الثلاثاء، 16 مارس 2010

الحادثة الإرهابية في رواية جون أوبدايك الأميركية

عمل الرواية يبني الحادثة وأصحابها ومسارحها... تخصيصاً وتوسيطاً واستعارة فارقة
المستقبل 14/3/2010

يروي جون أوبدايك (1932 – 2009) في "رابّيت مدرَكاً"، 1971، حادثة قتل إرهابية غير متعمدة. والحادثة اقترفها في ولاية تقع بوسط الولايات المتحدة، في 1969، أشباه من كانوا يقتلون السود في الخمسينات والستينات المنصرمة، في ولايات الجنوب الأميركي، من بيض الطبقات الوسطى و "حلفائهم" وأنصارهم ومأجوريهم المرتثين، والزائلين عن مرتبة مضطربة، وعلى شاكلة قتلهم. وعلى هذا، فإرهابيو الرواية الأميركية الكبيرة ليسوا السود، ولا المهاجرين الجدد، ولا مهاجري الجيل الثاني – بل الرابع، على قول فيليب روث في "(موسيقى) ريفية أميركية" – ولا "العرب المسلمين الأميركيين". وغداة 35 عاماً على روايته هذه، يتناول أوبدايك في"إرهابي" (2006) قصة الفتى التلميذ أحمد عشماوي، المولود من مصري مهاجر ومن ممرضة أميركية شقراء، وإعداده تفجير شاحنة في نفق بضاحية نيوجيرزي. وبين روايتي جون أوبدايك، يقص فيليب روث، في الجزء الثاني من "ثلاثية" ضعيفة الأواصر، نشر في 1997، انخراط ميري ليفوف، بنت سيمور ليفوف "السويدي" وارث مصنع القفازات في نيوارك، في حرب السود على البيض تحت لواء "الفهود"، وقتلها عمداً نساء صادفتهن في "عمليتها". وعلى جهة ثقافية وجغرافية بلدانية وتاريخية بعيدة، عمد علاء الأسواني، "بناية يعقوبيان" (2002)، الى تعقب انقلاب طه محمد الشاذلي من طالب جامعي قصارى أمنيته لباس بزة شرطي الى جهادي مقاتل، من غير ان يقصر تعقبه على الانقلاب هذا.
وتناول قتل إرهابي في رواية، أو عمل روائي، قد يكون امتحاناً روائياً قاسياً. فحمل الجريمة على فاعلها يدعو الى اختصار هذا الحمل في علاقة سببية. وتبدد العلاقة السببية، وما يكتنفها من تعليل نفسي تحليلي (فرويدي) وثقافي ويلابسها من اسباب اجتماعية، الحادثة الروائية. فتنخرط هذه في "سلسلة الوقائع" المولود بعضها من بعض ولادة يستوفي "ولدُها سرَّ أبيه". وعلى هذا، تخرج الحادثة عن سمت الولادة، وعن إضمارها ابتداءً يحيط سلفاً بأقدار المولود ومصائره. والمقارنة بين روايتي أوبدايك، ورواية روث على نحو أضيق، وبين قصة علاء الأسواني، تختبر "عمل" الرواية في مادة الإرهاب، وإنشاءها المادة هذه إنشاءً روائياً، من غير زعم ان المقارنة تحتمل الإفضاء الى استخلاص ما يشبه منهجاً أو طريقة. فهي (المقارنة) ليست معيارية، ولا هي مقايسة أو حملاً على قياس أول، بل هي وصفية وتشريحية ووظائفية، أو هذا سائقها من غير ادعاء انها وفت به والتزمته. والجزء الأول من المقارنة هو بعض عمل في إطار IFPO (المعهد الفرنسي للشرق الأدنى) رعاه فرانك ميرمييه F.Mermier، مدير المعهد السابق.

الإقبال على الالتباس

وتروي "رابّيت مدرَكاً" قصة متماسكة، "بدايتها" القصصية المباشرة، وذريعتها، انفصال هارولد انغستروم وجانيس سبرينغر، وترك هذه زوجها، عامل الرينيوتيب في مطبعة قادمة على صرف بعض أعمالها، الى عشيقها. فيسعى الزوج في امرأة تشاركه فراشه، في انتظار عودة زوجته التي يراها وشيكة. و "يقع" على جيل بيندليتون، المدمنة والهاربة من امها وزوج الأم، وعلى سكيتير، وسيطها الأسود و "مرشدها" الفكري وقوادها. ويحل هذان في ضيافة العازب الموقت على مرأى من ضاحية البلدة وأهلها الجدد والمحافظين. فيريد بعض هؤلاء تأديب المضيف على استضافته نواة "القبيلة" الهيبية، ويوعزون بحرق مرأب المنزل أو يتولون الحرق بأيديهم. فتقتل الصبية في الحريق الإرهابي والمفتعل. ويهرب الوسيط الأسود من التهمة. وتروع الحادثة الزوجة، وتخيفها على ابنها، وفي الأثناء يهجرها عشيقها المريض، فيعود الزوجان واحدهما الى الآخر، أو الى فراش مشترك في غرفة موتيل بضاحية البلدة. وإيجاز القصة على النحو، الأمين، هذا يعريها من معظم ناسها وتواريخهم، ومن معظم الأفعال وسياقاتها، ويسكت عن الدواعي كلها، وعن مصادرها ومواردها، وعن المقالات ولغاتها، والأماكن وخرائطها. ويبدد الإيجاز الفرادة والتواتر على قدر ما يبدد المفاجأة والتوقع، وصدورَ الحوادث عن المنازع القديمة ونجومها عن ظروف طارئة، معاً.
فحين يسأل شرطي يتولى التحقيق في حادثة الحريق المفتعل الذي أودى بالصبية جيل بيندليتون، الضيفة على هاري (هارولد) آنغستروم، الملقب برابّيت، عن الشاب الأسود الهارب، وهو الضيف الثاني في منزل هاري، والمظنون في الحريق المفتعل، يسأله: هل كان الشاب الأسود، هيوبرت جونسون المدعو سكيتير، يرهبكم؟ يجيب صاحب البيت ومضيف الصبية والشاب: "لا، كان يسلينا". وسؤال الشرطي المحقق – وهو يبطن تهمة بالإرهاب تقع على شاب أسود سبق ان حارب جندياً في فيتنام، ويتناول المخدرات الثقيلة ويتجر بها، ويخطب خطابة حادة ومتصلة في حقوق السود ويصور نفسه "مسيحاً منتظراً" – صدى مباشر وآني للوقت الذي تحصل فيه حوادث رواية جون اوبدايك "رابّيت مدرَكاً" ووقائعها، أي صيف عام 1969 وخريفه. ففي الأشهر الخمسة أو الستة الأخيرة من العام وقعت حوادث عرقية في بعض مدن الولايات المتحدة الأميركية، أبرزها مدينة يورك، رددت أصداء اغتيال مارتن لوثر كينغ في اوائل نيسان (ابريل) 1968 في مدينة ممفيس الجنوبية، وخلفت 46 قتيلاً ومئات الجرحى. واتفقت حركة السود الأميركيين على وجوهها المتفرقة، المدنية السلمية والأهلية أو القومية المسلحة والاجتماعية العمالية والثقافية الحياتية اليومية، مع الاحتجاجات الطالبية العريضة على حرب فيتنام والتجنيد الإلزامي، وشيوع مذاهب موسيقية وغنائية ومسرحية واستعراضية احتفالية تؤدى على مثال الشعائر الجماهيرية وتمزج الغناء والموسيقى والرقص بتناول مخدرات وجهر صور "الحب" على الملأ.
ويربط سؤال الشرطي الحادثة الجرمية الملتبسة، أي قضاء الفتاة البيضاء الفتية والهاربة من دار أمها الثرية في حريق منزل تركته صاحبته وألجأ إليه صاحبُه "العازب" الصبية التائهة والشاب الأسود الهارب، بجملة حوادث ووقائع خاصة وعامة، معاصرة ومتواقتة. فالإرهاب، أي تقصد القتل بواسطة الحريق المفتعل، جريمة يحملها الشرطي، وهو الرجل الأبيض المحلي الأشيب الشعر والمتخفف من شارة سلك الشرطة والمكسور الأنف، على فعل يرتكبه مظنونون يدخلون في باب أو فئة. ولا ريب في أن شاباً ملوناً ومن غير عمل ومطلوباً بحيازة مخدر وهارباً متخفياً، يسلك طريقاً لا التواء فيها الى باب المظنونين وكتلتهم. فهو، على قول الشرطي، من سود برِيوير، المدينة الصغيرة التي ولد بها هاري انغستروم ونشأ ويعمل ويقيم ومنزله المحترق بضاحيتها الجديدة، بينْ فيلاس. وسود بروير متصلون، على معنى المواطأة، بسود فيلادلفيا وكامدين ونيوارك، معاقل حركة السود الناشطة القريبة والكبيرة. وراقبت الشرطة سكيتير، المتنازع الاسم بين هيوبرت جونسون وبين هيوبرت فارنسويرث ومن غير هيوبرت في الحالين، وهي على علم بضآلة شأنه ومرتبته. ولكنها أملت في تعقب خطوه الى الكتلة ذات الشأن، والعالية المرتبة في العالم المضطرب بضاحية "الحدود والقوانين"، على ما شعر نلسون، ابن هاري، وهاري نفسه من بعد ("أحس في نفسه تعاظم ما يشبه موجة أو كتلة من عشق القانون"). والواقعة الأخيرة في جملة الوقائع العرقية الملونة التي تقود استدلال الشرطة ومحققيها هي حادثة يورك. ويستدرج المحقق مضيف الصبية التي قضت لتوها احتراقاً، الى متابعته على رأيه في الاضطرابات العرقية، والاجتماعية والسياسية و "الثقافية"، فيخاطبه بسؤال ليس سؤالاً: "لا نرغب هنا في حصول يورك أخرى، على ما أظن؟" وكانت يورك مسرحاً لهرجة أهلية ملونة أطلق سود مسلحون في أثنائها الرصاص من بنادق ومسدسات، واختلط فيها "السياسيون" الناشطون والمنظمون بمروجي المخدرات والبطالين والمسجونين السابقين. والخليط هذا، شأن ما يشكل تمييزه وتبويبه على القانون ورجاله وذراعه، يخشاه رجال الشرطة. وهو مزلق الى التباس الوقائع والفاعلين والنوايا وضياع حدودها ومسالكها، وتالياً الى اضطراب أحكامها.
ويقبل الروائي إقبالاً قوياً، يكاد يكون محموماً على الالتباس الذي يخشاه الشرطي ويعلم انه لا مناص له من الخوض فيه من غير رجاء تركه والتخفف منه، فهو مادة عمله وطينة الحياة التي يعالج عمله بعض شرائحها وأحوالها. وشرطيه، شرطي الروائي – شأن هاري بطله ونلسون ابن هاري وجيل القتيلة حرقاً وسكيتير أسوده وغيرهم – يتحرى وجه الإرهاب، من طريق سؤال صاحب المنزل المحروق عمداً عن ترهيب الشاب المتواري مضيفَه الغريب، بين وجوه أخرى جائزة، تجوِّزها جهات هبوب الحوادث ومصادر هذه الحوادث ومسالكها الظاهرة. فهو يستجوبه (أي يطلب جوابه)، قبل الإرهاب، عن علة المادة الحارقة في مرأب السيارة، وعن حيث كان ساعة ارتكاب الجريمة والذين يسعهم إثبات صدق قوله وذريعة براءته، على رسم تدرج تحقيق أولي في جريمة "عادية" (إذا جازت الصفة). وينتقل الى باب سؤال آخر، أكثر تخصيصاً من السؤالين العامين الأولين، يتناول استضافة رابيت الشابة الفتية وصديقها الأسود الهارب. وفي الأثناء، بين السؤال عن مكان الرجل حين شب الحريق القاتل وبين طلب السبب في الاستضافة والداعي إليها، يُعلم محققون على طرف الهاتف سيارة الشرطة الآخر المحقق بثمرة تحريهم صدق زعم هاري وتصديق الزعم. ويستقوي المحقق بالتصديق. فيطرح على المضيف وملجئ القتيلة والهارب سؤالاً يتناول خصوصية غامضة أو مشبوهة، وداعياً جائزاً الى القتل: قد تكون القتيلة حاملاً من مضيفها وأراد هذا التخفف منها، ومن جنينها، فأشعل النار في منزله وقتل مضيفته "الثقيلة"، وأشبهَ معظم الذين يفتعلون تحريق منازلهم عمداً (والملاحظة الإحصائية هذه يدرك رابّيت مغزاها تلية وقت قصير حين يخبره شرطي آخر هو حارس المنزل ان التأمين يعوضه خسائره كاملة" ما دام العقار اشتري من طريق التسليف). فيجيب ان الشابة كانت، شأن بنات وقتها ونسائه مذذاك، تتقي الحمل و "الوقوع" فيه، بواسطة حبوب تحول دونه. ولا يحتاج المحقق الى جملة ثانية تشرح الأولى، وتعقّب عليها. فيدعو محادثه الى التكلم في حالها، وفيما انتهى بها وبالشاب الأسود إليه هو، وإلى منزله وضيافته.

التعريف البوليسي الثقافي

وتوجز الإجابة المقتضبة ما ربما لم يعمل المضيف فكره فيه من قبل. فلا يرى مسوغاً لاستضافته الصبية اليافعة والتائهة، ومدمنة المخدرات الثقيلة وداعية سلام الكائنات الصوفي، غير مغادرة زوجته منزلهما، ولحاقها بعشيقها اليوناني الأصل شارلي ستافروس، الموظف في وكالة أبيها بائع سيارات "تويوتا" اليابانية في السوق الأميركية (وهذا من سمات العصر وقسماته الاقتصادية والاجتماعية). ولم يكن هاري رأى رأياً آخر يوم دعاه أحد زملائه السود في المطبعة التي يعمل فيها جنباً الى جنب مع والده، قبل نحو خمسة أشهر، الى الخروج من انكفائه المفترض على نفسه جراء ترك زوجته منزلهما، وعزيمته الزميل على موافاته الى مقصف وناد ليلي يرتاده السود، لعله يقع على امرأة يضاجعها وتضاجعه، ولوح الزميل الأسود بهذا من قبيل الوعد، وتحل محل زوجته على ما يليق برجل في مثل حاله. فجيل أشبه ببديل من غائبـ(ـة). وهي جرّت الى المضافة صاحبها الذي علقته وعلقها، وكانت الماريجوانا ومن بعدها حقن الإل إس دي صلة عقدهما المدمرة. ويوضح المضيفُ للمحقق ان طرده سكيتير، لو عزم على طرده من بيته، لم يكن ليبقي جيل وحدها في ضيافته ويفصل بينها وبين صاحبها، ولكانت لحقت به وهو واسطتها الى الماريجوانا والحقن في العروق. وعلى هذا، فالضيفان نزلا في ضيافته من طريق فجوة خلفتها المرأة وراءها حين غادرت البيت ولحقت بعشيق "رد(ها) الى نفسـ(ـها)" و "جلا(ها) على حقيقتـ(ـها)"، على قولها في لغة الوقت النسوية، ورطانته السائرة والشائعة.
وكان شرطي أول التقاه صاحبُ المنزل وولده حال وصولهما الى المنزل المشتعل – بعد دقائق من مهاتفة سكيتير الهارب هاري المدعو الى عشاء ببيت بيغي فوسناشت الجارة والصديقة، وإبلاغه خبر الحادثة قبل هربه – تولى تحقيقاً أولياً في الهويات وتعريف الأشخاص، بحيال الحريق وإزائه وفي وسط الفضوليين المتجمهرين وجلبتهم ولغطهم. ويعدّ صاحبُ البيت، وهو ينظر الى الحريق والإطفائيين ويداري غضب ولده منه وتهمته له بتخليه عن جيل الى سكيتير وتركه حمايتها منه، قاطني البيت المنكوب ونزلاءه، ويحصيهم ويعرّفهم اسماً وسناً وجنساً وصفة، على مسمع من الشرطي المدوّن. وحين استيفاء التعريف الأولي، وظهور غرابة الجمع في المنزل الصغير بين رب الأسرة وولده الفتي وبين الشابة الفتية والشاب الأسود، من غير معرفة وثيقة ولا صلة صداقة أو قرابة، يفترض الشرطي المدون ان الجمع المتباعد هذا لا يفهم التئامه إلا على مثال رهط المساكنة "الجنسية"، أو قبيلة المساكنة، الذي شاع في شباب حركة الاحتجاج على الحرب الأميركية وجمهور "الثقافة النقيض" واستعراضاتها ومشاهدها واحتفالاتها. فيخلص المدون من تعريف الأربعة – انغستروم، وولده نلسون المولود لهاري انغستروم وجانيس المولودة سبرينغر الغائبة، وجيل بيندليتون المؤودة في البيت المحترق والقادمة من مدينة ستونينغتون بولاية كونيكتيكيت، والمدعو سكيتير ربما فارنسويرث على ما يظن هاري وربما اسم آخر من بريوير نفسها – يخلص الى ان رابطتهم هي رابطة مساكني رهط أو قبيلة. وقوام الرابطة هذه هو تداول الأقران والأزواج والمضاجعات وتعاطي المخدرات، والتعيش من الاحتيال على "الرعاية"، والإعداد للاحتفالات "القبلية" المشتركة والتظاهرات "اليسارية". ويرد هاري تهمة الشرطي المدون، أي حمله اجتماع الأربعة ومساكنتهم على مساكنة قبلية وينفيها نفياً سياسياً، وهو الوجه الذي يحسب ان التهمة تصدر عنه ومنه. فيقول ساخراً: "رباه، لا! أنا محافظ واقترعت لهيوبرت همفري" (في انتخابات 1968، وهي انتخابات حاسمة خرجت الرئاسة الأميركية فيها من الديموقراطيين بعد ولايتين وفاز فيها الجمهوري ريتشارد نيكسون على المرشح الديموقراطي الرمادي الذي حل محل روبرت كينيدي، بعد اغتياله).
وتحري الشرطة، في هذا الفصل من الاستجواب الأولي الذي تولاه الشرطي المدون تلية اندلاع النار وفي الوقت التالي عن يد الشرطي المحقق، الإرهاب وعنه، على معنيي الترهيب المعنوي النفسي وتعمد القتل ثأراً عرقياً أو تستراً، هذا التحري بوليسي اجتماعي وثقافي سياسي. وسائقه أو ميزانه هو قرب سكيتير أو بعده من مثال الأسود "القومي" الذي تجتمع فيه دواعي الخروج على القانون وانتهاك سنن الحياة "الأميركية" العادية، على نحو ما يصفها جون أوبدايك وصفاً مادياً مستفيضاً. وتراوغ أجوبة رابيت التحقيق المستظهر بالمثال والرسم النمطيين. ورده (على) السؤال المباشر عن الترهيب بالقول ان سكيتير كان يسليهم، نقض على دواعي السؤال، وعلى المثال والرسوم البوليسيين السياسيين المضمرين في السؤال. فالمخدرات وتجارتها واللون والسن والمساكنة والهرب والبطالة والخطابة القومية، إذا صدق المثال والرسم وهما صادقان لأنهما يحظيان بقبول اجتماعي، ينبغي ان تستوفي علة الجريمة او عللها. وهي توجب تهمة من تجتمع فيه، وعليه، العوامل والقرائن هذه كلها. ويذهب المضيف، وهو صاحب البيت والشاهد الأول، الى ان المظنون مسلٍّ، ولا يصلح مسوغاً لتهمة أو ظن يصمد لتحقيق جاد. والقول هذا ينسب الشاب الأسود الى المسرح أو الى المحاكاة الإيمائية والاستعراضية، وإلى فن الخطابة والتشبيه. ويعطفه على الظرف الذي جمعه، هو هارولد انغستروم، بسكيتير المرة الأولى. فهما التقيا في المقصف أو الملهى الليلي، "بار الأصدقاء"، عشية اليوم الذي دعاه فيه زميله الأسود، بيوكانان، الى مقصف لا يغشاه غير السود، ويقوم بإزاء جسر البلدة فوق النهر، بريوير، في بلوم ستريت. والملهى الأسود ("أسود، على ما يرى رابيت، ليس إلا بعضاً من لغة السياسة"، يكتب أوبدايك في مطلع الفقرة التي تُدخل رابيت الى "بار الأصدقاء"، مسرح أدوار وملعب أقنعة وميدان أطوار وأحوال. ورابيت، حين يخطو خطواته الأولى، يبدو في عيون السود التي تستدير إليه وتثبته "رجلاً أبيض كبيراً ورخواً في بزة مناسبة (...) يشبه كرة سلة تنتظر رميها". وأول ظهور سكيتير، في الملهى الى جنب بايب، المغنية و "المامّا" والمومس لقاء 50 دولاراً الليلة، هو في صورة "لسان أجفل رابّيت من بياضه: فم ملؤه لحم أبيض". وتُتمّ صورةُ الفتى "اليافع، وشعر لحيته المجتمع في طرف ذقنه (كأنه) عصارة ما قدِر على إنباته"، القناعَ المسرحي الذي يمثل سكيتير فيه وعليه. واسمه لقب أو اصطلاح مسرحي كذلك. وعلى هذا فهو لا ينسبه الى أسرة أو أبوين أو رابطة تتعقب تحدره وأصوله وفروعه، ويقصره على صحب يتردد إليهم اليوم، ويسمون بالاسم هذا ظهوراته. وترجح الشهرة، او اسم العائلة اللاحق بين جونسون وبين فارنسويرث (وفارنسويرث شهرة زميل أسود قديم، من جيل والد انغستروم، في المطبعة)، قرينة على رجحان الدور والاصطلاح والسيرة وحوادثها على "الأصل" أو الرابطة التي تعرف الاسم والهوية وتعين موضعهما من جملة مواضع. وتتوالى قسمات الصورة الظاهرة. فبعد اللسان الأبيض والفم الممتلئ به وطرف اللحية المجتمع بطرف الذقن واليفاعة، يلم الوصف بجمجمة الرأس الضيقة و "فراش الصوف الأسود السميك قدر بوصة" على الرأس. وتخلل هذا كله تناول المادة المخدرة في لفافات السجائر وتداول اللفافات.

المَسْرحة والأفول

ويرهص اللسان، وبروزه ولونه وكلامه الحاد واستدراج حدته تعقيباً مستشرفاً ("يعود عليك لسانك بالشر يا ولد"، "وقاحاتك احفظْها في عقب حذائك"، يقول له بيوكانان في الملهى)، يرهص بمعظم الدور الذي يضطلع به سكيتير في أثناء نزوله ضيفاً على رابيت. فهو، في الأثناء، لم ينفك يتكلم ويروي ويعلِّم ويشرح ويخطب ويقرأ ويقرئ مواضع من كتب انتخبها وأعْلمها بشارات. وكلامه وروايته وتعليمه وخطبه... هي معظم مادة ضيافته وتستهلك معظم وقت هذه الضيافة. ومسرحتُها هي ركن روائيتها. فالخطب الطويلة وملخصات الكتب إنما هي شروح على الحوادث الكبيرة المعاصرة، وأولها حركات السود القومية والاحتجاجات الحادة على الحرب الأميركية بفيتنام وفصول من الحرب نفسها، ومعلقات ملحمية وتاريخية بعضها هاذٍ وبعضها صاحٍ عليها. والثلاثة، غير سكيتير، هم الجمهور المصغي على تباين مراتب الإصغاء، وهو المؤدي الكاهن والوسيط. وأداؤه أو كهانته، كان موضع أخذ ورد وتأويل. فزعم، في ثنايا بعض المطولات الخطابية وتضاعيف سحب الانتشاء، انه المسيح المخلص. وقبل ان يسر هاري الى الشرطي المحقق ان هيوبرت جونسون أو فارنسويرث، يوم كان يعرفه بسكيتير وحسب ويقنع من معرفته بالاسم المنتحل هذا، ان الفتى الأسود كان يسليهم ولم يكن يرهبهم، كان هاري تلقاء مسرح الفتى وبإزائه جمهوراً كوميدياً. وآية كوميدياه محاكاته اللاهية والساخرة، من غير مرارة ولا إفراط، بعض توقيعات المؤدي الخطيب اللفظية. فهو اعتاد توقيع جمله، وقطع الجمل الواحدة من الأخرى بلفظة يكررها تعني "مفهوم؟" أو "معلوم؟". وهذا التوقيع لم يلبث هاري ان أخذ يرد به على سكيتير، ويحمل اللفظة، وهي "محط كلام" ونافلة من نوافله، على محمل الجد، إمعاناً في مسرحة هازلة.
وحين يمضي المحقق على تأويل "شخصية" سكيتير تأويلاً سياسياً وبوليسياً وقصصياً ينتهي منه الى تحقيق تهمته بالقتل، وافتعال الحريق سعياً في القتل، فينسبه الى الجماعات السوداء القومية والمسلحة، يلاحظ المضيف ان ضيفه السابق والمتخفي بعد الحريق "كان يبدو، إذا أصغى المرء إليه، وقد تخطى الثورة الى ما بعدها، وأشبه المتصوف، وليس مجرماً قاتلاً". وهذه هي الصيغة الجادة للمسلي المسرحي التي ذهب إليها رابيت نفسه قبل دقائق. والصيغة الجادة تتناول سكيتير على الوجه الذي قد يرى هو الى نفسه عليه. ونمت بالصيغة هذه أقوال سكيتير في "الفهود السود"، وبعض أعلام حركات السود ("نحن فتنتك إيها الرجل الأبيض وشطر من أحلامك. نحن كابوس التكنولوجيا، والطبيعة الطيبة واليانعة التي دمرتموها في أنفسكم حين غرقتم في النهم الدنيء. نحن نفايات الثورة الصناعية، ولذا فنحن الثورة التالية"، يقول سكيتير لهاري في ختام مناقشة مستفيضة موضوعها اميركا والسود). ولعل تخطي الثورة الى ما بعدها، وشبه التصوف، هو نفسه ما رآه هاري لتوه تسلية ومسرحاً. وحين يعمد سكيتير الى تعريف نفسه و "حركته" ومثاله التعريف الخطابي الذي يتوسل به، ولا سبيل له الى غيره وهو مترجح بين جمهور مسرحه وخطابته وبين تجارته وتخفيه وأصدقائه، يجمع في التعريف روافد حركة الشباب الأميركية ومنازعها – اللونية العرقية والفوضوية والنسوية والعمرية والخلاصية والبيئية المسالمة و "السياسية". والحق ان هذه الروافد ينبغي تعريفها على وجوه الأضداد: فالرافد اللوني العرقي هو الرد الأسود على "التاريخ" الأبيض، وقيام السود على البيض، وإيجابهم في قيامهم قيماً تخالف قيم "عدوهم". ويصح هذا في الرافد النسوي، وفي إبطال "العقلانية" التقنية... ولا يُخلص من تعريف على وجوه الأضداد، ونفيها اضدادها، الى سياسة تسوغ حزباً ثورياً، على المعنى الذي يقصده الشرطي المحقق، ويفهمه عامل المطبعة في بلدة بريوير. فسكيتير تخطى الثورة الى التصوف. ويريد هاري بهذا انه تخطى السياسة الى ما لا يجتمع في تعريف مركب، ولا يقتضي قتلاً، حقيقةً ومجازاً في آن.
وتناولُ سكيتير على وجه الضيف المسلي والمتصوف، أو على وجه المناضل القومي الأسود والقاتل الإرهابي الجائز، في الوقت الذي يلي احتراق المنزل، لا يستوفي إيحاءات الشاب الأسود الروائية، ولا يلم بالوجه الذي يراه عليه نلسون – ابن هاري انغستروم وبعض من "جمهور" سكيتير القليل وربيب جيل ورفيق نزهاتها في سيارة البورش البيضاء وربما "رفيق" أشياء أُخر – في الوقت هذا. ويطل نلسون (نيلي في بعض المخاطبات) في سياقة الوقائع والحوادث التي تلت الحريق وبلوغ خبره صاحب المنزل وعودته وابنه من زيارته الى جارة قريبة، ويحْضُر الولد الوقائعَ وسياقتها على نحو متنازع ومشكك في والده. فبينما الاثنان، الوالد والولد، في طريقهما الى المنزل المحترق، ويتولى الوالد سوق سيارة "موستونغ" أعارته إياها الجارة القريبة المطلقة ووالدة زميل ابنه، تمر بسيارتهما "كتلة حمراء" هي سيارة إطفاء كبيرة ومسرعة. فتهتز لمرورها سيارة "الموستونغ"، وتنحرف الى وسط الطريق حيث لا تزال ظاهرة بقايا سكة حديد الترامواي الآفلة والمعطلة. فيحسب الفتى ان أباه فقد سيطرته على المركبة، وينبهه الى الأمر. فيجيب الأب، وهو رياضي ولاعب كرة سلة سابق ونجم فريق البلدة قبل نحو 15 عاماً يوم كان في العشرين، يجيب جازماً ومنتخياً: "أبداً. ليس أباك" (ليس من يفقد سيطرته... أباك، أي بأبيك). وقوله هذا هو من بقايا فتوة رياضية ومراهقة آفلة. ومبنى حوادث الرواية أو "فرصة" حبكها الأولى، إنما هو على الأفول هذا وأزمته، في معرض الرواح الى مسرح الكارثة. ويقيس الأفول الفرق بين الحوادث، على الوجه الذي يسع القارئ فهمها عليه، وبين مزاعم الشخصية الأولى في نفسها وعن نفسها. ويطل الولد على الحادثة، وعلى محل أبيه منها، من نافذة انحراف السيارة عن خط سيرها المستوي، وجنوحها الى موضع لا تزال ماثلة فيه آثار الماضي القريب، ماضي البلدة وماضي والده. ويُروى هذا الشطر من الرواية فيما الاثنان رائحان الى مسرح الحريق المتعمد الذي قتل الضيفة الصبية "جزاء" استضافة عامل طباعة الرونيوتيب، المنفصل عن زوجته، الصبية الهيبية والأسود المتصوف، وإعلانه الضيافة على ملأ ضاحية سكنية جديدة تحلها طبقة متوسطة محافظة وخائفة.
ويسبق الولد أباه الى مشاهدة التماع ألسنة النار في الأفق القريب، قبل انعطاف السيارة الى اليمين انعطافة حادة تقود الى شهود حي بينْ فيلاس والإطلالة عليه سريعاً. فينبه مرة ثانية، الأب الى أعراض الحريق واتفاقها مع محل المنزل. فيرد الأب جازماً ان الحي أبعد من الموضع. وينكر ان تكون أعراض اللهب البادية قرينة على حريق منزلهما. ولا تكاد السيارة تنعطف يميناً، وينفرج مشهد الحي، حتى يدرك هاري ان ابنه صدق فيما نبه إليه لتوه، وأن السطح المشتعل "قبة محمرة" هو سطح بيت الأسرة الصغيرة. ويسبق الولد والده، مرة ثالثة، حين يوقف الوالد السائق السيارة على تخوم الحشد الذي يحجز بين المنزل المحترق وبينهما. وتحول كثافة الحشد، على بعد منزلين من منزلهما، بين الأب وبين المضي قدماً وبلوغ المنزل. وأما الولد فينسل ويوارب ويمضي صوب مقصده و "يتوارى"، حين يضطر الوالد الى المدافعة بكتفيه وصدره، والاعتذار الى المحتشدين عن مدافعته يُجهر مِلك المنزل المحترق (على خلاف تواري الولد، ووسع الولد فعل هذا نكرة من غير تعريف). وحين يتوسط الرجل، اخيراً، فناء المبنى المحترق الأمامي، ويشاهد من قرب الشطر المحترق وجمهور المتفرجين من اهل الحي والبلدة، يجمع توسطه، والنظر الذي يتيحه التوسط، أطراف علاقة معقدة يسعه وحده جمعها. و "وحده" هذه تفصله من ولده الفتي. فهو، على خلاف ولده، في وسط "جزيرة الضوء" التي يصنعها "السينمائيون"، وهم مصورو شبكات التلفزيون عند منعطف عقد السبعينات وصحافيوها المتهافتون على رواية الحوادث ومتفرقاتها من طريق الصورة الحية، قبل ان يُنسبوا الى حرفة التلفزيون وقبل ان تلتهم الحرفة هذه السينما. ويدرك الفرقَ السينمائي هذا من بلغ الثلاثين تقريباً في أواخر العقد السابع من القرن العشرين، وعاصر النزول الأميركي على القمر – ومشاهد النزول هي لازمة رواية جون أوبدايك هذه ومعلَمها التاريخي المباشر. وهو يتوسط دائرة الضوء السينمائية أو التلفزيونية، من وجه، ولكنه، من وجه آخر ملازم، "هامشي وبعيد ويغلبه الحنين ومكفوف (الاستجابة)". فمن دخل لتوه دائرة الضوء الإعلامي والتلفزيوني الوليد، ولم يألفها بعد وهو طابع حرفي ومهدَّد في حرفته الآفلة، من هذا شأنه لا عجب إذا شدته مشاعره ومنازعه الى الهامش والماضي والحِدَة، فدخل الحاضر أو استقبله وهو يمشي القهقرى، على قول ماركس وقبله هيغيل في ولوج الجماعات والمجتمعات غير المعاصرة تماماً، وصاحبة "الوعي غير المطابق"، التاريخ الكبير.

البناء على الاستعارة

ولكن الولد يخسر سبقه، إذا صدقت العبارة، حال بلوغه ووالده مسرح العمل الإرهابي وجريمة القتل غير المتعمد التي نجمت عنه. ويسع الوالد رؤيا مشهد الاحتراق، وحمل المشهد وعوامله المتفرقة على صورة مركبة ومعللة، على نحو ما يسعه التأريخ لبعض العوامل (فلاقط التلفزيون فوق قبة القرميد ركب على مرحلتين، فعوضت الثانية تقصير الأولى عن تلافي اشتباك موجات البث والالتقاط مع اجهزة الجيران المتكاثرة) ومقارنة الجزء بالآخر (فاللاقط يهتز تحت وقع ألسنة اللهب اهتزاز "شجرة هزيلة لا تزال متماسكة بخيط ما أو ببعض آصرة تشدها الى جذورها"، وسحابة الدخان الأصفر الكثيفة تخرج من انهيار زاوية المنزل فوق حجرة النوم "رمادية وذهبية، لزجة وذائبة مثل بوظة سكر تنفر من يدي الحلونجي الملطختين"). ويقول الشرطي بصوت مسموع، وهو يكلم نفسه ويجيب غير متعمد ولا قاصد عن رعب الولد والوالد وربما، ان من صادف وجوده في الحجرة، إذا كان ثمة احد فيها، قضى "شواء" منذ نصف ساعة، فيكرر ما سبق ان قاله الإطفائي، "مطمئناً" الولد وأبيه الى ان فتاة نائمة حين ينتشر دخان الاحتراق، ويملأ حجرة النوم، لا بد قضت اختناقاً قبل ان تتسنى لها يقظة. وبينما يكرر الشرطي قول الإطفائي يصيب الغثيان والتقيؤ الولد، فيميل بعضه على بعض، ويخرج من جوفه ما يثقل عليه، وينوء صدره وكاهلاه بحمله وحفظه. فيستدرك الوالد على ما فاته حين بلوغه فناء البيت المحترق وأثبت له ولابنه موت الضيفة الصبية في الحجرة. فلم يملك الولد غير تهمة والده بالقتل، وتهديده بالموت جزاء فعلته. ولحظتذاك، أفلت الولد من والده، وأراد مهاجمته وضربه وركله، ونسبه الى مواطأة سكيتير على قتل جيل. وحامى رجال الشرطة والإطفائيون عن الوالد وأمسكوا بالولد. وأوّل هاري تهمة نلسون، ابنه، على وجه إناسي ونفساني مرحلي: فالولد في هذه السن لا يفقه جواز المصادفة ووقوعها، ويحسب ان كل ما يحدث في دنيا البشر إنما يحدث عمداً وقصداً، والراشدون البالغون وأولهم الآباء، يُسألون عما يحدث سؤال تبعة ومسؤولية. وعزا نلسون موت الفتاة، رفيقته و "أخته" على معنى الشراكة في رعاية الأب (على ما قال الأب للمحقق) و "صديقة" الأب و "ضحية" سكيتير معاً، الى تخلي هاري عن جيل بيندليتون وتركها لقمة الى "الأسود المقيم معنا"، على ما يشرح الولد ويصرخ على مسمع الشرطة الممسكين به ليحولوا بينه وبين مهاجمة والده. ويعزو الولد الى نفسه القوة على تخليص الصبية، وإيقاظها وإخراجها من سريرها وحملها، وهي "الخفيفة على الحمل"، خارج النار والحريق. ويردد الولد مرتين "أعرف ان في مستطاعي" تخليصها. ويحقق الفتى ذو الثلاثة عشر ربيعاً خاطر أبيه في شأن إنسانية المقادير والتحكم الإرادي فيها. يرى نفسه سوبرمان لا يعييه اقتحام النار وسحب الدخان، وإيقاظ "الأميرة النائمة في الغابة" من غرة الحريق المميتة، بينما يشرح الإطفائي لرابيت جواباً عن توقع ابنه او تخيله حيدة النائم عن فعل الحريق وبقاءه حياً، وعن سؤال الأب الأطفائي ("وهذا ضرب من الحيوانات القاضمة المسنة، كث الحاجبين وأسنانه الطويلة تغشاها الصفرة") عما إذا كانت جيل خرجت الى الشرفة – استحالةَ مثل هذا الخروج حين يفاجئ الحريق النائم في نومه.
وحين يقر في روع الولد ان صديقته قضت، وتتسرب الى رئتيه آثار احتراق البلاستيك والدهان وغيرهما من المواد المركبة، يغلبه الغثيان، ويعيد والدَه الى حضانته ورعايته. وينقاد هو الى الرعاية الأبوية، ويخلي "الولد" بين ابيه وبين "لمسه". ويمسك الوالد كتفي ابنه و "يتراءى له انه يحاول الحفاظ خارج الماء على سمكة كبيرة تريد العودة والغطس عميقاً وإلا ماتت". فيعود الأب سند ابنه، ومتكأ كتفيه. ويحنو عليه حنو الأم الغائبة والصديقة التي قضت، فيرد الى خلف رأسه المائل الى أمام الشعر الطويل "النسائي" المنسدل على رقبته "الحارة"، على حسبان الأب الحسي والجسماني، ويجدله شنيوراً أو شينيوناً وقاية من قذارة القيء. ويحاول الأب أن يفيد من عودة الوصلة و "الحرارة" بينه وبين ابنه، فيتذرع بها الى طمأنة الابن، على رغم ما سمع الابن ورأى، الى خلاص جيل من الحريق والموت، وإلى رواحها ونأيها بنفسها بعيداً منهما. والطمأنة المصطنعة والمتعمدة وجه من وجوه حماية الولد – السمكة من الغرق، ومن وجوه موازنة الفرق الكبير والخطير بين "ثقل" الولد، كناية عن تعرضه لموت الصبية الصديقة وعن وطأة الموت، وبين خفة "عظامه"، كناية عن يفاعته ورخص بنيته وهشاشتها. ويبني الكاتب على استعارة السمكة المستعادة، وهو أعملها لتوه، استعارة جديدة تردد صدى الحادثة القمرية المعاصرة: فيكتب ان الحادثة - مقتل جيل في الحريق، وما سبق الحريق من إقامة مشتركة في منزل غادرته "ربته"، وما تخلل الإقامة من "مشاهد" ومن مسموعات - أشبه بصاروخ جوبيتر عاصف وصاعق سندُه، أو بنية ركيزة انطلاقه إثر اشتعال وقوده، ضعيف ويتهدده الانهيار تحت وطأة انطلاق الصاروخ. والاستعارتان ماديتان، الأولى مائية والثانية فضائية هوائية ونارية، على تبويب الصور والمجازات الشعرية تبويباً اسقطسياً. والأولى جسدية ووجدانية على معنى إحساس النفس (بـ)نفسها، وآبدة على مثال الرسوم النمطية، والثانية ذهنية مجردة وتقنية ظرفية. وتترجح كتابة الرواية بين الحدين هذه، وتدعو الى قراءتها على الحدين على رغم تفاوتهما وتفرق منزعيهما.
وحادثة القتل الإرهابية اختبار انعقاد الحدين على رواية حادثة، وروايتها على حدِّ حادثة مروية رواية روائية معاصرة (على ما في العبارة من تكرار آمل ألا يكون لاغياً او لغواً). ولعل تضافر الاستعارتين على رغم منزعيهما الماديين والديناميين المختلفين، على أداء حال الولد المفترضة، قرينة على اضطلاع "فن الرواية (الأميركية المعاصرة؟) بسرد الحوادث الفريدة والمتواترة، المفاجئة والمتوقعة، الصادرة عن منازع قديمة والناجمة عن ظروف ومصادفات طارئة، معاً وجميعاً. ويتولى السرد شبك الناس (وتواريخهم) والأفعال (وسياقاتها) والدواعي مصادرها ومواردها والمقالات (ولغاتها) والأماكن (وخرائطها) على حدود الفرادة والتواتر والمفاجأة والتوقع... ويتولى سلكَ هذه وأولئك، على الحدود وشرائطها، من غير تفريط بالكثرة وبعثرتها واضطرابها ولا قسرٍ على الواحد الجامع والمتصل، من وجه، ومن غير انقياد الى كثرة مرسلة "لا إمام لـ(أفرادها)" او آحادها، على قول بعض فقهاء المسلمين في الفوضى السياسية أو نفيٍ بات وقاطع لمنازع التضافر والالتقاء والانعقاد، من وجه آخر. وذريعة أوبدايك الى هذا تكثير الوسائط، ودوائر الرواية، وتخصيص السياقات على أنواعها وضروبها. فـ "أزمة" هاري، وهي إدراك "أميركا" إياه بعد ان أدركت أباه وهدمته على قوله هو في أبيه، لا تحصى وجوهها الشخصية والعامة. فإلى قلق العروة الزوجية، "جراء" خسارة الزوجين ولداً إذا صح رد القلق والاضطراب الى سبب، وإلى قلق الزوجين البالغين سناً هي حد الانقلاب من حال الشباب الى الاكتهال الجسماني والمعنوي، يبعث على القلق مرض الأم المصابة برعاش باركينسون، وهرم الوالد الخائف من قصوره عن رعايتها ورعاية نفسه وبيته، وبلوغ الولد سناً مضطربة، وتشككه في والده وأهله شأن أترابه، وانتشار الطلاق والانفصال في أوساط زملاء الدراسة السابقين في ثانوية البلدة، وعصف مسألة السود وحرب فيتنام وحركات الاحتجاج و "ثقافته" في الشباب والمجتمع الأميركيين، وفي سياسة الولايات المتحدة، وتطاول آثار المسألة العرقية والحرب الخارجية الى الهوية الأميركية و "وطنية" المهاجرين من الجيل الثاني. وفي الأثناء تنتقل البلدة من طور الى طور، وتنقسم أماكن قديمة (مونت جادج، حيث يقيم الوالدان) وأخرى جديدة (بين فيلاس حيث يقيم الابن ومن هم على شاكلته عملاً ودخلاً)، ومهناً قديمة وأخرى مستحدثة، ويتركها بعض سكانها القدامى ويفد إليها سكان جدد، وتميل عمارة مبانيها الى مواد مركبة، وإلى "الأجنحة" في الضاحية القريبة. وتمثل اميركا البعيدة بعض الشيء، في تلفزيونها وإنجازها القمري وبرامج تسليتها ونشرات أخبارها ولغات جماعاتها (السوداء والنسوية والموسيقية...) وضعف رابطتها العائلية واستقبالها السلع المستوردة من انحاء العالم. ولكن هذا، وغيره، لكان ينقلب اجتماعيات مبعثرة لولا روايته على وجوه المسرحة والمحاكاة والاستعارة، على ما مر.

تصدي البرادعي الى رأس السلطة المصرية ونواة النظام... لا يعفي من تناول الفروع

الحياة 13/3/2010
بادر المصري محمد البرادعي، مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية السابق، والحائز جائزة نوبل للسلام في 2005 الى الترشح الى منصب رئاسة جمهورية مصر ، ومقارعة الرئيس المستقر في رأس الهرم السياسي منذ نحو 30 عاماً (يتمها في الانتخابات التالية، في 2011). وهو اشترط على قبوله الترشح تعديل المواد الدستورية الثلاث التي تقيد المرشحين برعاية حزب، وبتزكية عدد من اعضاء مجلس الشعب ومجلس الشورى ومجالس المحافظات، من وجه، وتماشي أو تؤاتي «النظام» ومرشحيه، فلا تقيد عدد الولايات، والرئيس المصري يتم ولاية سادسة وعزم على ولاية سابعة، وتشكل لجنة الإشراف العامة على الانتخابات على نحو لا يضمن نزاهتها ضماناً قضائياً صارماً، من وجه آخر. ويفترض اشتراط المرشح الى الترشح والمنافسة إضعافَ السد الدستوري الموكل به تحصين مرشحي الجماعة الحاكمة وحمايتهم من غائلة المنافسة والمفاجأة، ثقة كبيرة بقوة الحاجة الشعبية والوطنية المصرية، وربما بقوة الحاجة الدولية، الى الخروج من توالد النظام السياسي والاجتماعي المحلي، وتناسله وتجدده، خروجاً هادئاً أو غير «ثوري»، لا داخلياً ولا خارجياً.

وتصدي المرشح مباشرة لمنصب الرئاسة ترتَّب من غير شك على موقع المنصب المركزي والحاسم في البنية السياسية. فهو أراد مجاراة النظام على إيلائه المنصب موقعه هذا، والدلالة على عزمه العمل السياسي والفاعل الناجز، و «التغيير» من غير إرجاء، على قول «الجمعية الوطنية» التي أنشأها مع 30 «ناشطاً» سياسياً في ختام الأسبوع الأول الذي قضاه في القاهرة قبل سفره الى برلين وسيول ونيويورك. وعلى خلاف عمرو موسى، زميله السابق في السلك الديبلوماسي، ووزير خارجية مصر قبل توليه الأمانة العامة لجامعة الدول العربية «عقاباً» له على شعبيته المفترضة، لا يحسب المرشح المشترك ان الطريق الى الرئاسة «مغلق». وهو، على الأرجح، ليس في مستطاعه افتراض الغلق، أو الانغلاق هذا إذا شاء التعويل على أثر مبادرته السياسي والشعبي. فإسهامه في الحياة السياسية الراكدة والمتصحرة، على مثال رائج تخلفه الأنظمة المركزية والمتسلطة في بلدانها ودولها ومجتمعاتها، يبدو ممتنعاً أو بعيداً إذا هو عوَّل على مفاعيل أو نتائج عمل سياسي طويل يبدأه، على ما يدعوه إليه جمال حسني مبارك، من زيارات المدن والبلدات والنجوع.

والحق ان هذا صنف من الدوائر المغلقة التي تنثرها الأنظمة السياسية المتسلطة على طريق خلافتها والخروج «المأمون» من أسرها وتوالدها. فإذا كان المرشح الى خلافة صاحب السلطان المتربع في سدة الحكم من أنصاره، أي من «أولاده» وربائبه، استحال إصلاح النظام. فثورات البلاطات قليلة، وغالباً ما تؤدي الى تكريس تقاليد تسلط جديدة، على شاكلة ما حصل في تونس قبل نحو... ربع قرن. وثورة البلاط «الناجحة»، على مثال حركة ميخائيل غورباتشوف، لا تأمن، على رغم بطء السلحفاة (على ما مدح آخر حاكم سوفياتي شيوعي) وحذرها، ردة الجهاز والجمهور عليها معاً، ولا النزاع الأهلي الذي قد يعصف بالدولة والبلد. وإذا ترشح الى الخلافة رجل (أو امرأة) من خارج السرايات والنادي المنتخب، بدا قصوره، وقصور تجربته السابقة، عن معالجة مشكلات البلد وأزماته المتزاحمة والمتراكمة والملحة، فاضحاً.

وهذا، أي الفرق بين المشكلات الجسيمة وبين سبل المعالجة المتاحة في وقت قصير (هو وقت الولاية الرئاسية)، ليس كله افتعالاً دعائياً تتوسل به الطبقة السائدة الى تأبيد سيادتها. وهو من أفخاخ الدوائر المغلقة المتخلفة عن السلطان المركزي والمنفرد كذلك. فمثل هذا السلطان يصرف الأمور بواسطة أجهزة يملؤها عاملون لا رقابة عليهم ولا حسبة، ويدعوهم التأهيل والأجر الضعيفان الى البطالة الإدارية والفساد. وما يسمى تعسفاً، «بيروقراطية» (وهذه تفترض تقسيم عمل فنياً صارماً)، ويحمل على تقاليد مصرية عريقة وراسخة، هو فعلاً ركيزة متينة من ركائز السلطان السياسي والإداري والاجتماعي في مصر. ولا سبيل إلى الإصلاح والتغيير السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين من غير معالجة الترهل «البيروقراطي» العددي والإجرائي، ومن غير مبادرة مجتمعية مشتركة وفردية الى الاضطلاع بتبعات السياسة («توزيع» السلطة) والإنتاج (حفزه وتعظيمه وتكثير مداخله ومخارجه وتداوله).

وفي الحالين، حال الخلافة من خارج وحال التغيير والتصدي لثقل ركائز النظام المقفل، يبدو تعيين أو تعريف الرئاسة هدفاً مباشراً للمبادرة السياسية مغامرة متسرعة. ولكن هذا التعيين أو التعريف للهدف السياسي المباشر لا مفر منه في نظام سياسي واجتماعي يرزح تحت أثقال سلطان مركزي فردي، و «بيروقراطية» ملتفة الدوائر والأطواق، وجماعات متناثرة الإرادات ومتناقضة المصالح. ولعل الموظف الإداري والدولي السابق استسهل بعض الشيء محاسبة حسني مبارك، وولاياته الكثيرة ونظامه السياسي والاجتماعي الموروث معظمه عن سلفيه، على نتائجه الاجتماعية والاقتصادية الفاقعة. فعمد الى افتراض بعض هذه النتائج وتسويدها، وعظم أرقام الفقر، وأخّر تصنيف مصر على سلمي العدالة الاجتماعية والتنمية الدوليين، على ما انتبه بعض المعلقين.

والتسويد جزء من المباشرة السياسية والدعائية الانتخابية. وهو جزء من تصوير العمل السياسي المزمع في صورة إنقاذية وبطولية. ويغفل المسودون عن ان صاحب السلطان المركزي يتربع في قلبها. والطعن في «إنجازات» السلطان المركزي والفردي، حاكماً وإدارات وفئات اجتماعية غالبة وموالية، ينبغي ألا يعفي الطاعنين من تعليل دوام التربع هذا، أي من النظر إلى الإنجازات، المتواضعة ربما (قياساً على الإمكانات؟ الحاجات؟ الفرص؟)، من غير غلو يحيد بالنظر عن التقويم الفعلي. فدوام النظام الذي ورث حسني مبارك رئاسته من سلفيه العسكريين، وتولى تدبيره وقتاً بلغ الى اليوم نحو ضعفي الولاية الناصرية وثلاثة أضعاف ولاية السادات، ليس من غير لقاء أو إنجاز على الوجوه السياسية والمدنية والاجتماعية والاقتصادية. وثمن الإنجاز باهظ، على ما يرى كثيرون من مصر وخارجها. واقتراح إنجاز مختلف، أعلى على ما يفترض بداهة، يقتضي اقتراح الثمن.

وإسراع بعضهم الى اقتراح مثال أو نموذج كوري (جنوبي) أو او ماليزي، مثاله بدوره ومن قبله اليابان، وتضمين المثال هذا ثمناً يفترض معروفاً، الاقتراح والتضمين لا يقربان المسألة من الفهم او من البت. فالاقتراح يغفل وقائع راجحة. الواقعة الأولى هي وقوع اليابان وكوريا تحت إدارة احتلال أميركية كانت لها يد طولى في إنشاء الحياة السياسية والاجتماعية المحلية على الشاكلة التي تصورت عليها غداة الحرب الثانية (فسبق الإصلاح الزراعي، في منتصف الأربعينات، بكوريا استقرار طبقات متوسطة محلية متماسكة). والواقعة الثانية هي سبق حرب دولية أو إقليمية مدمرة ابتداء سيرورة المثال الإنتاجي أو انطلاقه. واضطلع سبق الحرب بدور راجح في خلافة الإقبال المحموم على الإنتاج التوسعَ العسكري أو مقاومة التوسع الصيني الماوي. والواقعة الثالثة هي دوام الحكم متسلطاً أو ديكتاتورياً عسكرياً طوال عقود، كانت سيرورة البناء الاقتصادي الرأسمالي في أثنائها تخطو خطواتها المتعاقبة والمتراكمة. والواقعة الرابعة هي سبق ريادة يابانية، قبل الحرب، ما كان على بعض الوجوه استئنافاً لهذه الريادة، وإعمالاً لخبرات حصلت طوال سبعة عقود (أولها انقلاب أسرة مايجي في 1868). والواقعة الخامسة المغفلة هي وقوع السيرورة الآسيوية في فصل بناء وإعمار ونهوض عام من دمار الحرب.

والحق ان هذه الوجوه أو الفروق هي هوامش على مسألة التغيير وحركته الوطنية المصرية المزمعة والمرجوة، على رغم مكانة مسألة الثمن التي تطرق إليها بعض من تناولوا ترشح البرادعي من المصريين، وأجابوا عنها من طريق المثال أو النموذج، أو من طريقة المقارنة به. وإسداء «النصيحة» الى الموظف الإداري الدولي السابق بالتصدي للشروط السياسية لبلوغ الرئاسة، قبل الترشح إليها أو إلى الترشح الى الترشح، دعوة تنزع عن المبادرة إلحاحها وتحفيزها وربما إيحاءاتها العاجلة. ولكن «الأسئلة» الكثيرة والمعقدة التي تطرحها أبنية السلطان المركزي والفردي على الحياة السياسية المصرية، أي على إحيائها وانبعاثها وتحريكها، وتقيد بها «عنق» الاحياء والتحريك، لا يجيب عنها مثال سابق، ولا اضطلاع رئاسة من فوق أو مجتمع من تحت بالمبادرة.

الثلاثاء، 2 مارس 2010

رجال الخطابة العمومية ونساء التبديد المرسل

المستقبل، 28/2/2010
يعود الكلام في التآبين العربية (-الإسلامية، غالباً) الى الرجال. فإليهم يعود (الحق) في الوقوف على المنابر. والقول الأدق أنهم يعتلون المنابر. والمنبر، على هذا، صهوة حصان أو فرس. واعتلاؤه لا يعلي المتكلم أو يرفعه فوق السامعين ومرتبتهم وحسب، ولو في أثناء الكلام، بل يذكِّر المتكلم، ويوجب ذكورة راجحة وظاهرة. والاعتلاء، شأن الانتصاب للكلام أو الخطابة، حال أولى من أحوال الوطء. وفي "مصارع العشاق" (سراج القاري)، وفي غيره كثير، "علاها فخالطها فاشتملت منه على ولد". والتأبين خطابة. ويكاد يكون الخلوص من الذكورة الى الخطابة تحصيل حاصل ليس إلا. فالخطابة تمتّ الى العلو والاعتلاء والوطء والانتصاب، بديهة. وتمتّ من وجه ملازم، الى ابتداء القول وتجويده والابتكار فيه. وتفترض هذه سلطان إيجاب وإثبات تستوي به ومعه النفس تامة، تكليفاً وقياماً بالتبعة. وهذه كلها لا تتأتى للنساء و "طباعهن" وبنيتهن أو خلقهن.
ولم تشذ أقرب التآبين (المعروفة) زمناً إلينا، وهي تناولت ضحايا طائرة الشركة الأثيوبية، عن السمت المذكَّر. فتناوب رجال الأهل والأقارب، آباءً وأبناءً واعماماً وأبناء عم، ومشايخ معممين إذا عز الأهل والأقارب نسباً، تناوبوا على القول في أحبائهم. فمدحوهم بما يليق بهم، وحيوا فضائلهم ووصلوا بينهم وبين من قضى قبلهم وبينهم وبين الأحياء من أهلهم ومواطنيهم. وحمَّلوهم اخيراً الأسى واللوعة والرجاء. وفي معظم الكلام الذي قيل في التآبين، وهو يقتصر على ما انتخبته الصحف وأذاعته، تناول الخطباء ما يقيم بين الموتى وبين الأحياء لحمة وآصرة. وهذه يصنعها الأحياء ويجهلون ما عسى يصنع بها الذين رحلوا. وكلام الأحياء يتوجه على أمثالهم، حتى في حذوه على السلف البعيد والعظيم، وفي احتجاجه لتقليدهم.
واختصاص رجال الأهل بالخطابة في تأبين الموتى يقتضي تضمين التأبين معاني دون غيرها، أو صنفاً مذكَّراً من المعاني. وهذه المعاني اجتماعية وسياسية، على توسع في تأويل الصفتين المتصلتين. ومضمارها أو مسرحها هو خارج البيت ووشائجه القريبة والحميمة وغير المتداولة. وتتفق قسمة الذكور والإناث مع قسمة الخارج السياسي الاجتماعي والداخل البيتي. ويفترض تولي الرجال الخطابة والقول في الموتى، وبعضهم نساء وهم موتى الرجال والنساء من الأهل والمحبين والأصدقاء والأصحاب، تناول الفضائل الاجتماعية والسياسية، والمديح بها. وهذا ما لم تبخل به الخطب، فلهجت بهذه الفضائل وأطنبت في الثناء عليها ومديحها. وجمعت الموتى إلى الأحياء في أبواب مشتركة وواحدة، وحملت هؤلاء وأولئك على سعي واحد. وبعض الخطباء، من أعلاهم ذِكراً ومكانة، جندوا من يؤبنونهم، وأهلهم السابقين والخالفين معهم، في ميادينهم ومجالاتهم، وأثبتوهم مياسم على قضاياهم الكبيرة وأعلاماً. وأدخل خطباء آخرون، من خاصة الأهل، فقيدهم في باب عام ومشترك، واستبشروا خيراً باستقبال الباب العريض والواحد هذا خسارتهم الغالية.
وعلى القسمة المعهودة، سكت الرجال الخطباء حكماً عن الوجوه غير الاجتماعية ولا السياسية من صفات الراحلين، ومن رابطتهم هم، الأهل الخطباء، بالراحلين. فالوالد الذي يؤبن ابنه، أو الشقيق الذي يؤبن شقيقه، وغيرهما مثلهما، بينه وبين فقيدها ما لا يتكلم فيه، وليس في متناول تأبينه ولا مقام التأبين عموماً. وهذا يُترك، بحسب القسمة، الى النساء والقصَّر، الى البكاء والعويل والنشيج والصراخ المتمادي والمخنوق، وإلى القسمات الملتوية والعينين الغائرتين والعروق النافرة واللون الشاحب والمفاصل المتراخية والعرق المتصبب والأجسام المضطربة والمطوحة والأيدي المصفقة، اليد باليد والخدين باليد والصدر باليد والقبضة. ويُترك الى اللون الأسود والمنديل الأبيض على الرأس وباليد، وإلى التلويح والزغاريد المتفجعة وما يشبه رقص الذبيح ويحاكيه.
وبينما يتكلم الرجال كلامهم العام، كلام العلانية التي يتشاركونها ويتشاركون بعضها (وجلها في لبنان) مع النساء، تبث النساء، ويبث الرجال في سرهم، "كلاماً" أو عبارةً على مبان وطبقات وتصاريف مختلفة وأخرى. وكلام النساء وعبارتهن تقول ما لا يُعتلى به منبر، ولا تستقيم خطابة، ولا يُمدح صاحب فضائل وشمائل تمثل، على ما ينبغي، على بطولة أو رجولة. فتستظل النساء المنابر، ويوقعن خطب الرجال بالآهات والزفرات، وبالأنين المكظوم والمكتوم، والنظرات الواجمة والعيون المقرحة، والانتباهة المباغتة والطافرة في الجسم والمطوفة به طواف الغاشية في المغشي المسكون. وعلى حين يقتضي المنبر من معتليه وفارسه وخطيبه التكلم بكلام متصل ورصين ومعقول، فيحل المصاب على عوض ونظير، ويكافئ (معنى) المصاب ويملأ صدعه بالرجاء والخلاص ورد الآخِر على بدء أول، فلا تضيع ذرة من الحوادث الماضية - تخلي حركات النساء العصيات على العزاء بين أنفسهن (وأنفسهن في هذه الحال هي أجسادهن وانفعالاتهن وصفحة هذه وتلك) وبين جهر ما لا ينقاد الى عوض أو كفء أو ملء. فيقلن الخسارة على وجهها المرسل لا إلى حد أو غاية. وتكني الأعين السادرة والفائضة بعتمة مائجة ومتلاطمة عن جحيم الإقامة المجنونة على وقت لا ينقضي، مصلوب على جواز سياق زمن مختلف كان ليفضي الى غير المصير القاصم الذي صار إليه المسافر.
فيخرجهن صليبهن من اقتصاد العلانية العامة والاجتماعية، وخطابتها وتثميرها، الى تبديد لا قاع له، ولا تؤدي عنه لغة متعارفة ترصف المعاني، وتخزنها وتراكمها. فالرجال يروون سير الراحلين رواية تقايض السير بمصائر ومعان مشتركة، اجتماعية وسياسية، مثل الهجرة والتهجير والكرامة والطلب والسعي وغيرها على شبهها. وتستولي منظمات الرجال وأحزابهم على السير والمعاني هذه، وتدخلها في المعرض الذي يحفظها على حال "مفيدة"، وتتيح مقايضتها على وجه قيمة تبادل رمزية. فتحتسب الخسارة في باب جرائم العدو، ودأبه في توهين عزيمة الأمة وطليعتها المسلحة والمؤمنة والمظفرة، أو في باب عجز "الدولة" وتقصيرها في حق جماعة من الناس.
وعلى هذا، ليست الخسارة ابتداءً، ولا حادثة فريدة، وإنما هي حلقة من حلقات "أيام" وسجال يطول، على ما تقول المنظمات العسكرية والأمنية في وقائعها. وليس معنى الرجوع من الحادثة السجالية والمدبرة الى الخطأ البشري انحيازاً الى النساء وفاجعتهن الفريدة. فصيغ الرواية البطولية وصورها الجماعية لا يفحمها بروز الحادثة العارية على صورة الخطب المحموم، أو خطباً محموماً من غير صورة. فتمضي على احتساب الخسارة في ميزان جامع واحد، او كفة ميزان واحدة، يقوم اصحابها (اصحاب الرواية البطولية) على رعاية الجمع ويتولون تثميره.
فيحيا الراحل بعد رحيله، "حياتين"، واحدة يتعهدها من تصلهم به رابطة "نسائية"، وأخرى يتعهدها أهل الجمع والمنع من الرجال والخطباء والفقهاء والمقاتلين. وتمييز الحياتين الواحدة من الأخرى قد يجعل محالاً على "النساء" تعرف فقيدهم (وليس فقيدهن وحدهن). فإذا جاء وقت صفح جماعي ورجوع عن خزن الضغينة أو الثأر من فروع العدو إن لم يكن من أصوله أو اصله الواحد والثابت، بقيت الرابطة "النسائية" وحدها ملجأ ومستودع ذاكرة حية. ومصادرة "النساء" على فقيدهم وخسارتهم لا ترضى ازدواج الآصرة بالفقيد الراحل، وتريد اختصارها في رابطة تسد الطرق كلها الى الصفح، وتؤبد الضغينة الجماعية. فينبغي، على مذهب أهل الجمع والمنع، ألا يعتقد الواحد جواز آصرة بصديق، أو حبيب، أو صاحب، يصنع بها ما يشاء، أو ما يقدر على صنعه، ويرغب في صنعه. فإخراج الراحل الصديق، أو الحبيب أو الصاحب، من الجمهرة لا يؤمن إلا يخرج منها الأحياء، أو أن يدعوهم الى اختيارهم علل عمل هي ثمرة اختيارهم ورأيهم واجتهادهم.