووصفه ولا يؤخر. والمقارنة ضرب من الخطابة. فليس في الفروق بين المهملات المبعثرة، المتآكلة والمتراكمة من أزمان وأوقات من غير تأريخ، ما يصلح مَعْلَماً وشارة، فكيف يصلح ميزان مفاضلة.

المحلَّف

ويوسط الزائرُ الراوي صاحبَ المحل بينه، ومن بعده وورائه القارئ الآتي والمفترض، وبين المشهد أو المسرح الذي يجول فيه، وينوي "حمله من جديد"، وبسطه امام النظر والفهم. والتوسيط هذا هو من باب الاحتراز والأمانة. فلا يحسب الزائر الكاتب، أي محمد أبي سمرا، أنه هو شاهد "محلَّف" وأمين وثقة. ولا يحسب، من وجه آخر يلازم الوجهَ الأول، أن ما يشاهده ويراه ينطق بحقيقة ما عليه إلا قطافها أو نقلها وجهرها. فلا يغفل عن ان لقاءه الناس والأشياء والحوادث في "ساحة" أو مضمار هو باب التبانة، أو هو شارع الميناء الجديد أو مجمَّع فيلا الأحلام أو ساحة التل أو محلة أبو سمرا أو جامع سيف الدين طينال أو جامع التوبة أو حي عاقبة الزاحول (في محلة القبة)... وكل موضع منها مواضع كثيرة هو، أي اللقاء، حادثة بدوره. والحادثة هذه لا ريب صدرت عن روافد وحوادث سابقة اجتمع بعضها مصادفة، وبعضها الآخر ترتب ترتباً ضرورياً عن مقدمات. ويدعو لقاءُ الكاتب الراوي من يلقاهم وما يلقى على هذا النحو، نحوِ الحادثة، الى احتساب حصة الحدوث والجواز والاتفاق في "مجيء" المعاني والمشاهد المرئية والروايات المنقولة أو انعقادها وبنائها.

فيُدخل الراوي الكاتب "حادثة" اللقاء، والذين تولوا التعريف ومهدوا الطريق إليه، في روايته المكتوبة. ولعل هذا قرينة على غرابة القص، وإقرار بهذه الغرابة. فـ"المجتمعات" اللبنانية، وغيرها طبعاً، انقسمت وتفرقت "طبقات" مختلفة ومتباينة. وانحلت وحدة الجماعات الداخلية وذاكراتها ولغاتها، وخسرت بدائهها او بداهاتها الأولى ومسلماتها، أدركت ذلك ام غفلت عنه وتعمدت الغفلة. والكاتب الراوي لا يسعه القول: ذهبت ورأيت وتحققت (أو آمنت، على قول الإنجيلي) فصدقوني. وقُصاراه (القول) انه ذهب ليتقصى، فأراه فلان كذا وكذا، بينما كان يحدثه ويخبره ويصف له ويتذكر ويُسمع هذا أو ذاك من الناس، وحدثه آخر عن نفسه وعن آخرين. فيُسلم صاحبُ الخبر المستمعَ، وهو يحدثه ويروي له ويشهده على المواضع والأمكنة وآثار الحوادث والوقائع فيها، الى أخبار ومخبرين وآثار أخرى.

وعليه، فـ "رحلة" الراوي الكاتب الى ميدانه وحقله ومسرحه، وإلى ناس الميدان أولاً، جزء من الحوادث وروايتها، وإيذان بها، لا تستقيم ولا تتماسك على صورتها إلا بالجزء والإيذان هذين. وليس الأمر على هذا الوجه عملاً بأصل فيزيائي محدث يقضي باحتساب موقع المراقب من موضوع مراقبته في تقدير سرعة الموضوع وقياسها (وهو الأصل النِسْبي الساري في ثقافات الحداثة على تفرقها) وحسب. فهذا الأمر ناجم ربما أولاً عن الصدوع بتفرق المجتمعات والجماعات أشتاتاً ونثرات وكتلاً، وعن ترجحها بين مقامين: مقام الجماعة الواحدة الضاوية أو "الأمة"، على معنى نصف مجازي استعاره محمد أبي سمرا من مسافر "غريب" آخر هو ميشال سورا وقلَّبه على وجوه كثيرة، وبين مقام الأفراد الآحاد وسيرهم وضربهم في شعاب يشقونها خارج "الشوارع" العريضة، على ما سمى أهل الأمصار الإسلامية الأولى طرق مدنهم الجامعة على حدود مربعات الخطط الكبيرة. والترجح منزلة بين أكثر من منزلتين. فالجماعة العصبية، القرابية والمحلية والمهنية والمسجدية الشيخية، أو الأهلية في تسمية سريعة، لا تزال على بعض المُسكة الفاعلة في أجزاء منها، قد تستثني الشبان والفتيان استثناءً عابراً أو مديداً. ولكن "المتساقطين" منها لم "يبلغوا" حال الذرات الاجتماعية المنتصبة ذوات قائمة بنفسها وفيها، ولو على سبيل الفرض الحقوقي القانوني.

الاسماء العامية والجمهورية

ومدونة الرحلة الى "ديار" أجزاء الجماعات و(اجزاء) مضاربها وحاراتها وشوارعها و "أبطالها"، هي الرسم أو الفن الذي انتهى إليه محمد أبي سمرا، كاتباً راوياً. وهو ربما خلص الى رسم تدوين الرحلة من اختبارين أو تجريبين: اختبار الرواية واختبار المقالة. والأول، في "سكان الصور" (2002، دار النهار) على الخصوص، يفترض الأفراد الآحاد على حال من التجريد والتخصيص والجواز قد لا تتخلص من الاختبار العام والسائر "الجميعي" إلا بشق النفس، نفس الكاتب ونفس القارئ و "نفس" الجمهور. ويدير اختبار المقالة التناول على كتل مرصوصة، وأبواب عامة ومشتركة، وعلى أفكار متقاسمة على هذا القدر أو ذاك. وينزع التناول على هذه الشاكلة الى معيارية مستبدة هي صدى للمعيارية التي تجمع كسرات الكتل والجماعات على روابطها ولحماتها وأساطيرها. والتدوين الإخباري والصحافي، على معنى يستأنف اختلاط الرواية بالصحافة والصحافة بالرواية في الشطر الأول من القرن التاسع عشر الأوروبي، يستعير من "فن" الرواية افتراق المغامر الفرد عن الجماعة، ومن المقالة عمومية التجريد والاستغناء عن الوسائط.

والراوي الكاتب والمترحل، أو الرحالة، لا ينكر وجهاً من الوجوه التي تفترضها "أسماؤه" العامية والجمهورية. وهذه الأسماء تنم من غير تخفٍ بالوسطاء وصلات الوصل والأدلاء. وهم، في الكتاب المؤتلف من رحلات ووفادات وروحات وجيئات، ومن مفترقات تنعطف بالراوي (والقارئ) الى حيث لا يعرف ولا يحتسب، الوسطاء والأدلاء وصلات الوصل جماعة لجبة وكثيرة. ففي الفصل السادس، وهو يتناول أهل الحداثة، إذا جازت التسمية، يدلف الوافد الى بغيته من طريق "شاب" سأله أن يدله الى ساحة في المدينة "(قال) له انها تسمى (ساحة الله)"، على نحو ما دلف في الفصل السابع، في طريقه الى باب التبانة، من طريق صاحب الدكان، أبو بلال الزعبي، الذي تقدم وصف دكانه. وكان صاحب الدكان أسلم الكاتب الراوي الى "محدث" لا يلبث ان يتكشف عن أبو داود، صاحب السيرة الحربية في فصل الكتاب الأول، أو الاصح أن أبو داود أسلم الكاتبَ على أبو بلال. ويُشهد أبو بلال الزعبي وأبو داود الكاتبَ على "شاب في بنطلون اسود على خاصرته من تحت قميصه الأسود جزء من مسدس حربي لامع" صادف مروره في الطريق. فأدخلاه حالاً في روايتهما، "نموذجاً من الشخصيات والحوادث التي (يرويان) أخبارها". والشاب الدليل الى "ساحة الله"، وهو يصوب الاسم الى "ساحة النور"، ويبتسم قرينة على حدسه في "غربة" السائل، هذا الشاب حلقة أولى من سلسلة أدلاء ورواة وشهود كثيرة الحلقات.

وهم لا يدلون الى شيء واحد. وقد لا يكون الشيء العتيد مشتركاً. فالدليل الأول لا يصوب غلط الاسم، أو يدل الى الساحة وتعاقب أجزاء الطرق إليها. فابتسامته هي مرآة تعرفه (على) وفادة الغريب، وبقاء هذا الغريب عند شيوع التسمية في وقت فات ومضى، وتفويته هذا الوقت وانقلاب الساحة، وأهل المدينة من حال الى حال. وتتولى "سيدة طرابلسية من مدرسات الجامعة اللبنانية في المدينة" رواية الانقلاب هذا. وهو انقلاب موقوف، قبل به بعض أهل طرابلس، ولم يرتضه "الإسلام الشعبي أو الأهلي" ولا المجلس البلدي، لعلتين متباينتين. ويتصل خبر "أستاذ جامعي طرابلسي" بخبر زميلته السابقة. ويعطف خبرُ الأستاذ الاحتجاج المسلح والحربي على عودة الساحة الى عَلَمها السابق، عبدالحميد كرامي، على حادثة الضنية في آخر ليلة من 1999، و "احتفال" الطرابلسيين المتشددين بأواخر الأعوام الميلادية بالمتفجرات والرصاص. ويتولى "متنورون" محليون، هم المدرّسة وزميلها وصديقتها "مديرة مقهى عصري" وآخرون وأخريات منهم سهاد، تلميذة "الليسيه" السابقة، و "أحوالها" وفصولها كثيرة وروايتها جزء راجح من الفصل، وبكر أخواتها التي تثبِّت قصة سهاد في بيئة متنوعة. وتخلف زميلة سهاد المسيحية، ليليان، الأخت على القص والحكاية. وتشاركها نهاد الخلافة، ومعها عبير، ابنة خالة سهاد، قبل ان تستأنف المدرسة الجامعية التأريخ. ولكنها، هذه المرة، تعود من طرابلس الى بيروت، المدينة التي قصدتها للدراسة قبل 1975 بنحو عقد ونصف العقد، فتروي طرابلس من بيروت.

وشأن "الغرباء" في التدوين الإخباري والصحافي، تجيز رواية الغريبة الراجعة، على مثال المصورة الفوتوغرافية النيويوركية التي عادت من أوروبا الى "التفاحة الكبيرة" (انظر بيرينيس أبوت أعلاه)، النفاذ الى دواخل المدينة المنكفئة. وتتحرى المدونة آثار غرباء رواة آخرين. السيدة من عائلة طرابلسية عريقة المتزوجة بأستاذ جامعي غير طرابلسي، وزوجات بعض السفراء الآسيويين والزائرات مدينة لبنان "الثانية"، ودريد حيدر أحد أبناء جالية الـ "آي بي سي" النفطية المنصرمة، ومراسل إحدى الصحف البيروتية بطرابلس، وبعض مخالطي "كوبلات السهر الجماعي" ببيروت، ونيفين أفيوني صاحبة اسم "شارع الكسدورة" (شارع الميناء)، وسليل عائلة طرابلسية وصاحب محل حلويات عريق وشريك إنشاء فندق فخم... ولا يستوفي الإحصاء الطويل سلسلة الرواة. فبعض الرواة لا يُذكرون بالاسم ولا بالصفة، ويستدل القارئ عليهم من آثارهم. ومن هذه الآثار الخبر عن "بناية السفراء". وهو خبر متشابك تنعقد بعض أطرافه بذيول رواية "كوبلات السهر الجماعي" والسيدة المتزوجة بالأستاذ غير الطرابلسي وتلميذة "الليسيه" السابقة وبعض قريباتها. وتذر هذه الآثار إلى فتيان الأحياء الداخلية وأهومتهم الجنسية التي توقظها فيهم الشقراوات والأجنبيات المفترضات من بنات "السفراء" (وهم سفير واحد سابق). والفتيان، سناً وخلقاً، سبق ان اقتص الكاتب الراوي بعض أخبارهم، فالتقاهم أو قرأ ما كتبه من التقوهم. وعاد إليهم من باب أبو عربي (خليل عكاوي) و "ملحمته" المتداولة الى اليوم على ألسنة أهل باب التبانة، معقله ومعقل روابطه ومساجد أهل الروابط.

المصلَّبيات

وينبغي ألا يحمل القارئ الرواة والمخبرين والمحدِّثين الذين أحصيتُ بعضهم على "ناطقين" باسم جماعات: بنت العائلة الطرابلسية، الأستاذ الجامعي، ابن الموظف السابق في الـ "آي بي سي"، وارث عائلة صناع الحلويات، صاحبة المقهى... فالتعريف النَّسَبي، وهو مقرون على الدوام بسيرة فريدة، باب من أبواب التعريف الكثيرة. والمحدثون، وهم يتقصون الى سيرتهم سيرَ أقاربهم وأصحابهم و "زملائهم"، ويُجْملون التقصي في باب أو أبواب اجتماعية ومشتركة، لا يقتصرون على الجملة أو الإجمال، فبعضهم، سهاد أو عبير أو نهاد أو المدرِّسة الجامعية العائدة من بيروت أو المرأة الشابة التي تزوجت باكراً وطلّقت باكراً...، تعرو أصواتهن (أو أصواتهم)، حين يقصون بعض ما رأوا أو ألمّ بهم نبرة لا تخطئ الأذن رنتها ولا ترجيعها ما ترجِّع من خيبة وألم وملل أو من دهشة وحماسة. فالمحدثون أصحاب سير وخُبُر. واستماع المدون الذي يسألهم، ويستخبرهم أخبارهم، ويومئ الى جهاتهم ومواردهم التي يرِدونها، فيصيخ السمع حيناً ويفتر سمعه حيناً آخر، هذا المدون المستعطي الروايات يبعث الحكايات ويُخرجها من هيولاها ونطفها الى كيانات أو أكوان لم ترتسم لا في هذه ولا في تلك. وهو حين يكتبها، فيقوم بعضها بإزاء بعض ويولد بعضها من بعض، وتتردد أصداء أجزاء منها في ثنايا أجزاء أُخَر، وتستوي المعاني من الإحالة والجوار والاستئناف والإغضاء والتكرار والاستباق، تبعثها الكتابة مرة ثانية وتجلوها صوراً "بارزة" لا يدري "العراقي"، وهو القارئ، إذا برزت "من ذا تطوَّف بالأركان أو سجداً"، على قول الشاعر في حاجة جميلة "رواها". فالمفترقات، أو "المصلبيات" التي تنعطف منها الحكايات، وتسعى في زمن بديد أو تحيي حوادثَ آثارُها لا تزال شاهدة عليها أو تنحو ناحية غير بعيدة تشرف منها على سياقة مجتمعة بعض الاجتماع، هذه المفترقات هي في صلب المدونة وإنشائها. ولعلها أثر الكاتب الراوي الأبعد والأعمق في "ريبورتاجه" وصحافته وكتابته.

ولا تنسب هذه الكتابة، ومنزلتها بين منازل الرواية والمقالة والحكاية والتقصي والسيرة، "طرابلس ساحة الله وميناء الحداثة" الى مذهب أو مصدر مفتعل وكاذب من المذاهب "العربية" المزعومة، مثل "ألف ليلة وليلة" التي يتبجح بالانتساب إليها مهرجانيون إمبرازيريون وصيادون. ولا تفضي كثرة الرواة والمحدثين المتناسل بعضهم من بعض الى ذواء المعاني أو تعليقها وإرجائها، على رغم مواربة المداخل والتفاف الأنساب وتشابك السياقات. فكتابة محمد أبي سمرا وروايته تحتفيان أيما احتفاء بالمواربة والالتفاف والتشابك. فهي قرينة على خصب الكثرة، وتوليدها، وتوشيتها الفاحشة في بعض الأحيان. وبإزائها تبدو "روايات" كثيرة ضامرة ضموراً مرضياً، متأتياً من ضعف الاشتهاء أو من عقم الأرحام، أو من الأمرين. وتبعث الكثرة هذه على تشكك نهم، وعلى عزيمةِ تعقُّب مرهقة. وهي بنت المدن، تلك الحقيقية التي أقام بها الكاتب ولابسها ولابستهن أم تلك التي حلم بها، واشتهاها، وسواها من كلمات الحكايات، وصور الأشرطة السينمائية، ومثالات الأهواء السياسية الديموقراطية.

(وتشاء الصدفة أن ينشر رئيس مجلس الإدارة والمدير المسؤول ورئيس التحرير في "الأخبار" البيروتية، ابراهيم الأمين، في 12 تموز الجاري، أي في الأسبوع الذي وزع فيه "طرابلس...."، "وقائع جولة ميدانية" جالها جوزيف سماحة، "رئيس التحرير المؤسس" على ما تسمي لوحة تعريف الصحيفة الصحافي الراحل، "برفقة الشهيد عماد مغنية، القائد العسكري في المقاومة في حينه". و "الوقائع" المروية في ما يزعم ريبورتاجاً يسردها الصحافي المفترض على مثال لو شاء الواحد ان يتخيل نقيضاً لكتابة أو رواية محمد أبي سمرا لما وسعه إنجازه على هذا القدر من الدقة والحدة. فالراوي، وهو رئيس مجلس الإدارة والمدير ورئيس التحرير على ما ينبغي، يمحو قسماته وحركاته ظل "القائد" المرشد الطاغي والحالك، وظل الصحافي والصدى المردِّد من بَعد. وهو لا يستوي "واحداً" إلا حين اطراحه من الخمسة الذين يستقلون سيارة دفع رباعي أميركية. والظل الحالك يخرج، ويستوي رجلاً، من "التعليمات" والأوامر. وهو إذا تكلم، و "كسر الصمت" الذي لم يتجرأ أحد على كسره قبله، "لاحق" من انتخبه محادثاً بـ "الأسئلة". والمحادث، إذا تكلم بدوره، وهو يُكلَّم بحساب ويتكلم بحساب، "صاغ بسرعة هائلة مجموعة اسئلة تخصصية". وكان "الحاج يتولى الإجابة" بداهة. وإذا لم يجب "كان الصمت يسود". وصمتُ "الحاج" أبلغ من القول: "فيدرك جوزف ان الأجوبة عن بعض الأسئلة موجودة لكنه ليس للإعلان". وخلاف الإباحة النهي: "ممنوع البوح به". وبين الموجود المعلن والموجود المنهي الكلام فيه، والعادي ظاهراً والغريب باطناً، والحركة "الخاصة" والابتسامة غير الخاصة، والموصول "بسلك يختفي فيما بعد" واللاسلكي، وعجائب "المحمولات" التي لم يُر مثلها "حتى على التلفزيون" و "الهيئة المدنية" التي تحول الحاج القائد إليها من الهيئة العسكرية... تتوالى فصول ومشاهد وأقنعة وأحوال تشبه فصول عصابة الـ "سبكتر" التي يصارعها جايمس بوند، العميل التكنولوجي السري، ونقيض المحققين الإنسانيين والقصصيين: المفوض ميغريه، إد سيركوي، شيرلوك هولمز... وسبقت الفصولَ والمشاهد والاقنعة المعاصرة اشباه في أخبار بعض الولاة "المحببين" الى قلوب العاملين بجنوب لبنان مثل أحمد باشا الجزار، على ما يرويها ابراهيم العورة في "تاريخ ولاية سليمان باشا العادل". والجزار، شأن والٍ آخر كبير أحبه أجداد بني عاملة كثيراً هو الحجاج بن يوسف الثقفي، الجزار والحجاج كان صمتهما عن "الموجودات" مفهوماً، وكان من يجري بين أيديها طوعها)

هلهلة الأقنعة

وتروي تداعيات الكاتب الراوي المتشابكة والمتقاطعة أهواء العوام الخارجة من عقالها. فالمجتمعات والجماعات اللبنانية (والعربية على نحو أضعف) لم تتصدع، ولم تغادر مراتبها ومنازلها وديراتها، ولم تضعِف قواسمها المشتركة وأنصبة الجمع والتقريب والتوحيد فيها، وحسب. فهي، أي ما لا يحصى من عوامل التصدع والمنازعة والتشكك الداخلية ومن عوامل السطوة والدالة والرغبة والمحاكاة الخارجية، أدارت ظهرها مضطرة لما كانت تقوم به مراتبها ولحماتها وهوياتها وأدوارها وخلافاتها. فصاغت معايير اخرى لم تستقر بعد غداة نحو القرنين من الزمن. ولبنان السياسي الاجتماعي أو مزيج الجماعات الاهلية المُعتَقة ونظام الحكم "المهلهل" ( على المعنى الشعري: هلهل الشعر أي ترك عموده ووحشي ألفاظه)، لبنان هذا كان مسرح نشأة المعايير الوليدة وحبوها وتجاربها الاولى والمضطربة. فمثلت "الامة"، أي الدولة الوطنية، فيه على شاكلة الجماعات الاهلية المتنازعة والمضطربة. والحق أن هذا هو شأنها في المجتمعات العربية القريبة والبعيدة، عموماً. ولكن تخلي النواة المسيحية، مضطرة، عن طلب سلطان عربي وإسلامي على الجماعات المسلمة، قوَّى الجماعات الاهلية كلها على سلطة "مركزية" لم يوحدها موقعها المركزي المفترض، ولم يلم شتاتها في "طبقة" حكم متضافرة. فبقيت متنازعة بين قطب أهلي غالب وقطب وطني ثانوي. ولما كانت النواة المسيحية قطعت شوطاً بعيداً على طريق ثورة عامية وبلدية، قوية القرابة بالثورة الديموقراطية (ما عدا الدولة الوطنية السياسية، وهذا "نقص" جوهري)، نزعت الجماعات الاهلية واللبنانية الاخرى الى تقديم عوامها على خواصها وأعيانها، على رغم عسر الامر عليها وعلى جوارها العربي. ولحقت بالركب اللبناني، المسيحي، من طرق مختلفة ولدت فيما ولدت الحروب الملبننة.

وتتناول روايات وسير وأخبار "طرابس..." مجتمع المدينة السنية والعروبية الساحلية وجماعاتها على الوجه اللبناني هذا، أي على وجه الاهواء العامية، والابطال العاميين والبلديين. والوجه اللبناني يحضر (في) الاهواء والابطال ولو على مضض منها ومنهم، على ما يُرى في أحوال الجماعة الخمينية المسلحة "- في لبنان". ومخالفتها حال الطبقة الحرسية الحاكمة في ايران التي انكفأت الى ديكتاتورية قاهرة ودامية على مثال عروبي خالص. ومن القرائن على غلبة الوجه اللبناني على الاهواء العامية والاهلية الطرابلسية، وعلى أبطالها، تعاقب الزمن الحاضر في الروايات وعليها. فالهواة، وهم رواة أنفسهم وافعالهم ورواة أجزاء الجماعات التي انتسبوا اليها ووقائعها ومواقعها، إنما يروون مروياتهم ويسوغونها ويطلبون لها المشروعية من نفسها. فلا يقيسونها على سوابق ومثالات، ولا يحملونها على محاكاة أعلام. وإيجاز الفصل الاول، الموسوم بـ"صورة ملحمية لطرابلس وسيرة لبدايات انتفاضاتها المسلحة"، وهو حكاية عن مثقف اسلامي، (ولد في 1954) يقص ملاحم المدينة "في مواجهة قدرها اللبناني الذي لم يجلب لها سوى الويل والعثرات" إيجاز الفصل في انعقاد "دور البطولة (الى) بطل واحد هو تراث طرابلس الاسلامي الذي يخترق التاريخ منذ تأسيسها وحتى اليوم" يفسر لفظه التراث على معنى يميل الى اللغة السائرة والمتعارفة فوق اعتباره الوقائع المروية.

ويحقق هذا الزعم أن "الشيخ" الراوي، حين يحتج لطرابس "الشام" و"الفيحاء"، المدينة الحقيقية الوحيدة في هذه البقاع، إنما يحتج لها مقارناً إياها بالمدن الطارئة والناجمة عن تاريخ طارئ. فالعراقة المزعومة أو المفترضة لا يجلوها في حلتها وبهائها وفتنتها الا دخول عالم المقارنة والمنافسة والكثرةِ وطغيانه على المدن فيه، شأن الافراد، سواسية مثل اسنان المشط، وتستوي في العراقة والاصالة والفرادة، على رغم المراتب، والحق بسبب المراتب. ولم تكن المراتب سببباً مباشراً في النزاعات والانتفاضات لأن المراتب "إلهية"، أو غيبية تتصل بشؤون الخلق وتصريف مقاديره. والقيام الطرابلسي على مراتب المدن التي صنفت طرابلس مدينة "ثانية" بعد بيروت "الاستعمارية"، كناية عن اكتفائها بدائرتها الاقرب واقتصار مبادلاتها عليها، هو قيام العامة على معيار المرتبية بقضها وقضيضها. وهذا القيام محدث، معنى وصورة. وهو لا مسوغ له في الدولة السلطانية أو الامبراطورية، على نحو ما لا مسوغ لقيام المسلمين على المسيحيين المقيمين بين أظهرهم ومخالطيهم حين كان الوالي، حكماً، مسلماً وظلاً لظل الله على الارض، وكان القاضي يقضي، على ما قضى آل كرامي طوال أربعة قرون تامة، "بما أنزل الله". ولا مسوغ في الدولة السلطانية "للنزاع غير المبرر بين اسلام (طرابلس) وعروبتها". والحق ان الحاضر كله، على ما يرى اليه "المثقف الاسلامي" المحلي، هو قناع مزيف ومزوق وقبيح. فالسفور النسائي، أي "الفتيات السافرات والمرتديات ثياباً مزنطرة تكشف أجزاء كثيرة من اجسامهن"، هو بدوره "شكلي ولا يعبر عن حقيقة المدينة الكامنة في بنيانها الاهلي والعائلي الداخلي الشديد التماسك والمحافظة والذي (...) لا ينطوي على عداء بين أهل السفور وأهل الحجاب من نسائها".

وانقلاب النظر أو الرؤيا هذا هو باب من أبواب التأويل يجيز لصاحبه الانحياز الى الحاضر، وربما الاخذ به ومماشاته (فإذا كانت الفتيات الطرابلسيات "المزلطات" في مقاهي شارع الميناء" محافظات في تقاليدهن الاجتماعية وملتزمات دينياً... ويؤدين فروضهن الدينية كلها..."، لم يبعد أن يكون زلطهن حكمة أو لحكمة ينبغي مدحها سراً). والاهواء التي نشأت وتنشأ عن الحوادث والوقائع الطارئة، في اطار "الانقلاب" الغربي، من قيام المسلمين على المسيحيين، وطرابلس على بيروت ولبنان، ونقمة المتدينين على السافرات، والاهالي على اختلاط الاولاد في المدارس الرسمية، وضغينة الاهالي على المتاع البيروتي والانتدابي والامتيازات المفترضة وهي سفاسف وترهات، على ما ينبغي، وتتوجها "الحرب الاهلية" وردها على الاستباحة المديدة ... هذه الاهواء محدثة كلها، وهي من بنات الحاضر. ولا يتحرر هوى الاغفال والتقنع باسم مستعار، والراوي لم يشأ الافصاح عن اسمه ولا نسبة روايته اليه ولا تناول تفاصيل سيرته، من الحداثة وعالمها الطاغي. ويرجو الراوي المقنع ان يتستر قناعه الغفل على تردده الى معاهد التعليم الديني الخاصة وزوايا المساجد بطرابلس وغيرها وتتلمذه على الشيخ سعيد شعبان، شيخ "حركة التوحيد" قبل عهدها السوري الايراني، وأن يواري دراسته الثانوية في مدرسة رسمية وانتسابه الى كلية الآداب في الجامعة الرسمية وهجرته الى فرنسا وعودته منها بشهادة دراسات عليا في الفلسفة وتوليه الدعوة الى "التوحيد" وأميره.

وفي الاثناء، انخرط الشاب العشريني في الهجوم على شكا والبترون في 1976، وسبح عائداً الى طرابس، وهو الناجي الوحيد من ثلته المقاتلة. ويروي بعض من عرفه يومها أنه لم يتورع عن خطف مدنيين وقتلهم، يوم عمّ الخطف والقتل "جولات" الحرب الموقَّعة. ومال الى يسار المقاتلين الوافدين من بيروت الى طرابلس، وانقاد الى "فتوة" خليل عكاوي. ويقر بأن يساريته أوغلت في "حرب الشعب" الماوية، وورطته فوق ما ينبغي لمسلم أقام على ارادة بعث الخلافة ودولتها. فيسأل القارئ، وهو شاهد على اطوار الرجل ورواياته وأحواله ومقالاته، نفسه سؤال ليشتنبيرغ المقلق، وهو سؤال الحداثة "العميق": ما هي لغة الببغاء الأم؟ ولا يعف السؤال عن سير صريحة مثل سيرة المارديني حفيد داود يوسف مقصود، أو سيرة خليل عكاوي في طفولته ويفاعته وفتوته وشبابه على عتبة الكهولة، وفي مماته و"ولايته" بعد اغتياله. وأقنعة "الابوات" (الآباء) و"الاخوة" و"الرفاق" تعويل على آت أو مستقبل جائز يصنعه هؤلاء من معدن الابوة أو الاخوة او الرفقة. وهذا على خلاف الاعتقاد بان الحوادث والازمنة لا صانع لها إلا ربها، رب العالمين. وقد يكون غروب الاعتقاد هذا وراء القرف من التاريخ العامي والحاضر. وهي ، الاقنعة، تعويل على ماضٍ جائز وحاضر غير مرئي، أي على طباق زمني متدافع هو محرك "الرواية" الطرابلسية.

ومدخل محمد أبي سمرا الى بحر الروايات هذا، او جسره إليها وآلته فيها، هو كتابة تروي كمن يشرِّع السمع لروافد الاخبار، ويستزيد منها، ويحبسها في مجاميع وراء سدود موقتة قبل أن يفتح السدود على الترع، والترع على السواقي، والسواقي على المشاتل والاحواض. فتسفر الحكايات المتلاطمة عن طبقات وأجيال وفروع وأوردة وافراد. فيمر "التاريخ" بمعسكر تدريب وقتال واحد مرتين: مرة في ستينات القرن العشرين تحت اسم "حطين" الفلسطيني، ومرة عشية الانقلاب من الالف الثانية الى الثالثة تحت اسم قاعدة "أبو عائشة" الجهادي البن لادني. وتروي الكتابة القصصية والحكائية، من غير قصص نمطي ولا حكاية آحادية الحاكي، على نحو ما تهجم المياه على أرض عطشى. وتشبك الحروبُ والاحياء والعائلات والمساجد والاسفار والاوقات والمنظماتُ القصصَ والحكايات بعضها ببعض، وتجمعها على الحاضر، وعلى عامية أهوائها وأقنعتها، وانقلابها من عالم المراتب الى العالم الجمهوري والديموقراطي، وعلى اشتهائها بعضها بعضاً من غير امساك. ويقتضي هذا لغة حربائية، على معنى قول ابن عربي لمريده: "اعرف ربك معرفة الحرباء"، بعيدة من سلاسة كتابة جبران خليل جبران "النبوية" والقصيرة النفس والمنطوية على دواخل وسرائر و"أرواح" ترفرف على ضفاف سواق من غير مخاضات، من صنف "الرسولة بشعرها الطويل" الى "الاخبار". وهذه مصلبية أخرى.

الأحد، 17 يوليو 2011

الحرسيّون يقاضون الجريمة والعقاب

   كان سواق السيارة العمومية الضخم الجسم والرأس، والفتي قسمات الوجه، يقود سيارته رزيناً مطمئناً، وفيها راكبان أحدهما الى جانبه (هو المسكين لربه)، يستغرقه كلام "سماحة السيد" حسن نصرالله، حين انعطف بالسيارة من ساحة "الاونسكو" مُصْعداً الى كورنيش المزرعة فثكنة الحلو فمارالياس. وكان الخطيب يتناول، في الاثناء، نقل هيئة تحقيق المحكمة الدولية تجهيزاتها من مكاتبها ببيروت، أو إحدى ضواحيها، الى مقرها بضاحية لاهاي. وكرر المحدث عدد "الـ97 كمبيوتر"، على ما قال متجنباً لفظة الحاسوب أو الحواسيب التي لم يتجنبها الشاهد المصوَّر حين دعاه المحدث الى الشهادة والصورة، مرات. وأردف خبر نقل الجهاز الالكتروني من طريق الناقورة البري، اللبناني – الاسرائيلي، ونبه الى التواء الطريق هذا قياساً على النقل البحري أو الجوي "العادي"، وطلب الى "الاخوة" ان يُروا المشاهدين السامعين والمستغرقين، على مثال السائق، قسيمة الجمرك الاسرائيلي، ورقم المستوعب المتسلسل، وتوقيع الضابط (غير المقروء؟) في أسفلها. وحين بلغ الخطيب هذا الموضع من خطبته، ومن برهانه الساطع والمتلألئ على جبلّة المحكمة (المحكمة الدولية الخاصة بلبنان ومحاكمة اغتيال رفيق الحريري وصحبه) "الاسرائيلية" والمتحاملة "حتى النخاع" على "المقاومة"، لم يملك السائق الضخم والرزين والفتّي الوجه إلا القول الخفيض والهامس: "كيف يعرفون كل هذا".
  وهو قالها محدثاً نفسه. وحين تلفظ أحد الراكبين بجواب عملي، وكأن السائل يسأله، أو كأن سؤاله سؤال حقاً وليس آية إكبار وتعظيم وتسليم خطابية، فقال (الراكب) أن القسيمة جزء من المحفوظات الكومبيوترية التي يسع "الاسرائيليين" دخولها ونقل محتوياتها ووثائقها وبثها الى الخارج، وقع الجواب العملي الموقع اللائق، بحر الصمت والغيبة المترامي. فالمستمع المصغي الى الخطبة "الساحرة" لا تختبر أذنه، وهو معها أو وراءها بكليته، صدق القول أو بنيته او قصده. ولا يدعوه القول اللجب والمتدافع و"المنظم"، والقرينة على نظمه "فهرست" الأبوابُ، او النقاط المتماسكة التي يقرأها الخطيب من ورقة أمامه ويذكر بمراحلها المدرسية الواحدة بعد الاخرى، لا يدعوه الى مثل الاختبار العسير والصاحي هذا. فما يريده الخطيب من خطبته، وهو انشأها على هذا المراد أو الغرض، هو انبهار المستمعين وتصديقهم، وهم جمهور و"جمع" على شاكلة "جمهور الست أم كلثوم"، وانتشاؤهم، وعلى حالٍ "جمهورية" أو "جمعية" نوامية (تنويمية ومغناطيسية) لا يبلغها إلا أصحاب المراتب والمقامات.
الواقعة الخرساء
  وعلى هذا، لا تصيب الردود العملية والمنطقية النثرية (على خلاف "الشعرية") على خُطابة الخطيب البليغة أغراضها. فهي (الردود) تُغفل اللغة التي يتكلمها، وأبنية هذه اللغة، ومسالك العبارة بها، وأمثلة الاحتجاج والبرهان. فشيخ الخطابة الخمينية والحرسية في لبنان والمشرق "العربي" لا تتطرق خطبه ولا سياسته أو سياسة جماعته المسلحة الى واقعة اغتيال رفيق الحريري، على المعنى المادي والمفهوم والسائر و"التافه". فالواقعة او الحادثة، على هذا الوجه، شأن صغير وضئيل يوكل الى أناس مثل (العميد السابق) مصطفى حمدان، يوم كان قائداً وسيداً على حرس (العماد السابق) إميل لحود وقصره، أو مثل (اللواء السابق) جميل السيد، مدير عام الامن العام من قبل وفي عهد العماد العتيد. وهذا الشأن لم يتناوله "سيد" الخطباء يوماً في عشرات الخطب والدورات (الخطابية) المسلسلة والمتلفزة، منذ غرة 8 آذار المجيد، "يوم الشكر"، شكر "سوريا" (الأسد ورستم غزالة).
  فهو حوّم وطوَّق وطار، وأطل على الحادثة من علياء إقليمية ودولية وتاريخية، وطواها في ثنية استراتيجيات كونية وأخروية لا يحاط بها عقلاً ولا نقلاً. وركب آلة زمان ترمح في مضمار مداه 300 سنة الى أمام وشهق علواً الى قوائم العرش أو غير بعيدٍ منها، وبعث موتى استشهدهم الشهادات والاخبار والآثار. ولكنه سكت، في هذا كله، وفي أثناء مئات الساعات الخطابية المصورة، عن الواقعة نفسها: كيف "التقى" القاتلُ قتيله أول ظهيرة يوم الاثنين الواقع في 14 شباط 2005، على رصيف انحناءة طريق أوتيل السان جورج المنعطف الى الشرفة البحرية أو كورنيش المنارة؟ ومن يكون القاتل؟ وكيف انتهت آلة القتل اليه؟ وكيف سبق قتيله الى كتف الطريق وناصيته؟ وأنّى له "العلم" هذا؟ والآلة هذه؟ ومن دبَّر "اللقاء" وضرب الموعد؟
  وإهمال الواقعة ومركبَّها العيني والمادي، ثم محلها من سياقة مادية ومبتذلة هي الاخرى تتناول الحلقات المفضية الى الحادثة (من تعقب "الصيد"؟ منذ متى؟ ما آلات التعقب؟ وما دوائره وحلقاته؟ وهي الاسئلة التي أراد النقيب القتيل وسام عيد والعقيد سمير شحادة فكها فقتل الاول وأصيب الثاني إصابة بليغة وقتل بعض مرافقيه)- هذا الاهمال ليس من قبيل السهو والغلط، ولا من عشيرهما أو اخواتهما نحواً ومنهجاً. وإنما هو سياسة أو "بوليتيكا"، على قول بعض اهل جبلنا الشمالي. وعمل خطيب المسافات الطويلة، والآماد الزمنية الأطول، لا يتصاغر الى تحقيق الواقعة، أو حملها على حقيقتها المادية الضئيلة. فهذه متروكة الى بعض "عمال" الامن وموظفيه ومحركي "بلدوزر" من هنا وموصلي شريط مسجل من هناك. فخطيب الخطباء يتولى عملاً شريفاً هو إيجاب الوقائع والحوادث وحقائقها، وإنشاؤها، او خلقها لو جاز القول ولم يخش القائل الشرك.
  ولعل هذا هو السر في اقتضاء عمل الخطيب الساعات الطويلة التي اقتضاها ايجابه واقعة اغتيال رفيق الحريري على نحو ايجابه اياها، من غير تناولها ولا التطرق اليها من بعيد أو قريب. وهو لما أراد الكلام في خريطة رواح الحريري ومجيئه، في "خطبة القرائن" والصور الجوية الشهيرة في صيف 2010، اختلطت طرق الخريطة البرية وتاهت، واحتدت زواياها المنفرجة وانطوت، على ما لاحظ أحد أصحابنا يومها. ولم يقع "محققو" المسلسل المصور، والباهر الصور (الاسرائيلية)، في ميدان الجريمة ومسرحها الا على "عميل" مفترض وهارب "مر من هنا"ك قبل يوم من الجريمة ولم يخلف أثراً غير بعث تشكك مرير لا يروي غليله سراب يقين أو دليل. فكأن الواقعة المادية تمتنع من كلام من جعل حملها (وفعلها) على غيره، هو وقبيله وعشيره و"طبقته"، شغله الشاغل ودأبه منذ 6 سنوات ونصف السنة تقريباً. وامتناعها من كلامه وبراهينه وحججه وصوره هو ثمن سعيه الممض في تبديدها وإخراسها والطعن في حصولها. وهو ثمن إقامة شيخ الخطباء الحرسيين محل الواقعة المادية المركبة البدائل التي أقامها، هو وقبيله، محل الحادثة: التحقيق الدولي، والقرار 1757، ومشروعية الحكومة وأعمالها، واستهداف سوريا، وحرب 2006، والقرار 1701، والتسييس، وشهود الزور، وإفشاء بعض الاسماء، و"القاعدة" المحلية، وطلعات الطيران الاسرائيلي، و"شبكات العملاء"، و"انتهاك الحرمات"، ومناداة السفير فيلتمان بـ"جيف" (أو "قرينة جيف" على ما سماها بعضهم) و"ويكيليكس"، وهو كثير، والفساد، الخ.
 الطياحة والحرب العامة
  واختلط حابل المسائل المتشابكة والملتفة بنابلها. ودارت حروب اعلامية وسياسية و"دستورية" وقضائية وعسكرية أهلية وإقليمية، يومية وموسمية، لا تحصر عدداً وموضوعات وترددات و"اشتراكات"، على المعنى الطبي. وغلب في اول الامر أسلوب أو نهج "الطياحة، وهي صفة حروب الخروج الاهلي على السلطنة العثمانية وباشواتها وولاتها في بلاد الاطرف والظواهر، على الحروب هذه. وتتوسل "الطياحة بالكمائن والبيات، او اللطو عند المنعطفات، والغارة والانكفاء وإماتة الجبهات واحيائها وتكثيرها وحصرها. وهذا كله، وغيره مثله، ظاهر في الحروب العصبية العربية و"الاسلامية" المحلية والملبننة جميعاً. وهو على قدر ما يرمي الى تشتيت الخصوم وإشغالهم وتسخيف أفعالهم وبرامجهم وقادتهم، يرمي، في آن، الى تصديع الحلفاء، والحؤول بينهم وبين الاستقرار على لحم جامعة تعلو الجماعات والقيادات وتستقل بنفسها. فينبغي، في ميزان "الطياحة" السياسية، ألا تستقوي جماعة أو طرف بمشروعية ترسو مباشرة على مرجع مشترك أو يقبل الاشتراك، شأن تقاليد تاريخية أو دستورية أو ثقافية متضافرة. والتقاليد الاهلية نفسها، درزية أم طرابلسية سنية أم كسروانية مارونية أم شيعية عاملية، أثارت حفيظة "القيادة" السورية ومن بعدها الايرانية على نحو ما أثارت حفيظة فلسطينية من قبل. فالتقاليد الاهلية توهم بمشروعية قائمة في نفسها وبنفسها. ويؤاتي هذا سعي "القيادة" العصبية العشائرية والاهلية الغالبة في التشتيت والشرذمة والاقتتال والتسخيف. ولكنه يخالف احتياج البيروقراطية البوليسية المركزية، وهي الشق "الثاني" من مباني السلطان القيادي، الى الارتقاء بحروبها المتناثرة و"الصغيرة"، وبجبهاتها المبثوثة في ثنايا الاجتماع الاهلي، إما إلى مستوى التمرد الاهلي العام أو الى مرتبة الحرب القومية (حرب القوم وليس الدولة "القومية" أي الوطنية) أو الاقليمية.
  واستجاب انشاء الجماعة الخمينية (ومن ورائها جماعتها الاثني عشرية الامامية) المسلحة والامنية في لبنان، وايجابها ايجاباً صناعياً وادارياً أي بوليسياً و"عقلانياً"، الداعي البيروقراطي المركزي. وأوكل بها سيداها أو راعياها، على قول مخفف، جمع "الطياحة"، على وجوهها ومستوياتها، الى الحرب العامة ووحدتها السياسية (الوطنية) والميدانية. وعلق السيدان، وهما تعهدا انشاء الجماعة الاهلية المسلحة معاً منذ 1978 – 1982 على أقرب تقدير، علقا الانشاء على الحروب الفلسطينية – الاسرائيلية وفروعها، وربطاه ربطاً وثيقاً ومحكماً بها. وكان التمهيد السوري والفلسطيني والاسرائيلي للميدان اللبناني سابقاً وفاعلاً. فالربط والتعليق القويان والعضويان يضمنان إقليمية الدور المنشود، ويسوغان أمام "الشارع" العربي والمجتمع الدولي الولاية العامة والمطلقة على "المنشأة" وشبكاتها (العسكرية والاعلامية والمالية والاستخبارية)، وعلى مسارحها غير المقتصرة على المسرح اللبناني والممتدة الى الكويت والبحرين والعراق والسودان ومصر ومهاجر اللبنانيين والعرب في الاميركيتي وافريقيا وأوستراليا.
  فانخرطت المنشأة الاهلية والبيروقراطية، على مثال "دولتَيْ" سيديها، في سياق استراتيجي وإقليمي سياسي عريض هي حلقة قوية من حلقاته المتفاوتة المتانة والتماسك. ويفترض هذا السياق، على ما يرى أهل الحل والعقد فيه، نزاعاً عاماً وشاملاً قطباه الغرب الاسرائيلي، وشياطينه الكثيرة، على احجامها وأدوارها المتصلة، و"الاسلام" الثوري والتحرري وشعوبه الصاحية من غفوتها وسباتها تحت اللواء الايرايني القومي – الامامي. وهو يفترض، من وجه آخر وملازم، تسييس النزاع العام وانتصابه ونصبه مجابهة مستميتة ورأسية بين "إيران الاسلامية" وبين "أميركا الصهيونية". وذلك على مثال مشهود وقريب هو "الصراع بين الاشتراكية والرأسمالية" الذي أوجبته السياسة الشيوعية والسوفياتية، قبل دخولها فصل نزعها الاخير، "سمة عصرنا". وهو مثال الحروب العالمية، منذ عهد العولمة الاولى في أواخر القرن التاسع عشر (وبروز الولايات المتحدة وألمانيا ندين لبريطانيا العظمى، واستواء الامبراطورية شكلاً سياسياً غالباً).
  ويفترض هذا المثال الحرب العامة في الخارج وحال الطوارئ في الداخل. والحرب العامة في الخارج تبعث أحوال "الطبيعة" وطبائعها، أي العدوان والهمجية و"شريعة الغاب" المفترسة. وعليه، فتمييز العدو من الصديق القليل مسألة حياة أو موت. و"المجتمع الدولي" ومعه "حق الناس" أي قوانين العلاقات الدولية في الحرب والسلم، كذب وتمويه وتلبيس، على ما لا ينفك فقهاء ايران وجنرالات باسدرانها ("حرسها الثوري") وباسيجها (متطوعو الحسبة والشرطة) ووكلاؤهم "العرب" يقولون. ويتابعهم على قولهم خليط لبناني معمم وحاسر، "مدني" وديني، طائفي وعلماني... وحال الطوارئ في الداخل، أعلنت أم ألغيت وسنت أم افترضت وخصت بمؤسساتها "القضائية الثورية" أم تركت للاجتهاد المأجور، تترتب على طباع بهائم "المجتمع الدولي" العدوانية، أو استباحته الداخل من غير اذن ولا دستور. والدعوة المريبة الى تقييد أجهزة أمن "الثورة" أو "الدولة" وضبط معاملتها الرعايا بمعايير وقوانين مدنية وقضائية، هذه الدعوة تصدر عن اغبياء ومغرضين خاسرين وذوي أطماع محمومة في السلطة والوراثة ("الطاغوت"). فالحرب الاهلية المستعرة هي مرآة حروب الخارج الملتهبة. ووصف هذا يقع عليه قارئ صحافة "خضراء"، على سمت ليبي قبل عقود وإيراني وارف اليوم ومنذ أعوام.
 

خروج القانون على السياسة
وحين تعلو أصوات بعض أصحاب القلوب الطيبة والسرائر البيض، وهم أصحاب طوايا سود من وجه آخر، فينفون التهمة عن حزب مظنوني تقرير "السيد" بلمار والتحقيق الدولي في اغتيال رفيق الحريري ورفاقه، ويحملونهم، وحزبهم العتيد وأميره، على البراءة – يضحك "الحزب" في سره وعلانيته ضحكاً قد لا يبلغ حد ابداء النواجذ، على قول بعض المحدثين وأصحاب السيرة، لكنه يحاذيه حتماً. فهؤلاء، 14 آذار وفرانسوا روه (رئيس مكتب الدفاع في المحكمة الدولية) وانطونيو كاسيزي (رئيس المحكمة ومنذ الخطبة العصماء وغير المعصومة طبعاً، "صديق اسرائيل العزيز" غيابياً) و"المجتمع الدولي" والسفراء - يحسبون في انفسهم وشرائع غابهم وسياساتهم القوة - على مقاضاة المجاهدين والشهداء الاحياء والذين قضوا وسؤالهم أمام هيئاتهم ودواوينهم السخيفة. فهم لم يفهموا أن التسييس ليس خللاً طرأ على عمل المحكمة من خارج، فهو في صلبها وطينتها. والالتجاء الى القضاء، بمعزل ومنأى مزعومين من النزاع السياسي العام على العالم، وافتراض حاجة الى القضاء والقانون والحق للفض في نزاع أحد خصميه ومتقاضييه "الثورة الاسلامية"، أو احدى ولاياتها أو أحد ولاتها وعمالها، يصدران (الالتجاء والافتراض) عن سياسة منحرفة ومنحازة الى الجاهلية أو "اليزيدية" وهي أدهى من الجاهلية وأفظع. وفكرة القانون، أو القضاء الذي "يعلو" المتقاضين، هي سياسة صليبية ويهودية مغرضة ومدلسة.
  فيذهب بعض ألسنتهم الوزارية المحدثة، من المحامين حرفة ومهنة، الى أن شرطهم على قيام محكمة تنظر وتقضي في قتل رفيق الحريري "سواء محلية أو دولية" هو "الاجماع الكامل" عليها، على نحو ما أن القاضي، على زعم التعريف العجيب والمبتكر هذا، هو "من ارتضى المدعي والمدعى عليه حكمه وقضاءه". ويستتبع الاشتراط العام أن القانون ليس ما يُحتكم اليه في المنازعة والخلاف، بل ما يرتضيه المتقاضون والخصوم وهم سواسية، عبدالله القاتل وعبدالله القتيل. وهذا قانون الطبيعة وقبائلها وعشائرها المتقاتلة "قبل" إجماعها، وهو الاجماع الاول والفريد والاخير، على انتصاب الدولة وقوانينها وحقوق المجتمع "فوق" المتخاصمين والمتقاضين. ويتحدد الشرط المعطل، والمبطل فكرة التشريع والقضاء من أساسها، من "الحكومة" (التحكيم) العشائرية والاهلية، ومعيارها عدالة الحكام القضاة في أنفسهم، وحكمهم وبصيرتهم وصدق حدسهم. وهو يتحدد كذلك من معايير التعديل ( الحكم بعدالة الشاهد أو المحدِّث وهو شاهد على القول) والتجوير (الحكم بالجور على الضد من العدالة) أو الجرح (الانتقاص من العدالة). ومبنى هذه المعايير على "نفس" المحكِّم القاضي، وعلى "نفس" الشاهد. وصبُّ المعممين ورجال الامن السابقين ورجال السياسة الحزبيين والحركيين وخطباء الجمعة والمحامين والصحافيين وسواقي السيارات العمومية، صبُّهم مطاعنهم على التشهير بمن يربطه خيط واهٍ بمقاضاة قتلة رفيق الحريري، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً (وهذا معنى "الاشارة الى "المحكمة المحلية")، واستنباط الرذائل والعيوب والانساب والاخبار وحملها عليهم يترتب على المصدر نفسه. والقول ان المحكمة مسيسة يريد به اصحابه ان المعايير الاهلية والقبلية العشائرية التي يُعملونها في العدالة، وفي الدماء على وجه التخصيص، لا تقر للحق والقانون، ولا للدولة المدنية ولا "الشرعية"، تالياً، بانسلاخها من حكومة الصلح ووساطتها.
  وحين يكرر "الابرياء من دم رفيق الحريري، على ما ينفكون يصفون أنفسهم فعلاً وحقيقة، أن تصديق تهمتهم، او حتى الظن فيهم، هو تبرئة ("مجانية") لاسرائيل، ومن ورائها وبين يديها امريكا، فهم يُعمِلون قسمة الحرب الاهلية والقومية والدينية (العالمية) في المسألة القضائية والسياسية المتنازعة. ورأيهم في المقاضاة هو رأيهم في الحرب المقيمة والمزمنة بين "حزبهم" على امتداد العالم، كما يحسبون، وبين "حزب" الاخرين، الاعداء من غير فرق. وهذه الحرب العامة سجال. وحزباها او طرفاها هما مثل كفتي الميزان الواحد. فإذا شالت كفة أو علت، رجحت الاخرى لا محالة. ومحصلة الحركة الواحدة والمزدوجة هي على الدوام صفر: فما "تكسبه" كفة "تخسره" الاخرى. و"سياسة المحصلة صفر" تطلق على مناهج سياسات ايديولوجية منكفئة وعاجزة عن الانخراط في دوائر اقليمية ودولية واسعة ومركبة يتنافس أطرافها وأفرقاؤها على مصالح مشتركة ومتضافرة في حدود متفاوتة. وسياسة الامن المشترك – على نحو ما اقتُرحت بين الحربين العالميتين وأدى اخفاقها الى انفجار الحرب الثانية، قبل العودة اليها غذاة هذه – هي من ثمار انتهاج خلاف "سياسة المحصلة الصفر" الصراعية والايديولوجية.
نفي الداخل
  وسياسة "مجتمع الحرب" التي تنتهجها الطبقة العشائرية العصبية والبيروقراطية الامنية في سوريا وايران، ووكلاؤهما المشتركين على هذا القدر أو ذاك في لبنان وفلسطين والعراق، لا يسعها الاقرار بدولة مدنية، غير أهلية، وليس في مستطاعها الانقياد لقضاء مستقل بقوانينه وعمله ومراجعه. فالجماعة المذهبية المسلحة، تربعت في السلطة أم استقرت جسماً أهلياً ملحقاً بسلطة يتولاها "رأس" الجسم المذهبي والبيروقراطي، تحمل علاقات المجتمع بالدولة الاهلية، العصبية والبيروقراطية البوليسية، على الحرب. فالمجتمع وجماعاته وطبقاته ونواحيه، إما ان يذوب في "الدولة"، وجهاز سيطرتها العصبي والامني، ويذعن لها، وينكر مصالحه المستقلة والمتنازعة، وإما أن يقوم عليها، ويجنح ربما الى نفي نصاب الدولة والوحدة السياسية الوطنية والمدنية. ويخيّر الاستيلاء العصبي العشائري والامني البيروقراطي المجتمع وجماعاته بين الامرين المرين العقيمين هذين. فإما الاستقرار أو السلم الاهلي في قبضة جهاز أمني وعسكري واداري يستقي لحمته الاولى والنواتية من غلبة عصبية جماعة المستولين، وهي عصبية مذهبية وبلدية وقرابية وسلكية مهنية وحزبية، وإما الحرب الاهلية والمذهبية المعلنة، على المثال اللبناني منذ 1982 وعلى المثال اللبناني – الفلسطيني في 1971 – 1982، والمثال الاردني – الفلسطيني في 1967 – 1971 وما بعدها على أنحاء أخرى.
  وهو الخيار الذي تحشر الجماعة الخمينية الحرسية المسلحة اللبنانيين بين دفتيه وشفرتيه. وذلك على مثال سوري أسدي عريق، ومثال عراقي صدامي يجاري زميله قدماً وعراقة، ومثال ليبي قذافي من الجيل نفسه، وعلى أنموذج ايراني خميني وحرسي يفوق المثالات الاخرى السابقة قوة وموارد وعرضاً. وهو خيار لم تنفك "القيادات" المستولية على هذه البلدان ومجتمعاتها وجماعاتها تجدده. وسلاحها الاول هو ارساء "الدولة"، أو نظام الاستيلاء، على الحرب الخارجية والاقليمية (و"الدولية" على سبيل الاستطراد المنطقي والذهني) وعلى ظلها الداخلي و الاهلي اللصيق. فلا سياسة داخلية، أي داخل الاجتماع السياسي والوطني الذي يضوي الجماعات، والحال هذه. ولا كلمات أو لغة ومفهومات تتناول علاقات الجماعات المتفرقة (الاهلية والاجتماعية والقومية) بعضها ببعض على وجوه هذه العلاقات الكثيرة، ولا علاقات الافراد، ولا علاقات هؤلاء وتلك بالدولة، بما هي سلطة وهيئات تمثيل وتشريع ومساومة وموازنة. والسكوت عن العلاقات المتفرقة ("المتعددة")، وحظر الخوض فيها إلا همساً (يروي أحد زائري تونس أخيراً أن أحد مضيفيه التونسيين وقف  أمام مبنى وزارة الداخلية ودل بأصبعه الى المبنى وقال هذه وزارة الداخلية! وأردف: لم يكن هذا متاحاً في عهد بن علي)، ليس إلا صدى حظر المعاملات والابنية السياسية والاجتماعية والحقوقية والثقافية التي تبلور علناً محل الدولة والسلطة والادارة من المجتمع وجماعاته، وتحكِّم في سبل البلورة،  والمنازعات والخلافات المشروعة عليها.
  والديموقراطية، وبالاحرى "التعددية" (وهذه تسللت أخيراً الى لغة فاروق الشرع وخطابته اللتين كانت "القيادة" تعلو سنامها المزدوج)، هي هذا، أي إرساء علاقات الجماعات والافراد والهيئات والسلطة على داخل وطني ومدني أولاً يفترض المنازعة والعلانية العامة والمشتركة. وقبل أن تُحمل الخلافات المتفجرة قتلاً واعتقالاً ولجوءاً وتظاهراً وحواجز وعيادات سرية وتهاتفاً مشفراً، على المصالح الاجنبية والاستعمارية، يقتضي الاقرار بحق المواطنين في السياسة الداخلية، والتحري عن أسباب الازمة الداخلية والسياسية (علاقات السلطة وموقعها من المجتمع وجماعاته). وهذا يعود عنه فاروق الشرع في الخطبة "التشاورية" و"الحوارية" الواحدة حين يشترط على "الشعب السوري"، أي على الحركة الوطنية المدنية والديموقراطية، تعاون "جميع أطيافه ومن دون أي تدخل أجنبي"، وحين ينسب "الجدل المحتدم بين الحل السياسي ... والحل الامني" الى "من لا يهمهم مستقبل هذا الوطن أو التغيير تحت سقفه... من دون أن يدركوا أن هذا يخدم مصلحة أعداء سورية في تقسيم الوطن". ويردد لازمة رئيسه في شأن لبنان (وفلسطين ومصر والاردن و... تركيا أخيراً):" ... ان استعانة العرب بالاجنبي واستقواءهم به لم تجلب لهم الحرية المنشودة وانما المزيد من فقدان الامن والارض". فالهرب الى "الاجنبي" نظير السكوت عن الحرب والانفراد والقهر والاذلال والمصادرة والتفريق والتذرير في الداخل، هو فعلاً استصدار ذاتي ومتعسف لبراءة همايونية، ومضي على السكوت القهري عن طبائع النظام العشائري – البيروقراطي.
  وإشاحة الجزء اللبناني المحلي من الجهاز الاقليمي العصبي والبيروقراطي (المستولي على ايران وسوريا) عن جريمة اغتيال رفيق الحريري (وولادة 14 آذار في اعقابها) هو من صنف إشاحة الشطر السوري اليوم عن نشوء الحركة الوطنية المدنية والديموقراطية في أنحاء سوريا وانفجار احتجاجها، ومن صنف المراوغة الحرسية و"الفقهية" الايرانية في "الحركة الخضراء" منذ أواخر ربيع 2009 الى اليوم. فـ"الطبقة الحاكمة"، على وجوه متباينة، في أجزاء النظام الاقليمي – الاهلي المتشابك والمتداخل تريد بقواها كلها استبعاد الداخل وعوامله ومشكلاته وأزماته، من دائرة التقصي عن وقائع "الجرائم" المرتكبة ومرتكبيها ومسارحها وسياقاتها. وإقرارها بدائرة من هذا الصنف لا تنحل في زيارة سفير أميركي من هنا أو برقية موفد غربي من هناك، يصدِّع البنيان السياسي الذي تسلطه "الطبقة الحاكمة" في المركز والولايات على رعاياها ومجتمعاتها وجماعاتها.
"طبقة" الجريمة 
والخطر الداهم في لبنان هو بلوغ "طبقة" الجريمة وراء أو تحت "طبقات" الاجراء، والتحقيق في وقائعها المادية وحوادثها، وليس في بعض الاجراءات والمراحل المفضية الى النواة. وفي هذا الضوء، الوطني المحلي والاقليمي والدولي، تبدو المحطات أو المراحل التي يشترط المظنونون، قضائياً ورأياً عاماً، اجتيازها قبل النظر في القضية – من انشاء المحكمة، ونظام عملها وملابسات اقرارها، وقبلها هيئة التحقيق الدولية ونظامها القضائي وتقارير المحققين وعمل المحققين اختيارهم، وقبلها القرار الدولي 1559، وبعد هذه كلها مسارات التحقيق ومادته وتسرب جزء من وقائعه...- هذه المخططات والمراحل حواجز صنع معظمها المظنونون أنفسهم، ورفعوها في الطريق الى النواة المادية. فالضباط الامنيون الذين تعمدوا إما العبث بمسرح الجريمة عبثاً مسرحياً ومشهوداً، أو دعوة التحقيق الى تعقب الشاب أحمد أبو عدس وتصديق قرينته وحمله على "الموت الامني"، معاً، هم من صلب الوكالة العشائرية - البيروقراطية اللبنانية. وعندما لم يؤدِ تعرضهم الظاهرُ التعمد للتهمة، وهم ليسوا جزءاً من تقسيم العمل الاجرائي والتنفيذي، الى تهمتهم بأدلة بينة، خرج شهود الزور المفترضون، ومعظمهم سوريون ومخبرون عاملون، وشهدوا بما يبدو محققاً للشهادات المجتمعة من السياسيين والمراقبين.
  فأدلوا بشهادات عينية عن اجتماعات ضلع فيها على زعمهم الضباط الاربعة. فأوقعوا التحقيق المستعجل و"الساذج" في شرك حاكوه، ودعوا الى حياكته، قبل أن يعلنوا على الملأ افتعالهم واحتيالهم. وكان بعض هؤلاء استعاده جهازه وحجبه، وبعضهم الآخر حمله تورطه المفرط وتوريطه غيره الى التواري. وربما ساعده على هذ سياسيون مستعجلون رأوا أن احقاق التهمة في متناول اليد. وأثمر تضافر العوامل والشراك والاعداد المحكم والمعقد للجريمة، تقنياً وسياسياً، الى توقيف "الاربعة"، تحميل المسؤولية عن التوقيف المستدرج، من غير أدلة قوية، الى التحقيق الدولي، ثم إلى شريكه اللبناني والى الفريق السياسي الاستقلالي. وحاز المظنونون، أفرقاء وأشخاصاً، "شهداءهم" وقميص عثمانهم. ونفخت حرب صيف 2006 ورياحها التي هبت استجابة لأغراض متفرقة، بعضها تضافر مع الغرض الذي رمى اليه اغتيال رفيق الحريري والاغتيالات المتصلة، في أشرعة المظنونين السياسية فوق القضائية. فاستكملت الاغتيالات، وتولت منازعات الكتل البرلمانية وحال الرئاسة الاولى (الممدة عنوةً) وتسويغ الاستقالات الوزارية، الطعن في صفة المحكمة، وفي اتفاقيتها وحيازتها الشروط القانونية. وانتهك أفرقاء المظنونين الاعراف الدستورية والقانونية والسياسية والنيابية والاعلامية انتهاكاً دعا الخصوم الى اطراح قيود غير ملزمة.
  وطعن تكتل "8 آذار" في سياسة الحكومة (الادارية) الامنية. وآية مطاعنه انشاء فرع المعلومات. فالتكتل المظنون رأى، ولا يزال على رأيه، أن الادارات جزء من حصونه، وآلة في حربه الاهلية والاستئصالية المعنوية والسياسية اذا امتنعت الحرب المادية والجسدية، على "العدو". فلما توسل "العدو" الحاكم بالادارة الى حماية نفسه، والى حماية اللبنانيين عموماً، وهذ أضعف حقوق اللبنانيين على "14 آذر" وعلى الدولة اللبنانية، شن تكتل المظنونين وحلفائهم الجدد حملة مدمرة على الدولة والادارة والمجتمع جميعاً بذريعة اضطلاع "14 آذار" بجبه المظنونين. ففرضت اضراباتهم العامة القسرية واحتلالاتهم، وقطعهم الطرق الى المرافق الحيوية، والصدامات الاهلية والموضعية المنظمة والمتدرجة، واستدراج الجيش الى المخيمات والاحياء وشله، وتواتر ضرب جديد من الاغتيالات اتفق واستخراج شعبة المعلومات ترسيم الاغتيال الاول وبعض الاغتيالات اللاحقة وشبكتي التعقب والتنفيذ اللتين تولتا العمل. وتوج اغتيال الضابط وسام عيد، مستخرج الترسيم، وقبله محاولة اغتيال الضابط سمير شحادة من شعبة المعلومات، السياق هذا.
  وكانت الجماعة الخمينية والحرسية المسلحة أرست شبكة اتصالاتها الخاصة، واستقلت بها على رغم الدولة. ووسعها اختراق جهاز اتصالات الدولة، والشبكات الفرعية، وجزء من الشبكات الاقليمية. وكان بعض دأبها أعمال تنصت واسعة وعميقة على اتصالات لجنة التحقيق الدولية، ثم على اتصالات مكتب المحكمة. واستدراج التحقيق من طريق الشهود المزروعين والمصطفين، ومن طريق التعرض المتعمَّد للتهمة، قد يدعو الى ظن الاستدراج في اذاعة بعض اسماء المظنونين المباشرين الاربعة من طريق الصحيفة الفرنسية "لوفيغارو" والاسبوعية الالمانية "دير شبيغل"، وضلوع أصحاب المظنونين في الافشاء. فتشابك الشبكات، واختراق بعضها بعضاً، واضطلاع بعض الصحافة بمهمات استخبارية وقيام بعض الاجهزة الاستخبارية بأعمال صحافية، وإقبال الدول والجماعات والاحزاب على الاستخبار والاعلام في بيئة تكثر فيها جبهات "الحروب" والتشبيه والتضليل على أنواعها، هذا كله يجعل من ترجيح جهة واحدة مصدراً لتسريب يجوز استعماله على أكثر من وجه، على ما يفعل خطيب الجماعة الحرسية، جزءاً من عمل حربي أو شرك منصوب.
  ويصح القول نفسه في ذيول التحقيق والمحكمة والمسائل المتفرعة عنها مثل محاولة سعد الحريري مصالحة رأس الجهاز الاسدي، وزيارته دمشق، وكلامه في "شهود الزور"، وقبوله خطة مقايضة الادعاء في القضية بـ"تمدين" الحزب المسلح وضويه في اطار سياسي ووطني خارج التسلط العشائري والبيروقراطي السوري. ولكن هذا لم يستقم في ميزان "مجتمع الحرب المستشري والمستميت. فالاقرار بصفة الواقعة، واقعة اغتيال رفيق الحريري وولادة 14 آذار" من حمل اللبنانيين الاغتيال على جريمة ارهاب سياسي، وبحقيقتها المادية وجواز الاحتكام الى هيئة قضائية دولية تتولى الحكم فيها، يفوق (الاقرار) طاقة الفرع الحرسي، ناهيك بالرأس أو الرأسين، على الاحتمال. وذلك الى أن تقوض الحركتان الوطنيتان والمدنيتان الديموقراطيتان بإيران وسوريا النظامين العصبيين والبيروقراطيين المتسلطين على الدولتين والمجتمعين ويقوض اللبنانيون حرسييهم المحليين. 

الأحد، 10 يوليو 2011

حوار مع اليد الدموية والغادرة؟

المستقبل، 3/7/2011

بينما كان نحو 200 معارض (ومعارضة طبعاً) سوري وسجين سابق في معتقلات النظام الاسدي وصاحب رأي يلتقون في فندق سميراميس بدمشق، في 27 حزيران، عقدت "هيئة الحوار الوطني" وأعضاؤها التسعة في رئاسة فاروق الشرع، نائب الرئيس، اجتماعاً آخر في مقر من المقرات الحكومية.

وفي أثناء الاجتماعين المتواقتين عمداً، والتعمد عملياً هو في يد السلطات ووسيلة من وسائلها الى دمغ اللقاء المعارض بمعنى تتوخى فرضه عليه – في الاثناء استقبل رأس النظام نائباً أميركياً ديموقراطياً هو دينيس كوسيتيتش وآخر بريطانياً محافظاً هو بروكس نيومارك. ونوه بيان رئاسي بزيارة النائبين، وتذرع بها الى تجديد مزاعمه في سياسته وأغراضه، والى الايهام بأن الزيارتين الفرديتين هما مرآة انعطاف سياسي وايذان بـ"مفاوضة" جانبية، على ما أوحى مساعد وزير الخارجية السوري الى بوق صحافي لبناني من أبواب الخدمة الكثيرة.

وأرادت بثينة شعبان، الاعلامية الاعلانية، الايحاء بأن تواقت اجتماعي بعض المعارضين وأصحاب الرأي و"هيئة الحوار الوطني" (المزعومين) دلالة عميقة ذهب صحافيون "مأذونون" ومجازون، إجازتُهم من مخدومهم، الى أن لقاء بعض المعارضين العلني معناه "الحوار ينطلق". وهو "الحوار" الذي ينسبه رأس الجهاز الامني العشائري الى نفسه وجهازه. فيزعم أن "الحوار الوطني بات عنوان المرحلة الحالية" – وهي مرحلة ابتدأتها كتابة أولاد درعا على جدرانها "الشعب يريد اسقاط النظام". واستأنفتها، فصلاً بعد فصل، تظاهرات المدن والارياف والدساكر والحارات، والتظاهرات في النهار والليل على رغم الحصار والتجويع وقصف الترويع الميداني والاعتقالات الجماعية والقناصة المتربصين والمروحيات المحومة في سماء محافظة ادلب والمتعقبة الهاربين الى الملجأ والمنفى التركي.

ويغفل التوازي الظاهر والمتعمد، بإراداة وتخطيط بوليسيين ومسرحيين، العنصر الجوهري والثابت وهو دوام حملة الاعتقالات الجماعية في جسر الشغور والقرى التي تحوطها و"فرار أهلها الى الاراضي التركية". وطاولت الاعتقالات، في اليوم العتيد إياه، 400 طالب بمدينة حلب الجامعية، "أحيلوا الى القضاء" (بعد التحقيق "الطاحن" معهم، على قول حسن نصرالله في عنجر، أم قبله؟)، وتهمتهم هي "الشغب وتحقير رئيس الدولة". والى الطلاب الـ400، أحصى جمال صائب، وهو معارض نزح الى تركيا، 500 معتقل آخر شحنوا في شاحنات عسكرية الى جسر الشغور، قبيل بلوغ صحافيي الجولة الاعلامية والديبلوماسية المدبرة البلدة، وحملوا على "تمثيل" أدوار الاهالي النازحين والهاربين، وملء المدينة الخالية والمقفرة بأشباه أهلها. وهو انجاز مسرحي وبوليسي آخر في سجل بيروقراطية أمنية وبوليسية تقرن العنف المتمادي بـ"المساخر"، على ما سمى بعض الكتاب العرب المسرح المملوكي.

فهذا اللقاء الدمشقي لبعض معارضي الرأي والقلم والموقف – وهم يجمعون مدد اعتقال تفوق عمر مدينة دمشق (نحو 3 آلاف سنة) -، أهو من تدبير المسرح البوليسي، ويعود عليه برداً وسلاماً وتسويغاً؟ وانقاد اليه "مثقفون" سذج لا يدرون ما يفعلون ويستحقون لوم تنسيقيات المتظاهرين على غفلتهم وحسن نيتهم؟ أم هو انجاز انتزعه المعارضون، ويعود إفضاله الى المتظاهرين والمعتقلين والنازحين، والى الجرحى المكتومين الذين لا يحصون عدداً، والى الورود الراعفة التي تفتحت في الحدائق السورية وتربتها الملونة والمخططة كأجنحة العصافير بالمطر، على قول ناديا تويني حمادة؟

والكلام في لقاء سميراميس بدمشق، والداعي الى تحفظ اتحاد تنسيقيات الثورة السورية عن "عقده تحت مظلة النظام" ("... وذلك من دون تخوين لأي من الاشخاص الحضور فيه"، على قول البيان مستدركاً ومتمماً)، هو كلام في ملابسات الانعقاد الذي تحكم فيه الجهاز البوليسي والعصبي. والملابسات هي الانعقاد ومكانه وعلانيته، ومن باب آخر بعض الغائبين ربما. وليس كلاماً في الحاضرين، وهم فوق الشبهة. ولا كلاماً في تقارير المناقشة والبيان الختامي والعهد الذي تعهده المشاركون وأخذوه على أنفسهم. وهذا ما لم يعب عليه اتحاد التنسيقيات غير صدوره عن اللقاء، أي عن ملابسات حصوله والتئامه.

وعلى نحو ما يستجيب اللقاء، أي ملابسات انعقاده، بعض دواعي الجهاز البوليسي والعصبي السياسية والمسرحية، يستجيب بيان اتحاد التنسيقيات الدواعي نفسها على وجهها أو مقلبها الآخر. فالبيان يقصد تبديد معنى (وهو ابتداء "الحوار" المزعوم الذي اضطرت السلطة الى اللغو به) يلوح الجهاز الاسدي به بينما هو يمضي على بث الترويع والقتل والارهاب والكذب في البلاد والناس. وتبديد هذا المعنى هو ما تولاه اللقاء في أعماله نفسها، وتولاه أصحابه وعاقدوه في أنفسهم، وهم ليسوا محل تشكيك التنسيقيات ولا تجريحها. ويبطل اللقاء معنى ابتداء "الحوار" المزعوم الذي تريد الخطب الرسمية حمله عليه، من طريق أخرى هي الانعقاد نفسه.

فلم يكن للقاء معارضين – لم يتستروا على رأيهم في الاستبداد الاسدي وقايضوا الرأي المعلن والصريح أعوام اعتقال- أن يحصل قبل تظاهرات الحركة الوطنية والمدنية الديموقراطية السورية، وثباتها وتعاظمها وتوسعها. والجهاز البوليسي العشائري والعصبي حين يجيز لقاء معتقليه السابقين، ومعارضيه المنددين بتسلطه واستيلائه ومصادرته المجتمع وجماعاته على حقوق أفراده الانسانية والمدنية والسياسية، هذا الجهاز انما ينصاع مرغماً وضعيفاً لميزان قوى جديد نشأ عن حركة السوريين الوطنية والمدنية. وفي وسع الحركة الوطنية والمدنية هذه ان ترى الى انعقاد اللقاء نصراً متواضعاً (قياساً على قيامها) وفرعياً أحرزته على سلطان جائر ومتناقض يفزع الى المراوغة والمسرحة ستراً لضعفه وكذبه وعماه.

ولكن الخلاف بين بعض المعارضين وبين اتحاد التنسيقيات لا يقتصر على وجوه تأويل الواقعة ومحلها من علاقة الحركة الوطنية المدنية بالجهاز المتسلط. فهو يتناول كذلك مسألتين رئيسيتين: الاولى هي ميزان القوى والمشارب داخل الحركة. وتتناول الثانية مسالك الخروج من الازمة السياسية العامة التي افتتحتها الحركة، وزج تكالب الجهاز البوليسي والعشائري الدولة والمجتمع السوريين فيها من غير احتساب طريق عودة. فقوى الحركة الوطنية المدنية ليست متجانسة ولا متناغمة. وهي مولودة من مخاضات وسياقات متفرقة، لم يتح القمع والشرذمة والتحجير والتحجر على الفروق والاختبارات، الـتأليف بينها. فيبدو بعضها (المدني "الخالص") متحفظاً عن بعضها الآخر (الأهلي "الاسلامي").

ويبدو الجناح الآخر، إذا صدق تبويب أو فرز الحركة المختلطة، مستلهماً ماضياً دامياً لم يصب الجناح المدني على نحو ما أصابه هو. وكلام الجناح الاهلي و"الاسلامي"، وهو الغالب على التظاهرات والتنسيقيات، على النظام المستولي وعنفه ومراوغته لا يقصد به حاضر النظام وحده. وهو يندد بماض يحسب الجناح الاهلي، على ما يفهم من بعض ألسنته، أنه لا يتقاسمه وسائر السوريين، مدنيين ومتعلمين ويساريين وناصريين على هذا القدر أو ذاك، قسمة عادلة. فهو يرى أنه هو الاجدر بحماية الامانة وتعهدها. وقد يحسب أن هذا يخوله "حصة" تفوق حصة غيره من الحركة.

وتتقدم مسألة الخروج من الازمة العامة المسألة الاولى، وهما متصلتان. فقد يحسب الجناح الاهلي أن تصدع النظام وانهياره يتوجان الازمة تلقائياً، وهما مفتاح حلها "الطبيعي" وتصفية ذيولها من غير بقية. والحسبان هذا، الى تفاؤله المفرط، يغفل عن أثمان التصدع والانهيار الانسانية والاجتماعية والاقتصادية والمعنوية الباهظة. ووحدها "قيادة" الجهاز البوليسي والعصبي يسعها، في ضوء التاريخ الفظيع الذي خلفته هذه القيادة في سوريا وفلسطين ولبنان، استخفاف الاثمان هذه. فالتصديع والانهيار، إذا لم تتدارك مخلفاتهما المدمرة والانتحارية جسورٌ ووصلات وقناطر تسوغ اختيار انصار الجهاز الباقين، قلوا أو كثروا، تكلفة أقل دماراً، تصورا في صورة المخرج الاضطراري والشمشوني. وهذا ما تريد "قيادة" الجهاز اقناع السوريين، والعالم أجمعين وفيهم المجتمع الدولي، به.

والحق أن اشتراطات لقاء المعارضين بدمشق على السلطة المستولية (الكف عن العنف والنار والقمع، والاقرار بالتظاهر من غير ترخيص، والاعتراف بالكيانات الحزبية والجمعيات القائمة من غير قيد ولا شرط، وإلغاء المواد "الفرعونية" من "الدستور"...) مقدمة لقبول الحوار، هذه الاشتراطات يترتب عليها نتائج سياسية كفيلة بإطاحة الجهاز من أركانه. فإذا عجز القمع الدموي والغادر عن ثني المتظاهرين عن التظاهر، فما هي حال التظاهر والمتظاهرين إذا ارتفع سيف القمع المرسل وغير المقيد عن الاعناق والصدور؟ وإذا أمسكت "قيادة" الجهاز المستولي عن المضي على تلبية شروط الحوار، وعمدت الى اسكات من أغضت عن لقائهم، كشفت عن كذبها، وفضحت ما تشتري به انتظار بعض القوى المحلية والاقليمية والدولية وترددها. وثبتت قذافيتها. وحقَّ إذ ذاك إنقاذ السوريين وسوريا من "قيادة" المَقاتل والحروب الاهلية والمعتقلات كلاً وجميعاً.

ضغينة "الدولة" العربية على المجتمع

(الى الصديقين النيرين والكريمين(

المستقبل - الاحد 12 حزيران 2011

علل الرئيس السوري، بشار الأسد، إنشاء هيئة الحوار الوطني في الفاتح من حزيران، بين جمعة "حماة الديار" وجمعة "أطفال الحرية" (والعَلَم عليهم القتيل حمزة الخطيب الدرعاوي الحوراني)، تعليلاً لازماً وذاتياً. فقال ان "هذا الحوار"، في إطار هيئة سمّى هو أعضاءها واختارهم وحده من أحزاب أو تيارات تشترك في "إدارة" البلاد تحت لواء الحزب الحاكم وقيادته "الدولة والمجتمع" منذ عقود طويلة، "أصبح ممكناً وقادراً على توفير نتائج أفضل". وأما السر في نجاعة "الحوار" اليوم وعقمه البارحة أو قبل البارحة، فليس إلا مجيئه "بعد صدور العديد من القرارات والمراسيم التي تسهم في تعزيز الوحدة، وتعزيز المشاركة...". فـ "الحوار" الرئاسي السوري، وهو ليس بعد إلا هيئة صادرة عن إرادة رئاسية وسلطانية تغرف من ديوان الخاص أو ممتلكات السلطان وحواشيه ودوائره، هذا "الحوار" لا يدين لغير الإرادة نفسها بحصوله في هذا الوقت. وما يسميه بيان رئاسي، أسدي كذلك، "الحالة الراهنة وما اتسمت به من اضطراب سياسي واجتماعي"، إنما هو ذريعة الفرمان المنقضية والمنصرمة، وليس الداعي الى "الحوار" ولا مسوغه الملحّ والسبب فيه.

فالرئاسة الأسدية تريد القول إنها لا تصدر، في حركاتها وسكناتها، إلا عن نفسها. ونفسها هذه هي قراراتها السابقة، ومراسيمها "الجمهورية" الهمايونية. فقبل يوم واحد من لقاء الأسد الثاني هيئة حواره، وهي في رئاسة نائبه ووزير خارجية أبيه منذ 1980 1984 وخارجيته هو الى 2006، مهدت الإرادة السنية لحوارها المزمع بإصدار "عفو عام عن الجرائم المرتكبة قبل 31 أيار". و "العفو العام" المزعوم وهو شديد التخصيص، ولا يطعن في مسوغات الأحكام التي يعفو عنها، ولا في الهيئات القضائية ومعظمها عرفي وأمني التي تلفظت بالأحكام، ولا في ظروف التوقيف والتحقيق والمقاضاة والإنفاذ ومعظمها حصل خارج الشروط القضائية ومقتضياتها هذا العفو مناورة سياسية وبوليسية ترمي الى استرضاء إسلاميين يظن الجهاز الأسدي أنهم يضطلعون بدور راجح في حركة الاحتجاج العريضة والوطنية التي تهز الجماعات السورية ومجتمعها.

وقبل نحو الشهرين صدرت إرادات همايونية أخرى. فقضت واحدة باسترضاء أكراد سوريا الذين استبعدهم إحصاء سكاني (بعثي) في 1966. وأقرت بنسبتهم وأهليتهم الوطنيتين، وما يترتب على الإقرار من إجراءات وخدمات، من غير التعويض عن خسائر رتبها إغفالهم وإنكارهم المتعسفان عليهم وعلى أولادهم وأحفادهم طوال ثلث القرن المنصرم. وكان قضى إجراء آخر، من الضرب نفسه وفي الوقت نفسه، بإلغاء أحكام الطوارئ الأمنية والبولسية. وسوغت هذه تصريف شؤون السوريين الداخلية والخارجية على طريقة وَلَدَت سنوات 1978 1982 الدامية، وكان شهر آذار 1982 في حماه ذروتها الفظيعة والباقية على الزمن. ولوحت "المستشارة" المثقفة بثينة شعبان ببعث الذروة المروعة الفصل الاول من الوقائع الدرعاوية. والمرسوم الذي ألغى احكام الطوارئ، الصورية والإسمية (فللطوارئ نفسها أحكام ظالمة لم يتقيد الجهاز الحاكم بها وانتهكها على الدوام)، أحيا قوانين سابقة استثنائية سنت غداة الكارثة الفلسطينية أو في سياقة حوادثها.

داخلُ الضرورة

فهذه هي المقدمات المنطقية والشكلية التي يخالها الجهاز الهمايوني "ضرورية"، ويعلق على "إنجازها" إنشاءه هيئته ولجانه ومؤتمراته وبت إجراءاته وقراراته. ويحسب الجهازُ أنه هو وحده مستودع الضرورة، ومصدر الإرادات والفرمانات. ولا يُسلّم لغيره أي جمهور السوريين، وجماعاتهم الأهلية والقومية والدينية، أو لأحزابهم السياسية ونواديهم وجمعياتهم المكبوتة، أو لروابطهم وأواصرهم وميولهم والتزاماتهم الإقليمية والدولية بجواز التأثير والفعل السياسيين أو الاجتماعيين او الثقافيين فيه هو، وفي سياسته وقراراته. وهو يتوهم انه مولود من نفسه، ومن عبقرية منشئه الخارقة والفريدة، وأنه سليل إرادته التي يدين السوريون (وهم في حسبانه "سورية" منذ أوغاريت الى فتح لبنان وبينهما حطين) بوحدتهم "القومية"، و "مجدهم" الدولي والإقليمي، ومهابتهم المفحمة، وإقامتهم على حالهم نصباً لا يحول ولا يزول.

ومثل الداخل المنفصل هذا، والقائم بنفسه والمتحدر منها، لا يلد حوادث "غير ضرورية". والحوادث المصطنعة وغير الضرورية هي تلك التي لا تولد من قرارات أو مراسيم أو أفكار همايونية. وهذه على الدوام مدروسة، وموقتة التوقيت الصحيح والدقيق، ومستوفية شرائط الاستقرار والاستقلال والكرامة المفتاحية. وهي ليست، قطعاً، بنت تظاهرات مدسوسة، وأعمال قتل وتخريب مأجورة وصبيانية، وإيعازات اميركية وصهيونية. فهذه تريد الحؤول بين "سوريا" وبين قيادة التغيرات العربية التي أسقطت أنظمة مسايرة وممالقة (على خلاف الممانعة) وكان يقدر لها ان تنصب سوريا (- الأسد) قطباً ومحوراً، على قول فيصل المقداد، أحد أركان الجهاز الأسدي ونائب وزير خارجيته، الى محطة تلفزيون أميركية. وزعم الجهاز السوري المتسلط أنه لا يستجيب "الضغوط" ("لا أحد يضغط علينا"، على قول عبدالحليم خدام حين كان في المعية المتربعة)، ولا يستدرج بـ "الجزرة"، وجه يلازم أسطورته في قيامه بنفسه وإرادته. وهو لا يتهيّب السؤال "المادي" والتاريخي عن ولادة القرارات والمراسيم بعضها من بعض: فإذا كان المرسوم مولوداً من مرسوم سابق، فممن أو ممَّ ولد المرسوم "الأول"؟ وهذا على مثال (سابق): إذا كانت الأفكار وليدة التربية وأفكار المربي، "فمن يربي المربي"؟

وانتصاب الجهاز الأسدي مصدراً و "أباً" أول، وفاعلاً تاريخياً غير مقيد بمجتمع، أو بجماعات (طوائف عشائر ومذاهب) وأقوام (عرب وأكراد وكلدو- اشوريين وسريان، على ملة مؤتمري أنطاليا)، وطبقات ومراتب اجتماعية (تجار من هنا وطبقات وسطى من هناك) لا يماشي فكرة أو مثالاً سارياً ومقبولاً، فحسب، وإنما هو عصارة تجربة تاريخية مديدة وراسخة في تقاليد سياسية واجتماعية وثقافية، عربية وإسلامية، عريقة ومتجددة. فالجهاز الأسدي "انقلابي"، على ما كان "الأستاذ" ميشال عفلق يقول في بعثه. وهو كان يعني ان الحزب السياسي غير التقليدي ينهض على إرادة "جيل عربي جديد" وشباب انقطع من "الانحطاط" (التجزئة القطرية وغلبة الاستعمار والفقر والجهل والمرض)، وصنع "مصيره" أو "قدره"، الوحدة والحرية والاشتراكية، بإرادته. وهو، من وجه آخر أقرب الى الوقائع، انقلابي على معنى تقني، عسكري وأمني بوليسي وميليشياوي، على وصف الروائي الإيطالي كروتسيو مالابارته.

وشرط الانقلاب، على المعنى هذا، وهو شرط حصوله وبالأحرى شرط نجاحه وبلوغه غايته واستيلاء أصحابه على السلطة ثم دوامهم فيها، هذا الشرط هو الخواء والفراغ الاجتماعيان أو المجتمعيان. فينبغي ان يحصل الاستيلاء بينما الناس نيام، ويغطون في سبات عميق، على قول تروتسكي المجازي. فلا يدعو "الناس" وهم مجتمع الروابط الأهلية والأهواء والمثالات السياسية والتاريخية والمصالح الحيوية والحاجات والسير الفردية (وهذه كله "تُترجم" كتل حارات وسكك وجمعيات وروابط وأحزاب وأصناف وحلقات شبيبة ومدارس ومساجد وكنائس ونقابات وقدامى هذا السلك أو ذاك...) لا يدعوهم داعٍ قوي وملحّ الى التصدي للمستولين، وانتزاع انفسهم من دعة الحياة العادية وأمنها الظاهر، وتكلُّف المحاماة عن معيار رابطة سياسية حرة ومشتركة ومضطرِبة تعريفاً. ولا يستقر قرار للاستيلاء على السلطة من وراء أظهر الناس إذا لم يبق الناس سادرين في نومهم وسباتهم، ولم ينازعوا "أهل القوة"، على قول عربي صريح وفظ، سلطتهم وانتصابهم "الدولة"، راعية الشعب والأمة والوطن. فتنوب "الدولة"، وهي في هذا المعرض جهاز القوة المستولية والحاجزة بين الجماعات ومجتمعها وبين إدراة شؤونها المشتركة والمتنازعة، عن رعيتها أو رعاياها، وتوحدهم في إرادتها، وتصهرهم كتلة صماء ومنقادة.

معيارية عنيفة

وعلى هذا، يتولى قطب السلطة المنقلب والمستولي التمثيل على استقلال "الدولة" ووحدتها وقوتها، وعلى مفارقتها المجتمع وجماعاته وطبقاته وأهوائه ومنازعاته. ولكنه يتولى كذلك تحطيم المجتمع وجماعاته، وتقويض أبنيته الموروثة والمحدثة، واستتباع هذه وتلك. والقسمة الفعلية والوظيفية، قسمة الدولة والمجتمع، صبغها الجهاز الأسدي في طوريه، أو مرحلتيه، بصبغة معيارية عنيفة، قولاً وفعلاً. فإذا مثَّل قطبُ الدولة، أو الجهاز الحاكم والمستولي، على الوحدة والقوة المجتمعة والعلو، واقتصر الأمر والإدارة من فوق والملك عليه وحده (شخصاً فرداً وأقارب صلبٍ وأعواناً وموالٍ وصنائع)، مثَّل قطب المجتمع والجماعات على التفرق والتشرذم والاقتتال والضعف والارتهان. وفي مقابل الواحد، المجتمع في نفسه والمولود منها، حَضَر مجتمع متناثر ومتشظٍ، حملته الجماعةُ المذهبية والسلكية (سلك الضباط) والاجتماعية (المتحدرة من الفلاحين وصغار المزارعين الجبليين) المستوليةُ على التحلل مذاهب وطوائف وبلاداً وأقواماً وأهالي وطبقات اجتماعية وأحزاباً متناحرة ومتحاربة. وهي تتعمد، اليوم، رده الى تحلله.

وبالغ الجهاز الأسدي في القسمة، وفي المعيارية، فربط "دولته" أو استيلاءه بقطب مجرد هو السياسة "القومية" والمناهضة للإمبريالية. وجمع الوجهين القومي والمناهض، مرحلياً و "أبدياً"، في مسألة فلسطين، وإدارة "الصراع" و"لعبة" الأمم" (الكبيرة) عليها وعلى مصيرها. ودولته، أو جهاز قوته المستولية والمتسلطة، هي الدولة السورية على الأراضي السورية. وهي من باب آخر وأوْلى الدولة العربية، ودولة الولاية على "القضايا" العربية في أقطارها الوطنية في انتظار الولاية على الأراضي العربية والرعايا العرب. ويقتضي تسويغ قسمة الدولة والمجتمع، وإرساؤها على معيارية قاطعة، كما يقتضي تعليق قطب الدولة على سياسة الوحدة القومية وخوض "الصراع الأممي" (على قول "القوميين السوريين" وراء الحدود وفي الشوير ورأس بيروت والبترون)، رمي المجتمع وجماعاته وانقساماته بأرذل النعوت وأحقرها. ويسوغ هذا، قبل الرمي وبعده وفي أثنائه، سوم الجماعات والانقسامات وسوسها بسياسة البهائم المتوحشة.

وعلى هذا الوجه، ليس لبنان "الطائفي" و"الانعزالي"، والمنقسم على نفسه منذ الأزل (وهو الكيان المحدث والمفتعل) حزبين متقاتلين واحدهما عربي قومي والآخر هجين وغربي الهوى على ما لا ينفك بشار الأسد يردد في خطبه كلها ليس لبنان هذا إلا تجسيد قطب المجتمع وجماعاته في مرآة "الدولة" الأسدية المتعالية والمفارقة المتخيلة. ويحقق لبنان، واللبنانيون بديهة، على هذه الصورة الكريهة والمخيفة والباعثة على قلق ممض وكابوسي يصدِّع الذكورة والرجولة، أضغاثَ "الدولة" العروبية. فهو يمثل على جواز أو إمكان دولة يقوم بإزائها وحيالها مجتمع منقسم ومتنازع، يقر بطوائفه ومذاهبه وشيعه ومناطقه وطبقاته وأحزابه وأهوائه ويشهرها على الملأ. ولا يحول هذا بين الدولة بين الحكم المتواضع والمجزي، ولا بين المجتمع وبين تجديد علاقاته المتقلبة والمتغيرة. ولم يحل بين الاثنين، الدولة والمجتمع، وبين تقييد واحدهما الآخر وموازنته، وإلزامه حدوداً لا يتجاوزها. فلم يسع جماعة أن تتسلط على الدولة، وتلحقها بمصالحها إلحاقاً متعسفاً وضيقاً. ولم يسع الدولة توحيد المجتمع وجماعاته قسراً أو شكلاً في حزب واحد ومستولٍ. فلم تتق الانقسام والترجح بين القطبين المتنازعين. وولدت الحال هذه حياة مضطربة، شأن الحيوات الحقيقية، ومتقلبة. وأوسعت المضمار للاضطراب والتقلب، وللابتكار المتلجلج، على قدر ما رغب اللبنانيون وأطاقوا.

ولا عجب إذا أنكرت "القيادات" الأمنية والعسكرية البيروقراطية والعشائرية "الحال" اللبنانية، على الصورة التي استوت عليها طوال نصف القرن "الكياني"، أشد الإنكار وأشنعه. فهي تطعن في مصالح "القيادات" وعليها، وتبرز خواء "دولها" وتآكلها وراء أقنعة القوة والجبروت. ولكن الإنكار لم يقتصر، ولا يقتصر، على "القيادات" هذه، وهو يتعداها الى المتعلمين والكتّاب والناشطين الثقافيين والاجتماعيين. فيكتب، على سبيل المثل، أحد أصحابنا في تعليل "إخفاق ثورة الأرز" (منذ خريف 2004 وشتاء 2005 الى اليوم) فيعزوه الى "عدم قدرة الائتلاف الطوائفي على تجاوز بنيته الطائفية، وميل الجمهور العريض الى تكريس الزعامات التقليدية، (وإلى) إخفاق ثورة الأرز في تقديم نخبة شبابية تستولي على القيادة السياسية بقدر ما تطيح بالولاءات التقليدية وتغادر طوائفيتها" (نوافذ المستقبل، 5/6/2011، يوسف بزي). وتكرر المقالة وهي يستولد "تعليلها" اللفظي النتائج (الطائفية) من المقدمات (الطائفية والتقليد)، ويفوِّت الوقائع الوسيطة وحلقاتها العقيدة "الفلسطينية التقدمية"، أو "الإسلامية التقدمية"، على ما سمي حلف المنظمات الفلسطينية المسلحة و"الأحزاب والقوى والشخصيات" العروبية المحلية في أثناء العقد الثامن (1971 - 1982) من القرن الماضي. وهذه العقيدة هي ركن سياسات الولايات والوصايات القومية العروبية والإسلامية، ومزاولتها السياسة على شاكلة العمليات الأمنية والبوليسية التي تشهدها اليوم درعا وجسر الشغور وحماه وحمص وبانياس والبيضا والرستن ودير الزور والحسكة والسويداء، الى ضواحٍ وبلدان أخرى كثيرة.

"السياسي"

ولعل حلقة الوقائع البارزة التي يفوِّتها أو يغفلها التعليل المفترض، اليساري الوطني والتقدمي، والنقد "الثقافي" السوري الرسمي والمعارض، هي حلقة الاستيلاء الأهلي والعسكري، الانقلابي و"المشترك"، الذي تولته القوى والمنظمات المسلحة "التحررية" و"القومية الوحدوية". فالحروب الأهلية في البلدان العربية المتفرقة، المعلنة والمستترة الدابة ("العاسة" على قول أحد أصحابنا)، انفجرت مع الاستيلاء الأمني العسكري البيروقراطي - العشائري، وتنطح قياداته الى القيام مقام الدولة والسياسة، وذلك من طريق شل المجتمع وجماعاته، والإبقاء على أنصاب وظلال منقطعة من الفعل ومتقوقعة على خوائها. وليس من طريق الاشتراك في أبنية مركبة يتولى أصحابُها المنازعة العلنية والتجريبية على تدبير علاقاتهم وتصور غاياتها. فـ "خارجُ" الطوائف استقر معناه الفعلي، والحال هذه، على الاستيلاء "البيروقراطي المركزي" (ماكس فيبير) والعشائري المذهبي والثأري. وسبقت بشائرُ هذا "الخارج" في سوريا والعراق ومصر و"فلسطين" (الشتات الداخلي والعربي)، وبعض دول الخليج وشمال افريقيا، نظيرها اللبناني الذي حملت عليه: فقيل انها "تلبننت".

والإنكار على لبنان الطائفي، شأن الإنكار على التعصب السني السوري وعلى التشيع العراقي الشعوبي ألخ.. ومعارضته بخارج وطني أو قومي مزعوم، قُصدت بهما (الانكار والمعارضة) من غير شك "الساحة اللبنانية"، ومعتركها وروافد المعترك العروبية والإسلامية. ولكن "الساحة" نُصبت آيةً على مصير المجتمعات (وجماعاتها) العربية الأخرى، وعبرة لها، إذا هي لم تسلس أمرَها الى "القيادات" البيروقراطية العشائرية المستولية على السلطان والموارد. وساند "العرب" هذا التزوير الى وقت قريب. وعلى مثال مسرحي وجدلي بارع، لا يشوبه غير الإفراط في الافتعال البوليسي، حُملت الحروبُ الملبننة، وفاتحتُها الفلسطينية والعربية الصريحة والفاضحة، على حادثة داخلية محض حبل به تاريخ الجماعات اللبنانية منذ دبيبه الأول وحبوه. وحُملت مدافعة (بعض) الداخل، وجبهه الحلف المسلح والمشترك، على "التصهين" و"التأمرك" قبل ان يجتمعا في "صهيو أمركة" تفجر الضحك الأصفر.

ولا ريب ان هذا السياق لا يعذر، لا من قريب ولا من بعيد، مقتلة محمد عقلة "الإخواني" في تلامذة أكاديمية حلب العسكرية (1977). ولكن المقتلة المشينة، شأن تهجير الكرنتينا و"احتلال" "القوات اللبنانية" الشوف، لا تسوغ حمل روابط الجماعات الأهلية الدينية، وعصبياتها او ملاجئها الدفاعية، على الشر المستطير والوجودي. فهي ليست هذا إلا في مرآة الأجهزة المستولية، الصدامية والقذافية والأسدية والجبريلية والعرفاتية والحزب اللهية... والدعوة الى نصب التماثيل في بيروت وأسواقها، رداً على الكنائس والمساجد ونقضاً عليها على ما اقترح داعية سوري مترجح يصفه بعض الاوروبيين بـ"الكوسموبوليتية" -، وعلى منوالها الحملة الأخيرة الكاريكاتورية في سبيل إسقاط النظام الطائفي (اللبناني حصراً)، شاهدان على خواء المخيلة السياسية و"الشاعرية" التي تحدو الى اليوم، الخروجَ من الطوائف. فمقصد الخروج هو الى القيادة البيروقراطية والعشائرية، من طريق "فلسطين" وديربان (1 و2 وقريباً 3) و "النبوة المستمرة" و "الروحانية السياسية" و"المقاومة"... وأما "الشباب" فكان صدام حسين علماً عليه: فهو كان في الواحدة والثلاثين في 1968 الميمونة، وكان "رفيقه" حافظ الأسد في الأربعين حين تصدر "التصحيح"، وهو صحبه صحبة رعاية وتربص منذ 1963 (وكان في الثالثة والثلاثين) وغيرهما مثلهما. ودعوى الاقتراع في الثامنة عشرة صاحبها هو بعض أعتى الخيول الهرمة والمتصابية.

ولا يقطع هذا دابر "نقد" الطائفية. ولا يُسكت، بالأحرى، النازع الوطني المدني والديموقراطي الدستوري. فالنقض على الدولة، وعلى انتصابها تمثيلاً رمزياً وليس مادياً على وحدة الجماعة الوطنية، هذا النقض لا يسوغ الحط بالمجتمع وجماعاته التاريخية الى مستوى الغريزة والبهيمة. وهاتان "علاجهما" القتل والاغتيال والاعتقال والقيادة المستولية والسيادة الفصامية. فالسياسة، أو ما يسميه بعضهم "السياسي" ويقصدون به تصريف القوة وأبنية الإنشاء والموازنة الركنية، تصورت الى اليوم في مجتمعاتنا العربية في صورة القيادات المستولية والقاهرة. وأناطت هذه القيادات وحدة المجتمعات الوطنية باستيلائها وقهرها. وحظيت ببعض القبول والتسليم لقاء السمت "القومي" الجامع الذي رسمته على وجهها. ولكن تحطيمها المجتمع وجماعاته لم يرم الى إرساء التوحيد السياسي على قاعدة اجتماعية عريضة ومتصلة. ورمى، حقيقة، الى إنكار السياسة، وإنكار الرابطة، أو الآصرة السياسية الفاعلة والمؤثرة، على المجتمع وجماعاته الأهلية. فعلى زعم القيادات البيروقراطية العشائرية، لا ينتج المجتمع إلا طوائف متناحرة. والبرهان "لبنان". واليوم، البرهان هو "الجماعات الإرهابية المسلحة" و "اغتيالات" رجال الأمن في المدن والبلدات السورية. والحركات الوطنية المدنية والديموقراطية الدستورية، العربية، حركات سياسية في المرتبة الأولى. وعلى عاتقها التمثيلُ، للمرة الأولى ربما، على إنشاءٍ سياسي ليس شرطه إرساء السيادة او الولاية على أنقاض الجماعات وخوائها، ولا حل الجماعات في "جسمه" وفي إسمه، ولا إسكات المنازعات تحت كتلة ساحقة من الاجهزة والعصبيات.