الأربعاء، 29 يوليو 2009

ثلاثة أعوام على حرب تستحيل الهزيمة فيها... والنصر حليف لا نفع منه

المستقبل، 26/7/2009
منذ نيف وقرن، أي منذ الحرب الروسية – اليابانية في 1905 على وجه الدقة، وأهل "الشرق"، شرق كيبلينغ الذي تعريفه هو نفسه واستحالة التقائه بصنوه ونقيضه وصادمه، "الغرب"، يصبون الى شيء واحد هو الانتصار العسكري على الصنو والنقيض والصادم أو الصدّام "الحضاري"، المفترض هذا. فيوم انتصرت قوات الامبراطور الياباني الإلهي، وهو إلهي شأن الأباطرة كلهم وشأن ولاتهم وعمالهم وسفرائهم والمتطلعين الى الولاية، على قوات القيصر المقدس، وأغرقت بوارج الأميرال هايهاشيرو توغو ودارعاته وزوارق الطوربيد السريعة سفن الأميرال الروسي زينوفي روديستفينسكي وأسطول البلطيق الذي يقوده في بحر اليابان، بمضيق تسوشيما – هلل أهل الشرق، من طنجة ودكار، غرباً، الى فان فونغ وكام رانه، جنوب بورت – أرثر وفلادينو ستوك، شرقاً.

"الثورة من فوق"
وأسهم أهل الشرق الأوسط، منعقد طرق التجارة والمواصلة والاستيلاء "الإجباري" (بشار الأسد) بين القارات الثلاث القديمة، في مديح إخوانهم الشرقيين المنتصرين على أشباه غربيين وقاصرين عن نصب أوتادهم وخيامهم ورحالهم في قلب الصحن الغربي. فنظموا قصائد وطنية ونهضوية لا تحصى في يقظة بلد مطلع الشمس على الكرة الأرضية. وذهبوا الى ان "العلم"، وهم عزوا إليه النصر المبين، مقسوم بالسوية في أمم الأرض، و "نحن" منها. فلن يحول حائل من دين ومعتقد بين بلوغ العلم، وفنونه وثمراته وآلاته، عقول أمم الشرق الأخرى وسواعدها. وينتصر أميرالات الأمة، شأن أجدادهم، الأروام، في أم الصواري أو في خليج القسطنطينية، على مثال هايهاشيرو توغو، ويلقنون "العالم" درساً لا ينساه.
والحق ان درس تسوشيما وبورت – آرثر كان عسيراً على التلقين، أي على العمل به، والحذو عليه. فالانتصار الياباني كان ثمرة "ثورة من فوق"، على مثال ألماني بروسي انتهت بعض إجراءاته ومناهجه الى الكليات الحربية العثمانية منذ بعض الوقت. وتقتضي "الثورة من فوق" تولي بيروقراطية عسكرية قومية، شديدة المراس والشكيمة والشوكة، تجنيد "الشعب" تحت لوائها، نيابة عن لواء امبراطور سماوي، وخوض حروب التوحيد الداخلي و "التحديث" والإنتاج وإرساء المكانة الإقليمية والدولية المهابة، معاً، على شاكلة حرب واحدة ومتصلة، بعضها مجازي ومعظمها حقيقي. وتفترض "الثورة من فوق"، على المثال الألماني البروسي او على المثال الياباني، وعلى مثال تركي كمالي من بعد، نهوض جزء من أهل القوة والسلطان، أو كتلة مرصوصة ومتغلبة منهم، بالثورة، وحشدهم الكتلة الأعظم من الجمهور في مسارحها وميادينها. ولا يستقيم هذا من غير تحطيم الكتلة المرصوصة والمتغلبة الكتلَ المترددة، والضيقة الأفق والمنكفئة على مصالحها المحدودة والخاصة. والترجمة العملية هي شن حروب أهلية موضعية وجراحية، والاستقواء على القوى "الإقطاعية" والمحلية بمنطق "الدولة" المركزية الذي الذي يتستر به، غالباً، منطق امبراطوري أو سلطاني، فاتح ومستول، والامبراطورية قد تكون حركة أسرية وشعبية معاً، على قول المؤرخين البريطانيين جيب وبووين في السلطنة العثمانية. وهي أسرية على معنى مرتبي، أو طبقي، يضوي أهل "الشرف" والرفعة والأصلاب العالية، وبعضها مصطنع أو منحول ومجلوب في قوم ائتلفوا، قرابة ولغة ومعتقداً وسكناً، من أقوام. وهي شعبية على معنى يشمل القوم كلهم، ويرفعهم بإزاء الأقوام الأخرى من اهل بلاد الفتوح والاستيلاء، ويخصهم بوظائف وعوائد وشارات ليست مقسومة بالسوية في الأقوام كلها أو كلهم.
والاختبار الحربي والعسكري لا غنى للثورات من فوق عنه، وعن نجاحها فيه. فهو سُلَّمها الى دمج قومها أو شعبها في كتلة واحدة ومرصوصة، لحمتها الرمز وقوته وتعاليه عن "حدود" الأفراد، وعن خفتهم في ميزان المصائر الكونية ووقتهم العابر والقصير. وهو مسوغ التضحيات العظيمة التي لا تقوم نهضة، ولا يقوم انبعاث إلا بها وجراءها. ولولا غاليبولي، في 1915 – 1916، وخسارة قوات الحلفاء على الشاطئ التركي الأوروبي، لما وسع مصطفى كمال من بعد استنهاض الترك، وقيادة إبائهم الإذعان للفرمانات البريطانية والفرنسية وحربهم عليها. ولما وسعه استعادة تركيا التركية العثمانية في حرب استقلالية توجتها معاهدة لوزان (1923) ودامت نحو نصف عقد، وكانت "حرب شعب" وطنية من غير حزب أو "طليعة" متسلطة، على خلاف المثال الصيني الماوي وذيوله المدمرة. وعلى الوجه السالب للمثال نفسه، أودت خسارة مصر، في قيادة جمال عبدالناصر، "حرب" حزيران 1967 بحركة التوحيد العربية الوليدة وبقيادتها المصرية. وكان "انتصار" السويس الملتبس، في 1956، باباً على الدمج المصري – السوري، غداة نيف وسنة واحدة على إحرازه. فإذا استحال النصر العسكري على اصحاب "الثورة من فوق" وقادتها، ضعفت دالتهم على الجماعات الأهلية، والكتل الاجتماعية، في الداخل الوطني. وخرج الأقران والأشقاء الإقليميون عليهم، وخسروا حروب التوحيد و "التحديث" والإنتاج والمكانة (والكرامة) جميعاً.
فخرجت من "تحت" العباءة الناصرية العربية، أو من جوارها القريب، حركات أهلية، عامية ووطنية معاً، دعاها قيامها خارج أجهزة الدولة والإدارة – وشطرها الفلسطيني الغالب كان خارج معظم أرضه الوطنية، وخسرها قبل نحو عشرين سنة – إلى انتهاج ما حسبه دعاتها وألسنتها حرباً شعبية وغير نظامية. وعللت الحركات هذه "الهزيمة" العربية المفترضة واحدة، وهي كثيرة على كثرة المسهمين والمساهمين فيها، بصدورها من "فوق"، أي من الدولة. وحملت الحركات الأهلية والعامية الوطنية الدولةَ على التسلط والاستئثار، والتحدر من الاستعمار والتجزئة. وحملتها على الامتثال لمعايير قانونية دولية ظالمة ومجحفة تسري على الضعفاء وتقضي، فيما تقضي فيه، بتسليح يقصّر عن "التوازن الاستراتيجي"، ويلجم الرغبة الشعبية العارمة في القتال والكفاح المسلح، ومقارعة المحتل، وبناء المجتمع الأصيل والمقتدر، معاً وجميعاً. فجمعت حركات "المقاومة"، في مقالة أو سياسة واحدة، الإنكار على الدولة الوطنية، الفئوية والتابعة والقطرية والقانونية والمهادنة، والدعوة الى "شعب" أو ثورة من غير دولة ولا قيد على شعب الثورة أو ثورة الشعب.

البحث عن الدولة... وتدميرها
ودمج بعض المؤرخين الفلسطينيين الأمرين أو الوجهين في وجه واحد غير متناقض ولا متدافع هو "البحث عن الدولة"، على وسم يزيد صايغ تأريخه "الكفاح المسلح" الفلسطيني. ولما قصر المؤرخ تأريخه على الوقائع والحوادث التي سبقت اتفاقات أوسلو، في أواخر 1993، وسعه التخفف من ثقل التأليف بين الطعن على الدولة الوطنية، وعلى صورها الفعلية وأبنيتها الماثلة، وبين طلبها من طريق "ثورة" تبطلها، أصولاً وفروعاً، وتخنق في المهد، أي في اثناء خروج "الشعب" على الدول ووصايتها، نشأتها وسيرورة النشأة وعواملها. فكانت سيرورة "البحث عن الدولة" الوطنية الفلسطينية، أي تاريخ الحركة الوطنية والاستقلالية الفلسطينية المسلحة والمدنية معاً، سيرورة تدمير شروط الدولة، وإبطال نشوئها عن إجماع وطني وشعبي عليها وعلى سيادتها ووحدتها. وما أوكل إليه الاضطلاع بإيجاب الشعب والدولة معاً، وهو الحرب الوطنية والانتصار فيها، أو "الكفاح المسلح" في المصطلح الفلسطيني والعربي، اضطلع بالدور الأوفى والغالب في موازنة نقيضين. فوازن توحيدَ الفلسطينيين وشتاتهم على شرط سياسي مشترك (هو شرط "الثورة") بخلاف التوحيد هذا. وشرذمهم فصائلَ نصبت الواحدة منها نفسها دولة تامة الأوصاف والشمائل، ولا تفتقر إلا الى السيادة.
وانقلب الشتات على النهج الذي تولى، أو أراد تولي تجاوزه وتخطيه الى بلورة وحدة سياسية متماسكة ومتعالية عن عوامل تفريق الشتات هذا. وقصّر "الكفاح المسلح" الفلسطيني، وروافده العربية المحلية أو القطرية، عن خوض حرب وطنية واستقلالية مقيدة بغاية سياسية واضحة و "معقولة"، هي الدولة الوطنية فتقوم الحركة الوطنية والاستقلالية مقام نواة الدولة وحاضنتها و "رحمها"، أو مقام فصلها الأول إذا استغني عن الصور العضوية المتفائلة، ومقام بنية سياسية تستبقها وترهص بها. والقول ان السبب في القصور هو ضعف تكافؤ المتحاربَيْن، أو تقدم أحدهما (الإسرائيلي) وعصريته وحداثته وتأخر الآخر (الفلسطيني)، على ما ذهب إليه وليد الخالدي وقبله ياسين الحافظ، يغفل عن ان ضعف التكافؤ هذا كان التشخيص الذي انتهى إليه دعاة "الكفاح المسلح". واقترح الدعاة معالجته بحرب غير نظامية في مستطاعها، على ما حسبوا وذهب إليه قبلهم بعض تمائم "حرب الشعب" وألويتها، تصريف القوة وموازينها على ترتيب آخر. فينتج الترتيب للضعيف، "المتأخر" أو "المتخلف"، تعظيم موارده وتثميرها في ميادين يتقدم فيها الدفاع على الهجوم، والتملص على الاشتباك، وتتقدم المطاولة على الحسم، والمناوشات الكثيرة على المعركة، وعمق الميدان على الجبهة. وعلى هذا، تقلص الميادين المختلفة فاعلية موارد الخصم أو العدو، على ما توالى على الشرح استراتيجيو الأحزاب الشيوعية المقاتلة في الصين والهند الصينية.
ولم تؤت الحرب غير النظامية، وغير المتكافئة، أُكلها المفترض والمرجو. لم تحرز نصراً استراتيجياً واحداً. وعندما أنجز المفاوضون الإسرائيليون والفلسطينيون اتفاق اوسلو، و "عادت" اجزاء من بيروقراطية المنظمات المسلحة الى الوطن، وقامت مقام الفصل الأول من الدولة الوطنية والمستقلة، لم تؤذن "العودة"، على الصورة التي حصلت عليها، بقيام دولة وطنية جامعة. فإلى الملاحظات المعروفة والسائرة على اتفاق أوسلو، مثل تركه المسائل الحاسمة (مسائل "الوضع النهائي". الحدود والسيادة و "عودة" اللاجئين والمستوطنات) معلقة وموكولة الى المفاوضات اللاحقة وظروفها، يلاحظ أن من فاوضوا على الاتفاق، أي قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وهي قيادة "الكفاح المسلح" الفلسطيني الإسمية وغير المركزية، ليسوا قيادة الداخل إلا جزئياً. وهم هذا على وجه متخلف عن وقت سبق نشأة منظمات جديدة نامية، اسلامية ومحلية. وكان مرجع المفاوضة الفعلي والماثل السنوات الخمس أو الست (1987 – 1993) التي تقدمت، وملأتها حوادث "الانتفاضة الأولى"، على ما سمي الفصل هذا من الحركة الوطنية والاستقلالية الفلسطينية.

الشقاق الأهلي
وعلى رغم الدور الكبير والبارز الذي تولته بعض منظمات منظمة التحرير في أثناء السنوات هذه، في الحركة الداخلة ووصل الداخل بالشتات القريب والبعيد على وجه الخصوص وفي التمثيل على الرابطة الفلسطينية المشتركة، أدت المنظمات الأهلية والإسلامية الجديدة والمحلية دوراً ذاتياً، تعبوياً وتأطيرياً، فاق ربما نظيره "الخارجي" والمتمرس بالعمل المنظم والسري. وهذه القوى لم تشترك في المفاوضات السياسية الفلسطينية – الإسرائيلية، ولم تستشر فيها. وقد لا يعود هذا الى تعنت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، والى نازع رأسها (ياسر عرفات) الى الانفراد بالرأي ومزاولته قيادة العمل السياسي على شاكلة قيادة الحركات أو الجماعات السرية، وحسب. فإلى حقيقة هذا كله، ثمة واقعة راجحة وحاسمة هي صدور حركة المقاومة الإسلامية ("حماس")، ثم حركة الجهاد الإسلامي بفلسطين، عن مقدمات وملابسات فلسطينية داخلية ومحلية، أهلية واعتقادية واجتماعية وأمنية وسياسية وجيلية، مختلفة عن المقدمات التي صدرت عنها منظمات "الكفاح المسلح" خارج "فلسطين" وأراضيها الواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي، و "الأردنية" و "المصرية" سابقاً.
فولد مع "الانتفاضة الأولى"، الى زخم القيام الأهلي والعصبي الداخلي والذاتي على الاحتلال المتمدد والمستوطن والخانق، شقاق فلسطيني أهلي وسياسي عميق بين أهل الشتات وأهل الداخل، وبين أهل الداخل أنفسهم. فناشطو أهل الداخل و "مناضلوه" الإسلاميون يرون أنفسهم، ونضالهم السياسي والعسكري والأمني والاجتماعي، نفياً للنفي الإسرائيلي. فهم، على ما يرون أنفسهم ويريدونها، رد قاطع وباتّ على نفي أو اقتلاع قاطع وبات. ويتوسل النفي هذا بالقوة والقسر المفرطين من غير تحفظ. ورسم الاحتلال المباشر والعام منذ 1967، واستيلاء الحمى المهدوية على جزء من الشعب الإسرائيلي غداة دخول قواته الجزء الشرقي والتوراتي من فلسطين – مستقبلاً مظلماً، جماعياً وفردياً، لم يعد إلا بتفاقم الظلمة والعزلة وامتدادهما. وعلى خلاف حال الجاليات الفلسطينية في الملاجئ العربية، استحال عملياً على الأفراد فك رابطتهم المصيرية بمصائر جماعتهم، والانسلاخ عن المصائر المحتومة هذه. فمن امتنع عليهم الخلاص أو الخروج الجسدي والمادي، وشطر من فلسطينيين الأراضي المحتلة هم نازحون أو لاجئون مثنى وثلاثاً، حملوا إقامتهم الاضطرارية والقسرية على محنة لا خلاص منها إلا بمعجزة أو بالموت. ومن ليست حالهم هذه من الفلسطينيين، أوليست كل حالهم، ويكابدون نتائج الاحتلال الخارجية أو "السطحية" مثل القيود الثقيلة على الانتقال والمداهمات من دون وطأة الاختناق والاكتظاظ والفقر وإهدار الدم التي تنيخ على صدور معظم أهل غزة خصوصاً – يراهم "إخوانهم" ومواطنوهم، ومن هذه حالهم، أغراباً وشطراً من شعب آخر.
وليس حمل الحمساويين والجهاديين، وربما عامة الغزاويين وبعض أهل مدن الضفة الغربية القريبة من الخط الأزرق ومن المستوطنات الكبيرة، أعيانَ السلطة الوطنية الفلسطينية ونافذيها ورؤوس أجهزتها وأنصارها، على "أجندة أميركية" يعملون بوحيها، ليس الحمل هذا ترديداً خالصاً لرطانة ايرانية وخمينية حرسية. والحمساويون والجهاديون، شأن الحزب اللهيين وكثرة من الأمليين في لبنان، على يقين من أن الانشطار والشقاق الفلسطينيين (واللبنانيين) لم يبقيا على رابطة وطنية جامعة. وعندما يسعى الحمساويون، شأن الحزب اللهيين، في إنشاء "دولتهم"، والاستقلال بها عن الدولة الوطنية المشتركة وبيروقراطيتها المسترخية ووجهائها المعتدلين والعاقلين، أو في ضم الدولة القائمة الى سلطانهم، وإرسائها على "المقاومة" والأعمال العسكرية والاستخباراتية والأمنية الخاصة وعلى أعمال الإعالة الاجتماعية الخيرية، فهم لا يعدون استتمام الانقسام الحاد الذي أصاب الجسم الوطني المفترض، ومماشاة الانقسام هذا ومحاكاته. ويغتذي الانقسام من معين كثير الوجوه والمصادر. يشفع بعضها ببعض، ويحققه ويثبته. فيقوي الانتماء الاجتماعي والسكني والتربوي والصحي الانتساب العصبي والأهلي. ويجمع التدين وشعائره ومراتبه فتات الأسر والعائلات، ولكنه يقرها على خصائصها وخصوصياتها وتفرقها، في آن. ويحاكي العمل السري والأمني الأبنية القرابية والمنازع الفردية "البطولية" المولودة منها، ومن تفتتها وتشرذمها وأحلافها المرتجلة. وتصل الأخبار والروايات والذاكرة أوقات الجماعات بعضها ببعض، وتنظم أفعالها بناظم زمني ودرامي تتقاسمه وحدها، ويسوغ مراتبها ومكاناتها بمعزل من "عالم" السياسة العلني.
وتتضافر الأحوال هذه على عزل أصحابها وجماعاتها، وعلى تحصينهم من الاشتراك في سنن سياسة واجتماع "سويين" و "عاديين"، على ما يحسب من يحتكمون الى "حس سليم" سائر ومتقاسم (والكاتب يعد نفسه، ساذجاً، في هؤلاء). والحق أن الاعتزال والتحصين هما من موارد قوة المعتزلين والمتحصنين. وهم يسعون فيهما، ولا سبيل الى تثبيت انكفاء الجماعات المستميتة في مقاومتها وراء أسوار وجدران حصينة وسميكة من المعتقدات، والأبنية الاجتماعية والسياسات، من غير طريق "المفاصلة"، على قول مريدي سيد قطب وبعض قرائه من الجهاديين والتكفيريين. ولا يبدو هؤلاء - وهم معظم الطاقم السياسي أو القيادي الحمساوي، والطاقم الحزب اللهي، وألسنة أجهزة القوة من باسدران وباسيج وكتاب صحافيين وخطباء ايرانيين، ومحللين وديبلوماسيين سوريين – لا يبدون قادمين من كوكب غير الكوكب الأرضي إلا لأنهم يتكلمون "لغتهم" الخاصة في لغة العموم المشتركة ظاهراً. فهم، على شاكلة يزدي، علاّمة محمود أحمدي نجاد وشيخه ومفتيه وعضو مجلس صيانة الدستور، ينتخبون ويقترعون ويميزون الفاضل من المفضول، ويبيحون كثرة المرشحين على شرط استيفائهم كلهم صفات المفاضلة. ولكنهم، في هذا كله، لا يسلِّمون إلا للكلمة الفصل الإلهية، ومستودعها المرشد والولي الفقيه ونائب إمام الزمان.

إقحام اللغات
وحين يكرر حسن نصرالله وأنصاره أن حربه، قبل ثلاثة أعوام، "إلهية"، وهو قبل إعمال الصفة هذه وبعد إعمالها، يبدو متكلماً بلغة مفهومة، ومعبراً عن معانٍ تقبل التصديق (الحمل على ما صدق) والتشكيك والرد، يفهم السامع أو القارئ (المشاهد) "العادي" أن المتكلم الخطيب يقحم في كلامه، وعلى كلامه، ما يخرج عن عقد المكالمة. ولا مدخل لـ "إيمان" السامع أو "إسلامه" في الأمر. فما ينكره من إعمال الخطيب الصفة "الإلهية" هو حملها على ملكية خاصة من العسير عليه، أو المحال. ابراز صكها الإسمي. وهو يحمل الصفة، تارة أخرى، على وقف ذُري، يعود ريعه الى ذريته أو ذراريه. فلا يستوفي الوقف المصلحة العامة، بل يؤلب بعض الأمة على بعض، على خلاف القصد من الأوقاف والحبوس. وفيما عدا إعمال الصفة، وطلب ريعها ووقف هذا الريع على الخطيب وأصحابه وأنصاره ومريديه، يتكلم الخطيب لغة سائرة هي لغة المصالح والمنافع والأضرار والموازين المعروفة والمشتركة. فلا عجب إذا حمل السامع "التأله" على تطفيف في كيل التخاطب والتفاهم. فهو يدخل على الوزن، أو الزنة، وعلى الميزان، ما لا يسع السامع، أي الجمهور، مناقشته بالحجة. فإما أن يسلِّم وإما أن ينكر. ويخرج، في الحالين، عن لغة الخطيب ومنها. وجزاء "الخروج عن اللغة"، على قول ابن عربي المتصوف، أو آيته، هو الجنون. الجنون أو التصهين والتأمرك. وفي نهاية المطاف ينبغي أن تخسر اللغة قوتها على الأداء والتعارف والاحتجاج، وأن تنقلب اصطلاحاً محضاً، على شاكلة حالها في رواية جورج أورويل "1984". فتفصل بين المتسلطين من أهل الاصطلاح، وبين الناس "العاديين"، وتفرق هؤلاء وتشتتهم.
وتجري الحرب غير المتكافئة، وهي حرب أهلية وداخلية على "الشعب الآخر" وشطره المنافق (على قول حسين شريعتمداري الكيهاني الخامنئي والنجادي) وحرب على ولي أمره المحتل والمستكبر، على هذا المثال. وقصر سامي كوهين، في كتابه في الجيش الاسرائيلي ("تساحال") وامتحانه بها (باريس، 2009، دار سوي)، الحرب غير المتكافئة على الحروب الإسرائيلية – الفلسطينية، وفصولها السابقة واللاحقة. واطّرح الحروب الأهلية والداخلية. وهذا معالجة تحمل سياقة واحدة، أو أصلاً من أصول كثيرة، على جملة السياقات، وتقدمها عليها. فهو يعرِّف الحرب غير المتكافئة الإسرائيلية – الفلسطينية، أو حرب الضعيف، غير المسلح بسلاح يكافئ تسلح القوي، على القوي تعريفاً سياسياً. والتعريف السياسي، أو بالغاية السياسية، هو "رأي" الضعيف، الفلسطيني أو الحزب اللهي. فالضعيف لا يطيق الحرب النظامية. فهي تغلّب العامل التقني، وهو العامل الذي تشيل كفة الضعيف و "الفقير" في ميزانه. وهي تعزل ميدان الحرب أو المعركة من الميادين الاجتماعية الأخرى، وتقصر المعركة على قوتين "فنيتين" أو مجردتين تستفرغان في اشتباكهما عدتهما من الدراية والتدريب والتجهيز والخبرة والشجاعة.
وعلى خلاف الحرب النظامية، تزج الحرب غير النظامية في الميدان بـ "الشعب" كله، وتدعوه الى الحجز بين القوات غير النظامية وبين قوات العدو النظامية، أي الى تلقي الرد بصدره. و "الدعوة" هذه، على فرض الاستجابة، تفترض في الداعي، أي في القوة الحزبية والعسكرية والأمنية المبادرة الى الاشتباك والقتال والقتل والمتعمدة قتل المدنيين وتوسيع ميدان الاشتباك، التعويل على تضامن "الشعب" معه، وجواز التعويل هذا. فإذا ردّت قوة العدو النظامية على مصدر النار أو القتل، وهو مصدر مفترض ومخمَّن حين يسدل الشعب عباءته الليلية على المقاتلين، وعلى قول فرانتز فانون المارتينيكي – "الجزائري"، رداً "مفرطاً"، وهذا شأن الرد الإسرائيلي على العموم، أو مع الرد المفرط في الأهالي، وفي مرافق السكن والجوار، خسائر تعزى الى قوات العدو النظامية، ويتحمل المسؤولية العينية والمباشرة عنها.
وجر العدو النظامي الى رد غير متكافئ، فيصيب أولاً غير المقاتلين ومصالحهم، هو جوهر الحرب غير المتكافئة، على تعريف سامي كوهين. فالفصل الذي يلي الرد الجامح والمدمر هو التفاف المصابين الفعليين والمحتملين حول القوة غير النظامية، وتضامنهم معها. ويمثل الكاتب على رأيه بولادة "حزب الله" في أعقاب الحملة الاسرائيلية "سلامة الجليل" في لبنان، وباستيلاء "حماس" على غزة على أنقاض السلطة الفلسطينية وأجهزتها، وبالحربين الأخيرتين بين "حزب الله" و "حماس" وبين الدولة العبرية. فالانتصار العسكري الذي سعت فيه شعوب "الشرق"، وأخطأته "الثورات (العربية) من فوق"، في مستطاع حركات "المقاومة" الإسلامية والعامية، اليوم، انجازه من طريق شقها مجتمعاتها وبلدانها، وجرها الى حروب أهلية وخارجية معاً لا تترتب عليها مسؤوليات ولا تبعات. وإبطال المحاسبة في بلدان ألفت بعض الشيء أنظمة وأبنية نيابية، على رغم ضعف فصلها بين السلطات واستئثار قوة غالبة ومتسلطة بمعظم السلطة، نهج لم تبتدعه الخمينية الإيرانية ولا "البعث" الصدامي أو الأسدي ولا الناصرية الشعبوية قبل هذا وتلك. ولكن الخمينية أرست النهج هذا، وروافده الاجتماعية والفكرية الكثيرة، على "تأليه" السلطان تأليهاً لم يتجاسر على القول به مذهب فكري أو رأي آخر معاصر.

السبت، 18 يوليو 2009

العراق يخرج من الاحتلال ... إلى «المقاومة» أم إلى السياسة والدولة؟

الحياة, 17 /7/ 2009

بينما كانت الوحدات الأميركية العسكرية المرابطة في المدن العراقية تخلي عشرات المواقع الى قواعد بضواحي المدن أو في عرض المناطق غير الآهلة، في 29 - 30 حزيران (يونيو)، حيا رئيس الوزراء، نوري المالكي، نهاية الفصل هذا على طريق تحرير العراق من الاحتلال. وعزا إنجازه الى الاتفاق العراقي - الأميركي الذي فاوض هو، أي حكومته، عليه، ووقعته الدولتان في أواخر 2008، متأخرتين نحو عشرة أشهر. وأبرز المالكي - وهو الى رئاسته الحكومة العراقية الأطول عمراً في العهد «الأميركي» والاستقلالي، رئيس حزب الدعوة الشيعي والمنتصر في انتخابات مجالس المحافظات في مطلع 2009، والممهد لطي الائتلاف الشيعي وتصدر قوة عراقية مختلطة في الانتخابات العامة الآتية - أبرز حلول المعاهدة المشتركة محل الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن مرجعاً ترجع إليه الدولتان المتعاهدتان، وتقضي في خلافاتهما الأمنية والعسكرية والاقتصادية. ومن جهته، رحب رئيس الجمهورية، جلال طالباني، بالخطوة الأولى على طريق إنفاذ المعاهدة، ولم ينس ما بدا أن رئيس الوزراء، وهو دستورياً ليس رئيس «وزرائه» بل رئيس وزراء المجلس النيابي، أهمله، وهو تحية الولايات المتحدة وقواتها على دورها في طي صفحة صدام حسين وبعثه وعروبته الدامية، وكشف الغمة عن صدور العراقيين. وهؤلاء استحال عليهم إزاحة ثقل صدام حسين الساحق في أثناء ثلث القرن الذي ساسهم فيه «فتى العرب»، على ما سماه ميشال عفلق، مؤسس البعث الدمشقي.
وعلق فريد زكريا، كاتب الافتتاحية الأولى في «نيوزويك» الأميركية، على ذيول المرحلة الأولى من الانسحاب الأميركي، فمدح موقف المالكي من الاحتلال، ورأى فيه دليل فطنة ودراية. فالتنديد باحتلال عسكري أجنبي في بلد أو مجتمع عربي إسلامي يشتري، على الدوام، ميلاً «شعبياً» أو جماهيرياً يتوسله السياسي الحاذق (على مثال صدام حسين وحافظ الأسد وابنه وخليفته) الى تحصين مواقعه وتوسيعها. ورد المعلق شكر طالباني الأميركيين الى دَيْن خاص يدين به كرد (كردستان) العراق الى رعاية هؤلاء حكمهم الذاتي. والحق أن الفرق بين الموقفين ليس فرقاً بين واحد وطني عراقي، وآخر «قومي» (نسبة الى القوم الكردي) أو عصبي ومحلي. فكلاهما عصبي. والمالكي يسترضي بموقفه شيعة العراق عموماً، وحزب منافسه وخصمه الداخلي الأول، صاحب «جيش المهدي» الذي هزمه رئيس الوزراء في مدينة الصدر والنجف والبصرة بواسطة القوات الأميركية، خصوصاً. وهو سارع الى تنظيم عروض أمنية وعسكرية، احتفالاً بالانسحاب الأميركي، حمل فيها الجنود والشرطة صوراً زيتية كبيرة لشخصه الكريم. فيذهب سوء الظن بالمشاهدين الى سوابق بعيدة ومريرة لم تشفِ بعض الناس من الرغبة في ترديدها. ويشدد النكير على استعادة بعض البعثيين الى أجهزة الدولة والإدارة، أشار بالاستعادة هذه ممثلو الجماعات السنية أم اقترحها، من طرف خفي أو غامز، بعض كبار السياسيين الأميركيين في زياراتهم، وآخرهم نائب الرئيس الأميركي.
فأثارت دعوة جو بايدن الجماعات و «الكيانات» (السياسية) العراقية، غداة الانسحاب من المدن، الى تحمل تبعاتها عاجلاً، وذلك من طريق إقرار قانون الثروة (النفطية) الوطنية وإقرار إحصاء نفوس عام وبت مسألة كركوك والمسألة الاتحادية، لغطاً لم يتبدد غداة عشرة أيام على الزيارة. وحملت حيرة بعض المراقبين العراقيين من الردود على دعوة بايدن «الاستقلالية»، ومن إعراب سياسيين عراقيين كثر عن قلقهم من تهديد نائب الرئيس الأميركي بنفض الولايات المتحدة يدها إذا لم يتول العراقيون قضايا مصالحتهم الداخلية (المذهبية والقومية والحزبية السياسية) على وجه السرعة، حملتهم على تعليل الردود المتخبطة والخائفة هذه برأي ذهب إليه بايدن يوم كان رئيس لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس (2006). واقترح يومها تقسيم العراق ثلاث ولايات اتحادية، واحدة جنوبية شيعية وثانية عربية سنية في الوسط وثالثة شمالية كردستانية. والمساواة بين تهديد أو رأي تشخصي، في خضم استعار حرب أهلية مذهبية كلفت القوات الأميركية (الى كلفتها المحلية الباهظة) ثمناً ثقيلاً، وبين إيجاب معيار سياسي يترجم خطة سبق التفاوض عليها وإقرارها، إنما هي مرآة خلط وتردد عراقيين فادحين.
فما يريده السياسيون الشيعة هو تسليم الجماعات السنية والكردية لهم بالوطنية العامة والمشتركة، وبأهليتهم السياسية لتولي الحكم، من غير نزولهم عن صفتهم العصبية، ومن غير الارتقاء بإدارتهم الى الجمع بين أطراف الميول والعصبيات والمصالح المتفرقة والمختلفة. ويقود هذا، في أحوال كثيرة، الى إرساء الأهلية الوطنية والسياسية على اضطلاع مفترض بدور راجح في «التحرير»، أو في إجلاء الأجنبي عن الأراضي الوطنية، أو في «دحره»، على زعم أنصار «القاعدة» الجهاديين، وبعض أنصار أجنحة بعثية تتردد في مفاوضة الاحتلال، وعلى زعم جماعات «مهدية» وصدرية وحرسية مقيمة على آرائها في «المقاومة». ويترتب على إرساء الجدارة الوطنية والسياسية في العراق على المعيار العروبي والإسلامي الجهادي، ما ترتب عليه ويترتب في بلدان المشرق الأخرى، في لبنان وفلسطين والأردن وسورية، أي شق شعب الدولة الوطني «الواحد» شعبين سياسيين وأهليين، أو ثلاثة. وعلى هذا، يستعيض شيعة العراق أو يود معظمهم الاستعاضة بدورهم الاستقلالي والمقاوم عن تولي مهمات ثقيلة مثل دمج «الصحوات» في جسم أمني وعسكري وطني متماسك، ومفاوضة الكرد العراقيين مفاوضة حقيقية على توزيع مصادر الثروة والعوائد وتعويضهم بعض الغبن والظلم الفادحين اللذين أنزلهما بهم التسلط العروبي السابق.
ويود الكرد، من وجه آخر، الاستعاضة بتحريك الجروح النازفة والفظيعة التي أوقعها فيهم الحكم البعثي والقومي الاستبدادي، وحماية إدارتهم الذاتية وحدهم وبمعزل من العراقيين الآخرين، من عودة مثل هذا الحكم متوسلاً نعرات وعصبيات موارد أخرى جديدة. ويمنّ السنّة العراقيون على الجماعات العراقية الأخرى بدورهم في انعطاف البلد نحو بعض الأمن، وكسر شوكة جهاديي «القاعدة» والحرس «المهدي» وقوميي البعث. ويريدون، لقاء الدور الثابت هذا، تعويض خسائر جماعتهم كلها مرة واحدة، من غير أداء حساب (فردي) عن أعمال سابقة مدانة. وبعضها، مثل «تعريب» كركوك، لا يزال يجر أحمالاً ثقيلة، ويعرقل السعي في حلول مقسطة (على أقساط وعادلة). وتزعم الواحدة من الجماعات هذه، على تفاوت بينها في صوغ مزاعمها، أنها تمثل صلب الوطنية العراقية وجماعها، وحدها، وأنها ضمان تماسك الدولة النهائي والناجز. ولا تشك الواحدة من الجماعات، والجماعات كلها ومجتمعة، في إلحاح قضاياها، وضرورة بتها أولاً وعاجلاً، ومن غير اختبار ولا مفاوضة فعلية، ولا مراحل. فما تراه الجماعات، كل جماعة على وجه، متاحاً الآن - بينما الانسحاب الأميركي في مراحله الأولى، ولم يهزم الإرهاب تماماً، ولا تزال إيران وسورية تتمتعان بنفوذ داخلي وإقليمي يستدعي الموازنة بين ردعهما واستمالتهما، ولم ترسخ الدولة العراقية الجديدة مكانتها العربية الإقليمية بعد، وتلتمس تركيا طريق حل المسألة الكردية، ولم يبلغ استخراج النفط مستوى مجزياً - تحسب أنه قد يمتنع منها، ومن متناولها عند تبدل الأحوال و «الدول».
وعلى هذا فالعراقيون، كتلاً وجماعات وسياسيين من غير مساواة مفتعلة في ما بينهم، يدينون بآداب السياسة التي تدين بها شعوب جوارهم، المشرقي العربي و «العجمي»، القريب. فتجييشهم المدمر في حروب «تحرير» قومية وإقليمية وداخلية أهلية، تحت لواء قادة مناضلين ومهيبين، لم يحملهم على إنكار نهج السياسة الذي يلخص هذه في أدوار إقليمية مزعومة يتحصن بها استبداد بالسلطة يخول، بدوره، الحاكم الفرد البت في المسائل الحيوية الداخلية من طريق كم الأفواه والعقول والاغتيالات والتزوير والحملات العسكرية، وتأخيرها الى مراتب ثانوية. والى اليوم، لم يدعُ نوري المالكي، ولا غيره، الى أولوية تحرير القدس، أو استئصال الصهيونية، أو نصرة غزة، أو التحكيم في خلافات الفلسطينيين واللبنانيين والكويتيين والأردنيين على وحدة دولهم وعلى علاقاتهم الدولية، ولا دعوا الى إلحاح القضايا هذه، وتقدمها مسائل الخلاف الداخلية. ولكن بعض القوى الأهلية العراقية، مثل الحرس «المهدي» وبقايا «حرسيي» بدر وجهاديي الزرقاوي و «خلفائه»، ليس بمنأى من الاهتداء الى «البوصلة» هذه وبها، على قول صحافة قومية مزمنة. فهي الطريق الى الاستواء «قوة إقليمية» تخطب ودها «الدول».

الاثنين، 13 يوليو 2009

الموت في قلب الاجتماع سبيل أمثل الى توحيده ونفي السياسة منه

المستقبل - الاحد 12 تموز 2009 -

كانت مأثرة محمود أحمدي نجاد، الرئيس الإيراني السابق واللاحق، الأولى حين انتُخب رئيساً، في 2005، على إيران، وخرج من إغفال رئاسة بلدية طهران وتنكيرها، وفاز على علي أكبر هاشمي رفسنجاني، الرئيس السابق الأشهر والمشير على روح الله خميني، المرشد والقائد الأعلى للقوات المسلحة، بقبول وقف القتال على الحدود الغربية الجنوبية مع العراق بعد 8 أعوام من النزف ومقتل 400 الى 600 ألف ايراني ـ كانت مأثرته الأولى تسمية نحو 4700 ساحة عامة من ساحات مدن إيران وبلداتها وقراها بأسماء مقاتلين من الحرس الثوري سقطوا في اثناء القتال على الجبهات الإيرانية ـ العراقية الكثيرة والطويلة والمتحركة. فأمر الرئيس الحرسي، والمخطط المُدُني ـ ووارث كرباسجي، رئيس البلدية السابق وأحد وجوه "مهندسي البناء" أو "البنائين"، ومستشار حملة مهدي كروبي المرشح الى رئاسة الجمهورية في حزيران 2009 منافساً أحمدي نجاد مرة ثانية الى "يسار" مير حسين موسوي ـ برفع أسماء زملائه القدامى الذين أبلوا بلاء لم يبله هو، على قول بعض ألسنة الشك والنميمة.[الجبانات أصولاًولا يستقيم اسم شاهد إمامي، توكل إليه الشهادة على قوة الغيب، وعلى غشيانها عالم الأحياء والحضور، من غير "رسمه"، على ما كان العشاق الأولاد يقولون حين إهدائهم صورتهم الشمسية أو الفوتوغرافية الى معشوقهم (أو معشوقتهم وحبيبتهم). فأمر صاحب الثورة الإسلامية "الثانية"، وهو يريد الإيرانية الشيعية والحرسية، بنصب الصور، وعلى معظمها الغالب وجوه فتيان وشبان لم يبلغوا العشرين ملونة بالأخضر الأزرق أو الأزرق الأخضر، بأعلى محل من الساحات. فوسع الوجوه الفتية، الملتحية لحية خفيفة، والعيون الشاخصة الى أفق بعيد يعشي بعدُه النظر ويرده حاسراً وقلقاً، وسعها رعاية الساحات، ومن ورائها مدنها وبلداتها، وناسها وأهلها في رواحهم وغدوهم، وفي عمل نهارهم وليلهم. فالحرسي في حياته لم ينفك حرسياً في مماته، وانتظاره امتلاء الدنيا عدلاً بعد ان ملئت جوراً تحت لواء مهديه. والرئيس أحمدي نجاد، المنتسب اسماً الى العترة النبوية (فهو صار "أحمدياً"، بعد ان كان حمل اسماً "أرمنياً"، ونجاده، أي حمائل سيفه على عاتقه يقاتل به دون اهل "بيته"، والإنجاد هو القرب من الأهل)، حسب منذ ما قبل انتخابه رئيساً، وانتصاره المدوي على بعض أعيان "مناصب" الجمهورية بحول المرشد وعونه، أنه مدعو وربما مبعوث الى هداية الأمة الحائرة، على قول ابن ميمون (الموسوي القرطبي)، والقلقة (على قول عبدالحسين شرف الدين، الموسوي الحسيني والصوري).وبعث أسماء من قضوا في قتال الظلم ونواصبه، ورسومهم وظلالهم، جزء من ولاية اهل الحق هؤلاء على أهل الضلال. فالبعث الإسمي والرسمي هذا يلحق مجتمع الأحياء والحضور والشهود والسعي بـ "مدينة" أهل الغيبة والعلم، ويجعلهم في رعايتهم. ويحقق هذا تبعية الحاضر الشاهد، ودنياه المتفرقة والمبعثرة أجزاء وأبعاضاً، للغائب المستتر والمحتجب، الواحد والمجتمع. فإذا اقتصرت دنيا الحاضر الشاهد على الالتحاق ضاحيةً ضئيلة بدنيا الغيبة، وأنكر أهل الحاضر الشاهد المراتب الظاهرة، وطعنوا في ثباتها (أو "ثابتها"، على قول بعض اصحاب التحول المبدع) وصدقها، فربما آذن ذلك بدنو الفرج من سلطان الظاهر ومراتبه الظالمة والمميتة. وعلياءُ الشهداء المقاتلين على المدن والبلاد والساحات، وضحكُ الموت في شفتيهم ضحكاً أقرب الى لوعة الحزن، ورعايتهم من حيث هم اهلهم وهدايتهم الى الحق، قد تشبِّه هذه إلحاق المدينة بمقبرة أمواتها أو جبانتها، على القول العربي العامي والفصيح السابق. وهذا، أي قيام مدن البشر الأحياء ضواحيَ على حدة من جباناتها، وانتصاب الجبانات أصولاً، ليس مما ينكره الرجل ومن يعتقدون ما يعتقد.وفي بعض أحاديث يرويها المحدثون عن كبار اصحابهم، واهل هدايتهم، ويرفعونها الى النبي، حديث "الأمة العالمة"، أو حديث مدينة السد، على ما يسميها كبير محدثي الإمامية وشيخهم "الصدوق"، ابن بابويه القمي (ت في 381هـ/ 991م). والأمة العالمة هذه، من قوم موسى على قول المحدث، هي نهاية مطاف ذي القرنين (الاسكندر من غير شك) بالأرض. والفاتح المعروف يزدوج في الرواية الإمامية ـ ولياً وحجةً على العباد والخلق. وترفع الرواية شأن الفاتح العظيم فتقول انه "من يُجري الله على سنته القائمَ (المهدي المنتظر) من ولد (النبي)، فيبلِّغه شرق الأرض وغربها حتى لا يبقي منهلاً ولا موضعاً منها، من سهل أو جبل، وطئه ذو القرنين، إلا وطئه (المهدي)، ويُظهر الله له كنوز الأرض ومعادنها، وينصره بالرعب، ويملأ به الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً" (ص 374 من مصنف أبن بابويه: "إكمال الدين وإتمام النعمة في إثبات الرجعة"، النجف، 1970).فإذا بلغ الفاتح اليوناني ـ وروايته أو قصصه انتشرت في ربوع المشرق الهلنستي، ثم الروماني فالبيزنطي فالعربي، منذ القرن الثالث الميلادي، واشتهرت شهرة "قصة عنتر" أو "قصة سيف بن ذي يزن" ـ نهاية مطافه بالأرض، وبلغ تخومها المرئية والمعروفة، وحاذى عتبة غيبها، "وجد أمة مقسطة عادلة". وآية قسطها وعدلها انهم، الأمة أي ناسها، "يقسمون بالسوية ويحكمون بالعدل"، حرفياً ومن غير تأويل باطن ولا ظاهر. وهم "يتواسون ويتراحمون، حالهم واحدة، وكلمتهم واحدة". وهذا، أي وحدة الحال ووحدة الكلمة (أو الرأي والسياسة، توسعاً) وموافقة الكلمة الحال، نادر وقليل، وعز كثيراً في القرن الرابع للهجرة. وهو قرنُ تخلّعِ الخلافة العباسية ممالكَ محلية ومذهبية لا تحصى، وفي الممالك هذه ثلاث شيعية إمامية (البويهية والحمدانية والعبيدية الفاطمية) على نحو أو آخر.فما السر الخفي والمؤكد في الوحدتين المعجزتين؟ لا تلبث الرواية، وهي حديث من أحاديث الأئمة المتناقلة، أن تكشف الغطاء، فتقول من غير مقدمات: "قبور موتاهم (أو جبانتهم، على ما مر) في أفنيتهم، وعلى أبواب دورهم وبيوتهم". فسكنهم، أي سكن أحيائهم وأمواتهم، واحد كذلك. وعلى هذه المقدمة، أو الشرط، تتوالى حلقات الوصف والتقرير. وهي حلقات كناية يتوالد أو يتناسل بعضها من بعض. وتقوم الحلقة منها من الحلقة التالية مقام المقدمة والشرط. فمن هذه حال موتاهم وأحيائهم "ليس لبيوتهم أبواب". والباب قرينة على الحاجز والحِدَةِ والفرق أو الافتراق، وأمارة على المرتبة. وعليه، "ليس عليهم أمراء" يعلونهم بالأمر والقوة والسيف. "وليس بينهم قضاة"، يقضون في خلافاتهم ومظالمهم بالحكومة والسنن والشرع.ومن هذا شأنهم وحالهم "ليس فيهم أغنياء ولا ملوك ولا أشراف"، بديهة. فهذه كلها طبقات وفروق. وهم واحد، على أنحاء الواحد ووجوه الوحدة كلها. فبإزاء الموت، "المسوِّي الأعظم" على قول أحدهم فيه، ولكن على معنى ديني قديم، لا ينهض فرق ولا يستوي. فالناس سواسية، والكون والفساد قانون للاستثناء. فـ "لا يتفاضلون ولا يختلفون، ولا يتنازعون، ولا يَسْبون، ولا يقتلون، ولا تصيبهم الآفات. فهم اجتماع لا يتماسك بالسياسة، ومراتبها وتفاضلها ودولها وحواجزها وقضائها، بل من طريق نصبه الموت في وسطه، وبمحل الركن منه. ويخال المرء أهل هذا الاجتماع موتى في انتظار سكنى القبور، بجوار بيوتهم ودورهم، لولا تعمدهم ما يفعلون. والتعمد ليس في مقدور الموتى. وإذا سألهم ذو القرنين، وهو المتخفف من عالم نقيض عالمهم حرفاً بحرف، لماذا قبور موتاهم في أفنية بيوتهم، أجابوا: "فعلنا ذلك عمداً لئلا ننسى الموت..."، ولئلا ينسوا الموتى، من غير شك. فإذا ذو القرنين إرهاص بالإمام الثاني عشر، والقائم من آل محمد، وصاحب الزمان، ومهدي هذه الأمة، فالأمة العالمة إرهاص بشيعته المقيمة على انتظاره.ولا يشك محمود أحمدي نجاد، ولا وليه الفقيه (عالم عصره الأول) وإخوته الحرسيون والشرطيون من الباسيج، وأنصارهم، في أنه (انهم) وارث (وارثو) المدينة الفاضلة هذه، ويتحدرون من اصلاب أهلها. وهو وهم مقيمون على انتظار ظهور مالئ الدنيا عدلاً، ربما غداة استيلاء من دوخها فتحاً ورعباً، على ما ينبه المحدث. وأنا لم أقرأ أقوال محمود أحمدي نجاد، الحجتي (من انصار الحجتية المهدية)، في ظهور المهدي، وفي محله هو من الظهور أو الخروج هذا. ولكن بعض أفعال الرجل وأقواله، والحق يقال: كثيراً من الأفعال والأقوال هذه، يحمل على القطع بأن بينه وبين صاحب الزمان، على ما لا يشك هو ولا يرتاب، سبباً وقرابة.[من الأمة العالمة الى الأمة الجاهلةوقد تكون صور الحرسيين وأسماؤهم على جدران الساحات الكثيرة، وفي أعاليها، صدى من أصداء الأمة العالمة، وتعمدها ذكرى موتاها، ونصبها إياهم ميزاناً ومثالاً، ونفيها السياسة ومراتبها وقضاءها ومشاغلها الدنيوية والعالمية من اجتماعها، واستباقها عدل الإمام العادل وتراحم مدينته ووحدة حالها وكلمتها. وهذا ما اقتبسته الأحزاب الخمينية من الحزب الأول والأم. وهو لا يعدو استنتاج عاشوراء الحسين وكربلاءه نتائج معنوية وصورية وشعائرية تترتب عليها من غير وساطة ولا إعمال فكر. والموتى الموسدون القبور في أفنية البيوت هم "أهل البيت" حقاً، أو هم شيعتهم التي ينتسب أهل المدينة العالمة إليهم، ويتحدرون من اصلابهم. وحفظ ذكر "أهل البيت" وإحياؤه لا ينفك من التدين الإمامي. ومجالس الذكر والتعزية ركن من أركان هذا التدين. ويفوق إحياء المجالس، في أوساط العامة والجمهور، مكانة ومقاماً ما يصرح به أهل "العلم"، وما يقولونه على رؤوس الأشهاد أو يكتبونه. وشيعة "أهل البيت"، شأن هؤلاء أنفسهم، قتلوا مظلومين، على ما لا يشك الشيعة. ويعزو حديث الأمة العالمة الظلم المفضي الى القتل، الى نسيان الموت والموتى، وإلى إنكار الغيبة والغياب أو الغفلة عنهما. وعلى خلاف النسيان والإنكار، يُسلم التذكر الى وحدة من غير منازعة ولا فرق، وربما من غير حياة ولا عالم. فذو القرنين لا يبلغ مدينة الشيعة الإمامية الفاضلة، المقيمة على حضانة قبور سلفها، والمرهصة بعدل مهديها وقسطه، إلا بعد بلوغه ذروة السلطان، وفتحه معظم الأرض المعمورة، واستيلائه عليه. والمدينة الفاضلة الإمامية لا تجوز إلا بعد طيّ التاريخ والاجتماع البشريين، على الصورة التي عرف التاريخ والاجتماع عليها الى اليوم، وإلى قيام الساعة من غير ريب.والعودة الى التاريخ والاجتماع، أو خروج أهل الأمة العالمة الى ممالك ذي القرنين، والنزول بين أظهرها بعد ان خلفها "الرجل الصالح" خراباً ويباباً، وأرض حرب وقتال ومنازعة ومفاضلة وسعي مرير في الحياة وزينتها، من منازعة ومفاضلة وتفرق ونسيان الموت والموتى، هو ما تهجم عليه الأمة الإمامية (الإيرانية)، وتقتحمه غير هيابة ولا مترددة، وتزعم لنفسها القوة على "مقاومته"، ثم على "إصلاحه" من طريق التمثل بها والسير على نهجها، على ما لا ينفك الرئيس المستأنَف الرئاسة يقول ويدعو (فقال في يوم الصناعة والتعدين ان القوى الغربية شككت في الانتخابات الإيرانية الرئاسية "لتصرف الأنظار عن مشكلاتها الاقتصادية". وكان ذهب، حين انفجرت الأزمة المصرفية، في ايلول 2008، الى ان على بلاد العالم الاقتداء بإيران، وبناء اقتصاد سليم على مثال اقتصادها. وهو يعزو "تدخل" الدول الغربية في شؤون ايران الداخلية الى إقبال الإيرانيين على انتخاباتهم، وإحجام الناخبين الغربيين عن الاقتراع. ومثل هذا كثير).وعودة الأمة العالمة والفاضلة الى المدينة الجاهلة والمنافقة تقتضي احتفاظ الأمة بركنها، ورعايتها هذا الركن، وهو مكانة الموت والموتى من اجتماعها، ومن نظامه وعقده. ومرتبة الشهداء، وحملهم على باب "الشهداء الأحياء"، وتصدرهم المراتب، بعد جمعهم هم ومن "ينتظرون" الشهادة في أجسام أو أسلاك قتالية وإدارية واقتصادية بيروقراطية، ليست زخرفة خطابية وحسب. والصدور عن أمة الشهداء وجبانتهم، على ما يزعم أهل الولاية، يرسي سلطان من يسعهم الصدور هذا واتخذوه عملاً وحرفة وحالاً، على ركن مكين، ويكاد لا ينازع. وهو لا ينازع حقيقة وفعلاً ما لم تحمل أصول الثورة الإيرانية في 1978 ـ 1979، وفصولها على المسألة والمنازعة والخلاف، أي على نقيض حال الأمة العالمة و "علمها" المفترض. فتذكر الموت والموتى، ونصبه مبنى الاجتماع وركنه ومحوره، واتقاء الحياة وصروفها ومصائرها بواسطة التذكر هذا ومن طريقه، إنما الغاية منه (ومنها) نفي السياسة، وتطهير الاجتماع منها، ومن منازعاتها وإعمال الرأي والتدبير في شؤونها.والحق ان التشيع الإمامي لا يتستر على معنى قوله بالإمامة والوصاية والاصطفاء وحفظ الميثاق وتواصل الذرية بعضها في بعض، وبكنيتها، وتجريدها من الاختيار. فينسب المحدثون الإماميون الى بعض الأئمة ما يسمونه تأويلاً للآيات القرآنية بالموازنة. فالآية (إني خالق بشراً من طين...) هي ميزان الآية (... إني جاعل في الأرض خليفة). ويخلص المفسر من نصب وتنوين "بشراً" و "خليفة" بصيغة اسم الفاعل الإلهي الواحد الى أن من "ادعى انه يختار الإمام (الخليفة) وجب ان يخلق بشراً من طين" (ابن بابويه، ص 211 ـ 121 وص9). وعندما قال يزدي، "شيخ" محمود أحمدي نجاد وصاحب تقليده وفتواه وعضو مجلس خبراء الدستور، ان الانتخاب الى الولايات والأعمال والرئاسات بدعة، وقال احمد خاتمي أحد خطباء الجمعة بطهران ان علي خامنئي "يحكم بموجب إرادة إلهية" ويحل قتل من يخالفه و "يتحداه"، فهما لم يتعديا ولا تجاوزا الاحتجاج الإمامي وتأويله بالموازنة.[الخروجوتخليص الإمامة أو الولاية، وفروعها من الأعمال والرئاسات والتدبير، من الاختيار والرأي والاقتراع ـ ما لم يكن الاقتراع مبايعة تزكي ميل الولي (العالم) الى "أحد المرشحين، رئيس جمهوريتنا الخدوم والكادح والدؤوب المعتمَد"، على قول خامنئي في أحمدي نجاد ـ مراد الإمامية منه تخليص "الأمة" من المنازعة والسياسة وأهوائها ومسارحها. وإذا استحال على "الأمة" ان تتماسك بجبانة موتاها، واستضافة تذكر الموت في مباني الاجتماع وأركانه وعلاقاته، على حدةٍ من صخب العالم وفتنته وأهوائه، فقد يجب عليها اقتحام العالم هذا، وانتهاج سياسة ذي القرنين فيه وسنته قبل "صلاحه"، ونزوله مدينة السد بمنأى من ياجوج وماجوج. ولكن يبقى من مثال الأمة العالمة، وصفاتها وفقهها، أمران: الأول ولاية الموت والغيب وهيمنتها عليها، والثاني استئصال الخلاف والمنازعة والسياسة منها بواسطة الموتى وتسويتهم البشر الأحياء بعضهم ببعض. فعلى الأمة العالمة، والحال هذه، ان تخرج من مدينتها وحِدَتها واعتزالها، وتشن حرباً "عالمية" أو "كونية"، على قول أجدادنا الأقربين، على المدائن الطاغوتية والجاهلة. والخروج، على ما سمى الإخباريون حركات التمرد والانتفاض على السلطان، باب من أبواب تاريخ التشيع الإمامي لازم هذا التاريخ، وقام منه مقام قبلته و "فكرته الناظمة"، على قول فيلسوف تروتسكي في الثورة (ولعل مديح ميشال فوكو "روحانية" الخروج الإيراني الشعبي "السياسية"، تحت لواء خميني، مرده الى اعتراض الخروج سلسلة الأسباب والنتائج القاهرة، وتجويزه الحادثة حيث لا يؤذن بها نذير ولا بشير).والخروج الأعظم هو "مجيء" القائم أو ظهوره. فإذا كانت سكينة القبور مثال السلم (الامبراطوري، "الاسكندري"، على قول بعضهم في "السلم السوفياتي" الذي استظل صواريخ إس إس ـ20 في أوائل الثمانينات الأوروبية)، فالحرب العامة هي آية "نهاية الزمان" المهدوية والمزلزلة. ففي بعض الأثر ان من آيات نهاية الزمان، ومجيء المهدي، "حصار الكوفة بالرصد والخندق، وتخزيق الزوايا في سكك (المدينة)، وتعطيل المساجد أربعين ليلة، ويسبى من الكوفة سبعون ألف بكر، وتقبل من شرق الأرض رايات غير معلمة يسوقها رجل من آل محمد عليه السلام، يسير الرعب امامها شهراً حتى ينزلوا الكوفة مطالبين بدم آبائهم". والكوفة هذه، على رواية أحد اصحاب اخبارها حسين احمد البراقي النجفي، انقلبت من أم الأمصار العربية الى مدينة مقابر. وحين مر بها ابن جبير، ثم ابن بطوطة، في القرنين الثاني عشر للميلاد والرابع عشر، وقعا على "الخراب (الذي) استولى عليها بسبب ايدي العدوان التي امتدت إليها، وفسادها، من عرب خفاجة المجاورين لها، فإنهم يقطعون طريقها، ولا سور عليها" (على قول ابن بطوطة في 1324م). وهي تدين بانبعاثها في إهاب مدينة أخرى قريبة هي النجف الى القبور التي وارت اجداث بعض "أهل البيت" وصحابتهم من امثال عروة بن هانئ وعبدالله بن الحسن المثلث ابن الحسن المثنى بن الحسن السبط ومسلم بن عقيل ومحمد بن ابراهيم طباطبا وابراهيم أحمر العين بن عبدالله المحض بن الحسن المثنى والحسين بن موسى الكاظم وعبدالله بن الحسن المكفوف بن الحسن الأفطس والعباس بن الحسن المثلث، الى اصحاب "القبور الخمسة": "وهو عَلَم لا يخفى"، على قول البراقي النجفي. فكان بناء محمد مهدي بحر العلوم النجفي، في أواخر القرن التاسع عشر، "العلامات والمحاريب"، في "المقامات الشريفة"، إيذاناً بانبعاث مدينة الموتى والجبانات من خرابها في انتظار حصارها بـ "الرعب"، وانتصار القائم به، على نحو ما نَصَرَ الله بالرعب ذا القرنين من قبل.وآية الرعب الزلزلة، وكانت هذه مكتوبة على جدران المدن اللبنانية القريبة من البلاد التي احتلتها قوات الدولة العبرية، وتشن منها غاراتها على "المناطق المحررة"، وعلى المقاتلين المحتمين بأهل المناطق هذه ومرافقها. فلم يخل جدار على طريق عام من طريق صور، في الثمانينات، أو طرق بعلبك أو ضواحي الشياح وبير العبد وحارة حريك وبرج البراجنة، من توليف الآية الأولى من سورة الحج: (يأيها الناس... إن زلزلة الساعة شيء عظيم). وتركُ (اتقوا ربكم) من الآية يراد به تعظيم أثر الزلزلة في النفوس، وسد ملاذ التقوى وذريعتها على الأثر المخيف. وفي أثناء الحرب العراقية ـ الإيرانية الطويلة (1980ـ 1988)، وهي حرب وصفها الإيرانيون بـ "المفروضة" عليهم والباغية ولكنهم لم يتركوا وسيلة من وسائل إطالتها بعد 1982 إلا توسلوا بها، صورت الدعاوة الخمينية وقائع الحرب في صورة الزلزلة الأخيرة. والزلزلة هي قرين الرؤيا اليوحناوية والغنوصية. فحين فتح الختمان السادس والسابع من "الكتاب المكتوب من داخل"، بين يدي الجالس على العرش، "إذا بزلزلة عظيمة وقد اسودت الشمس كمِسْح الشعر، والقمر كله صار مثل الدم". و "حدثت رعود وأصوات وبروق وزلزلة"، و "حدث برد ونار يخالطهما دم وأُلقيا على الأرض فاحترق ثلث الأرض، واحترق ثلث الشجر، وكل عشب أخضر احترق".[تذكر الرعبوالرعد والزلزال والشهاب والأبابيل هي من اسماء الصواريخ الإيرانية. وحلت الأسماء هذه محل اسماء تقتصر على اصطلاح مجرد وعار من الإيحاءات والظلال القصصية العاصفة، مثل "سكود" أو "إس إس". وتضطلع الأسماء في عالم الرؤى، والرؤيا المفردة، بدور قصصي شعبي قد يتجاوز الدور العملي الوظيفي، أو يتضافر معه على الانتصار بالرعب، ومن طريق الرعب. ولم "يسلم" العدو من عدوى القصص الإيراني الإمامي. ففي تقرير عسكري استخباري نشرته صحيفة "معاريف" الإسرائيلية (ونقلته بعض الصحف العربية عن نشرة "المصدر" الفلسطينية في 4 تموز)، أن "حزب الله" استخلص دروس حرب تموز 2006، وأعد نفسه، ويعدها، الى "يوم الحساب"، على قول الصحيفة التقريري، وليس المجازي. ويصف التقرير، المفترض تقريراً وصفياً، أحوال الحزب المقاتل على نحو ما يرغب الحزب نفسه في وصف أحواله، وعلى نحو ما يرى الى نفسه في مرآة قصصية ولغوية ملحمية. فأنصاره "في كل مكان"، واستخباراته لا تخفاها واردة ولا شاردة. ولكن الحال هذه تبدو عامة ومجردة، ولا تقع تحت الحواس. والتمثيل على الخفاء والغيب عسير، على ما تعرف الديانات كلها. فيشخص التقرير مكافئ "في كل مكان" وصنوه الحسي والمخيف تشخيصاً سالباً. فيقول: "أنصار (الحزب) لا يروحون ويجيئون شاهري السلاح، وملطخي الوجوه بالشحن الأسود". فإذا هم لا يظهرون بمكان معروف، وإذا هم غير معلمين (أو شاهرين علاماتهم)، فما ذلك إلا ظاهر مخادع وغفل يلبسه باطن مخيف.والقناع الغفل هذا لا يحول بين التقرير وبين إحصاء ما لا سبيل الى إحصائه، وإلى العلم به. والإحصاء ـ شأنه في عبارة: أحصى عليه أنفاسه ـ علم إلهي أو علم علاّم الغيوب من طريق جيوش الملائكة والجن والحن وأشباههم وأصنافهم. ولا يدعو هذا كاتب أو كتاب التقرير إلى الإحجام عن التخمين. فيقطع، غير متردد، بأن عدد مقاتلي الحزب الخميني المسلح المدربين والمجهزين يبلغ الثمانية آلاف مقاتل. وكانت الاستخبارات الإسرائيلية زعمت في اثناء حرب صيف 2006 التي أخذتها على غرة منها وخاضتها على غير بصيرة، أن عدد المقاتلين هو نحو 2500، وأنها قتلت نحو ربع العدد هذا في الحرب التي دامت نيفاً وشهراً. وينشر التقدير الاستخباري، وهو ركن معالجة عملية أو عملانية عسكرية محتملة، الآلاف الثمانية في ما لا يقل عن 500 موقع. فهو يزعم ان الجماعة المقاتلة من 15 مقاتلاً مدرباً. وهؤلاء "وحدة دفاعية قائمة برأسها، وتستقل بقيادتها وهيكليتها وسلاح هندستها وسلاحها المضاد للطيران ومكامنها وخطط انتشارها رداً على احتدام المعركة". فإذا قسم الآلاف الثمانية على 15 مقاتلاً، وسع الوحدات المفترضة ان تبث مقاتليها وسلاحها في نواحي لبنان كلها من غير استثناء. وبعض الوحدات هذه ينتشر جنوب الليطاني، حيث يحظر عليه القرار 1701 الانتشار، وبعضها أو كثرتها ينتشر شمال الليطاني. و"الشمال" هذا عريض وعميق. فهو يشمل بيروت كلها، والبقاع على امتداده، وما بين الليطاني وبين بيروت. والصواريخ الشمالية أثقل من الجنوبية، وأدق إصابة، وأخفى على عين العدو ورصده، فغشيان جماعات المقاتلين القليلة العدد، والمستقلة بقيادتها الميدانية وعتادها، الأرض والبلاد والناس، هو رد حزبهم على عمليات برية، عريضة والتفافية، يتوقع الحزب ان تقوم بها القوات الإسرائيلية، وتنفذها فرق كثيرة، في جولة آتية. ويخطط الانتشار الحزب اللهي المزمع لتفادي إنزال العمليات البرية، على خلاف الحرب الجوية السابقة، الشلل في القصف الصاروخي، سلاح الحزب العسكري الأمضى. فإذا شاغلت القوات البرية المهاجمة بعض الوحدات بجنوب الليطاني، واضطرتها الى الاشتباك وترك القصف، لم يقيد هذا الوحدات الأخرى، ولم يحل بينها وبين المضي على القصف. ولعل بيت القصيد في الخطة الني ينسبها التقرير الإسرائيلي الى الحزب الخميني المقاتل هو إنشاء طاقة تمكنه من "إطلاق الف صاروخ في اليوم الواحد على إسرائيل طوال 60 يوماً من غير انقطاع". والقياس هو على أربعة آلاف صاروخ أطلقت قبل 3 أعوام في أثناء 33 يوماً دامتها العمليات القتالية.ويجر القياس الى قياس صنوه ونظيره: ففي أيام الحرب الميمونة السابقة، والمقيدة برغبة أميركية وأوروبية في حماية تماسك الدولة أو الحكومة اللبنانية بإزاء "معارضتها" المسلحة والمغامرة، أنزلت القوات الإسرائيلية بلبنان واللبنانيين خسائر بشرية ومادية وسياسية واجتماعية لم يعوض معظمها، غداة انقضاء 3 أعوام عليها. والخسائر السياسية والاجتماعية الى البشرية، الى تفاقم وتعاظم. وهي تنيخ بأثقالها وسلاسلها وكراهيتها ومرارتها على حياتنا اليومية، وعلى علاقاتنا بعضنا ببعض، والواحد بغيره وبنفسه، والحاضر بالماضي والآتي. وسرى الرعب في أوصال الحياة والأحياء. وحل "تذكره"، على مثال تذكر أهل الأمة العالمة الموت، محل الرابطة الاجتماعية الأولى. ويشرب الرعب هذا من معين دمج الحياة المدنية في المهمات العسكرية، وإدخال السعي اليومي في الباب الأمني، وتغليب الأمن السياسي والبوليسي على المعاش، وحمل السياسة على العصابة، والقيادة على التأديب، وتخليص الحق على الغارة. وتقتضي "ثقافة المقاومة" والزلزلة هذه ألا تنتحي زاوية من زوايا الحياة الخاصة أو العامة ناحية على حدة، أو تستقل بشأنها، وألا يحسب أحد انه في منأى، لبعض الوقت، من الزلزلة المتربصة وراء المنعطف. وروى إيزاك شافيس سينجر، وهو روائي يهودي ترك بولونيا الى أميركا عشية الحرب الثانية وأقام على الكتابة بلغة اليديش المولدة والهجينة، أنه أعرب يوماً الى أبيه المتدين والمحافظ عن رغبته في تعلم الألمانية. فرد الأب مندهشاً ومستغرباً: انظروا الى هذا! قد يأتي المسيح من آل داود بين ليلة وضحاها، ويحسب الولد الغر ان في الوقت متسعاً لتعلم الألمانية!وهذا قبس من الانتظار المهدوي وبعض وحيه. وقد تبدو ترجمته السياسية ملفاً نووياً، وتخصيباً، وتصديراً للثورة، وعمليات أمنية تخريبية في دول الجوار وثأرية في الأقاليم البعيدة، وتظاهرات ومواكب مليونية، وتخييمات ثقيلة، وانتخابات مزورة وصورية، وإفساداً جماهيرياً، وحروباً غب الطلب ـ قد تبدو ترجمته هذه افتراضاً بعيداً وضعيفاً ما لم يُنتبه الى نفي السياسة من الاجتماع المترتب على الترجمة هذه. فاستدراج الحياة، خاصة فردية أم مشتركة عامة، الى دائرةٍ "كل شيء (فيها) جائز"، على قول البابية في الوقت الذي يتوسط نسخ الشريعة السابقة وانتظار الشريعة الآتية، وفي جوار القبور والجبانات، وتحت أنظار الموتى، يحبط الفعل، ويحيله نزوة عبثية لا طائل منها.