الاثنين، 19 يناير 2009

"تشانجيلينغ" كلينت ايستوود... مأساة مدنية من غير قدر ولا غيب

ليس على الحادثة العادية الأميركية التي تحصيها الصحف اليومية، وتقارير الشرطة، في باب "المتفرقات" إلا ان تحل موضوعاً على السينما الأميركية "التراثية"، سينما ايليا كازامن وجون فورد وسام بيكينباه وسيدني بولاك وأرثير بين وروبيرت باريش وأخيراً كلينت ايستوود وليس آخراً، حتى تنقلب رواية مركبة، وكناية عريضة. فتجمع في سياقة متعرجة ولولبية، تكاد لا تحصى أوجهها، المأساة (اليونانية)، والعقدة البوليسية، والملحمة، وكوميديا الطبائع، ومتحف الفظائع ومنتخباتها. وما سبق ان لاحظه بعضهم على رواية فوكنر الذائعة الصيت، "الضجيج والغضب"، من "إقحامها المأساة اليونانية على القصة البوليسية"، قد يصح في أفلام أميركية كثيرة، تواضع النقاد على وصفها بالسوداء، آخرها موقتاً "تشانجيلينغ" (الاستبدال)، شريط ايستوود غداة "مليون دولار واحد، بايبي". فالحادثة المتفرقة، وهي تترجح بين السرقة الضئيلة وبين جرائم الجملة، على النحو الذي استوت عليه في سجلات الشرطة والقضاء، الحادثة هذه تعقد أو تؤلف بين عوامل كبيرة أو عظيمة (من غير تهويل) مثل أهواء الناس الجامحة والمتوسطة، والحق والقانون والسلطة والرغبة والمرض والاجتماع والآلة والصدق والعبارة والطبيعة والظن.
ولا تعقد الحادثة المتفرقة أو تؤلف بين هذه كلها من تلقاء نفسها (وهي لا تلقاء لها). فإذا لم تستعدها أقوال الشهود وشهاداتهم وأخبارهم، ولم تدونها محاضر الشرطة والمحققين والقضاء والمستشفيات والمختبرات، ولم ينظر فيها المحلفون، ولم تتداول وقائعها الصحافة والإذاعة، ولم يختلف فيها السياسيون والجمهور "العام" والقسس على الملأ ويجهروا آراءهم، وإذا لم يحتكم هؤلاء في مداولاتهم ومناقشاتهم وخلافاتهم الى معايير يؤولون الوقائع ويتراوونها في ضوئها، ولم يحملوا رواياتهم على مثالات مشتركة كبيرة شأن الروايات الدينية أو "الملاحم" الوطنية والشعبية – فالأرجح ألا تعقد الحادثة المتفرقة بين العوامل المتفرقة، وألا "تنتج" رواية مركبة، روائية أو سينمائية أو موسيقية، وكناية عريضة وكثيرة الأوجه. وتولد الرواية والكناية من السياقات الكثيرة والمختلفة، ومن المنازعات واحتكامها الى العلانية وجهرها معاييرها وعبارتها عنها.

أماكن

وهذا ما يمثل عليه كلينت إيستوود في "تشانجيلينغ"، ومثّل عليه في أعمال سابقة، تمثيلاً ناتئاً ويكاد يكون تعليمياً. فالمدينة – لوس انجيليس 1928 الى 1935، عشية الأزمة الاقتصادية الكبيرة وغداة إجراءات معالجتها الأولى – تغشى الشاشة والصور وتحلها ولا تنفك منها. وينتخب "صاحب" الفيلم مواضع أو أماكن تتردد الحوادث والوقائع والمواقف بينها. فمن منزل كريستين كولينز (انجلينا جولي) العائلي، في الضاحية المتواضعة والهادئة والمختلطة، الى شركة الهاتف والبرق التي تعمل فيها الأم الشابة، والمنفصلة عن زوجها ووالد ابنها، ولتر، بقلب لوس انجيليس، ومن مباني المحكمة والشرطة الى الكنيسة التي يتولى خطابتها وإمامتها القس غوستاف بريغليب (جون ماركوفيتش)، ومن الضاحية التي يقوم بها مستشفى الأمراض العقلية الى مزرعة القاتل، غوردون نورثكوت (جايزون بتلر هارينز) – تنسبط لوس انجيليس وتلتئم مسرحاً لحوادث الحادثة المتفرقة والفاجعة، ولأصحاب الحوادث هذه.
واقتصار المواضع أو الأماكن على هذه إنما يصدر عن بناء درامي من غير تستر ولا مراوغة. فثمة قطبان مكانيان للحياة الخاصة والفردية، هما منزلان أو بيتان في ضاحيتين مختلفتين. وأولهما هو منزل السيدة كولينز وابنها والتر، قبل خطفه واختفائه. ويقع المنزل في ضاحية تقرب رسومها من صور البطاقات البريدية، تراماً وعشباً ومدرسة وبيوتاً على حدة وهدوءاً ظاهراً. والمطر نفسه، وهو ينهمر شلالات و "حبالاً" في نحو نصف مشاهد الفيلم، يكاد يعف عن الضاحية. وبيت كولينز يملؤه ظل ثقيل ينقلب عتمة ووحشة قبل ان تغادره صاحبته وولدها، هي الى عملها وهو إلى مدرسته. ويشبه البيت المتاهة المقطعة أجزاء والمتحاجزة. وهو يبدو مفتقراً الى ما يكمله أو يتمه، فلا ينطوي على وحدة الأم وولدها، أو على وحدة الولد حين تضطر الى مغادرة البيت وترك الولد في عهدة الجارة. ومعظم حديث الأم والولد يدور على وعدها له بالرواح الى ملعب عام، أي بترك البيت وجواره القريب الى محل بعيد ومختلط. وحين يغادر الولد البيت، وتبقى الأم وحدها قبل إقحام الولد الشبيه عليها، وعلى سرير ابنها وكرسيه حول مائدة الطعام، يبدو البيت مسكوناً وملعوناً، ويتقلص الى زاوية جهاز الهاتف المظلمة، وإلى حجرة نوم الولد التي يتمدد على سريرها، ثقيلاً وصامتاً، الضيف المتطفل والمقحم.
و البيت الثاني، في ضاحية اخرى بينها وبين لوس انجيليس قفر، هو ملجأ القاتل وشريكه المكره، ابن اخته. وهو معتقل الأولاد، وسجنهم، ومسلخهم، جنباً الى جنب مع الدجاج المروَّع والمتطاير على غير هدى. والمزرعة الخالية والمقوية هي بمنزلة الضد من منزل السيدة كولينز وولدها. فهي على حدة من السكن الآهل. وتقود إليها طريق غير معبدة. ويضل إليها قاصدها، شأن التحري ليستر ايبارا (مايكل كيلي) حين ييمم إليها أول مرة، طريقه. ويبلغ ضلاله حد طلبه الى القاتل الجاني الدلالة الى المزرعة. وكان التحري ذاهباً في أمر غير واضح العلاقة بعد باختفاء أولاد وفتية، ويقتصر على إقامة غير قانونية على الأرض الأميركية.
والمبنى في وسط المزرعة (لا) ينطوي على مكان مهشم، ليس فيه ما يبيت، أو يفيء، أو ينيم، أو يقعد، أحداً أو شيئاً. ويجتازه من يجتازونه إما شاهري السلاح أو متطايرين وصارخين مثل الدجاجات والفراخ في المزرعة المسكونة. ويحل المبنى الكالح والمقفر القاتلُ من غير ولد، والمترهل الوجه والشاحب، وابن أخته، فاضح خاله من بعد، والواشي به. وهما على خلاف السيدة كولينز وابنها على الوجوه كلها: الخلاء على الضد من الضاحية المأهولة، وطيف المكان المتقوض على نقيض المنزل، والألوان البنية الغامقة على خلاف الشحوب الأغبر. والأم وولدها من غير "رجلهما" في مقابلة الرجلين أو الذكرين، الرجل الفصامي والمجرم وشريكه المرغم والهزيل ابن اخته. وبيت كريستين وولتر كولينز يشهد حادثة وحيدة هي انسلال ولتر منه وغيابه (وقدوم ولتر الكاذب، سانفورد كلارك، ابن الأم المهلهلة الأمومة والأنوثة)، على حين تضج المزرعة المهجورة بجرائم الذبح الليلية والصياح والهياج.
ونظير ضاحية المزرعة المتوحشة والموحشة، تقوم ضاحية أخرى "مهذبة" ("بوليسية"، على قول أجنبي، على معنى المدنية) ولائقة، هي ضاحية المستشفى أو ملجأ المجانين والمدخولين. ويُنفى الى المستشفى الملجأ، أو إلى عنبره رقم 12، "جمهور" قليل العدد، يعرّفه رأي الشرطة فيه، وقضاؤها بجنونه، ومماشاة رئيس المصح وطبيبه، وطبيب الشرطة المحلف والمنتدب، ورئيسة الممرضات، الرأي هذا، ويُذهب إلى المصح من طريق قسم الشرطة، قائداً ونقيباً، وتهمته من يتهم. فالشرطة الأميركية، على ما يرى من مئات الأشرطة الروائية والمسلسلات التلفزيونية، جزء من "تكوين" الإدارة المحلية على معنيي التصريف التقني والتدبير السياسي. فهي ورئاسة المجلس البلدي (أو العمدة) وقيادة الشرطة (أو "الشريف" في البلدات الصغيرة)، حلقات من سلسلة قد تتماسك وتتواطأ، وتتآمر، وقد يدب الخلاف فيها، تحت وطأة "المجتمع" وأدواره: الناس أو عامتهم وجماعاتهم، والكنيسة أو الكنائس ومجاميعها الأهلية الكثيرة وقساوستها، والقضاء وقضاته ومحاكمه، و "ضمائر" الإدارات نفسها.
وينهض المصح العقلي على حدة من شبكة الهيئات الكثيرة والمتنازعة التي تصدر حوادث فيلم ايستوود عنها، أو يزعم المصح الحدة هذه. ويسوغها طبيباه وممرضته الأولى باستقلاله بمعيار "العلم"، وإحاطته بسبل بلوغ "حقيقة" الأنفس. وقد لا يجدد إيستوود حين ينصب مصحه شبهاً لمسلخ معقم. ولعل مصدر قوة الشبه هو المقارنة المضمرة والظاهرة بين المصح وبين مزرعة القاتل، من غير إغفال الفرق العميق. فالناس في المحلين أسرى حظيرة تسلط عليهم إرهابين مختلفين: واحداً يؤدي بهم الى الانبهار والتسليم فالقتل، وآخر الى غيبتهم عن انفسهم وعن عوالمهم وحيواتهم. ويتوسل الإرهاب الأول بحطام المكان وفوضاه، والتواء مسالكه وتقطع رسومه، وبمزيج الغبار والضوء الباهر والأصوات المتنافرة واللاهثة. ويُعمل الثاني الكلام الآمر والساخر، والازدراء الصف، والآلة القاهرة، والعزل المتذرع بالاختصاص والعلم.
وبينما تخرج المزرعة، وقاتلها، عنوة على الحياة والمجتمع والقانون والناس، يخرج المصح على هؤلاء وعلى هذه من طريق مراوغة. فيتصل بقسم الشرطة مباشرة، ويحتمي به، وبضابطه الطامح والوسيم والمتعجرف والثرثار النقيب جي جي (إس اس؟) جونز (جيفري دونوفان)، من القانون والعلانية العامة والمشتركة – علانية خطيب الكنيسة والمحامي والتحري ومعلمة المدرسة. فإذا فتحت مجاري الاتصال بين المواضع والهيئات، وحملت هذه على الاحتكام الى الحياة العامة، وجماعاتها ومسرحها ومنازعاتها وأهوائها، حيل بين الأماكن، وأهلها، وبين عزلتها (وعزلتهم) وتحصنها (وتحصنهم) بالفرادة والشرع الخاص والتوقيف المتعسف. فالشر، على هذا، هو خلاف "اللغة"، والخروج عليها، على قول ابن عربي، أي هو الامتناع من الكلام والمداولة والاحتجاج على رؤوس الأشهاد، والاعتصام بالصمت والتقية والعلم المكنون والفرادة.

دوائر وأجساد

ولا يُخلص من هذا الى نهج علاج الشر واستئصاله، ولا إلى رأي في "طبائع" الشر. فشريط المخرج الأميركي، او الأميركي (تقاليد سينمائية وتاريخاً سياسياً وحقوقياً واجتماعاً) المخرج، يكاد يكون تمثيلاً على فلسفة مدنية مأساوية وخلو من الجراحات الملموسة بالناسوت وخطابتها، من غير نصاب يستقر عليه المزيج هذا، ومن غير رأي حاسم أو متلعثم في الخلاص والقيامة. وتحاذي الرواية المدنية رسوم الابتلاء والخلاص الدينية على الدوام، وتؤاخيها من غير الوقوع في شراكها. فالرواية (وهي من توليف جوزيف مايكل ستراجينسكي) تحذو على مثال دوائر الجحيم وأقاليمه، والجواب فيها دائرة بعد دائرة: من المقدمة المبطنة بذور التفريق، الى دائرة الشكوك، فدائرة اليقين بالاختفاء، فالخروج الكاذب من اليقين، فابتداء دائرة جديدة عريضة هي ابتلاء الأم ودوائرها الفرعية: حمل الأم على قبول الولد الزائف محل ولدها، وتهمتها بإنكار الواقع، وحبسها في المصح. والفصل الثالث يجمع دوائر عودة الأم الى الاستقامة المدنية و "العقلية"، والإقرار لها بهذه الاستقامة، الى تعرف القاتل ومحاكمته، وتحرير التعرف من ثقل قسم الشرطة والعمدة وقيودهما. ويجتاز جسد المرأة، الأم والزوجة السابقة وزميلة العمل والصديقة الجائزة، الدوائر هذه نحيلاً ومستقيماً في لباس أعوامه وموضتها، واضح القسمات المؤرَّخة بوقت وسمت تبرج.
والأجساد المتفرقة معلَم قوي، شأن الأمكنة، من معالم الرواية السينمائية. ولعل شطراً راجحاً من قوة الأداء السينمائي، وتخصيصه واستقلاله بمضماره عن القصص، يعود الى سمت الأجساد. وهذا ما لا يعدم معرفته العميقة واختباره من أدى دوره السينمائي البارز الأول "بطلاً" في "من اجل حفنة من الدولارات" قبل نحو أربعة عقود. فكان كلينت ايستوود يومها "جسد" سيرجيو ليوني وشريطه. ولم يكن الشريط إلا ظل الجسد هذا ومسرح رواحه ومجيئه. وفي عدد كبير من المشاهد والفصول، يتولى الإخراج وصف علاقات الأجساد بعضها ببعض، وقيام بعضها بإزاء بعضها الآخر – صلابة وانكساراً ومغالبة ومسافة وتواطؤاً...
وفي المشاهد الأساسية تملأ الأجساد الشاشة وعيون الجمهور وعدسة التصوير، ومحل الحادثة من وقائع الفيلم وأخباره، معاً. فمواجهة كريستين كولينز والنقيب جي جي جونز، حين إبلاغ النقيب الوسيم والواثق الأم الملتاعة خبر العثور على ولدها، ثم حين محاولته إلزامها الإقرار بأن الولد الكاذب، وصنيع الشرطة والعمدة، هو حقيقةً ولدها، وبينهما مرافقة الضابط الأم الى محطة القطارات للقاء ولدها المزعوم - تتصور المواجهة هذه، وفصولها، في صورة الصلابة الجسمانية الهاجمة والموجبة، والمُشهِدة الجمهور وآلات تصوير الصحافة على "حقيقة" الصنيع البوليسي والسياسي والطبي. وعلى خلافها، والضد منها، ينطوي جسد المرأة على نفسه ويقينه، ويحضن اليقين، ليناً من غير تصلب، متماسكاً من غير تجاهل فظاظة الكذب السياسي والبوليسي والطبي، مترنحاً تحت وطأة الفظاظة هذه قبل ان يستعيد قوته.
وقاتل الأولاد، منذ دخوله الصور الى خروجه منها قبيل ختامها، جسد بقضه وقضيضه، وبمراوغته وخروج أبعاضه بعضها من بعض، وأفعوانيتها اللزجة والدبقة التي يقطعها ارتجاف يصدر من داخل ويكاد يموت قبل ان يتبدد في هلع العينين الزجاجيتين، والتواء الرقبة السمينة والفلم المليء باللعاب. واستدراج السيدة كولينز غوردون نورثكوت، القاتل، الى التصريح بما فعل، وهو لا علم له فعلاً إلا بما إلا بما نوى وأراد، يقرب الجسدين المختلفين، على شبه طفيف وصوري، قرباً لا نظير له في مشاهد الفيلم الأخرى كلها. وينكفئ جسد القاتل على فراغه وخوائه وتداعيه حين يهجم جسد أم الولد، الثابتة في الرجاء والأمل (على "رهبنة" هي من حواشي طبعها)، ويدعوه الى ما لا طاقه له به، أي المخاطبة بالكلام المعلل والمتذكِّر والمتوجه على الغير وإليه.
فالقاتل كَذِبٌ رخو أجوف ومنقطع. وكذب الضابط والولد المزعوم وأمه المهرجة والطبيبين والممرضة صلبٌ ومتصل واجتماعي. وهذا، لئن لا يفضي الى القتل، يقطع المخاطبة واللغة على أنحاء أخرى، ويتوسل بـ "العلم" الى قطعهما، وبشهود الزور والصحافة النهمة الى الأخبار الفاقعة. وعلى حين قد لا يُخرج من الكذب الرخو والمنقطع، يخرج من الكذب الصلب والمتصل والاجتماعي من طريق شجاعة الصدق، وعناد الفرد بوجه السلطان والجماعة، وطلب المداولة.
وبعثُ كلينت ايستوود قصة كريستين كولينز وابنها، اليوم، قد يكون متعمّداً أو غير متعمد. ولكن القصة، الحقيقية على قول صاحب الفيلم، تردد أصداء واضحة وقوية لحوادث جسام شغلت عصرها وأهله، ولا تنفك تشغلنا و "عصرنا"، ولن تنفك تشغل من بعدنا إذا لم نخش انقطاع الذرية، على ما كان يخشاه غوندير انديرس صاحب "ذواء الإنسان" ومفكر (هول) القنبلة الذرية. فسنوات 1928 – 1935 هي قلب الكارثة الاقتصادية التي أصابت العالم "الرأسمالي"، وهو يومها شأنه اليوم معظم العالم. وهي قلب التاريخ الروسي الشيوعي و "السوفياتي". و "تشانجيلينغ" مرآة القلب الثاني على نحو مروع. ففي اثناء السنوات العجاف هذه كانت سياقة الوقائع التاريخية تولي السلطان الشيوعي الستاليني تحطيم الرعايا الروس و "السوفيات" الآخرين، وتقويض مجتمعاتهم، وتقطيع علاقاتهم وأواصرهم، وتحريف تواريخهم ولغاتهم. وكانوا، الرعايا، يُدعون الى القول انهم يصنعون تاريخهم ويفكون "سر التاريخ المستبهم لأول مرة في تاريخ البشر" تحت لواء "علم" "الثورة". ودعتهم "القيادة" الى الإقرار بهذا على نحو دعوة النقيب السيدة كولينز الى استقبال "ابنها" وتعرفه. وهذه دعوات تلاحقنا، اليوم، وتلح علينا.

الاثنين، 5 يناير 2009

يوميات إمرأة مهجّرة وعائلتها في بناية مهجرين



النهار، الأحد 04 كانون الثاني 2009

هذه اليوميات فصل من كتاب يصدر قريباً لوضاح شرارة عن "دار النهار" في عنوان "أهواء المدينة". ومصدرها فتاة كانت طالبة في احدى الجامعات اللبنانية سنة 1995. وهي روتها مشافهة، جواباً على اسئلة تناولت حياة المهجرين.




أواخر تشرين الثاني 1995

في صبيحة الثالث والعشرين من تشرين الثاني 1995، كانت الساعة العاشرة، دخل شرطيان يعملان في وزارة شؤون المهجرين "مبنانا"، المبنى الذي نسكنه منذ اثنتي عشرة سنة متصلة، وننسبه الى أنفسنا وملكنا، ونحن استولينا عليه أو اشترينا الحق في الإقامة فيه. وطرق الشرطيان الأبواب المشرعة والمخلّعة، وهم يصعدون الدرج الى الطبقة السابقة، ووقفا على كل باب، وانتظرا ان يخرج إليهما أحد الأهل. فإذا خرج سألاه هل يقيم هنا. وقبل الجواب أعطياه، أو رميا بين يديه، ورقة طبع بصدرها عنوان واضح وأسود: "إخلاء وعودة".
كانت هذه أول مرة نبلغ فيها، نحن أهل المبنى الواقع بين آخر شارع الحمراء وبين الهضبة المطلة على البحر والمسابح، عزم وزارة الدولة على إخلاء المبنى والحي منا ومن أمثالنا. ولم يشك أحد من الأهل والسكان المهجرين في صدق التبليغ أو في إرادة الإخلاء والعودة، أو الإعادة إما الى حيث كنا مقيمين، وهذا عسير ومتعذر، أو الى مكان غيره. وتقديم كلمة "إخلاء" على كلمة "عودة" دقيق ويصيب ما يقصد إليه ويعنيه. فالأهم ان نخلي المباني التي استولينا عليها بقوة الحاجة، وبشيء من التوجيه والإرشاد، وقليل أو كثير من الرشوة، على قدر الاستطاعة. والسبب الآخر في ضعف الشك هذا هو كتابة تاريخ الإخلاء، وهو منتصف آذار من العام التالي في يوم الثلثاء، في آخر الورقة. فلما كانت هذه أول مرة نُدعى فيها الى ملء استمارة إخلاء، ومعظمنا يعرف أقارب أو أهل بلدة أو معارف جلوا عن "احتلالهم"، ولم يُترك تاريخ جلائنا من غير تعيين – أيقنّا ان دورنا آت ولا تأخير له.
فلم يكد الشرطيان ينتهيان من تبليغهما حتى نزلا درج المبنى مسرعين. ولم يدخلا بيت أحد من أهل المبنى فيشربا القهوة أو كوب الماء. والأغلب ان أحداً لم يدْعُهما الى الدخول. فلما ابتعدا وروئيا يمشيان نحو الحي البحري، شيعتهما الشتائم. وكيلت هذه لهما وللدولة التي أرسلتهما وأوكلت إليهما ابلاغنا بما يتحتم علينا فعله بعد ثلاثة أشهر وثلاثة أسابيع تامة غير منقوصة.
وهذا، أي دخول الشرطيين المبنى وصعودهما الدرج ورميهما الورقة وغيرها، لم أره ولم أسمعه. ففي الأثناء كنت في عملي، أي مدرستي، أدرس. لكن أمي روت لي ما رأت وسمعت، واستنتجت، عندما عدت في المساء من المدرسة. وكان وجهها وصوتها ينطقان بالخوف والقلق وهي تروي لي الحادثة التي طال انتظارنا لها، ويتناقل امثالها المهجرون كلما يلتقون ويجمعهم مجلس واحد، أو واجب واحد. فالكلام في الإخلاء، أو الإنذار، أو التشريد، إذ لا أحد يقول العودة إلا وزارة شؤون المهجرين، هذا الكلام يكاد يكون كلامنا الأوحد. فإذا ضُم إليه الكلام في التعويض، وفي طرق استعمال التعويض في شراء شقة أو محل تجارة أو آلات حرفة، استوفي كلامنا كله.
لم يمنع هذا ام محمد، أمي، من الإلحاح: إلى اين نروح؟ ماذا نعمل؟ هذه آخرتنا؟ قولي لي أين نصير؟ أين السترة؟ فأم محمد، شأن الكثرة من نزلاء "مبنانا" ومن أقاربنا، كانت مطمئنة الى ما يقوله أبو محمد، أبي، وإخوتي، ويرددونه منذ ابتداء الكلام على حل "قضية المهجرين". فكلهم يقولون، ولا يجدون مكذّباً، إن الإخلاء لن يشملنا، لأن شرط الإخلاء ان يطلبه صاحب المبنى، وأن يسدد تعويضه. وصاحب المبنى فلسطيني، ويتعذر عليه إن لم يستحل طلب استرداد مبناه، وهو بهذه الحال لن يسدد التعويض، على ما سمعت عشرات المرات. فمن يسترد المبنى؟ لا أحد. فنحن، إذاً، باقون حيث نحن، وما لم ينبر مالكٌ يطلب استرداد ملكه المتصدع والمنتصب بنوافذه الفاغرة، وحجارة الإسمنت النافرة، ورقع البلاستيك المصفقة في الهواء النافخ، في وسط المباني العادية والناس العاديين.


... في أثناء الأسبوع

لم تبدد الأيام الثلاثة أو الأربعة المنصرمة وقع الورقة التي حملها الشرطيان ورميا بها الأهل. فنحن حسبنا ان سكننا المبنى الفلسطيني أبدي. وبنينا على هذه الأبدية قصوراً في الهواء، هي هذه الشقق التي لا أبواب لها، ومن المستحيل تنظيفها وترتيبها. ولكن الاستقرار فيها من غير إلحاح مالكها في استعادتها، ولا طواف صورته أو طيفه بها وبنا، كان كأنه الخلود في جنة نعيم. فمن أقام عشرة أعوام، وعامين فوقها، حيث أقمنا، أو في مكان يشبهه، ولم يهرب منه في الأثناء، ولم يحاول أن يجد له مكاناً آخر ألْيَق به منه، لن يعثر على منزل ينزله غداة رميه خارج المبنى الذي ألفه وحسبه مبيته ومسكنه الى آخر الزمان. فالإلفة هي ما تخلفه الأماكن المهشّمة وغير المتميزة هذه في ساكنيها وآهليها. فيتمسكون بها ويستكينون إليها، ويتركون البحث عن غيرها ينتقلون إليها، أو يعدون العدة للانتقال إليها، في آتي الأيام.
ومبنى المهجرين الذي أقيم به مع أهلي منذ اثنتي عشرة سنة مثال على ما أقول. فنحن، المقيمين به و "أهله" اليوم، ورثناه عن العاملين به غداة انفجار كبير قتل نحو عشرين نفساً، ودمر أجزاء كبيرة من جدرانه، ونسف نوافذه وأبوابه، خشبها وزجاجها، وصدّع أساسات البناء. وعندما لجأنا إليه قيل لنا ان سكنه غير مأمون العواقب. ولما كان القائلون هم من ساكني الحي، و "جيراننا" المكْرَهين على جوارنا، قلنا انهم يريدوننا ألا نسكن بجوارهم ويخيفوننا بتصدع الأساسات. وهم قد لا يعلمون اننا لا نعرف مكاناً نلجأ إليه، ونقدر على شراء اللجوء إليه، غير هذا. ذلك اننا كنا نقيم، في 1983، بجوار مستشفى البربير ومدرسة المقاصد للأطفال. ولم تلبث هذه الناحية من بيروت الغربية ان انقلبت، بعد حوادث الشوف في الصيف وانسحاب الإسرائيليين منه، الى ميدان قتال بين الجيش اللبناني وبين المسلحين المحليين، من شيعة وسنّة ودروز. وأخبر بعض هؤلاء المسلحين، وهم من حركة «امل»، إخوتي وصهريّ وأصحابهم، أن المحلة غير آمنة، وهي مقبلة على قتال عاصف، فخير لسكانها ان يتركوها وأن يبحثوا عن مكان أكثر أمناً منها.
وكنا نسدد بدل إيجار الشقة المهددة ألفي ليرة في الشهر الواحد. وكان هذا بدلاً مرتفعاً ويرهق أبي الذي كان دخله في الشهر لا يبلغ أكثر من قيمة البدل. فلما بلغ إخوتي ما بلغهم من اصحابهم وبعض الأقارب المسلحين ألحوا على والدي في ترك المحلة والشقة الى محلة أكثر أمناً واقل تكلفة. فأسرعنا كلنا في البحث عن شقة بعيدة من خطوط التماس، ومن الضاحية الجنوبية كذلك. ولم تبق نواح كثيرة في مستطاعنا العثور فيها على منزل نأوي إليه ببيروت. فنصحنا أصحاب أخوتي الذين أنذرونا بانفجار القتال القريب ببيروت، باحتلال شقة من الشقق الخالية الخالية بالحمرا أو رأس بيروت. والحق ان هذه الشقق، المسماة خالية، لم تكن خالية، بل كان لكل منها وكيل أو وصي عليها، نصّب نفسه وكيلاً أو وصياً، ورعت الجماعة المسلحة التي ينتسب إليها، ويقاتل تحت لوائها، وكالته او وصايته. فكان على طالب المأوى او الساعي في الاحتلال، شأننا، ان يشتري مأواه، أو احتلاله، من محتل سبقه. ولقاء شرائه، يأوي الى منزل لا إيجار عليه، وفي وسعه إذا شاء، أو قيض له منزل آخر، ان يبيعه من محتل آخر، أو مهجر، بثمن يفوق ثمن الشراء. وعلى هذا فـ "الاحتلال" تجارة قد تكون رابحة لمن يملك عدتها من نفوذ ورعاية ومال ومعرفة وشم.
واضطر أبي، بعد طول سعي دهمتنا في أثنائه حوادث بيروت بعد حوادث الجبل، الى شراء مأوانا الجديد بثلاثين ألف ليرة لبنانية، أي ما يساوي إيجار خمسة عشر شهراً من إيجارات شقتنا السابقة أو بدل خلو شقة مستأجرة "شرعية"، على ما يقال في شقق الإيجار المؤيدة بسند مسجل في البلدية. ولم يكن بحوزة أبي هذا المبلغ أو قريب منه. فنحن تركنا شقتنا من غير تعويض، وعلمنا من بعد ان أصحاب اخوتي الذين نصحونا بالهرب استولوا عليها، وقبضوا هم تعويض إخلائها. فلجأ أبي الى أحد صهريه، وهو صاحب مدرسة ومديرها، وميسور بعض الشيء، واستدان معظم مبلغ المال منه.
ولما انتقلنا الى مبنى الحمرا، مبنانا الجديد، كان على حاله التي كان عليها غداة انفجار السيارة عند مدخله: من غير مدخل، كثير الصدوع والهدم، آثار الحرائق بادية في كل الطبقات، حجرة مصعده مكبّ قمامة ونفايات، ولم يبق من درجات السلّم إلا موطئ لقدم حذرة ومتمرسة.
ونحن لم ننتقل الى المبنى وحدنا، فبَيْع المبنى كان جملة ولم يكن مفرقاً. فاشترت ثمان عائلات لبنانية شققها، وكان في المبنى ثلاث عائلات فلسطينية. والعائلات الثمان هذه، أربع منها تشد بعضها الى بعض رابطة قرابة، ومنها عائلتنا نحن، والأربع الأُخر جاءت، مثلنا، من بلدة الخيام الكبيرة ومن ضواحيها. والعائلات الثلاث المرتبطة برابطة قرابة واحدة منها عائلة ابن خال لي، والثانية بينها وبين امي قرابة ما، والثالثة بينها وبين عائلة أبي مصاهرة. وهذا قد يدل على ان المفاوضة على الصفقة لم تقتصر على شقة واحدة، أو على طبقة واحدة، بل تناولت المبنى كله – والمهجّرون إنما ينزلون المبنى كله جملة وليس شقة شقة – لكنني لا أذكر ما كان يقال في هذا الشأن، وكنت ولداً.
وحالما نزلنا بيتَنا الجديد، نحن والأقرباء، رمّمنا ما قدرنا على ترميمه بأيدينا، ومن غير عمل مأجور. فرفعنا، رجالاً ونساء وصغاراً وكباراً، الجدران المصدّعة والمتهدمة، وأقمنا مكانها جدراناً مستوية من حجارة الإسمنت، بقيت من غير دهان ولو بالكلس الأبيض. وأغلقنا المدخل بباب من حديد أدخل بين جدارين قويين، فكانا علامة على الفصل بين داخل المبنى وبين خارجه. وأخرجنا النفايات من حجرة المصعد، أو بيته، ورميناها في أرض خلاء، بورة، بجوار البناء، واشترطنا بعضنا على بعض ان نرمي النفايات خارج البناء ليبقى المدخل نظيفاً...
وأما تصليحات الداخل، أي في الشقق نفسها، فلم تتعدّ بعض حواجز الخشب والكرتون، لا سيما عند عتبات الشقق والمراحيض، وإغلاق النوافذ بالكرتون والبلاستيك، وملء الفجوات بالحجارة والإسمنت كيفما اتفق غالباً. فالمهجرون او المحتلون، لا يفارقهم الإحساس بضعف استقرارهم، وبقلق إقامتهم ومنزلهم، ولو أمِلوا، من وجه آخر، في إقامة أبدية وأيقنوا بها. فكل ما يصرف من مال على إصلاح شأن حيوي، مثل سد مسارب الهواء التي تخلّف فينا كلنا زكاماً أو رشحاً لا يغادراننا أربعة أشهر في السنة الواحدة ويجعلان من رئاتنا قصباً أجوف في مهب ريح، يبدو تبديداً لا طائل منه وكرماً فوق طاقة أمثالنا.
وفي أثناء الأسبوع الذي تلا إبلاغنا بموعد تركِنا المبنى انتبه بعض الجيران الى ان مباني المهجرين بجوارنا أُنذرت بالإخلاء قبلنا ببضعة أسابيع، ومعظمها أُخلي فعلاً، ولما يتم شهر على إنذارها. وهي اليوم خالية، ولم نتنبه على خلوها من أهلها السابقين إلا بعد إنذارنا. فلم يبق من حي المهجرين، وهو ثلث الحي السكني تقريباً، إلا ثلاثة مبان متقاربة، مبنانا أحدها. وسرت في الجيران شائعة تزعم، جازمة، ان جيراننا السابقين وشوا بنا الى "وزارة المهجرين" قبل إجلائهم، ولم يكن صندوق المهجرين، من أجهزة الوزارة، على علم بنا. فكانت الوشاية هدية التاركين للباقين الى حين، على ما ظن أهل مبنانا ظناً واثقاً.
وهذا الظن غريب. فهو يفترض ان في الخمسين عائلة المهجّرة التي تعدها ناحية المهجرين من الحي، محلاً للسر أو مستودعاً له. ونحن على رغم علمنا بأن أسرارنا كلها، العائلي الداخلي والمشترك بين أهالي الأبنية المحتلة، مفضوضة ومعروفة، نوهم أنفسنا أن وجودنا نفسه خاف على بعض إدارات الدولة وأجهزتها المولجة مسائلنا ومشكلاتنا. فنوكل الى وشاية بعضنا ببعض مهمة تعريف الدولة بنا، وبتهجيرنا، وباحتلالنا مباني ننشر على الملأ البعيد أعلامنا عليها، غسيلاً واسمنتاً عارياً وجدراناً متعرجة ونفايات منثورة وروائح.


... في الأسبوع الأول من كانون الأول

لا يزال الاسترداد، ومعه قبض التعويض الذي يرجح اهل المبنى انه قد يبلغ اثني عشر ألف دولار، والبحث عن منزل يخلف المنزل الحالي – لا تزال الموضوعات هذه تستأثر بكلام المهجرين وتشغلهم. وهي ليست مشاغل جديدة، وإن أعلنتها ورقة الإخلاء حين أشعرتنا بمداهمة الوقت الذي حسبناه غير محسوب لنا. فمن سافر من شباب المبنى، منذ عشرة أعوام، الى كندا أو أميركا أو اوستراليا، إنما سافر ليتخلص من حياة المستنقع هذه ويخرج من مياهه الراكدة والمعتمة الى الهواء النقي والضوء والرجاء. وتوالى على ترك بيتنا وحده أربعة شباب من سبعة إخوة ذكور، سافروا الى السعودية وإلى الكويت ودولة الإمارات. ولم يبق في البيت، بيت التهجير، إلا من لم يستطع الترك من الأخوة، ومن لم يتزوج من الأخوات، أو من اضطرها الطلاق الى العودة الى بيت أهلها.
وكان أبي وإخوتي المهاجرون يتحسبون لمثل هذا اليوم الذي يأملونه بعيداً. فاشترى أبي قطعة أرض بإقليم الخروب، بين السعديات ونهر الأولي، الى الشمال من صيدا، بعشرين ألف دولار، مساحتها ألف متر. وهو نوى بشرائها بمال جمعه إخوتي وصهري أو اكتتبوا به، على ما يقول بعضنا لبعض ضاحكاً وساخراً، بناء بيت نسكنه حين نضطر الى ترك مهجر الحمرا. ولا يصلح موضع الأرض، والبيت تالياً، لإقامتنا وسكننا، ونحن كلنا نعمل ببيروت أو بضاحيتها القريبة، ولا نعرف أحداً من أقاربنا أو من أهل بلدتنا يقيم بهذا الموضع. لكن ما دعا أبي الى اختيار قطعة الأرض، وهي حيث هي، رخصها، على ما قال، قياساً على أثمان الأرض بجوار بيروت. وأظن ان امتلاك ارض، ولو في "آخر المعمور" على ما تقول أمي وتردد، يشعرنا كلنا بالأمان والطمأنينة، ويرفع مرتبتنا في عين انفسنا، فلا نُعدّ من المهجّرين ولا نقتصر على هذه الرتبة المهينة.
فعاد أبي، وعادت أمي الى تذكر قطعة الأرض الإقليمية، أو الخروبية، وإلى الحديث فيها، وفي ضرورة البناء المستعجل، والاتصال بالأخوة ليرسلوا ما يقدرون على إرساله من مال لمباشرة البناء. فصندوق المهجرين بوزارة شؤون المهجرين لا يسدد المال نقداً إلا حين ترك السكن، وتسليم المفاتيح الى رجال السرية المكلفين الإشراف على الإخلاء.
فينبغي في التارك ان يعرف الى اين يترك وأين يحط أثاث بيته. ويأمل أهلي، وأنا معهم، في ان تستقبلنا أختي المتزوجة وصهري، زوجها، في بيتهما الواسع، قبل ان نستقل ببيت يكون لنا حقيقة. وخالط كلام أبي بعض الخشية على التعويض المزدوج المتوقع. فهو سجّل اسم اخي المتزوج، والمستقل بعائلته وسكنه منذ زواجه، في المهجّرين المقيمين بالمبنى معنا، وفي شقتنا، على ما صنع كثير من المهجرين. ويترتب عليه ان نقبض بَدَلي تعويض وليس بدلاً واحداً، إذا لم يش أحد بنا ويخبر عنا. وعندما يروي أبي على مسمع أمي، المستمع الوحيد إليه، كيف يرى آتي أيامنا، يضم الإثني عشر ألف دولار التي تعود إليه الى مثيلها العائد الى اخي وإلى عمل يديه، هو العمّار، وملتزم أعمال البناء، ويصنع منها داراً فسيحة تحوطها ارض خضراء، وتعلوها دور إخوتي طبقة فوق طبقة.
وقد يدرك أبي، ومعه أمي، وقد لا يدرك ان حلمه الخروبي دونه سنّه وحالُه وأحوال إخوتي. فهو، أبي، بلغ من العمر الخامسة والستين أو أكثر بقليل، فيزيد في عمره سنتين أو ثلاث أو ينقص منه سنتين أو ثلاث. وانقضت عليه أربع سنوات من غير عمل في مهنته الأولى التي يحبها ويتقنها، وهي مهنة بنّاء أو معلم عمار، على ما يحب التعريف بنفسه، أو ملتزم بناء، شرط ان يفهم السامع ان ملتزم البناء هو معلم عمار أولاً وليس تاجر باطون و "نكاشة"، أي أعمال حفر. والسبب في بطالته الطويلة سنُّه، ومنافسة شركات الالتزام والمقاولة الكبيرة صاحبة آلات الحفر وجبّالات الإسمنت، وضعف علاقاته بالناس من المتمولين والمقاولين والمتعهدين. وكانت نتائج بطالته علينا جميعاً أضراراً متفاوتة: فسافر منا من سافر، وتزوج من قدر على الزواج، وترك إخوتي غير المتزوجين الدراسة الى العمل على رغم نجاحهم في الدراسة، واضطررت أنا الى اصطياد ساعات التدريس الخاصة من هنا وهناك.
وليس أبي، أو بطالته التي قسر عليها، السبب المباشر في كل هذا. ولكن اجتماع التهجير والبطالة، ودوامهما معاً الوقت الطويل هذا، أحبطا همة من همّ منّا بفعل شيء، أو هذا ما يتراءى لي ويخيل. وأنا ربما أقيس الأمور بمقياسي ولا أراها إلا بعينيّ أنا. والحق ان أبي لم يكن بطّالاً تاماً في أي وقت من الأوقات. فهو حين كان يخرج الى الوُرَش، ويعود في أي ساعة من ساعات النهار، لم يُقم على هذه الحال طويلاً، بالكاد اسابيع قليلة. ففي الأثناء سافر أحد أعمامي الى الشارقة، وترك لأخيه، أبي، محلاً، يملك استثماره بالحمرا، غير بعيد من مبنانا. فرأى أبي ان بيع الخضار تجارة مأمونة، وفي وسعه مزاولتها من غير "رأس مال" يستدينه أو يشاركُهُ فيه أحد. فأكلنا وشربنا من عائد التجارة المتواضعة هذه. ثم عاد العم من السفر واسترد محله. فعدنا الى الكفاف، وإن لم نكن من قبل في بحبوحة. وعاد أبي الى السؤال عن عمل. واضطر، في بعض الأحيان، الى القبول بالانتقال الى بلدات بعيدة من بيروت لقاء عمل وأجر متواضعين.
ولم يكن في وسعنا، إخوتي وأنا، مساعدة أبي في إعالة البيت. فأحد الأخوين اللذين بقيا معنا ترك دراسته الفنية والتقنية، الجامعية، بعد نحو سنتين من ابتدائها، إذ أخذت نوبات إغماء تنتابه من غير نذير سابق. فخفنا عليه الإغماء في وقت حرج كالأوقات التي كانت تمر بنا غالباً مثل أوقات الاحتماء من القصف والهرب من الحرائق... ورضخ لخوفنا، فأقام بالبيت لا يخرج منه إلا لمحل قريب يخط لصاحبه لافتة أو آرمة يعلقها فوق محله. وهذا ما يحسنه، ولا يعود عليه إلا بدخل قليل، ولا يشغله إلا وقتاً قليلاً.
أما الأخ الذي يليه في السن فابتدأ هو كذلك دراسة فنية جامعية. ولم يستطع مجاراة زملائه وزميلاته في تلبية احتياجات الدراسة الكثيرة والباهظة. فرأى الدواء في الاحتماء بالبيت والانكفاء على نفسه. وصار لا يخرج إلا للتنزه، والحديث مع شبان الحي من أمثاله، وممن هم في سن العشرين، سنّه هو. وطالت أوقات خروجه وغيابه، فلا يرجع إلا في ساعات الليل المتأخرة، ويرتمي في نوم مضطرب يقطعه التقيؤ والدوار والكلام الهاذي. فعلمنا أنه وشلة أصحابه يتعاطون حشيشة الكيف، وربما أصنافاً أخرى من المخدرات. فسارع إخوتي الى نقله الى مركز علاج متخصص قضى فيه بضعة أشهر. فعاد متعافياً من الرغبة في المخدّر وغير قادر على مزاولة عمل ثابت. وهو، شأن أخيه الذي يكبره بخمسة أعوام، خطه جميل، ويحسن الرسم، غير ان عمله الحر، أي وقوعه مصادفة على طلب ينفذه، لا يعيله. وترك صغير الأخوة المدرسة الثانوية، على خلاف أخويْه اللذين يكبرانه. ولما سمع ان أحد المكاتب القريبة يحتاج الى ساع ينقل رسائل المكتب على دراجة نارية رضي بالعمل، ولم يشترط على أصحابه شرطاً واحداً يتعلق بالراتب أو بساعات العمل أو بالتسجيل في الضمان. فيكفيه امتطاء الدراجة، والركض بها، والبعد عن البيت، جزاءً.


... أوائل شباط 1996

الساعة السادسة والنصف صباحاً استيقظت على صوت أبي يوقظ أمي قبل رواحه الى عمله بقضاء عاليه، الى الشرق من بيروت، حيث يرمم بعض المسيحيين الموعودين بالعودة الى بلداتهم وقراهم، كنائسهم. ويوقظ أبي أمي ليُودعها مصروف اليوم، فأسمعهما يتحادثان، أنا النائمة على فراش أمده على الأرض بجنب سرير أمي ولصق الجدار، ولا أراهما. ويكرر أبي توصيته لأمي بالاقتصاد في المصروف والتوفير. ومعنى التوصية ليس في القول المكرر بل في ما يتركه لها فعلاً من المال. وفي هذه المرة نصحها بإعداد الطعام من "لوازم" البيت و "حواضره"، وترك لها ما تشتري به ربطتين من الخبز. وودعها ونزل الدرج. ثم سمعت محرك سيارته الأميركية، البونتياك النبيذية التي اشتراها بألفي دولار غداة ابتدائه عمله الجديد، يدور بعض الوقت، وتنتشر تغضنات أمواجه، الخافتة تارة والمنتفخة تارة، في أرض الحجرة وجدرانها وفضائها.
لم أنم من بعدها إلا دقائق قليلة وطويلة. ثم قمت وأسرعت الى مدرستي، بالأوزاعي. ولم أرجع إلا في الثامنة مساء، بعد ثلاث عشرة ساعة على مغادرتي، درّست فيها، ودرست بالجامعة، وعرجت على الولدين اللذين أدرّسهما دروساً خصوصية ببيتهما. ولما انتهيت من هذا كله وجدتني بالبيت. طلبت الى أمي ان تروي لي أخبار يومها، على جاري العادة، او على جاري ما أحاول أن يكون عادة لنا، نحن الاثنتين. فقالت إن أم سليم، زوجة قريب أمي وهما يقيمان بالشقة المقابلة لشقتنا ونقتسم وأسرتهما الطبقة الثانية، زارتها في الساعة التاسعة صباحاً، شأنها كل يوم. فتناولتا القهوة، وتكلمتا في عمل الرجال، وفي المصروف، وفي اجتماع أهل المبنى المتوقع انعقاده في أواخر الأسبوع، يوم السبت، للتداول في الإخلاء. وسألت أم سليم امي اذا كان أبي سيجتمع مع المجتمعين، وأخبرتها أن أبو سليم، زوجها وقريب أمي، لن يحضر لأنه لا نتيجة من هكذا اجتماعات، و "وقت يأمر رب العالمين نطلع" من المبنى، أي نجلو عنه أو نُجلى. وانتهت زيارة القريبة بالتشاور في الطعام وإعداده، فأخبرتها أمي بما طلبه أبو محمد، أبي، منها من اقتصاد في المصروف. فنَوت ان تقلي صحن بطاطا وصحن باذنجان. فإذا لم يرض ذلك الشباب فليشتروا ما يرضيهم ويعجبهم.
وقالت أمي ان ابي عاد في الساعة الخامسة بعد الظهر، وأكل بمقعده بحجرة الجلوس، وهي حجرة الاستقبال والطعام والتلفزيون، وشرب قهوته. وأخبرها ان ملتزم اعمال الترميم الذي يعمل معه لم يعطه أجراً عن عمله منذ أربعة أشهر، وهو يستحي من تذكيره. فردت امي انها هي كذلك تستحي من الاستدانة، أما هو فإذا طلب الى الملتزم أجر عمله فهو يطلب حقاً له، والدين ليس حقاً بل هو ذل على المستدين ومنّة من المدين. فوعدها بالذهاب الى زيارة الملتزم مساء. لكنه لم يذهب. وقالت أمي ان اخوتي الثلاثة عادوا بعد أبي الى البيت، واحداً واحداً. ولم يرضهم ما وجدوا من الطعام، فأكلوا كل ما وجدوه. فوضعوا شرائح الباذنجان والبطاطا المقلية في الأرغفة، وجلسوا قبالة التلفزيون، ولم يتركوا ما يؤكل، قالت معتذرة. ولم أفاجأ، فهذه سيرة البيت في كل يوم. لذا أمرُّ بمحل سندويشات وأنا عائدة الى البيت، فآكل رغيفي وأنا أمشي.


... في اليوم التالي

أخبرتُ أبي أنني انتهيت اليوم من معاملات إدخاله هو وأمي صندوق الضمان الاجتماعي. وهذا ما أسعى في إنجازه منذ نحو شهر. فهو اشتكى وجعاً في مواضع من جسمه، فنصحه طبيب يعرفه بإجراء فحوص في المختبر، وكتب له على ورقة صفة هذه الفحوص. وهو لم يجرها، وأرجأها الى يوم يتوافر فيه تكلفتها. فتسجيله في الضمان يمكنه الآن من إجراء فحوصه، ومعالجة وجعه. فرح فرحاً واضحاً. اما الدعاء لي برضا رب العالمين، وبابن الحلال المتباطئ، فمن أمي.


... في الثلث الأخير من آذار 1996

في أخبار اليوم المسائية أظهرت امي ضيقها بـ "مقالات" ام سليم في الجيران وعليهم. فأم سليم، على قول أمي، تأخذ على أم علي، جارة الطبقة الأولى، قلة النظافة. فهي، الى اليوم، لم تعزّل بيتها، فإذا آن وقت "طلوعها من البيت" وأخرجت من المبنى، مثلنا كلنا، بان الوسخ على بيتها. وظهور الوسخ ببعض الشقق، حين تحين مغادرة اهل المبنى المهجرين مبناهم، يقلق أم سليم، ويكاد يكون "سرسابها" على قول أمي.
وذهبت المرأتان، أمي وأم سليم، الى مبنى المهجرين القريب من مبنانا، ولا يفصله عن مبنانا إلا الطريق، فزارتا ام مصطفى. وهذه زيارتهما الأولى لها بعد زيارات العزاء بأبي مصطفى قبل أسابيع قليلة. وأم مصطفى، منذ وفاة زوجها الذي قضى بداء السكري، مريضة وتكاد لا تترك فراشها. وهي كانت وحدها مع زوجها، إذ تركهما أولادهما كلهم الى ألمانيا حيث عملوا بعض الوقت ثم تركوا، معاً، الى إسبانيا. ويرسل الأولاد الى أم مصطفى مصطفى قبل وفاته، ما تعتال به. وهي، وإلى أبو اليوم وحدها من غير قريب. ووحدتها هي ما يُحزن أمي وأم سليم. فإن اضطرت الى ترك بيتها، حيث تقيم مثلنا منذ أكثر من اثنتي عشرة سنة، فإلى أين تذهب وتبنين بلدتها لا تصلح مأوى آمناً؟ ومع من؟ ولا ولد لها...


... في اليوم التالي

حين عدت، مساء، قرأت على ورقة كرتون بيضاء معلقة بخيط الى شريط المصباح الكهربائي المضاء عند مدخل المبنى: "اجتماع لسكان البناية السبت الساعة 8.00 عند أبو حسن". فلما دخلت البيت كان أبي، وحده على عادته، ينظر الى صور نشرة الأخبار على شاشة التلفزيون ويستمع إليها. فأكلت وحدي، على عادة واحدنا كذلك. فنحن لا نجلس معاً للأكل الى مائدة واحدة، ولا ينتظر واحدنا غيره، ولا يعلم بساعة طعامه، أو عودته من العمل أو غير العمل. وكانت أمي، في الأثناء، تغسل الصحون، وأبي يدوّن بمفكرته أرقاماً أعرف أنها مصروفات البيت اليومية، بينما يستمع صغير إخوتي الى مسجلته بواسطة سماعتين يضعهما في أذنيه، ويقرأ كبير الأخوة غير المسافرين مجلة مختصة بأخبار النجوم. وأما الأخ الثالث، وهو باشر منذ بعض الوقت عملاً في مطعم، فلم يعد بعد من سهرته الأسبوعية. كانت النشرات الإخبارية كلها، بكافة الأقنية، انتهت من فقرتها الإعلامية، على ما يقول مذيعو الأقنية، وترك أبي مقعده الى حجرة النوم. فجلست مكانه، وقلبت الأقنية، فوقعت على برنامج "الشاطر يحكي"، وموضوعه الأم. غداً عيد الأمهات. ومنذ ابتدائي العمل، وتقاضيّ راتباً، وأنا أعيد امي وأهديها هدية. وهديتي رتيبة، فهي نحو ثلث راتبي من التعليم.


في 21 آذار 1996

كانت أمي تجلس على سريرها دامعة العينين، حين استيقظت في الساعة السابعة صباحاً. فجلست قربها، وضممتها إلي، وحاولت ممازحتها. فبكت بكاء هادئاً ورقيقاً. وقالت إنها تبكي شوقاً الى اخوتي المسافرين. وهي تشتاق أكثر ما تشتاق الى صغير إخوتي، عاصم، وآخرهم سفراً. فهو ترك البيت الى الكويت ولما يبلغ العشرين سنة. وكان السبب في تعجيله سفره تكاثر الكلام على وشك إخراج المهجرين من البيوت المحتلة، ونفوره من الإقامة بإقليم الخروب. فاستدان ثمن تذكرة سفر من أختي زوجة صاحب المدرسة. ولما حط بالكويت عثر على عمل محاسب، واستقر، وسدد دين التذكرة...
ولما رجعت الى البيت مبكرة هذا اليوم وجدت أخوتي الثلاثة والأولاد، في البيت. وهم جاؤوا ليعيّدوا أمي بعيدها. فقدّمت لها أخواتي ثوباً اشترينه شراكة، ووضعت أنا على المائدة قالب حلوى جلبته وأنا عائدة من عملي، وهديتي في مغلف. فأبدت ميلها الى هدية مثل هديتي. واقتصرت الهدايا على تقديمات البنات. وفي السابعة مساء دخلت الجارة القريبة، فشاركتنا الجلوس وأكل الحلوى والكلام. فمازحتها امي وقالت: "إنه آخر عيد في هذا البيت!". فردت ام سليم: لا تذكريني! وقبل ان تعود الى بيتها انتحت بي كبرى أخواتي جانباً وسألتني اذا كنت أوفر بعض المال. فسألتها عن الداعي المفاجئ للتوفير. فقالت ان عليّ شراء سيارة أتنقل بها بين الإقليم وبين بيروت حيث أعمل، حين نترك البيت ويبني أبي لنا بيتاً، وهذا، على قولها، خير لي من البقاء ببيروت والتنقل بين بيوت أخواتي، وليس في مستطاعي تحمله، ومن بقي من إخوتي الشباب بالبيت لا بد من ان يترك، فأقيم مع أبي وأمي وأعتني بهما الى حين زواجي...


... في اليوم التالي

استفقت متأخرة، كانت الساعة التاسعة، على أصوات نساء يتحادثن ببيتنا. وفي مثل هذا اليوم من كل أسبوع أترك البيت الى العمل في الساعة الحادية عشرة على التقريب. وتعرفت أصوات النساء المتحدثات بيسر، فكلهن جاراتنا بالمبنى. وهن يقضين "صبحية" كل يوم ببيت من البيوت مداورة، باستثناء العائلات الفلسطينية التي لا تزور ولا تزار. واعتادت أمي على المشاركة في "صبحية" واحدة هي تلك التي تلتئم ببيت أم سليم، قبالة شقتنا. وربما حملها احتفال الأمس على دعوة الجارات الى بيتنا، على خلاف سيرتها.
دخلتُ عليهن وجلستُ أشاركهن القهوة. وكانت ام حسين تخبر عما سمعته ليلاً في وقت متأخر من صراخ إحدى الجارات بالمبنى المقابل، وتسأل عما اذا كنّ سمعن مثلها. واستقر الرأي على انه صراخ امرأة الجار السكير الذي يرجع متأخراً الى البيت، ويضرب زوجته في بعض الليالي، فتستغيث بالجيران، وهم قلما يسمعون أو ينتبهون، ثم يسكت الصوت، ويشك الناس في الغد في ما سمعوا في عشية نهارهم الجديد. وسألتني جارة أخرى، أم سلمان، عن السبب في تأخير إخلائنا، إذ انقضى على وقت الإخلاء، أسبوع، وفي الأثناء لم يدخل المبنى شرطي من سرية الإخلاء، أو موظف يعمل في صندوق المهجرين. فأجبت ان علمي بالأمر مثل علمها. فاستنكرن تواضعي، أنا ابنة الجامعة، والمعلمة، وقارئة الصحف، وشريكة أبي، أبو محمد، في الاستماع الى نشرات الأخبار... وحسمت امي المناقشة فقالت: لا احد يعرف شيئاً من شيء، والمهم ان آخر حزيران هو آخر يوم نبقى فيه بالبناية. فاستفز الجزء الأخير من كلام أمي أم حسين، فقالت: لما يدخل التعويض جيب الواحد منا نقول بخاطركم واستروا على ما رأيتم منا! وقبلها لا!
فدارت أمي حرجَها، وطلبت الى أم توفيق الجالسة بقربها ان تقرأ لها طالعها في فنجان قهوتها المقلوب على فمه. فنظرت ام توفيق في الفنجان وقالت لأمي: "قلبك مهموم، وأرى غيمة سوداء مجتمعة لكن طرفها أبيض، أي ان الغيمة تمر على خير ولا تترك شراً". وأجمعن كلهن على ان الغيمة السوداء هي البيت، وهو المهم، "وهل من همّ اكبر من هم البيت؟". وأتمت أم توفيق كلامها: "أرى ستفة (ركاماً) أوراق وراءها طريق مفتوحة قد تكون مشروعاً برأسك...". فعقّبن مؤولات: "هذا التعويض، والمشروع هو عمارة البيت". فقالت ام توفيق: "هناك فرحة تفرحينها بأحد قريب بعد إشارة أو إشارتين". فتولت امي التفسير، هذه المرة: "هذه كنّتي زوجة ابني كمال، تلد بالشارقة". فسألت قارئة القهوة أمي: "من المرأة السمينة والقصيرة يلعلع صوتها بالكلام عليك وعلى بناتك؟". فأجابت أمي: "هي أم علي!". وكأن المرأة تسألها عن واحدة تمشي بالطريق أو تطل من الشرفة هناك. ثم بصمت أمي، تلبية لأمر البصّارة، بإبهامها في الفنجان. فتأملت أم توفيق الموضع الأبيض الذي خلّفه إبهام أمي بقاع الفنجان وقالت: "تصلك ورقة بيضاء طيبة تُطلعك من همك وفيها كل خير". فقلن وهنّ يتسابقن ويضحكن: "هذا الشيك الذي نقبضه عما قريب». فابتسمت أمي وقالت: "إن شاء الله".
وفي طريق عودتي مساء الى البيت مررت بمعمل أحذية قريب من بيتنا تعمل فيه امرأة مهجّرة بائعة. فسألتني أم رضا، وأنا أتفحص حذاء جديداً، عن الجهة التي نذهب إليها عند مغادرتنا المبنى، فقلت: "لا أعرف، آخر حل هو أن ننصب خيمة على الرصيف!". وسألتها: "وأنتم؟" فقالت متباهية: "نحن استأجرنا محلاً ثانياً بالضاحية". فنظرت إليها معجبة، فأكملت: "حال قبض التعويض نلحق بيت عمي (والد زوجها) ونسكن معهم". وهي تقصد أولادها الثلاثة الذين تركهم زوجها القتيل، وهي. وأما المحل الذي "استأجرته" فتريد ان يستأجره سلفها، أخو زوجها ومستخدمها في محله هذا.


.. بعد اسبوع

اليوم السبت، نمت الى الظهر أو قبله بقليل. جلست وحدي في الحجرة المشتركة أشرب قهوتي، وأمي في المطبخ تعد طعام الغداء. ثم قمت الى تنظيف البيت. فالسبت هو يوم حصتي من البيت وأعمال نظافته. وأتممت عملي في الساعة الثالثة، واستلقيت لأرتاح بعدها نحو نصف الساعة. فدُق الباب ودخلت صديقتي، وهي امرأة متزوجة، ومهجّرة مثلنا، تسكن بيتاً بمبنى قريب هو أحد مباني المهجرين الثلاثة، ومعها ابنها وله من العمر سنتان. وفي كل مرة تزورني فيها هذه المرأة، وسنها قريب من سني ولم تبلغ الثلاثين بعد، يضيق صدر أمي بولدها وبشغبه وجريه في انحاء البيت كلها، لكنها من النساء القليلات اللواتي هن من سني ولم يرفع الزواج، ولا رفعت الأمومة، حاجزاً بينهن وبيني. فيسعني الحديث إليها في قلقي الشديد من السكن بإقليم الخروب بين ناس لا نعرفهم ولا يعرفوننا، ومن تقطّع الوقت في الانتقال من مكان الى مكان... وهي تجيب قلقي بقلق مثله. فهي لا تعرف الى اين تذهب بعائلتها الصغيرة، ولم تعد نفسها ليوم تضطر فيه الى مغادرة المبنى قبالتنا، وتقول انها تضع "كل قطع (أواني) الزجاج في صناديق الكرتون" منذ الساعة.
وعاد والدي الى البيت في الخامسة بعد الظهر. فجلسنا الى الأكل ثلاثتنا، والدي وصديقتي وأنا. فلما أكلنا تركنا والدي الى سريره، وبقينا نتحادث، نحن الاثنتين. فعادت الصديقة الى حديث محبب الى قلبها وقريب وهو حديث زواجي. فهي تريد إقناعي بأن في الزواج حلَّ كل مشكلاتي، تلك التي نتحادث فيها وتلك التي نكتمها. فأنا أستطيع السكن، على ما تقول، إذا تزوجت حيث أريد. وهذا، على ما أرى أنا، صحيح، غير انه يفترض ان العريس ينتظر أمام باب البيت إشارة مني ليهجم على ابي ويخطب يدي...
وبقينا نتحادث بهذا الحديث الى السادسة والنصف. فلما عزمت على المغادرة كان أبي وأمي استيقظا من قيلولتهما. وأعدّت أمي لأبي ماء ساخناً يستحم به قبل الرواح الى اجتماع أهل المبنى للتداول في موضوع تركنا المبنى. وكان أبي طلب إليّ مرافقته الى الاجتماع. فأنا، بسبب عملي في التعليم، و "علمي"، لن أكون "غلطاً" في مثل هذا المجلس المقتصر على الرجال والآباء. ولم أرَ بأساً في ذلك على رغم قلة ما أعرف في المسألة ومنها.
صعدنا طبقتين الى بيت أبو حسن. واكتمل عقد الثمانية. والصحيح انهم تسعة إذا عددت نفسي فيهم. فالفلسطينيون الثلاثة، الباقون من عائلات المبنى، عائدون الى مخيم عين الحلوة بصيدا حال إجلائنا، وأياً كان مبلغ التعويض. ودام الاجتماع، أي جلوس الجالسين معاً، الى العاشرة والنصف، الى حين دب النعاس في المجتمعين. فالكلام في موضوع الاجتماع استنفد في نصف ساعة، ودار على ضرورة تستر بعضنا على بعض في ما يعود الى تسجيل الأسرة المهجّرة الواحدة أسرتين في صندوق المهجرين، هي وأسرة أحد أولادها، وتقاضيها عوض التعويض الواحد تعويضين، على ما يفعل كل المهجرين. وكادت أسر مبنى من المباني التي أخليت في حيّنا تفوز الواحدة منها بتعويضين لولا وشاية بعضها ببعض. فالوشاية هي الشر الأعظم والأول. ويليه العجلة، على ما قال ابو حسن لأبي محمد. فأبو محمد ينتظر سدادَ التعويض ليسافر الى كندا حيث تقيم إحدى بناته، وتنتظره هو وأمها. وجرى كلام المجتمعين على من يعرفون من الحركة ("امل") أو من الحزب ("حزب الله")، وعلى تلزيمهم "قضيتنا"، وضمانهم "لنا" قبض تعويضين للعائلة الواحدة نظير تفويضنا إياهم بتعقب أوراقنا. فرأى أبي ان "التفويض" مسألة غامضة، وقد تؤدي الى تقاسم التعويض، ومثل هذا حصل في أحوال كثيرة يعرفها هو ويعرفها المجتمعون. فالأسلم لنا ان يتولى صندوق المهجرين الموضوع كله، وأن لا يخبر بعضنا عن بعض، وألا يستعجل أحد أو ينفد صبره... ولم يعلق أحد على كلام أبي، وهو تكلم بعد ان تكلم غيره كلهم وسكتوا، وتكلم طويلاً. فبدا انه استوفى المسألة، أو استنفد صبرهم أو أفكارهم في الموضوع. فلم يكد ينتهي من كلامه حتى تكلموا في كل الأمور، عدا موضوع الاجتماع. وانصرف كل واحد الى بيته متثائباً. فلما دخلنا بيتنا كانت أمي مستيقظة. فسألت أبي إذا كان جائعاً. وكانت تنبعث من غرفة إخوتي أصوات مختلفة، ولم يخرج أحد منهم ليستطلع ما جرى في الاجتماع.


... بعد يومين

عدت من العمل والساعة تشارف التاسعة مساء. قعدت آكل ما وضعته أمي على الطاولة الصغيرة والواطئة أمامي. وقعدت أمي وهي تغالب نعاسها بقربي. فسألتها عن يومياتنا، أي يوميات أهل المبنى التي اعتدت منذ بعض الوقت سؤالها عنها. فقالت، وهي تداري بَرَمها برواية ما لا ترى فائدة من روايته، أن ام سليم وأم حسن تشاجرتا على مسمع من البناية كلها. وعلا صوتهما حتى عاب عليهما الجيران ذلك. والسبب في الشجار هو "مثل العادة" الماء. فالماء غير جارية منذ يومين، واليوم عادت الى مجاريها. فأرادت ام سليم ملء خزانها قبل أهل البناية كلهم، ولم تترك آنية من أوانيها، الزجاجية والبلاستيكية جميعاً، إلا وملأتها، والناس ينتظرون. فنفد صبر ام حسن، وعنّفت ام سليم على تماديها في الاستهتار بالمنتظرين. فنزل الى مدخل المبنى من لم يكن نزل بعد. وعقبت أمي على خبر الشجار بقولها إنها تعد الأيام الى حين تركنا العيش مع "مثل هؤلاء البشر". فسألتها عما حدث غير هذا في اثناء النهار. فقالت: "هل أنا إذاعة أو مسجلة..."، وهمت بالقيام الى نومها. فسألتها عما يقول أبي في شأن الإخلاء، وعما سمع. فعادت واستقرت جالسة وقالت: "سمع أبوك أننا قد نبقى بعد سنة لأن وزارة المهجرين بلا مال".


... في اليوم التالي

بكّر أبي على تمتماته الغضبى. فسمعته يقول قبل أن أخرج من حجرة النوم: "الذين استحوا (خجلوا) ماتوا". فحسبت انه يكلم أمي بهذا الكلام الخشن، وهو أقلع عن هذا منذ بضع سنوات. فخرجت لأستطلع الأمر، فلم أجد أمي في حجرة الجلوس. ووجدت أبي يتكلم بصوت مرتفع لتسمع وهي بالمطبخ. وكان يتم ما ابتدأ قوله: "ليس كل من تهجّر من ضيعته يصح ان يعيش بالمدينة، وما خلقت الحمرا لكل الناس". سألته عما به، وبمن يعرّض كلامه. فقال ان ام حسن "حطت كيس زبالتها (قمامتها) على طرف درج البناية"، ولم تخرجها من المبنى الى المكب القريب، والمبنى تسرح فيه القطط وتمرح، ففتحت الكيس و"نكَشَت" ما فيه، وأكَلَت، وبعثَرَت ما تبقى على الدرج كله وبين الطبقات، فحق في "بنايتنا" انها بناية مهجرين... وترحم على الحمرا وعلى ماضيها يوم كان "لا يسكنها إلا الخواجات"، على قوله.
في المساء، لم تشأ أمي إخباري بما جرى في أثناء النهار. فلما ألححت عليها أصرت على أنها لم تر أحداً اليوم، ولم تكلم أحداً، فهي خجلة بما فعلته جارتانا، أم سليم وأم حسن. وعزمت على ألا تتمادى في محادثتهما أو في محادثة غيرهما من الجارات. وبينما أمي تجهر عزفها دخلت أم سليم الحجرة، ولم تطرق الباب، وهو كان مفتوحاً شأنه في معظم الأوقات. وقالت لأمي إنها، أي أمي، لو كانت محلها لما فعلت إلا ما فعلت هي، أم سليم. فأجابتها أمي ان "هكذا شعب" يجب ان يعيش في غير الحمرا، و "نحن نُضحك الناس علينا دائماً، صوتنا ملعلع، وجَيِّتنا (وسخنا) طالعة ريحتها، وتعودنا على عيش التهجير، ونحن نستأهل (أهلٌ لـ)ـهذا". فاستدارت أم سليم، وخرجت مغضبة. فلما اجتازت بابنا ودخلت بيتها، خرج أبي من حجرة النوم وتوجه الى بابنا فأغلقه، وطلب من أمي ألا تسمح منذ اليوم لأحد بمحادثتها في مثل هذه الأمور.


... في منتصف الأسبوع الأول
من نيسان 1996

أول يوم من ايام عطلة الربيع، جلست الى الشرفة أرتشف قهوتي الصباحية الى جنب ستارة غسيلنا المنشور على الشرفة. بدت الطريق قريبة، والسيارات قليلة، والناس قليلون، وبعضهم من مبانينا، نحن المهجرين. إنها ام خليل الفلسطينية تجتاز الطريق الى محل البقالة، قبالتنا، بقميص نومها، وعلى رأسها منديل يستر مؤخرة الرأس والشعر. وعندما خرجت من المحل تعمدتُ أن أنظر الى موضع آخر. فنحن، أهل المبنى، نداري بعضنا بعضاً كما يداري الأخوة واحدهم الآخر، كان بينهما ود أو لم يكن. فبيننا ما بين أخوة البيت الواحد روابط، ليست كلها صافية. والمبنى، بعائلاته المختلفة وبعضها لم يدخل بيت العائلة الثانية، واحد ومتصل. ويستحيل على أسرة من الأسر النازحة، أو المهجّرة، ان تستقل بنفسها، أو بأسرارها. فلا ستْرَ ينجح في حجب ما لا يخفى على أعين الجيران الكثيرة وآذانهم المتنبهة، ولا يكاد ينم به صوت غريب، أو نبرة غير معتادة، أو وجه شاحب، أو مشية متعثرة، أو غياب، حتى يستدل به الجيران على معناه الخفي. فيفشو فيهم، ويتناقلونه، ويزيد واحدهم ما رآه ولاحظه على ما رآه غيره ولاحظه.


... في أواخر الأسبوع

سألت أمي، قبل أن أخرج للتبضع من سوق تعاونية قريبة، إلام تحتاج فأعود لها به. فاستمهلتني بعض الوقت لتلبس وتذهب معي. فلما أردنا الخروج لاحظت أن أمي ترتدي تنورتها السوداء التي اعتادت لباسها بالبيت، وكنزة صوف بنية تظهر آثار العرق والنوم واضحة على طرف رقبتها، والتنورة والكنزة تلبسهما وهي تطبخ أو تغسل الصحون بعد الطعام. فوقفت عند الباب واقترحت عليها ان تبدّل ثيابها بثياب غيرها تليق بمناسبة خروجنا معاً الى السوق وباحتفالنا بالمناسبة النادرة هذه. فلم تفلح الدعابة في تليينها. فردت بجفاء ان منظرها إذا لم يعجبني، أنا "بنت جواد"، على ما قالت ناسبة إياي الى أبي دونها هي، وإذا كنت "أتعيأ" (أتعيب أو أستعيب) بها، فلأرح بطريقي ولا تريد مني شيئاً. ولم ينفع جوابي. وجاء صوت أحد إخوتي يتهددني على رفعي صوتي بوجه أمي، ولم أكن أعلم بوجوده بغرفة الأخوة الشباب. ففتحت الباب واجتزته وسبقت أمي الى نزول الدرج. وسمعت أمي ورائي وهي تخبر ام سليم بخلافنا على لباسها وخروجها معي وهي بهذا اللباس. ولحقت بي بعد أن أسمعتها أم سليم كلمات الطمأنة التي تريد سماعها، وأوصتها شراء بعض اللحمة والخضار لها.
لحقت بي أمي ثم سبقتني. وعبثاً حاولت اللحاق بها، فهي سريعة المشي على رغم تلفُّتها المستمر الى واجهات المحال، واصطدامها بالواقفين أو بالماشين الآتين من أمام، وبانحرافها عن خط مسيرها. ولما وصلت الى باب السوق التعاونية انتظرتني على مضض، فدخلنا معاً. وقادتني الى الأقسام التي تعرفها حيث الأرز والسكر والملح والبهارات. وكانت، في كل مرة تتناول كيساً أو علبة أو حنجوراً، تسألني عن ثمنه، وتطمئن الى كفاية ما أحمل من المال. ثم انتقلت بي، وبالعربة التي أدفعها أمامي، الى قسم آخر قريب حيث الحليب والمربيات والجبنة واللبنة. وتركت مشترى الخضار، ثم اللحمة، الى آخر الشوط. ولم تنس أم سليم. سددت الحساب واستمهلتها دقيقتين لأشتري بعض مستحضرات التجميل التي أحتاجها، فتأففت، ووضعت الأكياس التي تحملها على الأرض عند باب التعاونية، ووقفت تنتظر انتظار المصلوب على صليبه. فلما عدتُ تقاسمنا الأكياس، وحرصتُ على حمل الجزء الأكبر منها، وأثقلها، ويممت صوب البيت بخطى سريعة.
أعدّت أمي الطعام، ونظفتُ أنا البيت كنساً ومسحاً بالماء. أكلنا معاً من غير ان نتبادل الكلام، ومن غير زعل. وسبقتني أمي الى النوم. نامت بثيابها، وصنعتُ مثلها. واستفقت من نومي، وكانت الساعة الخامسة، والدنيا مقبلة على العتمة. وكنت على موعد مع صديقتي المتزوجة، فمررت بها، وخرجنا في نزهة على كورنيش المنارة، ومعنا ولدها الصغير. وعدت الى البيت، فوجدت إخوتي الشباب الثلاثة، على غير عادتهم، مجتمعين. كان الأول نائماً بعد سهرة العمل أمس، والثاني يقرأ كتاباً يتعلم فيه اللغة الإنكليزية، والثالث يستمع الى برنامج موسيقى وأغان أجنبية على قنال أم. تي. في.
لم يلبث الأول أن أفاق من نومه، فخرج من الحجرة وأخذ من يد أخي الثالث، المستمع الى الأغاني الأميركية، جهاز ضبط الصورة بحركة خاطفة، وأطفأ الصوت. وهمّ بالعودة الى نومه، فثار عليه أخي، وجعل يصرخ ويردد بصوت زاعق: لا يحق لك! لا يحق لك! فرد الأخ النائم بأنه يحق له كسر التلفزيون كله وليس إسكات الصوت. فدفعه أخي "الموسيقي". فضرب أخي المستيقظ لتوه أخي الثاني، وتبادل الاثنان كلمات متباعدة وحذرة. فخرج أبي من حجرته حيث كان نائماً، ونهر ابنيه. فردا على انتهاره إياهما باستعمال القدمين في شجارهما، ورمى واحدهما الآخر بمنافض أعقاب السجائر وبالطاولات النحيلة التي توضع عليها المنافض. فصرخت أمي بأبي: "يا جواد (وهي تلفظها طبعاً: يا جويد) ذبح أولادك بعضهم!»". ونظر أبي الى ولديه المتعاركين بازدراء وعاد الى غرفة النوم. فهدأ العراك، وترك أخي "الموسيقي" البيت، وعاد أخي النائم الى الحجرة ليدخن السيجارة تلو السيجارة، بينما أخي الثالث يدرس لغته الإنكليزية في كتابه.


... في اليوم التالي

عاد أخي الذي بات الليلة خارج البيت في السابعة صباحاً وتسلل الى فراشه ونام، على ما أخبرتني أمي وأنا أعد شاي الفطور، وهي تخرج الى السوق للتبضع. وكانت خطوات أمي، وهي تنزل آخر درجات السلم، تُسمع حين دُق الباب، ودفعته أم سليم ودخلت. وكانت تحمل بإحدى يديها صينية مثقلة بالبصل الأحمر، وفي الأخرى سكين تقشر به البصل. بحثت عني بعينيها السريعتين، ومشت صوبي وجلست في مقعد قربي وسألتني عن أمي. وابتدأت بتقشير بصلاتها، وعيناها تدمعان. ثم قالت: "اعملي فنجان قهوة، الله يجبر خاطرك!". أعددت فنجانَيْ قهوة، وقدمت بين يديها فنجاناً، وجلست حيث كنت، وشربتُ قهوتي وعيناي تدمعان بدورهما، وهي تتكلم وأنا لا أصغي إليها وأكاد لا أسمع مما تقول غير كلمات تطفو بين الحين والحين. فسمعت اسم جميل، صاحب محل البقالة الأقرب إلينا، وهو بائع يبيع كل ما يستطيع حشره في محله، وكل ما يحتاجه المهجرون من زبائنه. قالت إنها استدانت من محل جميل اليوم ما احتاجت إليه، وهي حالها كل يوم وحالنا، ولا تعرف متى ترد له دينَه المتزايد والمتراكم، وهذه كذلك حالنا كلنا. وجميل "الدكنجي"، لا يزال يسجل بدفتره ديون المهجرين، يوماً بعد يوم، وسلعة بعد سلعة، وكأننا نسدد هذه الديون في أوقات تسديد معلومة، بخلاف الوقائع كلها. وهو حين علم بقرب جلائنا عن بيوتنا لم يكتم "فرحة قلبه"، على ما قال. ولما سُئل عن السبب في فرحته قال إن رحيل المهجرين يريحه من مراكمة الديون التي يعرف انها لن تسدد كلها، ويعرف ان هذا الشطر من زبائنه ربما تركوا من غير إلقاء السلام عليه.
والحق ان ما بين الدكنجي وبين زبائنه هؤلاء لا يقتصر على شراء الحليب وسكاكر الأولاد، من جهة، وتسجيل المشتريات لوجه الله، من جهة أخرى. فالزبائن المهجرون يخجلون من ترك ديونهم على عواهنها، أو "على البركة". فإذا كبر دين زبون، أي عائلة، امتنعت من الشراء من دكان جميل الى حين تسديد جزء من دينها. فلا تستحي، بعد التسديد، من استئناف الشراء والتسجيل. ولا يستحل ترك الشراء على الغارب إلا من سدد دينه وأطفأه.
وإلى ذلك يخدم زبائن جميل المهجّرون صاحبهم على طريقتهم. فهو لا يكاد يفتح محله باكراً حتى تَرِدُ عليه صينيات القهوة من البيوت. وتلحق بها صينيات فطور الصباح المتنوعة، من اللبنة والجبنة والشاي الى صحون الفول المدمّس والكبد النيئة والكفتة النيئة. وإذا حان وقت الغداء احتار جميل في ما يقبل من "الصحون" والمآكل، او في ما يأكل ولا يأكل. وقلما تتردد عائلة من العائلات المدينة لجميل في أمر أحد أولادها الفتيان والعاقلين بمساعدة صاحبها، و "الدولشة" عليه بمحله، وترتيب المحل، والبيع فيه، ونقل المشتريات الثقيلة الى بيوت "الخواجات"، وهؤلاء هم الشطر الآخر من زبائن جميل. وجميل مسرور بكل هذا. فهو، لأمر ما، لا عائلة له، أي لا زوجة له ولا أولاد. وتوفي والداه بعد أن طعنا في السن. وتمنعه سمنته من الحركة النشيطة، فتعوّض خدمةُ الأولاد تثاقله، واضطراره الى الجلوس، وإدارة المحل بالكلام. فلا أدري إذا كان إعلانه عن فرحته بترك المهجرين الحي، وهم عائلته العديدة، صادقاً. وفي المساء جاءنا زائر ابن عم بعيد لنا، هو أحد اقاربنا ومن عائلتنا. فطلب من أبي اشتراكه السنوي في رابطة العائلة، ويبلغ عشرة آلاف ليرة. وشرح لأبي، ولأخوتي الجالسين في الغرفة المشتركة والمنصرفين كل إلى أمر يخصه، منافع الاشتراك: مساعدة المحتاج من العائلة، والتقارب بين المتباعدين... فلم يرضَ أبي تجديد انتسابه الى الرابطة. ولم يعر أخوتي ابن عمهم اهتماماً. فبقي يسهر ويتكلم الى الساعة العاشرة. ثم وقف وسلّم وذهب.


... في الأسبوع الأول من ايار 1996

أصبت بحمى قوية كانت من أعراض "الكريب"، فاستضافتني أختي، زوجة صاحب المدرسة، ببيتها نحو أسبوع، اعتنت في أثنائه بنومي وطعامي ودوائي. ودعت يوم الأحد أهلي كلهم الى الغداء عندها، وكانت أبلغت الى أخي كمال، بالكويت، خبر اجتماع الأهل يوم الأحد. فجاؤوا كلهم، وكلمهم أخي بالتلفون، فتعاقبنا كلنا على الكلام، وسؤاله عن صحته وعمله، وتمنّى لي الشفاء. وأكلنا الى مائدة أختي، وتناولنا القهوة. وذهب أهلي وتركوني عند أختي، على أن ألحق بهم بعد شفائي.