الجمعة، 20 أبريل 2012

صناعة التلبيس والتدليس الإعلامية تحشر البشر في واحدِ عشائري ـ بوليسي


المستقبل - الاحد 15 نيسان 2012

أذاعت وزارة الداخلية السورية، في 17 آذار 2012، خبر "تفجيرين ارهابيين" قام بهما انتحاريان قادا سيارتين مفخختين. دوى الأول الساعة 7 والدقيقة الـ20 صباحاً بدوار الجمارك، والثاني، بعد دقائق، بساحة التحرير بين شارع بغداد ومنطقة القصَّاع. وسبق المقتلة هذه، وهي قتلت 27 " من المواطنين المدنيين وعناصر حفظ النظام" بحسب تصنيف الوزارة الامنية، سوابق ذكرت بها الوزارة العتيدة في المناسبة المروعة: في 23 كانون الاول 2011 هاجم "انتحاريان" مبنى ادارة امن الدولة وأحد فروع الامن فقتلا 44 مدنياً وأمنياً وجرحا 166، وفي 6 كانون الثاني 2012 قتل "انتحاري" بحي الميدان قرب مدرسة حسن الحكيم 26 ضحية وجرح 63 مدنياً و"من قوات حفظ النظام"، وقتل "تفجير ارهابي" بحلب في 10 آذار 28 مدنياً و"حافظَ" نظام وكان غرضه فرع الامن العسكري بالمحلق الغربي ومقر كتيبة قوات حفظ النظام بالعرقوب.

وأعقب مقتلة 17 آذار بدمشق انفجار سيارة مفخخة بحي السليمانية بحلب قرب كنيسة اللاتين، اليوم التالي، 18 آذار. وفي 19 منه، انفجر قتال بحي المزة بدمشق بين القوات الرسمية وبين منشقين "من ساعات الليل الى الصباح"، على قول معارض أكد "وقوع اصابات في صفوف القوات النظامية". وأحصى المرصد السوري لحقوق الانسان 18 جريحاً "على الاقل" في صفوف القوات النظامية، ووصف الاشتباكات بأنها "الاعنف من نوعها والاقرب الى المراكز الامنية في (دمشق) منذ انطلاقة الثورة السورية". وأوضح المراسل الناشط أن "سيارات اسعاف توجهت الى المكان من دون صوت إسعاف". واقتصرت "سانا" الرسمية على تعيين مسرح الحادثة بـ"منطقة المزة في دمشق"، من غير طرق ولا شوارع ولا ساحات ولا كنائس ولا مدارس. ونقلت "رويترز"، الوكالة الاعلامية البريطانية ومصدر تحريات صحافية دقيقة في الحوادث السورية، عن "سكان" دمشقيين أن مسرح الاشتباكات هو "منطقة الفيلات الغربية قرب منزل آصف شوكت صهر الاسد ونائب رئيس أركان القوات المسلحة".

وعلى حين يدقق الاعلام الرسمي، "سانا" الوكالة أو وزارة الداخلية، في الاماكن والاوقات التي تتناولها أخباره، وموضوعها غالباً هي عمليات إرهابية بسيارات مفخخة يقودها انتحاريون (على مثال معروف ومشهود هو مثال "القاعدة" في العراق الى اليوم)، يكاد الاعلام نفسه يسكت عن الاعمال الحربية والاشتباكات التي لا يتستر المعارضون المقاتلون على مبادرتهم إليها. فتتولى مصادر معارضة، حقوقية أو اعلامية، الإخبار عن الحوادث. وتكاد هذه القسمة، أي تولي الجهة المبادرة الى القتل أو القتال الاعلام عما تبادر إليه وتفعله، تكون قرينة على البادئ الفاعل. وهذا ما لا يرضاه "النظام" وينكره أشد انكار. ولكن أحداً من المحترفين أو من الجمهور وعامة الناس لم يغفل عن إسراع أجهزة أخبار الحكم البوليسي بسوريا الى إذاعة وصف عمليات القتل بالسيارات المفخخة والانتحاريين. فتذيع الاجهزة، في الدقائق التي تلي الانفجار والقتل، معلومات عن المتفجرات وزنتها، وعن نوع العملية، وتعد بفحص الحامض النووي وتسمية المجرمين. ويقارن المستمع بين "غزارة" الاخبار السورية الرسمية وسرعتها وثقتها الشكلية وبين شح نظيرها العراقي، على سبيل المثل القريب والمستمر، أو اللبناني، وطول الوقت الذي يقتضيه تمييز العملية الانتحارية من العملية الموقتة (بواسطة ساعة أو ذبذبة هاتف تفجير أو آلة تفجير)، فيقع المقارِن على أعاجيب أمنية.

رعية المتفرجين

وإذا لم يكن العمل "تفجيراً انتحارياً" أذاع الجهاز الرسمي والبوليسي، "سانا" أو التلفزيون أو وزارة الداخلية، أخباراً غريبة اقتصرت اذاعتها على الجهاز وانفرد بها. فموقعة المزة في 20 آذار، هي في "الوسيط" التلفزيوني كنايةعن عملية مداهمة تولتها "قوات حفظ النظام". فهاجمت القوات "عصابة ارهابية مسلحة"، على التسمية النوعية التي أشاعها الجهاز الرسمي. وتترتب على التسمية فروع الخبر وتفاصيله. فالعصابة الارهابية اتخذت "أحد المنازل"، من غير موقع ولا قرب ولا بعد، "ضمن منطقة سكنية"، لا يعلم أحد حتى اجهزة الامن التي تعد 15 (أو 16 أو 17) جهازاً أين يكون "المضمون" هذا، "وكراً" على ما يليق بالعصابة، في طبعها ونحيزتها وغريزتها. ويطمئن الجهاز رعية "المواطنين". فقتلى الارهابيين في الوكر بأحد المنازل ضمن منطقة سكنية (3 مراتب تضمين على شاكلة دمية روسية، للمصادفة!)، ثلاثة، واعتقل رابع ("من ضمن" أي عدد؟) في انتظار عرضه على رعية المشاهدين والمتفرجين، ولم يستشهد إلا "عنصر من قوات حفظ النظام".

ويفرط التلفزيون في الاعلام والتدقيق والتفصيل، ويبالغ في الوصف والتقريب. فلا يحجب عن الرعية أن "الاشتباكات"، وهو يريد المداهمة، "أوقعت أضراراً مادية داخل المنزل"، وهو "اتخذه الارهابيون وكراً"، على ما ينبه الخبر مرة ثانية. و"الاضرار المادية" أوقعتها "القنابل والقذائف الآر بي جي (و) الاسلحة الرشاشة". ولم توقع "قوات حفظ النظام" ضرراً يذكر، بداهة. والتزاماً للأمانة والصدق، لا يقول الخبر المتلفز الدقيق أن الارهابيين أرادوا الاضرار بالمنزل أو ضمنه. فهم استخدموا ذخيرتهم "ضد قوات حفظ النظام"، لا غير. وأفرطت "سانا" في الصدق فوق افراط التلفزيون. فـ"الوكر" يقع في "بناء مخصص للسكن في منطقة المزة". فلم يتفق اتفاقاً أنه بناء سكني، على ما قد يحسب القارئ أو السامع المنحاز الى افتراض الصدفة. فإذا اتخذه الارهابيون وكراً فلغاية لئيمة في نفوسهم المريضة.

ولكن قوات حفظ النظام استبقت الغاية، وعطلت السعي. كيف؟ "دهمت فجراً"، وليس في أي وقت، الوكر "بعد إخلائه من العائلات القاطنة فيه". وقد لا تفهم الرعية الغرض الدقيق من البادرة الانسانية الرقيقة: فالاخلاء دعا إليه "الحرص على حياة (العائلات) وسلامتهم"، على ما تشهد أنقاض بابا عمرو والخالدية وباب السباع بحمص، وأحياء إدلب وبلدات ريفها القريب، والبلد في قلب درعا... وعلى ما توضح الوكالة. وهي ترجع في عدد القتلى الارهابيين: فهما اثنان، واما الثالث فاعتقل، وأما الرابع فليس موجوداً. وبرهان تماسك خبر الوكالة أن عدد البنادق الآلية التي غنمها حافظو النظام 3 بنادق فقط: للقتيلين بندقيتان وللأسير (أو المعتقل الجاني وليس الاسير المحارب) واحدة. فمن أين جاء التلفزيون بالرابع؟

وأهمل جهاز "الإنباء" الصادق والصادر عن "السيف"، وليس عن "الكتب" و"الفلسفة" ("الوطن") وصور "اليوتيوب" المزورة وأخبار الشهود الكثر المختلقة والمسترسلة في جزئيات لا طائل منها، أهمل تقولات مصادر "رويترز" الثرثارة. فإلى عدد الجرحى وسيارات الاسعاف المخنوقة وموضع الاشتباكات وأدوار المقاتلين والوقت الذي دامته، يغضي الجهاز عن استقدام بعض قواته من ريف دمشق الى دمشق نفسها، ونشره ميليشيات في الشوارع القريبة وتجنبه الحجز بين الطرق بكتل إسمنت، وعن استعمال مدافع ثقيلة غير البنادق الآلية، ودوي انفجارات بجوار سوق حمادة، وقطع الكهرباء عن المصابيح في أعلى أعمدة الانارة. فهذا، وغيره مثله، علم لا ينفع وجهل لا يضر. وأما علم "السيف" الرسمي وإنباؤه فنفعه ظاهر ولا يمارى فيه: فمن يعلمه من المصدر الموثوق والواحد على خلاف جهل "رويترز" وشهودها المجروحين (مرتضى رشيد من "مجلس قيادة الثورة في محافظة دمشق"، "المرصد السوري لحقوق الانسان"، "سكان في دمشق"، "لجان التنسيق المحلية"، "سكان عبر الهاتف"، و"ربة منزل تقطن بالمنطقة") يميز يقيناً الصديق من العدو، وحرسي الأمن والسلام من المخرب، والوطني والعميل، والمنطقي المتماسك من الهاذي المسترسل. وهذا التمييز ربح صاف تجنيه الرعية ولا يخسره "النظام".

ولكن إنجاز إنباء النظام بواسطة السيف والفتوح ("يهاجم الجيش المسلحين بآلياته ودباباته ويقوض بناهم وينهي وجودهم المنظم، فتدخل بعده الاجهزة الامنية لتنظيف ما تبقى من هؤلاء وشن حملات دهم واعتقالات"، نقولا ناصيف، "الاخبار"، 20/2/2012، ص 4) ليس شيئاً، على عظمته الملحمية والناصيفية، قياساً على انجازه بواسطة فهم الرعية وعقلها المنظم والثاقب. ففي يوم التفجير، السبت في 17 آذار، وبعد ساعات قليلة عليه، كان "السوريون"، سوريو الاستفتاء الرسمي وجهاز أخباره وآرائه وأحكامه، يلهجون بلسان واحد معنى واحداً سبقت إليه وزارة الداخلية في بيانها الافتتاحي: التفجيران "جزء لا يتجزأ من استهداف الشعب السوري في أمنه واستقراره ويأتيان في ظل التصعيد الذي نشهده مؤخراً من أطراف اقليمية ودولية، الذي تكرس مؤخراً مع خروج دعوات ارسال الاسلحة الى سورية الى العلن".

مواطنو النظام

فما كان من "سانا" إلا أن انتخبت من المواطنين أولئك الذين أصيبوا في العملية المزدوجة وجرحوا. فهم الأوْلى بالشهادة والرأي، وهم ألسنة صدق لا يطعن انسان سوري في صدقها. فـ"ذكروا تفاصيل تعرضهم لهذه الجريمة البشعة التي ارتكبتها المجموعات الارهابية"، على ما يعمم جهاز التحريض الرسمي. ويجمع "الجرحى" المصابون "المواطنين" الى "قوات حفظ النظام"، بحسب المصطلح إياه، في باب واحد. ويقول مستصرحو "سانا" ومستفتوها ما قاله قبل أيام قليلة المقترعون على "ترهات" الاصلاح الدستوري، على قول "الرئيس المحبوب من 40 مليون سوري" و350 مليون عربي في بعض بريده الالكتروني (والمثال هو كيم إيل سونغ الجد: كان محبوباً من 70 مليون كوري: سكان كوريا "الديموقراطية" الشمالية وكوريا عميلة الامبريالية ونحو 10 ملايين كوري لم يولدوا بعد). كلهم قالوا:" هذه الجريمة تؤكد وحشية منفذيها وتجردهم من المشاعر الانسانية وارتهانهم لقوى خارجية تريد إرهاب الشعب السوري وكسر إرادته".

وما قالوه جماعة أو جميعاً قالوه فرداً فرداً. فقالت نهاد محمود، "الناجية الوحيدة من الميكروباص الذي احترق في دوار الجمارك":" مثل هذه التفجيرات الارهابية لن تزيد الشعب السوري إلا قوة وإصراراً على مواصلة مسيرته في الدفاع عن أمن الوطن واستقراره" (والامن والاستقرار هما فرعا وظيفة وزارة الداخلية ودورها ومهمتها). ويصف كيفوت باشايان، من حي القَصَّاع وهو مصاب وأخو مصاب، وصفاً دقيقاً وحسياً العمل الارهابي: فهو وأهل الحي "استيقظوا على صوت التفجير" و"شظايا الزجاج أصابت شقيقه بجروح عميقة". وعلى هاتين المقدمتين الكبيرتين والأليمتين يبني النتيجة الثابتة:" من يقوم بمثل هذه الاعمال الاجرامية لا يملك أي ذرة رحمة أو انسانية"، أي هو "وحش" و"مجرد من المشاعر الانسانية"، على ما مر للتو.

ويُصعد باشايان الأخ في معراج الفصاحة والبيان السياسيين، فيكمل: ان الاعمال الاجرامية "تندرج في اطار الحملة التي تقودها بعض الانظمة العربية التي تدعو الى تسليح من يرتكبون الاعمال الاجرامية بحق المواطنين السوريين". ولا شك في أن الاندراج هو، في حي القصاع، مصطلح عامي يتداوله سكان المباني السكنية والقاطنون حال إفاقتهم على الانفجارات الاجرامية، وتبادلهم أطراف الحديث مع جيرانهم. ويجزم محمد خليف الحمادة، سائق الحافلة الصغيرة وجريح دوار الجمارك، أن الديموقراطية والاصلاح ليسا إلا قناع "القتل والتدمير والتخريب". وتوج سمير الخالد، من غير تعريف ولا إصابة والحمد له كثيراً، تحليل المصابين بـ"رسالة لمن يتدخلون في شؤون سوريا الداخلية" (وهو عفّ عن أوباما ورجب طيب أردوغان، مخاطَبي بعض حكماء المعلقين ومجربيهم)، فينبههم الى أن "عهد الاستعمار القديم والوصاية ولى منذ زمن بعيد، وأن الشعب السوري اتخذ قراره بالوقوف مع برنامج الاصلاح الشامل". وهو "شامل" شأن كل ما ينهض إليه وكيل العشيرة والمؤتمن على سرها.

فإذا تصدت القيادة القطرية "للبعث" لإبداء الرأي في المجزرة تقلب بيانها بين "البيوت الآمنة والاحياء المستقرة"، وابتكر "للأمن والاستقرار" موصوفين جميلين. ولكنها لم تُبقِ "الارهابيين" غير مطلَّقين ولا معلقين. فنسبتهم نسبة قاطعة: "هم تكفيريون"، ويندرجون على ما كان كيفوت باشايان القصّاعي قال، "في اطار عملية تآمرية واسعة ومخطط لها منذ زمن تستهدف المنطقة بأكملها...". و"المنطقة بأكملها" تكني عن الجماعات الطائفية، وعن السابقة العراقية وقبلها اللبنانية. وفي الحالين تعهدت "روح حافظ الاسد" حماية الجماعات، والقصاع وحي حلب، حيان "مسيحيان" شأن السيوفي ومونو في أيار 2005 ببيروت. ولم يسقط في يدي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين القيادة العامة، ولم يستغلق عليها باب القول بعدما أتى المتقدمون على المعاني كلها. فمن هويتها الفلسطينية المقاتلة، وتصدرها الجهاد على أنواعه وطرائقه ومراتبه: جواً وبحراً وبراً وعراقاً وقبرصاً وطهراناً وفزاناً ويرموكاً ومجاناً وكيْلاً، نَظمت "المجازر الممتدة من غزة الى دمشق" في سلك واحد، وغاية واحدة هي "اغتيال روح المقاومة وثقافتها". و"ثقافة مقاومة" هي شعار حركة العميد السابق اللبناني البيروتي الطريق الجديدي مصطفى حمدان، قائد حرس فخامة اميل لحود الجمهوري، و"شهيد" تعسف ميليس (اليهودي الأم) "الحي"، ومجدد "المرابطون". وتوارد الافكار والألفاظ بين ألسنة الامة وخطبائها ومفكريها يدعو الى التفاؤل. فهو القرينة على مجيء وحدتها الوشيك، واستفادتها من "انحدار الغرب"، على قول الولي الخميني الصاروخي.

المواقيت

والحق أن التعقيب على العملية "الانتحارية" المزدوجة أو المثلثة يسدد حساباً سابقاً قريباً ويفتح حساباً متوقعاً وجديداً.. والحساب السابق القريب هو إعلان أربع دول في مجلس التعاون الخليجي في 16 آذار، بعد السعودية والبحرين، عن غلق سفاراتها في سوريا. وعللت الدول الاربع إجراءها بـ"(رفضها) تمادي النظام السوري في القتل والتنكيل بالشعب السوري الاعزل...". وتحمل أجهزة التحريض النظامية الاعلان وقبله الانسحاب الاميركي والفرنسي وبعده الياباني، على عدوان ووصاية جديدة ونازع امبريالي واستعماري، شأن المبادرات العربية السابقة، من إنشاء لجنة المراقبين في رئاسة الجنرال السوداني الطاهر الذيل، والناصع اليدين الذي وقع عليه اختيار وليد المعلم في ضوء مشورة جزائرية. وتخشى "الديبلوماسية" السورية، غداة انتداب أمين عام الامم المتحدة سلفه كوفي أنان مبعوساً دولياً وعربياً خاصاً الى "التوسط" في حرب النظام على السوريين، جلسات محلس الامن أو مجلس حقوق الانسان المتوقعة لمناقشة تقارير المبعوث الخاص أو توصيات تقترحها كتلة الدول الاعضاء. وعزت رسالة الحكومة السورية، في 16 آذار، الى عدد من الهيئات الدولية انفجار 12 منه بحلب، الى "(اعتياد) المجموعات الارهابية ارتكاب مثل هذه المجازر واتهام الحكومة بذلك قبيل انعقاد جلسات لمجلس الامن أو مجلس حقوق الانسان (...)، بهدف الاساءة الى سورية واستخدام هذه المأساة وغيرها كمادة اعلامية للمتاجرة بها..". وانتداب كوفي أنان، وهو حاجة روسية ماسة الى التعلق بأهداب إجراء ديبلوماسي يداري النقض على مشروعات قرارات الادانة ورفض المبادرة العربية، يشغل بال الجهاز الأسدي ويقلقه، ويقلق طهران، على ما لم يتكتم مستشار خامنئي، ولايتي. فذهب وزارة خارجية الجهاز العشائري والامني الى أن بنود أنان "لا ورقة" ردت الوزارة عليها، ساخرة، بمثلها. ولا ريب أنها أوجست من إعراب الناطق باسم الامين العام السابق عن تحفظ الرجل عما سمعه في دمشق من رأسي الجهاز، ومن تعمد وزير الخارجية الروسي في الاثناء نفسها إعلان انتقاداته لـ"أخطاء" حليف بوتين و"تأخر إصلاحاته" و"التلكؤ في تنفيذها" قبل إعرابه من تخوفه (من) "حكم السُّنّة" سوريا العلمانية. واقتراع مجلس الامن على البيان الرئاسي، في 21 آذار، وتزكيته خطة أنان، على رغم كتابتها العائمة والاقتراع إليها ومعها على ادانة "الهجمات الارهابية" في دمشق وحلب في 17 و19 وفي 18 آذار (من غير نسبتها الى "المعارضة")، هذا الاقتراع لا يدعو الجهاز الى "النوم على حرير" صحافيي العهد السوري - اللبناني. والتنبيه الرسمي ("سانا") الى افتقار البيان "صفة القرار" يعد وعداً صادقاً بفنون العرقلة والتثبيط التي تجيدها "سوريا" وتمرنت عليها منذ عقود.

وما بسطته "سانا" ونقلته، على رغم رتابته القريبة من البلاغة "الادونيسية" ("بدوي الساحل") نثراً وشعراً وسياسة وثقافة، يخلص منه الى أن "مواطني" الوكالة السورية للأنباء يغادرون لفحات النار القاتلة ليس الى المشافي والمخابر، على قول وائل الحلقي (وزير الصحة)، بل إلى منابر الخطابة ومنصاتها وذراها. فلا يغفل الجهاز التحريضي "العلماني" عن مهمة حيوية تتخطى الاعلام على المعنى التقني والقطاعي، الى الكيان السياسي ومقوماته، والى صورته في عيون المحكومين (الرعية) وأفهامهم. وعلى الحوادث والوقائع ان تدخل في أبواب الوصف المعيارية التي تسميها سلطة الجهاز، ولا ترضى عنها بديلاً، ولا لها تحويراً. وهذه الابواب صارمة وحديدية. فـ"المجموعات الارهابية" هي الباب الوحيد والضيق الذي تُحشر فيه المعارضات الكثيرة، السياسية والمحلية والقومية والمذهبية والمطلبية والاهلية والاجتماعية والثأرية والايديولوجية السلمية والعسكرية وغيرها. ويحسب الاسد الثاني أو الآخِر أنه ارتكب خطأ فادحاً حين صنف، في خطبته الثانية غداة خروج درعا على قريبه ووكيله الامني عليها، المعارضين المحتجين على ثلاثة أصناف، صنفان منها من غير "الارهابيين". وهذا ليس "ضعفاً" يدعو حرسه وباسيجه الى صرفه الى "العيادة" وإحلال صاحب الفرقة الرابعة المدرعة الماهر محله في "القيادة"، وحسب، بل هو خيانة للمثال "الكينوني" (روح الله خميني) والوظيفي الذي أرساه القائد المؤسس. والخروج، مهما كان طفيفاً وضئيلاً، عن باب "المجموعات الارهابية" الى باب غائم يختلط فيه أصحاب حاجات معيشية أو حائرون أو مضللون، يؤذن بجهنم نارها الشكوك والظنون وتصفح العلامات والتماس الشهود وقبول التحقيق والمراقبة والمحاسبة والإذعان، في نهاية المطاف، الى الكيل الدولي والمعولم بمكيال حقوق الانسان، وهي باب على محكمة الجزاء الدولية ربما.

الحادثة الواحدة

وتتداعى الاسماء المرذولة الاخرى من الفرق الجوهري الاصلي. فسوريا والعروبة والمقاومة والاستقلال والصمود والامن والاستقرار والازدهار والعلمانية والانسانية... هي كلها معنى واحد لا يتجزأ ولا يختلف. ويجيز الرسم، وخطوطه وألوانه الناتئة والفاقعة، الاستدلال على الحوادث ومعانيها، واستباق أوقاتها في "طبيعة" مرتكبيها والغايات التي يسعون فيها. فإذا أسفر تقويض بابا عمرو عن نحو الالف قتيل الذين خلفهم القصف والقنص والخطف والتهجير طوال 3 أسابيع متصلة، وعن مجزرة كرم الزيتون والعدوية ثم عن مجزرة حي الرفاعي (بحمص كذلك)، لم يتردد الجهاز في حمل المجزرتين على "المجموعات الارهابية". وعزاهما الى إبداء الاهالي، قبل قتلهم وربما بعده، معارضتهم ارهاب الارهابيين. ولا يسعى هؤلاء في غاية تخصهم، أو قد تنم بحاجة موجبة أو معقولة تصورهم بشراً أسوياء أو قريبين من سورية الناس. فهم لا يسوقهم إلى ما يرتكبون إلا "تشويه" صورة "سوريا"، وتبرير تهمتها بفظائع غير انسانية، وتخريب امنها واستقرارها، الخ. والمرتكبون "أدوات"، ومأجورون "ذهباً" و"فضة" و"(حلفاً) بين السماء والمال" (أدونيس، "الحياة"، 22/3/2012، ص 16). وأوقات الجرائم توقتها، على وجه الضبط، ساعة حائط دولية لا تخطئها عين هي مواعيد المناقشات في هذا المحفل أو ذاك، أو مواعيد الاستفتاءات والانتخابات و"الاستحقاقات" الاصلاحية والديموقراطية التي تملأ الروزنامة الاسدية منذ آذار 2011، وتاريخ ولادة السياسة الاصلاحية التلقائية والعفوية، على قول الجهاز. ويخيم على الرسم، وخطوط ألوانه، منطق صارم يُنزل بالرسم ما ينزله المنطق المجرد في صنائعه ومخلوقاته الذهنية الخالصة من إحكام وتجانس ووحدة تحيلها هياكل عظمية لا تتميز. والكلام على حوادث، في صيغة الجمع والكثرة، هو من باب الاعتياد. ففي ملة الجهاز واعتقاده، على قول المعري (قريباً من ادلب ومخيمات تركيا)، الحوادث كلها حادثة واحدة تتقطع وتتناثر أماكن وأوقاتاً. ولكنها لا تفلح في التستر على وحدتها الجوهرية والعقيمة. وإذا خدعت الكثرة العين غير المدربة، وهي على الدوام عين مغرضة، فعين الجهاز الساهرة واليقظة تُعمِل التفكيك في الكثرة المتشابهة، وتجلو الواحدة (الارهابي) المتلفع بالثنايا، والمتقنع بالديموقراطية. وتشهره عارياً على الملأ. وتقتضي صرامة المنطقة الاجماع الذي يطبق على المصادر الكثيرة والمبثوثة في الناس والاوقات والمواضع والكلام، ويخنقها. فليس هناك ما يخالف صرامة المنطق الجهازي، وإجماعه الفطري والالزامي، فوق تشدق الاعلام أو الصحافة والدول الغربية الاستعمارية والديموقراطية من ورائها بالحرية، طبعاً، وبكثرة المصادر وامتحان تطابقها أو تضافرها على وصف واقعة وصفاً متواطئاً ومتفقاً. فوزارة الداخلية ووزارة الخارجية و"سانا" والتلفزيون وصحيفة "الوطن" ومحافظ إدلب ووزير الصحة وكيفوت باشايان ومحمد خليف الحمادة وسمير الخالد (وأحسب أن الثلاثة يمثلون ربما على "وحدة وطنية" على رغم الفسيفساء "اللبنانية البغيضة)، وقيادة حزب "البعث" غداة انزياحها عن موقع قيادة الدولة والمجتمع، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (وما بين الخليج والمحيط وبعد بعدهما) القيادة العامة، هؤلاء جميعهم تواضعوا على وصف أعمال الارهاب وجماعاته ومقاصدهم ومعتقداتهم وأقنعتهم ومموليهم بكلمات متفقة، تكاد تكون واحدة. ولولا أنهم ينطقون بالحق، والحق واحد، لما أجمعوا إجماعهم المشهود والمعجز. والتلويح أو الايحاء الحيي بامتحان الاجماع وحقيقته من طريق تكثير الآثار والاخبار والشهود والشواهد والروايات والسرديات والصور والوثائق والمدونات والتقارير، يحمله الجهاز على طعن لا يطاق في وحدته الكيانية: وحدة القيادة والشعب، ووحدة القيادة والقضية، و"الدولة" والأمة، والسياسة الخارجية والداخلية، والامن والقانون، والاقتصاد والمقاومة، والقتل والاستقرار... والشهود على حقيقة الكثرة، أي كذب الوحدة واضطلاعها بالتقتيل والتدمير، يُقتلون، على نحو ما قتلت ماري كولفن، وكادت سيمون بيرتييه أن تقتل، وقتل المصوران الفرنسيان وعشرات "المراسلين" السوريين قبل وبعد. وتكذيب الشهود المخالفين ووثقائقهم تكذيباً محموماً، وانكار العلم بتردد صحافيين غربيين الى معاقل المعارضين (وهذا ما كَذَّبته المراسَلات الرئاسية الالكترونية المقرصنة) وتعمد قتلهم بالقصف المركز، وإقناع الصحافيين العرب بترك التحقيق الميداني (وامتناع هؤلاء راضين مرضيين ومحللين ثاقبين) هذه كلها تتولى رعاية "الواقع الواحد المتماسك وحراسته من التفسخ والتناثر، وصون أوليائه من الانهيار. فيبدو السلطان السوري قواماً على "الواقع" الواحد والمتماسك هذا، والمحامي اليقظ والمتشدد عن (رفض) التحقيق في شأنه. ويبدو، من وجه آخر، هو ودوامه المتطاول ثمرة هذا "الواقع" الخرافي والمفتعل.

جامع التعريفات

وتتربع فكرة "الواقع" (والوقائع والحقائق من فروع هذا الاصل) بمنزلة عالية وشريفة من النظام السلطاني بسوريا. فهو، بحسب المشيئة، ما يعرِّفه السلطان واقعاً أو حقيقة. ويتناول التعريف، أول ما يتناول، السلطان نفسه. فهو ما هو ومن هو في نفسه، على ما انتهى اليه صدام حسين في أعوامه الاخيرة حين سمى الارض "كوكب صدام حسين"، وعلى تسمية جهاز الدعاوة في الجماعة الخمينية المسلحة بلبنان "سادة قافلة الوجود" بعض موظفيه، وعلى سؤال رجال التعذيب الأسديين رهائنهم "من ربكم؟". ويتناول التعريف خلاف السلطان أو ضده، أي عدوه وهو العدو على الاطلاق، عدو الجنس البشري في نهاية المطاف، وفي أوله. وتفترض التعريفات، وحكمها الذي لا راد له في الوقائع والحوادث، إطاراً أو نظاماً مغلقاً لا يشوبه تنازع التعريفات أو كثرة مصادرها ومقاصدها. فيرفض الآمر الناهي في التعريف ولاء أو تسليماً لا يصدع حرفياً بالأمر والنهي على صورتهما اللازمة. وليس للـ"مواطن" المصابق بدَوَّار دمشقي، أو درب حلبي أو شعب إدلبي أن يقول من تلاء نفسه، ومن دواعيه، لماذا قد ينصرف عن حركات المعارضة المحلية وقد ينحاز على قدر أو آخر الى الحاكم العرفي والجهازي. ولا يفترض، في الاطار السلطاني المغلق، أن يملك "المواطن" شيئاً يشبه تلقاءَ نفسٍ، أي شيئاً تلقائياً وطوعياً وعفوياً. وهذا الافتراض يسرق من السلطان، ولو جاراه بعض المجاراة، وحدانية التعريف ونظامه المغلق، وهو ضمان ضبطه. والضمان لا يأتي إلا مما يصنعه الجهاز صناعة يدٍ فقيرة وقليلة العناصر. فإذا استحكى الجهاز من يريدهم ألسنة الشعب الآمن والمستقر عمد إلى صناعتهم على مثال عظيم، وأوكل إليهم تجسيد المعاني والتعريفات التي يريد أن تنسب إليه وينسب هو إليها: الأمن، الاستقرار، السيادة، المقاومة، الانسانية. فالأصل الشعبي والعروبي والانساني الذي يتحدر منه السلطان هو صنعه الباهت والرمادي، وعلى شاكلة تعريفاته وتوليدها المنطقي والميكانيكي بعضها من بعض. وإذا أراد رواية حادثة على بعض التعقيد، شأن هجوم المزة الذي يفتقر الى آلات "القاعدة" و"التكفيريين" المعروفة (والانتحاري في سيارة مفخخة آلتها الأولى)، ظهر الارتباك على صناعة الخبر. فعزاه الجهاز الى مبادرته، وأسكن "مجموعة" مبنى واضطر الى وصف أهله بمدنيين، وإلى إخراجهم قبل المهاجمة، وتعثر بعدد القتلى ونوع الأسلحة.

ولا ينفي هذا باع السلطان الاسدي، في أثناء ولايته المديدة، على المحاكاة والتقليد والتلبيس (إلباس ما يصنعه ويحاكيه لباس المثال المزعوم). فهو حاكى ويحاكي (مثال) حركة تحرر "مناهضة للاستعمار" ترد الامة سيادتها على نفسها وثقافتها ومواردها، وتجلو دولتها أداة توحيد وجمع. وحاكى ويحاكي حركة عروبية ووحدوية تتعالى على الخصوصيات والعصبيات الضيقة، وتصل بين أجزاء "الوطن" المتقطعة، وتسند السيادة الى قوة منيعة وموارد تقوم بأود مواطنين طلقاء من قيود الحاجة والعوز. وهو توسل الى هذه المحاكاة بدولة الحزب القائد، وحزب "الدولة" السلطان، وبالجيش العقائدي، وعصائب "اسد شرى" "القاعدة"، والبوليس "الكوري الشمالي"، والطائفة المتعصبة والجبهة الوطنية الذليلة، والشعب المكسور والمنكفئ، والفصائل الفلسطينية المنقادة والخائفة، والفصائل اللبنانية المتكسبة والمذعورة، والفصيل الحرسي والخميني المستميت والمنتشي، والشارع العربي المصدق. ولم تقتصر المحاكاة على المشاهد والاستعراضات والخطب، فتعدتها، على خطرها، الى حروب نظامية وأهلية، مباشرة وبالواسطة، خاطفة ومتطاولة، وإلى انقلاب جبهات، ومساومات مجهضة و ومُخْلِفة، ومقايضات بأنواع "العملات" ومن موارد الغير، سوريين وغير سوريين. ولم تكذب هذا التلبيسَ أربعون سنة أسدية، وبعض المستقرضات، لم يُحرر في أثنائها المتمادية شبر واحد زائد من الارض "العربية" المحتلة، ولم يبق "عربي" واحد لم يقاتل "عربياً أو يستدرجه الى القتال او يبتزه أو يتهمه، ولم تلن شوكة متسلط كاسر (على مراتب المتسلطين) على شعبه، ولم تقايض قوة جماعة بغير إذلال الجماعات الأخرى والمواطنين عموماً، ولم ينل مواطن حقاً بغير شفاعة أو منة وواسطة، ولم يخلَّ بين انسان وبين تلقائه أو نفسه وعبارته. وبلغ السلطان ما أراده من تقليده القضايا الكبيرة، وتدليسه فيها، ومسرحته "صراعاً" جيو سياسياً واستراتيجياً كونياً، على "شفير" المهاوي المهولة. وتوسل الحكاية البطولية أو الإلهية الى "سحر" تشبه عليها المعجزات والفتوح والقوة والريوع. وأدار حكايته على حرث "حديقته" اللبنانية "الخلفية"، على تسمية صحافية مترجمة، حين حلتها المنظمات الفلسطينية المسلحة وبعد أن جلت عنها، وعلى قطاف عوائد الخوات والاغتيالات والتسليح والتحريض و"التحرير" والنفخ في ذوات طاووسية ذاوية. وتولى "السحر" وسطاء الحرس والباسيج اللبنانيون، وهو أشبه بسحر "الفوبيجو"، أو الحلي المقلدة والكاذبة، وتشبيه تنكها وزجاجها "حقائق" الذهب والفضة والياقوت والعقيق. وفي أثناء الاربعين سنة ونوافل احتفل الجهاز العشائري والبيروقراطي البوليسي بأعراسه الدامية والراعفة، وأسكر "المدعوين" قسراً بعصير المياه العادمة والآسنة، وقلد الاعناق، قبل ذبحها من الوريد الى الوريد، قلائد التنك والزجاج. وبعد نيف وسنة على قيام الرعية على سلطان الجهاز، والمقاتل والملاحم والمذابح، لا يزال السلطان متربعاً في سدة "قوات حفظ نظام" متماسكة، وإدارة منتظرة، وتجارة دمشقية وحلبية تشتري الوقت والرضا، وشويعر لمي يرثي "ضوء الخارج (و) ضوء الداخل" في أجرومية "تنوير" بائخة

الأحد، 1 أبريل 2012

هزال التضامن مع السوريين أم استهلال رابطة وطنية؟

المستقبل، 1/4/2012

يسأل يوسف بزي عن السبب فيما يسميه "فراغاً سياسياً ووهناً لبنانياً عاماً إزاء الحدث السوري، ونأياً بالنفس" عن ملابساته اللبنانية الداخلية وانقسام اللبنانيين حزبين كبيرين هما حزب 8 آذار– وحزب 14 آذار ("نوافذ"- "المستقبل" 25 آذار 2012). ويخلص، في أعقاب إحصائه الدعوات الى التظاهر ووصفه التظاهرات كماً و"نوعاً" (مكانات)، الى التسليم بما أعلنه وسم المقال وهو "امتناع السياسة" في كنف "المتن" الطائفي في لبنان اليوم، معاصر "الثورات العربية"، واقتصار "لبنان" على "ساحة هوامش": الأمانة العامة لقوى 14 آذار، مشاركة رمزية للحزب الاشتراكي "ولقصر المختارة بالذات"، حضور منظم لمجموعة من الناشطين الآتين من الضاحية الجنوبية... وما عدا السهو والغلط، تناول صاحب "المرقط" و "نظر إليَّ ياسر عرفات وابتسم" المسألة في مقالين سابقين. وعليه، فهذا مقاله الثالث. وهو ربما تكلم في الموضوع الذي يلح عليه شفاهاً وخطابة. وأنا (وهي خير من "كاتب هذه الأسطر" أو "الموقع أدناه"، ومعرض الكلام أو بعضه شخصي أو ذاتي) أشارك يوسف بزي السؤال، ولم يسبق أن شاركته الدعوة ولا التلبية أو الحضور. ولم أتردد كثيراً في اختيار الاستنكاف والميل إليه، في المرتين الأولين اللتين دعي فيهما الجمهور، من "المستويات" كلها وأحسب نفسي وغيري في عوامها بديهة، إلى التجمع والتظاهر. ومن بعد المرتين لم "أفكر" في المسألة، ولم أتردد و "قعدت" لا طاعماً ولا كاسياً ولا حاسباً أن البغية هي "المكارم".

فلماذا، حقاً، هذا القعود "اللبناني"؟ (وهذا من باب تعيين المكان ليس إلا). ولعل بعض عسر الجواب مصدره عموم الاستنكاف والإحجام (البيروتيين في المرتبة الأولى) "جناحي" الجمهور، المسيحي والمسلم، وجناحه الفرعي أو الجزئي العلماني "الثالث" (وهو على هذا زغب الجناح المفترض وليس ريشه)، على غرابة التصنيف وطرافته. ولولا العموم هذا لجاز ربما الاستنجاد والتعليل بعروبة راسخة من هنا وذاكرة اضطهاد مديدة من هناك، وبانقسام "الصف" الإقليمي من هنالك. فلماذا لا ينحاز "المسلمون" اللبنانيون، وأهل السنّة منهم على التخصيص، إلى "أهلهم"، المسلمين السنّة والعرب، في سوريا؟ وتدعوهم الى الانحياز شراكة طبيعية أو غريزية "صنعها الله" على قول الأسدي الأول، وذاكرة اضطهاد وإذلال واحتلال سامهم بها ضابط الاستخبارات السوري وتوجها بالشوك اغتيال رجل دولتهم الوحيد منذ مصرع رياض الصلح برصاص "قومي سوري" سوري قبل ستين عاماً وعام واحد. وتدعوهم الى الانحياز من وجه ثالث، مصلحة وطنية وإقليمية مشتركة ينبغي ألا يشك أحد في منافع تقييدها الدور "المفتاحي" الشامي ونفخه الأرعن والمتهور في القضايا العربية المتقرحة والمزمنة، بعد ثلث قرن من الاختبار والمكابدة. ولماذا لا ينحاز "المسيحيون" اللبنانيون إلى من يتقاسمون معهم اليوم رأيهم القديم والثابت في استبداد النظام العسكري والعروبي بسوريا (وغيرها)؟ وهم نعوا على هذا الصنف من الأنظمة عدوانها على الحريات الخاصة والعامة، وتحطيمها القوى الاجتماعية المدنية والأهلية، ومناهضتها الغرب مناهضة هستيرية ومتشنجة، وتوسلها بالمسائل العربية المشتركة إلى فرض سياسات مستولية وباهظة التكلفة. وكان لبنان مسرح هذه السياسات المدمرة، ولا يزال. ولماذا لا ينحاز "العلمانيون" واليساريون والمدنيون اللبنانيون الى السوريين المتمردين على أشرس صنف من الحكام الطائفيين والمذهبيين العرب، وأشدهم إنكاراً للـ "حريات الديموقراطية والنقابية" وللأحزاب المعارضة والحليفة، وأوقحهم فساداً وكبحاً لإنتاج الثروات الوطنية وتوسيعاً للفروق بين الطبقات، وأذرعهم قتلاً واغتيالاً للقيادات الفلسطينية الوطنية؟

ولا ريب عندي في أن هذا النمط من الأسئلة، المنطقية والعقلانية (أو المعقولة، تواضعاً)، لا جواب عنه. وهو يفترض أن الجماعات تطرح على نفسها، وعلى غيرها من الجماعات، أسئلةً مراجعُها أو بواعثها هي مصالحها المشتركة والمتقاسمة والمدركة على هذا النحو أو هذا الوجه من الاشتراك والتقاسم والإدراك معاً. وليست هذه حال الجماعات، ولا حال أسئلتها. والحق أن هذه الأسئلة تقبل القلب والإبدال. فالسؤال الذي ألح عليَّ، وعلى أمثالي، طوال نيف وثلث القرن، وأظنه لم يغادر الى اليوم بعضنا (من غير أن أدري من هم هؤلاء الـ "نا" ولا كيف يُحد "سورهم")، هو: لماذا لم ينتصر للبنانيين في محنة تمزقهم واقتتالهم ولبننتهم، على رغم زعم انطوان مسرة أن "لبنان لم يتلبنن"، سوريون يُحصون عدداً، أو بعض العدد (ما يقترب من إحصاء يوسف بزي الدقيق والكريم)؟ فانشقاقات الأحزاب السورية، الشيوعية والناصرية، منذ اوائل سبعينات القرن الماضي، كان مدارها على "المقاومة الفلسطينية"، وحربها "الشعبية" العربية والمسلحة المفترضة، وعلى تجديدها "مضمون" الحركة العربية الوحدوية واحتياجاتها الحيوية من مناهضة صارمة للإمبريالية ومصالحها وعملائها ووسائطها، ومن حريات تُسَلِّح الجماهيرَ بالبندقية والوعي "الشامل" والاستراتيجي ورأسه تمييز العدو من الصديق والإقبال على التعبئة والطوارئ والأحكام العرفية والتقشف...

وأنكرت "العقول المفكرة" السورية، من اليسار "العلماني" أو "القومي"، على لبنان انقساماً أرادوا الاعتقاد انه جيني، أو في جبلَّة البلد وأهله، على شاكلة اعتقاد رؤسائهم البعثيين منذ نصف قرن أن اللبنانيين يقتتلون في طبعهم وأن الداعي الى الاقتتال هو ميل بعضهم إلى "أعداء الأمة العربية" (بشار الأسد في كل خطبه منذ اغتيال رفيق الحريري). وبعض هذه "العقول" كان مقيماً على هذا الاعتقاد إلى أسابيع خلت. وهو لا يعوِّل على إرادة السوريين المنتفضين في سبيل رفض اقتتال الأهل المتحاجزين، ولا على "نقد" الحركة الوطنية والديموقراطية السورية إرث التسلط المذهبي والكوارث التي جرها على السوريين، بل يعوِّل على الفرق بين الطوائف السورية غير الطائفية وبين انقسام الطوائف اللبنانيين الطائفية!

وهذا رأي، إلى تقريره ما عليه البرهان عليه، يقر للسلطان المذهبي السوري بما يزعمه لنفسه، أي تعهده وحدة السوريين الوطنية وتماسكهم دولة ومجتمعاً. وهذا كذب مشهود قام السوريون عليه، وعليهم "فضحه" عملاً وسياسة قبل فضحه قولاً. وهو يقر للجهاز العشائري والبيروقراطي البوليسي بصدق ما ردده طوال ثلث قرن في لبنان واللبنانيين، وحرض عليه، وسوغ به تسلطَه على اللبنانيين، جماعات ودولة، وقَمَعه حركات الاحتجاج السورية نفسها، "المقاتلة" الإسلامية منها أو المدنية الوطنية والسياسية والاجتماعية. وصدق السوريون المتعلمون اليساريون مزاعم فلسطينية فصائلية وسورية بعثية في أن مقاومة لبنانيين كثر، معظمهم مسيحيون، تصرف المنظمات الفلسطينية المسلحة بمصائرهم تصرفاً متعسفاً و "قومياً" (عروبياً) إنما الباعث عليها انعزالية محلية دينية وانقياد الى مصالح الغرب الاستعماري (والصليبي ضمناً على تأويل عصبي وأهلي إسلامي وشعبي) وتبعية مزمنة.

ولم يدر بخلدهم أن "ضحايا الضحايا"، على قول إدوارد سعيد في أهله وقومه الفلسطينيين بإزاء المهاجرين واللاجئين اليهود الأوروبيين الى فلسطين، لا يعدمون التسلط بدورهم على ضحايا من الدرجة الثالثة هم نحن. ومعظم السوريين اليساريين ناط بالحركة الفلسطينية المسلحة، وبحيازتها شروط الدوام والامتداد والتعاظم، مصير الحركات الوطنية والمحلية، المحكومة بالجزئية، وضيق الأفق (القطري)، وضعف حدة التناقض مع العدو الرئيسي والمهيمن، وبالمسالمة أو الموادعة. وحين يكتب أهل الرأي والقلم اليساريون هؤلاء فموضوعهم الأثير هو "فلسطين"، على المعاني الأسطورية التي تفتحت وانعقدت طوال معظم القرن العشرين، ويقيم عليها ناشرو وكتبة صحف "ناصرية – قذافية" قرت على إيرانية حرسية ومجزية. ومن يتناول منهم موضوع الديموقراطية أو موضوع الدولة فقصاراه تذكر جملة من كاتب سوري، من "الاجداد" غالباً، تجمل القول الجامع والمانع، على مثال مدرس يجري عليه "المثقفون" السوريون. فلا يخطر ببال أحدهم أن تجربة اللبنانيين الطويلة قد تعلم شيئاً. وأحسب أن أحداً منهم لم يتواضع على قراءة صفحة من ميشال شيحا أو عمر فاخوري أو بشارة الخوري.

هؤلاء السوريون، إذا لم يختصرني، فرداً أو جماعة، تفكير عاقل محض ومتعالٍ عن الهوى والميل والتذكر، لماذا أنتصر لهم وأؤيدهم؟ وأنا لا أزعم أن بعض إمساكي وتحفظي لا يعود إلى الأساليب المخيفة التي توسلت بها قواتهم وأجهزة استخباراتهم إلى "حكم" اللبنانيين والفلسطينيين وردعهم وقمعهم حين دخلت لبنان على شاكلة "قوات سلام عربية معززة"، قبل أن تنقلب قوة احتلال ووصاية ضرورية وموقتة ويقتضي انسحابها أو إعادة انتشارها طلباً على الحكومة اللبنانية ان تتقدم به الى "المجلس الأعلى" وأمينه العام المرتجف في حضرة السلطان السياف والمريض (يومها). ومن الأساليب هذه أسلوب محبب هو التصدي للمتظاهرين بـ "متظاهرين" مثلهم، على شاكلة "الأحباش" في موقعة السيوف والخناجر "الجميلة" وشاكلة رجال الأمن في 7 آب 2001، وللمؤتمرين الصحافيين بمؤتمرين مثلهم، الى بعض السلاح الفردي الظاهر والحق الصريح في الرد المباشر واعتلاء المنبر عنوة، على ما حصل حين حسب جبران تويني، الصحافي، أن صفته النقابية تخوله الطعن في بعض وجوه "الإدارة" الاحتلالية الثقيلة والمتمادية. وكان حشد 8 آذار (2005) في ساحة رياض الصلح رداً من الصنف الصلف نفسه على تظاهرات تشييع رفيق الحريري، والاعتصام في ساحة الشهداء، والمسيرات المتواترة الى موقع الاغتيال بميناء الحصن. وكرت سبحة التصدي والرد. واحترف "القوميون السوريون - الاجتماعيون"، منذ قيام السوريين على طاغيتهم، ما تولاه "الأحباش" بعض الوقت على نحو مسرحي "جميل"، وتولاه الحرسيون الخمينيون على نحو كوري شمالي وهوليوودي.

ولوح هذا الضرب من الجواب، قبل أن تنوه بهلهلة سينماه ضآلة عدد المتظاهرين تأييداً للسوريين المنتفضين على "مسرورهم" الجلاد، باستئناف ما برع فيه الجهاز البوليسي الاسدي، طوال عهده المديد في لبنان بعد سوريا، من قتل بالواسطة، وتخفٍ وراء الدمى المتحركة المشلولة والمتعثرة، وتقنّع بالمقاومات والعمامات والمقامات. وهذه البراعة أوتيها الجهاز العتيد من باب عريق هو بيت قصيد في الملاحم اللبنانية. فمنذ 1952، أي "خلع" بشارة الخوري أو استقالته طوعاً، دارت الخلافات والمشادات اللبنانية على قضايا "عربية" إقليمية. وامتحنت هذه، على مقادير متفاوتة، تماسك اللبنانيين واستقلالهم بدولة وطنية "قطرية". وفي ما يكاد لا يحصى من الحوادث والمناسبات (الإعلان الثلاثي في 1953، أزمة السويس في 1956، حلف بغداد في 1957- 1958، الجمهورية العربية المتحدة في 1958، الانفصال في 1961، "الحرب العربية الباردة" في 1961 – 1967، بدايات العمل الفلسطيني المسلح في لبنان في 1965- 1969 و "اتفاق القاهرة"،...)، ومن القرار السياسي "الأخير"، أي قرار الحرب. ولم يَصُغْ رؤساء الحكومة السنيون والعروبيون المسألة على هذا النحو، أي على النحو الذي صاغه عليه كمال جنبلاط في 1975 (وقبلها في 1958) واستأنفه الحزب الخميني المسلح في 1982، ومذذاك إلى اليوم.

واتفق انفجار الأزمات على الدوام مع حاجة الطرف العربي المهيمن، وقتذاك، إلى ميدان يحط فيه النزاع، ويختبر (الطرف المهيمن) فيه قوته بإزاء الدول الغربية أو الإقليمية المتصدرة والبارزة (إيران الشاه...)، أو بإزاء إسرائيل. وكانت الأزمات هذه ذريعة الجماعات الأهلية المسلمة، المتفرقة والمتنازعة قبل الأزمات وفي أثنائها وبعدها، إلى رص الصف ظاهراً، وإلى المطالبة عموماً إما بالتسلح "المفرط"، أو بالانضمام الى جبهة حرب مرتجلة، أو بقطع العلاقات الحيوية ببلدان "عدوة"، أو بفتح الحدود أمام جيوش عربية متخاصمة ومتآكلة، أو بحماية "ضيف" لا يتقيد بأضعف شروط الحذر والسلامة، أو بإشراك موظفين وضباط في هيئات أمنية وعسكرية لا يقرون بمعايير عملها ويتمسكون بتمثيل عصبياتهم وزعاماتهم فيها (على مثال وزراء خارجية "دولة الرئيس" الذاتية، ومدراء أو قادة الأجهزة الأمنية...). ولم يعالج اتفاق الطائف (1989) المسألة المتواترة، ونجم عنه فعلاً انتصاب الجماعة الحرسية والخمينية المسلحة ولاية متعسكرة في قلب الدولة والمجتمع اللبنانيين، وجزءاً من مركب أهلي – إقليمي ينتهك معايير علاقات الدول السيادية والإقليمية.

وخاض شطر عريض من اللبنانيين هذه الأزمات، والحروب التي نجمت عنها، بعد تردد في بعض الأحيان ومنقادين في معظمها، وحملهم الهوى العروبي، أو "الإسلامي" الذي لابسه وخلفه، وهما هويان سلطانيان وفاتحان الى استعجال الحروب أو إلى التسليم بحتمها. ولم يكن الشاغل الديموقراطي أو السياسي والدستوري، مرة واحدة، باعثاً على التضامن مع حركة شعبية أو سياسية في بلد عربي أو غير عربي. فالتضامن إما عصبي، "قومي"، يفضي لا محالة الى التضحية بالنفس وتقديمها قرباناً على مذبح الهيكل المقدس، وإما عَدِم المعنى وانتفى منه. فشاع في أوساط السياسيين المسيحيين قول مأثور ذهب إلى أن تلبية مطاليب الجماعات المسلمة والعروبية من طريق "إعطاء العرب"، السوريين على وجه الخصوص، والنزول لهم عن امتيازات عسكرية أو أمنية أو اقتصادية، وليس"إعطاء" اللبنانيين المسلمين في الهيئات والمؤسسات، هو الحل الأيسر والأنجع للأزمة. واستقر دمج البرنامجين منذ صوغ "الحركة الوطنية"، الفلسطينية – العروبية المحلية، نقاطها الخمس التي تصدرها إنشاء مجلس عسكري طائفي (وهو كان طائفياً) "متوازن"، أي ترجح في ميزانه احتياجات الحرب الفلسطينية. وانتهى هذا الى "عقيدة" "المقاومة والشعب والجيش" و"استراتيجية دفاعها" المعروفة والمشهودة، وإلى رجحان احتياجات الردع الإيراني – السوري.

وهذه الحروب، مع مقتضياتها الأهلية والداخلية، خاضها شطر راجح أو غالب من اللبنانيين، منقادين الى عصبيات لا توسع كثيراً، ولا قليلاً، للرأي المعلّل، أو التكتلات السائلة والمتقلبة، والانقسامات المركبة، وللتداول على الكثرة والقلة والحكم بالنيابة عن الكثرة الموقتة، ولا تراعي ثبات القوانين الأساسية، ولا تحتكم الى النتائج المقررة والمحاسبة عليها. فهذه أصول أو مبادئ إجرائية، أو شكلية وصورية، شأن نواة الديموقراطية. وهي تفترض أو تشترط هدم العصبيات التي تقدم روابطها الداخلية، ومراتبها وأعرافها، على القواعد العامة والمشتركة. فيستميت الجمهور، وهو جموع وأجسام، ويستبسل في "الدفاع عن عبوديته"، على قول صاحب "روح الشرائع"، أو لحمته "القومية" والدموية، وينيط قوته في "الصراع على الوجود" أو "المكاسرة"، على قول خبراء استراتيجيين أسديين (من وزن فريق مستشارات الوارث اللعوب)، باللحمة العمياء و "الميكانيكية".

ويخالف هذا بعض ما تلتمسه الحركة السورية المتعرجة، والمترجحة بين تقدم وركود، من بلورة أعمال تدمج الناس الخارجين من بيوتهم وعائلاتهم وأحيائهم ومهنهم في تيارات وكتل و "ساحات" جامعة ومؤثرة، من غير إلغاء أو اطراح نازعهم الوليد إلى العبارة غير المقيدة أو النمطية عن رغباتهم في التعارف والكلام والمداولة والاختبار. ويؤدي تنازع السوريين وحركتهم بين تماسك يغرف من قاع العصبيات الأهلية وبين ابتكار مثالات علاقات ترسي التداول والتنسيق والتكليف على قواعد إجراء مقبولة، يؤدي دوراً مزدوجاً. فهو معين تجدد، وباعث على خروج موارد إنسانية وسياسية من جمودها "الأسدي" وعقمها إلى العلانية. وهو، من وجه آخر، يعقد التنسيق، ويبعثر طاقات كثيرة في الطريق، ويرجئ تنفيذ ما تقدم التواضع عليه. والحق ان التنازع لا ينفك من الحركات الوطنية (على خلاف "القومية" العصبية) والديموقراطية المدنية (على خلاف الشعبوية الجماهيرية في صيغها الدينية والمذهبية على الخصوص). فهذه الحركات تستبق غالباً ما يقوم من الأنظمة الديموقراطية بمنزلة الركن أو المحور، وهو الفرق بين المجتمع وحقوقه (ومنها "الحق في الخروج" والانفضاض) وبين الدولة وقوانينها. وينزع الفرق هذا الى الشقاق، ويجعل "الحكومة" الديموقراطية، المضطرة الى احتساب الكثرة والاختلاف والتقريب، عسيرة ومضطربة. ويخلع عنها امتياز التجسيد والامتلاء الماثلين في "صنم" أو هُبَل تملأ تماثيله ومجسماته الميادين والساحات ومداخل الإدارات.

وتُرددُ الحالُ هذه اصداءَ "واقعة" سياسية وثقافية عربية ضخمة هي حمل الحركات الوطنية والاستقلالية النهضوية الحرية على معنى السيادة الخارجية. وهو المعنى الشائع والغالب على البعث وحركة القوميين العرب ومنظمات وحركات التحرير المتفرقة، وفي التيارات "الإحيائية" الدينية المعتدلة و "الجهادية". وأما السيادة الداخلية وموجباتها، من اضطلاع المواطنين في صورة الشعب بالتشريع وتولي الدولة قوة القانون العام والواحد وتقسيم السلطات وضمان الحريات الخاصة والعامة، فعريت في نظر السلطان ومعظم الرعية من مقومات الانتصار في "حرب الوجود" المتطاولة. فموجبات السيادة الداخلية لا تدعو، في المجتمعات العصبية التي تقودها عصبية دولة مستولية، إلى "الذوبان" ("ذوبوا في الخميني كما ذاب الخميني في الثورة"، عن "آية آيات الله العظمى" محمد باقر الصدر، عن أحد جدران حي اللجا ببيروت في أواخر الثمانينات)، ولا إلى التظاهر المائج ولباس الأكفان.

ولست أتهم يوسف بزي بالحض على مثل هذا أو نظيره وشبهَه. ولكنني أحدس في رغبته في يقظة حماسة عامة وهادئة تملأ الطرق والساحات اللبنانية – والبيروتية التي امتلأت، من حيث لم يدرِ أحد بالناس العاديين غداة اغتيال رفيق الحريري، أولاً – بالمتظاهرين الديموقراطيين والمدنيين، رغبة عامة ومشتركة. فلا نناصر السوريين المكلومين والمستفيقين من كابوس الطاغية وغبائه الثقيل والخانق وحسب، وهذا ما يفعله أهالي طرابلس وعكار على طريقة أهلية ينبغي ألا يستهان بها أو يغفل عنها، بل نطمئن حقيقةً الى أن إنجاز 14 آذار (وسياقته الطويلة) لم يتآكل، ولم يطفئه الردم والحطام اللذين أهالتهما "القيادة السورية" وحواشيها المسلحة والمتحزبة عليه، وتركنا تعهده وتثميره في ثقافة سياسية معاصرة. ونيقن، فوق هذا وذاك، أن طلبَ دولة مدنية وطنية ومتعددة القوى والمشارب السياسية والاجتماعية والأهلية، ومقرة بحقوق مواطنيها ومساواتهم، والوعدَ بها، توطنا من غير رجوع ولا إبطال في قلب أهوائنا وأفكارنا السياسية والعامة. وأنهما، الطلب والوعد، أصبحا أو صارا هويين أو ميلين أساسيين من أهوائنا وميولنا ودواعي قيامنا واجتماعنا ومنازعاتنا وتكتلنا. فهذا وحده، على ما نظن ("ن"؟)، كفيل بالتضييق على غلواء الإسلاميين، والحؤول دون استيلائهم وانفرادهم، وسؤالهم عن علة تمسكهم بنسبتهم الدينية – السياسية وليس الشخصية - حين يجهرون (مثل إخوانيي سوريا في وثيقتهم باستانبول في 25 آذار المنصرم) مدنية تامة، على قدر ونحو ما هو كفيل بقطع الطريق على عودة غول السلطان، والتهامه الحريات والحقوق والقوانين والأرواح.