الجمعة، 18 سبتمبر 2009

اختصار العلاقات الأمنية في مصادفات ومصالح مدّعاة... لا يدين ولا يبرئ

الحياة, 16 سبتمبر 2009
غداة أسبوعين على «الأربعاء الأسود» العراقي البغدادي، في 19 آب (أغسطس)، أذاعت وزارة الخارجية السورية بياناً مفصلاً لخص الحجج التي أدلت بها الوزارة على رؤساء البعثات الديبلوماسية بدمشق، وردت على الموقف العراقي الذي تولى رئيس الوزارة، نوري المالكي، ووزير الخارجية هوشيار زيباري، على قدر أقل، صياغته واعلانه في أعقاب التفجيرات المدمرة. وشدد البيان السوري على مسائل يتصل أبرزها وأهمها بتوقيت الحوادث وبمواقف سورية من شؤون عراقية أعلنت في أوقات بعينها.
فيذكر بيان الوزارة السورية، في 2 أيلول (سبتمبر)، بـ «سبق» سورية «في ادانة التفجيرات الإرهابية التي أصابت وزارتي المال والخارجية في بغداد». وينوه البيان، في معرض نفي «مصلحة سورية من وراء التفجيرات»، بسبق سوري آخر هو فتحها سفارتها ببغداد «في مقدم الدول التي فتحت سفارتها» هناك. والحجة الثالثة هي تبادل زيارات المسؤولين بين البلدين، وتواتر هذه الزيارات. والرابعة هي اعلان إقامة مجلس للتعاون الاستراتيجي الشامل «قبل يومين من وقوع التفجيرات»، في أثناء زيارة رئيس الوزراء العراقي. والمالكي هو المبادر إلى تهمة سورية بإيواء قيادة الجناح البعثي - ورأسيه محمد يونس الأحمد وسطام الفرحان، الى 177 متورطاً آخر، الذي يحمله التبعة عن أعمال تفجير واغتيال كثيرة آخرها، موقتاً من غير شك، تلك التي قتلت العشرات من كبار موظفي وزارتي الخارجية (32 موظفاً) والمالية، و «صغارهم».
والى 2 أيلول، يوم اعلان البيان الوزاري السوري، اقتصر عملياً رد سورية على دعوة العراق الى الاحتكام الى... سورية نفسها، عوض الاحتكام الى الرأي العام العربي والدولي من طريقي الشاشة التلفزيونية (بث اعترافات مسؤولين مفترضين عن الأعمال الإرهابية)، والهيئة الأممية (طلب انشاء محكمة دولية تنظر في الجرائم وتحقق فيها). وأشار الموظفون السوريون المتفرقون، في دوائر الرئاسة و «الإعلام» والخارجية والأمن، على الدولة العراقية بالإجراء الذي عليهم النزول عليه، والتماسه من ساسة سورية، وهو إرسال «وفد أمني يحمل الأدلة والوثائق الحقيقية(...) عمن يقف وراء تلك التفجيرات»، الى موظفي الدوائر السورية. و «إذا ثبتت صحة هذه الإدعاءات»، وليس الأدلة على ما قال البيان السوري قبل جزء من جملة، أي إذا رضي الموظفون السوريون بها، وطابقت معايير اليقين التي يأخذون بها، «فإن سورية جاهزة للتعاون، وستتخذ الإجراء المناسب».
ولا يلزم الوعد بالتعاون السوريين شيئاً محدداً، على شاكلة وفد أمني أو ديبلوماسي، أو لجنة تحقيق مشتركة، أو استكمال مناقشة مسألة سبقت مناقشتها بين الدولتين مثل مراقبة الحدود المشتركة بينهما، أو مراقبة بعض اللاجئين العراقيين والمتخفين بسورية. فوزارة الخارجية السورية، على رغم اشادتها بسياستها وغيرتها على العراق ووحدته وسيادته وأمنه، تعالج مسألة الأعمال الإرهابية في العراق، ومطالب الدولة العراقية من الدوائر السورية الأمنية والسياسية إبعاد بعض البعثيين أو «ردهم»، كأنها مسألة طارئة وجديدة، ولم يسبق أن تداول عراقيون وسوريون الرأي فيها. وهذا يخالف ما ذهب اليه العراقيون، وأعلنوه مرات لا تحصى، ويجافي «المنطق»، على ما يكرر الرئيس بشار الأسد. ويسكت السوريون عن طلب عراقي بإرسال السوريين وفداً أمنياً يشارك في التحقيقات العراقية في أعمال التفجير الأخيرة. فهم يريدون النأي بأنفسهم عن الانخراط في اجراء فعلي تترتب عليه نتائج ملزمة.
ويقرر الموظفون السوريون وحدهم سلفاً جدول أعمال الوفد العراقي. وهم يعلمون وحدهم ما هو «الإجراء المناسب» الذي (قد) يتخذونه إذا «ثبتت الإدعاءات»، فيقول وزيرهم «ان التركيز الآن يجب أن ينصب على حادثة تفجيرات الأربعاء الدامي، ومن يقف خلفها». وهو يتلقف الخلافات العراقية، الرسمية وغير الرسمية، في المسألة، ويعول عليها تعويل العالم بأن «من» دبروا الأعمال الإرهابية هذه، وغيرها كثير، ليسوا واحداً، لا على معنى الشخص الواحد، ولا على معنى الجهة أو الطرف. فهم على مثال جريمة اغتيال رفيق الحريري، ثم على مثال الجرائم التي أعقبتها، كثر، وكثيرو المصادر والمشارب والسوابق والأدوات والمصائر. وتتولى مستويات التنسيق بين الجماعات والشلل والأواني الإرهابية و «السياسية» وإسنادها الدلالة الى اتجاهات متعارضة، أو يفترض فيها التعارض. ومن العسير على التحقيقات، بالغاً ما بلغ تنسيقها وضبطها وتدقيقها، تعقب حلقات «سلاسل» التنسيق والإسناد هذه على نحو متصل وثابت وحقيقي. ويعول المخططون المهرة، والمتمرسون في منازعات المشرق، وهم يخوضون غمارها وأوحالها يشتركون في صنعها منذ 40 عاماً على أقرب تقدير، على كسر احدى الحلقات المفصلية، في سلسلة من السلاسل على مثال خطف «الإسلامي» أحمد أبو عدس، وتصوير شريطه، وإخفائه أو قتله، والإشارة اليه سائقاً شاحنة «الميتسوبيشي» القاتلة، فيضطرب الاتصال والثبات. وتبدو التهمة «سياسية». وهذه الصفة هي أقذع ما يلصقه الموظفون والقادة السوريون بواقعة جنائية وارهابية.
والحق أن فحص الحجة السورية يقع على «اتفاقات»، على قول المتصوفين العاميين، ومصادفات تطاول التوقيت، غريبة. فلا ريب، مثلاً، في ادانة «سورية» أعمال الإرهاب في العراق. ففي 10 آب قتلت انفجارات ببغداد والموصل 48 قتيلاً، وجرحت 250 جرحاً ثخيناً. ووقع الانفجار الكبير في خزنة، القرية الشيعية بجوار الموصل، وقتل 34 ضحية. وغالباً، لا يشك أحد في نسبة مثل هذا الانفجار الى «القاعدة» أو «دولة العراق الإسلامية». وكان وفد عسكري وديبلوماسي أميركي يحط بدمشق بعد نحو شهرين من زيارة وفد سابق العاصمة السورية. وغداة الانفجارات هذه، ذهب قائد القوات الأميركية بشمال العراق، الجنرال روبرت كالسن، الى ان «القاعدة»، و «دولتها» المزعومة، تتمتع بقوة مالية وعملانية كبيرة، في الموصل على وجه التعيين. ورأى الجنرال الأميركي أن في مستطاع «القاعدة»، «القوة العنيدة»، «استعادة قوتها على الضرب (و) شن هجمات ضخمة تستهدف بشكل أساسي قوى الأمن العراقية»، «الهشة».
وفي 14 آب، وكان انقضى يومان على انفجار خزنة، عُلم ان الوفد الأميركي الزائر، في رئاسة الجنرال «الأمني» مايكل مولر، على رغم تصدر فريد هوف (مساعد ميتشل) الاسمي، قدم الى الموظفين السوريين المفاوضين لائحة بأسماء قيادات مقيمة بدمشق، وتقوم على تمويل الأعمال الإرهابية في العراق، وتنظم تسلل المولجين بها. وبين القادة «شخصية بارزة» في حزب البعث العراقي هو محمد يونس (الأحمد)، أحد المطلوبين العراقيين المَسميين بالاسم. وزعمت مصادر ديبلوماسية أن محمد يونس هذا طردته سورية، و «ليست له أهمية تذكر من حيث العمليات العسكرية على الأرض». وقالت مصادر «عليمة» أخرى، تحت الستارة نفسها من التعتيم والتكهن والاستشراف والمصادفة، أن واشنطن دعت فيصل المقداد - نائب وليد المعلم، ومن «صعقه» خبر تجديد العقوبات الأميركية في حق سورية، ومروج «خبر» زيارة أوباما الى دمشق - الى زيارة واشنطن، ومناقشة «موضوع العراق» مع الموظف الديبلوماسي.
وفي معرض اعلان بغداد عزم نوري المالكي على زيارة دمشق، أبدت الحكومة العراقية رأيها في زيارة الوفد الأميركي دمشق، وفي مفاوضاته. فقالت ان مسائل الأمن العراقي ليست شأن الولايات المتحدة، ولا موضوعاً تناقشه هذه مع سورية، و«المسائل الأمنية قضية عراقية داخلية». ونفت السفارة الأميركية ببغداد حقيقة «خلافات» مع الحكومة العراقية، وذهبت الى ان الوفد الأميركي الى دمشق يناقش «مسائل تهم البلدين، بينها مسيرة السلام في الشرق الأوسط». ويخالف الإجمال الأميركي الرسمي التفصيل «الديبلوماسي» والأمني الدمشقي، أو الغيرة العراقية، معاً. وفي اليوم التالي، 13 آب، أجمعت المصادر على أن المحادثات الأميركية – السورية تطرقت الى «التعاون الأمني (على) منع التسلل (من سورية) الى العراق وتعزيز الأمن الاقليمي». وبينما كان المالكي يدعو حزبه، في مؤتمره الخامس عشر، الى اختيار «تحالفات سياسية عراقية على أسس وطنية لبناء عراق موحد بعيداً من التحزب والطائفية»، مستبقاً انشاء «الائتلاف الوطني»، الشيعي والايراني الميول فعلاً، ومجدداً «تحالف دولة القانون» المنتصر في انتخابات مجالس المحافظات – قتل متفجران انتحاريان 17 عراقياً ايزيدياً، بسنجار، شمال العراق. وينسب قتل الايزيديين، شأن قتل الشيعة والمسيحيين، في المحافظات المختلطة والشمالية، الى «القاعدة»، من غير مناقشة.
والحق أن نوري المالكي نفسه كان يعد العدة لمناقشة المسألة الأمنية مع السوريين في أثناء زيارته الوشيكة الى الجار البعثي. وهي الزيارة التي سبقت الهجومين الانتحارين بيوم واحد، وأعلن في ختامها الزائر العراقي ومضيفوه السوريون انشاء مجلس تعاون استراتيجي، على عادة قوية في تعويض هزال الانجاز بواسطة النفع الكلامي. ولا ريب في أن الزيار كانت اخفاقاً ذريعاً يتحمل ساسة سورية المسؤولية عنه. والقرينة على الأخفاق التباين الصارح بين الرأي العراقي وبين الرأي السوري في المحادثات، حين الانتهاء منها. فذهب الرأي السوري، على ما هو معتاد، الى ان المالكي والأسد «بحثا في المستجدات على الساحة الإقليمية» أولاًن ثم «الاتفاقات الموقعة (بينهما) وأهمية وضع الآليات المناسبة لضمان تنفيذها(...) وسبل بناء علاقات وتعاون استراتيجي شامل بين البلدين الشقيقين». فالزعيم السوري لا يرضى مناقشة ما هو أقل من «إقليمي» أو «استراتيجي شامل»، ولا تليق به مناقشته.
ولكن الطرف الآخر، العراقي، قال أن المالكي تناول مع مضيفه السوري «التحديات الإرهابية التي تمكن (العراق) من تجاوزها»، و «إعادة بناء القوات العراقية، واعتمادها على قدراتها الذاتية». وهذا يتطرق الى محاربة الإرهاب، من وجه، والى تعاظم استقلال القوات العراقية، والدولة العراقية تالياً، عن القوات الأميركية المنكفئة الى ثكناتها ما أمكن، والساعية في حماية انسحابات تكذب الزعم الإيراني، والتمتمة السورية، انها بين خيارين: إما المضي على قتال «أهلي» وإما جرجرة أذيال الهزيمة.
ولا يرك بيان المالكي لبساً في المسألة: فما ناقشه رئيس الحكومة العراقي، العاقد العزم على الاستقلال السياسي عن الجماعات المذهبية والأهلية والإقليمية في الداخل، هو «استعادة السيادة الوطنية والانفتاح الدولي على العراق الذي أعطاه قوة». ويرد بند السيادة الوطنية العراقية، مشفوعاً بالانفتاح الدولي، على المحادثات السورية - الأميركية الأمنية وتصدي الأميركيين للمفاوضة عن العراق، وعليه. ويبطل زعماً سورياً وايرانياً مشتركاً ان العراق لا يزال بلداً محتلاً، ويسوغ احتلاله دوام «مقاومة» وطنية واسلامية مشروعة.
وكان مسوغ السكوت السوري الطويل والمطبق عن الاعمال الإرهابية، وهو ضمناً مسوغ البوابة السورية على العراق ودخول آلاف الجهاديين منها، اضطلاع الجهاديين بمقاومة الاحتلال. وغداة انفجار الاحتجاج العراقي على ايواء ساسة سورية وموظفيهم رؤوس المنظمة البعثية، في 3 أيلول، زعم بشار الأسد ان الاحتكام العراقي الى محكمة تحقيق دولية في الأعمال الإرهابية هو تدويل. والتدويل هو ضمناً أمركة: «منظمات الامم المتحدة محكومة بعدد محدود من الدول». والدول الغالبة هذه، والرئيس السوري يستميت في توسيطها، قراراتها «لن تكون لمصلحتنا». ولم يشر، طبعاً، الى المحكمة المختلطة، اللبنانية - الدولية، في اغتيال الحريري، إلا أن ظلها طاغ. و «كل العراق مدول»، على ما تلطف الرئيس السوري بالقول بعد أسبوعين على مناقشاته «الاستراتيجية» و «الإقليمية» مع المالكي «المدول» بدوره. وهو لم يذهب الى هذا الرأي في الأسبوعين المنقضيين، بل استقبل المالكي وهو عليه. وعلى هذا، يستحق العراق «المدول»، ورئيس وزرائه «المدول» كذلك، «مقاومة» عربية مستمرة.
و «اقتصرت» أخبار العراق، في اليومين التاليين، على تظاهرة صحافيين ببغداد، تضامنوا مع زميل لهم كتب تحقيقاً تناول حادثة سرقة مصرف الرافدين في الراوية، قتل السارقون فيها 8 من الحراس، وضلع فيها ضابط من الحرس الرئاسي يتعهد حراسة نائب الرئيس العراقي، عادل عبدالمهدي، أحد المرشحين الدائمين الى رئاسة الوزارة عن «المجلس الاسلامي الأعلى»، منظمة آل الحكيم «الفيديرالية». والتظاهرة هذه، والمسألة التي صدرت عنها وهي قيام الصحافة بإزاء القضاء والأمن ونافذي السلطة نصاب مراقبة، من القرائن على دبيب بعض النبض المدني في دولة ومجتمع عراقيين امتحنا طوال نصف قرن امتحاناً مدمراً. وحضن نوري المالكي، وهيمنته على مرافق اعلامية عامة، الدبيب هذا. وحضانته ليست منزهة عن الغرض، على ما يقول من لا ينطقون ولا يتنفسون الا عن هوى. وهي وجه من وجوه المنازعة على المصالح، على نحو ما تولد الحريات أو توأد. وخلفت، فيما خلفت، رداً محموماً وطويلاً من عادل عبدالمهدي (نشرته احدى الصحف اللبنانية تاماً). وكان الرجل ثالث مجلس الرئاسة الذي ندد بيانه باقتراح نوري المالكي انشاء محكمة دولية تحقق في الأعمال الارهابية التي تضرب العراق، وتنظر في دعاوى استرداد الارهابيين اللاجئين في دول تؤويهم. ووصف البيان (9 ايلول/ سبتمبر) طلب المالكي بـ «غير القانوني»، واجراءات الاقالات الامنية بـ «غير الدستورية» و «التشهيرية». وانضم اليه، في مجلس الرئاسة، نائب الرئيس الثاني، السني العربي، وهو يداوي تحفظه عن سياسة المالكي بدواؤ «العروبة» السوري. وأما طالباني فخلافه الفيديرالي مع المالكي مستحكم.
وغداة الانفجارات القاعدية والشمالية المتواترة، وظهور الخلاف الأميركي – العراقي وموضوعه دور الولايات المتحدة في مفاوضة السوريين على أمن العراق وحرص الأميركيين على علاقات عراقية - سورية أمنية هادئة ما أمكنن (بينما القوات الاميركية تمهد لانسحابات يوجب بعضها على القوات هذه عبور العراق من الشمال والغرب بمحاذاة الحدود العراقية – السورية، وفي المناطق المختلطة المضطربة، الى المخرج الجنوبي في انتظار اتفاق مع تركيا على الانسحاب من بوابتها الموصدة).
وإبان انفجار الخلاف في دوائر الحكم وبين أجنحته المتجافية – علا صوت الموظف السوري، مساء 13 آب، وهو صوت «سورية» بديهة، «يدين بشدة العمليات الاجرامية التي استهدفت مواطنين عراقيين في بغداد والموصل». وعقلت المفاجأة، مفاجأة اقدام وزارة الخارجية السورية على التنديد بالاعمال الارهابية التي تضرب العراقيين منذ شتاء 2003، ألسنة المراقبين والسياسيين. فعلى رغم انقضاء 6 سنوات ونصف السنة على الفظائع والروائع العراقية، واقرار التبادل الديبلوماسي في أواخر 2006 ومباشرته في أواخر 2008 (وتقديم سفير العراق بدمشق أوراق اعتماده في شباط/ فبراير 2009)، وهذا لا يصنف سورية في مقدمة من انشأوا علاقات ديبلوماسيةن على خلاف الزعم السوري) لم يدنها موظف سوري بعد ادانة واضحة وصريحة.
وحار المراقبون في تعليل الادانة المفاجئة، فذهب بعضهم الى تعليلها بصفقة أميركية – سورية تقضي بتسليم مطلوبين من «القاعدة» والبعثيين الصداميين الى العراق لقاء «انظمة تسلح عسكرية وأمنية أميركية». وخمن بعض آخر في رغبة سورية في اعلان «البراءة» من أعمال العنف، «مع دخول الطرفين محادثاته أمنية». وزعم بعض ثالث أن التنديد ثمرة «فزع دول الجوار من عودة الاقتتال الطائفي»، وتنصل من التورط في الاقتتال عشية انتخابات عامة آتية. وهذا كله جائز. ولكن سوء الظن يحمل على تذكر سوابق لبنانية أقل استقامة منطقية وعقلانية مصلحية. ويسكت العراقيون عن لبنان، والسياسة السورية فيه، كرمى «حزب الله»، على الأرجح. ويذكرون بالسابقة السورية الكردية تعويضاً.
فعشية شن «فتح الاسلام» معركتها على الجيش اللبناني، في أيار (مايو) 2007، دارت اشتباكات على مقربة من الحدود السورية – اللبنانية، في الأراضي السورية، بين اسلاميين نسبوا الى «جند الشام» والى جماعات غير معروفة، وبين قوات أمن سورية. وأبرزت دمشق الحادثتين قرينة «حقيقية»، و «غير مفبركة» أو ملفقة، وغير اعلامية، على تربص الارهابيين بها، وانتقالهم الى لبنان حيث يؤويهم «اخوتهم» السنة، ويمولهم زعيم السنة، ووجه «14 آذار» (مارس)، ابن رفيق الحريري، «الشيخ» سعد الحريري. وذهب مراقبون، يومها، الى ان دمشق تعد العدة وشيكاً الى «أمر» في لبنان. ولم تر «سورية» في اقامة شاكر العبسي في سجونها الأمنية نحو العامين، ولا في خدمته في أمرة أبو مصعب الزرقاوي في الأردن وضلوعه في اغتيال الموظف الأميركي الأمني، فولي، في 2002، ولا في التقاط اجهزة التنصت الأميركية مخابرة من الزرقاوي وهاتفه النقال الى مساعديه في الاردن مصدرها احدى الثكن السورية (ورقم المخابرة مدون في عدد من المقالات والكتب التي تباع في الأسواق) - لم تر دمشق في هذا كله دليلاً غير ملفق على ضلوعها في خلافة «فتح – الاسلام» «فتح – الانتفاضة»، وخلافة العبسي أبو خالد العملة، نزيلها وصنيعتها وآلتها منذ عام 1982 الميمون، ورأس «فتح الانتفاضة» في لبنان.
ولا يزعم ما تقدم للتو أن الموظف السوري الذي اعلن البراءة فجأة من اعمال الارهاب كان يعلم أنه يمهد لتسويغ براءة «سورية» من ارهاب وشيك يدفع الموظفون السوريون تهمته من طريق التلويح بادانتهم القريبة والمتأخرة آخر حبات العقد الطويل والمكتظ. ولكن مفاجأة التنديد، في الأحوال كلها، لا تقوم مقام البينة على البراءة اللاحقة والمسترجعة. والبينات على البراءة ينبغي البحث عنها في مواضع وسياقات أخرى. أحصت العجالة بعضها (العلاقات السورية - الأميركية، العلاقات العراقية - الأميركية، المنازعات العراقية الداخلية، المنافسة الإقليمية، الأواني الإرهابية المستطرفة...).
وعلى المثال هذا، مثال الاتفاقات والمصادفات الاستباقية والمستعادة غب الحادثة أو الحوادث، سكتت «القاعدة» (او «دولة العراق الاسلامية») نحو أسبوع عن نسبة انفجارات 19 آب الانتحارية، تمادى العراقيون في أثنائه في التشديد على دور البعثيين وابرازه على التلفزيون. وغداة الأسبوع هذا، أذاعت «دولة العراق الاسلامية»، في 25 آب، بياناً أقر بأن مقاتليها «تحركوا لضرب معاقل الكفر» و «الحكومة الصفوية». وينبغي أن يقوم هذا حجة دامغة على مسؤولية «القاعدة»، وعلى انتفاء مسؤولية سطام الفرحان أو غيره من بعثيي المنفى السوري الأخوي. وردت الحكومة العراقية المالكية على البيان باذاعة اعترافات قاعدي تدرب في الاراضي السورية، وفي مرفق أمني عسكري، على «القتال» في العراق، وهو يقصد الاغتيال والذبح.
وبيان «القاعدة»، أو «الدولة» المزعومة، شأن سكوت البعث العراقي وأجنحته عن نفي مسؤوليته، قد يصلح دليلاً على براءة فصيل أو جناح أو فريق في «الحالة الارهابية» العريضة من هذه الفعلة أو تلك. وقد يصلح صدوعاً بأمر من عل أو طلب من مفتاح أو مستوى في «سلسلة». ولكن النهج السوري حريص أولاً على الا يتبدد شك من الشكوك، ولو توجه هذا الشك اليه وعليه. فحرصه الأول هو على دوام كثرة متهميه وتفرقهم، وغرقهم في العماية التي اوقعهم فيها الارهاب ومنظماته ومزج شلله بعضها في بعض، بينما تنتصب «سورية» واحدة ومتماسكة ومنطقية عقلانية وأخلاقية. وهذه الحال، المزدوجة، شهادة لا ترد على جدارتها بالقيادة و «المفتاحية» الإقليمية، على قول سلسلة من المداحين آخرهم وزير خارجية تقدمي اشتراكي أوروبي. وعليه، فالسؤال الذي يكرره موظفو الدوائر السورية عن «مصلحة» سورية في الأعمال الإرهابية بالعراق، ويحسبون أنه سؤال مفحم والجواب عنه مستحيل، هذا السؤال لا يصدر إلا عن «سذاجة» أصحابه والملوحين به. ففي ضوء مدونات الحوادث اللبنانية والفلسطينية والعراقية والتركية، في الأربعين سنة الأخيرة، يتعاظم «النفوذ» السوري، على قول فاروق الشرع متفاخراً، طرداً مع انقسام البلدان والدول والمجتمعات على نفسها. وفي الأحوال هذه كلها، كانت المنظمات المسلحة «المقاومة» أداة سورية الى طعن الدول الشقيقة.

"دولة الشعب اليهودي" الواحد والمتصل والمتحدر من قبيلة أولى... ثمرة رواية أسطورية متأخرة ومنحولة

"دولة الشعب اليهودي" الواحد والمتصل والمتحدر من قبيلة أولى... ثمرة رواية أسطورية متأخرة ومنحولة
يتصور الخليط واحداً وثابتاً حين الهوية غاية وليست ابتداءً
المستقبل، 13/9/2009

جددت عبارة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتانياهو، "إسرائيل دولة الشعب اليهودي"، جواباً عن "حل الدولتين"، دولة فلسطين ودولة إسرائيل، الذي استأنفه الرئيس الأميركي، باراك أوباما، مناقشة وخلافاً قديمين وتقليديين، ناشبين في صفوف اليهود أولاً. وهما نشبا منذ أوائل القرن التاسع عشر بأوروبا، غربها وشرقها، وصحبا الحركات الوطنية القومية الأوروبية، واستقرار الدول – الأمم في أوقات متفرقة، وبلورة الحركات والدول روايات "تاريخية" وأسطورية ترسي الهويات والهيئات والأبنية والسياسات والحدود على ركن مكين. وبلوغ المناقشات والخلافات، في أواخر القرن التاسع عشر، صيغة "دولة اليهود" لم يتوج بالإجماع. وانقسم عليها يهود أوروبا، جمهوراً ونخباً، انقساماً خلف أثره في الأعمال التاريخية، على نحو ما استبقت الأعمال التاريخية الانقسامات، وغذت بعضها بالحجج والأفكار والمسوغات.

الدولة والمواطنون
والانقسام السياسي، اليوم، يتناول مسائل وقضايا في صدارتها مسألة صفة الدولة الإسرائيلية، ومحل مواطنيها ("اليهود") الذين لا يرتضون ديانتهم أو ديانة آبائهم ركناً أو أساساً تنهض عليه مواطنتهم (مواطنيتهم)، ويعرفون أنفسهم مواطني دولة وطنية قائمة نشأوا فيها، ويتحدرون من رسومها السياسية والاجتماعية والثقافية. وهم يشاركون في الرسوم هذه من غير سند المعتقد، ولا سند الرواية "التاريخية" المتصلة. وهذه تنسبهم، من غير انقطاع إلى أسلاف أرومتهم واحدة، وتفرقوا في أصقاع الأرض، والتأم شملهم من جديد، وهم على انتسابهم الى جدودهم، أصلاباً ومعتقداً. وإلى هؤلاء، ثمة اليهود من غير المواطنين. ويفوق عددهم عدد المواطنين. ومعظم، أو شطر راجح منهم، لا يشرك في ولائه لدولته الوطنية دولة أخرى. والشطر هذا لا ينكر رابطة أو روابط كثيرة، خاصة، بدولة تضوي اهلاً وأصدقاء وجماعة وطنية وثقافية، يميل إليها، وينكر على منكري حقها في الدوام مقالتهم، ولكنه لا ينوي "العودة" إليها، ولا يرى مسوغاً ليقين سياسييها تمثيل اليهود جملة، ولتوقعهم، عاجلاً أم آجلاً، انخراطه في ركب الإسرائيليين "بالفعل".
والشطر الثالث هو الفلسطينيون. وهؤلاء ينقسمون ويتميزون. فبعضهم، على ما يسر بعضهم ويعلن بعض آخر، فلسطينيون إسرائيليون، على رغم وقع الجمع المدوي بين النسبتين. وبعضهم عرب إسرائيل. وإلى أي مذهب ذهب الفلسطينيون المقيمون بأراضي الدولة الإسرائيلية، في "حدودها الدولية" (المتنازعة) التي استقر الاعتراف الدولي بها، ونجمت عن "حرب الاستقلال" – وهي نفسها "النكبة"، المحظورة لفظاً منذ ايام -، وحملوا انفسهم على أهل البلاد الأوائل والأصليين ام على قلة قومية في دولة وطنية، فهم (الفلسطينيون) مسألة، أو قضية سياسية وحقوقية. وقد يرجأ حلها من غير ان تكف عن الإلحاح. فلا يسع الدولة، على المثال الديموقراطي والليبرالي والعلماني المشترك فكراً ومنزعاً، التخفف من هذا الشطر من مواطنيها أو من تبعات مواطنته السياسية والحقوقية والاجتماعية والثقافية. والافتراض "العربي" الرائج يخص الشطر الثالث بالانتباه والاهتمام، وهو يحظى وحده ببعض الإصاخة والسمع. والدعوة القوية التي أحياها أو بعثها تضامن "عرب 1948"، أو فلسطينيي إسرائيل، مع "إخوانهم" المنتفضين في 1987، وسبقه التحام الفلسطينيين بشطري 1948 و1967، غداة انتصار إسرائيل على الدولة الأردنية، في كيان متصل وواحد – على ما لاحظ مكسيم رودنسون يومها ونبه -، هذه الدعوة الى إقرار الدولة الإسرائيلية بمواطنيها كلهم، تمثيلاً وحقوقاً، لا راد لها.
وهي لا راد لها من داخل المنطق الديموقراطي والليبرالي والعلماني، الغربي (الى اليوم). وينازع المنطقَ هذا منطق "قومي" يزعم للقوم، أي للجماعة القومية أو الأمة الإثنية العرقية أو العصبية الاعتقادية التي ينحاز إليها ويقدم لحمتها على وحدتها السياسية المتنازعة والمتجددة، يزعم لها جوهراً لا تعلق له بالحوادث، ولا بعوامل الفرقة. ويجتمع المنطقان من غير ائتلاف في نصين دستوريين إسرائيليين واضحين. فيذهب إعلان الاستقلال، في 1948، الى "تعهد دولة إسرائيل إنماء البلد على نحو يعود بالمنفعة على سكانه كلهم، على أسس الحرية والعدالة والسلام التي علمها انبياء إسرائيل. وتتولى الدولة مساواة تامة بين مواطنيها كلهم في الحقوق الاجتماعية والسياسية، من غير تمييز في المعتقد والعرق والجنس. وتضمن حرية الضمير والعبادة والتربية والثقافة لهم"، على المثال نفسه. وحين يتطرق القانون الأساسي، في باب "الكنيست" المادة 7أ، في 1985، الى ما يلزم اللوائح الانتخابية لتستوفي شروط الترشح والمنافسة، والحق في المشاركة في الهيئة التشريعية وعملها، يشترط عليها ألا تؤدي غاياتها التي تسعى فيها، ولا أعمالها الصادرة عنها، الى واحدة من الوقائع الثلاث: الطعن في (وجود) دولة إسرائيل بما هي دولة الشعب اليهودي، أو إنكار صفة الدولة الديموقراطية، أو الحض على العنصرية.
وتنقض مادة القانون الأساسي حقوقاً ديموقراطية مضمرة أو معلنة قد لا يحدس اصحاب المنطق القومي في جواز ان تخطر ببال "عاقل" أو سوي. فهي تدفع الحق في الانفصال عن الدولة، والتشكك في "طابعها" الوطني أو القومي واقتراح صيغة اخرى للصفة الوطنية (على ما يناقش، اليوم حزب المجتمع الديموقراطي الكردي التركي ويجادل رئيس الجمهورية التركية ووزير الداخلية، وقيادة الجيش من طرف آخر. ويصدق مثله، ربما على سبيل الرغبة أو التطلع، على بربر الجزائر والمغرب، وعلى أفارقة جنوب السودان ودارفور، وعلى كرد العراق وسوريا وإيران، وعلى غيرهم). وهذه حقوق لا تسكت عنها الدساتير ولا الأعراف السياسية الديموقراطية. ولا ريب في ان الدول الديموقراطية والليبرالية العلمانية تحظر، قانوناً وفعلاً، إنكار الهيئات الديموقراطية والقيام عليها باليد و "السيف"، أي بالعنف، شأنها في الدعوة الى العنصرية، وتحكيم العرق في السكن والتدريس والعمالة. ولكن مجتمعات هذه الدول، وبعض هيئاتها السياسية والإدارية والبوليسية أو بؤراً منها، تتنازعها نوازع وأحزاب استبدادية عضوية (فاشية). وتنشب معاييرُ التمييز، في نواح وجماعات من مجتمعات الدول هذه، مخالبها القاسية والدامية. وعلى رغم ركوب النوازع هذه ميولاً غير سياسية، واستقوائها بأهواء تقوض روابط السياسة وميزان خلافاتها، تلتزم الدول الديموقراطية والليبرالية معالجتها والرد عليها، بإجراءات انتخابية ومالية وقضائية ما لم يتعدَّ اصحاب النوازع الرأي الى العنف المنظم والقسر والإكراه.

الشعب... جذماً و "فولك"
ويعيد أحد المؤرخين الإسرائيليين البارزين، ومدرس التاريخ المعاصر في جامعة تل أبيب، شلومو ساند، المسائل الناجمة عن الفرق بين مبادئ إعلان الاستقلال وبين شروط القانون الأساسي على اللوائح الانتخابية، الى تعريف الهوية الإسرائيلية، وإلى حدِّ هوية اليهود في علاقتهم بالدولة الفتية (كيف صنع الشعب اليهودي، 2008، دارفايار، باريس، نقلاً عن العبرية). فهو يخلص، في ختام احتجاج تاريخي مفصل، الى ان الحركة الصهيونية اضطلعت بأمر يكاد يكون ممتنعاً، هو صهر وحدات قومية "إثنية" كثيرة، وجماعات ثقافية ولغوية متفرقة المصادر، في "شعب" أو جذم ونسب واحد ومتجانس.
ويقتضي هذا، على ما حسب دعاة القومية "اليهودية" مقتفين خطو ونهج الدعاة القوميين الأوروبيين، اصلاً واحداً يتحدر منه "شعب" لا يأتيه الفرق أو التباين من خلفه أو قدامه. وذلك على معنى العائلة أو الرهط الأضيق الذي يرى نفسه "نازلاً" من صلب ضاو ومجتمِع، ومتخففاً من الخؤولة الغريبة والمفضية الى الأمة، على ما لاحظ ماسينيون، وإلى الأهل "المؤلفين"، ركن السياسة العربية والنبوية معاً. وفي هذا السبيل، استعار المؤرخون القوميون اليهود، الأوروبيون ثم الإسرائيليون، الفكرة "اليهودية – المسيحية" القديمة، و "أرخوا" الحوادث والوقائع اليهودية على رسم شتات أزلي (ص 355 من كتاب شلوم ساند). ودعاهم رسم الشتات المتفرع على اصل واحد هو نطفة "سبط الأسباط"، إلى إغفال أو نسيان الداخلين الكثر في اليهودية، الذين "هادوا" على العبارة القرآنية. وهؤلاء كانوا هم الشطر الأعظم من اليهود طوال القرون الأولى. واعتناقهم "دين موسى" جدد الجماعة الأولى، وأحياها عدداً وثقافة أو روحاً.
واستتبع الانتهاج على مثال "الفولك" الألماني، أو "النارود" البولندي والروسي، إلغاء الفروق الاجتماعية والثقافية الملتبسة بكيان الجماعات الوطنية، ونسيان تواريخها الخاصة، ورميها جميعاً في لجة زمن اسطوري وديني مرجعه هو التوراة. وعلى خلاف القوميات السلالية والقارية، على ما تسميها حنة أراندت - وهي تعزو إليها نمطاً من الإمبريالية نابذاً وغير ساع في الدمج ومفرقاً - ينفرد "الشعب" اليهودي بالرحلة والبدو من غير آصرة بالأرض التي ينزلها ويحلها. وعلى هذا، تستأنف الحركة القومية الصهيونية رسم اليهود في مرآة من يكرهونهم ويضغنون عليهم من اهل القوميات الناشئة (والمتعثرة) في أوروبا الوسطى وأوروبا الشرقية، مقلوباً. فأهل القوميات العصبية هذه، وهم صبوا ضغينتهم في قالب قصصي أسطوري عرف باسم "بروتوكولات حكماء صهيون" (وهي من صنع أحد ضباط "الأوكرانا" الروسية القيصرية)، يرمون اليهود بالحرص على وحدة وعزلة حصينتين هما معقل تآمر "مركزي" وبوليسي على شعوب الأرض كلها. وتستعيد الحركة القومية اليهودية المثال القومي والشعبي الأوروبي المعاصر، وتؤيده برافد ينبع في "ارض" يهودية هي "الحِدَةُ الموسوية" (أو "التمايز الموسوي")، على ما سماها المؤرخ الألماني يان آسمان في كتابه "موسى المصري" (1997).
واقتضى هذا، بديهة، وقتاً طويلاً ومتعرجاً تولى في غضونه عدد من المؤرخين والمثقفين والدعاة بلورة رواية "تاريخية" تدرس اليوم في مدارس الدولة العبرية ومعظم مراكز بحثها، هي بمنزلة الرواية الرسمية. والإجراءات التعليمية الأخيرة، مثل تسمية المواضع والأماكن بالعبرية وإلغاء اسمائها العربية المتداولة وإلزام التلامذة والطلاب العرب في المدارس الإسرائيلية إنشاد النشيد الوطني الإسرائيلي، الى حذف الدلالة على 1948 بالنكبة، جزء من سياسة الهوية هذه، واستطراد في الدائرة العربية أو الفلسطينية لنهج التوحيد والدمج والاتصال الذي تقدم تعريفه ووصفه. وورث المنهاج المدرسي الإسرائيلي ثمرة أعمال "التأريخ" المتعاقبة منذ اوائل القرن التاسع عشر بأوروبا، والمتلبسة التباساً قوياً بالحركات القومية القارية و "تواريخها"، من وجه، وبالمنازعات الدينية المسيحية، وخلافات الجماعات والفرق على علاقة المسيحية باليهودية، والأناجيل بالتوراة، والكنيسة بالاصطفاء، من وجه آخر.
وأوائل من أرخوا، على معنى: رووا أخبار "أمة" اليهود أو اليهود بما هم أمة، من مريدي الإصلاح البروتستانتي. فعمد جاك باسناج، البروتستانتي اللوثري الفرنسي والمقيم بروتردام، مهجر اللوثريين والإنجيليين الفرنسيين المضطهدين غداة إبطال خط أو فرمان (براءة) نانت، الى كتابة "تتمة" مصنف فلافيوس جوزيفه، مؤرخ دمار الهيكل الثاني في 77 للميلاد، في "الآثار" اليهودية القديمة، على معنى الآثار العريض. فكتب باسناج، في 1706 – 1707، "تاريخ ديانة اليهود منذ يسوع المسيح الى يومنا، وهو تتمة تاريخ جوزيفه". ولا يثبت المؤرخ اللوثري الفرنسي اتصال الجماعات اليهودية المعاصرة بالعبريين القدماء، وانتسابهم إليهم. ويذهب الى ان العهد القديم هو ملك "أبناء إسرائيل". والمسيحيون أولى بالاسم هذا من اليهود، بحسب تأويل شائع. واليهود أمة على معنى الملة. وتتناول روايته اضطهاد ملة اليهود، حيثما اقاموا، ويعزوه، على مثال معروف، إلى إنكارهم رسالة يسوع.

التوراة فالمنفى
وجاك باسناج هو "أستاذ" المؤرخ اليهودي الألماني، إيزاك ماركوس جوست، أول من كتب تاريخاً "يهودياً"، على منوال تاريخ البروتستانتي الفرنسي المهاجر، وعلى خلافه، معاً. ففي 1820 طبع الجزء الأول، من تسعة أجزاء، من "تاريخ الإسرائيليين منذ زمن المكابيين الى يومنا". والكاتب ألماني ليبرالي ومتنور، أراد كتابه لبنة في بناء دولة ألمانية وطنية تضوي جماعاتها الدينية والقومية على قدم المساواة، على رغم روافدها المتفرقة. فالماضي اليهودي، على هذا، هو تقدمة اليهود الألمان الى المجتمع المشترك الآتي. وابتدأ جوست تاريخ اليهود، شأن ليوبولد زونز وأبراهام جيجير من بعده مباشرة، بالعودة من المنفى البابلي، أي بواقعة تاريخية لا شك فيها. وكان بعض كبار المدرسة اللغوية النقدية الألمانية أثبتوا ان الكتب "المقدسة" كتبها كتّاب كثر تعاقبوا على كتابتها في أوقات متأخرة، معظمها عاصر العودة من المنفى البابلي في القرن السادس (ق. م.)، وجاء بعدها.
وكان انقطاع حقبة المنفى من الحقبة العبرية القديمة والمفترضة، وهي حقبة هداية ابراهيم ثم نزول التوراة (سفر التثنية) على موسى بطور سيناء، ركن تاريخ اليهودية عن يد اوائل المؤرخين الألمان اليهود في النصف الأول من القرن التاسع عشر. ويُعمِل المؤرخون، وجوست أولهم، هذا الانقطاع، على ما يقول ساند (ص 103)، في دمج الجماعات الوطنية والمحلية اليهودية في مجتمعاتها، وينفي عنها "غربتها" وعزلتها على رغم انفرادها بمعتقدات وشعائر على حدة. فاليهود متآخون في صَلاتهم ومعتقدهم، ولكن ولاءهم السياسي و "الحربي" لأوطانهم ودولهم. ولا يقطع "تاريخ الإسرائيليين..." في اصل اليهود الواحد والمشترك. والحق انه لا يناقش المسألة على نحو التخصيص، ولا يحمل، من وجه آخر، الجماعات اليهودية على أجزاء او "أعضاء" من شعب واحد. فليس ثمة "كيان سياسي أعلى" يفرق اليهود من غير اليهود، ويحجز بين هؤلاء وأولئك، ويحول، تالياً، بين اليهود وبين مساواتهم بالجماعات الثقافية والقومية الأخرى التي تضويها الدول الوطنية المعاصرة (يومها).
وطالما خلا ميدان التأريخ للكتاب والمثقفين اليهود "المتنورين" في غرب أوروبا ووسطها، بقيت اليهودية ديانة ومعتقداً جامعين، بديهة، ولا يستتبع جمعها إنشاء شعب على حدة أو قومية أجنبية. وتنكب الكتّاب والمثقفون هؤلاء اتخاذ التوراة، وقصصها، مرجعاً تاريخياً، من غير اعتبار إيمانهم أو شكهم. ولم يتوسل رجال الدين بالتاريخ وروايته الى تثبيت هوية لم تحوجها المجتمعات المنكفئة والمتماسكة الى المنافحة عنها، وتأييدها بالحجة. فهم، كذلك، لم يُعمِلوا التوراة في احتجاج تاريخي وثقافي محدث. وعلى خلاف جوست، الألماني وأصحابه الألمان مثله، أنشأ هينريش غراوتس، المولود بأراضي القيصر الروسي بشرق أوروبا، في كتابه "تاريخ اليهود منذ العصور القديمة الى يومنا" (1853- 1876) تاريخاً قومياً ويهودياً صرفاً. فحمل الشعب على معنى الأمة الحديث. وجمع حوادث التاريخ المتفرقة والمتناثرة في مجرى متصل. وحذف من السياقة الواحدة ما يشكل ضمه إليها من فروع متشابكة وملتفة، ويعصى ضمه التعليل السهل والمباشر. وعلى حين بقي كتاب جوست مرجعاً ترجع إليه النخبة اليهودية الألمانية، ويحظى بقبول متحفظ لا يدعو الى ترجمته الى لغات أخرى (فهو لم ينقل الى العبرية)، ذاع صيت كتاب غراوتس، ونقل الى عدد من اللغات الأوروبية، وإلى العبرية. وجعله "عشاق صهيون"، وهم أوائل القوميين الصهيونيين، مرشدهم وكتابهم.
وهذا صدى التربة التاريخية والاجتماعية الروسية، والأوروبية الشرقية، التي ترعرع فيها غراوتس، وخرج منها، على الأرجح. فتصورت اليهودية، أي حال اليهود، في صورة صفة لازمة وثابتة علقت بشعب – عرق اقتلع من أرض كنعان، وجاب الأرض الى ان بلغ أبواب برلين. وآذنت رواية غراوتس بدمج الأسطورة المسيحية الشعبية التي تحمل اليهود على شعب منفي جراء "خطيئته" ومعصيته ونكرانه، في العقيدة الحاخامية المشيخية التي ترى يد العناية والمشيئة وابتلاءها في المنفى والشتات، وتقصر الخلاص على اليد وإشارتها. وعمد الكاتب "الشرقي"، رداً على جوست وزونز وجيجير، وعلى فصلهم التاريخ اليهودي من التمهيد العبري الإبراهيمي والموسوي، فدمج التمهيد القديم والسفر الملكي في صلب "التاريخ" اليهودي. ونفى عن اليهودية قصرها على حضارة دينية وحسب. ونصب اليهود "قبيلاً – شعباً"، على المعنى الألماني والروسي السلالي والنسبي، "خالداً". ونسبهم، من غير التواء ولا تقطع، الى "أجدادهم" الزاحفين من وراء النهر، و "العائدين" الى أرض كنعان حيث كان يقيم آباؤهم. وأحل هؤلاء، حين اجتمعوا، الشريعةَ السرمدية الموسوية في الجسم القبلي السرمدي، على تلخيص موريس هس لغراوتس في كتيبه، "روما وأورشليم" (1881).

المنفى والشتات
والمنفى، بين العهد الملكي وبين اليوم – ختام القرن التاسع عشر، أو أوائل القرن الواحد والعشرين في نظر من تسميهم انيتا شابيرا (مخيال اسرائيل، 2005) "الكنعانيين" -، على هذا، ليس بشيء، ولا يجدد في تعريف الهوية اليهودية ووجوهها. ولم ينتبه اصحاب المذهب "التاريخي" والأسطوري هذا الى معنى خسارة المنفى والشتات. فهي تخرج أهل المنفى والشتات، أي معظم اليهود، من التاريخ وحوادثه الاجتماعية والثقافية والسكانية والسياسية والاعتقادية، وتثبتهم على حال واحدة لا يزولون عنها، على ما "يراهم" أعداؤهم والساعون في استئصالهم. وهي تقضي في التاريخ عموماً، وليس في تاريخ اليهود وحدهم، بالخواء والعبث. وتستعدي الجماعات بعضها على بعض، وتحل علاقاتها بعضها ببعض في عداوة وضغينة لا قاع لهما ولا قرار. (وليس عسيراً الانتباه الى الشبه القوي بين هذه المقالة في التاريخ وبين مقالات الإسلاميين الإصلاحيين والإخوانيين والجهاديين، على حد مشترك يكاد يكون واحداً).
وينكر اصحاب الهوية القومية والعرقية المتصلة على المنفى ومنه وعلى الشتات ومنه، تهجينهما أهليهما و "خيانتهما" الأصل الواحد والواضح. ويتعقب شلومو ساند، في نحو 300 صفحة، روافد الاثنين، الشتات والمنفى، وإسهامهما في "تعقيد" تاريخ متشابك وملتف. فالآصرة اليهودية، على ما يرى مؤرخ تل أبيب، معنوية وثقافية أو رمزية فوق ما هي "وطنية إقليمية". وآباء التوراة، وأولهم رأس الآباء، ابراهيم، مهاجرون تركوا ارض المولد، أوركاسديم بين النهرين، في حال ابراهيم، وهاجروا الى الأرض "المقدسة" (ويلاحظ جان – كريستوف أتيياس واستير بنباسا في عمل مشترك، "اسرائيل، الأرض والمقدس"، 1998، باريس أن رابطة القدس، أو المقدس، بالهجرة على وجهيها وجهتيها: إلى الأرض ومنها على أمل العودة ورجائها، وثيقة). وكانت أور هذه في القرن السادس ق.م. حاضرة تجارية وثقافية كبيرة. ويرجح ان يكون كتاب الأسفار والمجاميع التوراتية أقاموا بها في القرن المتأخر هذا، ورووا تاريخاً متخيلاً في منفاهم الذي لم يرضوا العودة منه، على مفترق الممالك والمساك العظيمة ومدنياتها ومعارفها ولغاتها. وكانت حبرون ارضاً طرفية وهامشية قياساً على ممالك ما بين النهرين، وفيها فارس التي دخلها اليهود "جاهلين وغليظي الطباع" فمدنتهم، على ما يقولون هم.
ويرجح ساند، على خطى باحثين وعلماء حفريات ومؤرخين جددوا دراسة "الأرض" الكنعانية والفلسطينية وجوارها المصري والمتوسطي طوال القرن العشرين، أن تكون مملكتي إسرائيل ويهودا، في الشمال والوسط، نشأتا من قيام "شعوب البحر"، والفلسطينيون واحد منها، على السيطرة المصرية، واندثار المدن الكنعانية القائمة في الأودية وتوطن جماعات رعاة قبلية، انقلبت الى الزراعة، محلها. وأتمت الجماعات المستوطنة والمندمجة في السكان المحليين، في غضون ثلاثة قرون، من القرن الثاني عشر ق.م. الى القرن العاشر، استقلالها عن المصريين، وإرساء مدينتين – مملكتين صغيرتين ومحليتين في وقتين مختلفين. فقامت في الشمال على جبل كنعان، في أواخر القرن الثالث عشر ق.م. على ما تشهد مسلة ميرينبتاح، وسط عشرات من القرى الخصبة، مملكة "إسرائيل" (والاسم منقوش على المسلة). وكانت المملكة مزدهرة وخصبة في القرن التاسع، وكان الجنوب، على خلاف الشمال، فقيراً ومجدباً، ولم يرس بناء سياسياً متماسكاً وتواضعاً قبل القرن الثامن. وعلى رغم اشتراك الكيانين في لغات (لهجات) عبرية متقاربة، وفي تقاليد وسنن تكاد تكون واحدة، أقامت المملكتان على خلافهما وتنافسهما. وما يُنسب الى الجنوب، وهو مملكة داود وأسرته، من قصور ومبان عظيمة، يعود حقيقة، في ضوء الحفريات، الى مملكة الشمال وملوكها من آل أُمري على ما تشهد "المسلة السوداء" الأشورية ومسلة تل دان. ودان أهالي المملكتين بالوثنية، وعبدوا آلهة اعظمها يهوى. وأقاموا، على رغم تعظيمهم يهوى، على تقديم عشتروت. وبعض كتاب التوراة، من بعد، هم من اهل الجنوب. وحسدوا إسرائيل على قوتها وسلطانها، ونقموا عليها وثنيتها، واستعادوا اسمها القديم والمتألق من غير كتمان حفيظتهم وضغينتهم.

روافد الخليط
ولا يفضي هذا الى إبطال روايات التوراة "التاريخية"، وإلى نفي قيام مملكة داودية وسليمانية واحدة، وحسب (ولا أثر لهجرة جماعة كبيرة من ارض مصر الى ارض كنعان عبر سيناء في أي وقت من الأوقات، بحسب الحفريات). فهو يثبت في "الأصل" القومي، أو المنشأ، خليطاً من طبقات سكان، وجماعات مولدة، ائتلفت تدريجاً من غير ان تمحو آثار روافدها. وهدمُ الهيكل الثاني، ويفترض انه مبتدأ المنفى والشتات "الكبيرين"، لم ينجم عنه اثر في عدد اليهود. فلم ينفك عددهم بفلسطين نفسها، وفي بلاد المشرق، من مصر جنوباً الى أنطاكية وجوارها اليوناني شمالاً، يتعاظم. ويخالف هذا فرضية نفي جماعي روماني أخرج السكان من أرضهم وبلداتهم وقراهم ورمى بهم في المنافي. ولم تنفك المدن اليهودية، غداة هدم الهيكل، تزدهر وتتسع وتشهد حياة دينية وثقافية غنية. ولم يكد ينقضي نصف قرن على ثورة الغلاة (في 77م) حتى "خرج" باركوخبا في 132. وقمع الرومان الانتفاضة قمعاً قاسياً. وسموا أورشليم اسماً رومانياً، آييليا كابيتولينا، والولاية اليهودية فلسطين. وحظروا على المختونين دخول المدينة طوال ثلاثة اعوام، وضيقوا على إقامة الشعائر. ولم يترتب على القمع والقهر والتضييق نفي جماعي. وهذا لم يكن من سنن الرومان، ولا كانت آلاته ووسائله المادية والتقنية في وسعهم ومتناولهم أو في وسع معاصريهم. فبقي اليهود والسامريون معظم سكان الولاية وكثرتها في اثناء جيل أو جيلين غداة بارخوشبا. وبلغت البلاد في عهد "ربي" (الحاخام) يهودا حناسي، حوالى 220م، ذروة "ذهبية"، زراعية ودينية ثقافية. فأُنجز "الجامع في الميشنا" وطبقاتها الست، وكتبت الأحكام والاجتهادات الشفهية. واضطلع جمع الميشنا بدور راجح في بلورة الهوية التاريخية يفوق اثر خروج بار خوشبا الخلاصي بمراحل. فلم يلِ تدميرَ الهيكل الثاني تشتتُ اليهود في أصقاع الأرض، عقاباً لهم على ضلوعهم المزعوم في "قتل" المصلوب والابن، على ما أشاعت الرواية المسيحية، وواطأتها الرواية اليهودية منذ القرن الرابع. فأوَّل التقليدُ المشيخي اليهودي المنفى، على معنى الحياة الزمنية بعيداً من الجوار الإلهي، تجوالاً وتنقلاً خارج الأرض المقدسة.
وأغضت الرواية الغالبة والسائرة، وهي استقرت في القرن السابع (م) تقريباً، عن انتشار اليهودية، قبل الميلاد وبعده، في بلاد كثيرة، بعيدة من المملكتين وقريبة. فشطر غالب من منفيي بابل لم يرجع الى أورشليم حين ألغى قوروش عهد النفي. وانتشر المتحدرون من المنفيين في بلاد ما بين النهرين، شرقاً في مملكة فارس، وشمالاً في بلدان الكلدان وأشور، وغرباً وجنوباً في بلاد النبط والعرب. وأوت مدن سورا ونهارديا وبومبيديتا مدارس توراتية زاهرة. وولدت في حضن المدن والمدارس هذه الكنيست، بيت الصلاة والعبادة ودار القراءة والتدريس والاجتهاد. وتقدم تلمود بابل، وهو جامع احاديث وآثار كبار الشرّاح والمجتهدين في التأويل والسنن، تلمود اورشليم مكانة. ونزلت جاليات يهودية، بعضها يهودي فارسي عسكري (من المقاتلة)، مصر. ومهدت فتوح الاسكندر لنشأة دائرة ثقافية وسياسية، هللينستية، مترامية الأطراف، ائتلفت من خليط روافد يونانية ومشرقية وفارسية وهندية وعبرية وعربية ونبطية لم يسبق اختلاطها على هذا النحو (وكان أرنالدو موميليانو ذهب، في "حكمة العلوج"، الى ان الخليط هذا ولد ثقافة غلَّبت الغيبيات الصوفية والأورفية وعلوم النجوم وقراءة الطالع والروايات الخلاصية والمهدوية والسلطانية على الفلسفة والسياسات اليونانية – الرومانية). وانتصبت الاسكندرية حاضرة هذه الدائرة. وأقام بأنحائها يهود ضاهى عددهم عدد أخوة إيمانهم في يهودا. ومعظمهم من الأهالي المحليين الذين دخلوا في اليهودية، ومن ذراريهم. ومن مصر، هاجر بعضهم مقاتلاً ومتجراً الى الصحراء الليبية وضفافها المأهولة، وهي من ولايات البطالمة.
وأوغل بعض آخر في شمال افريقيا، وتوطن في وسط البربر. ودخلت جماعات من هؤلاء الدين الجديد. وأنشأت كنساً للصلاة والدراسة. وكثرت جماعاتهم في بعض النواحي، وملكت عليها. وفي آسيا الصغرى، نمت جماعات بأنطاكية وأفسوس، واستقرت جنوباً بدمشق، وشمالاً وغرباً بسلاميس وأثينا وتسالونيكا وكورنتس. وبلغت روما قبل الميلاد وبعده. ومن إيطاليا دخلت الدائرة الإيبيرية، الإسبانية والبورتغالية، ثم الغولية والجرمانية، فإلى شرق أوروبا. ويحصي المؤرخون زهاء 4 ملايين الى 8 ملايين يهودي في منعطف القرن الأول (م) الى الثاني (ويميل ساند الى الرقم الأول). وفي الأثناء، لم يزد عدد سكان يهودا والسامرة وإسرائيل عن 500 ألف تقريباً. واستقر السكان على هذا العدد طوال القرنين قبل الميلاد وبعده. فلا يعقل ان يكون هؤلاء مصدر الملايين الأربعة، على أضعف التقدير، الذين انتشروا على ضفاف المتوسط. وهم ليسوا أهل بحر وساحل، على خلاف الفينيقيين واليونان. ولم يشهد نماء السكان في البؤرة اليهودية الفلسطينية طفرة مفاجئة ومباغتة. فزيادة السكان، في البؤرة الزراعية شأنها في غيرها، تقيدها الموارد وآلات استنباتها. وهذه لم تشهد، في العهد الروماني الامبراطوري، انقلاباً عظيماً. ويقود تعليل العدد، وتحليل أجزائه وشطوره، الى إثبات دور عاملٍ تغفله الكتب المدرسية الإسرائيلية اليوم عمداً، وأغفلته اعمال بعض أعلام "الرواة" المعاصرين من امثال دوبْنوف وسالو بارون وغيرهما من وارثي تراث إخباري تقليدي واعتقادي محافظ. والعامل الحاسم هذا هو دخول جماعات محلية وبلدية ببلدان المهجر (قياساً على البؤرة) في دين التوحيد الأول، واستجابتهما الدعوة، على خلاف زعم الانكفاء، والتوارث في الذراري وحدهم، واشتراط يهودية الأم معياراً للنسبة الصحيحة والمقبولة.
وإلى الروافد هذه، يتعقب المؤرخ الإسرائيلي رافدين كبيرين: يمنياً وحبشياً سبق الانكماش والانكفاء الجزئيين، وخزرياً تأخر عنه الى القرن العاشر الميلادي. ومملكة الخزر، على ساحل بحر قزوين وفي وسط جباله، كانت إحدى طرق الانتشار صوب أوكرانيا وبولندا وليتوانيا. وفي الأثناء، كانت الجماعات هذه تتكلم لغات الأقوام والشعوب التي خالطتها، وانقلبت جزءاً منها. ولم تتعلم العبرية والآرامية إلا بعد القرن الحادي عشر (م)، حين استقرت العربية لغة الثقافة الجامعة في ممالك الإسلام، واستقرت اللاتينية لغة أهل القلم والخطابة والتدريس والنسخ في ممالك المسيحية.
ويخلص المؤرخ التل ابيبي من تطوافه العريض والمدقق في شعاب الأرض – وهو يهمل شرق آسيا والصين حيث حل يهود في القرن الثاني (ق. م.) – الى ان الشعب "اليهودي" الإسرائيلي اليوم هو أحد أكثر شعوب الأرض اختلاطاً عرقياً وقومياً وثقافياً. ويفوق اختلاطه حتماً ما عرفته شعوب العالم في فصول تاريخها التي سبقت التوسع الأوروبي الرأسمالي. ولا يقارنه إلا الخليط الأميركي، في الولايات المتحدة و "عالمها الجديد"، والمجتمع هذا، وهذه حاله، تتبنى تشريعاته وقوانينه معياراً نَسَبياً، وتعمله في تمييز اليهودي من غير اليهودي. وتسعى بعض مختبراته، وبعض علماء المختبرات، في جلاء بنية جينية متميزة، على ما تسميه الصحافة الإسرائيلية، بعضها ساخراً وبعضها الآخر جاداً. ويعزو شلومو ساند الحاجة الى أصل بيولوجي مشترك الى تعريف الدولة شعبها باليهودية حين يفتقر مجتمعها الى قرينة تعارف ثقافية تسم نمط حياة يهودياً، علمانياً وعاماً، بسمتها، وتصبغه بصبغتها. فيُحْوجها افتقارها الى القرينة، أو السمة، الى التمثيل على هويتها الجماعية بالأصل البيولوجي الواحد، وبالشعب – العرق الأزلي. وألزم هذا الدولة بنقل التبعة على الأحوال الشخصية، في 1953، الى "شريعة التوراة"، بينما ابتدأ المجتمع يبلور ثقافته الوطنية الخاصة على حدة من تقاليد الشتات الدينية، ومن المقتبسات والاستعارات الغربية. ويعزو المؤرخ اضطراب معايير الهوية و "قانون العودة" الى الفلسفة نفسها. والتمسك بهذه الفلسفة يتعثر يوماً بعد يوم، وأكثر فأكثر، بهجرة روسية و "شرقية" شطر منها غير "يهودي"، وبحركة فلسطينية تنزع الى تعريف الدولة تعريفاً سياسياً، وتجهر بحقها في الدولة قبل ان ترضى الانتساب إليها (ص406). وهذا، وغيره، يشرع الباب بوجه فصل "ما بعد صهيوني" من تاريخ الدولة والمجتمع. وينبغي ان يقود الفصل هذا الى حمل الهوية على بداية رحلة الحياة واستهلالها، وليس على غايتها.

الاثنين، 7 سبتمبر 2009

رجل الأمن والاستخبار والعمليات «بطل» يتقدم المقاتل في مراتب البطولة الرسمية


الحياة, 01 /9/ 2009

قبل عشرة أيام من ختام آب (أغسطس) أطلقت السلطات الاسكوتلندية عميل الأمن الليبي عبدالباسط محمد المقرحي، المدان بالمسؤولية عن انفجار طائرة أميركية فوق بلدة لوكربي، في 1988، ومقتل 270 راكباً فيهم طاقم الملاحة والخدمة. واستقبل مئات الليبيين، أو آلاف قليلة، من كان رئيس أمن الطيران بمحطة مالطا يوم عملية الاغتيال الجماعية، «استقبال الأبطال»، على ما قيل. ورجع سيف الإسلام القذافي، نجل «القائد» ورئيس مؤسسته وممول مبادرات «خيرية» وسياسية وديبلوماسي والده غير الرسمي، في الوصف هذا.
وكان سيف الإسلام على متن الطائرة الخاصة التي نقلت السجين أو الأسير «المحرر» من المملكة المتحدة الى مطار طرابلس الغرب. وحين نزل رجل الأمن السابق والمريض من الطائرة «كانت مكبرات الصوت تبث أناشيد وطنية». وهلل الليبيون المحتشدون «وسط إجراءات أمنية مشددة»، لمواطنهم. وغداة يومين على «تحرره»، على قول إحدى الصحف اللبنانية المختصة، استقبله «قائد الثورة»، وهنأه، وضمه الى صدره. فأكب رجل الأمن المدان على يدي «القائد» وقبلهما.
وسبق إطلاق المقرحي الليبي بعشرة أيام احتشاد آلاف اليمنيين بمطار صنعاء، وانتظارهم نزول الشيخ محمد حسن المؤيد ومرافقه محمد زايد، آتيين من الولايات المتحدة الأميركية. والشيخ المؤيد وصاحبه كانا «ضيفين» على سجن ولاية كولورادو، أو أحد سجونها، طوال خمس سنوات، بعد إدانتهما بمساندة منظمات إرهابية في صدارتها «القاعدة» ثم «حماس». «واصطف آلاف من المستقبلين على طول الطريق من مطار صنعاء الدولي الى مستشفى العلوم والتكنولوجيا في وسط العاصمة، رافعين صور المؤيد ومرافقه، وهاتفين لانتصار العدالة». ووصفت الجموع الرجل بـ «المجاهد»، وعودته بـ «يوم الحرية». ونسب الرئيس اليمني علي عبدالله صالح الإفراج عن اليمنيين الى «يقين اليمن»، أي يقينه هو، ببراءتهما. وحمل وزير خارجيته، أبو بكر القربي، الإفراج على «التحرك الديبلوماسي اليمني».
وعاد خمسة «ديبلوماسيين» إيرانيين، في 12 تموز (يوليو)، من حبس أميركي (- عراقي) الى طهران. وكان الخمسة أوقفوا بأربيل قبل سنتين. وظنت فيهم القوات الأميركية التي اعتقلتهم التجسس على ناشطي منظمة كردية مناهضة للحكم الإيراني، وتسليح فرق محلية تخطط لعمليات عسكرية متفرقة. وهم كذلك، شأن الشيخ محمد حسن المؤيد اليمني والرائد الأمني عبدالباسط محمد المقرحي الليبي، «استقبلتهم بلادهم استقبال الأبطال»، على قول الوكالات. فبثت فضائية «برس تي في» الرسمية صور وصول طائرتهم الى المطار، وخروجهم منها، ونزولهم، ومصافحة منوشهر متكي، وزير خارجية محمود أحمدي نجاد، ومحافظ طهران وموظفين آخرين، أيديهم. وأثنى متكي، وهو نفسه أبّن في شباط (فراير) 2007 عماد مغنية باسم الجمهورية الإسلامية، على «مقاومة الديبلوماسيين الشجاعة مثالاً لمقاومة الأمة الإيرانية».
وحين أخلي، في 29 نيسان (ابريل)، أربعة ضباط لبنانيين أمنيين كانوا احتجزوا قبل 44 شهراً بموجب القانون اللبناني وتوصية رئيس لجنة التحقيق الدولية في اغتيال رفيق الحريري وآخرين، انفجرت تظاهرات الاستقبال والفرح السياسية والمذهبية (في حال المدير العام السابق للأمن العام وابرز الموقوفين والمخلين اللواء الركن جميل السيد) والعائلية. ومن اختار من «المحررين» أداء دور الخطيب والشارح والمدعي العام والقاضي الإعلامي، ولم يطلب الدور هذا غير الرجل نفسه، أتاحت له محطات التلفزة المنيرة والمضيئة، و «التبريكات» العائلية والبلدية، واستقبال «القائد» السوري له، أداءه. وأطنب سياسيون و «روحانيون»، أو موظفو هيئات إدارية مذهبية، في تعظيم الضباط. فوُصفوا بـ «الشهداء الأحياء». ورفع نصب لهم في بعض ساحات الضواحي. وسوغ اعتقالهم اضطلاعهم ظاهراً بصلاحيات أمنية كبيرة،وتقصير بعضهم في الاضطلاع بمهماته، وعبث بعض آخر بمسرح الجريمة، وتصدي بعض ثالث لمسرحة سياسية وخطابية متمادية. وهم أخلوا لضعف كفاية الأدلة وقصورها عن سند دوام الاعتقال.
«رأي» جماهيري
ففي غضون أقل من أربعة أشهر، أجمعت «جماهير» بلدان شرق أوسطية على «رأي» يكاد يكون مشتركاً في رجال أمن ظنت فيهم سلطات قضائية (ما خلا حال الإيرانيين الخمسة)، أجنبية أو دولية، الضلوع في القتل أو السكوت عنه، و «الرأي» الجماهيري، وهو كذلك رأي رسمي صادر عن سلطات متحكمة أو سلطات ظل (في حال المنظمة الخمينية اللبنانية)، حمل المظنونين أو المدانين على البطولة. وعلى افتراض جواز الشك في قوة الأحكام التي قضت بسجن المسجونين – والشك في الأحكام هذه جائز، وهي صدرت فعلاً عن هيئات قضائية رجعت في أحكامها، وأقرت بضعف أدلتها وقرائنها –، بعصى الواحدَ، إن لم يكن جماهيرياً على أنحاء الجماهيريات المستقبلة بالأناشيد والناحرة الخراف، فهمُ البطولة التي تنسبها الجماهير الى عملاء أمنيين «يعملون» على أراضٍ أجنبية أو يُظن فيهم التقصير إذا لم يجزم بتواطئهم على الارتكاب.
وفي الأحوال كلها، لا تتفق مكابدة الأسر الطويل، و «الظلم» الذي يتأتى منه، مع مثال البطولة العربي المعروف. فهؤلاء، وغيرهم مثلهم، لم يؤسروا في حرب أو منازلة، ولم يقتحموا حصوناً، ولم يغيروا على مصادر نار مؤذية، ولم يقطعوا إمداداً، ولم يقعوا في كمين نصب لهم وراء خطوط العدو. فهم أخذوا في بيوتهم ودوائر عملهم. وصفدوا واقتيدوا الى السجون اقتياداً. وبعضهم اضطرت دولهم الى النزول عنهم للقضاء. وحاكمهم القضاء، ودانهم، أو دان منهم من دانه بالمراوغة وليس بالجرأة، وبالتستر على القوانين والأعراف وليس بمغالبة النفس. وصدق القضاء فيما دانهم به أم لم يصدق، فليس ثمة ما يباهي به الأهل، أي «الجماهير»، أو يفاخرون حين يتطاول التخمين والظنة الى اغتيال 280 مدنياً راكبين طائرة مدنية، أو الى تأييد منظمة قتل جماعي، أو التخطيط لجريمة سياسية أو الإغضاء عنها أو التقصير في مضمار العمل الأمني الوطني. فإتيان هذه، إذا صدقت التهمة، يقضي بسفالة من يأتيها. والبراءة منها، إذا لم تصدق التهمة، على ما يقول المتهمون ومستقبلوهم وأولياء أمرهم السياسيون، لا ترفع المظنون، ظلماً ومن غير بينة، الى مرتبة البطولة، والتمثيل على «مقاومة الأمة»، على قول الديبلوماسي الإيراني الأول. وقبل عقدين من السنين، حين حشدت الولايات المتحدة الحشود العسكرية على حدود العراق الجنوبية تمهيداً لرد عدوان قوات صدام حسين على الكويت، دعا قائد سلاح الجو العراقي قادة قوات التحالف الى البرهان على «رجولتهم»، والقتال براً من غير سلاح جو أو مدفعية بعيدة المدى. فهذا «قتال الرجال». وأما غيره فقتل نساء وربات خدر ربما.
ولا ريب في أن دعوة قائد سلاح الطيران العراقي يومها، على شاكلة «منازلات» سيده «البائد»، على قول نوري المالكي، و «أمهات معاركه»، لم تكن إلا من قبيل التفاخم وتظاهر الطواويس، المفضيَين الى مجازر ومقاتل مروعة. وهي من باب البطولة الخطابية. ولكنها تقر، على نحو موارب، بانقلاب شروط البطولة، أو العمل البارز، في الحرب الحديثة والميكانيكية، على ما كتب العقيد شارل ديغول في ثلاثينات القرن الماضي. فهذا النوع من الحرب يخوضه محاربون تقنيون بينهم وبين ميدان المعركة ما لا يحصى من الوسائط. وفي أثناء الستين سنة المنقضية قلما قيض لمحاربين شرق أوسطيين خوض حروب تقنية متكافئة أو «متوازنة استراتيجياً»، على قول سوري وأسدي مطوي أو منسي.
والحق أن «التوازن الاستراتيجي» المرجو أراد به صاحبه أصنافاً من السلاح الصاروخي، وسلاح الجو، فوق ما أراد مثال إعداد وتخطيط وقتال. و «الاستراتيجي» صفة السلاح ومفعوله ودماره ومسافاته. وورث الابن، من طريق إيرانية وكورية، «توازن» أبيه ورغبته ومطمحه.
وعلى هذا، فالبطولة في ميدان القتال عصية. والحق أن من يقرُّ بها للجنود العرب، مصريين أو أردنيين في المرتبة الأولى وسوريين من بعد (قبل الحروب غير المتكافئة المحدثة) هم الإسرائيليون، بينما يميل «العرب» الى إنكارها. فمجدت الأشرطة السينمائية والمسلسلات أفعال رجال الأمن وسيداته. وقلما حظي الجنود أو المقاتلون بشطر من الإعجاب الذي أسبغ على المشبهين على العدو الشبهات والأشباه. ولعل بعض السبب في هذا هو عسر استواء الصور والرواية السينمائية أو التلفزيونية (على) مستوى شاهق ومتصل من «البطولة»، على ما تقتضي العقيدة السردية «العربية».وأما القص البوليسي والتجسسي فيحتمل الالتواء والتعرج بل يفترضهما ويشترطهما. فاجتمع استعصاء الإنجاز الحربي والقتالي، حقيقة وفناً، الى امتناع الحرب الميكانيكية، وهي صارت الكترونية في الأثناء، من الأداء والتصوير المشوقين والمفهومين. وحاز رجل الظل، ومنفذ الأعمال «الصغيرة»، وبعضها دنيء، السبق والمكانة.
تسمية العدو
وقد يبعث على الحيرة الإغضاء السياسي والمشهدي، أي إغضاء الشاشة، عن إنجاز المقاتل الميداني في الحروب غير المتكافئة الأخيرة، على شاكلة تلك التي خاضها المقاتلون الخمينيون، «المقاتلون الإسلاميون»، على الأراضي اللبنانية، وجروا إليها القوات الإسرائيلية. فلم يميز الحزب الشيعي المسلح في لبنان، حين أبَّن قتلاه، المقاتل من غير المقاتل. ولم يميز مراتب المقاتلين القتلى بعضهم من بعض. ففي أثناء قتال صيف 2006، برز من سموا «جنرالات حزب الله». وتناقلت الشائعات مقتل 7 منهم. وعرفت أسماء ثلاثة أو أربعة، أو سمي ثلاثة أو أربعة. وروى بعض أصحاب من سقطوا أفعال رفاقهم وإخوتهم على صورة الملاحم. وعوضت الرواية على شاشات التلفزيون وفي الصحف خلو «الملاحم» العربية من عامل إلهي، على ما كانت تكتب كتب الأدب المدرسية. فأطنبت في استدعائه وإعماله. ولكن هذا لا يقاس بالاحتفاء برجل الظل الذي كانه عماد مغنية حين مقتله. ولم يطعن في مرتبته، وعلوها، ما عرف علناً عنه مثل قتله مسافراً أميركياً أعزل على متن طائرة شارك في خطفها الى مطار بيوت (1985)، أو قتله ضابط أمن كويتياً على متن طائرة كويتية خطفها (1990).
فكأن ما يفعله «البطل» أو المقاتل ليس معيار تسنمه البطولة «العربية» ومرتبتها، ولا القاضي في أهليته بالمرتبة. فبعض مشايخ «المقاومة» وعمدتها تُختصر أمجاده في قتل مُقعد مسن ومريض وإلقائه في البحر من السفينة. وآخر قتل رجلاً أعزل وابنته، وكانا مختبئين في خزانة ثياب. ولم يجرؤ «فدائيو» ميونيخ، في 1972، على نفي مقتل الرياضيين الإسرائيليين بيدهم، فالقتل شرف يدعى على الدوام. ولم تشتر أعوام السجن والأسر، بعد القتال أو محاولة الاغتيال، لبعض الأسرى الشيوعيين مرتبة أو مكانة. وحين أطلق سراح سها بشارة – وهي حاولت اغتيال أنطوان لحد، قائد ميليشيا جنوبية لبنانية رعى الإسرائيليون إنشاءها – بعد نحو عشرة أعوام من سجن خرج منه سمير القنطار «عميداً» وداعية مسافراً وجوالاً وعريساً (مجازاً وحقيقة)، ثم «تحرر» محمد ياسين، المقاتل الشيوعي، كان نصيبهما، نصيب بشارة وياسين، التواري عن الأنظار والأسماع والإهمال.
فـ «المجد للأمة» وليس للأفراد الآحاد. وإذا قاتل هؤلاء تحت لواء من يراهم قادة الأمة، ومرشدوها وولاة أمرها، أعداءهم، وأعداء الأمة التي يمثلون عليها، ويجسدونها، جاز نفيهم منها، والطعن فيهم. وجاز ضربهم وسجنهم والتشهير بهم في محاكمات علنية يقرأون فيها، هم أنفسهم، مطالعات مكتوبة في «جرائمهم». ولم يمتنع اغتصاب بعضهم ولا قتله، ولا تعاقبُ كبار النافذين على الإدلاء ببيانات وآراء يخالف بعضها بعضاً، ويناقض بعضها بعضاً، من غير حسم ولا تبعة. والذريعة في الأحوال هذه، أحوال المقاتلين ورجال الأمن القتلة والمقترعين المتظاهرين، الكيد في العدو، ولكن بعد تسمية العدو وتعيينه وتوقيت محاربته وقتاله. والتسمية والتعيين والتوقيت تعود كلها الى «قيادة الأمة»، ولا تقتسمها هذه مع صغار المقاتلين المؤتمرين، من حيث لا يدرون، بأوامر مصدرها كفار ومارقون ومستشرقون ومنافقون وطواغيت ومغامرون.
وفي معمعة المعمِّيات هذه، لا ريب في أن رجال الأمن والاستخبار والرصد والاستطلاع هم أهل الثقة، وهم الأبطال حقيقة، ومن لا يخشى انقلابهم، ولا تنطحهم الى نسبة الأفعال المجيدة الى أنفسهم، من دون صاحبها الحقيقي وهو القائد نيابة عن الأمة. وكان ستالين، قائد القادة (جنراليسيم) السوفيات الشيوعيين،من أوائل من تنبهوا الى اشتباه المقاتل أو الجندي أو الحزبي «المؤمن» والممتلئ يقيناً، قياساً على رجل الأمن والاستخبار. فأعمل في كبار الجنود وصغارهم تطهيراً وقتلاً وتشهيراً وتهمة. وسلط عليهم أجهزة الأمن قبل أن يسلط بعض هذه الأجهزة على بعضها الآخر وبعده. ولم يقصر هذا على جنوده وقواته، وعلى قادته الذين شتتهم عشية انفجار الحرب الثانية. فانتهج السياسة نفسها في حركات المقاومة الوطنية والداخلية في شرق أوروبا وجنوبها، في البلدان التي احتلها النازيون وقاومت حركات وطنية، غير شيوعية وبعضها شيوعي، الاحتلال. فكان نصيب مقاتليها وقادتها النفي والاعتقال والاغتيال والتهمة. فينبغي ألا يعلو صوت صوتَ «القيادة». وإرساء القيادة على فعل أو إنجاز، وليس على إنعام واصطفاء، يتهددها ويقيسها على غيرها، ويرسي الدولة على ركن وحروف.
وحين يستقبل ليبيون ويمنيون وإيرانيون ولبنانيون رجال أمن واستخبار وانتحار (بعضهم عمل في «جهاز العمليات») استقبال الأبطال أو «الفاتحين»، يكرم استقبالُهم على هذا النحو قائدَ الأمة وجسدَها العظيم. ويبايع المستقبلون، كثروا أم قلوا، رأي القائد المفترض في مراتب الحكام وكتلهم المتناحرة غالباً. ويبايعون تقديمه من يقدم وتأخيره من يؤخر. و «استعادة» المقرحي والمؤيد والسيد والضباط الإيرانيين الحرسيين وأمثالهم، بكلفة باهظة في بعض الأحيان، إنما تجدد إعلان وحدة الحكام طبقة مرصوصة تحت لواء قائد القادة. ومسرح الاستقبال وإخراجه الى العلانية قرينتان على الأدوار وموازين القوى.
فالاستقبال الذي أعده الأمن القذافي الليبي لعبدالباسط المقرحي، مهما قال سيف الإسلام القذافي فيه، شاءه «قائد ثورة الفاتح من سبتمبر (أيلول)» صنو الترحيب بابنه، هنيبعل القذافي، «المحرر» من السجون السويسرية الظالمة قبل زهاء السنة.
وحين يحشد «الحزب» الشيعي في لبنان بعض جمهوره في الترحيب برجل الأمن العام السابق ويد (إحدى أيدي) الولي الاستخباري، فهو ينسبه إليه، ويطلب له الحصانة التي يطلبها لنفسه، وللسيدين اللذين صنعاه ويخدمهما، بـ «أشفار العيون» من تهمة اغتيال رفيق الحريري الفظيعة والمخيفة، على ما يكرر وليد جنبلاط الوعيد. وإبراز حكام اليمن نفاذ وساطتهم لدى الولايات المتحدة، وانعقاد ثمرتها إطلاق المؤيد ومرافقه، يغمز من قناة قتلة «القاعدة» اليمنيين، ويندد بدوام حربهم على حلفائهم الشماليين السابقين بينما يقوم بعض الجنوبيين عليهم، ويطعن في شعار الحوثيين «الموت لإسرائيل» (فالمؤيد من أنصار «حماس») وإرادتهم النيل من سياسة الحكم وحلفهم مع الولايات المتحدة. فرجال الأمن، على وجوه الرجولة ووجوه الأمن في العبارة، جديرون بأسمى آيات الحب، على قول المراهقين العشاق في رسائل غرامهم القديمة.

التمزق الوجداني الجبراني وتعظيم الأضداد والنفس يحطان من الفعل ومسرحه

رواية السيرة وكتابتها على حد تعليق الحادثة والفعل وإلغائهما
المستقبل 30/8/2009

قد يكون طلبُ محمد الشيخ علي شرارة (أنظر "نوافذ" عدد "المستقبل" في 23/8/2009، إيجاز كتاب بلقيس شرارة في أبيها "محمد شرارة/ من الإيمان الى حرية الفكر"، دار المدى، دمشق وبيروت وبغداد، 2009) لنفسه ولغيره الحق في تقديم الهوى والميل والرأي على العرف السائر والملزم، إسهامه الأول في صنع سيرته، وربما في وحدة السيرة هذه وتمامها على صورة "قدر" يجمع شتاتها. فسفر فتى عاملي لبناني يتحدر من "جب" أو رهط معممين، اوائل القرن العشرين، الى النجف وجامعاتها، أو علمائها وفقهائها، ودراسته على هؤلاء علوم الفقه الإمامي الجعفري، وتوقع الفتى وأهله إما عودته الى بلده مفتياً أو إماماً أو إقامته في الحوزة مدرساً مجتهداً، كان هذا أمراً معروفاً، وطريقاً مسلوكة ومعبدة. وهو لا يقتضي غير يسر الأهل، أو قلة عسرهم، وميل الصبي، وهو في سن الاحتلام أو في مقتبل المراهقة، الى "العلم" ومكانة صاحبه وإلى قيود المكانة وامتيازاتها جميعاً.
والحق ان الفتى لم ير الى المسألة على هذا الوجه. فهو جمع الى الرغبة المفترضة في "العلم"، والسفر إليه، والإقامة بحاضرته الشريفة والمقدسة بجوار المراقد والأضرحة، ميلاً الى اللغة العربية وأدبها وشعرها في المرتبة الأولى، وعشق قريبته الصبية، وإعلانه العشق هذا شعراً أي نظماً، وربما سعيه في زواجه بها، على ما لم تكن العادات والأعراف تنكر او تدفع. فزواج بالغين وقريبين سويين كان قريباً ان يكون التقليد الغالب. ولكن ما لم يكن تقليداً هو ان يجهر الفتى المقبل على العمامة، والوارث على نحو أو آخر "عمامة أجداده" الأجلاء، عشقه، وينشد على ملأ الأهل كلفه ببنت "خاله" (وهو خال والدته، ومن السادة الحسينيين)، وكلفها به.

العلم والغزل
ولا يبعد هذا كثيراً من مفارقات القرابة العربية. فقيس بن الملوح العامري، وهو من وضع الرواة والرواة لا ينطقون عن انتحال وابتداع خالصين، ينكر عليه عمه، والد ليلى، تشبيبه ببنت عمه، وهي تكاد تكون محبوسة عليه. ويعزو الى التشبيب بها، وإعلانه حبها، امتناعه من تزويجه إياها. وقيس بن الملوح لم يكن ينوي لا جمع الحديث ولا تحقيقه، ولا درس أسباب النزول ولا رواية تفسير المفسرين في ضوء روايات أشعار الجاهليين و "أدبهم"، على خلاف صاحبنا. ويزعم أحد الأخبار ان والد ليلى منع قيساً، ابن اخيه، منها حين تقدم الى طلبها احد موسري العشيرة. وحملُ الخبرين واحدهما على الآخر يقود الى التخمين في ضعف أواصر العشيرة (العربية) في ديرات قريبة من طرق القوافل، اضطر أهلها الى الرعي غير بعيد من بادية الشام، ومن ولاة شديدي القبضة. فأنشأ رواة الأهل واخباريوهم أعرافاً منحولة، وحكموها في نزولهم عن بناتهم لأقارب لا حق لهم فيهن، و "صادف" أن كان الأقارب من أهل اليسر. وهذا اجتهاد عملي كبير، وقرينة على احتساب الأعراف عوامل طارئة مثل الإثراء من تجارة، أو من عمل السلطان، وتأصيلها العوامل هذه من غير حرج ثقيل.
وجر العشق وجهره على الفتى الشاعر والمتأدب، والمزمع وراثة أجداده الأجلاء، إنكار والده الشيخ، مدرس المدرسة المحلية، وموظف الإدارة اللبنانية (الفرنسية) الجديدة، والمعمم المتواضع (فهو لم يسافر الى النجف)، وناظم الشعر التعليمي في هجاء أقرانه "العلماء" المتحدرين من أسر عاملية – نجفية عالية المكانة الاجتماعية. ويبدو الوالد الشيخ في مرآة نظمه النهضوي، "عامياً". فهو ينكر على أشباه "كبار" العلماء سمتهم وقيافتهم ومسرحهم، ويرد عليهم ضعف علمهم الحقيقي، وينتسب الى "قومه" ويتنكب "السمو به الى العلى" (على خلافهم؟ وبعضهم شاع عنه مماشاة المحتل المنتدب وقيادة "الثورة" عليه معاً). و "العامية" المرتبية هذه تتبنى من غير مساومة ولا تراخ محافظة علمية واجتماعية صارمة، وتمسكاً لا هوادة فيه بتقاليد العلم والعلماء. فلا يليق، في اعتقاد الشيخ المدرس والموظف المحلي، ان يقول ولده، المزمع سفراً الى "جامعات" النجف الأشرف والدراسة على كبار المجتهدين من زملاء عمه (جد الفتى لوالدته) "الشيخ موسى"، في بنت خاله أو قريبته غزلاً و "تشبيباً".
ولم يفهم الفتى ماذا يرتب عليه، منذ يومه وهو لما يزل عامياً أو "جاهلاً" على قول بعض أهل التوحيد، عقده العزم على العلم وطلبه من إمساك عن القول واقتصاد فيه. وحسب، ربما، أن شأنه وشأن الشريف الرضي، "جامع" "نهج البلاغة" وصاحب "يا ظبية البان"، واحد. وما لم يحرم على العلوي الكبير يحل له. وإذا صدق حسباني ان الكاتبة، صاحبة سيرة والدها غداة ثلاثين عاماً على وفاته ونحو تسعين على "حادثة" 1920 (أي السفر الى النجف ووقوع الخلاف مع الوالد، الشيخ علي)، إنما تردد اليوم ما قاله في سره أو علنه والدها يومذاك – فهي تكتب: "العقلية التقليدية لا تعي ان الصبي يتعين عليه ان يمر بدور المراهقة"، ووالد الفتى "كان يجهل أهمية عاطفة الحب في سن المراهقة" ودور الحب في "كيان الإنسان" (ص 26) – إذا صدق حسباني هذا، فما ذهب إليه الفتى العاشق، والمزمع التعمم وطلب العلم، إيذان بهوة جديدة وعميقة بين جيلي الآباء والأولاد. فـ "المراهقة"، على معنى اضطراب تعريف النفس أو الذات والتماس الواحد (والواحدة) مثالات متضاربة ومتنازعة يحتذي عليها أو يلبسها، هذه "المراهقة" واقعة نفسية واجتماعية ثقافية نشأت عن تصدع هيئات المجتمعات "الحديثة" وروابط أهلها، وخروجها عن ترتيبها العضوي المفترض. والترتيب هذا "يستبق" اضطراب تعريف النفس (والاستباق زعم وتخمين يولدان تلية تبلور الواقعة واستوائها اختباراً عاماً أو شائعاً)، ويقطع دابره قبل تظاهره وانبساطه. و "إصابة" الفتى به عرض من أعراض نشأة ضرب من الفردية تخالف الجميعية العضوية التي ترتب الناس، سلفاً، على مراتب، وتعرفهم الى أدوارهم ومحالهم وزيجاتهم ومهنهم وعصبياتهم وعداواتهم.

تفجع الوجدان
والحق ان ما أُجمله وأجمعه على النمط هذا – وأفردت له مرغريت ميد في "بلوغ سن الاحتلام في (جزر) سامووا" الأوقيانية (1928) وصفاً ضافياً وباقياً – معلم يصل الفتى العاملي البنت جبيلي، وسيرته، بـ "سيرة" المجتمعات والعوالم التي وجه وجهه إليها، واستقبلها في عقود القرن الماضي الأولى، وتقلب بين أظهرها. وآية السيرة هذه، وجدتها و "حداثتها"، إعلانها، أي إعلان صاحبها أو أصحابها، منازعاتهم وأضدادهم الحميمة على رؤوس الأشهاد. فالولد العاشق و "الشيخ" العالم والمتأدب والمتفقه والراغب في الانتصاب قاضياً في مشاغل الناس ومحكماً فيها، معاً، لا يرى غضاضة في جمع الأحوال هذه بعضها الى بعض. وهو يلتمس من والده، ووالده معيله وشيخه وسيد الدار الحازم، رعاية أحواله المتنافرة، أو غير المتفقة على ما يرى الشيخ علي "التقليدي"، والإغضاء عن نفرتها. ويتوقع من الوالد الإنفاق على زواجه بمن يهوى، فهو لم يستقل بمورد بعد، والرضوخ لجهر هواه شعراً على خلاف ما يلزمه إياه حال "الشيخ" العالم من تحفظ وإمساك ورزانة.
وعلى هذا، خالف الفتى والده الرأي ونازعه إياه وفيه. وكان رأي الوالد ان ابنه هذا، وهو يعده لخلافة "علم" جده لأمه و "علم" آبائه منذ قرن ونيف (على تأريخ محسن الأمين في "أعيانه")، ولخلافة مكانة الجد والآباء، غره هواه، وغرته نفسه، فلم يقمعها على ما يليق بأهل العلم منذ نعومة أظفارهم، وقبل ان ينشبوا أظفار علمهم القاسية في لحم الناس. ولم يطق الفتى حكم والده فيه ، وتشككه في جدارة ابنه بحمل علم آبائه وجده القريب. وهذا هو الوجه المعنوي والأدبي من علاقة الأبوة والبنوة. ولم يكن يسع الابن الغنى عن إعالة الوالد الشيخ ورعايته. والأمران – عسر إطاقة الفتى تشكك والده فيه، وتمسكه بالإعالة والمهنة الأبويتين، وانصرافه تالياً عن السعي في مصدر إعالة آخر وفي عمل غير "العلم" – الأمران قرينة على رسوخ الفتى في (بعض) تقاليد والده وأهله، وقبوله، على مضض شديد ربما، هذه التقاليد أفقاً لا يتعدى، وديرة لا مرعى ولا طواف خارجها.
ولا ريب في ان الحال هذه كانت باعثاً على تمزق جبراني (نسبة الى جبران خليل جبران المعاصر ذلك الوقت، وإلى "أجنحته المتكسرة" على وجه الخصوص)، نعته المعاصرون بالوجداني، وبقي الخالفون، ربما الى يومنا، يجرجرون النعت هذا، ويقلبونه على وجهه العميق والواحد هذا من غير بلوغ قاعه البعيد. والتمزق الجبراني والوجداني تسليم باستحالة الخروج من الحال المتنازعة، وبامتناع إدارة الظهر الى احتمالاتها المعدودة والمقيدة. ويضمر التسليم هذا أو يعلن مواطأة النفس "عذاباتها"، ووجودَها متعة ولذة في مكابدة العذابات، والرثاء للنفس التي تعانيها. و "خلاص" فيرتير، عاشق غوته الألماني أواخر القرن الثامن عشر حين صارت السياسة القدر (على ما قال بونابرت لغوته نفسه)، السبيل إليه هو التفجع والاستغراق في النظر الى النفس او "الروح" المتكسرة والمتفجعة، والانبهار بها قبل قتلها ونحرها طوعاً. وهذا فصل أو نحو من الفردية سمته الانقباض والانكفاء والمكابدة السالبة. فتحفظ النفس بتولتها بالنقمة على العالم، ووصمه بالوسخ والفساد والعبث (صبغت هذه بصبغة اجتماعية ام اقتصرت على الصبغة الوجدانية). وتمتنع من إتيان ما يورطها في عمل أو فعل تترتب عليه نتائج تتطاول الى الفاعل، أي الى النفس.
فيخرج الفتى العاشق والمتعمم من خلافه مع أبيه مستبقياً عوامل الخلاف. ومن هذه العوامل حاله هو، على حالها. فأقام على هواه، ورضي ربما أو منّى النفس بوعد انتظار عودته عقداً من السنين أو فوق العقد، فتبلغ الصبية في الأثناء الخامسة والعشرين. وهي سن لا يعقل ان تنتظر شابة "من أسرة عريقة" بلوغها عزباء. فهذا أمر لا تعلق له برغبتها وإرادتها وحريتها. وهو وجه من وجوه تصريف "نظام" القرابة العربية الأحلاف والخصومات. ومن وجه آخر، استجاب رغبة والده المتشككة في الرواح الى العراق، والدراسة على مشايخ الحوزة وعلمائها. وعلل نفسه بالبروز في مضمار "العلم"، والرد على تشكك الوالد، والجمع بين "العلم" والعشق أو بين المكانة وهوى النفس ومنزعها الوجداني من غير تفريق، على خلاف حسبان التقليد وأهله. ولم ير غضاضة ولا حيفاً في إنفاق والده على دراسته، أي على عزمه هو البرهان على خطأ الوالد حين يظن الظنون في صواب حساب ولده واستقامة الحساب.
وهذا كله مسرحه، مرة أخرى، النفس "الرائعة" والمتربعة في تمامها، على قول الفيلسوف الألماني مكنياً عن الانكفاء عن الفعل وعن تعريض النفس للجرح والامتحان إذا هي انخرطت في "وحل" العالم، وعرضت نفسها عليه. فلم "يخطف" الفتى "فتاة احلامه"، على ما كان يفعل الشبان النزقون والمغالون في ثورتهم على أهلهم. ولم يلجأ الاثنان، زوجين، الى أحد الأقارب. ولم "يهرب" هو الى حيفا أو عكا القريبتين، ويعمل حمالاً على المرفأ، أو سائقاً، أو يسافر الى مصر فيمن كانوا يسافرون على مراكب محملة بالتبغ، أو الى اضنة. ولم "يلجأ" الى النبطية، ولا الى حوران القريبة أو الى صفد، أو الى بيروت البعيدة. وقد يبدو هذا هذيان مخيلة سينمائية أو قصصية اميركية (من ثورو الى كيرواك)، أو بريطانية ديكنزية، أو فرنسية هوغولية (هوغو "البؤساء")... متأخرة. وهو هذيان قصصي وسينمائي من غير شك. والمراد به القياس على أحوال يندب فيها من تسول له نفسه الثورة على أهله و "مجتمعه" طاقته وحيلته الى استتمام ثورته، والخروج بها من النفس والوجدان والمكابدة الى العالم ومسارحه وموارده. ورد الجواب على الاحتمال الهاذي يسير. فيسع الراد القول ان محمد الشيخ علي لو فعل ما يندبه الى فعله الاحتمال، أو أزعم اليوم ان الاحتمال المتخيل يندبه إليه، لما كان الفتى الذي تكتب بنته سيرته غداة 90 عاماً على الحوادث المروية. ولو فعل هذا، أو أمكنته الأحوال المعاصرة والأوضاع من فعله أو تصوره (على ما يسع الراد القول كذلك)، لكان عالمه غير عالمه، وتاريخه، وهو على أنحاء كثيرة تاريخنا نحن، غير تاريخه.

فرادة الحرز
والحق ان حمل الحوادث والوقائع العملية المادية والنفسية الماضية، شأن الإقامة على الهوى وتمنية النفس بالانتظار والسفر على نفقة الوالد والتمسك بطلب العلم النجفي، حمل الحوادث والوقائع هذه على الاضطرار والحتم ينبغي ألا يُقصر عليها، وينبغي ان يعم معظم الحوادث والوقائع التي تأتلف منها سير الآحاد والأفراد، وسير جماعاتهم ومجتمعاتهم من بعد. وهذا ما كان دأب المترجَم في العقود الستة التي ترويها ترجمته إنكاره والسعي في إبطاله وتكذيبه. وهو ما أبطل صاحبنا بعضه فعلاً حين خلع العمامة، غداة وقت مديد والحق يقال. وفي الأثناء، عرضت لغيره، ممن "يشبهونه" وممن لا "يشبهونه"، أحوال خيّرتهم بين الامتثال لأهلهم وبين الخروج عليهم، فاختار بعضهم الخروج والسفر والوحدة والعمل القاسي. وأفضى هذا ببعض بعضهم الى اليأس القاتل، أو ذهاب العقل، وفي أحايين الى مغامرة فريدة ومصائر غير متوقعة. وإحجام الفتى العاملي البنت جبيلي والشراري، على ترتيب النسبة "الطبقي"، عن امتحان نفسه وعرضها على "الحدثان" والتقاذف والتقلب، قد يكون عرضاً من أعراض العصر والوقت. وهذا شأنه، على الأرجح. وينبه هذا، على خلاف قسمة نقدية وخطابية (مادية أو شيوعية ستالينية) تنزل "الذات" بمنزلة متأخرة عن "الواقع" وتسلط الواقع على الذات، الى ملابسة النفس، ما تفعله وما لا تفعله، العصر والوقت، وصدورها عنهما. وذلك على نحو ما يشبّه العصرَ والوقتَ ("الواقع") على النفس الاحتمالات المتاحة، ويدعوانها الى ما تحسبه جائزاً أو يصرفانها عما تحسبه ممتنعاً، وتوجب امتناعه، على ما فعل العاشق المتأدب وطالب "العلم".
والامتناع من الفعل، أو كظمه، واستبقاء عوامل الخلاف بين الولد والوالد، و "رد" الولد على والده في ميدان الوالد وفي ميدان الولد الأدبي والجبراني الوجداني، ليست عارضة في المترجم. ففي وقت متأخر من سيرته، وكان بلغ الخمسين أو جازها بقليل، تطرق الكاتب المنفي الى قصة جبرانية، هي "وردة الهاني". فهو ينكر على المرأة الصبية التي زوجها أهلها رجلاً مسناً وثرياً لا تميل إليه، حبّها شاباً في سنها أحبها، تركها الزوج الى الشاب وعيشهما "عيشة الزوجة مع زوجها" (ص 281- 284). ويعلل الكاتب "الشيوعي"، والمناضل السياسي والفكري، إنكاره على نحو يعيد القارئ المقارن الى بدايات الكاتب وعلل أفعاله يومها وفي أوقات تالية. فيكتب ان صنيع وردة الهاني "لا يتعدى عمل الأشجار والعصافير"، أي ما يترتب على طبائع هذه وتلك. "فإذا أخذنا الحرية بهذا المعنى، وفسرناها هذا التفسير، فماذا بقي لمعنى الفوضى؟ أو للمعنى العامي المبتذل؟". وحرية وردة الهاني "الجنسية"، على قول لم يكن شاع بعد في الخمسينات، أو الجسدية والاجتماعية، ليست من الحرية، أو من مفهومها المجرد والعام في شيء، على خلاف "حرية" خليل الكافر، إحدى اقاصيص جبران. فهذي حرية مفهومة "فهماً دقيقاً": "إنها قول وعمل وجهاد". ولعل لفظة "عمل" في هذا المعرض نافلة. فالقياس على حال خليل في الأقصوصة يقود الى حمل تعريف الحرية على القول، أي على خطبة في "السعادة"، ورأي فيها. ووردة الهاني لا تلقي خطبة في السعادة، ولا تكلم حراس "أسرارها" وقدسها المفترض، أي الرهبان الذين يثور خليل على سلكهم، بل تباشر هذه السعادة، أو "تفعلها"، على ما لا تقول العربية.
وصدارة القول، وتقدمه على العمل، ومكافأته "الجهاد"، قد لا تنفك من حال صاحبنا، فتى يافعاً ورجلاً مكتهلاً. فما لم يفعله وهو في مقتبل العمر، ولم "يغيره بيده"، أي بتركه البيت الى بلاد الله الواسعة وتبديله "أحباباً وأوطاناً"، على قول قيس بن الملوح في حكاية احمد شوقي المسرحية، بدا له وهو في ابتداء سن الاحتلام محالاً ومنكراً، ويبدو له، في مقتبل العقد السادس، "فوضى" واسترسالاً مع الطبع والغريزة. واتصال الرأي أو القول في "الحرية" هذا الوقت الطويل، يلازم كتابة وعبارة، أو طريقة في التعبير قد تفوق الرأي، على معنى الفكرة أو الاحتجاج، دلالة ومكانة. فكتب من صار، في الأثناء، مدرساً ثانوياً وكاتباً متأدباً، وترك العمامة أوخلعها، وأقام بالعراق، كتب يروي (في 1938، في مجلة "الهاتف") وداعه أهله وبلدته وهواه، فقال: "توارى الليل وراء الأبد، وطواه العدم في جوفه، ولفه لسان اللانهاية، وأقبلت الشمس في موكب جديد" (ص 28). ولا يقتصر الأمر على "الإنشاء" (المدرسي) الجبراني المعتاد، على رغم انقضاء نحو عقدين من السنين في قراءات نجفية، لغوية وفقهية وأدبية وتاريخية. فتنحو خطابة "الوجدان" الى تعظيم أحوال صاحبها المكلوم، وتكني عنها بسد لفظي تريده اخيراً وليس ما بعده.
فليس ثمة في ترتيب المعاني المتداولة، و "المفهومة" على وجه أو آخر، محل يقع "وراء" الأبد. فيتعمد الكاتب مواراة ليله المحلَّ الممتنع على الفهم والاستعمال العاديين. وينبغي للامتناع اللغوي والمعنوي ان يقوم شاهداً على فرادة غير متعينة ومتعالية عن التقدير والتأويل، ولا سبيل للفهم او للتأمل إليها. فهي فرادةٌ طيُّ العدم. وهذا صنو الأبد في الامتناع من الإدراك والتصور والتناول (فكراً). والاثنان، الأبد والعدم، من معدن اللانهاية و "لسانها" الغريب والمعجم إعجاماً لا إعراب فيه أو منه. فهو "يلف"، على خلاف نشر اللسان وبسطه. فيحاكي العدم وطيه، ويذهب مذهب الأبد وإرساله، على حين هو (أي اللسان) يتولى الحدود، على معنى التعريفات، والتعارف تالياً والتواضع (على المباني والمحال والشواذ) والتخاطب. وفرادةُ نفسٍ هذا شأن ملاذها إنما هي سجينة حرز حريز، لا تُبلغ ولا تبلغ. وعلى خلافها، أو على النقيض منها، الشمس وإقبالها "في موكب جديد".

مباني الإنشاء
والشمس، شمس صباح السفر والوداع في رواية الكاتب أو الراوي، ظهورٌ كلها، وبدو للعين الكسولة والساهية، وخارج من غير باطن، وجدة من غير أمس ولا ماض ولا تذكر. وهذه نقائض وأضداد لليل النفس والوجدان الفريدين والعاشقين والجريحين. ومحال ان يتفتق طباق الأضداد، وهي على حالها من الإطلاق، عن "كائنات" (مشاعر أو أشياء أو حوادث) هجينة أو مولدة أو مركبة. فالأضداد الخطابية هذه، على نحو ما تستوي في سياقة الخبر، منزهة عن التهجين والتوليد والتوسط تنزهها عن الأعيان. وإذا دخلت اللغةَ أو العبارة لم تدخلها من باب معروف. "فلا نظرات ولا كلمات". وابتكرت اضدادُ النفس "لغة" ربما ينبغي ألا تسمى لغة، هي مزيج من مواد الخلق الأولى: "انه دموع! دموع فقط"، على شاكلة الماء الذي بل الطين فاستقبل النَّفَس الخالق، ومن علامات بدئية يلابس ظاهرها معانيها، و "تتكلم" معانيها في ظاهرها كلاماً طبيعياً لا وضع فيه ولا اصطناع: "إنه دموع... ومنديل حريري أبيض وثب من يدها الى يده".فإذا صار هذا وحدث على النحو الذي يرويه أو ينشئه "الإنشاء" هذا، على هذه المباني (التعظيم والإطلاق، والضدية، والطي من غير توسط، والحمل على ما يمتنع من التوليد والتعيين)، ماذا يبقى ليستحق الاستعادة والعرض على النظر والسمع والتأمل؟ تقتصر تتمة "الرواية"، إذا جازت تسمية حل الخبر وطيه فيما لا يتعين رواية، على إعدام ما يتطاول إليه القص. فالمسافر يخال انه ركب "جناً" وليس سيارة. وراكب الجن مثله مثل المسافر على بساط الريح في قصص ألف ليلة وليلة "لا يعرف أين (بساط الريح)، ولا أين صار، ولا الأميال التي (قطعها)". والمسافر على جناح الجن "لا يعرف شيئاً"، ولا "يرى من البلاد شيئاً". فهو، على ما يقول في نفسه، في "غيبوبة". ولا يرده منها أو يخرجه إلا ما يدعوه الى الغرق فيها والعودة إليها، أي طيف الصبية التي خلفها في بلدته.
ويجري تناول الواقعة والاختبار الحاسمين في سيرة صاحبنا على مباني "الإنشاء" المتخلفة عن ترك الفعل وإغفاله ونفسنة الحال كلها، وروايتها على نحو هندسي أو مجازي قوامه نقائض وأضداد لا تجتمع منها "أنواع مختلطة"، على قول بعض المتكلمين الأوروبيين، أو "مولدة"، على قول بعض المعتزلة. والحوادث الاجتماعية – التاريخية، و "الأشياء" أو الكائنات والمعاني والهيئات والنظم الناشئة عنها، إنما هي من باب مثل هذه الأنواع. وأزعم ان تناول الواقعة والاختبار الحاسمين على الوجه الذي تناولهما عليه الفتى المسافر وطالب العلم، ثم "العالم" المعمم والبالغ نحو الثلاثين، ثم الناقد الأدبي المكتهل – وهو وجه يكاد يكون متصلاً – يصح ربما ان يرفع (الوجه أي مبانيه) مثالاً على محل الفعل من وقائع واختبارات فردية جماعية، نفسية وثقافية، تقاسمها أهل مجتمعات "عربية"، وساستهم وكتابهم ومثقفوهم، معظم القرن (العشرين) المنصرم. (وهذا زعم ثقيل، ويفترض تحقيقه أو جمع بعض الأدلة عليه اسهاباً ليس هنا محله، وسبق ان تناولته، من وجوه أخرى، في مقالات متفرقة). فعلى مثال مشترك، تشاركه أهل المجتمعات هذه عامة ونخباً، روى هؤلاء حوادثهم ووقائعهم ومعانيهم، وجماعها هو "الواقع" على قول براغماتي شائع، فحملوها على صور ومعان متدافعة ينفي بعضها بعضاً، ويقيم على تدافعه وتنافيه.
فإذا وضع الراوي، وهو "صاحب" الوقائع والاختبارات أو أحد اصحابها وشهودها ومدرجيها في حيواتهم فصولاً من الحيوات هذه، إذا وضع روايته ورأيه في سره وعلانيته على وقائعه واختباراته، واطرح منها الفعل على شاكلة اطراح الفتى العاملي البنت جبيلي وإغفاله حتى جواز مثل هذا الفعل، وقع مضطراً على أضداده ونقائضه. فهذه تقوم، وتستوي على سمتها ورسومها، باطراح الفعل وجوازه، وبالسهو عن ملابساته وعن مفاعيله في الناس، وأولهم الساهي نفسه وهو الراوي والشاهد في آن.
وتتواتر الحال في معظم منعطفات السيرة ومتفرقاتها، وتنتشر عدوى تعليق الفعل وإغفاله في تناول فصول لم تخل من الفعل، شأن الفصل الذي يدور على ترك العمامة أو خلعها، وعلى ملابسات الترك ثم على مترتباته. فتروى الواقعة النجفية كلها – وهي دامت 15 عاماً تامة، واشترك فيها على أنحاء متفرقة مئات من الطلبة الشبان، المبتدئين والمتقدمين، ومن المدرسين، وتعود أجزاء منها الى تاريخ ديني وثقافي واجتماعي طويل ومعقد – على المثال الذي تقدم وصفه. ومبتدأ الواقعة هذه المدينة نفسها في عين شاب "روحه ظمأى للجمال، مشمئزة من القبح". (ص 38). فالمدينة تحوطها الصحراء من جوانبها، وتهب عليها رياحها، وتقلب سماءها "غيمة من الأتربة تغطي أزقتها الملتوية التي لا ينفذ إليها الضوء" وتحجبها "جدران الدور العالية، الترابية اللون"، على قول كاتبة السيرة. واجتماع النجف الإنساني يقوم على الفصل بين الجنسين. و "نساء النجف تماثيل متحركة" سود. ودور السكن تتعهد الفصل او الحجز هذا، وتتولاه من غير ضعف: "جناح خاص للرجال وآخر للنساء" في البيوت نفسها. وإذا أذن الرجل لزوجه في الخروج، خرجت في "زيارة جماعية (و) دورية"، أو الى الحمامات العامة، على ان تستتر، فإذا صادف أن مر الرجل بجمع نساء فيهن زوجه لم يميزها ولم يرها، على وصف طارق نافع الحمداني وحسين شعبان. والنجف هذه هي على الضد من "جنوب لبنان"، أي بنت جبيل وسوق خميسها: الفتيات والصبايا وأفراح العيد الأسبوعي ودبيب الناس "كالنمل" في "أجمل وأحسن الملابس" واللقاء "بحشر الرجال والشباب في زحام السوق". فعلى خلاف النجف، يجمع الطعامُ في بنت جبيل وغيرها الأسرة الى مائدة مشتركة يجلس إليها الطاعمون، ويتبادلون الكلام والضحك وهو يؤاكل بعضهم بعضاً، الصغار والكبار والنساء والرجال والأهل والضيوف.
وتتربع في السنة النجفية "رجعية دينية"، على "عظمة (النجف) الرائعة في مكافحة الاستعمار"،، "مغلقة". وهي مملكة "الجماعة". وتقويم "الجماعة" المدرسين ومراتبهم لا يرد ولا يناقش. ولكن تربع المباني الدينية الاجتماعية والعملية، الشعائرية والاحتفالية والحسية، في سدة الحياة اليومية ورسومها أقوى من السيطرة المعلنة التي تتوسل بالأفكار والمقالات والهيئات. ومثال هذا الحلة، المدينة القريبة من النجف، في اثناء حداد عاشوراء. فيتولى المواكب الحسينية اصحاب المراتب والمكانات العشائرية والعائلية والدينية و "العلمية". ورعاية المواكب وتوليها وجه بارز من وجوه المكانة والقيام بها، واستئنافها، على ما يلاحظ اسحق النقاش (ص 146). وشعائر اليوم العاشر والأخير لا تستثني طبقة أو مرتبة أو أحداً من السكان. فهي تستولي على الطرقات والخطط أو الأحياء، وتأخذ بنواصيها، وتتسلل الى ثناياها او "حناياها"، على قول الكاتبة. فتقلب الأزقة بجوار الحسينيات مطابخَ في الهواء الطلق. وتركز القدور الكبيرة عند المفترقات والمنعطفات. وتغطي أبخرة القدور وأدخنة الخشب المحترق تحتها الأزقة والأحياء، وتبسط سحبها وغيمتها على المدينة، وعلى جماعات المتسولين المنتظرين "الفلة"، أو الفراغ من المشاهد، وختامها بأكل كثير وثقيل ينهي الحداد وإمساكه، من وجه، ويبدد عطاء اصحاب العطاء "عن روح الحسين"، من وجه آخر، ويكرمهم، ويقر لهم بالفضل. ويصطف الأهل، حارات وبيارق وفرق لطم وضرب وشدخ وتفجع، صفوفاً هي أجزاء من موكب واحد كبير، متصل وغير مرئي، يجمع "شيعة الحسين" إلباً أو صفاً واحداً. وفي اثناء الأيام العشرة، يعم السواد اللباس والرايات والجدران والطرقات. وينصب أهل الحداد الموت اميراً على نفوسهم وأجسادهم وأفكارهم، على ما يفعل أهل "المدينة العالمة"، المدينة الفاضلة الإمامية ومقصد الاسكندر ذي القرنين، طوال أعمارهم.
و "رد" صاحبنا، وأحد زملاء التدريس في مدرسة الحلة، على هذا، وعلى هوله، بالشرح الى التلاميذ "إمكانية تهذيب هذه المراسيم وجعلها مراسيم حضارية ترفع من سمعة البلاد، ولا تؤذي صحة البشر" (148). وأوضح المدرسان "أنهم ضد التطبير والسلاسل والقامات التي تؤذي صحة المطبرين وتجرح شعور الناس، وأنهما يؤيدان إقامة طقوس محترمة، مهذبة". والفرق بين المسألة، أو المشكلة، وهي تصدر عن أبنية اجتماعية – تاريخية تلابس الإنشاء الحسي والمعنوي، وبين "جوابها" التربوي والمتواضع، قرينة من قرائن كثيرة تكاد لا تحصى على قصور "الإصلاح" المحمول على ثقافة ليبرالية وعقلانية. وتشد قرابة قوية أفكار هذا "الإصلاح" الى أفكار مصلحين سابقين من امثال عبدالرحمن الكواكبي. فقبل نحو ثلث قرن من الملاحظة على الشعائر الحسينية بالحلة وغيرها، جمع داعية الإصلاح الحلبي العثماني بين الدعوة الى الصلاة وبين "الجمنستيك"، على قوله. وسوغ إحياء تلك بتجديد حلتها اللغوية: "لنقل إنها الجمنستيك"، أو التريض. وغداة 1967، وهزيمتها "العربية" والقومية المنكرة، تأمل صادق جلال العظم في الهزيمة، ونصح بعلاجها، بعد نقدها النقد اللاذع والمر المعروف، بإجراءات حاسمة وباتة. ومن الإجراءات هذه، بعد التخلي عن الوسطية الى الجذرية، ترك تبديد الأموال على الدعاية السياحية وتعيين رجل مثل جياب، قائد "حرب الشعب" الفيتنامية المظفرة والباهرة (على المعنى الحرفي: ما يبهر الأنفاس فتتقطع)، قائداً للجيوش "العربية" (محل عبدالحكيم عامر من غيرك شك وربما حافظ الأسد السوري، زميل عامر يومها).
وليس إحياء هذه الأمثلة على سبيل التفكهة ولا السخرية. فهي تمثيل على شروط (استحالة) الفعل المزمنة. وتترتب الاستحالة على الفرق بين ما يُطلب "إصلاحه" وبين ما في متناول المصلحين أو متناول طلابه. فإذا أراد المصلح المفترض الإقدام، وهو على هذه الحال من الترجح، لم يصدر عن سياقة مبتدأة، ولم ينخرط في مثل هذه السياقة. ولم يتهيأ له، فرداً أو جماعة، أنه يستجيب دواعي فعلٍ عليه الأخذ بها، وابتكار تتماتها وإيجاب التتمات هذه. فالكارثة الوشيكة أفق مخيم على الفعل من غير انقطاع. وتتصور الكارثة في صورة انهيار العالم الموروث، من غير ان يسع "المصلح" (أو "الثائر") وراثة العالم المتصدع أو إعمال عناصره في إصلاح أو إنشاء عالم آت. وحين يلاحظ صاحبنا، وهو يتملص من نجفه، ان النجف تجمع بين البلاء العظيم في مقاومة الاستعمار وبين "القيادة الرجعية" فهو يمر مر الكرام بمعضلة ناءت بها حركات الإصلاح والنهوض ولا تزال تنوء بها. فإذا صدرت الحركات هذه عن "موظفي" المدن، على ما لاحظ كتّاب عراقيون، لم يستجب الجمهور المشدود الى العالم الموروث و "العميق" الجذور، وأقامت الحركات هذه على ترجيحها وفراغها وتفاهتها. وإذا هي صدرت عن الجمهور وعالمه أرست استبداداً خلاصياً ومحدثاً مدمراً.