الجمعة، 26 فبراير 2010

العوامل التي تضافرت على رعاية طهران الحروب غير المتكافئة... تنحسر

الحياة، 24/2/2010
في سياق ما كان يسميه المعلقون والمراقبون في أثناء الحرب الباردة «الشوبرة» و«الشهورة»، أو الحركات العنترية والمسرحية المفرطة، أجمع الرئيس الإيراني محمود احمدي نجاد، وخالد مشعل والسيد حسن نصرالله، على أمرين: إسرائيل تعد العدة لحرب قادمة ووشيكة يتوقع أحمدي نجاد انفجارها في الربيع، والحرب الآتية إقليمية أي تشمل الجبهات الفلسطينية واللبنانية، بداهة، والسورية هذه المرة. والقرينة القاطعة على الاشتراك السوري الأكيد هو تهديد وزير الخارجية الهادئ والوديع البلدات والمدن الإسرائيلية بصواريخه، على ما قال خطيب «مهدِّد» جدي وثقة. ولما كانت الجبهة الإيرانية هي بؤرة الأزمة، غداة رجوع الحكم الإيراني، أو واجهته الرئاسية والوزارية، عن مبادلة اليورانيوم الضعيف التخصيب بيورانيوم عالي التخصيب بواسطة روسيا وفرنسا (وتركيا احتياطاً)، أضمر التلويح بانفجار الحرب الإقليمية العتيدة ضم إيران إليها، أو انضمامها، ومن طريق إيران العراق. فينقلب «الهلال الشيعي» المفترض، ونجمته الغزاوية والسنية، مسرح حرب مفضياً الى أبواب الجحيم أو هو الدائرة الأولى من الجحيم نفسه.

وعلى نحو أقل درامية وأضيق نطاقاً، وأقرب الى التصور وإلى الواقع، «يقتصر» التهديد، ومصادره الكثيرة، على الحزام الإيراني في جنوب لبنان، على ضفتي الليطاني وجهتيه. ففي الحزام هذا تتكدس الثارات والمخاوف والحسابات والأسلحة والورطات بمقادير ملتهبة. وعلى جهتي الحزام تعلو نبرات التهديد وتحتد، وتطاول الجوار السوري، العسكري والسياسي. ولا شك في ان سابقة صيف 2006 وحربه تدعو الى «الشوبرة» الموسمية والمتصلة بظروف متضافرة. والسابقة اندلعت في دوامة المفاوضة الدولية على معاقبة الحكم الإيراني على انتهاكه الحظر النووي، وغداة إجماع مفاوضي امين المجلس الأمن القومي والمفاوض النووي الأولى يومها، علي لاريجاني، على قرار مجلس الأمن بفرض عقوبات جديدة على طهران.

وأتاحت الحرب، يومها، للأطراف كلها الهرب من مآزق متراكمة. فأغرقت الحرب الإيرانية مجلس الأمن ودوله الدائمة والموقتة في دوامة ديبلوماسية بالواسطة وغير متكافئة لم تخرج منها دولة واحدة متماسكة الجانب. واضطرت اكثر من دولة أوروبية الى التورط في قوات فصل معززة تعرضها للارتهان لقوى محلية وإقليمية ضالعة في المسألة الإيرانية من قريب أو بعيد. وفجرت الحرب خلافات عربية وإسلامية مزمنة وأضعفت الصفوف العربية الكثيرة والمتناقضة. ومهدت الطريق الى انقسام الجبهة الفلسطينية. وحملت السياسة السورية على توسيط تركيا في مفاوضاتها غير المباشرة مع إسرائيل، وكانت هذه المفاوضات جسر دمشق الى استمالة رعاية دولية، أميركية وأوروبية، خسرتها مع اغتيال رفيق الحريري. والحرب هذه، على رغم تظهيرها رجحان الكفة الإيرانية على الكفة السورية في لبنان، مهدت الطريق الى تجدد الدور السوري في تعطيل دورة الحياة السياسية الداخلية، والمقايضة على التعطيل وعلى «التيسير». ومهدت الطريق كذلك الى استراتيجية الجماعة الشيعية المسلحة، وجمهورها والحلفاء، استدخال الدولة والمجتمع اللبنانيين، وتجزئتهما وازدواجهما، والتحرر من الاختيار بين الحرب الأهلية والاستيلاء المعلنين وبين الرضوخ لإرادة كثرة الناخبين وعمل الهيئات الدستورية، والاقتصار على معارضة سياسية «تهضم» الولاية الإيرانية في لبنان.

وتورطت السياسة الأميركية في ما احتسبته تعويضاً عن حرج الأحوال العراقية جراء ضلوع «القاعدة» والحرس الثوري الإيراني والاستخبارات السورية معاً في انفجار عنف مذهبي وعصبي مدمر، اجتاح الجماعات العراقية، وأغرقها في فوضى عارمة. فكان شأن هزيمة إيرانية في الحزام اللبناني، بعد الهزيمة السورية، ان يخلخل التماسك الإيراني السوري، ويضعف قبضة طهران في العراق وفلسطين ولبنان وسورية نفسها. وانساقت تل ابيب وراء تقدير هزيل وضعيف لسياسات إيران الإقليمية، ولصور الحروب الجديدة المترتبة على السياسات هذه ودور هذه الحروب. وفي نهاية مطاف موقت، حبلت «الساحة» الفلسطينية بحرب غزة. وآذنت حرب «حماس»، غداة سنتين ونصف السنة على حرب الحزب الخميني المسلح، بإخراج سورية من مفاوضاتها «التركية»، وتكريس الانقسام الفلسطيني وتتويجه بـ «دولتين» وإناطة التحكيم في فلسطين بتكتل إقليمي ودولي يعول على دوام المراوحة علاجاً. وآذنت بتركيب «هلال» إخواني وسني يضم مصر والأردن وسورية، وبعض دول الخليج، أو شطراً من جماهيرها وشارعها، الى «الجهاد» الإيراني.

وهو حصاد، ظاهراً وفعلاً، عظيم. ولكنه حصاد باهظ. فالسياسة التي أدت إليه عوّلت على إشعال المشرق العربي بحروب غير متكافئة تزنر بها إيران، «عاصمة» العالمين العربي والإسلامي، «الكيان الصهيوني»، وتستدرج من طريقها الولايات المتحدة وأوروبا الأطلسية الى إطفاء بؤر أشعلتها هي أو أشعلتها فروع «القاعدة»، وتؤدي الى الطعن في عدوان الدائرة الأوروبية – الأميركية، «الصليبية»، على «الإسلام» والمسلمين. ويفترض نجاح هذه السياسة انقياد الإيرانيين إليها، ورضاهم بها، ومبايعتهم دولتهم والطاقم الحاكم، على استمرارها وتكلفتها. وما لم يكن ظاهراً إبان اندلاع الحربين «الإراديتين»، وهو صدوع السيطرة الحرسية، والخمينية ربما، على الإيرانيين، خرج الى العلن. والسبب الأرجح في خروجه الى العلن إرادة الحرسيين الإيرانيين تولي السلطة كلها، من غير اقتسامها مع الأجنحة الأخرى التي كان روح الله خميني حريصاً على إشراكها في الإجماع الشكلي على «الثورة». وتوسل الحرسيون الى تولي السلطة كلها، من فوق ومن غير قيد المفاوضات الطويلة والمقيِّدة بين كتل الطبقة المسيطرة والنافذة، توسلوا بخطتهم النووية، وشطريها الداخلي والإقليمي، والعسكري والقومي الديني «السياسي».

والمحصلة، غداة نحو 5 سنوات على إحكام القبضة الحرسية، هي «اللوحة» السياسية الراهنة. فروسيا، الشريكة النووية المتواطئة والمراوغة، تكبح شراكتها العسكرية الدفاعية (شبكة صواريخ إس 300) والذريعة المدنية للتخصيب (مفاعل بوشهر)، وتقلص عباءتها الديبلوماسية. ولا تألو الديبلوماسية الأميركية جهداً في سبيل تعطيل الذرائع الروسية، من سحب عناصر الدرع الصاروخية من شرق أوروبا الى التوسط في انضمام روسيا الى منظمة التجارة العالمية. ولا تزال الصين عند رأيها اللين في التسلح الإيراني. ولكن التلويح الحرسي الإيراني بإغلاق مضيق هرمز، رداً على العقوبات الغربية والدولية وتشديدها وليس رداً على الحرب، الى مساع ديبلوماسية شرق أوسطية كثيرة المصادر، قد يحملان بكين، وهي لانت في مسألتي تايوان والتيبيت الحيويتين و «الداخليتين»، على معالجة أقرب الى مرتبها الدولية المفترضة من المعالجة «القومية» والتجارية.

وقد يدعو تقرير مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية الجديد، يوكيا أمانو، وظنه الظنون المباشرة، علناً، في سياسة إيران الحالية، وليس في سياستها العائدة الى 1984، الهند وتركيا والبرازيل، ودولاً أخرى، الى إقامة جدار أقوى تماسكاً وإلحاحاً بوجه المطامح الحرسية المتهورة. ويحدو على ذلك اضطلاع الحرسيين في قمع الإيرانيين، ونفخهم في مغامرات النطاق الإقليمي القريب. ويحدو عليه، من وجه آخر، إنتهاج أوباما الذي تُصْليه السياسة الإيرانية كراهية وحقداً لم تُصْلهما سلفه، نهجاً متعرجاً انتزع من طهران معظم ذرائعها، واستجاب ما كانت تزعم أنه مقدمات تمهيدية لا غنى عنها قبل المفاوضة على الخطة النووية.

و «أصدقاء» إيران الحرسية الإقليميون أقرب الى محاسبتها والتحفظ عنها من ذي قبل. فتركيا غل وأردوغان وأحمد داود أوغلو قد تخسر مرتكز عقيدتها الاستراتيجية، ودورها الشرق أوسطي والوسطي الآسيوي، إذا مضت طهران على تصلبها وإذكاء البؤر المتفجرة. وتميل سورية الى شفع الوساطة التركية برافدين، أميركي وفرنسي، من غير تخليها عن التباس سياساتها التكويني ورعاياتها المنازع «المقاوِمة». ولكن حماية الالتباس ودوامه أمست، بعد الفصلين العراقي واللبناني (الحريري)، في حاجة الى سياسة أكثر تعقيداً من سياسة التستر المزدوجة السابقة. وليس تردي دورها العربي والإقليمي قياساً على الغلبة الإيرانية، أقل الدواعي قوة الى تقييد تهور الحليف الحرسي، على رغم تملص النظام الأسدي من ضوابط داخلية ليس في مستطاع طهران الضرب عنها صفحاً. وأما بعض «الأصدقاء» الخليجيين فلم يستجيبوا مناشدة طهران إياهم التنصل من إعلان واشنطن عزمها على نشر عناصر درع مضادة للصواريخ في قواعد على أراضيهم. فسكتت الدوحة. وذكرت الكويت بالتزامات سابقة.

وأما ساحتا «الجهوزية على مستوى إزالة الصهاينة»، أي الحزام اللبناني والقطاع الفلسطيني، وهما مصدرا التنبؤ أو التكهن بالحرب بعد أن كانتا مسرحها، فحالهما، على الوجه الإيراني وفي ميزان سياسة طهران، تلوِّح بأفق مكفهر. وإذا كان ما تكرره ألسنة الحرسيين اللبنانيين، في الصباح والمساء والظهر، من أن حرب إسرائيل على الجماعة الشيعية المسلحة «لم تعد نزهة»، وترتب خسائر عسكرية ومدنية وديبلوماسية معنوية على إسرائيل والإسرائيليين، صحيحاً ولا شك فيه، فلا شك، كذلك، في أن مبادرة الحزام الحرسي الى الحرب لم تبق ميسورة، على قدر ما كانت عليه في صيف 2006. فالإنجاز العسكري والمعنوي الحزب اللهي والإيراني من ورائه، وقوامه التماسك من الانهيار وإحجام اللبنانيين والحكومة عن التنصل من مغامرة الجماعة المسلحة، كان جزاؤه الدمار الكبير الذي ألحقه سلاح الطيران الإسرائيلي في المرافق المدنية والسكن وبعض الأهالي.

ونقلَ الدمارُ المتعمد الردعَ من القوة المقاتلة، وهذه قاتلت في وسط الأهالي ومرافق سكنهم واتخذتهم ترساً، الى الدائرة المدنية والأهلية والإدارية. فالخسارة القاصمة التي كان ينبغي أن تنزل في القوة المقاتلة وتشل قتالها، على ما هي الحال في حرب متكافئة و «عادية»، تفادتها القوة المقاتلة المتخفية في ثنايا السكان الراضين بالأمر. فأصابت السكان أنفسهم ومنازلهم وطرقاتهم واتصالاتهم وأعمالهم. ويمضي التهديد الإسرائيلي على توسيع الدمار في النطاق نفسه. فيعلن عن استهدافه بيروت ومرافق الخدمات المركزية والحيوية في حرب تالية. وهو يقر، والحال هذه، بأن القوة المقاتلة عصية على الإدراك والضرب. فهي خارج قسمة المدني والعسكري، وخارج السياسة وموازينها. ودعمت الجماعة الشيعية المسلحة خروجها هذا من السياسة وموازينها، فابتدعت «التوافق» تكريساً لخروجها من قسمة المدني والعسكري، ومن موازين السياسة معاً. فهي تشل بالقوة المسلحة والعصبية الأهلية عمل الدولة والمؤسسات، ولكنها لا تستولي على الدولة والمؤسسات استيلاءً تاماً، ولا تبطل العملية الانتخابية، ولا تزورها تزويراً فاضحاً.

وهذه السياسة، وهي احتيال متمادٍ على الحياة السياسية ونظامها ووظائفها وقيمها، لم تؤد الى اطمئنان الجماعة الشيعية المسلحة الى سكوت اللبنانيين عن انتهاكاتها واحتيالها. فخطيب الجماعة، ومعاونوه، لا ينفكون ينددون بتحميلهم المسؤولية عن الحرب التي يلوحون بها، وتلاحقهم ويلاحقهم هاجسها، على رغم «انتصارهم» المفترض، على نحو ما يرزح كابوسها الثقيل على صدور اللبنانيين. وهذا شرخ أعمق من الشرخ الإيراني بين القيادة الحرسية وبين جمهور الإيرانيين، ومن صنف قريب من الصنف الإيراني. وهو يقود الى تنصل معظم اللبنانيين من الجماعة المسلحة والحرسية، على نحو ما قاد الى تنصل معظم الفلسطينيين من «حماس» «المتشيعة»، على قول مناوئيها. و «انتصار» الجماعتين المسلحتين، اللبنانية والفلسطينية، لم يحل، عملياً، دون ارتداعهما، ولا حال دون تحفظ وليهما الإقليمي، وإن لم يحل دون إمعانهما في انتهاج سياسة تؤدي الى تصديع «الدولة»، وانتهاك حقوق المواطنين وحملهم على التخلي عن حرياتهم، وإلى استشراء الفساد الجماهيري وانتشاره في الحياة الاجتماعية والسياسية على حد سواء.

ولا ريب في أن الحروب الإيرانية الإقليمية، والأزمات التي سبقتها ومهدت لها وفجرتها، أو صحبتها، لم تحتج الى ما يسوغها التسويغ التام. و«الأوراق» التي تملكها السياسة الإيرانية الحرسية، وصنعتها في ظروف سابقة، وبعضها مولود من ظروف غير مصطنعة كلها – هذه الأوراق تدعو الى انتهاج السياسة المتهورة والمغامرة التي تتصدرها الجماعة الحاكمة بطهران. واجتماع التحفظ الدولي والإقليمي المتعاظم، والشروخ الداخلية في المركز والأطراف، والأكلاف الباهظة المترتبة على الحروب السابقة، لا يدعو الى الانقياد الى حرب عاجلة. فالالتباسات الكثيرة التي تترجح في دوائرها القوى الضالعة في أكثر بؤر توتر العالم تعقيداً لا يحسمها، على الأرجح، إلا مباشرة طهران صنع قنبلتها، وتركيبها رأساً في صاروخ متوسط المدى. وهذا غير وشيك، على ما يردد خبراء وقادة على مستويات متفاوتة. ومعنى هذا أن «الجحيم» الراهن مزمن.

الثلاثاء، 23 فبراير 2010

للخلاص من العقائد الشمولية والبداوة السياسية والمحاصصة المتوحشة والمدمرة

رسالة البطريرك الماروني تستأنف التفكير السياسي اللبناني في الصيغة ومقدماتها ونتائجها
النهار، 21/2/2010


امتازت رسالة البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير إلى الموارنة اللبنانيين في مناسبة يوبيل 1600 سنة على وفاة القديس مار مارون (9 شباط الجاري)، في سعة تطرقها إلى المشكلات الراهنة لـ"الشعب" الماروني وسائر "الشعوب" اللبنانية، في ضوء اختبارات ثلث القرن الأخير وحوادث العقد المنصرم. وهنا قراءة في هذه الرسالة.
تسرد رسالة البطريرك الماروني اللبناني المشرقي (الكاثوليكي) الى الموارنة الإكليركيين والعلمانيين، في مناسبة الصوم الكبير ويوبيل 1600 سنة على وفاة أب الطائفة وقديسها الأول، الموسومة "في مار مارون... المارونية... ولبنان" (في 9 شباط 2010، والصحف التي أكرمت الرسالة بمقتطفات منها، شأن "النهار"، اقتصرت على ربعها)، تاريخاً روحياً، وثقافياً اجتماعياً، وسياسياً، للجماعة التي تعرف نفسها بنسبها الطوعي والحر الى اسم مارون و "حركته". والتاريخ الذي تسرده الرسالة الخامسة والعشرون، على عدد سنوات ولاية نصر الله صفير البطريركية المارونية، وترويه، تتناول به معاني الحركة الدينية "والثقافة التجديدية"، وعلاقتها بعضها ببعض، ومآل هذه المعاني ومصائرها ومفاعيلها في مدى اليوم وزمنه، أي في بلدان العالم المعاصر ودوائرها الجغرافية، وفي خضم الحوادث المعاصرة وسياقاتها. وصفة الرسالة هذه تميزها من معظم سابقاتها في المناسبة الدينية والشعائرية نفسها، ومن مئات بيانات مجالس المطارنة والأساقفة والموارنة الشهرية. وقد لا تقرن إلا ببعض نصوص المجمع الماروني البطريركي، وببعض النصوص التي أعدت للسينودوس من اجل لبنان وأدرجت أجزاء منها في البيان السينودي الأسقفي والبابوي (الإرشاد).



الميثاق، الطائفية

والامتياز، وليس التميز وحده، مرده الى غنى التناول وسعته، وتطرقه الى مشكلات "الشعب" الماروني الراهنة من غير تستر، وإلى تجديد الرسالة الأفكار واللغة في ضوء اختبارات ثلث القرن الأخير وحوادث العقد المنصرم. فالرسالة، من هذا الباب، تشبه بعض ما اضطلع به المجمع الفاتيكاني الثاني في ولايتي أو أسقفيتي يوحنا الثالث والعشرين وبولس السادس (1962 – 1965) من "استئناف" فكري وثقافي. والاستئناف يتخطى المراجعة الجزئية الى بلورة بناء يرتب المعاني على ترتيب ومعيار جديدين ومتماسكين. ويبعث الترتيب والتماسك في الرسالة، أجزاء وكلاً، قوة ووضوحاً ومباشرة قلما يجدها القارئ في بيانات سابقة، مارونية ومسيحية وسياسية لبنانية وعربية.
وينهض البناء على تعريف "الميثاق" أو التعاقد والتعاهد ما بين الطوائف اللبنانية في جوهره بـ"فعل إرادة وفعل حرية في آن (و) تجسيد لقيم روحية متفاعلة (و) مسألة تنمية وترقية للإنسان اللبناني – العربي – المشرقي..." ويفترض التعاقد والتواثق "أفراداً" أو آحاداً سابقين على تعاهدهم وتواثقهم. والأفراد، في المعرض الاجتماعي والسياسي، ليسوا الناس فرادى، واحداً واحداً، فهم هويات جماعية، شعوب تنفرد وتختص "بخصائص اثنية ومذهب واحد وتاريخ قديم"، أو طوائف. ولا تحجم الرسالة، ولا تتحفظ عن الدلالة الى الجماعات الطائفية (المذهبية) اللبنانية، وتسميتها بهذا الاسم، وحملها على شعب، على المعنى الذي تقدم للتو، وعلى هوية. وما ينكره معظم "السياسيين"، وهو تعريف اللبنانيين جماعات متفرقة تعصب الواحدة منها رابطة أهلية (قرابية ونسبية) يتولى رعايتها ولحمتها معتقد يضطلع بالتشريع في أركان الإيمان وفي المعاملات معاً، وتروي تاريخها وتتراواه على الوجهين هذين، الأهلي والديني – ما ينكره معظم "السياسيين" المحليين والعرب تقر به الرسالة البطريركية، إقراراً صريحاً، ولا ترى غضاضة في إقرارها.
وهذا مبعث سؤال وحيرة وقلق. وبعضنا (فليس منا من يبرأ من هذا النازع) يبعثه الكلام على شعب نظير الطائفة، على معنى الطائفة الدينية المذهبية، وعلى جماعة وجماعات، على الشفقة أو على السخرية أو على التنديد الصريح بالتخلف والانغلاق. وجواب الرسالة، شأن المجمع البطريركي من قبل (الملف الثالث، النص 19 الفقرة 45، 2006، الكنيسة المارونية والسياسة من: الكنيسة المارونية وعالم اليوم) جوابان. الأول يجبه المسألة، والثاني ينيطها بالمعالجة كلاً وجميعاً، ويرد من طريق إطار المعالجة وأجوبتها العامة وأجوبتها الجزئية والفرعية. وفي الرسالة اليوبيلية، يتناول الجواب الأول مسألة الطائفية في الفقرة 15 من الرسالة (ومقتطفات "النهار" أغفلت أجزاء من الفقرة هذه). ويذهب ما سقط من الانتخاب الى ان الميثاق، ركن المعنى اللبناني (الإنساني والتاريخي والإلهي)، إذا تحول عن جوهره "أصبح مجرد مطامع متضاربة ومفاوضة ومقايضة ومحاصصة ومجرد تسوية وتوازنات". والطائفية هي هذا، في ملة البطريرك واعتقاده، أي "أخطر مؤامرة على القضية (وهو) يسقط الرهان على الانفتاح والحوار ويفرض الانغلاق والزبائينة والإقطاعية".
فمن غير خشية مفارقة يقول صاحب الرسالة اليوبيلية ان الصيغة الميثاقية هي خلاف الطائفية، والطائفية هي "خطيئة" اصحاب الصيغة وأطرافها، و "سقوطها" المتنكر لأركان تواثقهم. وتخالف المقالة البطريركية المقالة العلمانية المفترضة، والمقالات القومية والمذهبية الأصولية، جميعاً. فهذه، على تفرقها اللفظي والمعنوي، تكاد تجمع على وصم الصيغة، أو "التركيبة" على قول مراجعين كثر مسلمين ومسيحيين في "مجالسهم" المحصنة بالأمانة والجَمْجمة، بطائفية كيانية، "بغيضة" و "انعزالية" و "شيحوية" من غير شك ولا تردد ولا فحص.
والجواب الثاني، من طريق المعالجة العامة، هو الراجح في ميزان الاحتجاج. فالرسالة ترسي الميثاق الوطني حقيقةً، على الجماعات او الطوائف أو الشعب (وبعض المعلقين يحسب ان حمله اللبنانيين على "شعوب" فتح من فتوح التحليل والفهم والصدق، ويبني على فتحه قصراً صحافياً منيفاً، وهذا ملقى على قارعة النصوص البطريركية من غير دعوى). والحق ان إنكار بني عاملة، وهو نسب شيعة لبنان الإماميين "الإثني"، على قول الرسالة، أو بني معروف، وهو نسب الموحدين الدروز، ومزيج القبائل العربية والكردية والتركية والبربرية التي يتحدر منها سنّة لبنان، الى الأرمن والسريان والكلدان والأشوريين والعلويين والأروام الملكيين – إنكار هؤلاء كلهم انتسابهم الى أعراقهم أو آبائهم، وإلى معتقداتهم الجامعة بين "عشائرهم" وأجبابهم وقراهم وأحيائهم أو خططهم، وروايتهم حوادث تواريخهم على الترتيب المزدوج والمتصل الأهلي النسبي والأهلي المذهبي، لهو (الإنكار) العجب العجاب. فالقوم، وهم أقوام لا يعرفون هوية غير هوية الآباء والأجداد والأولاد، على قول وثيقة الحزب الخميني المسلح الثانية، والوطن هو الموطن، على معنى "مسارح قضّاها الشباب هنالكا"، على معاني المسارح كلها: من طريق العين في عيناتا الى دروب التسلل والوديان والمكامن المسلحة وقواعد التدريب.
وهم، أي القوم، يتزوج ويصاهر بعضهم بعضاً. ومعظم زواجهم، وعلى الخصوص زواج عامتهم بعد نصف قرن من الإقامة في غير ملتهم، خوف "الموت في علتهم"، هو في دائرة أهل مذهبهم، وعلى شرع المذهب. والإكراه في هذا، وفي غيره، قليل. وهو لا يصدر عن "النفوس"، على خلاف رسم النفوس/ النصوص السائر، بل عن أركان الاجتماع التاريخي، وبناء الهويات المشتركة والسياسية والثقافية في نطاق الجماعة، والنفسية، أي تلك التي ترجع الى النفس، نفساً نفساً. فماذا ينكر الناعون على الطوائف، أي على الجماعات الأهلية والاعتقادية والتاريخية، حين يطعنون في خصوصياتها أو مرة أخرى: الأهلية والاعتقادية والتاريخية؟ هم يزعمون ان مطعنهم يقتصر على قيام الكيانات الطائفية وعصبياتها حاجزاً ما بين الجماعات والأفراد وبين الوطن الواحد. ويسمون هذا "طائفية سياسية".



العدد "الديموقراطي" والعصبية

ويفترض في التسمية أن تزيل اللبس ما بين الكيانات، أو "الوجودات" الجماعية، التاريخية والاجتماعية والإيمانية، وبين انحرافها السياسي المفضي الى "الانغلاق والزبائنية والإقطاعية"، على قول رسالة اليوبيل. والصيغة السياسية، في "الطائفية السياسية"، معناها المتعارف هو قانون الانتخابات، وقيود الاقتراع والناخبين، وتقسيم الدوائر، وعدد النواب وفق قيود الناخبين في الدوائر. وهو في نهاية هذا المطاف، العددي والإحصائي و"الحصصي"، هو توزيع الرئاسات والوزارات ووظائف الإدارات العامة. فالسياسة، في "سياسية" الطائفية والدعوة الى إلغائها، هي الحصص والشطور، وتوزيعها، وهي المراتب والمناصب والرئاسات وموازينها. وهي، الى هذا، الأواصر والميول، أو العصبيات والولاءات والأحلاف والعداوات. والحظوة بالحصص والمراتب تسوّغ تقديم أواصر وميول على أخرى مخالفة أو مباينة، وعلى مقادير أخرى.
فالدعوة الى إلغاء الطائفية السياسية، على المعنى المتقدم، يترتب عليها التسليم لمحاصصة برية، أو متوحشة، غير مدجنة ولا مهذبة، وتترك قياد توزيع الحصص وترتيب الولاءات على غارب الصراع وموازينه "الواقعة". ولا يتوقع، على أي وجه، أن يؤدي الصراع المتروك على عواهنه الى غير تعبئة العصبيات الداخلية، وتكتيل أهلها، وإطفاء خلافاتها، وميلها كلها الى جهة واحدة، ونشدانها المؤازرة من غير شرط، وانقيادها الى استتباع من الضرب غير المقيد ولا المشروط نفسه. ولا تستقيم سياسة، ولا رابطة سياسية وطنية، مع المحاصصة البرية هذه. وترك العنان لها هو أقرب طريق الى تدمير الدولة الوطنية، وإلغاء السياسة ورفع رايات الطائفية على أنقاضها. وأما الدعوة الى احتساب الحصص والمراتب والأحلاف على معيار أو ميزان مختلف فلا يؤدي، على ما حصل ويحصل في لبنان، في رعاية "عربية" جهورية أو متلعثمة منذ نيف وثلث القرن، الى غير طائفيات أهلية متشنجة ومحمومة. ولا ريب في أن ما يسعى فيه دعاة الإلغاء أو الاحتساب الجديد و "العادل"، أو الإحصائي العددي و"الديموقراطي"، هو النفخ في الطائفيات، وتحريك تشنجها وحميتها و"طبيعتها". والدور الذي تدور فيه الدعوة "العددية الديموقراطية"، و"الشعبية"، يقحمها فيه تعويلها على تعبئة عصبيتها، وتماسك أهلها بإزاء الجماعات الأخرى، في سبيل الحظوة بالحصص والمراتب والأحلاف التي تخولها إياها، على ما تحسب، أرجحيتها العددية. فتتوسل بالعدد الديموقراطي، ورجحانه الإحصائي، كسر الميزان كله.
وتتعمد الدعوة، أي أصحابها، الغفلة، أو انهم غافلون فعلاً، عن ان الاحتكام الى العدد في الاقتراع الانتخابي يفترض انحلال الجماعات الآلية أو الميكانيكية، وهي الجماعات العصبية والقرابية والدينية في المرتبة الأولى، الى أفراد وآحاد. وهؤلاء يختارون من بعد طوعاً، على هذا القدر أو ذاك، روابطهم وأواصرهم وتكتلاتهم الاجتماعية والسياسية والجغرافية والثقافية. ويسنّون الشرائع (على ترجمة عادل زعيتر) والقوانين والمراسيم والإرادات في أحوالهم كلها. فهم مصدر "الحاكمية" المدنية أو الولاية. ومعلوم ان حكم هذا، في بعض الصيغ الإخوانية وفي ولاية الفقيه الخمينية، التبديع والتكفير والحمل على الجاهلية. وديانتهم نفسها، بهذه الحال وإذ ذاك، لا تبقى تسليماً مطمئناً لـ "تعليم" حرفي محكم ومتوارث، بل تتعاورها الأسئلة والاختبارات والتجارب من جهاتها كلها. فالزعم ان الانتخاب "الشعبي" الى المجلس التشريعي، واستنتاجه تالياً بنية السلطة التنفيذية والإدارات ومنازع السياسات، إذا أطلق فيهما عامل العدد، وأقامت الجماعات العصبية على تماسكها الآلي، يلدان ديموقراطية غير طائفية، هذا الزعم يستمد بداهته من بداوة سياسية وأهلية مسترسلة. وهي وليدة تجربة "سياسية" أهلية فعلاً، على معنى العصبية، وعلى معنى الاستيلاء والغلبة بالقوة وأمرها الواقع.



الأصول الأولى

قد لا يكون هذا بيت القصيد، على رغم خطره، إذا نظر المرء إليه في ضوء الرسالة البطريركية. والاختبار اللبناني المستمر. فالأصل، في الضوء المزدوج، هو تعريف السياسة، وتعريف الميثاق و(الدولة) الوطنية تالياً. ولا يقصد بالتعريف الوصف، ولا تعيين الشيء أو الموضوع وافتراضه خارج الفعل والإرادة والرغبة. وعلى هذا، فالكلام على "تعريف" السياسة، والظن ان ثمة معياراً "موضوعياً" أو "علمياً" يقرر "علماء" وأهل معرفة في ضوئه إذا كان فعل ما سياسة أم لا، إنما هو كلام سياسي ومعياري من ادناه الى أقصاه. والحق ان رسالة اليوبيل تدعو صراحة وجهراً الى إعلان جماعات اللبنانيين وأفرادهم السياسة التي يريدونها، ويرغبون فيها، ويرونها محجة لسعيهم وأفعالهم، وقطباً يديرون عليه علاقاتهم وهيئاتهم وتنظيماتهم. وتقديم الميثاق والعهد على عصبية الجماعات، وعلى منازعها "الحيوية" (الداروينية)، التوسعية والسلطانية، يشهر مفهوماً للسياسة، وعن السياسة، يخالف البداوة الأهلية. فهذه تسعى في تجرمة العدد والعصب والولاء (إلى) مراتب قوة ونفوذ ثابتة، و(إلى) قطبي ولاية وعداوة لازمين ومقيمين لا فكاك منهما. وتعم البداوةُ الأهلية علاقات المواطنين بعضهم ببعض، وهي العلاقات التي تجعلهم جماعة سياسية وطنية ومدنية، بمعيار علاقات الدول بعضها ببعض وتشملها بهذا المعيار. ويقوم شطر من علاقات الدول، إلى اليوم، على ميزان سلطاني امبراطوري، ويجيز تحكيم الحرب والقوة في حسم المنازعات.
وعلى هذا تثبت الرسالة البطريركية الجماعات، ورابطتها الأهلية والاعتقادية والتاريخية، اصلاً ومبتدأ. وهذا إقرار بالصورة التي ترى عليها معظم الجماعات نفسها، وصدوع بها. والإقرار والصدوع هذان يرسيان السياسة المقترحة على ذاتية إنسانية متنوعة. ويستتبع الخروجُ عليها أو ازدراؤها انقلاب السياسة قسراً وتعسفاً خارجيين واستبداديين. ولكن إثباتها أو إيجابها على هذا النحو والوجه لا ينكفئ على نفسه، ولا يبقى أسير الأصل "الأول" المفترض. فيصحب الإيجابَ المنفصل هذا إيجاب كثرة مركبة ومؤتلفة، هي الكثرة السياسية الميثاقية. والكثرة الميثاقية هي مناط السياسة الوطنية والمدنية، والأصل الذي تتفرع عليه الحقوق والحريات، وتنشأ عنه الهوية الجامعة والمضطربة شأن الأفعال الإنسانية الحرة كلها. فالكثرة هي الأصل الأول، السياسي وليس الأهلي العصبي والحيوي، على رغم ما في إثبات الكثرة اصلاً أول من مجازفة. فهو أي ثبات الكثرة، يعول على شراكة "الكثيرين"، والتزامهم الشراكة ومداولاتها، وقسرهم أنفسهم على المداولة والانضباط عليها وعلى نتائجها. وهذا مرهق ومعنت، قياساً على حسم المنزع العصبي الأهلي وعجلته، وعلى صولته وجولته في ميدان تنفرد به أهواء "حديدانية" تشبِّه على صاحبها الفرد والفذ خيالات العظمة والقوة، وتقلص مشاغله وسعيه الى دائرة ضيقة وفقيرة.
وتتناول الرسالة مسألة التعاهد الميثاقي، وإرساء السياسة الوطنية المدنية على ركنه، واقتراحه مناطاً للحياة السياسية العامة وتفضيله على سياسة العصب والسلطان، تتناولها من وجهين: الوجه الأول هو مقدمات التعاهد والتواثق وشروطهما، والوجه الثاني هو نتائجهما. ويفترض قرار الجماعة السياسية، الوطنية المدنية، على ميثاق أو عقدٍ كثرةَ

المتعاقدين، وسواسيتهم فعلاً (على وجه الوقائع) وحقاً (في ميزان الحقوق والقوانين). ويفترض، من ناحية أخرى، حريتهم، وإقبالهم على التعاقد إقبال المريد غير المكرَه والمدرِك تبعات تعاقده، والملتزم التعاقد وتبعاته – الى حين طلبه التحلل منها أو من بعضها، أو اقتراحه تعاقداً آخر أو فك التعاقد وحله. والكثرة الثابتة والراسخة ليست شرطاً منطقياً أو ذهنياً للتعاقد، وعلى التعاقد، فيقال: التعاقد يفترض متعاقدين اثنين على التقليل ولا يتعاقد الواحد مع نفسه (وهذه فيها نظر). فهي والتعاقد صنوان متكافئان. ويوجب المتعاقدون من طريق تعاقدهم افتراقهم، وقيام واحدهم بنفسه، وولايته عليها، "فعل حرية وفعل إرادة"، من وجه. ويوجب، من وجه آخر، توجهه على مواثقه ومعاهده، وتحمّل تبعاته وكفالته وضمانه بإزاء نفسه، وبإزاء غيره، "مسألة تنمية وترقية".
وتبني الرسالة اليوبيلية على الاقتراح هذا تأويلاً للميثاق اللبناني هو في مثابة صيغة جديدة تخلف الصيغة الحرفية والتعاقدية القانونية التي غلبت على معظم الكتابات التي تناولت "مساكنة" اللبنانيين بعضهم بعضاً و "تعايشهم" و "أممهم"، على ما قال عبدالحسين شرف الدين في أمته "القلقة". فتذهب الى ان الميثاق "هو فعل ثقة بالقضية اللبنانية صاغته بل التزمته الطوائف اللبنانية، يوم هربت الى هنا (وهي) إنما جاءت لصون هذا التراث (الروحي). وهكذا كان الميثاق جزءاً من دواخل ضمائرها، فصادقت عليه ضمناً كل أقلية وافدة الى هذه الديار... ولأنه تعبير عن إيمان وحقيقة وشرف فإن ميثاقاً كهذا لا يجوز ان يكتب لأن ضمانه الوحيد هو الإيمان بالله والثقة بالإنسان". وعلى هذا "فنحن... نثبت ذاتنا ولا نطلب ضماناً من أحد... (وقضيتنا هي) قضية الخصوصية والفرادة...". ويقود اقتراحُ السياسة ومزاولتها وتعهدها على هذا الوجه، من يدعوهم الاقتراحُ، ويتوجه عليهم، يقودهم الى مشارف اختبار أخلاقي وعملي وسياسي عسير، قد لا يكون لنا طاقة به. ونكصنا، نحن اللبنانيين، عنه في معظم الأوقات والأحيان.



المطاف المهاجر

ويبدو لي ان ما يذهب إليه البطريرك الأنطاكي المشرقي والمسكوني في هذا الموضع في رسالته يستقوي (أو يحتج) على تخاذلنا عن احتمال تبعات لبنان السياسية الوطنية والمدنية – وهو يقول "الروحية" و"الإلهية" – الشريفة بتجربة تاريخية تتعدانا معانيها ونحن من اضطلع بها، في وقت واحد. وهو يؤرخ لما سماه عمر فاخوري (نعم!) "الحقيقة اللبنانية" (1944) تأريخ استعادة وحفظ وديعة على رجاء حركة خلاص تاريخية. فلا ينسى ان ابتداء "الحركة" المارونية، والشعب الماروني تالياً، ولبنان في خاتمة مطاف تاريخي مهاجر، كان استجابة دعوة تولاها امرؤ فرد، إجازته من نفس حرة ومن تلبية. وليس من تولية أو إلباس فروة، على قول كتاب الحوليات العثمانية، ولا من انتساب الى أهل أو محل أو سلطان. و"الحركة" هذه حلت معنى وجماعة وأرضاً. ولكن المعنى والجماعة والأرض أقامت على التماس محجة لا قرار تقر عليه. وهي أقرب الى الجهة منها الى الموضع، على ما في القول هذا من رجع غنوصي لا يرضاه، على ما أحسب، البطريرك الخلقدوني.
فالهجرة أو المُهاجَرة – رواية، وسعياً في أقاليم المعمورة واضطراباً بين أظهرها، واستصلاحاً للمحرث بجوار الأديرة – هي دأب "الحركة" وميزانها ومنزعها العميق. وحمل الجماعات الأهلية والدينية الاعتقادية اللبنانية على المهاجرة، وليس على الإقامة ولو على سبيل التمصير، يغلِّب تطلعها الى المرحلة التالية من رحلتها ورجائها وسعيها على الأصل الذي تتحدر منه، رحماً ودماً ونسباً. وتقدم المهاجرةُ – وهي عند بعض المسلمين الى الله ورسوله، وإلى "المعاهدة خوف الأعرابية" على ما ذكّر عثمان بن عفان أبا ذر الغفاري – المهاجر الفرد، والمتخفف من عصبيته الآلية، على الجماعة الدموية، وتدعو الى الغربة ومخالطة الغرباء، واجتراح نسب جديد يجمع المهاجر ويضويه الى "أهل" جدد لم تلدهم آباء المهاجرين ولا أمهاتهم. ويتعاقد المهاجر الغريب على نسبه الجديد، أو آصرته وعروته السياسيتين هذه المرة، تعاقداً حراً و"مشروطاً"، على قول الإيرانيين مطلع القرن العشرين في حركتهم الدستورية.
ويرسي الميثاق، وهو مشروطتنا ودستورنا وعهدنا، الواحد والواحدة على نسبين متنازعين. فلا يطمئن ذو النسبين الى نسب واحد. ولا يدعوه اطمئنانه الى الحسبان الصلِف والادعاء الأرعن انه هو القائم على الأهل وعميدهم، أو هو "صاحب الدولة" المكلف والمفوض. والتأويل البطريركي لتاريخ الموارنة على هذا النحو من المعاني يخرجه من أصالة نسبية وأهلية مستعلية وبطولية، ويقيد منزعة الى التربع في سلطان دولة بوليسية وخاوية. ويدعو الجماعات اللبنانية الى إيجاب روايتها لتواريخها، والدخول في الميثاق من أبوابها هي، وليس من باب المارونية على معانيها المتفرقة. فالائتلاف، وهو اسم آخر للميثاق، يجمع "المعذبين والمتألمين والمهمّشين... والمطرودين من أوطانهم والمضطهدين في حرياتهم". وهو يجمعهم على إيجاب حرياتهم وحقوقهم، وعلى تعاهدهم في اجتماع سياسي مشروط ومقيد بالكثرة و(مشروعية) المنازعة والمداولة والعلانية.
والوجه الثاني، وهو نتائج التعاهد والتواثق (بعد مقدماته وشروطه)، يتناول ما ترتب ويترتب على إرساء السياسة الوطنية المدنية على ركن التعاهد الميثاقي واقتراح هذا مناطاً ومبنى للحياة السياسية العامة - على علل الإرساء و(اقتراح) المناط هذين. وتحصي الرسالة اليوبيلية المترتبات الأولى والبارزة. وهي اجتماع "الهوية اللبنانية... من هويات متعددة هي هويات الطوائف، (فهي) المألفة الجامعة بين هذه الهويات المختلقة والمؤتلفة في ميثاق الحياة المشتركة". وهي، ثانياً، "قيام نظام يحترم الكرامة البشرية ويتيح ممارسة الحريات السياسية، الشخصية منها والجماعية، ويتبنى الديموقراطية نظاماً للحكم". وما خلا الإشارة السريعة والغامضة الى "تنمية وترقية الإنسان اللبناني – العربي – المشرقي"، تغضي الرسالة اليوبيلية، حياءً ربما، عن نتيجة ثالثة ترتبت على التعاهد الميثاقي هي اضطلاع المجتمع اللبناني العامي، أفراداً و"جمعيات" (على معنى الروابط الطوعية والتلقائية) وشركات، بإنماء المرافق والعوائد وتلبية بعض الخدمات الأساسية، إنماءً وتلبية يتقدمان نظيريهما "القطاعيين" جودة وعدالة.
ويجر هذا على اللبنانيين، وعلى نظامهم السياسي والاجتماعي والثقافي "برمته"، على قول مستأسد، ضغينة "القوى العقائدية الشمولية، القومية منها والدينية الأصولية". وتتهدد هذه القوى وطن اللبنانيين بإيقاعه في "مأساة" حكم هذه القوى، و"تجربة (حكمها) القاتلة". وتمثل الرسالة على المصير المخوف هذا بـ"تهديد السلاح" المسلط على حقوق اللبنانيين وحرياتهم، وعلى اجتماعهم السياسي وهيئات الدولة وميثاقها الدستوري. وهذه المحنة "نفي للبنان، وتمزيق لهويته الوطنية، وإلغاء لحرية ابنائه، ومدخل الى الحرب الداخلية فيه"، على طريق "زوالـ(ـه)". وليس هذا وصفاً للسلاح الحزب اللهي، الإيراني والسوري، وحده، ولا تنديداً بـ"تفاهم" المعاون الماروني الانكشاري، و"المقاوم" المتفرج والمقاول، مع ولاية الجماعة الشيعية المسلحة وإقطاعها. ويتطاول الوصف المندد سوابق كثيرة، منها السابقة الفلسطينية القريبة، والسابقة الإسرائيلية، والسوابق الأمنية العروبية و "اللبنانية"، وغيرها.
وحمل السلاح، والحكم بواسطته، على "القوى العقائدية الشمولية القومية منها والدينية والأصولية"، وجمعهما، السلاح والحكم، معاً، لا يقتصر على لبنان واللبنانيين. والرسالة البطريركية كلها إنما تكني بلبنان واللبنانيين عن خلاف أو شقاق عربي وإسلامي، أو يرجى عربياً وإسلامياً، مداره على السياسة، والمجتمعات السياسية في "الشرق الأوسط". وكان لبنان واللبنانيون مسرح اختبار لهذا الشقاق. وهو لم ينقض ولم يطوَ. فالميثاق، على معناه الذي تقدم، "أكبر تحد للإيديولوجيات الشمولية والعرقية والدينية والأصولية التسلطية في المنطقة. وهو ما جعل هذه الإيديولوجيات تعلن عداءها لقضيتنا ولوجودنا من الأساس، شعباً وكياناً ودولة ونظاماً، ولا تزال!". والكناية بالميثاق والتعاهد والكثرة والمداولة والعلانية والخروج من العصبية الأهلية والولاء الواحد، عن الصيغة اللبنانية، تدعو (الكناية) اللبنانيين الى الانخراط مرغمين ومضطرين، في الشقاق العربي والإسلامي الذي يكاد، الى اليوم ولولا الحركة الإيرانية وبعض الإرهاصات العراقية والمصرية ربما، يقتصر عليهم.
وهذا نذير شؤم مخيم. فما تسميه الرسالة "إيديولوجيات شمولية وعرقية ودينية وأصولية متسلطة" على وجه السرعة، ولكن حيثياتها اللبنانية والمارونية تصفه وصفاً دقيقاً مرّ بعض تفصيله، ما تسميه بهذه الأسماء نفذ الى قلب حركات عربية تتصدرها القوى الفلسطينية، وقوضها من داخل وخارج، وحرفها عن المنازعة السياسية الوطنية الى المقامرات الأمنية الدامية.
ولعل سكوت الرسالة، ورسائل قبلها كثيرة، عن المسألة الفلسطينية مرده الى التباس القضية الوطنية العادلة، إذا استثنيت هوامش مدنية قليلة ومتأخرة، بأحط صور "السياسة" والعصبيات والثارات والنعرات والمساومات. وانتصب لصوغ المسألة، وبناء حركتها الوطنية المفترضة، وقيادتها، والعبارة عنها، أشباه من قادوا حركات الرعاع الدامية في أوروبا بين الحربين العالميتين. ويتصدى أشباه الأشباه هؤلاء اليوم الى سوس اللبنانيين، جماعات وأفراداً ودولة. وهم يرثون لبناناً هزيلاً تخلف عن عصابات القتل والابتزاز والخوات والشعوذة. ولكن هذا اللبنان ليس طارئاً ولا غريباً. فهو منزع من منازعنا حين تعيينا سياسة التواثق المرهقة. ويداوي اللبنانيون منذ شباط 2005 على أقرب تقدير، هذا الصنف من منازعهم. وهم ليسوا في خيرة من أمر مداواتهم هذه إذا شاؤوا "تجسيد مصير الشرق كله".

الاثنين، 15 فبراير 2010

هوي طائرة الرحلة 409 من بيروت الى أديس أبابا غير بعيد من الضاحية النوارة والمجاهدة


وقت الكارثة ووقت الخلاص واحد... أخاك أم الذئب
المستقبل، 14/2/2010
طائرة "البوينغ" 737 التي أقلعت في جو عاصف بعد منتصف ليل 24 – 25 كانون الثاني 2010 من مطار رفيق الحريري الدولي، قاصدة أديس أبابا الأثيوبية، وعلى متنها 90 راكباً وطياراً ومضيفاً ومضيفة، وهوت بعد ست دقائق تقريباً في قاع البحر القريب من بلدة الناعمة – هذه الطائرة إيذان بأن شيئاً يشبه حادثة غير متوقعة، وناجماً عن تضافر عوامل يعصى بعضها السيطرة والتحكم والإعداد، أمسى الشيء هذا غير جائز في حسباننا، نحن (الشطر العريض من) اللبنانيين المعاصرين، ووارثي العقود الأخيرة من التاريخ اللبناني وحوادثه.
ولا يشبه هوي الطائرة في الساعات الأولى والمعتمة والضريرة من اليوم الخامس والعشرين حادثة، على معنى الجواز والإمكان وتضافر العوامل غير المقدّر والاضطرار، لأن تلقف الواقعة واستقبالها وتأويلها وفهمها حَمَلتها، حال وقوعها وحدوثها، على تدبير إنسي وتقني تام لا يحتمل المصادفة ولا الخطأ ولا الجواز ولا الضرورة، أي حملت الحادثة على "خطة" ماهرة، وإنفاذ شيطاني معمٍّ ودقيق. فالكارثة الإنسانية والتقنية جريمة سياسية مدبرة وكاملة. وتعريفها هذا هو جواب عن سؤال سياسي وبوليسي تقليدي هو: من يستفيد من الجريمة؟ ويترتب السؤال بدوره على حمل السياسة على اثنينية الصديق والعدو، وعلى حصر السياسة في صراع الاثنين هذين، وتعريفها بفن إدارة الصراع المميت.

الحرب والهجرة
وصراع الصديق والعدو، أو "نحن" القومية وخلافها العرقي والطبيعي والحضاري، حرب حقيقية أفقها الماثل هو الموت والتقتيل والتدمير. وهي حرب لا تهدأ ولا تفتر، على رغم الظاهر الخادع. ويبيت السكون الظاهر عملاً وإعداداً دؤوبين يجعلان السلم قناعاً لحرب مستعرة ومستترة. ولا تقتصر الحرب على ميدان دون ميدان، فساحتها الميادين كلها، لا يستثنى ميدان مدني من ميدان عسكري محض. والمحاربون هم القوم او الشعب أو الأمة. فلا يأمن طفل أو ولد أو مسن او امرأة على نفسه، ولا يحصنه من القتل سن أو ضعف أو جنس، أو اعتزال ساحة الحرب وقصور عن خوضها.
ولم يكن في مستطاع طائرة الخطوط الأثيوبية النأي بـ "حالها"، أي بواقعة هويها من الجو العاصف والملبد الى قاع البحر الهائج والمائج وهي لم تترك الأجواء اللبنانية بعد، من الحرب أو الصراع المميت و "المطلق". ويقود الى زج الطائرة المنكوبة في الحرب، وفي الأعمال العدائية، نقلها 54 لبنانياً مسافرين الى بعض المهاجر بشرق افريقيا (تنزانيا وشطري الكونغو وليبيريا وأنغولا...). ولا يشفع بحياد الطائرة، وطيارَيْها الاثنين، حملها 22 اثيوبياً، الى 7 اثيوبيين آخرين هم طاقمها، وامرأة فرنسية، ولا يخرجها هذا من دائرة الحرب والعدوان وتعمد القتل.
فاللبنانيون الـ54 صيد حربي وعسكري ثمين، ولا يسع العدو تفويته أو الإغضاء عنه. ففي المنكوبين القتلى نحو 40 لبنانياً جنوبياً شيعياً. ويتحدر الأربعون من صور والنبطية وبنت جبيل وبعلبك، الأقضية. والأربع عشرة الباقون يتحدرون من الشوف الدرزي، وجبيل والبترون المسيحيين، وعكار المختلط (السني والمسيحي). وبعض المسافرين الشيعة هم من أعيان المهاجرين ووجوههم في مهاجرهم ووطنهم. ويجمعون عراقة النسب المهجري، أو الإقامة المديدة والمجربة، الى علو الكعب في الأعمال، والسعة في التوظيف واستقدام الأهل والأصحاب والأبناء الى مهاجرهم. ومعظم الضحايا شبان أو في الفصل الناضج من شبابهم والأول من اكتهالهم. ولا يزيد عمن بلغوا الخمسين أو جاوزوها. وعددهم نظير عدد من لم يبلغوا عامهم العاشر.
وهذه كلها دواع تدعو العدو الى الرصد والبيات والقتل. وفي تأبين من وسع أهله تأبينه ودفنه، وهؤلاء قلة، نسب المؤبِّنون أو خطباء التأبين المعممون الضحايا الى "جنوبهم" وأرضهم وأهلهم وبلداتهم، ويستقيم هذا النسب من غير شك في الدفن عموماً. ومن هذه الطريق نسبوهم الى طائفتهم ومعتقدهم وهجرتهم. وهذا كذلك يستقيم في الميزان نفسه. ولكن بعضهم، وهم أعلاهم كعباً ومرتبة وأوسعهم ثراءً، احتُسبوا شهداء أرضهم وطائفتهم وهجرتهم ومقاومتهم، أو "مقاومة" الأرض والطائفة والهجرة معاً. وخطباء التأبين المعممون معظمهم الغالب من مناضلي "حزب الله" وكوادره ومسؤوليه. وفي اليومين الأولين غداة الحادثة، قبل مبادرة شيخ الحزب الشيعي المسلح الى مخاطبة أمة حزبه، لم يشك خطباء التأبين في أنهم يؤبنون شهداء مقاتلين حقيقة وليس مجازاً. فذهبوا، على مثال أحد مقدميهم، الى ان الفقيد المسجى هو واحد من "شعب المقاومة"، وأن "خسارته"، في ساحة المعركة والحرب ضمناً، لا تضعف الشعب هذا، ولا تفت في عضده. وحمل آخر، غداة أسبوعين على احتراق الطائرة، الولد الذي يؤبنه ويرثيه، وآلام أهله، على سابقة البلدة في الصبر على العدوان الإسرائيلي وعلى أذاه وضرره.

فتوى الأرض

وما بنى عليه رأي عام أهلي ومذهبي تعليله انفجار الطائرة، أو احتراقها وسقوطها، على وجه الاغتيال المتعمد، وهذا حال سقوطها وفي ضوء "قرائن" لا يعتد بها، هو أولاً تعريف الجماعة المذهبية التي ينتسب إليها معظم الركاب نفسها تعريفاً حربياً أو سياسياً صراعياً. فلا يشك معظم الجماعة، نخباً وعامة، انهم أمة مقاتلة ومحاربة حملت على القتال دفاعاً عن وجودها ودينها وبيضتها، على ما كان يقول فقهاء الأحكام السلطانية. وحرب الجماعة المسلمة، أو الأمة، الدفاعية، حرب عادلة، على خلاف حرب عدوها الظالم والباغي والمستكبر. وأمارة الظلم والبغي هي ان العدو الصهيوني "زرع" في أرض ليست أرضه، واغتصب ما لا يملك، وشتت بالقوة أهل الأرض المسلمين. واحتجاجه بإبادة نزلت به، واضطرته الى المجيء الى فلسطين، مردود، ولا سند له، على ما لا ينفك محمود احمدي نجاد يقول، مستأنفاً "فتوى" أفتى بها مرشد "الثورة الإسلامية" بإيران ومؤسس "الجمهورية".
ونشأت الجماعة الشيعية المسلحة، أو المجاهدة والمقاومة، عن الفتى هذه. فالمرشد الأول لبس عباءة الإسلام "الواحد"، وألبسها ثورته ودولته وجهازه "العلمائي" وحرسه المقاتل واستخباراته وشرطته الأهلية. وأدار "الإسلام" على الأراضي المقدسة، أرض المبعث والدعوة وأرض الإسراء والمعراج وقبلة الصلاة الأولى. وبعث "المسلمين" على محاربة "الاحتلالين"، وندب حاجه وأهل مذهبه الى الحرب على الجبهتين الإقليميتين. ورجع عن الجبهة الأولى مضطراً. وبقيت الجبهة الثانية التي "أحياها" الهجوم العسكري الإسرائيلي في 1982، ونفخ حياة مسمومة فيها. فأخرج منها الفلسطينيين "السنّة"، وأسلمها الى الشيعة الإماميين في لبنان، وعلى الخصوص في جنوبه، وإلى "راعيهم"، وراعي بلدهم ومحروميهم وإمامهم، السوري المدرع والرادع والراصد والمستطلع.
ومذذاك، والذراع المجاهدة أو الجهادية تخوض على الأرض اللبنانية حروبها على عدو مزدوج وواحد هو العدو الأميركي – الصهيوني، وتنتصر. والوجه الأميركي هو وجه نصير الشاه محمد رضا بهلوي، "المقبور" على قول الولي الفقيه الذي استبدل في بيانات "جهاده" البسملة المعروفة (بسم الله الرحمن الرحيم) بأخرى (بسم الله قاصم الجبارين)، وسنده الأمني والسياسي وحليفه، والمشير عليه في 1963 بإصلاحات كافرة مثل الإقرار للنساء بالحق في الاقتراع والترشح والنيابة وإعفائهن من إجازة الزوج أو الأب أو الولي حين السفر، إلخ. وهي حملت المدرس بحوزة قم على "الخروج"، وإعلان الثورة على الظالم الأجنبي وذيله الداخلي معاً. والوجه الإسرائيلي (الصهيوني اليهودي) هو وجه المحتل بفلسطين ولبنان والأردن وسوريا، ومصر قبلها، والغاصب والمجتاح والقاتل والمشرد والمقتلع... وتكفلت "الثورة الإسلامية بإيران" وهي الأصل والرأس، بفرعها بلبنان، ورعته رعاية الأصل الفرع، وحضنته حضانة الولي المولى. وعاهد الفرع الأصل على الولاء المطلق، وعلى "الجهاد" ومونه. وتحولت الذراع العسكرية والأمنية "مجتمع حرب"، ومجتمعاً نقيضاً، وولاية مقاتلة أو مَسْلَحَة، على قول عربي منقول عن مصطلح روماني يدل على التخوم المسلحة والمرابطة بإزاء الأعداء.
ولم تؤد الانتصارات المدوية والساحقة والمتعاظمة، من مهاجمة السفارات ومقار القيادات العسكرية "الصليبية" واليهودية واحتجاز "الجواسيس"، الى إجلاء المحتل عن معظم الأرض، وتحرير الأسرى في سجونه، واستدراجه الى حرب لم يبلغ فيها هدفاً واحداً من أهدافه المعلنة وأولها سحق الحزب المسلح ونزع سلاحه، والمضي على التسلح على رغم القرارات الدولية ومراقبة قوات الأمم المتحدة، والانقلاب على الأبنية السياسية اللبنانية التي تقيد انفراد جماعة أهلية واحدة بإدارة الدولة ورسم سياساتها وتحول دونه – لم تؤد الانتصارات هذه الى اطمئنان الجماعة الشيعية المسلحة، وجهازها المتغلب، الى مناعتها، وحضانة اللبنانيين إياها. فتفاقم الشقاق السياسي والأهلي. وذر التشكك والارتياب قرنيهما. وصار التلويح بالسلاح والقتل، وفرط اجسام الدولة المشتركة وهيئاتها، وقطع الطرق واحتلال الساحات، وشل دورة الحياة الاقتصادية واستدراج العدو الى جولات مدمرة، ميزانَ الحكم والتدبير "السياسيين". وانقلبت المشاركة في الحكم، وهي البرنامج الرسمي المعلن للجماعة المسلحة والمقاتلة، ترهيباً وعدواناً يومياً على الجوار، وحملات تأديب يومية على الأهالي. وانقلبت الأحلاف بين "الطوائف" عهوداً ومؤامرات ثنائية، وتكتلات مرصوصة لا يتطاول إليها نظر أو مناقشة.
فالتعريف الحربي والمذهبي، معاً، نصب الجماعة كياناً قائماً في نفسه، وقلعة محاصرة ومنيعة لا تؤتى إلا من داخل، على صورة حرب الثغور والرباطات والقلاع في كتب الحرب الإسلامية. فهي قد تُسمَّم مياه شربها وشفتها، أو قد يُدس الطاعون في بعض اللحوم التي تأكلها. وقد يستمال ويُشترى بعض ضعفاء النفوس فيها، ويغتال بعض فرسانها على حين غرة، على روايات وقصص صارت مجازات، ولا تنفك تفعل في النفوس وتنشئها. وليس عماد مغنية ومصرعه، وحسن نصر الله وتخفّيه، آخر فصولها. وتجدد القصص والروايات هذه، وتستأنفها، وتحملها على وقائع راهنة، إنجازاتُ تقنية، إلكترونية ورقمية، يتباهى الجهاز السياسي العسكري والأمني ببراعته في ميدانها. ورفعها الأصل الإيراني والفرع اللبناني على حد سواء علماً على التقدم والسبق العلميين، وعلى القوة المنيعة والمرهوبة. ويترتب الاستدخال، أو الإتيان من داخل، على القوة والمنعة. فلا تنفك ألسنة الجهاز ودعاوته الخطابية، على الشاشات قبل الإذاعات والبيانات المكتوبة، والمقروءة، تنفخ في الانتصارات الرائعة وتصور قدوم عصر جديد و "فجر" بكر، يعلو فيه علي خامنئي ومحمود أحمدي نجاد وحسن نصر الله وجنرالات الحرس الثوري وتلاميذهم المحليون "جورج بوش" و "البنتاغون" ونتانياهو وغابي اشكينازي وبريطانيا اللئيمة والمخادعة.

الوقت السياسي والعسكري
وفي دنيا المخاض الخلاصي وانقلاب العلامات، هذه، يختلط الظاهر بالباطن والباطن بالظاهر، فلا تعلم أخاك أم الذئب، على قول العرب في أوقات مترجحة بين الظلمة الزاحفة وبين بقايا النهار والضوء، ويلتبس فيها الخيط الأسود بالخيط الأبيض. وهذا الوقت سياسي عسكري واجتماعي وثقافي واقتصادي، معاً. وآياته الماثلة حوادث ايران القريبة، وجنوح أقرب المقربين الى مرشد الثورة، ونائب إمام العصر، من أمثال رفسنجاني ومير حسين موسوي ومهدي كروبي ومحمد خاتمي الى الكيد للثورة والإسلام وإيران ومراسلة الأعداء والتمهيد لهم. وفي لبنان نفسه، تتصل حلقات أخاك أم الذئب، من اغتيال رفيق الحريري وحمله على مقاتلي إسرائيل، الى شبكات التجسس والاغتيال المبثوثة في مواضع غير متوقعة في انحاء لبنان كلها. ويمتحن الوقت الجماعة المسلحة، ومجتمعها المحارب والنقيض، ويمتحن يقظتها وتنبهها امتحاناً عسيراً. فإذا أغضت جزءاً ضئيلاً من الثانية، في أي موضع من مواضعها، أو فرد من أفرادها، عاجلها العدو اللئيم بسمه وجرثومته وعبوته وذبذبة إرساله الأرضي أو الفضائي.
وجسم الجماعة المسلحة والخلاصية كله أهداف عسكرية ومشروعة، على حكم العدو و "شره المطلق". وهو لا يراعي حرمة مقاتل أو مسالم أو مستأمن يحسب انه يستظل قوانين دولية ومدنية ترعى التجارة أو النقل أو الأطعمة. ومشاهد حربه في غزة، قبل سنة قريبة، شاهدة إلى الأبد على همجيته المترامية والمرسلة. ونظيرها ومثلها حربه على لبنان، وتمثيله في الأولاد والرضع والآمنين في الملاجئ. والحربان زادتا العدو المهزوم والمكلوم، وهو يستشعر نهايته، ووهن بيته وانهياره، خبثاً ولؤماً وخفاء وجبناً. واغتيالاته، وغاراته على مختبرات زراعية يزعم انها تؤوي إنشاءات نووية، وتهديداته إيران الإسلام، وسوريا الصمود، ولبنان المقاومة، كلها قرائن على ارتباكه وإصابته بالهستيريا. ومن هذه حاله، لا راد له، لا من سياسة - وهو يحارب "حماس" ليحصد "القاعدة" على قول الرئيس السوري -، ولا من بصيرة - وهو يمزق شعبه ويستعدي أصدقاءه الأتراك -، ولا من أخلاق أو دين على ما يُرى في "الشتات" المتلفز والموثق.
وجماع الأفكار والأحكام والصور والبدائه هذه هو "ثقافة المقاومة"، على قول كبار مثقفيها، من معممي الجماعة المقاتلة وخطبائها "المدنيين" أيام الجمع والآحاد في الأحزان والأتراح الى سفراء الحليف المشكور. فلما وقعت الواقعة في ليل الاثنين الأليل والبهيم والكافر (الحاجب) لم يشك اهالي نحو الأربعين راكباً "جنوبياً"، وأهلهم الأقربون والأبعد فالأبعد، وشطر أعرض من اللبنانيين يتحدرون تعليلاً ونظراً في الحوادث من الحروب الملبننة واختلاطها، لم يشك هؤلاء في مصدر النازلة. وهجمت على عقول الأهل المفجوعين وصدورهم في "ليل النقع" هذا، حين "لا شمس ولا قمر" على قول الشاعر الأعمى بشار بن برد، رسوم الجريمة الواضحة. فالطائرة اثيوبية. وأثيوبيا حليف اسرائيل وأميركا على الساحل الشرقي من البحر الأحمر، وتنازع العرب والمسلمين، والحليف الإرتري، على باب المندب والسيطرة عليه، على ما جهر أحد رأسيي "قاعدة الجهاد في جزيرة العرب". والبحر الأحمر شريان متصدر في لعبة الأبحر الاستراتيجية الكبيرة (ربط بحر قزوين بالبحر الأسود والبحر المتوسط حول "محور" تركي – سوري، على ما قال الرئيس السوري مستقبلاً نظيره التركي صيف 2009). وهو ممر نفط وبوارج حربية وتجارة عظيمة وسلاح ومقاتلين، ورئة سعودية ومصرية وسودانية، ويصل حوض المتوسط ببحر العرب والمحيط الهندي، الى أمور أخرى لا تخفى قارئاً تقريبياً لخريطة تقريبية.
ومن أول أخبار غزيرة انتهت الى اهالي المنكوبين بأقاربهم خبر يتناول ربان الطائرة الأثيوبي. فقيل ان الربان، وهو واحد اثنين، انحرف عن الخط الذي أشار برج المراقبة القريب عليه بسلوكه الى خط آخر أودى به، وبالطائرة والمسافرين، الى التهلكة. وبعض الصحف أبرزت في عناوينها الأولى خبر الطيار الأثيوبي، وعلقت تحقيق النبأ على الصندوق الأسود، وانتشاله من لجة البحر الهائج والعميق. والتعليق هذا أوحى بربط مجهول وخفي بمجهول أشد خفاء، وأبعد غوراً. واتصل خبر الطيار الأثيوبي بخبر فرعي ذهب الى ان الطيار رفض إرجاء الرحلة، على ما اقترح عليه برج المراقبة، بحسب من أراد الظن الحسن في برج المراقبة، أي في الدولة. ومن ظن شراً وسوءاً في جزء الدولة هذا، وفي الدولة كلاً وجميعاً وهي دولة "تهجير" على قول مرجع علامة، ذهب الى ان برج المراقبة لم يقترح شيئاً من هذا القبيل على الطيار المغامر، في أحسن الأحوال، والمتآمر في شرها. واضطر البرج العتيد الى الرد من طرف خفي. فقال ان طائرة سبقت طائرة الخط الأثيوبي الى الإقلاع بخمس دقائق، وأخرى أقلعت بعد الطائرة العاثرة الحظ بخمس دقائق، ولم يصبهما مكروه.
وروى شاهد عيان، صادف أنه سوري، يقيم بأحد أطراف السكن القريب من المطار، انه سمع انفجاراً قبالة شاطئ خلدة، بين المطار وبين الناعمة التي سقطت الطائرة نظيرها، ورأى في الوقت نفسه "كتلة من النار تهوي في البحر". وكانت السماء ملبدة، والعواصف الرعدية والبروق تصم الآذان وتخطط السماء، على ما كتبت نادية تويني قبل نصف قرن. وصورت آلة تصوير أمنية في احد المصانع القريبة انفجارين ضعيفين سبقا اشتعال الطيارة. وباشرت فرق الإنقاذ العمل في الساعة 3.30 صباحاً. واستنجدت الحكومة اللبنانية بمن يسعه الإنجاد والإغاثة. فكانت إحدى قطع الأسطول الأميركي السادس والحربي، "يو إس إس راميدج"، الأسرع تلبية، والأقرب الى محل الحادثة.
وآذنت المصادفة هذه – وهي ليست مصادفة على وجه الدقة، فسفن وقطع الأسطول السادس، وبعض قطع البحريتين الألمانية والإسبانية منذ إقرار القرار 1701 وانتدابها الى مراقبة تهريب السلاح الى "حزب الله"، تجوب مياه المتوسط بين تركيا واليونان شمالاً وإسرائيل ومصر جنوباً – آذنت في الساعات الأولى بعيد الحادثة بتأويل محكم لا ثغرة فيه. ومفاد التأويل ان الطائرة هوت بصاروخ أرضي أصابها، أو فجرتها عبوة من داخل. وتذرعت قطعة الأسطول السادس المتربصة بالحادثة، وأسرعت الى الشاطئ وهو يؤوي مرفأ أو أكثر في إشراف وكلاء الحزب المسلح والمقاتل والمحاصر، تصوره وتراقبه وترصد أحواله. وبعد "راميدج" الأميركية، يوم الاثنين العتيد، جاءت قطع من "اليونيفيل" الدولية المعززة غداة صيف 2006 و "حرب" "الواعد الصادق"، وهي على هذا شريكة في حصار "المقاومة" و "شعبها"، وفي حماية إسرائيل منها، جاءت وشاركت الجاسوس الأميركي المتكاثر والمتناسل سفناً في التصوير والرصد والاستطلاع. وفي 9 شباط، غداة نيف وأسبوعين على الحادثة، اضطر وزير الإعلام الى القول ان قطع بحرية "اليونيفيل" لا تحتاج الى سقوط الطائرة ذريعة الى التفتيش المراقبة، فهي تؤدي المهمة هذه بموجب تكليف دولي طلبته الحكومة اللبنانية، وكان وزراء الجماعة المسلحة أشد المتلهفين إليه.
فقضى "أصحاب" الدولة، وهم اصحاب لقبها طبعاً، نهار الاثنين الكالح والكئيب في الرد على كهانة المتكهنين في اسباب نكبة الطائرة وقضاء ركابها المرجح. فقال رئيس الجمهورية انه ينتظر التحقيق قبل الجزم بعمل تخريبي، ويستبعد الى ساعتها مثل هذا العمل. ولا يزال وزير الإعلام، عشية الأسبوع الثالث، على الرأي هذا، على رغم بيان الشركة الأثيوبية. فعُدّ قوله "استباقاً" و "انحيازاً" و "تبرئة ذمة"، على قول أهلٍ ومراسلين ومتحاورين على الشبكة. ودفع رئيس مجلس الوزراء عدداً من التهم، الأولى ان الحادثة ما كانت لتحصل لو سيّرت شركة طيران الشرق الأوسط خطاً الى شرق افريقيا، ولم تنزل عن الخط هذا لشركة دولة "أميركية"، وحليفة العدو الصهيوني، طمعاً في الربح (وعلى رأس الشركة مدير سني من آل الحوت البيروتيين، اضطر قبل 8 أعوام الى صرف مئات من العاملين فيها لقاء تعويضات، إنقاذاً لها من تراكم العجز، وهو مذذاك محل تهمة وشبهة اقتصاديتين وإداريتين ومذهبيتين).
والثانية ان الدولة، "دولته"، تستعين بسفن غربية تُكره الاستعانة بها شرعاً وأخلاقاً وسياسة. وهو – أي سعد الحريري وبعض "وزرائه" مثل وزير الدفاع (وهو "وزير" رئيس الجمهورية) ووزير الأشغال العامة والنقل (وهو "وزير" الزعيم الدرزي وليد جنبلاط) – إنما دعاها الى الإسعاف بوحي من انحيازه وتأمركه ورأيه الضعيف في العدو الصهيو – اميركي، على قول لبناني سائر اقتبسه اسماعيل هنية قبل أشهر قليلة. وردد في 8 شباط، محاوراً الـ "بي بي سي" العربية، أنه لا يبالي بما تقوله "محطات التلفزيون" في انحيازه وميوله. ودفع وزير الأشغال والنقل، في اليوم عينه، عن نفسه تهمة مجاراة السياسة الأميركية، وتملقها، واستقوى بمواقفه "المعروفة" وآرائه في هذه السياسة. فالمؤامرة الغادرة والمنتقمة لم تمت فكرتها في الأثناء. وزادها استعاراً في هشيم الظنون، و "ثقافة المقاومة"، خبط البحث عن هيكل الطائرة، وأسراها وجثثهم المقيدة الى مقاعدهم، وعن الصندوقين السوداوين وعسر إخراج أحدهما، ثم إخراجه من غير الجزء الذي يدون "ذاكرة" المخابرات.


إعلام السدة
والحق ان الإعلام الكارثي والرؤيوي الذي تناول الحادثة المروعة، وخلى بين الظنون والتخمينات المفجوعة وبين خروجها مخرج أخبار الثقات وحديثهم، هو البث التلفزيوني الحي والحربي والجماهيري. وكانت الجزيرة القطرية أول من اختبر مثل هذا البث على نطاق كوني، غداة 11 ايلول 2001 مباشرة، بأفغانستان، ثم بلبنان وفلسطين. وربما سبقتها "المنار" الحزب اللهية، على نطاق أضيق في حزيران 2000، في أثناء الجلاء الإسرائيلي واستعادة الجماعة الأهلية وجهازها ما كان، الى الأمس، حزاماً وشريطاً. والإعلام المصور والحي يقضي بمباشرة التصوير والنقل والبث في اثناء حصول الحادثة من غير وسيط ظاهر. وعليه، انتقلت محطات التلفزيون اللبنانية، وبعض العربية، الى مسارح الحادثة، على الشاطئ نظير المواضع الحائرة التي ظُنت مهاوي الطائرة المحتملة. وهذه تنقلت مع قطع الطائرة المتناثرة، بين اللاذقية وطرطوس شمالاً وبين صور جنوباً. ومن الشاطئ راحت الى مستشفى رفيق الحريري الحكومي، حيث جمعت البقايا وأُجريت الفحوص، وإلى القيادة البحرية والدفاع المدني، وإلى مدافن التشييع والتأبين.
وتربع أهالي الضحايا في سدة الإعلام وصدارته. فهم "محاربو" الخنادق الأمامية، والممتحنون في لحمهم ودمهم، ومرآة مجتمع الحرب والنقيض، ولسانه الجهوري، وصوت مشاعره المتأججة والصادقة. وهم صنو أهالي غزة الفلسطينيين في اثناء حرب "حماس" والجيش الإسرائيلي، وصنو جماهير الشيعة اللبنانيين في اثناء حرب "حزب الله" والقوات الإسرائيلية، في مرايا المحطات التلفزيونية المقاتلة، شأن "المنار" و "الجزيرة" وغيرهما. ومثل هذا الإعلام يصدر الجماهير المصابة وحسب. فهو يجعل مصابها، وما تقوله في المصاب هذا ساعة قولها، معيار الفهم والشعور والحكم الأخير والقاطع. والشاشة، وتعليق المذيع، هما صورة المعيار الماثلة. ولا يقدح في هذا الزعم، ولا يطعن فيه، صدور من يتفجعون ويبكون ويصرخون عن آلامهم وخسارتهم، في المرتبة الأولى، وعن أحكام شائعة في أهلهم وجماعتهم، في المرتبة الثانية. والمصيبة، في الحرب أم في الكارثة الطبيعية، تجمع الأهل والجماعة على يقين عميق صنعته الاختبارات المشتركة، ورعته مصالح استقرت عليها اختبارات الجماعة ومنازعاتها وغلبة من غلب عليها.
ويستقوي الإعلام "الحي" – وصفته المزعومة هذه يراد بها نصبه نقيضاً لإعلام ميت ومعلب على شاكلة إعلام السي إن إن في حرب الخليج (العراق) الثانية أو إعلام المراسلين المرافقين وحدات أميركية مقاتلة في غزو العراق قبل 7 أعوام – وهو إعلام مباشر وخام، يستقوي بحضور وجدان الجماعة الأهلية، ووجدان الضحية، حضوراً صارخاً هو (يفترض) صوت الحقيقة المدوي والعميق. ويترتب الرأي المفحم والبديهي هذا على رأي سابق مصنوع ومغرض. فهو ينسب ما يقوله المنكوبون، كانوا منكوبي طائرة هوت في عاصفة أم منكوبي قصف بالقذائف الفوسفورية في عملية حربية مدبرة، الى الحقيقة. وتصح هذه النسبة وتسري ما اتفق قولهم الواحد والمجمع مع آراء جهاز قوة منفرد بالسيطرة والسلطان. ويزعم الجهاز على الدوام، في إيران الحرسية ولبنان "المقاوم" وسورية الأسدية وفلسطين الحمساوية والعراق الصدري وغيرها طبعاً، انه صورة الجماعة الأهلية، وأن سلطانه الأمني والإيديولوجي الخطابي هو روح الجماعة وصدرها وذراعها. فإذا لم تجهر الأصوات الوجدانية هذه "الحقيقة"، ولم تجهرها وحدها، عمد الجهاز الى خنق الأصوات، وإطفاء الصور والشاشات، وإبطاء الشبكات، وقطع المراسلة، وحجب المواقع، على ما يختبر الإيرانيون والسوريون وغيرهم اليوم.
فحمل المشاعر الملتاعة في أوقات المصائب والنوازل، صدفة أم تدبيراً، على حقائق السياسة "الموضوعية"، وتعمد إغفال "الثقافة" التي تصدر عنها المشاعر والأحكام، والتدليل بها على صدق رأي وقول وشعور تحقق المذهب السياسي الذي يرعاه جهاز أمني ودعاوي مدبِّر ومتسلط – هذا كله من أسلحة حرب إعلامية كثيرة الجبهات. والحرب الإعلامية هذه، شأن الحرب السياسية (الأهلية والعصبية)، والقتال بالسلاح، حرب غير متكافئة. وهي تُشن على عقول الجمهور ومشاعره، وعلى السياسة المدنية والوطنية وعلى مداولاتها وهيئاتها ومنازعاتها وانقساماتها المعقولة. وما ترسخه هذه الحرب هو نظام عبودية إرادية تضرب بجذورها في "أعماق" النفوس ودواخلها.

الاثنين، 8 فبراير 2010

لبنان الواحد مسؤولية الدولة والحركة الاستقلالية ولبنان «المقاوم» ريعه إقليمي

الحياة، 8/2/2010

 كرر رئيس مجلس الوزراء اللبناني سعد الحريري، في معظم عواصم جولته الديبلوماسية الأولى، أن مهاجمة القوات الإسرائيلية جزءاً من لبنان، منطقة جغرافية أو «جماعة»، عدوان على لبنان كله، وعلى الدولة اللبنانية. ورحب بعض أعيان «المقاومة الإسلامية (الشيعية)» بما حرص الحريري على إعلانه بباريس والقاهرة، على وجه الخصوص. وهو استدرج البلدين المضيفين الى تزكية الإعلان والموافقة عليه على نحوين مختلفين ومتفاوتين. فتحفظ وزير الخارجية الفرنسي، على خلاف نظيره المصري، عن احتمال جر السياسة الإيرانية لبنان الى نزاع عسكري في معرض طمأنته اللبنانيين الى استقرار الحال على حدودهم الجنوبية.

والحق أن مديح قادة المنظمة الشيعية المسلحة مقالة رئيس الحكومة في صفة عدوان إسرائيلي جائز على الأراضي اللبنانية والمجتمع الأهلي، وترحيبهم بها، لا يبطل التباس الموقفين، ولا ينفيه، ولا يوضحه. فما ذهب إليه رئيس الحكومة هو أن الدولة اللبنانية، أرضاً وشعباً ومؤسسات، «واحدة لا تتجزأ» على قول الفرنسيين في جمهوريتهم، وقول دساتير الدول كلها في دولها. وينص الأصل الدستوري والسياسي هذا على اضطلاع الدولة الوطنية بصلاحيات الوحدة الواحدة ومقتضياتها، من احتكار التشريع والديبلوماسية والحرب والإدارة والجباية العامة، وعلى قيامها بواجباتها، وهي حماية حقوق المواطنين في الأمن والحريات والاحتلال، لقاء الاحتكار الأول ونظيره. وعلى قاعدة الوحدة هذه، وبناء عليها، يساوي العدوان على جزء من أراضي الدولة، وعلى بعض مواطنيها، العدوان عليها كلها، وعليهم كلهم. ويقر مجتمع الدول، والدولة الوطنية (اللبنانية) أحد «أفراده»، تالياً بصفة العدوان العامة على الدولة، ويساوي مهاجمة الجزء بمهاجمة الكل السياسي والحقيقي والمعنوي. فإذا أعملت الدولة الوطنية حقها في الدفاع عن مواطنيها وأراضيها، بالسلاح والقتال أو بالمقاضاة والاحتكام الى الهيئات الدولية أو بالاثنين، ساند مجتمع الدول إعمالها حقها، وأيده، ومد الدولة المعتدى عليها بوسائل الرد الديبلوماسية السياسية والمادية العسكرية والاقتصادية. وتعهدَ أداءَ الدولة وظائفها، أي مزاولة صلاحياتها وقيامها بحقوق مواطنيها.

وما يذهب إليه رئيس مجلس الوزراء يُلزمه به، وبالذهاب إليه وقوله، المنصبُ الذي يتولاه على رأس مجلس الوزراء، وتعريف المنصب في الدستور، من وجه أول. ويقضي المنصب بتمثيل مصلحة الدولة وشعبها، والسيادة والوحـدة يتقدمان المصلحة، وهما شرط إنفاذها. وتلزم السياسة، من وجه آخر، من يتصدى لرئاسة الحكومة استمالة الجماعات الجزئية، ودمج مصلحتها وحقوقها الجزئية الى الدفاع عن نفسها، إذا خصها العدو بالهجوم، بمعزل من الجماعة الوطنية الواحدة. فلا تتذرع بأمنها، جماعة وأفراداً، الى التسلح وإنشاء المعاقل والمحميات والمعازل. ولا تتذرع بانتهاك السيادة الى الانتصاب محامية عــنها، ورادعة العدو، وحدها. وتبني على الذريعة هذه سياسة خارجية منفردة، ومفهوماً للأمة يترتب عليه هدم الدولة الوطنية.

ويتجاوز موقف سعد الحريري، والتزامُه تعريف الدستور لدوره وموقعه وموجباتهما، الوقائع السياسية والاجتماعية والأمنية القائمة والغالبة، ويغضي عنها. فما ينبغي أن «يشتريه» التزام السيادة والوحدة الوطنيتين، وهو ترك «المجتمع الخاص»، «المقاوم»، التسلح وملحقاته وتخليه عن الشقاق الأمني والأهلي على الدولة، لا يرى «المجتمع الخاص»، أي جهازه المتمكن، أنه يستحق المقايضة. فهو لا يساوي النزول عما يحسب أنه يتمتع به من حصانة ومكانة سياسية داخلية، ودور إقليمي، يقاسم «حلفاءه» وأولياءه ريوعها وعوائدها. فالتعاقد الذي تنشأ عنه الدولة الوطنية، ويعوض احتكار الصلاحيات بتعهد الحقوق والقيام بها، يُعلن الجهاز الشيعي المسلح على الملأ تحلله منه وانتهاكه وطعنه فيه (مقالة: «اعملوا» دولة أولاً ثم «نفاوضكم»). ويماشيه «مجتمعه الخاص» عموماً على تحلله وانتهاكه وطعنه.

والحجة التي يؤيد بها خروجه على الدولة الوطنية تستند الى جملة الوقائع والحقائق اللبنانية والملبننة المشهودة، والمترتبة على ضعف الدولة الوطنية والمدنية، وعلى دوران عوامل الضعف في دائرة مفرغة، تفاقم السياسات العربية والإقليمية دورانها وتفريغ دائرتها. والجهاز الشيعي المسلح، وارث الحروب الملبننة وعواملها وقواها، لا يقتصر على جملة الوقائع والحقائق، ويتعداها الى الطعن في أركان الإنشاء السياسي والدستوري الوطني، وفي أصول الإنشاء. فحال تأليف الحكومة، وجمعها القوى المتناثرة التي جمعتها، وإقرارها بياناً متداعياً يساوي الأصل الجامع المفترض (الشعب) بفرع أهلي جزئي («المقاومة») ويقدم الداعي السياسي الموعود على الموجب الدستوري الصريح، تولى أحد وكلاء الجهاز العتيد تحريك الطعن التقليدي الأول في كيان الدولة اللبنانية، وهو «الطائفية السياسية»، على تعريفها العروبي الاثني. وثنّى بمسألة تخفيض سن الاقتراع في الانتخابات البلدية الوشيكة الى سن 18 وإشراك نحو ربع مليون ناخب فيها فوق ثلثيهم من الطوائف الإسلامية. وفكَّ المسألةَ هذه من مسألة قرنت على الدوام بها، هي تسجيل المتحدرين من أصل لبناني في سجلات الناخبين.

ويتناول الأمران المتصلان، الطائفية السياسية والقيد الانتخابي البلدي فالنيابي، الأصل السياسي والدستوري الوطني. فهما يتطرقان الى تعريف أطراف التعاقد وهويتهم، ويزِينان الأطراف هذه في ميزان العدد «الديموقراطي».

ولما كان المسيحيون اللبنانيون أقلية عددية منذ نشأة الدولة اللبــــنانية في 1919 - 1920، فالعودة المستمرة الى الخلل العددي ترمي الى التشكيك في «حكمــهم» الدولة، وفي تعريف أركان ســـياسات الوطنية. وركن السياسات الأول هو الاستقلال والسيادة. والاستقلال والسيادة في الإطار والمصطلح اللبناني، وفي ضوء تاريخ لبنان السياسي والاجتماعي ومنازعاته، يحملهما الشطر «العروبي» (وهو اليوم غيره بالأمس) على الانفصال عن «سورية» أسطورية وغير تاريخية، يمثل عليها ساستها وأجهزتها وعصبيتها الأهلية المفترضة («قوميتها»)، وليس نظامها السياسي أو ميزان العلاقات بين مواطنيها وكتلها وما يصنعون وينجزون بواسطة الميزان هذا.

ويُخلص من التنويه المزمن بخلل ميزان الطوائف العددي الى الطعن في استقامة سياسات تنهض على الاستقلال والسيادة والمصالح الوطنية، وتنسب الى «المسيحيين»، والى منازع مسيحية هي على الدوام «انعزالية». فالتحفظ عن التسلط السوري الحزبي والأمني والريعي (بالأصالة والوكالة)، وعن «حل» الدولة اللبنانية واللبنانيين في التخيير السوري العروبي والمذهبي بين إسرائيل وبين «العروبة» (أو «المقاومة» منذ بعض الوقت)، يفسر انحيازاً الى الصهيونية، أو تصهيناً وتأمركاً، وقبل أشهر قليلة سعودة. فما تنكره «العروبة» السياسية والبوليسية على الدولة اللبنانية المستقلة، اليوم، هو «عملها»، ودوام هذا العمل ولو متعثراً، من غير حاجة الى انفراد جهاز عــسكري وأمني حزبي بإدارة الدولة، ومن غير اضطرار الى حال طـــوارئ مقيمة تفتح الباب على مصراعيه بوجه التعسف والقهر والإذلال من غير قيد. والحال اللبنانية هي ثمرة اشتراك المجتمع، طبقات اجتماعية وجماعات أهلية متنازعة، في تعريف الدولة أولاً، وفي إدارتها المقيدة ثانياً. وإدارة من هذا الطراز لا يسعها اعتزال مجتمعها وقواه المتفرقة والمختلفة، طبعاً، ولا يمكنها اعتزال المجتمع الدولي وقياداته وهيئاته وتحكيمه، على تضاربها وذهابها مذاهب شتى.

وينسب العروبيون، السابقون واللاحقون، اشتراك المجتمع في إدارة الدولة، وفي تعريف نظامها وسياساتها، الى المسيحيين اللبنانيين. ويحملونهم، تالياً، المسؤولية عن ضعف عصبيتها العروبية، وعسر التسلط عليها، وعلى مجتمعها وجماعاتها، تسلطاً بوليسياً «جامعاً». وهذا صحيح على أكثر من وجه. ولكن تعليله وتأويله السياسيين والأيديولوجيين، على النحو العروبي، تضليل خالص، وافتراء محض. وهما، التعليل والتأويل، مرآة مشكلات النظم السياسية والاجتماعية العروبية فوق ما هما مرآة «النظام برمته» (على قول الرئيس السوري الى الصحافي الأميركي «العروبي» سيمور هيرش). فالعصبية الأهلية العروبية، المزعومة «قومية»، «ممانعة» و «مقاومة»، هي وليدة الافتقار الداخلي الى مجتمع فعلي ناهض ومؤثر، وثمرة سحق الجهاز الحاكم القوى الاجتماعية وتعقيمها وتخويفها. فلا تقوم قائمة لمجتمع من غير الإقرار بافتراق مصالح جماعاته وطبقاته وفئاته، وبجواز المنازعة على تعريف المصالح الجزئية والعامة المشتركة. ويترتب على افتراق المصالح وجواز المنازعة عليها، وتمثيلهما (الافتراق والمنازعة) في هيئات الدولة، صوغ وطنية مركبة ومقيدة بكثرة المصادر التاريخية.

ولا يتفق هذا مع الفكرة «القومية» الفجة والفظة والخاوية التي يعتقدها «الجهاز» السوري، ويروج لها، ويختصرها أنصاره وصنائعه، اليوم، في «المقاومة» والأعمال العسكرية والعمليات الأمنية، هنا وهناك. وأنشأ الجهاز العتيد في أثناء عهده اللبناني الطويل جناحاً لبنانياً أوكل إليه الانقلاب على المركب السياسي والاجتماعي اللبناني. وألصق بهذا، من غير مزاح (في ضوء هوية الجهاز و «طبيعته») وصمة الطائفية. وستر، هو وأنصاره وصنائعه، بالوصمة هذه استبداده وهشاشته وعزلته ومراوحته. فيحارب الجهاز «الطائفية السياسية»، أي المركب السياسي والاجتماعي الوطني، بعوام المذاهب، وبجماعاتها المعدمة، وبعصبياتها المنكفئة والمستميتة. ويرفع أعلاماً عليها «سياسيين» من الطراز المعروف، وموظفين وحواشي «يرفعون» نواباً ووزراء وإداريين وإعلاميين. ولعل تسليح «المقاومة الإسلامية»، وتحزيب شيعة لبنان وتعصيبهم، هو ذروة «الموازنة» والاختصاص والطعن. ففصل «المقاومة» الشيعية من الجسم اللبناني، وتخصيص طائفتها المذهبية بالتمثيل على الركن المزعوم الذي ينبغي أن تنهض عليه الدولة وتستوي، يراد به تصديع المركب السياسي والاجتماعي، وبخس الوطنية التي نشأت عنه وإبطالها.

وبينما يدعو أحد وكلاء الجهاز المحليين الى «إلغاء الطائفية السياسية» وخفض سن الاقتراع في الانتخابات البلدية الوشيكة الى 18 سنة، يشن بعض فروع الفروع حملة دامية على المنظمات السياسية المسيحية التقليدية. ويخصون بعض أركان الحركة الاستقلالية، سمير جعجع وأمانة «14 آذار» (مارس)، بحملتهم على «عودة الظاهرة الانعزالية»، على قول عميد ركن «لحودي» و «مرابط». وينثرون المنظمات «الناصرية السنّية» على المدى اللبناني. ويوكلون إليها، وإلى نظيرها الدرزي، تحقيق كلام الرئيس السوري. ويجددون نصب «القضية الفلسطينية» محوراً يختصر السياسة والدولة. وينتهون من هذا الى وحدانية «المقاومة»، والبناء عليها عصبية جامعة ومانعة ومنكفئة. فيلوح بها ساسة إيران وساسة سورية على حد واحد، وينسبونها الى «ولايتهم» أو «قيادتهم»، والى تمويلهم وتسليحهم وأجهزتهم. ويشنون بواسطتها حروباً ترتب على من يطَّرحونهم من «القومية» الدمار، والتضامن غير المشروط معهم. وهذه الحروب الإرادية أو المختارة سلاح ماضٍ بيد الجهاز العصبي والبوليسي المتسلط، وبيد «طبقته»، على المعنى الاجتماعي. وهي وسيلة قاطعة في الاستيلاء على السلطة «الواحدة»، على نحو ما هي حجة راجحة، ولا ترد، على بقاء السلطة بيد المستولين عليها. وهم، على ما يظهر أكثر فأكثر، لصوصها.

الخميس، 4 فبراير 2010

معرض لوحات ريم الجندي "رجال" في غاليري جانين ربيز

تحريف ومراجعة وتركيب وتوليف تهب على الورد والرماد معا
المستقبل 31/1/2010

فيما يشبه تمريناً على النظر والفهم معاً، أي على النظر الفاهم والجامع الحس والشكل والحادثة في معنى مدرك، أحاول وصف اللوحة الأولى في معرض ريم الجندي، "رجال" (غاليري جانين ربيز ببيروت، 6- 28 كانون الثاني 2010). وحالَ كتابةِ ما أحسبه شرحاً أو بسطاً لمعنى أريده، بدا لي أنني أحاول عبثاً وما لا طائل من ورائه. فالنظر لا ينفك من الفهم، والحس لا ينتفي من الصورة والحادثة اللتين يأتلف المعنى منهما ومن مادتهما المحسوسة. وإذا حصل خلاف الأمر هذا، أي إذا انفك النظر من الفهم واستقل الحس من الصورة والحادثة، فهو قرينة على خلل واضطراب فادحين. ويقود التمثيل على هذين الى الاعتلال العصبي والدماغي، أو الى اختبارات التفكك والتحلل المهلوسين بواسطة الأعشاب ومركبات الحبوب الصيدلانية، وإلى ضرب من "العلم من طريق الهاويات"، على قول أحد أهل هذا "العلم".
ولا يحملني إدراك اختلاط النظر بالفهم والفهم بالنظر اختلاطاً لا فكاك منه إلا في بلاد الهاويات والهلوسة والأهومة، على ترك التمرين المزمع او المحاولة. فرائي اللوحة، وهي "سوبرمان"، طرف خيط اللوحات الأربع والعشرين المتصلة، يدخلها كالداخل أو النازل في سرداب مظلم ومتعرج، وعليه ان يلتمس طريقه فيه بيديه وقدميه وجسمه كله وعينيه الكليلتين ولهاث نَفَسه، وباجتهاد ذهنه وكده على وجه الخصوص. فإذا نقل قدماً نقلة ضئيلة، ووازنها بتوتر ذراع وشد رقبة ورفة جفن، كان عليه ان يستدرك على هذه كلها بقولها في سره، وتدوينها في مدونته السائلة والمليئة بسمك الكلمات والجمل وتراكيبها. فالفعل، بهذه الحال، لا يتماسك ويستوي شيئاً يعتد به، إلا بقول يقوله ويسدد خطى ملتمس الطريق في السرداب، ويكون خيطه في العتمة.

صورة الصورة

والكلامُ على عتمة وسرداب بإزاء "سوبرمان"، ولوحات أخرى "تشبهها" مثل اللوحة الثانية في الترتيب (نار) والثالثة (درس صيد) والعاشرة (في خطر) والرابعة عشرة (مصارعون)...، لا يناسب الحال. فمعظمها يغشاه ضوء صريح ومبين، والصور والأشكال هندسية. والألوان إما قانية صارخة الحمرة أو الزرقة أو الخضرة أو المذهَّب أو البني أو الأسود وإما رائقة بائخة ومتربة. ويبدو ترتيب أجزاء اللوحة، ما عدا قلة قليلة لعل أبرزها اللوحة 23 (ساكن الشقة، أو المقيم) ساذجاً بسيطاً وحكواتياً، أو مروياً على رسم قَصَس الحكواتي الواضح والمباشر. وقد يكون هذا صحيحاً للوهلة الأولى، ولكنه لا يتماسك في الاختبار.
فسرعان ما يلاحظ الرائي الى "سوبرمان"، اللوحة، ان ما خاله من بعيد تقليداً سيئاً أو تقريبياً ومدرسياً لملصق دعائي، أو "بوستر"، لا تستقيم رؤيته على هذا الوجه وهذه الحال. فما تدعو اللوحة الى النظر إليه، وتقرير حضوره والصدوع به واستقباله، ليس سوبرمان، "الشخص" المفترض والقائم قبل الصورة ووراءها والمقيم على وجوده خارجها. ويصدق هذا في حال سوبرمان، المتخيل وصنيعة الصور والكلمات والأخبار المنحولة، شأن التأنيث (اللوحة السادسة) وبعل (اللوحة السابعة عشرة) على نحو ما يصدق في صياد "درس الصيد" أو في الشاب المتوسط لوحة "في خطر" أو في "العزيز أندي" (اللوحة الواحدة والعشرون). فما تدعو اللوحة، جهاراً، الى النظر إليه هو صورة الصورة، أو تقليد الصورة، السيئ والتقريبي والمدرسي، على ما تقدم القول للتو. وهي تدعو الى هذا، وتقرّ به على ما أزعم، لأن موضوعها، أو مدار اللوحة وما عليه مبناها ومناطها، ليس سوبرمان، ولا ملصقه المعروف والمشهور.
واللوحة إنما تستقبل مشخص سوبرمان، وتصوره على شاكلة المشخصات والمجسمات الخشبية أو البلاستيكية التي تنصبها دور السينما على أبوابها، وتتوسلها مطية الى التقريب والترغيب ليس إلا. فلا تجتهد في دقة التصوير، وفي تجميل الألوان ومناسبتها بعضها بعضاً. فتتعمد (اللوحة) إخراجَ نظرة سوبرمان من إطار اللوحة، وحرفَ جسمه وقبضتيه وتوثبه، أو "طيرانه"، عن الإطار. فكأن سوبرمان ليس في اللوحة، أو كأنه لم يُرسَم لها ولم تعد لإيوائه وحضانته، وهو يمر بها في طريقه الى فضاء آخر أو سماء أخرى. وفي الأثناء، لم يمسِ سوبرمان وجوداً أو مَكُوناً في نفسه، سابقاً مشخصه وصورته، ولم يفارق مثاله المتخيل والمرسوم من غير عناية. ولكن بث سواد مطبق في العينين الواسعتين والبارزتين والمستكينتين، وإخراج النظرة من تقابل الرائي و (إطار) اللوحة، ومن دائرة التقابل أو التناظر المشتركة والجامعة، والانحراف بالجسد كله وحركته عن مدار اللوحة المتوقع – هذا كله يشكك في استواء اللوحة على الشكل الذي تدعيه وتحاكيه، أي شكل "البوستر".

تشبيه

وعلى حين يحضر سوبرمان في آلائه السلعية التامة – الشعر الأسود الفاحم والمصفف، والقسمات القوية، والجسم المنحوت، واللباس الأزرق اللصيق، و "الجناحان" الحمراوان القانيان – ينم الوجه البني النوبي والنحاسي اللون بـ "معنى" غير المعنى الذي بادر إليه الذهن أولاً. ويخرج الوجه الى القسمات، وتستوي القسمات قسمات وجه "إنسي" أو صفحة عبارة إنسية، من طريق الضوء. فالأبيض المشع هو ما يرسم ملامح الوجه الناتئة، واستواء الخدين، واستدارة الوجه، وغضون العنق. وعلى شاكلة سواد العينين، تنم القسمات المضيئة بكمون ممسك وأليم. ويفاقم الكمون، وإمساكه وألمه، ثبات جسم "الرجل". فالإنسان الطائر، أو بساط الريح على صورة امرء، أو جني القمقم والفانوس السحري في خلقة راقص او "جغل" أميركي، يُشبِّه الطيران، في اللوحة، من غير ان يحاكيه أو يقتفي على رسمه وحركته.
وليس ذلك لأن الحركة ساكنة، على قول يشبه قول المتنبي عرضاً، أو لأن اللوحة تقصِّر عن نفخ الحركة وتشبيهها في الجسم. فالسكون يصيب العينين والنظرة وقسمات الوجه قبل ان يحل الجسم، ويتخذه لباساً ويملأه. فهو، أي السكون، حال سوبرمان منذ ان كان، شأن المحرك الأول المعلق في وسط السماء اليونانية، ومدير حركات كواكبها التامة الاستواء. وأزرق اللباس البحري والملكي، وهو لون لباس الجسم اللصيق، ثقيل ثقل المحيطات وقيعانها، وموحش وحشتها. والجناحان الحمراوان أجنحة متهدلة ورخوة. فإذا بأيقونة الطيران الخاطف السينمائية، ومصارع الظلم القاهر، والعاشق الأبولوني، يخسر فضائله الساذجة والباهرة، ويخلعها ويخرج منها الى آلام وصدوع وكسور وأزل لا قرار تقر عليه وتفيء إليه، على شاكلة لوحة وإطار وحيز.
و "يطير" سوبرمان هذا في فضاء أبيض يشبه صباحات أرتور رامبو المشعثة بالأصفر و "وسخه" وعروقه المتناثرة. وهذا ليس فضاء طيران وتحليق. فهو مترب وأغبر. ولا تجلو الملائكة التي تحوط سوبرمان، من غير انعطاف إليه ولا ميل ومن غير دراية أو علم منه، لا تجلو الفضاءَ سماء مضيافة، ولا افقاً عريضاً. وهي ملونة ألواناً تشخيصية، مذهبة وكحلية وبنية وزرقاء لازوردية وزهرية. وبعضها، وعددها خمسة ملائكة "يسحقها" سوبرمان، ويحجبها ويدير لها ظهره من غير ان يستقبل وجهه غيرها. وهي لا تحفه فعلاً، وتحاكي "حركته" محاكاة تقريبية تكاد تكون ساخرة ومهلهلة.
وسوبرمان هذا ليس وحده في "محنته"، أو ما قد يستشعره الرائي محنة مولودة من احتفال طفولي و "شعبي" معاصر. ولا تولد المحنة، إذا جازت العبارة أو الكلمة، من جوار الصورة الدعائية السلعية الحديثة (سوبرمان) والصورة الدينية الآبدة (الملاك)، وحده. فلا ريب في تعمد بعض اللوحات تقريب مثالين خياليين متباعدين، زمناً ودوراً ومصادر، ومتمازجين في الحاضر، وقت المعرض ورسم اللوحات، ويحذوان على رسم مجرد حسي وذهني، مشترك. وعلى هذا، تقرب لوحة "درس الصيد" الشاب المستقيم القامة، والخارج من لوحة إعلان عن ماركة جينز أو تي شرت أو نظارات شمس، من صيد إنس ما قبل التاريخ الأيلَ وحمارَ الوحش والثيران، على نحو ما تُرى هذه على جدران مغارات لاسكو. وكأن الرسم المجرد والمشترك هذا لا يستوفي التقريب "الساخر" والفظ، والمهين (على تردد في اختيار اللفظة هذه)، تفرد اللوحة السدس العالي من مساحتها، على قاع أحمر مخملي ومخطط منقطع من خمسة أسداس "اللوحة" التحتية، الى تمثال صياد مذهب عارٍ وأقرع.

جناس وطباق وتكذيب

و "تجاور" لوحةُ "المخطوطة"، الثانية عشرة في الترتيب، فرساً رأسها رأس امرأة تسبح في سماء ترصعها 13 نجمة خضراء، في الشطر الأعلى، وخمسة دراجين. ويجتاز هؤلاء (شطر) ثلثي اللوحة السفليين، ويقتسم اثنين منهما داخلُ اللوحة وخارجُها، واثنان كلاهما داخل اللوحة بينما غادرها، أو يغادرها دولاب دراجة خامسة. وتنساب حركة الدراجات والدراجين صوب الوجهة التي تُقبل عليها الفرس المجنحة والمشتبهة الوجه والقسمات. وإلى مثال الطيران المشترك في "سوبرمان"، ومثالِ "معنى" الصيد الجامع، في "درس الصيد"، ووجهة الحركة الواحدة في "المخطوطة" – وهذه كلها تجانس مثالات متقاربة وتقرنها الواحد بالآخر، وتطابق زمنين ومخيلتين – تعري لوحة "العزيز اندي" الرسام السيريغرافي والبوب الأشهر على قاع سيريغرافي خلفه من 4 صور × 4 صور. فتردد "حداثة" الصورة المكررة والناتئة، والمتصلة اتصال جملة (سيري) واحدة أو متشابهة، "قِدَمَ" صاحبها الآبد، أندي وارهول.
والوجه الأول هذا يقتصر على جناس وطباق بلاغيين وتقنيين، ولا يتعداهما. وهو الوجه المباشر و "الهاجم" على الرائي، على قول الجرجاني صاحب "أسرار البلاغة". وقد يقود هذا الوجه الرائي الى الظن في ريم الجندي، ولوحاتها، توسلاً دعائياً وبوسترياً، واروهلياً، بالشبه الصُوري والشقة الزمنية الى ايحاء ضرب من التأويل الباطني والرمزي، الأورفي أو الغنوصي أو الإمامي أو اليونغي (من كارل يونغ) أو "القومي" الأصولي الفاشي والنازي، لمعاني التخييل وصوره "الكبيرة". ويغفل الظن هذا الرسم والتصوير وعملهما. فلوحات "رجال"، ما مر الكلام عليه وما لم يمر، وعلى شاكلة "سوبرمان"، تعالج القرب والبعد، والجناس والطباق، معالجة تحريف ومراجعة وتركيب وتوليف. فلا تسليم للصور والشارات والعلامات لا بمزاعمها الزمنية، أي المزاعم التي تحملها عليها ثقافتا الأصالة والحداثة، ولا بشبهها الشكلي والصوري، ولا بقوتها التخييلية المفترضة.
وتُعمِل معالجة التحريف والمراجعة والتركيب والتوليف في ما تتناوله فروقاً داخلية تنكر على ما تتناوله هويته، أو استقراره على "نفس" واحدة مجتمعة ومتصلة. فالصياد المنتصب في تي شرت وجينز تترجح زرقته بين الأزرق البحري وبين الأزرق المَلَكي، ويشد وتر القوس والسهم الى الخلف، تكذب النظارتان السوداوان والضريرتان صيده ووتر قوسه وسهمه جميعاً. فهو ملصق على شاكلة مشخص. وتصويره يُحضره "اللوحة"، ويقحمه عليها، أو على وحدتها الإطارية المحض، حضوراً وإقحاماً لا يشك الرائي في افتعالهما، وفي محاكاتهما الفارغة، على قول أندي وارهول في طوية نفسه أو "تجربته الداخلية"، أصولاً أولى لا تقل فراغاً وهندسية عن صورها وأصدائها المولودة منها افتراضاً. ويتوسط مشخص الصياد الفائت، وفوته قياساً على قوسه وسهمه، والمعاصر، قيافة ولباساً وتركاً للعبارة، قاعاً خلفياً ليس بينه وبين مجسم الصياد رابط محسوس يصل وضع الصياد وألوانه بـ "إطار" يحفه ويحوطه. والرابط المعنوي، الصيد أو القتل، لا يخفى من غير شك. ولكن اللوحة تمعن فيه تقطيعاً وفكاً وازدراء فلا يبقى رمق فيه. ومن يوجب هذا الرابط، شأني أو غيري، إنما يوجبه نزولاً على "ثقافة" مدرسية أو تلفزيونية خاوية.
وعلى مثال صورة الصياد البوسترية والدرامية معاً، وهي يكذب بعضها بعضاً وينكر بعضها بعضاً، لا تذكِّر الطرائد الدامية والنازفة بالصيد القديم على جدران المغاور إلى على وجه بوستري كذلك. ويقتصر التوارد والتناظر على الفكرة المتداعية على نفسها. فهي، على خلاف مثالاتها الأصلية، تخففت من نواة الأصل الثقافي، أي من الحركة المتوثبة. وهي تحوط الصياد، المنصرف عنها وعنا وعن "اللوحة" ليس الى شأن يخصه، على نحو ما تحوط زينة مرتجلة "موضوعاً" مقحماً عليها، فترد الزينة الجوابَ بمحاكاة رديئة تشبه إقحام الموضوع، وانتصابه لمحل لا يدعيه. وتتبدد الزينة في جلوس من غير عرس، وفي تيه صحراوي من غير واحة ولا سراب. ويقوي الشطر الثالث من "اللوحة"، وهو الشطر "الأول" ابتداء من فوق ونزولاً الى تحت، النازع الى التناظر والتوارد الموضوعيين، وإلى الإيهام بوحدة الموضوع (الصيد)، فيما هو يزيد "اللوحة" انقساماً، ويفاقم بعثرتها المادية الحسية، اللونية والمكانية والزمنية الثقافية.

أول من غير مرتبة

والقول أو الزعم ان ثمة شطراً ثالثاً في اللوحة، على ما تقدم للتو، ثم الاضطرار الى التنبيه الى معيار الترتيب (من فوق الى تحت)، ينبهان القائل الى ان "اللوحة" لا تنفك تشكك في تماسكها ووحدتها واتصالها بينما هي تقوم على افتراض التماسك والوحدة والاتصال فرضاً مادياً، قماشياً إذا جاز القول، لا فكاك منه. وينقض الترتيب المعنوي والصُوري الشكلي، ومعياره بناء المرئي على تقدم صورة بارزة "هاجمة" على النظر وتخلف قاع خلفي متوارٍ ومنكفئ، ينقض الترتيب هذا معيار النزول العددي من فوق الى تحت. ولا يسع الرائي الى "اللوحة" التملص من الترتيب المعنوي والصوري: فلا يشك في تقدم الصياد المفترض، او مجسمه، ما يراه من أشياء "اللوحة"، وترتيبه موضوعاً أول. ولكنه لا يلبث ان ينتبه الى ان معيار الترتيب هذا، وهو من بدائه الحس والفهم (الحس الفاهم)، لا يستقيم في مثل هذه الأعمال. فالصياد بارز وأول من غير شك، ولكنه "أول" من غير مراتب، ولا ثاني له أو ثالثاً.
فالقاع الخلفي والمتواري "وراءه"، ليس قاعه هو، ولا قاع غيره. والنظر القريب إليه، الى المفترض قاعاً خلفياً، يميز محلاً ملوناً ومضيئاً تتخلله ألوان أو إيماءات الزهري والبني الفاتح والترابي الرمادي، على غلبة الرماد. وتشبِّه الألوان طبقات تتفاوت قرباً من العين وبعداً. وينصرف المحل الملون والمضيء الى "حياة" منكفئة وعلى حدة، ولا شأن لها، لوناً أي معنى وحياة، بمشخص الصياد المشدود الجسد والقوس والوتر، والمقيم في سرمدية المشخصات المسرحية والدعائية والأكسسوارات عموماً. وعلى هذا، يحل الشطر العلوي من "اللوحة" ثالثاً متطرفاً، وينزل طرف العمل الأول. ويدعو الرائي الى تنقيل عينيه بين أجزاء (موقوفة الجزئية) "للوحة" واحدة موقوفة الوحدة. فلا يطيق الرائي التخفف من الوحدة الخبرية والموضوعية، ورميها وراء ظهره. فمجسم الصياد البوستري، والطرائد الدامية والنازفة منذ عشرات القرون، والتمثال المذهب والأقرع الذي تحاكي حركته المعلقة حركة صياد البوستر، في هيكل روماني من صنيع شيناشيتا يوم كانت تنتج شرائط البيبلوم زرافات و "سيريات" – يدعوه هذا الى افتراض وحدة الخبر واتصاله. ويدعوه ما عدا هذا، وهو كثير ويتضمن الأشكال والألوان والجهات ومآتي الرائي ما يرى ومداخله إليه ومخارجه منه، وعليها مبنى العمل و "أصوله"، يدعوه الى نفي الوحدة والتماسك، والنقض عليهما نقضاً قاطعاً.
ولعل الوقوف في الوجهين، والترجح بين حد وآخر واستحالة إيجاب حد منهما، وإعمال التشكك في رجحان كليهما، لعل هذه كلها من بنية اللوحة، أو هي بنيتها، إذا بقي للرائي بعد هذا ما يستقيم به إثبات بنية على معنى مجتمع ومتصل. ويبقى العدد، في الأحوال كلها، ولو على وجه الازدواج والتثليث. فلوحة "بحر بيروت"، أو لوحة "جزمات"، أو بعض لوحة "تويتر"، أو بعض "مصارعون"، أو "بناية في الأشرفية"، الى لوحات أخرى مر الكلام عليها، تثبت اثنين. وتنصب واحدهما اصلاً، على شاكلة الرجل القاعد على حاجز شرفة البحر الحديدية (في "بحر بيروت")، الى أسفل اللوحة ويسارها (يسار الرائي). ويردد رجل ثان، جالس أعلى اللوحة وإلى يمينها، "صدى" الرجل الأول، الفوتوغرافي (هل هو ثان حقاً؟ ولماذا لا يكون النواة الأولى أو الرسم الذي ما على الآخر إلا ان يملأها على نحو ما يملأ الحدس الحسي الرسم المجرد والفارغ الذي يتوجه إليه الإدراك؟).
ويستعيد الرجل "الثاني" رسم الأول، أو غلافه، من غير قسمات ولا نظارات، ويحلّ البحر، وقاعه المرتفع فوق الرجل الفوتوغرافي جداراً عالياً وغاشياً أربعة أخماس اللوحة، ويملأها بلون أزرق نيلي "تفوق" نيليته الأزرق القريب الذي يتخلل لألاء البحر (الجدار) وأمواجَه المفترضة. ولا يستقر مبنى للعدد أو علة. فهو يوقِّع الخارج والداخل، على نحو ما يوقع الشاهدَ والمتواري الطيفي، والجهتين المتناظرتين، والمُلابس والمفارق، والضوء المضيء من خارج والضوء المنبعث من داخل، والقائم المستقر في نفسه والتَّبَع المضاف إلى غيره، والمتعرض والمحتجب.

مبنى الخبر

وتهافت مبنى اللوحة الخبري أو القصصي، بعد عرض هشاشتها البنيوية وحمل بنيتها على عدد خالص يترجح بدوره بين حدين متشابهين ومعلقين، هذا التهافت لا يحول بين اللوحة وبين القص والرواية، على مثال تعمل فيه اللوحات تحريفها ومراجعتها وتركيبها وتوليفها. ففي لوحة "في الأثناء"، الخامسة، تطالع الرائي اسماء "ولاية" بيروت وأحيائها، أو خططها، من الأشرفية والبسطة التحتا ومونو والوردية والسيوفي والدنا، من اليمين الى اليسار ومن فوق الى تحت، الى الحص وعين التينة ومينا الحصن فالزيدانية، الى يسار (رائي) اللوحة، وفي جزئها الأسفل. وهي على غير ترتيب مكاني، من جوار أو تناظر، ومرصوفة كيفما اتفق. وهي مرصوفة على شاكلة بلاطات طريق، وعلى شاكلة لُبنات جدار، معاً وفي آن. فيسع فتى، "اثيوبي" الرأس والوجه، أي هنديه وبيزنطيه معاً وتولد قسماته على حد الضوء، يلبس قميصاً زرقاً وبنطلوناً ترابياً، اعتراض اللوحة على وجهين: اعتراضاً "طائراً"، فيبدو مستلقياً على "الجدار" أو موازياً له ومتكئاً عليه، واعتراضاً "ماشياً" أو توليفياً، فتشبِّه قدماه المشي على "الطريق" وخططها.
ويسع الرائي ان يتخيل الفتى على وضع أفقي، ومتكئاً على الجدار أو مستلقياً عليه، شرط إدارة اللوحة على محورها، ونقلها من تعليقها الطولي الى تعليق عرضي. فتروي اللوحة، وهي على هذه الحال من الاثنينية، ومن إضمار الدوران على المحور، سيرة مدينية فتية "يمشي" صاحبها "على" أسماء الأحياء والخطط، ويجوس في خلالها ويراقصها، أو تروي "طيران" الفتى، المترجح بين قداسة القديس وبين فتوة البوستر الدعائية، في موازاة جدار المدينة او المدينة الجدار. وتتخلل اسفل اللوحة – بين قريطم (البلاطة أو اللبنة) والزيدانية غرباً، الى يسار (رائي) اللوحة إذا حملت جهاتها على جهات خريطة جغرافية، وبين الحص والبنك المركزي شرقاً – ظلال ثلاثة مسلحين يحملون ثلاث بنادق رشاشة هجومية من طراز كالاشينكوف المعروف، وخزانها المعقوف الى أمام والطويل. وقد يكون المبنى الخبري في اللوحة هذه على أوضح عبارة. ولكنه لا يدعوها الى ترك النقض على وحدتها وتماسكها، ولا إلى مماشاة حال خبرية متصلة ومحكمة.
وإذا نحت بعض اللوحات، شأن "في الأثناء"، نحواً خبرياً، ووضعت الخبر أو أوقعته على أسمائه المتعارفة والمشهورة، وأدرجته في سياقة متداولة – وارتضت، تالياً، بعض الترتيب الزمني والمكاني والمعنوي الذي يعلق بالخبر وأسمائه ويلازمه – لم تماش بنية اللوحة النحو الخبري المتصل. فالفتى المستلقي (و)الماشي على الطريق (و)الجدار، والمدينة الجامعة خططها وأحياءها وسككها ونهوجها في بلاطات ولبنات مرصوصة تتخللها ظلال المسلحين وتستبطنها، لا يسع الفتى هذا الرسو، ومعه معضلات المدينة، على محل واحد أو بؤرة "يتناول" المدينة منها، ويقرها على حال مفهومة لا اشتباه فيها: هل هي جدار أم طريق؟ وهل هي أفقية أم عمودية؟ والحق ان الأسئلة هذه، وغيرها من نمطها، لا تمت الى اللوحة برابط غير "نفسي"، أو غير خبري وموضوعي. وهو رابط متعسف، ولا يلزم اللوحة بشيء أو بتأويل. ويدعو المبنى الخبري الى التعسف والاعتباط، ما لم يحتكم التأويل الى المبنى البنيوي أو التشكيلي. ولكن اللوحة ليست بريئة من الترجح بين المبنيين والقطبين. وبناؤها بناء مزدوجاً، أو أكثر، يستحيل بته، أو الحسم فيه، يستدرج الى الوقوف في البناءين. وما تصوره اللوحة لعله، في المرتبة الأولى، هو تقابل الأفقين أو البناءين، وجواز الانتقال من أفق الى الآخر، ولكن على شرط إيجاب الأفق واصطناعه إيجاباً واصطناعاً مدركين ومرادين. فليس في اللوحة ما يطمئن الرائي الى انه يرى رأي العين، ويقرر تقريراً تتولاه اللوحة والأشياء الأصلية من ورائها، ولا يد أو عين أو رأي له في ما يوجب ويرى ويبني.
وهذا ربما ما لا تترك لوحات مثل "مسرح جريمة" أو "في خطر" أو "تويتر"، شكاً فيه. فهي تحيل رؤية مركبة وجامعة ودرامية،، من محل أو موضع معين، الى "منظر"، أو مشهد أو مسرح، وإلى الفاعلين فيه. فما صنعته اللوحات "السابقة"، أي تلك التي تقدم الكلام عليها، من فك طبقات اللوحة وتحريفها وتوليفها ومراجعة اشخاصها، يغشى لوحات أخرى تتناول المدينة، وتقص أخبارها، على ما يبدو ويظهر، وعلى ما تصرح اللوحات نفسها. فالطريق العام والرصيفان والحديقة المنتصفة اللوحة والمباني الى يسار (رائي) "مسرح الجريمة" ورافعات البناء، الى الرجال الستة في مقدمها، يتعرفها الرائي ويتعرفهم من غير تردد. ولكنه لا يتعرف رابطهم، لا الحسي ولا المعنوي. فالطريق العام والرصيفان... تدمج أصنافاً متفرقة من حركات آلة تصوير سينمائية، منها البانورامية، ومنها الجانبية التي تستقبل دخول القاطرة الى محطة السكك منذ تعمد الأخوان لوميار تصويرها على هذا النحو قبل 115 عاماً تقريباً. ومنها التي تشبه مواكبة حركة الموضوع الظاهرة أو المضمرة ومشايعة هذه الحركة (أو "ترافلينغ") الى حين بلوغها غايتها المعلقة. ومنها تلك التي تحتسب المكان مسرح ظهور مدوٍ وكامن، ينتظر بشارة لا تأتي. و "يأتي" أفق مُعمٍ لا يرهص بأفق وراءه، مترع بضوء هو مجسم ضوءٍ أو مشخصه، وعلى عسر تصور الأمر وقساوته الفظة. والشمس وحدها بؤرة خفية ترى آثارها في اللوحة ظلالاً عجفاء، وذوائب تتبع "أصولاً" ملتوية. والبؤرة الواحدة والخفية، وهذه حالها، يخرج من دائرتها، ومن ضويها ما تضوي على وجه الأثر الهزيل والأعجف، الرجال الستة المجتمعون والمنفردون. والستة هؤلاء، بدورهم، ينحلّون ويتبعثرون خمسة وواحداً (الثاني من اليمين) ايقونياً على حدة. والخمسة يتفرقون من غير عمق يرتبهم على مراتب تنتهي الى قاع جامع.

قديس "تويتر"

وتستقبل "اللوحات"، الكثيرة البؤر والعدسات والحركات والمداخل والمخارج والأخبار، الحادثة التاريخية الكبيرة الاستقبال التشكيلي الدرامي (على معنى "دراما" الأول أي جملة الحوادث الجزئية في الحادثة الجامعة) الذي يليق بها (و "يليق"، الفعل، ينم تحسيناً وتقييماً، على قول المتكلمين في الأخلاق، لا أبرأ منهما ولا أدعي البراءة، على رغم ما صارت إليه الكلمة في بعض الشعائر). وقد تكون "تويتر" – اللوحة الثالثة عشرة في الترتيب، بين "المخطوطة" البراقية التي تقدم كلام فيها، قبلها، وبين "مصارعون"، بعدها، ولم يسبق كلام فيها – مرآة مثل هذا الاستقبال والتزامه، على رغم عاطفة مشبوبة أو جراء هذه العاطفة، مباني اللوحة الريمية الجندية. ففي المقدمة يمسك مقنع أسود، هو قناع كله وأسود كله ويتردد شكله بين الإنسي والحيوان ومسخيهما، ونظيره شبهه "داخل" اللوحة، بقتيل أبيض ومضطجع على حمالة من لون جسمه، مقطوع الذراع اليسرى، رخامي أو حجري، فاحم الشعر،عارٍ عري القديس سيباستيان، من غير دم ولا ألم. ووراء القتيل، على افتراض عمق جامع، شَبَه سيارة إسعاف.
وعلى خلاف المقنعين السوداوين وكتلتيهما الممسوختين، وهما يردد واحدهما الآخر على ما يُرى في معظم اللوحات ومرسومان على شاكلة مجسم أو مشخص تعبيري وغير بوستري، يثوي القتيل الرخامي وجهاً وجسداً زكيين، على مثال النفس الزكية في قَصَص الظهور والمجيء، وساكنين. وليس ثمة، في وجه الضجيع وجسمه، ما يؤذن بقيامة، أو يرهص بتجلٍ أو خلاص، على خلاف لوحات القديسين التي رآها الروائي الفرنسي ستيندال (هنري بايل) في كنائس روما، مطلع القرن التاسع عشر، ولاحظ أن نظرات قديسيها المرفوعة في ثبات ويقين الى السماء تستعجل الخلاص، وتستحضره على نحو ينكر الزمن وأوقاته و "قلقه". فقديس تويتر، قديس اللوحة و "الشيء" والزمن او العصر، لا يحيي الخلاص ولا القيامة ولا يبعثهما، ولا يعتقدهما. وليس جماله أو بهاؤه من صنف "إلهي". وليس موته على رجاء قيامة. ولا يحمل الإشفاق الأخوي الذي رسم الضجيع الإيراني، صنو ندا آغازاد، صاحبة الوردة، اللوحةَ على نفخ الحياة الحق في اصل أول. فإثبات اصل أول، "إلهي"، يترتب عليه الحط بالحياة العارية والسائرة الى ظاهر من غير أود عدا الأود المنزل عليها من غير "استحقاق".
ووراء الثلاثة، المقنعان الممسوخان والقتيل الزكي وشبه الحمالة والسيارة، متظاهرون ومصورون. وتلابس هؤلاء مدينة ومبان شبكية وملونة ألواناً فرحة، لا محاكاة فيها ولا تشكيك. ووراء المدينة، على أفقها الخلفي، سماء شبكية على شاكلة قطع أحجية ("بازل") ظاهرة المعالم والحدود. وتتوسط السماء شمس مذهبة، عميقة الذهب، تحضن ظلاً أيقونياً، بنياً وأسود، للقتيل المنفك من قبضة المقنع وكتلته. وعلى خلاف العينين المغمضتين، والفم المطبق، في مقدمة اللوحة، العينان مفتوحتان، ويلتمع الفم بضوء يشبِّه فتحة، وإنما من غير يقين بحياة. ولا يدعو الاحتفال بالشمس المذهبة والحارة، ولا بظل الضجيع الزكي والبصير والمفتر الفم عن ضوء باطن، لا يدعو الى إغفال صدورها عن الصنع والرسم. فالهالة الخضراء التي تحوط الشمس تحاكي، من غير تشخيص أو تجسيم ولكن من غير ضعف أو مواربة، رسمَ الأولاد شمسهم، واحتفاءهم بها. والشمس المذهبة في صدر "تويتر" تتصدر اللوحة، ولا تحيي قتلاها وقتلانا، على قول جرير، على نحو تصدر بعل في لوحة "بعل"، والديك الزاهي الألوان "المصارعون". فالأعياد جائزة، وتنفخ بعض الوصلة فيما بدا تفرقه تبديداً وتقطعاً وطعناً لا رجوع فيها. ولكن "الآلهة" جلت عن المدن، والإقامة، على معنييها، معنى الرفع ومعنى السقوط.