الأحد، 23 ديسمبر 2012

وباء العنف (السوري) ركنه إيمان يفل الاجتماع ويصدعه



المستقبل 23/12/2012
كان رد الجواب على تسجيل الحكومة الاميركية "جبهة النصرة الاسلامية في بلاد الشام"، العاملة في الشمال السوري والشمال الغربي، في سجل المنظمات الارهابية، هتافَ متظاهرين سوريين، يوم الجمعة في 14 كانون الاول الجاري، "كلنا جبهة النصرة"، ورفع لافتات في بعض التظاهرات كتب عليها: "لا إرهاب في سوريا غير إرهاب بشار الاسد". وأحرج حمل المنظمة المقاتلة في صفوف المقاتلين السوريين المعارضين والمعروفة في حلب وضواحيها بصرامة مقاتليها وبأسهم وحمايتهم الأهالي من عدوان شراذم فوضوية تنتسب الى "الجيش السوري الحر" على الارهاب الائتلافَ الوطني السوري الطري العود. وأحرج على نحو خاص رئيسه، "الشيخ" معاذ الخطيب، وجمعية الاخوان المسلمين، الفصيل النافذ في الائتلاف. فنسباه الى "الكيل بمكيالين" في مصطلح فاروق الشرع، والى تغليب الوصمة "الايديولوجية" أو الاسلامية على سجل الافعال والاعمال، وهو سجل خالٍ على قول الخطيب والجمعية الاخوانية من قتل المدنيين "الاعمى"، والثأر من أهل المذاهب والتمثيل في القتلى والذبح على مرأى من أجهزة التسجيل التلفزيونية ومسمع منها.

والى أيام قليلة قريبة خرج متظاهرون سوريون في المدن والارياف الشمالية نفسها وجهروا رغبتهم في "ألا ينصرهم" أحد غير "الجيش الحر". وبعض الأهالي أسروا الى وكالات أنباء متفرقة تحفظهم عن مقاتلين غرباء أو متخفين على هوياتهم، لا يعرفهم أحد ولا يختلطون بالناس، وينم ظاهرهم وبعض أعمالهم بيسر غير معهود في جماعات المقاتلين البلديين. وهم، الى هذا، يدعون الى "إسلام" لا يعرفه معظم الاهالي، والى شرع غير القانون الذي ألفوا الكلام عليه، والاحتكام إليه. ويقرن الاهالي، أي بعضهم هذا، التحفظ المتردد والمتلعثم بإعجاب صريح بشجاعة القوم، وترفعهم عن السلب والغنم، وسعيهم في سد حاجات الاهالي الكثيرة والمرهقة. ولم يتردد الاهالي وحدهم، ولا بعض القيادات السياسية والعسكرية السورية. فبعض أعمال التفجير، في حلب ودمشق على الخصوص، تطاولت الى مرافق الاجهزة الامنية، وقتلت فيمن قتلت مدنيين وعابرين أو سكاناً محليين، الى موظفين عاملين. ولم تتسر "جبهة النصرة" فأعلنت مسؤوليتها عن هذه الاعمال.

وتذرعت وزارة الخارجية البوتينية و"السوفياتية" بعمليات "النصرة"، ودعت مجلس الامن ومجلس حقوق الانسان الى ادانتها والتنديد بها. وعزتها الى "الجماعات المسلحة الارهابية" التي تسلحها "الولايات المتحدة واوروبا وبعض الدول العربية النفطية"، بحسب الاحصاء المعهود منذ بعض الوقت. ويهلص منه أصحابه الى اختصار الحركة الشعبية والديموقراطية السورية فيه. والحق أن الولايات المتحدة الاميركية سكتت عن هذه العمليات قبل أن تعرب عن إدانتها المنظمة الاسلامية الاصولية برمتها، وعن شكوكها "الرجعية" والمتأخرة في اصحابها. وعندما نددت بعض منظمات حقوق الانسان الدولية بمسؤولية بعض فصائل الجيش السوري الحر عن إعدامات ميدانية، وقتل انتقامي وثأري بوسائل "وحشية"، وعن خطف رهائن واحتجازها والتلويح بقتلها، لم ترفع الولايات المتحدة ولا غيرها، ولم يشذ الداخل العربي والسوري صوتاً، جهيراً (أو جهورياً) يدين الانتهاكات الكثيرة في معرض حرب شرسة وقاسية يخوضها حكم او سلطان عشائري وبيروقراطي على اهالي سوريا وجماعاتهم وبلادهم، وعلى حركتهم وإنتفاضتهم. وأحجمت الصحافة الدولية، وهي وكالات الاخبار الكبيرة الانكليزية اللغة والفرنسية وبعض الصحف الذائعة الصيت في اللغتين، أحجمت الى وقت قريب عن تناول شبهات لابست بعض الحوادث البارزة التي نجم عنها عدد كبير من الضحايا (في داريا وفي عقرب... وغيرهما).

وقلما تتطرق اقلام سورية كثيرة شاغلها تعقب الحوادث والوقائع الوطنية والتعليق عليها، وعلى مفترقاتها ومنعطفاتها، الى وجوه العنف الفظيع التي تلابس الحوادث والوقائع هذه منذ الايام الاولى لقمع "الدولة" العشائرية والبيروقراطية رعاياها المتظاهرين والمتمردين عليها، والخارجين على قهرها واستئثارها ومهانتها وكذبها. وبدا تقليل العنف المتفاقم والمتعاظم، والسافر من غير تكتم ولا تستر، بـ"طبيعة النظام" المتسلطة والبوليسية، واعتياده خضوع الرعية، وماضيه الدامي (حوادث 1979 1982 التي كانت ملحمة حماة ومجزرتها ذروتها الهاذية)، الى اتساع الهوة الاحتماعية بين أهل القوة وبين عامة الشعب، سائغاً ومعقولاً. وبدا تعليل جنوح حركة الاحتجاج العامية والشعبية الى الرد على القتل والسجن والخطف والتعذيب بالحماية المسلحة معقولاً وسائغاً بالمقدار نفسه على اضعف تقدير. وحين عزت الحجة العقلانية والسياسية لجأ التعليل الى "عامل الهدم" الذي لا يسع "الثورة"، وهي أصل ينطوي على علله وعلى تظاهراتها، التخفف منه.

رأيان

ولا شك أو مشاحة في أن فرقاً عميقاً يميز رأي الانتفاضة السورية في صنع العنف التي تتوسل بها الى كبح ضراوة النظام وصده وكسر شوكته، من رأي أهل النظام الضاري في عنفهم وعنف نظامهم. فالمعارضون المسلحون، وأنصارهم معهم، لا ينفكون شديدي التحفظ عن نتائج الاعمال العسكرية التي حُملوا عليها واضطروا الى ركوبها مرغمين. وهم ينسبونها على الدوام الى مقاصد القوات النظامية، وهي قوات مزدوجة وبطانتها الداخلية أهلية مذهبية، وينسبونها الى إرادتها وتخطيطها. ويقصرون دورهم، وما نجم عن عنفهم تالياً، على الرد والدفاع عن النفس. ويغضون عن بعض الاعمال الهجومية الانتحارية التي تولتها جماعات "مزدوجة" بدورها، أو ابتدأت مزدوجة مثل "النصرة"، ويخاطبها مساجلوها الحرسيون الخمينيون اليوم، وينفون عداوتهم لها، ويحذرونها المصيدة الاميركية التي نصبت لهم وقد توقع بهم لا قدر الله! ويسكت المعارضون، حرجاً وحياءً، عن المبادرة الى العنف، وإعماله في مواقع لا يبدو إعماله فيها ضرورياً مثل مهاجمة بلدات أخلتها القوات الحكومية واتخاذها خندقاً أو قاعدة حين لا يرى الاهالي مبرراً لذلك. وغالباً ما يتعللون بضرورات عامة أكرهتهم عليها مصلحة الحرب الوطنية الدائرة في مسارح وميادين أخرى بعيدة. ويعولون على هذا التعليل، وعلى عمومية المصلحة المفترضة، في سبيل التحلل من التبعة أو المسؤولية عن القصد الى القتل والدمار ومباشرتهما بأيديهم وعقولهم وقلوبهم.

وعلى خلاف مقاتلي المعارضة المتطوعين، يتستر النظاميون (الوجه البيروقراطي من الاستيلاء الانقلابي) وفرق الموت والسلب شبه النظامية الموازية والمندمجة معاً، لا يتسترون قيادةً عصبية وجنوداً غفلاً عن قصدهم ضروب القتل والانتهاك والإيلام والدمار التي تسلم المصابين بها الى الخروج والهجر واليأس و"الحيوانية" (وإنكارها: "والله أنا مو حيوان!"). ورد بشار الاسد من قناة تلفزيونية روسية، قبل نحو الشهرين، على بعض أقطاب نظامه المنكرين عليه مطاولته الحركة الوطنية والديموقراطية المنتفضة، وصبره على سحقها بكل القوة والعنف اللذين في متناوله وعلى شاكلة أبيه (وهؤلاء ينسون أن رأس السلالة لم يرتكب حماة إلا مطلع السنة الثالثة من اضطرابات متنقلة وضيقة).

فقال "السيد الرئيس" الذي لا سيد غيره ما معناه (عطفاً على مقال الكاتب في "نوافذ المستقبل"، 9 أيلول 2012): يفترض الرد الساحق والسائغ محلياً وإقليمياً ودولياً استدارج المعارضات وجمهورها الى السلاح والفوضى الاهلية والخلاف والاستغاثة بالخارج وإلقاء السوريين في مهاوي الروع والجوع والنزوح والعالة، وعندها "يفهم" السوريون ومعهم العرب ما فهمه بوتين ولافروف وهو جينتاو، وقبلهم جميعاً قاسم سليماني وعلي خامنئي ووحيدي وحسن نصرالله وصفوي ويدالله دواني، منذ 13 آذار 2011 من أن سحق الحركة الشعبية شرطه "السياسي" المعقول والمقبول هو تبلور الحركة في صورة عصيان أهلي مسلح وباهظ التكلفة؛ وحينها لا يشك سوري ولا عربي ولا "دولي" غربي في ان الخروج من الحرب وفظاعاتها وترويعها، وعلى صدر سوريا ألف أسديّ وأمرها في يدهم "الى ألف عام" على قول السفاح العباسي الاول، هو (الخروج) الظفر العظيم. فـ"المزيج المرهق من العنف والصبر" (المطاولة) الذي شخّص فيه فرانسوا ميتران نهج حافظ الاسد في 1986 هو سلاح سلطان دمشق الاحمر القاني والأمضى. ويفترض هذا فشو العنف وتغلغله في شغاف الحياة اليومية وثناياها الاجتماعية العميقة والسطحية، أي هو يفترض انفجار "الازمة المأساوية" أو الفتنة، وتداعي القتل على شاكلة وباء الطاعون، على ما استعارت فاجعة سوفوكليس "أوديبوس ملكاً".

القدس(ي) والعقل

ومثل هذا العنف الوبائي لا يقدر عليه علمانيون مدنيون وعقلانيون، مهما تواضعت علمانيتهم ومدنيتهم وعقلانيتهم، ولا طاقة لهم به. فكيف بالمبادرة الى إشعال فتيله، والتحكم في نشره. وذلك من الشتيمة النابية والمهينة ("انسوا أولادكم واستولدوا نساءكم غيرهم وإذا عجزتم فهاتوهن" على قول ضابط أمن درعا، وقريب "سيادة الرئيس" الى مشايخ عائلات المدينة الحورانية وعشائرها)، فحصار المتظاهرين وتفريقهم واعتقال بعضهم، فإغلاق الحي وتفتيشه وتجويعه ومداهمة بيوته وتحطيمها، فمطاردة الناشطين وخطفهم وقتلهم، فنصب قناص على الاسطح... وعلى خلاف العلمانيين والمدنيين والعقلانيين (ومعظمهم في أول الامر نساء علمانيات...) بادر الى ذر الطاعون من يملك الآلة البوليسية والعسكرية والإدارية والاتصالية المناسبة، من وجه، ومن تطاوعه وتنقاد له لغة ملائمة، من وجه آخر ليس أقل خطراً ومكانة من الوجه الأول. ولم يملك دعاة الاصلاح والتحرر المدنيين والديموقراطيين، في أول أمرهم، شيئاً ضئيلاً من الآلة البوليسية والعسكرية التي قام الحكم العشائري والبيروقراطي السلالي على احتكارها. وهم حصلوا بعضه القليل حين تفسخت الآلة العتيدة، وتصدعت تحت وطأة العمل الذي أوكل إليها وتولته، ولا يزال معظمها يتولاه.

ولعل العامل الأقوى وربما المزمن في "قصور" المنتفضين السوريين عن التوسل بطاعون العنف، إذا شاؤوا، هو خلو وفاضهم من اللغة "المقدسة" الملائمة. فالعنف الاهلي، أي إباحة القتل المرسل من غير تمييز "درجات" التبعة والاستحقاق وإجازته على الظن العام والمجمل ("على الهوية") وإتباعه بالدمار والحصار والتهجير والتجويع والاغتصاب، ليس في مستطاع أفراد مدنيين وعقلانيين، "عاديين"، على قول دافيد روسيه الفرنسي، تصوره واحتسابه جائزاً (على معنى الإمكان).

وهذه "الفضيلة" تصيب رغماً عنه ربما من طلق الإحساس بالمطلق أو طلقه هذا الإحساس. فينبغي لمن يحسب في نفسه القوة، والعبارة لا تصح إلا في صيغة الجمع: لمن يحسبون في أنفسهم القوة على احتمال أفعال "فرقة الموت" "الجمهورية" والحرسية والايرانية المختلطة في حي الجورة وجمعية حوض الفرات ومساكن المعلمين وجمعية الدير العتيق وحارة "البيجامات" أو بكتن في دير الزور، واختيار "مقاتلي" الفرقة العتيدة الشبان الأشداء وتقييد أيديهم وصفهم أمام الجدار وضربهم على مرأى من آبائهم وأمهاتهم واخوتهم واخواتهم وأولادهم وإعدامهم برصاص "كثيف"، ودعوة هؤلاء تورية الى ندب الموثوقين من شرفات البيوت، وبكائهم وهم يعذبون ويمثل بهم ويهانون ووداعهم الوادع الاخير، وسوق من لم يقتل على هذا النحو بالحافلات الى الذبح ترافقه أهازيج الحرسيين، ورمي جثثهم في مبانٍ قيد الانشاء أو أقبية متروكة أو حدائق صارت مزابل أو مقابر لفظت العظام المتبقية من الجثث المتحللة القديمة فاختلطت بجثث تتحلل لتوها ودفنت على عجل فيستدل عليها بسرب النسور المحلقة فوق بقايا 86 جثة ذبحت وحرقت في يوم من ايام تشرين الاول 2012 (مراسلة من دير الزور خاص بـ"نوافذ- المستقبل" اللبنانية، 16/12/2012) ينبغي لمن يحسبون في أنفسهم القوة على احتمال هذه الاعمال الصدور عن نشوة يعطاها أو يبلغها "مؤمنون" من ضرب كانت الثورة الخمينية بإيران، وحرسها الثوري ومتطوعوها وفرق إعدامها الأهلية سباقة الى صنعه. وتولى بعض تقنييها البارزين نشره في العراق ولبنان، وأقبل عليه بن لادن وجماعاته إقبال الخوارج على "اللقاء"، لقاء العدو القريب أو قتاله ولقاء وجه ربهم على ما يحسبون. ولا تعصى هذه النشوة قتلة المافيا وعائلاتها المتحاربة حتى الافناء والإبادة.

ولا تغرب عن وصف وقائع العنف الوبائي السوري، - وتنذر بهذا الصنف من العنف مهاجمة الإخوانيين والسلفيين المصريين "أعداءهم" المدنيين والليبراليين والاقباط والشباب العصريين والنساء والصحافيين والقضاة ... - وجوه الفاجعة المأسوية وأزمتها الوبيلة. فالناس، وهم يعدون عشرات الآلاف من النازحين، على ما تروي ناجية الحصري ("الحياة" اللندنية، 16/12/2012)، قلقون أو نابون غرباء خارج أرضهم وبيوتهم. فهم ليسوا حيث هم ("خارج الاراضي اللبنانية تقنياً وخارج الاراضي السوري عملياً")، ونزحوا الى وادي خالد بلبنان من بلاد نائية: درعا وحلب ودير الزور وحولة، أو قريبة: حمص وريفها وتلكلخ ودمشق، بعدما هدم قصف عسكر النظام ومسلحوه منازلهم وجرفوها. والمدخرات استنزفت ولا يشتري ما بقي منها جزمة تقي الابنة المطر والبرد والوحل، ومن يحترف حرفة ضاقت عليه فرصها في الشتاء. فالغريب عارٍ، وضيافة الجار اللبناني القريبة قد تؤنس ولكنها لا تشفي حزنه. وهربه الى اراضي الجيران اضطره "الحرسيون" السوريون وحواجزهم أو مسالحهم (الجمرك المسلح) الى شرائه بمعظم ما يملك. فبلاد الطاغية "الشاب" أرض سباء و"عشائر" جائعة ومحمومة، لا قانون فيها ولا وازع. والسباء ليس استعارة: فالنساء يغتصبن ولو بلغن الـ75 سنة شأن حاجة روت في جمع باكيات على ميت وقالت:" ابكينني أنا، اغتصبوني امام زوجي وأولادي، كانوا خمسة جنود من جيش النظام... قلت لهم انني مثل أمهم وأختهم...". والتذكير بهول سفاح المحارم وفظاعته لا يردع قوات السباء. ولكن امتهان الضباط الفتاة قد يحملها على الانتحار، ويحمل تعرف الصبية على مغتصبها في قرية الهيشة على "الهستيريا". وقد يحمل أبا الجندي على قتله، وأبا فتاة أخرى خطفت قبل 3 اشهر على الموت حزناً.

وعلى هذا، فالعنف الوبائي لا يقاس بعدد القتلى وحده، وهم بلغوا في سوريا 50 ألفاً أحصوا واحداً واحداً وواحدة واحدة وغيب في المعتقلات المسالخ مثلهم، بل يقاس كذلك بتطرقه الى أركان الاجتماع والتأنس مثل حصانة الحياة وحرمتها، والتزام الاحتكام الى سنن معروفة ونافذة، والحؤول دون جموح العنف الى اقاصيه، وتمييز الأهل المخالفين من الاعداء... والمأساة تعصف بهذه الاركان وتمتحنها. وحين ولغ بعض "تقدميينا" و"يساريينا" المدنيين في الطاعون هذا، على ما صنعوا في فصول الحروب الملبننة وأيدوا الفلسطينيين، ومن ورائهم السوريون، على ذلك، وناصرهم هؤلاء عليه قالوا، وربما حسبوا فعلاً أن العنف إنما يتأتى من "مقاومة الطبقات الرجعية التغيير المحتم". وكان ينبغي وضع كل "القدس" الفلسطيني وأنوثته ومقومات الهوية التاريخية العربية والاسلامية، وموارد الاشتراكية ووعودها غير الخابية، في كفة الميزان نظير الاغتصاب الصهيوني، والنهب الاستعماري والامبريالي والعمالة الحقيرة له، والخيانات العربية التي لا تحصى، والتخلف الحضاري المهين، لتسويغ القصف الأعمى على المسيحيين اللبنانيين "الطائفيين"، ونصب الحواجز الطيارة على المفترقات، وتقطيع الجثث ودسها في أكياس البلاستيك و"إهدائها" الى هذا أو ذاك.

ولكن الذريعة التاريخية و"التقدمية"، وهي في معظم أحوالها تزعم العقلانية وتفتقر الى وطأة "القدس" وأركانه، لم تبلغ مبلغ تبرير الوباء والدعوة الى الولوغ فيه. وأسهم في لجم فشو الوباء وطاعونه، على رغم الـ160 ألف قتيل الذين أردتهم حروبنا اللبنانية المتعاقبة، اقتسام الجماعات المتقاتلة الدولة وآلات عنفها "المشروع"، وضعف هذه الآلات، وتشكك المتحاربين في مشروعيتهم وفي غاياتهم، وشقوق الجماعات الاهلية الداخلية المعنوية والمادية، وتولي المقاتلين أولياء من خارج الاهل ورعايتهم بقاء المقاتلين داخل "ولايات" جماعاتهم (وهذا ما خالفته الجماعة الخمينية والحرسية المسلحة في 7 أيار 2008 ببيروت و11 منه في جبل الباروك). ويكبح اقتصار إقامة القوم العلوي في سوريا على جبل السماق وسفحه الشرقي نحو حمص وعلى وجهه الغربي الشمالي الساحلي، بعض الشيء تفشي العنف الاهلي والعشائري. وأما الوجه البيروقراطي والنظامي العسكري والامني فمختلط، ويتأتى عنه معظم القتل والدمار "الوطنيين". وبلغ عدد قتلى القوات النظامية نحو العشرة آلاف قتيل، وهم الكتلة الكبرى بين كتل القتلى بعد كتلة المدنيين عموماً. ويقوم الدين "القومي"، والعروبي والسوري، مقام الدين الاصولي الجهادي والسياسي الايديولوجي، في ميزان الإقبال على وباء العنف وإضعاف كوابحه وشل إعمالها من داخل. فكلاهما يفترض الجماعة، الامة أو القوم، كلاً ناجزاً وجميعاً مستوفياً شروط تمامه وماثلاً في القائد وعصبيته. وكلاهما ينفي من صفوف الدولة الوطنية، المختلطة حكماً، من ليسوا من الجماعة، ويهدر دماءهم و"أموالهم" وأعراضهم وحرياتهم على وجه الاحتمال. فإذا انفجرت "الازمة" واستعرت احتاج المتقاتلون، عبيد الله القتلى وعبيد الله القتلة، الى آلهة الطواعين وألقوا على كواهلها التبعة الثقيلة والمرهقة والمستغلقة على العقل، عن قتل الانفس والإفساد الذريع في الارض.

http://almustaqbal.com/storiesv4.aspx?storyid=552350

مسودة الدستور المصري بصناعة جمعية تأسيسية ملّية... الدولة نصاب أهلي متغلب ينافي النصاب السياسي والحقوقي الجامع

المستقبل، 9 /12/ 2012


استدرج اقتراع الجمعية التأسيسية على مواد مشروع الدستور المصري الـ234 إجماع الاعضاء الـ85 الباقين وغير المستقيلين، تقريباً. وخرج عن الاجماع الغالب 9 أعضاء يُنسبون وينسبون أنفسهم الى الجماعات السلفية. وهؤلاء رفضوا المادة الخامسة من مسودة الدستور، وهي صيغت على النحو التالي: "السيادة للشعب يمارسها ويحميها، ويصون الوحدة الوطنية، وهو مصدر السلطات". وجلي أن المادة هذه هي "أم الدستور"، والركن منه، وعلة المعنى الدستوري أو الموجب الدستوري. فلا معنى لمعايير عمل هيئات الدولة وقواعدها وتعريفاتها- مثل وصف النظام السياسي (المصري) بالديموقراطي وإقامته على مبادئ الشورى والمواطَنة والمساواة بين المواطنين وعلى سيادة القانون واحترام حقوق الانسان، إلخ، على ما تنص المادة السادسة من المسودة إلا بعد الاقرار بالسيادة او الولاية العامة "للشعب"، وبتبعية السلطات له، وصدورها عنه.

وتنص مادة السيادة والمصدرية الشعبية على سبق التأسيس الدستوري، والرابطة السياسية والوطنية الجامعة التي تنشأ عنه افتراضاً، الأسس والروابط الاخرى التي تربط بين الجماعات الجزئية والفرعية. فعلى رغم قيام الجماعات الجزئية، العرقية القومية والدينية والمحلية والمهنية، قبل الجماعة الوطنية والسياسة الجامعة والمتحدة، تتقدم الرابطة أو العروة الوطنية السياسية روابط الجماعات وكياناتها الموروثة والعريقة. وحين يرفض السلفيون وأمثالهم، من غير أن يكونوا "على دينهم"، ولاية الشعب الدستورية ومصدريته السلطوية (على معنى السلطانية)، فهم يعارضونها بـ"الحاكمية"، على ما يترجمون الولاية، وينسبونها الى الخالق. وعلى حسبان السلفيين وأهل الحاكميات المتوارثة وغير التعاقدية (عبقرية العرق أو الامة القومية...) لا يجوز أن يتخطى الدستور، ما لم يكن تنزيلاً او شرعة متوارثة، المعاني الاجرائية والتنظيمية الفرعية على ألا يخفى أو يقيد سندها الأصلي وهذا السند يصلها بمصدر غير مشروط وغير محدث، على قول كلامي واعتقادي معروف.

الشعب الواحد وجماعاته الكثيرة

وينبغي، على هذا، أن يرفض السلفيون وأمثالهم المشاركة في جمعية تأسيسية دستورية التأمت لتداول الرأي في كيفيات التفريع على الركن الأساس أو الاصل، ولاية الشعب على نفسه. ومثال هذه الولاية استهلال اعلان أو بيان الاستقلال الاميركي بالعبارة المأثورة مذذاك:" نحن، الشعب...". و"نحن" هذه هي نحن الجلالة، على معنى ملكي لا يتستر على نسبه الديني القريب: فالملك الذي يقول نحن، ويرسم المراسيم النافذة بقوة النحن وقولها، هو سليل "آباء" يرتفع نسبهم الى مشيئة أو إرادة، على قول عثماني لا يزال سارياً في انظمة ملكية عربية معاصرة، نصبتهم وأوجبتهم "أولي الأمر" بالمسح بالزيت المقدس (والمسيح هو الممسوح أي من مسحته المشيئة). وهم، آباء السلالة، يتناقلون معنى "صوفياً" لا يموت بموت الجسد الفاني والفاسد والذائق الموت. والقوانين او الأحكام التي تصدر عن "أولي الأمر"، أو صاحبه، إنما هي إرادات أو فرحانات أو خطوط تتبع بنعت الشرف: خطوط شريفة أو خط شريف كناية عن علو المرتبة، وفرق ما بينها وبين الجمهور أو العامة أو سواد الرعية المحكومين المنقادين الى أولي الأمر وأهل السلطان.

وورث "الشعب" من الولي دوامه على مر الزمن. ولم يتردد المؤمن الروسي ألكسندر سولجنتسين في القول إن الشعوب الكثيرة هي وجوه أوجبت كثرتَها ودوامَها إرادة إلهية او حكمة. فلا يحق لقيصر أو لأمين عام حزب شيوعي حاكم أو "قومي" عشائري حاكم ومتسلط (أو لمرشد، بالاحرى) إبادة شعب منها أو وجه أو معنى، على ما راود الامر الارادة الستالينية في بعض الشعوب القوقازية أو الارادة الهتلرية في اليهود والغجر و"الروم" أو الارادة الصدامية في الكرد، أو الارادة الخمينية في البلوش والاحوازيين والبهائيين... فالكثرة، كثرة الشعوب والعشائر، هي شرط "التعارف"، على قول آخر. ولكن شعب الدستور- وهو ينشأ عن الدستور ويولد منه معنوياً واعتبارياً، وذلك حين يكتب شرعته الدستورية ويختارها- شعب الدستور هذا "مخلوق" من مداولات المتعاقدين، بعقد "اجتماعي". و"الاجتماعي" للدلالة على نشوء رابطة العقد عن المتعاقدين وتعاقدهم، وعن إرادتهم الحرة واختيارهم.

ويضمر هذا القول، أو هذا الافتراض، ما يخالف الوقائع المشهودة والمعروفة. فالشعب، على المعنى السائر والظاهر، سبق صيغة الدستور. وهو لم يصغ دستوره أو يصغه إلا قروناً بعد نشأته التاريخية والفعلية. ويتولى المداولة والكتابة من ينوبون عن جماعات وكتل من الناس بعضها سبق أن حكم نفسه بنفسه واستقل بأمره واقتتل، وبينها روابط ووشائح تفرقها ولا تجمعها أو توحدها، على خلاف جزء المادة الخامسة في مسودة الدستور المصري الذي ينص على أن الشعب صاحب السيادة ومباشرها وحاميها، "يصون الوحدة الوطنية". فسبق الشعب زمناً، والتفرق جماعات وأجزاء، والمداولة ثم التعاقد بالإنابة والوكالة والتمثيل، كلها تطعن في القول أن الشعب الذي ينشئ الدستور إنما هو "ثمرة" هذا الدستور. وهو (أي القول) معين النص على سيادة الشعب وصدور السلطات والدولة عنه.

والالتباس يشبِّه التناقض، ويوحي بمخالفة الدستور الوقائعَ مخالفة حادة ورأسية. ولعل السبب في الالتباس هو حمل كيان الدولة السياسي المحدث والمصطنع، وشروط قيامه بأدواره التمثيلية والتشريعية والتنفيذية، على كيان الشعب الطبيعي والحقيقي والمادي. فيُشغل الدستور في مواد كثيرة منه بإحصاء "الشعب" المصري ووصفه. وهو تارة "شعب" في المادة الاولى السياسية الاصلية ، وتارة "مجتمع"، في المادة السابعة المترجحة بين أصل حقوقي سياسي (العدل والمساواة والحرية) وبين أصل أخلاقي وعملي واجتماعي (التراحم والتكافل والتضامن والأعراض...). ويخلو الباب الاول، "الدولة والمجتمع" ومواده 27 مادة، من تعريف المواطن المصري تعريفاً دستورياً وعاماً، وتالياً من تعريف الشعب المصري على المثال نفسه. فيتناول الباب الأنساب والاصلاب والهويات الجوهرية والتاريخية والأسماء. وينتقل من إثبات الوحدة، وهي تفترض قائمة على أركان سياسية ونظامية مثل الجمهورية والدولة والسيادة والديموقراطية، الى تفصيل عواملها العينية الجوهرية المفترضة: الدين (الاسلام) واللغة (العربية) والتشريع (الشريعة الاسلامية). وتُسْلم عوامل الوحدة المبدئية، أو عوامل الهوية الجامعة، الى وجوه التفريق: "مبادئ شرائع المصريين المسيحيين واليهود المصدر الرئيسي للتشريعات المنظمة لأحوالهم الشخصية ..." (المادة3) والتفريق ليست شرائح المسيحيين واليهود "المصريين" مصدره أو ابتداءه إدخال "الشعب المصري"، قبل تعريفه وحدِّه التعريف والحد "الأساسيين" أي الحقوقيين والقانونيين، في "أمتين" تتخطيانه وتتجاوزانه الى غير المعلوم.

وابتداء التفريق هو، بديهة، النص على دين الدولة ومصدريته التشريعية العامة، على خلاف ديانات "الشعب" أو "المجتمع" الكثيرة والأهلية الخاصة (الشخصية) والروحية. وتترنح المواد الأصلية والأصولية بين التخصيص والتجريد من غير ضابط أو سائق. فاستدعت مادة دين الدولة ولغتها ومصدر تشريعها النص على "مبادئ شرائع" الجماعات الدينية غير المسلمة. واستدرجت المادة هذه العودة الى المادة التي سبقتها (الثانية" الاسلام دين الدولة..."). فخصت "دين الدولة" بتفصيل تناول "هيئته"، الأزهر "الشريف". وتوجت التخصيص بإخراج الهيئة العتيدة التي يصرف الدستور اليها مادة أساسية كاملة (المادة 4) من 3 أسطر، من الدولة إخراجاً باتاً: فهي "هيئة اسلامية مستقلة". ويصلها اسلامها بـ"الامة الاسلامية" التي يتخطى "مجالها" دولة الجمهورية وسلطتها وقوانينها، وتعلوها مكانة وقوة أحكام ونفاذ وأرجحية. ويعصمها "استقلالها" من سريان القوانين العامة ونفاذها فيها: فالأزهر "يختص وحده بالقيام على كافة شئونه"، ويقتصر دور الدولة من غير شكر ولا منة على كفالة "الاعتمادات المالية الكافية لتحقيق أغراضه". وشيخ الأزهر، رأس الهيئة ومقدمها و"أميرها"، على معنى صاحب الأمر فيها، لا يفصل "القانون" إلا في "طريقة اختياره"، ولا يقول الدستور الديموقراطي والجمهوري: "في انتخابه". وهو، أي الشيخ الأكبر، "مستقل غير قابل للعزل".

وعلى هذا، فما موجب أو مسوغ نص دستور الدولة على موقع هيئة منفصلة، تستقل عن الدولة بإدارة شؤونها، ومجالها أو دائرتها، وبوظيفتها، وموارد مشروعيتها، ودوام رأسها؟ وما السبب في كفالة الدولة موارد الهيئة المالية من غير لقاء أو مقابل، أي من غير سلطة و"حق"، بحسب مبدأ دستوري جوهري؟ وتميز المادة "الازهرية" الهيئة الخاصة أو الأهلية والخصوصية، وجمهورها أو جماعتها، من الهيئات والجماعات الأخرى. فلا تنص مادة أخرى على كفالة الدولة اعتمادات مالية كافية تصرفها الى الكرازة المرقسية، والسدة البطريركية، على "نشر علوم الدين والدعوة"، فتسوّي "بين كل مواطني (...)" جمهورية مصر "الموحدة (التي) لا تقبل التجزئة". وتكون تسويتها أو مساواتها على الوجوه المنصوص عليها كلها: الحقوق والواجبات، التعددية السياسية والحزبية، وسيادة القانون، واحترام حقوق الانسان، وكفالة الحقوق والحريات... والتمييز هذا يطعن في الوحدة، وفي المساواة، ويبطل عملاً وفعلاً استقلال نصاب الدولة أو الدولة في صفتها نصاباً سياسياً جامعاً وليس نصاباً أهلياً غالباً، عن "المجتمع". وعلق كثيرون على حشر هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف" في باب "الرأي الشرعي" وتقاسمها والشيخ الأكبر هذا الرأي. ولكن إبطال نصاب الدولة أدهى وأسبق.

التخصيص والتفريق

وتقفز صيغة الدستور من المواد الثلاثة "الدينية" (4 و 5 و6) الى المادة المدنية والحقوقية الاصولية أو الاساسية: "السيادة للشعب...". ولم يفهم السلفيون، وغيرهم على الارجح، لغز القفزة هذه، وخروجها عن "نسق التسلسل والتماسك الدستوري"، على ما كان يقول إدمون رباط. وهم أنكروا المادة أصلاً،مضموناً وشكلاً وموضعاً. وأنكروا في جلسات الهيئة التأسيسية تأخير المادة "التفسيرية":" مبادئ الشريعة الاسلامية تشمل أدلتها الكلية وقواعدها الاصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة" (وهي كانت المادة 221 في المسودة الاولى وصارت المادة 219 في الثانية والثالثة)، الى باب احكام عامة، على حين انها تتصل بالمادة الثانية، ولا تعدو الشرح عليها، وتذييلها. ورد الاخواني محمد البلتاجي، أحد أعيان الاخوانيين، على إنكار شيوخ التيار السلفي التأخير والفصل، بحجة دستورية، وغير ظرفية، دامغة: "اننا نلتزم اتفاقنا مع القوى السياسية المنسحبة التي حنثت بالاتفاقات". فمبنى الشرعة غير الأساسية البتة، والتي تتقدمها "أمم" مصر وشاراتها والهيئات المستقلة وجماعات الأهل، إنما هو بحسب الاخوانيين على اتفاق مع قوى سياسية حانثة...

والاستثناءات المفضية الى التخصيص والتفريق والتمييز ليست وقفاً على الازهر والاسلام ومبادئ شرائع المصريين المسيحيين واليهود. فيتطاول الاستثناء الى الاسرة، وتخص هذه بـ"معالجة" خطابية جوفاء: "اساس المجتمع"، "قوامها الدين والأخلاق الوطنية" (الدين والوطن اثنان؟ والوطن المصري يستوي مستوى واحداً والدين اي الاسلام؟)، "تحرص الدولة والمجتمع" (هما واحد؟ بماذا يفترقان؟) على "الطابع الاصيل للأسرة المصرية، وعلى تماسكها واستقرارها" (من طريق ضمانات اجتماعية عامة؟ أم من طريق تقوية السلطة الابوية وقواميتها؟ أم المساواة في الحقوق بين الذكور والاناث؟ أم من طريق إقرار مقاضاة التعنيف؟). لا هذه ولا تلك ولا تلكم بل بطبابة شافية وحاسمة، لم يفطن إليها صاحب فطنة قبل مشرِّع 1971 وخالفه الاسلامي اليوم، هي "حماية تقاليد (الاسرة المصرية) وقيمها الخلقية" بالوسائل المجربة: الختان والتزويج المبكر والتنقب العام وتقييد الاختلاط في المسجد والمدرسة والمكتب والمشغل والحافلة وتتويجه بشق سكتين في الطريق الواحدة على أن تكون في اتجاه واحد يحول دون النظر والاشتهاء والمعصية الحرام، على طريق "(ترسيخ) مساواة المرأة مع الرجل... دون إخلال بأحكام الشريعة الاسلامية" (مادة 68).

ويحصي الدستور، بعد الأسرة وما سبقها، المرافق التي يتصدى لرعايتها وإبلاغها مستويات "رفيعة": الأخلاق والآداب العامة (وهي غير آداب الاسرة؟)، التربية و"الحقائق العلمية" (مادة 11)، "الوحدة الثقافية والحضارية واللغوية"، الاقتصاد الوطني، الزراعة، "حرمة" الاموال العامة، السجن، "الرسل والانبياء كافة" (مادة 38). وهم يحظر التعرض لهم في سياقة النص العام على حرية الاعتقاد "المصونة" وحرية الفكر والرأي "المكفولة" وحق حرية الابداع و"الاجتماعات الخاصة (...) دون إخطار...". وينقلب الامر جداً حين يتصدى القانون (غير ) الاساسي لكيانات عينية مثل الصحف والمطابع والكتب والجمعيات والأحزاب والنقابات والاتحادات والتعاونيات والمدارس والمستشفيات والمساكن، الى القضاء والجيش والغرفتين النيابيتين والرئاسة نفسها. ففي الكيانات والهيئات هذه ينقاد كتّاب الشرعة المفترضة وصياغها الى سجيتهم الادارية والسلكية الاجرائية، ويمعنون في غفلتهم عن منطق الدستور الانشائي والتأسيسي. فينصون على إفراد الجيش بمجلس للأمن القومي يغلب عليه العسكريون، وينكفئون فيه وبه على سياستهم ومصالحهم وموازنتهم ويستقلون بها، على مثال أزهري شريف سابق. ويُقبل منهم اختصار ميزانتيهم في رقم واحد يحجب عن فضول الشعب ونوابه ومراقبة ادارته وقضائه المالي، وعن رصد العدو استخباراته الكليلة، المخصصات والاعتمادات والمناقصات والعوائد الاستثنائية والاستثمارات العادية. وحجبها ضرورة أخلاقية ودفاعية استراتيجية في آن، على أسلوب جامع ومانع في التشريع تقدمت أمثلة عليه.

والمجلس الوطني للاعلام وكالة أخرى أو جسم سلكي متخصص آخر يتولى مهمات وأعمالاً جليلة: المسؤولية عن "ضمان حرية الاعلام ... والمحافظة على تعدديته... وعن حماية مصالح الجمهور..." (مادة 215). والمهمات والأعمال الجليلة التي يندب مجلس مهني وإداري طائفي الى الاضطلاع بها لا تحظى بتعريف حقوقي وفلسفي ووظيفي عريض تفترضه هذه المهمات. وهي تقتصر لا محالة على التصريف الاجرائي والبيروقراطي إذا لم يهيمن عليها مثل هذا التعريف. وتتقلص المعاني الكبيرة والمثالات الى ألفاظ جامدة وفقيرة. وتحظى الأحكام الاجرائية الحَرْفية، مثل "تطوير" مؤسسات الدولة الصحافية و"تنمية أصولها" و"ترشيد" أدائها، من العناية والرعاية بأضعاف ما يحظى به التعريف الحقوقي والفلسفي. وبإزاء اللغو الاداري الرتيب والآلي يبدو التنبيه الى الاصول، وهي مصدر التعريف، تكلفاً لا طاقة للمصريين به، ومكرمة يجدر بهم القعود عن طلبها. والى هذا ربما مرد شعور مصريين كثر بـ"ركاكة" مشروع الدستور المقترح وهزاله.

وإعفاء مشروع الدستور رئيس الجمهورية من تسمية رئيس الوزراء، وهو ليس الوزير الاول، على ما يسمى في الانظمة الرئاسية والملكية الدستورية، من الغالبية النيابية، في المرة الأولى، تحايل على المنطقين: الرئاسي والبرلماني معاً. فهذا الاعفاء يفترض أن للرئيس المنتخب بالاستفتاء المباشر أن يحل محل الاقتراع، الشعبي كذلك، على النواب وانتخابهم، وأن يقوم وصياً عليه قبل أن يرضخ له في المرة الثانية، على مضض. فيكلف بتأليف الوزراة من تنتدبه الغالبية الى ذلك (وهذا الإجراء هو قلب الاصلاح الملكي المغربي، وما رفض بشار الاسد الامتثال له في دستوره المعدل). وهو (الاعفاء) يفترض، من وجه ثان، أن على مجلس الشعب (البرلمان) "تكرار" الرئاسة، وتثنيتها ومماشاتها في وقت أول. فإذا عصى البرلمان تحكم الرئاسة، رجعت هذه عن تنطحها، وأقرت للغالبية النيابية بحقها في الوزارة وتقاسم سلطات الانفاذ والادارة مع الرئيس. وإرجاء حل المجلس الى إخفاق التكليف الثالث، وهذا التكليف يتوجه على المجلس كلاً وليس الى غالبيته، يضعف النازع الى ائتلاف غالبية نيابية تتولى وحدها تسيير الحكم وتحاسب عليه، ويقوي نازعاً نيابياً مشهوداً وسائراً الى احلاف ظرفية ومصلحية متقلبة ولُحمتها توزيع المغانم والأسلاب. وهذا ضرب من دعوة وإيعاز طائفيين وصنفيين (من طوائف الحرف وأصنافها في العهود المملوكية والعثمانية)، على شاكلة الوكالة الازهرية والوكالة الامنية والعسكرية القومية، والوكالة الاعلامية.

الموجب الحقوقي

و"تحصين" القرارات الرئاسية المرسية (و"المحمدية" على حسبان خطيب مسجد الشربتلي) من القضاء، على درجاته ومراتبه وفي قمتها المحكمة الدستورية، اقتضاه عسر اجبار القضاء، في مجتمع طلق سكونه الى "غليانه" (دوركهايم)، على الرضا بحال الطائفة أو الصنف، والرضوخ لـ"تنظيم" على شاكلة الوكالات والأسلاك. وقد ينقاد قضاة كثيرون في أحوال غير قليلة الى الحال والتنظيم هذين، وهم انقادوا اليهما فعلاً أوقاتاً طويلة. ولكن الانقياد الفعلي لا ينفك مخالفاً "طبيعة" الحق والقانون ونسق النظر والرأي الحقوقيين والقضائيين. و"الطبيعة" والنسق هذان معياريان وموجبان بنفسهما ومن نفسهما، وليس بمقتضى قوة أو مصلحة فعلية. وغالباً ما يخالف الموجب الحقوقي والقضائي مقتضى المصلحة الخاصة وربما العامة. وبعض الدول الديموقراطية العريقة لم يقر المحكمة الدستورية المختصة أو المحكمة العليا العامة على صلاحيات تنشئ الحق (والقانون) وتوجبه، أو "تخلقه" على قول أجنبي، إلا بعد قرن ونصف القرن على نشأتها. فليس في "المجتمع" جماعة أو فئة أو قوة تختص بمصلحة هي إنشاء حق وإيجابه من طريق قوة القضية المقضية، على رطانة أهل القضاء، وحدها.

ويعود هذا بالمسألة الى علاقة دستور الدولة بالمجتمع، بحسب عنونة مشروع الدستور المصري الباب الاول من مواده. وهو صرفه الى خليط لا يتميز من الاحكام العامة والخاصة. فطلب الاسلاميين، "معتدلين" إخوانيين و"غلاة" سلفيين وحشويين، دستوراً "اسلامياً"، على معاني النسبة الكثيرة والمشتبهة، بذريعة تديّن معظم المصريين بالاسلام، وانتسابهم التاريخي والثقافي اليه، يفترض (الطلب) أن الدستور هو مرآة كيان الشعب أو الامة الطبيعي أو الجوهري، وصورة وجدانه أو إحساسه (بـ) نفسه، ومن داخل هذه النفس. وعلى هذا، شاعت في المشروع العتيد كنايات الهوية ومصطلحها المبهم والغامض. ولما كان ما يفهم بالدستور وعنه يتصل بالدولة وإرادتها وأجهزتها، شاعت في الدستور المقترح حتى ملأته الوكالات ومعاييرها الادارية والاجرائية، على شاكلة تقرب من أنظمة الأسلاك والمنظمات الداخلية. وفي المحصلة، تفرق "الشعب"، مرجع الدستور ومصدره والقوام على دولته وحكومته، كتلاً وجماعات وهيئات عينية، ولا يعقل التأليف بينها في شعب سياسي وهي على حالها "الحقيقية". فالتأليف يقتضي أولاً التجريد الحقوقي والسياسي، وتعريف الجماعات والهيئات والكيانات تعريفاً مشتركاً وجامعاً، لا مساواة أو تسوية من دونه، يحلّها في مواطنين أفراد وآحاد. وهؤلاء يسبقون الجماعات والهيئات والكيانات سبقاً معنوياً ونسقياً، وليس سبقاً واقعياً أو حقيقياً.

والتأليف على هذه الصورة هو شرط فك الدولة من المجتمع، وتوحيد الشعب السياسي على خلاف الجماعات والكيانات الأهلية، وإرساء السلطة على المصلحة العامة وتدبيرها، وتداول أحزاب مختلفة إياها، فلا يفتتح الحزب المستولي والغالب في كل مرة نظاماً خاصاً ومنقطعاً. وهو شرط استقلال القضاء والقانون وتعاليهما عن الميول الظرفية المتضاربة، وتخليص الادارة من علائق شاغليها و"عمالها"، وتحريرها من مِلكهم ويدهم، الى آخر شرائط اخراج نصاب الدولة العام والمشترك من متعلقات العصبيات والامتيازات والتفاوت. ودستور هذا دأبه يَعْرض الدولة على المجتمع، ويخرجها منه، ويحول بذلك بين الجماعات الاهلية والسياسية الحزبية (والافراد الذين يمثلون جماعات وأسلاك) وبين "التجسد" في الدولة أو تجسيد "المجتمع"، أو مرفق من مرافقه، في الدولة المتسلطة و"الملّية"، على ما يترتب على طلب الاسلاميين، وترتب على استيلاء "القوميين" على الدول المتفرقة التي استولوا عليها.

فزعمُ أن على الدولة تمثيل الشعب وتجسيده، من غير سبق تعريف الدولة (الوطنية) تعريفاً حقوقياً ومن غير تعريف الشعب تعريفاً سياسياً، يؤدي لا محالة الى استيلاء عشيرة او ملة، أو "عشيرة ملة"، على السلطة والقوة والموارد. وعلى هذا الزعم، وتحقيقه عنوة واستيلاءً، نهضت أنظمة معمر القذافي وصدام حسين وحافظ الاسد وابنه، نصت "دساتير"ها على الأمر أم لم تنص. وينبغي ألا يحجب التهريج القذافي الدامي، حين حل الدولة، ومفهوماتها ومعانيها وإداراتها وجيشها، في الشعب والجماهير والمنتجين مترتبات الافكار التجسيدية والتمثيلية المباشرة على الوقائع السياسية والقانونية والاجتماعية (والعسكرية والادارية...) الوطنية. فالدولة، أو نصاب السيطرة والتوحيد والموازنة والتحكيم معاً، إذا لم تعرض على النظر العام والمشترك، وعلى المداولة والمنازعة، لا مناص من أن تستدخل العلاقات الاجتماعية كلها على شكل اشوه، وتحيلها استتباعاً واستئساداً ساحقين، ومسرح حروب اهلية مزمنة. والقراقوشية القذافية والصدامية الحسينية والاسدية، على اختلاف تواريخها و"موادها"، هي ثمرة تغليب الأجسام الاجتماعية والتاريخية الحقيقية والمادية على المعايير الحقوقية والشكلية المجردة والمشتركة. فالسلطة، في هذه الاحوال، "شيء" عيني يُملك ويحاز ويملأ ويوزع ويسترجع ويورث، الى آخر وجوه مسالك "الشيء". وعلى هذا، فالنص على الجمهورية والديموقراطية والتعددية وتداول السلطة وحقوق الانسان وحرية الرأي والتحزب... لا يعدو احصاء وعود ممتنعة ومستحيلة، إذا حسنت النيات، أو الكذب والتدليس المتعمدين إذا خبثت.

وذلك أن الجمهورية والديموقراطية والتعددية ... لا تستقيم إلا بافتراض حل الجماعات والأجسام، حين دخولها في الدولة الدستورية والوطنية ومباشرتها السياسة في اطارها وتحت شرعها، في إرادات راشدة وقائمة برأسها واختيارها، أي في مواطنين أسوة. فـ"وطن" هذه الارادات هو دستورها، أي ميثاق تعاقدها واتحادها. وهو مسوغ الكلام على "وطنية دستورية"، على قول أميركيي الولايات المتحدة. ولا تسوغ سلطة "مشيأة" مع هكذا دستور، وهكذا وطنية. وتسوغ، على خلاف زعم أصحاب "الجذور" الدينية والقومية "العميقة" و"الحية"، محافظة الجماعات المتحدرة من بلدان ومجتمعات وطنية متفرقة على "خصوصيتها" الى جنب اندماجها في أمة سياسية. وشطر راجح من حيوية امة الولايات المتحدة الاميركية مرده الى تمييز الشعب السياسي والدستوري من "الشعب" التاريخي والاجتماعي، الحقيقي والمادي. فيسع المصريين المسلمين، اذا شاؤوا، الاضطلاع بالأزهر وتمويله وتدبير شؤونه، في اطار قانون جمعيات أهلية. ولا ريب في أن هذا التمييز عسير، ولا يبلغ إلا بـ"مجاهدة" النفس مجاهدة بطولية، ومن صنف غير الصنف "الجهادي" أو الاخواني الشائع الذي يفضي مثاله الدستوري الى تعاقد وكالات وجماعات وجمعيات في حلف قبلي تتربص به الحرب الاهلية

الأربعاء، 28 نوفمبر 2012

"جوزيف أنطون"... سلمان رشدي متخفياً وسابحاً في أثير رواياته وأصدائها الخارجة من إيهابها


المستقبل – 25/11/2012
يروي سلمان رشدي في نحو 30 صفحة افتتاحية من حكايته سيرتَه "جوزيف انطون" (عن راندوم هاوس، لندن، 2012، وبلون، باريس، 2012) حوادث يوم الثلاثاء "المنير" في 14 شباط، عيد ولي العشاق، 1989، الذي بلغه فيه، وبلغ الناس كلهم من طريق وكالات الأخبار، حكم روح الله خميني، السلطان الإيراني والإمامي المعمم، بقتله جزاء كتابته ونشره قبل نصف عام، يومها، "الآيات الشيطانية" (وليس "آيات شيطانية" على ما يصحح في إحدى الصفحات الأولى من "جوزيف انطون"، فالتعريف قرينة على تناوله، هو الروائي المتأخر زمناً وعلى صفته هذه، الخبر عما نسبه أخباريو المبعث، وبعضهم معاصرون، الى وسوسة الخناس وتشبيهه. وأما اغفال التعريف فيوهم بأن الكتاب يستعيد أو يستأنف الوسوسة المنكرة، أي التي ينكرها "المؤمنون"). والـ30 صفحة الاولى العاصفة، "الشحرور الاول"، وهي شطر ضئيل من الصفحات الـ700 التي تقتضيها السيرة "الكاملة"، أو سيرة الـ13 سنة التي دامتها حراسة الكاتب المهدد القريبة (الى 27 آذار 2002 صباحاً) تكاد تكون موجزاً لـ"طريقة" رشدي الروائية التي يُعمِلها في بعض أجزاء كتابه، وأعملها من قبل.
والفاتحة هي خبر إعلامي أو صحافي، وذلك في معرض "انفجار" حادثة الإفتاء الإمامي الخميني بقتله وانقلاب الإفتاء مسألة علاقات دولية و"ثقافية" من صنف جديد. فيستهل رشدي الحكاية العريضة بمكالمة تلفونية أو مهاتفة مصدرها صحافية من البي بي سي (هيئة الاذاعة البريطانية). سألته الصحافية التي نسي آسفاً اسمها، ولم يسألها عن طريق معرفتها برقم هاتفه في مكتبه ومنزله بإيسلينغتون من أعمال لندن، عن أثر بلوغه الدعوة الى قتله فيه. وسبقت الصحافية جوابه، وقالت له ان الدعوة الفقهية الى قتله لا بد طوت حياته الماضية وانعطفت به الى حياة جديدة. ومكانة الصحافة أو الإعلام المتصدرة من الحادثة الدولية المتفجرة مَعْلم على نوع العالمَ الذي صدرت عنه الرواية ويصب جدولها أو ساقيتها فيه. وهذه الصحافة، على هذه الشاكلة، تبلغ ملاذ الأفراد وملاجئهم عنوة. وتجيب قبل أن تسأل. وإذا سألت مهدت سبل الجواب ودلت من تتوجه عليه بالسؤال اليها. وأثرُ "السؤال"، والملاحظة الملازمة، في الكاتب المهدور الدم لقاء جائزة سنية من بيت مال "المسلمين"، مقوِّض: أظلم النهار المضيء، وقال الرجل الطريد في نفسه "أنا رجل مات" وأحصى الأيام المتبقية له من العمر فألفاها قليلة، ونزل سلم البيت بعد أن أغلق الشبابيك الخشبية والباب وأحكم الغلق وكأنه يحمي نفسه داخل البيت وهو يغادره.
ويتصل "المشهد" الأول والخاطف والروائي يقصه من غير غمز من طرف خفي ولا مسرحة ولا تنويه أو تذكير (بشواهد رواية "الآيات..." من "حرب النجوم" و"الرجل الفيل" وأسماء الأبطال الاتصاليين: جبريل فاريشتا والملك جبريل...) بتداعياته. والتداعي الأول يتناول عيد ولي العشاق وقديسهم: فالانتان. وحري بالولي القديس أن يرعى ما بين سلمان وماريان (ويغينز)، وهي زوجه يومها ويعرفها بـ"الروائية الاميركية" وهذه جهرت قبل 6 أيام من اليوم العتيد رأيها في حياتهما المشتركة التي يتشاطرانها ومشاعرها، وقالت أن هذه الحياة تفتقر الى متعة الشركة. وانتبه هو كذلك الى "خطأ" زواجهما وإقبالهما عليه.
وعلى رغم هذا، وبينما كان هو يغرق في اضطرابه، ويتلوى كمن مسَّه تيار كهربائي فيغلق الستائر ويوصد الشبابيك والباب الخارجي وهو يهم بالهرب لا يعرف الى أين، ويكلِّم ماريان هاذياً على غير هدى، أجابت بقولها "نحن". فسكن روعه بعض الشيء، وبعثت "شجاعتها" بعض التماسك في أوصاله المتهافتة والتالفة. وفي فقرة خاطفة تضمر فوق ما تعلن أو تسر، وتظلل جملها وكلماتها القليلة أواصرُ الفراق والصرم الضعيفة، تتردد أصداء الولي اللعوب والمريمي معاً، الربيعي الفتي والشتائي الآذن بانطواء البيت ودفئه وملله، الجامع الضاوي والمفرق المبعد. وتختلط الأصداء هذه بنور النهار الساطع ودبيب الموت الذي يحسبه المدان بالتجديف وشيكاً.
ويعود التداعي الثاني إلى الاعلام والتلفزيون، من طريق سي بي أس، الشبكة الاميركية القائمة في بووُترهاوس حي نايتسبريدج اللندني، على ما يحرص روائي التهويم "الشرقي" على العَنونة في كل مرة تسنح فيها الفرصة أي على الدوام. فالشبكة دعته الى برنامجها الصباحي والحواري "المباشر". وهو لا يريد تفويت الدعوة والذريعة المتاحة الى رد التهمة القاتلة. والبث التلفزيوني المباشر على الاثير ساحة حرب يتوق حكواتي "الآيات"، وقبلها "أولاد منتصف الليل" (1981) وبعدها "المهرج شاليمار" (2004)، الى خوضها، والمبارزة فيها. والأثير الرشدي يصل الأزمنة بعضها ببعض، ويخلط الأمكنة، وينقل الأحلام والصور، ويستسلم لأجنحة التخييل والكلام وينقاد لها ويلح في دعوتها الى التحليق والطيران (ولن تعتم الطيور القاتمة، ونذر الكارثة والدمار، الشحارير السود وهي أقرب الى الغربان، و"طيور" هيتشكوك التي تجري في رواية السيرة جري الدماء في الاوردة، وتظهر).
واتفق يوم 14 شباط 1989 هذا مع إقامة جناز إحياءً لذكرى صديقه، صديق الراوي (بضمير الغائب)، بروس شاتوين، في كنيسة موسكو رود الارثوذكسية في بيزووتر. وتوفي شاتوين بالإيدز إبان انتشار الوباء في صفوف المدمنين والمشردين والمتسكعين الفقراء والمثليين الفنانين و"المثقفين". وكان دعا، قبل سنتين، صديقه الهندي البريطاني الى الاحتفال بالذكرى الاربعين لولادة الصديق في بيته بأوكسفوردشايير. ويزور الصديق الميتُ الذي خلّف في ذاكرة صديقه المهدد احتفالاً قريباً وحاراً بولادته وخروجه الى ضوء الحياة، بينما تحوم فتوى الوعد بالموت قتلاً في ضوء يوم العشاق، ويظلل فتورُ "المتعة" التي جمعت ماريان ويغينز وسلمان رشدي قبل سنة شراكتهما وتقول ماريان اليوم ان حياتهما المشتركة هذه تفتقد المتعة ويقرها هو على قولها وشعورها. وسألت الزوجُ زوجها المرتبك، والمزمع الرواح الى مكاتب الشبكة التلفزيونية الاميركية ثم الى الكنيسة، ماذا ينوي أن يفعل في شأن القداس. فترك السؤال من غير جواب وغادر البيت المشترك في سيارة الشبكة، وهو لن يعود إليه قبل 3 سنوات، في اثنائها لن يبقى البيت منزله، ولا ماريان زوجه وهو زوجها، ولا حياته السارحة والمشرعة على أرياح الحكايات وأجنحتها قبل رأي الفقيه الفظ والمجتهد حياته المتخفية والمواربة بعد الاجتهاد.
ويكتب سلمان أنيس رشدي، ابن مبتدع تراث أرسطوطاليسي ندب ابنه الى الاضطلاع به، أنه خلّف منزله وراءه الى برنامج الشبكة الاميركية الحواري والصباحي وإلى جناز صديقه، وتلويح لائحة القتل ودبيبها في فرائضه. والحق أنه يترك هذا الشطر من روايته الى أولاد صف في بوديغا باي بكاليفورنيا يغنون أغنية تحكي عن جنية "تمسد شعرها مرة في السنة، بينما تصفر ريح باردة في الخارج، ويهوي من السماء شحرور وحيد يحط على قن دجاج في وسط حاكورة الدار، ومع كل تمسيدة مشط تذرف الجنية دمعة- ريستالتي، روستالتي، هاي بومبوزيتي، نايكتايك نايكتي، ريتوركوكواليتي، ويلّلو بي، والابي، مو، مو، مو شحارير أربعة تميل على قن الدجاجات، ويحط خامس على قن الدجاجات وآلاف أخرى تجتاح السماء على شاكلة طاعون. أغنية بدأت ولن تنتهي أبداً".
وهذه الفقرة، وأنا أنقل معظمها نقلاً يكاد يكون حرفياً، تمثِّل على كتابة صاحب "الآيات" وغيرها، من الروايات، وتقرِّب طريقته التي تراود شهادة خبرية على حوادث ووقائع عينية لا يد له في معظمها، وليس الامر خافياً على الكاتب. فهو لا يكاد يبتدئ كنايته عن حاله الجديدة في اعقاب ذيوع خبر التحريض على القتل، بطير الشؤم الاسود ثم بأمواج الطيور وطاعونها، حتى يباشر توسيع الكناية وتعظيمها على صورة "نظرية عامة" على ما يقول ساخراً ومسلِّماً. ففي اثناء الاعوام اللاحقة تخطت الوقائع والحوادث واقعة إنزال رأي قاتل بفرد واحد، جزاء تقليبه النظر والسؤال والخيال والروايات في وجوه التصديق والاعتقاد الغريبة، الى انتصاب الملاك جبريل واعتراضه الافق، وانفجار طائرتين في برجين كبيرين، واجتياح الطيور القاتلة الارض على شاكلة صنيعها في فيلم ألفرد هيتشكوك "الكبير". فبين التحريض على اغتيال الروائي الهندي البريطاني عقاباً على "مناوأته الاسلام"، على ما كتب خميني في نص فتواه، وبين اعتراض جبريل الأفق ورمي برجي نيويورك التوأمين بطائرتين مدنيتين وقتل 2700 نفس، حبل من المعاني والاستعارات والمباني (الاعتقادية والسلطانية والإدارية الاجرائية) كان سلمان رشدي من أوائل من انصرفوا الى تعقب عقده الظاهرة المواربة الخفية. والكلام على "تعقب"، أي الدلالة باللفظة أو الكلمة، غير دقيق. فهو لم ينتظر فقه روح الله خميني، ولا فقه أسامة بن لادن، و"إجازاتهما" الحربية و"الجهادية"، ليروي في اعقاب الاثنين وانصارهما ومريديهما الكثر، بعض احوال الكشف والرؤيا والسمع وأثرها في "التهام" الناس والحياة، بحسب كنايته الروائية التي تتصدر فصل "الامام" في الرواية، وتندد بـ"إصلاح" رئيسة الوزراء البريطانية الاقتصادي، ثاتشر. وهو حَمَل الاجتهاد الديني الخميني في شأنه، والقضاء فيه هو البريطاني التابعية والدولة واللغة والثقافة والعقلاني الميل والمعتقد، بالقتل بالنيابة عن الاسلام والمسلمين في ارجاء العالم، واقتناص السلطان القومي المطلق فرصة سانحة في نزاعه المذهبي والعصبي حمل هذا التعسف الفظيع على اجتياح "طبيعي" لا استعارة له في عالم البشر واجتماعهم، فلجأ الى عالم الطبيعة الحيواني وبعض صوره وآياته في الفن السينمائي المعاصر.
ويعود رشدي من الشاشة، وحلبتها وآرائها المتضاربة وشبهها بساحات الاعدام في مدن أوروبا الوسيطة (القروسطية)، الى زوجه، واتصالها التلفوني به، وطلبها إليه ألا يرجع الى بيتهما حيث ينتظره 200 صحافي ومصور. وحين ينوي الرواح الى تأبين شاتوين ينصحه أحد الاصدقاء بألا يذهب. وبلغه أن نائباً هندياً بريطانياً في مجلس العموم كان سانده حين انفجرت التظاهرات بباكستان والهند تنديداً بكتابه، قبل الفتوى الخمينية وهي التي دعت الفقيه الايراني الحاكم الى الافتاء واقتناص الجمهور السني وتصدر "المحاماة عن الاسلام"، رجع في مساندته، وتقدم تظاهرة مشى فيها 3 آلاف مسلم بريطاني مدحها بقوله انه يوم أغر من ايام الاسلام في بريطانيا. وها هي ماريان تلقاه بعينين استقر فيهما الهلع: هلع خلفته مهاجمة المصورين والمخبرين والعدسات إياها حين تعرُّفها. وفي ختام احتجابه القسري يصف الراوي صنيع فلاشات آلات التصوير في المرأة الشابة والجميلة التي تزوجها في الاثناء، بادما الهندية وفتاة الغلاف. فيقول انه رآها تدور على نفسها، وتختال أمام "جدار" المصورين الهائجين والفالتين من عقالهم، وتذر شرر فتوتها وجمالها. ونظر الى وجهها وأدرك أنه وجهها في اثناء المضاجعة، فقال في نفسه انها تضاجع مئات الاشخاص معاً، ولا يسع امرءاً احتمال هذا. وخسر سلمان رشدي بادما حين أدرك أن دنياه التي ارتضاها تقتضي مقاومته الذوبان في أحلام بادما التي تريده صنو رغباتها، وعلى شاكلتها، ويعود إليه هو أن يكون صنو رغباته، على خلاف فعل "الايمان" وقصده.
ويتذكر في اثناء الجناز رحلة الى استراليا في صحبة شاتوين، "موضوع" الجناز أو صاحبه في 1984. ومن وقائع الرحلة نزولهما فندقاً اجتاحه قبل عام سائق شاحنة سكير، رفض خادم مقصف الفندق تقديم قدح شراب إليه، فقتل هجومه على الفندق بالشاحنة 5 أشخاص. وحضر الكاتبان محاكمة السائق التي صادف اجراؤها مرورهما بالناحية. واحتج السائق لنفسه فقال إن مهاجمة الفندق بالشاحنة ليست من طباعه ولا من عاداته. ونسيَ مقتل الخمسة أو رآه نتيجة آلية ترتبت على ما ليس من طباعه ولا يسأل عنه. ويذهب راوي سيرته الى ان المفتي المأذون بقتله يشبه السائق: فهو من شيمه حمل لواء "مركبته" فإذا نجم عن الامر مقتل إنسان، وكانت تظاهرات باكستان والهند أدت الى مقتل 12 متظاهراً وقتلت فتوى العالم الايراني والامامي مترجمين من بعد وناشراً، فالتبعة لا تقع عليه. ويقول أنه فكر في تناول الحروف التي نسبها الرواة والاخباريون الى الوسوسة الابليسية في الطائرة التي استقلها عائداً من استراليا: الايمان مركبة تعلو مكانتها حياة البشر.
وهذا دأب "جوزيف (تيمناً بجوزيف كونراد، الروائي المجري البريطاني المختلط) انطون (تيمناً بانطون تشيخوف كاتب المسرح والقصة القصيرة الروسي)"، السيرة الروائية وصاحبها المقنَّع في الاحوال كلها. فهو يروي وقائع وحوادث لا غبار عليها، ولا جنحة على ماديتها. وجمع السيرة الواقعة أو الحادثة بجوار الاخرى، وعلى تخوم جموحها الى أقاصي هذيانها، على مثال سرده في مواضيع كثيرة أثر التلفزيون على وجوهه في الناس ومسارحهم ومعاملاتهم وأخيلتهم، يسلط أصداء الوقائع والحوادث بعضها على بعض، ويدعو القارئ الى نزع غشاوة الفهم الواحد والحرفي عن ذهنه، وسمعه وبصره ومشاعره و... فقهه. ومبنى الروايات والحكايات الرشدية على الاثير السحري الذي تسبح فيه الكلمات والمعاني والأجساد والاشياء، ويكني بعضها عن بعض على بعد الشقة الزمنية والمكانية واللغوية. "اللغة هي الشجاعة: نبدأ بالافتراض ثم نسعى في التحقيق".
http://www.almustaqbal.com/storiesv4.aspx?storyid=548567

الاثنين، 12 نوفمبر 2012

وسام الحسن واغتياله في عهدة «الأخبار» وذمتها «الصحافية» الإعلام على تعبئة... أو النقض على الخبر


11/11/2012 
في الساعة الثالثة بعد ظهر يوم الجمعة، في 19 تشرين الأول، أو بعدها بقليل، قَتَل انفجار سيارة مفخخة كامنة على طريق تُفضي الى مقر قيادة قوى الأمن الداخلي القريبة، بأشرفية بيروت، مدير «قسم» المعلومات في جهاز قوى الأمن، وسام الحسن، العميد فاللواء. وقتل الانفجار مرافق الضابط، أحمد صهيوني، وامرأة تعمل بمبنى قريب من الكمين، جورجيت سركيسيان. وعُلم ان المقصود بالسيارة القاتلة هو الضابط الاستخباري الكبير بعد انقضاء نحو ساعتين على الانفجار العاصف. فوسع الصحف اليومية المحلية معالجة «الخبر» عن الحادثة في غضون الساعات السبع أو الثماني التي أعقبتها. فالصحيفة ينبغي أن تطبع في الساعة الثانية صباحاً على وجه التقريب. وصباح يوم السبت، في 20 تشرين الأول، وُزّعت الصحف اليومية، وتصدَّرها «الخبر» العتيد.
فخصت «الأخبار» البيروتية الاغتيال القريب وقتاً بالغلاف وبأربع صفحات كاملة. وملأت الصفحات وغطتها 8 مقالات إخبارية ورأي، وزاويتان وأربع صور فوتوغرافية. وكتب المقالات «مراسلو» الصحيفة، أو أخباريوها المفترضون، ومعلقوها أو أهل رأيها. والحق أن المراسلين لا يحجمون عن أداء الخبر في صيغة رأي. ولا يتردد أهل الرأي في إبداء الرأي في صيغة خبر. فتمييز الواحد من الآخر ربما تحمله الصحيفة على تمويه وتدليس «موضوعيين»، أي على تشبيه الموضوعية في معرض ذاتي محض. ويلاحظ القارئ، على رغم حدسه في رأي الصحيفة هذا، أن إخراج المقالات الطباعي يصنف صنفين: واحداً مؤطراً (يُخص بالشبك الملون في الإطار رئيس التحرير المدير المسؤول رئيس مجلس الإدارة و «هم» واحد: ابراهيم الأمين، على زعم بطاقة تعريف الصحيفة في ص16 ويشارك زياد الرحباني الرئيس المثلث الامتياز)، ويعلو التوقيع بالاسم صدر المقال وعنوانه في حالي الرحباني والأمين. وصنفاً ثانياً يفترش الصفحة من غير إطار. وأسهمت بعض الصور في «العمل«.
وتوالى على معالجة الخبر والكتابة فيه أهل الصحيفة اليومية، على طبقاتهم ومراتبهم المختلطة. فكتب حسن عليق تفصيل الغلاف، أو الصفحة الأولى الموسومة بـ «اغتيال الرجل القوي» على «جبهة» وجه الحسن الساهم والممتلئ والجلي القسمات. وإلى يمين المقال الخبري و «الرأيي» إطار طريف ومختصر: «سيارة العميد تبخرت!»، في جزئه الأسفل صورة صبية كاملة الزينة ومدماة البلوزة. وثنى قاسم س. قاسم على التفصيل، فقرَّب مشهد الاغتيال الحسي ووصفه. وتوسطت لوصف نواته: «طار حيُّ ابراهيم منذر السكني القديم بأكمله». وبسط مقال ثالث، وقعته «الأخبار» جملة، الردود السياسية المباشرة على الواقعة، وأبرزها اثنان (في العنوان): «14 آذار الى الشارع، وميقاتي يفكر في الاستقالة»، وهما تقدما خبر الاغتيال على الصفحة الأولى. ويتلقف مقال الرئيس المثلث- إلى شمال الصفحة وعلى طولها ومؤطراً ومشبكاً وملوناً وغليظ جسم الحرف وأسوده، ويعلو الاسمُ العينُ «حاجب» الوسم، على خلاف الزعم السائر ان العين لا تعلو «على» الحاجب- المقالات الأربعة أو القطع الأربع. ويسمي الوسم المتصدر القتيل، أو يلقبه لقباً فروسياً متواضعاً، مخففاً ومحايداً: «الخصم المحترف والمثابر«.
[صناعة بهلوانية
والمقتطف في وسط العمود العريض يدعو، بين المزدوجات علامةً على الانتخاب، الى توسيع مسرح الحادثة، وتناولها من أطراف آفاقها البعيدة والمترامية، فيجزم: «يندرج اغتيال الحسن في مطلع الحرب الباردة الجديدة في العالم». وهذا من مصطلح الصحيفة اليومية ولغتها ومذهبها في تناول «العصر الحاضر» وحقباته (أو «تحقيبه» على قول بعض أعلام كتّابها) وسرد منعطفاته (أو «سرديته» على قول أعلام آخرين قد يكونون الأوائل أنفسهم). وكان «المراسل» الخبري، حسن عليق، عنون مراسلته السياسية: «وسام الحسن شهيد تليق به الحياة». وهذا الطباق من صور بديع الصحيفة، وهو الموروث من مدرسة صحيفة «السفير» الأم وإنشاء ناشرها التاريخي والمزمن «الأدبي». واقتصر قاسم س. قاسم على «اغتيال رجل الظل» عنواناً. فتوسط هذا «تبخر» سيارة صريع عصف المتفجرة»، إلى يمين الصفحة، و «طيران» حي ابراهيم منذر «بأكمله«.
ولا ريب في أن طباق «شهيد تليق به الحياة»- بين البَدَدَيْن المحكيين والعاميين القريبين من القفش، وفوق صورة مسرحية وجسدية أليفة (وهذا بعض تعريف فن الكوميديا) يتوسط فيها الضابط الكبير المبتسم بالبيريه الخضراء ثلاثة من أركان قيادة الأمن الداخلي أقربهم مديرها العام المهموم- هذا الطباق «الشعري» و «المأساوي» في الجوار وإيحاءاته الهازلة و «الشعبية» ينم بصناعة صحافية مترجحة وبهلوانية فوق ما ينم بهمّ الإخبار والإعلام والرأي. ويسبق هذا قراءة المقالات من بعض القرب، واستنتاجاتها أحكاماً و «خط» معالجة.
و «يروي» مقالان كتبهما نقولا ناصيف وأحمد محسن، في الصفحتين التاليتين (4 و5) من عدد الصحيفة نفسه، بعض سيرة القتيل الأمنية والإدارية الوظيفية والتعليمية في عين أخباري أمني وإقليمي، والتماعات من سيرة شخصية ومدينية حميمة. وتتوسط المقالين صورة ملونة كبيرة تردد أصداء العنوانين: «وسام الحسن... كأنه عاد إلى موكب الحريري» (ناصيف) و «أين ذلك الوحش الذي ركن السيارة؟» (محسن): حطام الطريق العام المهشّم، والحديد المتفحم والمتناثر، وأبواب المحال المبقورة، وجامعو الأدلة الحسية، ورجال الفرقة 16، والهاتفون في الخلوي، ومتصفحو الصور على شاشات هواتفهم... وتذيل الصفحة «سيرة الشهيدين» (في إطار داخل صورة المؤهل أحمد صهيوني)، والسيرتان نبذتان وزعتهما المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، ومقال مولف يجمع بعض وقائع الاحتجاج الشعبي والحزبي على الاغتيال وقعته «الأخبار» جملة على شاكلة نظيره في الصفحة الثانية.
وتعلو الصفحة الخامسة، نظير افتتاحية الصفحة الثالثة، زاوية جان عزيز، من غير امتيازي مثلث الرئاسات وصاحب «بالنسبة لبكرا شو؟» و «فيلم أميركي طويل». ووسم الكاتب زاويته بجملة جوابية، وعبارة قانونية وأخلاقية «وجودية» (سارترية بعض الشيء): «لأننا كلنا متهمون». والتهمة الذاتية، الشجاعة ما اقتصرت القراءة على التصفح، والعامة تبدو جواباً عن سؤال أحمد محسن المتشنج والمنفعل: «أين ذلك الوحش...؟»، وتعليقة متعقلة على الصورة الكبيرة والملونة، والفاجعة، التي تتوسط الصفحتين، وتجدد المشهد الأخروي الذي أسفر عنه انفجار 14 شباط 2005 الساعة الواحدة بعد الظهر ويذكر مقال ناصيف به. ويطل كلام الزاوية «السياسي»، على دعوى «كيكر» العنوان المترفع على بعض التشاوف، على بقية الصفحتين ومقالاتها الأربعة «المنفعلة»، حكيماً وعلمياً ومتدبراً ثاقباً. وهذا يتخطى الشكل و «العناوين»، على ما يقال على سبيل الاستعارة في مسائل غير صحافية ولا إعلامية، الى الجوهر أو المضمون.
ويبني جان عزيز احتجاجه لعموم التهمة على مثال قياسي منطقي متماسك، من مقدمتين ونتيجة لازمة: 1) الجريمة الإرهابية (شأن اغتيال وسام الحسن، على ما يوجب صاحب الرأي، وعلى ما سبق أن أوجب بشار الأسد في اغتيال رفيق الحريري و..... ياسر عرفات في تشرين الثاني 2004) تتوسل بضحيتها المباشرة الى ذر الخلاف في «الأحياء» و «الإيقاع فيما بينهم»، 2) ووسيط الخلاف والفرقة هو «السياسيون الغربان» و «غربان الموت» و «جوقة المحللين»، ويجمعون على «الاتهامات الفورية» و «الجاهزة» و «الغزيرة»، وعلى «الاستثمار السياسي» في الجريمة، فهم آلة الإرهاب الموصلة، وعمدة تخريبها، 3) فما على الساعين الصادقين في «مواجهة الإرهاب» والراغبين في قطع دابره «عبر سياسات إعلامية واجتماعية و (سياسية) بمعناها الحرفي»، وليس كيفما اتفق وخبط عشواء، إلا إعمال (نا) «الحق (في) التزام الصمت»، واعتصامنا بـ «الواجب علينا جميعاً»، والواجب هو ما كان للتو حقاً (في الصمت) وما رفعته الجملة التالية الى مرتبة «الفضيلة»، قبل ان يعيده الشعار الختامي، «واجب الصمت» الى المنزلة المتوسطة بين منزلة الحق ومنزلة الفضيلة.
ودعوة الصحافي صاحب الرأي وكاتب العمود- في ختام كلام مزعوم في السياسة يتصدره زعم تعريف الإرهاب «التعريف العلمي والجنائي» على منهج «العلوم الجنائية والسوسيو- نفسية في عالم اليوم» (بلى! لا يُنقص الشاهدُ حرفاً ولا يزيد حرفاً)- دعوة الصحافي إلى الصمت، في ختام 5 صفحات و10 مقالات أولى في أعقاب ساعات من الواقعة، من باب العجب العجاب. فالدعوة صادرة عن صحافي مفترض ومعلوم الاسم والسمت والسيرة، الصحافة أي تسويد الصحائف والصفحات بالكلام على أصنافه وأبوابه ومظانه هو حرفته وشهرته او تعريفه. ومن هذه حلته (لباسه) وصفته (تعريفه) لا يحض على كلام صادق ودقيق يحتمل العرض على أصول التحقيق والمقارنة والنقد المتعارفة، جرحاً (طعناً) وتعديلاً (إقراراً بالعدالة)، على ما يحق ربما لقارئ صحيفة أن يتوقع وينتظر، ولم لا أن يطلب ويشترط.
[نسيان المدنيين
ولا بد أن تستوقف المفارقة الغريبة القارئ: صاحبُ قلم ورأي محترف يدعوه الى السكوت في معرض جريمة إرهابية وجواباً عنها. وتحمل المفارقة على قراءة الدعوة من جديد، فلربما لحق بعض الخلل مواضع متفرقة من القياس أو الاحتجاج، وأفضى من حيث لم يرد الكاتب الى الغرابة المُعلَمة والموصوفة. فيلاحظ أن «التعريف العلمي والجنائي» المزعوم للارهاب- وهو يتناول نتائج الاعمال الارهابية في المجتمعات السياسية المنقسمة وإدارة الانقسامات والمنازعات على وجه الاحتمال، وهذا لا شأن «للعلم» به يغفل الجانب السياسي والاجتماعي منه. فلا يقع القارئ على المعنى الفارق الذي يميز العمل الارهابي من العمل الحربي، وهو إيقاع القتل عمداً في «المدنيين» حين يكونون خارج دائرة قتال وحرب، ومنصرفين الى مشاغلهم. والمناقشات القانونية والحقوقية الطويلة التي تناولت حروب الغوار، والمقاومات الوطنية والشعبية، وأشكال الحروب غير النظامية المتفرقة، منذ تبلور صيغة الحروب الثورية والجمهورية الشعبية، «الكلية» أو العامة (على مثال النفير العام والتعبئة العامة)، وتتناولها الى اليوم، إنما كان مدارها على فصل دائرتي العنف المباح والامن المدني، الواحدة من الأخرى، وعلى جواز استدراج تأثير في مسرح القتال من طريق المدنيين وقتلهم وترويعهم.
ويعلم القاصي والداني أن سهم «العرب» في المناقشات هذه والخلافات المولودة منها، راجح. وليس من المصادفات العابثة تمسك السياسة الأسدية وألسنتها وأجهزتها بإباحة العنف على غاربه لمنظمات «المقاومة» و»التحرر» من حلفائها ورفضها حصانة المدنيين «الأعداء» في الداخل والخارج معاً ، من جهة، واختصارها السياسة الداخلية والاقليمية والدولية، إذا قدرت، في القتل والاغتيال الفردي والجماعي والاستدراج الى الاحتراب، من جهة أخرى. فنواة الارهاب هي إباحة المدنيين للقتل وذلك بناء على إبطال تمييز المدنيين من المحاربين. فمثل التمييز هذا يقيد الحرب والعنف، ويحول بينهما وبين الجموح الى أقاصيهما المدمرة، ويمهد من طريق مضمرة للسلم القادم، وللمفاوضات والمساومات وما تجره من خسائر لا تخلو من ربح وارباح لا تخلو من خسارة. فلا يشيح الجمهور، وتياراته السياسية المتنازعة، عن لائحة السلم و»الحل» السلمي...
والمفارقة العريزية و»الاخبارية» الثانية هي ترك الكلام على الارهابي القاتل والمفترض، ولو مجهولاً أو غائم الملامح والقسمات، والتنديد الحاد والجارح بمن يستدرجهم الارهاب الى التشهير به والتخويف منه، والى التوسل بحصاده الأليم والمخرِّب (المنافي السياسة) الى محاربته وإقصاء آلاته ومسايريه وشياطينه البكم («الصامتين؟») والفصحاء. وهذا من حقوق المنازعة السياسية، ومن حقوق الدفاع عن النفس. فمكافحة الارهاب «العلمية» و»السوسيو نفسية» تقضي بـ»قتل» السياسيين والصحافيين والمحللين إن لم يكن قتلاً مادياً، على شاكلة قتل وسام الحسن أخيراً، فقتلاً رمزياً ومعنوياً وأدبياً: قرفاً و»تقززاً» و»غثياناً» وتشهيراً أخلاقياً وتكذيباً ومساخر. فـ»اللوحة» التي يرسمها داعية الصمت الواجب لأنصار القتيل، ولمن كان القتيل نصيرهم، لم تتجنب عيباً ومثلبة، ولم تتفادَ بذاءة إلا وولغت فيها، وانتشت غير متسترة ولا مقتصدة بافتراضها والتلويح به على رؤوس الأشهاد. وهذا التشهير المنتشي بمسرحه ومحاكاته الحقيقية والحرفية كوميديا مفترضة يؤديها أنصار الضحية، لا يحتسب نفسه جزءاً من نتائج الارهاب المقصودة، أي من «الإيقاع بالأحياء«.
فعلى نحو الغفلة عن المدنيين في تعريف الارهاب، تنسب المقدمة الثانية في مقاصده شطراً من «الاحياء»، هم حزب القتيل، الى الحيوانات («الغربان») وأشباه البشر المنحطين (أهل الكوميديا والتمثيل). وهذه النسبة، نسبة شطر من الأهل و»الشعب» الى مرتبة منحطة و»عرق» أدنى، مدخل الى إباحة القتل والاستئصال وباب عليهما. وهي تستجيب نعرة عامية وشعبوية على «المناصب» و»البيوتات» (على قول خطيب «الحزب» في عمر كرامي ... مادحاً!)، وعلى زعماء الطوائف وأولاد «المترجمين» الواقفين على أبواب سفارات «الرجل الابيض» (حسن عليق)، تتشاركها أجهزة التعبئة في الجماعة الحرسية المسلحة والشيعة العونية الخلاصية وأفواج «باسيج» المحرومين ومثقفي مقاومة «المرابطين» الحمدانيين، وأصحابهم. والنعرة هذه عقيدة لبنانية جامعة تحشد أهل الثارات والضغائن من الجماعات كلها، وتقرهم على عدالة رغباتهم واستقامتهم، وتنسب خصومهم ومخالفهم الى اليزيدية و»القاعدة» وبيلاطس والسياسة.
[الغمز
وينتهي المتكلم في السياسة، والعالم البحر في العلم العلمي والجنائي وأركانه «السوسيو نفسية» (لماذا العفاف عن « - البسيكولوجية»؟ فالسوسيو- بسيكولوجية أو البسيكو وسوسيولوجية كانت لتليق بعلم المصطلحات العزيزي) وتقنياته (وهذه أبواب ومطالب على عدد حجرات «الف ليلة وليلة»: مفردات وتعابير ومعان ومدلولات ونوع متفجرات وحجم وعصف ومصدر وما ينجم وما يشبه وما يقارب وما يناقض... ما هذه الغزارة في العلوم يا شيخ؟ وكيف تُشكر على إنعامك بها على قارئك الفقير؟) ينتهي الى دعوته الفاضلة والكريمة الى حق وواجب وفضيلة يوقعها على الصمت، على ما مر. ويعرج في الأثناء، من طرف خفي، على وسام الحسن. والمقال لا يذكره بالاسم مرة واحدة، ولا بالصفة غير هذه المرة، بعد لائحة «التقنيات» المزعومة. فيقول فيه إنه «صياد رؤوس». وهي عبارة ملتبسة حين يكنى بها عن موظف أمني يعمل في إطار جهاز رسمي. ولعل هذا ما أراده الكاتب الصامت، الالتباس والغمز. وهو ربما يغمز من «صيد» شعبة المعلومات ميشال سماحة وعلي المملوك وبثينة شعبان والعقيد عدنان وربما جميل السيد وهم يحسبهم العالم التقني الجنائي «رؤوساً»، وكان طعن في «عار» تهمتهم في مقال «سياسي» سابق، في زاويته وصحيفته.
وعلى المثال إياه، يمدح صاحب الرأي أصحابه و»خطوات تضامن جماعي فعلي» خطوها وحدهم، على خلاف الغربان المسرحية والتلفزيونية، على «أرض الجريمة». وهو يلمح، حيياً وعفيفاً وممسكاً على عادته، الى مبادرات العونيين المحليين «التعاونية» التي لا يبتغى بها إلا وجه الكريم، في معرض كلام محتدم في الانتخابات الآتية، وفي الترشح الى المقعد الارثوذكسي بالاشرفية، أرض الجريمة والتضامن السري اتفاقاً. ومن طرف لا يقل خفاؤه عن خفاء التعريفات والعلوم والانتقالات الحافلة، ينتهي المقال الى جملة مفتاحية وختامية، وسم بها «كلامه» الجوهري والكرشوني معاً، وقع عليها أو وقعت عليه وحياً وإلهاماً:»لأننا كلنا متهمون». وهذا الختام، ومسكه، لا أثر له (أو لهما) في المقدمات العلمية الغزيرة والمتبحرة، ولا في الغمزات والاشارات والتلويحات المبثوثة في الثنايا والمنعطفات والمتفرقات. فمن «نحن» الغريبة هذه؟ ولماذا النصيحة بالصمت جواباً عن تهمة عامة؟
فينصح بالصمت، ويذكر بالمتهم المظنون حين توقيفه وتنبيهه الى حقه في التزام الصمت (على ما يرى جمهور التلفزيون مرات لا تحصى في المسلسلات الاميركية البوليسية اليومية، ولكن علم جان عزيز بهذا يرويه ويحمله على «أصول المحاكمات الجزائية الغربية»). وهذا الحق جزء من تحصين المظنون من تعسف التحقيق و»إرهاب» قوة الشرطة. فهو قيد مدني (متمدن) على السلطان الديموقراطي وذراعه القضائية، في انتظار التحقيق وشهادة الشهود، واستنطاق القرائن، ومرافعة الأضداد، والمداولات، علناً وجهاراً في معظم الأوقات. ولكن هذه الترهات والسخافات الشكلية تتهاوى وتتبدد في حضور سياسة واقعية تسوس «الناس» سوسيو نفسياً، ولا تعير الى القضاء والحق والقانون غير انتباه لفظي. فنحن «متهمون» بخطيئة أصلية لم نقترفها. وعلى أبواب «العلم» الميتافيزيقي المكنون يحجم العامي ويقف.
وإذا أوكلت الصحيفة الى قلم محلق ومهوم ومشبّه التلفظ بمبدأ محبب الى السلطان الجائر يقضي بإعدام الصحافة والاعلام هو مبدأ «واجب الصمت»، فهي احتفظت بـ»الحق» في الكلام المتمادي، وزاولت هذا الحق وباشرته من غير اقتصاد ولا إمساك. فإذا استحال الصمت، خارج الدعوة المراوغة، فليقصد الكلام الكثير والملتوي غاية تثبت استحالة قول أو رأي أو خبر مستقيم أو نزيه. فيكتب حسن عليق في عدد الصحيفة نفسه، تعريفاً بالقتيل يمدح «عقلانيته». وتسبق المديح صورة قدرية يبدو فيها الحسن «مستهتراً» مقبلاً على موته قتلاً، وساعياً فيه، ومسؤولاً عنه على قول العماد ورفيق السلاح السابق ميشال عون العائد من كرازة رعيته الاسترالية. ومن أمارات عقلانية هذا القدري الحشوي توليه «التواصل» بين سعد الحريري وبين «حزب الله» و»التنسيق الأمني» بينهما. ودلف الرجل من هذا الباب الى «إعجاب متبادل»، وإلى هدية (كالاشينكوف) ذهبية «اللون»، اللون وحسب، أهداها إياه خمِّنوا من؟ «سماحة السيد»: «أجاب (الحسن) بابتسامة طفل بعد فترة صمت. (والحسن) لا يتحدث عن الأمين العام لحزب الله إلا ويستخدم هذه الصفة». هاتِ الكلينكس يا حفيظ!
وهذه فضيلة راجحة تحسب له، إلى فضيلة ثانية هي رفضه الغريزي والتلقائي («لم يكن يفكر مرتين»، في عربية «الاخبار» الاصيلة) «ما كان يريد بعض (أصدقائه) أن يفرضوه عليه». وإلى فصيلة ثالثة: «لم يعتد... الانحناء أمام استخبارات الرجل الابيض». وينتهي هذا، من طريق مبهمة لم يعتم عليق ان تولى توضيحها وشقها في عدد لاحق، الى كثرة أعداء رجل الامن الكفي وجواز كثرة القتلة غير المحتسبين انحيازاً، وإلى استدارك طريف: «ليس هذا القول ذريعة لإضاعة دمه بين القبائل». ولكن من ظن في الكاتب أو في الصحيفة نية مثل هذه؟ فهو، حسن عليق، استرد الدم المسفوح من «الضياع» الذي تهدده بعد عشرة أيام على الاغتيال. فكتب في «قضية اليوم»، في 30 تشرين الاول (ص2) أن رئيس الاستخبارات الاردنية ووزيراً «على صلة بأجهزة الاستخبارات الاردنية» أخبراه «كل منهما على حدة»، مبالغة في التحوط وتكثيراً لطرق النقل :» الاسرائيليون لا ينظرون بعين الرضا إليك». وانفرد أحدهما بالقول: «عليك أن تكون حذراً، حتى في أوروبا»، فيصدق أن الاثنين ليسا واحداً.
[«الاتهام المسبق»
ويخرج عليق من الابهام و»التضييع» الى تسمية «القبيلة» صاحبة دم القتيل بالاسم: «ان الاسرائيليين يريدون رأسه»، ويؤيدهم الكونغرس الاميركي. وجهاز الاستخبارات في دولة الامارات العربية المتحدة، ووكالته الفرعية بأبوظبي على رأسها من ضبطت كاميراته قتلة الكادر الفلسطيني في الجرم المشهود، سبقت الاستخبارات الاخرى كلها: أبلغ الحسن «إمكان تعرض ضابط رفيع المستوى في المديرية العامة لقوى الامن الداخلي لعملية اغتيال بسيارة مفخخة في منطقة الاشرفية، على الطريق...». وخلا بلاغ «الإمكان» من نوع السيارة المسروقة ولونها ورقم لوحتها المزورة ورقم الهيكل («الشاسي») ومن اسم سائقها أو راكنها. ونسب بلاغ «الامكان» إعداد العملية الى ... «القاعدة». وهذا ما سها عنه الحسن الساذج، فحسب أن الجهاز الاستخباري السوري هو الذي يعد العدة لقتله، بينما الجهاز مشغول في تيسير انتقال آل طلاس الى أوروبا، ورئيس الوزراء الى الاردن، وفي «تنظيف» سوريا، على قول الرئيس المحبوب، من مبغضيه الحاقدين.
ولم يقتصر التمهيد لدحض «الاتهام المسبق» الذي ذهب العميد فاللواء القتيل ضحيته، على حسن عليق البعيد النظر. فأسهم ثاقب نظر آخر متمرس، وطويل الباع، هو نقولا ناصيف، في الخروج من «الاتهام المسبق» الكريه، وعدو «الاخبار» الاول، ونقيض صحافتها وإعلامها المنفتحين على آفاق كثيرة لا يفطن من مهنتهم الفطنة والاحتراز إليها: إسرائيل، الكونغرس الاميركي، «القاعدة». وذلك على رغم بلاء خطيب الجماعة الخمينية المسلحة في تظهر تعقبات اسرائيل غير السياحية ولا المجانية، جواً وبحراً، الساحة والشعاب الحريرية. ولما كانت سيرة رفيق الحريري وقضاؤه المثال السردي والسياسي البهي، روى صحافي «النهار» السابق عن مصادر «قليلون» من تسر إليهم بعلومها، من غير «سوسيو» ولا «نفسو« ولا جنائيات، أن بشار الاسد «سأل عن (وسام الحسن)، في لقائه الثاني بسعد الحريري.
وبين كتمان وإعراب، على ما يقتضي عمل البوليس وخبره، «أفصح» الحسن ولا تسل لمن أفصح، بل افترِضْ غير مكذَّب أن كاتم سره الى غداة مقتله، ليس إلا المسكين لربه المتواضع الى «مصادره» ان اللقاء «استغرق أكثر مما كان متوقعاً». فعلامة وقف قرينة على صمت طويلة، ثم الخبر الصاعق: «أكثر من ساعة». فيقطعه صمت ليستعيد القارئ رشده من الصعقة التي أصابته. فتفصيل الساعة المتطاولة إلى اكثر منها: «سأله الاسد عن الكثير من مهنته وحادثه بلطف في مسائل شخصية تتصل بحياته وعائلته». وبادل هو السؤال الكثير، والمحادثة باللطف، «فتخلص» الضابط المحترف من حسبانه، المسبق بديهة، أن سوريا انتزعت منه «الرئيس السابق»، أي رجع في رأيه أن بشار الاسد أمر باغتيال رفيق الحريري المتحفظ علناً عن تمديد ولاية إميل لحود «صنيعته ومولاه». فهل يعقل أن يقتل بشار الاسد من استقبله «أكثر من ساعة» وسأله وحادثه؟ دام استقبال حافظ الاسد خليل عكاوي 4 ساعات تامة بقصر المهاجرين في ربيع 1984، واغتيل عكاوي بعدها بثلاثة أسابيع. وسأله الاسد الاب كثيراً عن باب التبانة، وعن عائلته وأصحابه، واحداً واحداً، وولداً وولداً...
وعلى من لم يضيِّع «الطاسة» التي يستقي بها من معين الاخبار، ونبعها الزلال، الرواح الى النبع: المثلث الرئاسات «الاخبارية». فابراهيم الأمين يقفز بخفة الدوري من بطنة (نوع من الشجر الكثير و»العبي») «الحرب الباردة الجديدة والمتجددة في العالم: الى كشنة (نوع آخر من الشجر يفوق السابق كثافة) «حروب وفوضى دموية... من تحت (الحرب الباردة)»، فإلى حقل بلان «آخرين، من خارج طرفي النزاع (يلعبون) على التناقضات وتوجيه الرسائل، أو حتى إدارة الدفة من وجهة الى أخرى». وكان الضابط الصريع يتولى، في قلب «الفوضى» الجهنمية التي لا يبالي مقاتلها وقع الموت عليه أم وقع هو على الموت، «استثمار الفوضى»، مفوضاً من «الجبهة التي تقودها الولايات المتحدة ودول عربية وإقليمية»، في سوريا الاسد الممانعة والمتصدية. فكيف تخليص خيوط «تحقيق جنائي امني دقيق» من غابات البطن والكشن والبلان الفوضوية هذه؟ ويقطع هو نفسه دابر مثل هذا التحقيق، فينيطه بـ»جهة قضائية لا تديرها الولايات المتحدة» (افتتاحية 22/10)، على شاكلة المحكمة المختلطة التي أدماها طعن وزارء بشار الاسد، وقادة الحرس الثوري، وألسنة الجماعة المسلحة بلبنان ومحرر الشؤون القضائية في «الاخبار»، فيها.
وينتبه رئيس التحرير، قبيل الترحم على «الخصم»، إلى انه لم يحصِ الاسلاميين المتشددين» في عوامل «الفوضى». فيلحقهم باللائحة على عجل. وكان مر، ملمعاً، بـ»أمور كثيرة، سياسية وغير سياسية»، وهذا جلي ولا يحتمل التأويل، «ساعد» الراحل فيها رفيق الحريري. وفي عدد 24/10 من الصحيفة، يتصدر الصفحة الاولى «سر الاعلامية في جريمة الحسن». والسر هو «قضية اليوم» بقلم «المحرر» والمخبر ابراهيم الامين (من غير اطار ولا شبك ولا لون ولا توقيع فوق العنوان). وبعد كلام «عزيزي» في اصول التحقيق الحسية، والعبوات وأحوالها، وفي خفايا الامور الباطنة مثل:» ان التحقيقات جارية الآن لمحاولة التعرف الى هوية الاشخاص الذين ظهروا في الشريط» (هذه الفطنة كلها يا ... سيد!)، يروي العالم بما لا علم للجمهور به أن «الحسن كان قد تواصل مع اعلامية لبنانية واتفق معها على لقاء في مكتب الاشرفية السري...» وهذا خبر مهني وليس «غير سياسي». والاعلامية «كانت مصدر معلومات للحسن»، ومن ظن الظنون أثم وعليه إثم الأكارين. وليس على قارئ «الاخبار» إذا استبهمت عليه الامور في ضوء قراءة الصحيفة الكاشفة، إلا لوم حسبانه أن قارئ الصحيفة إنما يقرأ ما يكتب وليس ما يخفى بين السطور أو يتراءى طيفاً على سطح لجة مراوغة لا قاع لها


 http://www.almustaqbal.com/Nawafez.aspx?pageid=82608

الاثنين، 29 أكتوبر 2012

لوحات ريم الجندي المعلّقة على «شجرة العائلة» ...غابة صوَرِ مليئة بكنايات الأنساب ومجازات السفر وأرض الحكايات


المستقبل - الاحد 28/10/ 2012 

ترسم ريم الجندي (معرض «شجرة العائلة»، من 10 تشرين الاول 2012 الى 31، بصالة جانين ربيرز) في ثلاث لوحات مستطيلة وتعليمية سيرة شجرة العائلة وحكايتها. وهي (الشجرة) الكناية القوية والغالبة على السيرة وأوقاتها ومراحلها واتصالها. فتبدأ من «البداية»: «القبلة الأولى». وهي ثلاث لوحات: «لوحة» الفتيين العاشقين، و»لوحة» المخاض الأحمر، والتعليقة على المتن أعلى اللوحة وعلى شاكلة عينها. وقد يدعو خروج الوجهين الفتيين، في الاسفل، من غاشية الأحمر المخاضية ومن صفحته المائية والدموية غير القانية، قد يدعو الى تصفح اللوحة واستقبالها من أسفل ومن خارج. ويصف الشطر هذا إقبال الصبية حركةَ جذع وصدر ورقبة وعمقَ كتلة شعر على الرأس وبحثَ وجه وفم، والى هذه وقَبْلِها أصابعَ يد تشد رأس الصبي إليها يصف إقبالها على الشاب، ولقاءَ الوجه الوجهَ، واتصالَ الضوء على جانبي الوجهين والخدين في ما يكاد يكون فلقتي حمل واحد. وتثبيت الوجهين على نحو يستعيد إقبالَهما الواحد على الآخر وصدورَهما عن رغبة تجمعهما، يدرج عناقهما وقبلتهما في سياقة قصة «أخرى». وهي ليست قصة الأحمر المترع وموجته وصفحته المتلألئة، من غير استفاضة ولا تبجح، بقاعٍ غامض يحدس الرائي في تنفسه البعيد والهانئ حياةً وحركات خفية. وتغلق الدائرة بأعلى اللوحة، وهي «عينها» المفتوحة على داخلها وخارجها معاً والواصلة جذورها المتشعبة بأغصانها الوارفة، اللوحتين الأخريين: فهي وحدها ينطوي عليها اطار، ويحدها حد، على خلاف ماء اللوحة الأحمر والوجهين القادمين من رغبة ومن خارج مرسل ولا تعريف له ولا إضافة.
والكناية (الذهنية) عن أصل «العائلة» الماثلة في اللوحة الثالثة، «حليب»، بالاشتهاء وإقبال «الزوج» على «زوجه»، وتوسط المضاجعة «بداية شجرة العائلة» بحسب وسم اللوحة، الاثنين، هذه الكناية لا تستوفي الوصف الذي تبسطه اللوحات الثلاث معاً وجميعاً. فثمة، في «القبلة الأولى»، قاع المخاض المائي والدموي وقاع الجذور والتراب والسماء- وثمة في اللوحة نفسها، «بوستر» أو تعليقة الوجهين الصادرين عن مَعين نَسَبي وقصصي ولوني قائم بنفسه ومستقل بها. وفي لوحة «بداية شجرة العائلة»، الوسيطة (وهي «بداية» ولكنها ثانية، وكانت «القبلة الأولى» إلى يسار «بداية» للتو هي الابتداء المفترض، والابتداء كان نوَّه ببدايات ثلاث محتملة لما هو أوَّل، وذلك في تعكيس للعروس الروسية ولاحتواء العروس الأكبر عروساً تصغرها: ما «تحتويه» اللوحة هو التفلت من الإسناد المحكم) في اللوحة الوسيطة حلقة منقطعة، نسباً وقصصاً ولوناً مرة أخرى، من لوحة الثلاثية الأولى ومن لوحتها الثالثة معاً. فالقاع التحتي جسد الرجل والمرأة العاريان والمختلطان يفترشان أرضاً بنّية حارة أو يعومان عليها، ويخرجان منها من غير أن يفارقاها، ويحاكيان ثناياها السود هذه المرة، جزء أو فصل من اللوحة. وهو يكاد ينفرد بها لولا كساء الأديم المنير، أو النوراني، الذي يبسط على الضجيعين لحافاً من ذهب متوهج ليست شجرة العوسج إلا تألقه ولألاءه المنتشيين. والأديم المنير يفترش العاشقين، أو يلتحف العاشقان لحاف النور، لا فرق، على غير نحو افتراش الحبيبين الأرض. فهما بينهما وبين الأرض «نَسَب» أو سسبب لوني وقصصي. وأما لحاف النور، وشجرته المهلِّلة والمنتصبة فوق العاشقين الضجيعين والخليطين فينطوي عليهما انطواء الرحم على الجنين آن هو ثمرتهما المولودة من أرضهما. وما روته اللوحة الأولى فصولاً منقطعة، الفصل فيها قائم بنفسه وبمصدره ومضمره، ترويه اللوحة الثانية متصلاً. ولكنها لا تتستر على انقلاب الدوائر المتصلة النسب من حال الى غيرها أو خلافها، ولا تسكت (وهي بالأحرى تصيح وتجهر) عن غرابة الولادة واستغلاقها. فـ»يلد» الحبيبان المضطجعان المختلطان، المفترشان أرضاً يمتان إليها بشبه قوي وتحضنهما، ذهبَ الشجرة المتوهج والمتجلي من غير واسطة ولا شبه.
واللوحة الثالثة من الثلاثية، «حليب» أو رضاعة بعد الولادة، «تعلق» الأم والوليد على شجرة وارفة وفردوسية على أغصانها ثمار كثيرة خضر وورق مخضل، وتملأ سماء بحرية ومسائية فضاء اللوحة. فتحضن الأم الفتية و»السوداء»، شأن العذراء البولندية في شيستوشوفا، الطفل «الاسود»، وتحضن الشجرة الوارفة الأم والطفل، وتحوط السماء المخيمة والعميقة الشجرة الوارفة والأم الحاضنة. والحق ان الحضانة المتواترة لا تكرر فعلاً واحداً. فالأم لا تشد الطفل الى ثدييها وبطنها، ولا تحوطه على شاكلة ما تظلل الشجرة الفردوسية الأم والطفل. ولا تتخلل السماء وزرقتها الشجرة على نحو تظليل الشجرة الأم والطفل. فالأم وطفلها كيانان منفصلان ومتصلان، جسداً ومعنى، بحسب لاهوت الطبيعتين الذي تمت إليه الأيقونة بسبب وثيق. والطفل «صورة» تقوم بنفسها، على رغم تسويتها من مادة الام الشديدة الشبه بمادة الرجل في الفصلين السابقين أو اللوحتين. والرضيع يكلم الام: تقر يده وذراعه على صدرها، وينظر الى وجهها شاخصاً إليه. وتخاطب الأم الرضيع من غير واسطة النظر: فهي تحوطه من جهاته كلها، وإسدال الجفون على العينين يُسلم الجسد كله الى حضانة الرضيع وإرضاعه وضمه. غير أن إغماضة العينين تفك المرأة من فعلها الظاهر وتحملها على سريرة أو طوية بعيدة الغور لا تستغرقها الأمومة وحضانتها، ولا تستوفيها كلها. فهي ماثلة في صدارة اللوحة، وتغلب على الصف الاول والقريب من فضائها، وتملأ متنها ومطلها وفناءها. ولكن إغماضتها تصل الوجه بخارج لا تتطاول إليه اللوحة المثلثة، وتحيل الشجرة والسماء الى حاضنتين أليفتين وحانيتين من غير نسب.
فيعود الالتباس الى النسب حين تكتمل ثمرته وتتفتح. وذلك من طريق الرسم والتصوير، وآلاتهما وأدواتهما. ولا تُغفل الآلات والادوات، ومسرحها ومضمارها المساحة الملونة، أن الرسم والتصوير إنما ينجبان، على ما تصور ريم الجندي من غير تورية، عالماً، ويتوارثان «أشياءً»- معانيَ تتكلم بصريح العبارة وبمواربها وغامضها، بمحكمها ومتشابهها، كالآي «المنزَّل». فلا تتخلص «الاشياء» المعاني هذه من أنسابها، مرة أخرى، ومن غابه هذه الانساب، وليس من شجرتها الواحدة، على سبيل الاستعارة وحسب. وتقع صاحبة «شجرة العائلة» من حيث تدري دراية عميقة وواسعة، وهي تلمح الى هذه الدراية في تقديمها معرضها بل هي تعرب عنها، تقع على غابة الصور المتصلة بكنايات الأنساب ومجازات الشجر وبأرض الحكايات التي تُنبت الكنايات والمجازات على نحو ما تنبت الأنساب والشجر من غير تفريق. فتلتف الشجرة على النسب. ويتفتق النسب عن أصول وراءها أصول وفروع بعدها فروع. فكأنه كان شجرة قبل أن يكون نسباً، أو أنه صار نسباً، أرضاً وجذوراً وسماء وعشقاً ومضاجعة واشتمالاً وحملاً ورضاعة وغياباً وانفصالاً وسفراً وهجرة وتغريباً وتشريقاً، من طريق التشبه بالشجر. وذلك على شاكلة الجماعات القروية الاولى بجنوب الاناضول التي توارثت زراعة الحنطة، عشرة آلاف سنة ق.م.، واستقرت في قراها لترعى آلهتها وقبور موتاها. فلم «تنتج» قوى الانتاج وتجديد الحياة والنسل الآلهةَ والقبورَ والجماعة المستوطنة، بل كانت هذه «السبب» في تعهد الزراعة الحيوية ودوامها.
ويحصي المعرض في نواته المؤلفة من 12 لوحة وتطرقت الملاحظات التي مرت الى 3 منها أزعم أنها نواة النواة، على مثال تضمين وتكنية لا ينتهيان الى حد مثالات الأنساب ونماذجها واستعاراتها المتصلة بالشجرة، أو المعطوفة على الشجرة. فتنتقل النواة الاثنا عشرية، على عدد المعصومين وعدد الحواريين وعدد الأشهر وعدد الممالك التي فتحها الاسكندر وعدد الألوان التي تعملها الرسامة في لوحاتها هذه...، بين شجرة الملائكة ونسبهم الصدّيقي والاوراق المستديرة كالهالات وبين شجرة الجنة وأفعاها التي تلتف عليها وتشاركها جذورها وتستدخل جذعها. وتمر بشجرتي السلطان، وشجرة الحظ، وشجرة الشمس، وشجرة المفتاح المحفوظ، والغناء («الشجرة سكرانة عصافيرَ» يقول الشاعر الفرنسي)، والرعاية.
وتتوسط الشارات (العلامات المتعارفة) الجذوع، فتحملها هذه وتتدرع بها على شاكلة التعاويذ. ولو ان اللوحات اقتصرت على الشارات وإحصائها وتصفحها لكانت معرضاً للمعتقدات وتراثها الثابت ومدونة «شعبية» أخرى. وهي، اللوحات، لا تقتصر على هذا. فشجرها ينتسب الى المعتقدات، وتقديم الرسامة المكتوب يحصي بعضها ومتصفح اللوحات المعلقة قد يقع على غيرها، والشعائر والحقبات من غير شك. ولكنها تنتسب أولاً الى قوة مخيلة قصصية ولونية تقدم الإلماح الى بعض ثمراتها. فالبرتقالي (في «شجرة نسب الملاك») والأزرق (في «شجرة نسب العصفور») والرمادي الطحلبي (في «التعويذة من صيبة العين») والأصفر الكريمي الحليبي («الأفعى») والرمادي الفضي («الأغنية») والأحمر الأرجواني («القبلة الأولى») والذهبي الفضي («بداية شجرة العائلة») كلها تمور بتيارات تحتية ومختلطة تنكص دونها فكرة المصدر أو أول النسب ورأسه. وهو ما يسميه تقديم ريم الجندي «الخلاسية»» وهجنتها وتوليدها.
وتتقصى المخيلة اللونية الطفلية آثار المصادر والأصول الناكصة في أفراح الغصون والأوراق وأحزانها، وفي هزجها بفراديس وأعياد وتلويحها بأعاصير ومقابر ومحارق وكهوف وسموات وقيعان لا يسبر غورها، ولا قيد على إرسالها (أو مرسلها). فبين الأصول المفترضة وبين الفروع الموقتة، المولودة من الاصول من تيارات وحركات وموج وأسفار لا تحصى، هجرات يحصي المعرض بعضها. وإذا تولت «الشجرة» ورابطتها، أو حبل سرتها (وبعض «أسرار» التقديم لا ريب تنتسب الى الحبل هذه)، حفظَ كوكبة العائلة، الأرمنية واليهودية والكردية والسورية والفلسطينية، معاً، وحفظ الأخوات («الدانتيلا» و»الأخوات سماحة» و»زيتون 1948 الأخضر») على وجه التخصيص. فالعائلة هي أولاً مطية سفر وهجرة ورحلة. والعائلات تسافر أو تقيم تصحبها ألوانها، وهي ألوان أحلامها، على ما تنم المقارنة بين سيران العائلة الكردية التي تحتفل بالنيروز وبين العائلة الغزاوية المترحلة وبينهما وبين العائلة المتحلقة في صالونها حول جهاز تلفزيونها.
وتستعير الرسامة للتمثيل على مخيلة العائلات اللونية، والألوان والتصاوير و»الموتيفات» (التقديم) جزء جوهري من تعريف العائلة في اللوحات وهوياتها، ما تغطي به العائلات جدرانها: جدران المطبخ («كيف تكونين أماً») أو الستارة وراء المحتفلين بالزفاف («عرس يهودي بحلب») أو السجادة المعرشة فوق عائلة المعمم الشيعي أو الافق كله وراء العائلة الكردية، أو الورق المزركش وراء الفتاة «المعربشة» على غصن غليظ من أغصان شجرة العائلة... فالنسب، أو الثابت المفترض في تعاقب الأجيال ومعين الأسرار وخزانتها، قد «ينحل» في ورق جدران مرقع. وهذا كذلك من هجرات الشجرة
http://www.almustaqbal.com/nawafez.aspx?IssueID=3503

الجمعة، 19 أكتوبر 2012

تريستان تزارا... من بيان (دادا) إلى مراثي القرن الفاجع



المستقبل 14/10/2012

نقلت عن الفرنسية


(الى بيسان، عروس برلين القابونية)

[بيان

دادا هو جرثومة بكر

دادا يناهض غلاء المعيشة

دادا

شركة مغفلة تستثمر الافكار

لدادا 391 حالاً ولوناً بحسب جنس الرئيس

يتغير - يوجب يقول النقيض في الوقت الواحد غير آبه يصرخ-

يصطاد السمك بالصنارة

دادا هو حرباء التغير العاجل والمغرض.

(1917)

[شق جدار

شطر من جدار فيه شق

سألت نفسي

اليوم لماذا

لم تشنق نفسها

ليا الشقراء جداً

بحبلٍ...

(1917)

[موت أبولينير

لا نعلم شيئاً

لم نكن خبرنا شيئاً من الألم

فصلِ البرد المر (...)

لو أن العصافير كانت بيننا فتمارت

في البحيرة الساكنة فوق رؤوسنا

لوسعنا أن نفهم

لكان الموت رحلةً جميلة طويلة

عطلةَ الجسد المرسلة من الهياكل والعظام

(...)

الكلامُ وحده نور

في عالم ظلمات مقيم

الظلمة مثمرة إذا كان النور أبيض وصافياً فيعمي أقرباءنا.

(1918)

[ماء برية

أسنان العين الجائعة

يكسوها رغاء الحرير

تستقبل المطر

السنةَ كلها

الماءُ العارية

تظلل عرق جبهة الليل

العين أسيرة في المثلث.

(1920)

[مثلكم

حدقوا فيّ! إنني أبله، محتال، وبطّال. حدقوا فيّ! أنا قبيح، ووجهي

من غير عبارة، ولا معنى ضئيل. أنا مثلكم جميعاً!

(1920)

[قفل الحاجبين

لا نبيذ ولا زمن وسعهما أن يرسِّبا

في قعر البرميل التعاسةَ القديمة

ضعفٌ متقلب أيُّ ريح وسعها

هزَّ قِفل الحاجبين بعد لأي

الشباك الموصد على الرؤى القديمة

الانتظارُ من غير كلمات يؤثث عشه في العينين.

(1932)

[نُطف أبواب موشحة

(وأنتَ)

تُزف الى جموع المتمردين العريضة، وتُدحى في تكأكؤ

الاشياء العام، وتُرمى الى الساعين في الهموم الثقيلة

والأعقاب الانسانية المصبَّرة والمنقطعة الى نفسها

والمواطئة أهل الحسد ترى الى نفسك وأنت تردد

الحركات اليومية في فسحة الاغصان المرنة الضيقة

(...). وعلى جاري ضعف معتاد، سوف يقال في

يوم تمرد وثورة أن العيون المرجوة خلت من فرح

البشر. والبشر والفرح، أردت على الدوام مخالطتهما

، والاستعاضة عن الذوبان الكاسر الموعود والثاوي

بعد حياً في قاع الحكايات المتبقي، بين نُطف البرد

والابواب الموشحة بالطفولات.

(1940)

[ماء الخناجر

تلسع الريحَ، تغوص بأيدي الهمس

في ماء خناجر الضحك النيئة

وكيف لا تضحك من تفكرها من قبل

تبكي أنها لم تُفْضَ حية

في جسد شراب النور (...)

هو إعصار يعصى الوصف يقتات منه بحر زجاج النوافذ.

(1945)

[فمٌ ظاعن

كسرتُ جوزة الذكرى

والصورةُ هربت مني

سنجاباً مستحياً

يقفز لا يلوي من شباك الى شباك

حيث يطل فم ظاعن

وهربُ الشفاه الضاحك.

(1946)

[رامبو

رامبو أو الطفولة التي توسلت العبارة بآلات

انتهكت مادتها. طفولة الرجولة، الحرية

من غير ثقل ولا معيار، الطفولة القريبة

من الموت في ابتدائه وآخره، المغامرة

على الاوجه كلها، الطفولة على مقربة

من الأشياء، البغية، الطفولة في حدِّها

الاشياء، في غرة افتتانها بها، والطفولة

في اختمار ثوائها الحميم والمتدرج.

وغاشية الخشية من نهايتها العضوية

آن لا يؤبه بها ويُنصرف عنها.

(1946)

[قطيع الضباب

أسمع صخبَ الدم الطالعَ

وراء جدار الذاكرات

هجمة قطيعَ الضباب المنقشع

توهجَ الزمن

وابتسامَ الرجلِ المتألقَ حولنا

ساعةَ الظهيرة

لتردد الأجراسُ بعدُ

حنان معزاة وليدة

(1950)

[قصور في اسبانيا

موت كثير خشيناه على طريق اصطباراتنا (...)

هذه ليست قصوراً في اسبانيا

ينتزعها الاطفال من سلطان المنحدرات

ولكنها عظام لصيقة بتربة اسبانيا

المبكرة والقائمة محل وجع الامهات.

(1953)

[تخومنا المراهقة

في ضباب الازمنة البعيدة يوم كان الشعر أنيسَ

دربنا، والعبارةَ قبل معرفة الكلام الذي تقوم به

بنيته، لم يكن شيء يخالف الآتي المدهش الذي

كنا نعد عدته في عالم تحده مراهقة تخومنا حداً

صارماً. وحماسة السنين المتعتعة كلها رفعناها،

آلاء عجيبة، على ذرى أصواتنا. وفي سبيل بلوغ

نواتها النارية، لم نتخلف عن همز الأجراس التي

آذنت، من كل حدب وصوب، بقدوم الآتي العظيم.

(1955)

[شرك الايام الجسام

ريح البحر ضرير الأيدي

صوت جليد الارض في الكفوف

المحراث قبل الثور

وحياتي لمن شاءها

ألم أرصد جذر

المرء في شرك الأيام الجسام

وأسفح في رهان الكلمات

وجهي وتعبي.

(1960)

[حياة رخيصة

أنام متأخراً. انتحر 65 في المئة. حياتي رخيصة

جداً، فهي ليست إلا 30 في المئة من الحياة.

حياتي تبلغ 30 في المئة من الحياة. تنقصها أذرع

وقطع حبل وبعض الأزرار.

(1960)

[صحيح النوم

الثمار المتداعية

الجدران الممزقة

الثلج الميت

الساعات المدنسة

الخطوات المقفلة

قطعت الطرق

عار الحياة

يملأ العيون



المواقد المطفأة

الضحك من غير أسنان

الساحات المسحوقة

الشيخوخة المضطهدة

المُشرحة في النار

البؤس كله

الدوس هذا

الخيل المبقورة

في مضمار الرؤوس

الشبابيك المسروقة

والبيوت المفتوحة

الأولاد في الخارج

الأقوال من قش

الحقيقة الوحيدة

فراش مجوف

للحؤول دون النوم

دون الضحك دون الحلم

البرد في الاحشاء

السيف في الثلج

يحرق الزلعوم

ماذا فعلتم ماذا فعلتم

بالأيدي الحارة حناناً

هل أضعتم السماء

في الرأس بين ظهراني العالم

في الحَجَر في الريح

الصداقة والابتسامة

مثل كلاب شاردة

مثل كلاب

(1960)

[المتنصل خفية

السيرك يدور على نفسه

يتحول غباراً

مطيته الريح

الوقت على أهبة

المُدى في جيوبنا

قد تكون لها أجنحة

وتبلغ الكافر

غير أن الملائكة تركت

العالم المكتظ هذا

مداسات الأحذية على الارض

والقلوب في الأفران

حفظنا عن ظهر قلب

صرامة آداب التهذيب

أناقة الدوائر العليا

وافتضاح أحوال الغيبة

أو الموت يظهر عارياً

يبث تدريجاً

أخدار اغتيالات

ورود الذاكرة بأناملها الصوفية

الرغبات تروح في أثرنا

كلاباً سلوقية عاقلة

مسافاتها مصنوعة من دموع

الشوك على طية السترة

والعصا الى جنبنا

الى كل خطوة طاحون

الصدرُ

القولُ على طرف الشفاه

النظرات على شاكلة زاروب مسدود

والقلب قاس في متناول اليد

لأجل أفراح الغد

إنه الربيع الربيع

البيضة الجديدة البارقة.

(1960)



http://www.almustaqbal.com/Nawafez.aspx?pageid=81965

الأحد، 30 سبتمبر 2012

أجنحة عسكرية وبنوك رهائن ومعازل وديبلوماسيات موازية وسيطرة مفقودة وإعلام رقيع ... سياسات "العشيرة ـ الأمة" وحال الغيبوبة

المستقبل - الاحد 30 /9/ 2012


حين تندد عشيرة أو عائلة، أو بلدة، بمرتكب فعلة مشينة وثقيلة مثل القتل أو الاغتصاب، غالباً ما يلبس تنديدها القاطع لباس التبرؤ من صاحب الفعلة، وإخراجه من جسم العشيرة، وقطع نسبه أو سببه المعنوي بها. فهو ليس منها، وهي لا تعدّه نسيباً أو قريباً أو سبباً، ومثله "تضامنها" معه، وتحميل المسؤولية عنه دولة وشعباً شقيقين أو عدوين. والمعنى في الحالين ملتبس وغامض. فإذا أرادت القول انها، جميعاً وجسماً متماسكاً، ليست ضالعة في الفعلة، ولا تتحمل تبعة أو مسؤولية عنها، فقولها هذا فائت، ومعلق، قانوناً وقضاءً وحتى عرفاً. فالقانون والقضاء لا يحملان جريمة مثل القتل أو مثل الاغتصاب، ولا غيرهما مثل السرقة والتهديد بالسلاح...، على غير مرتكبها الفرد أو مرتكبيها الأفراد الأعيان. وإذا لم تعمد العشيرة الى التضامن وصاحب الفعلة المرتكِب فهي حكماً براء منه. وإذا لم يثبت ان للعشيرة جسماً أو قواماً مادياً فاعلاً، واحداً ومشتركاً، غير اسمها وأواصر القرابة والمصاهرة والجوار وحقوق هذه العرفية، فإعلانها تنصلها من صاحب الفعلة، ورذله والبراءة منه على الملأ، لا يعدو البعث الصوري واللفظي لكيان عفّى عليه "الزمن"، وهو في هذا المعرض انقلاب الاجتماع من طور أهلي وعصبي جميعي الى طور قانوني فردي و"بورجوازي" (مديني ومدني).

ولا يخلو البعث الشكلي واللفظي من بعض الحقيقة والقوة، ففي وجوه ودوائر كثيرة من المعاملات والعلاقات والأحوال- أبرزها ربما المسماة الأحوال الشخصية، وهي مشتركة عامة ويصدر أصحابها عن معايير متوارثة وملزمة أوكلوا البت فيها الى سلك فقهي ثابت-، على "صاحب" المعاملة أو العلاقة الانقياد الى الأحكام والمعايير الكلية والقاطعة. وإذا تخطت الوجوه والدوائر دائرة العصب أو القرابة أو الجوار، وقضت في مسائل عامة أوسع من هذه الدوائر، فمعاييرها على العموم هي نفسها معايير هذه الدوائر. فالزواج والتطليق والتوريث ودية الدم وحكم النسب والخلع منه تتصدرها كلها أعراف الجماعات وحدودها. وهي قد تتقدم أحكام الشرع وتبطله في مسائل حاسمة مثل توريث النساء واحتساب الديات، طوال قرون، فلا يسع الشرع وأهله إلا مجاراة الأعراف والصدوع بتمويهها و"حيلها" والإفتاء بجوازها.

والحق أن البراءة والنسبة تصدران عن تقديم العصب وتضامنه، أو لحمته، على المسؤولية الفردية أو الشخصية. فحين تخرج العشيرة واحداً فرداً منها، أو تحتفل بواحد فردٍ آخر، وبمرتبة عالية كسبها من طريق حظوة أو إنجاز أو خدمة أو "شهادة"، فهي تزعم أن الأفعال، في ميزان التقبيح والتحسين، لا يصنعها أصحابها وحدهم، ولا يتحملون التبعة عنها وحدهم كذلك. وهم، إذا دينوا بما فعلوا أو مُدحوا، يذهب شطر راجح من الإدانة أو المديح إلى الجماعة الأقرب، الدموية والنَّسَبية، التي وُلدوا منها وفيها، ويعرِّفهم اسمها.

فالعصبية عذر مخفف قوي إذا أعملت في تفسير أو تسويغ أفعال يعاقب عليها القانون، ويجازي أصحابها جزاءً قاسياً. وهي صنو القصور سناً أو عقلاً في الأفعال المتعمدة والإرادية، وتكافئ الإقدام على الفعل في حال الغيبوبة عن النفس وخروجها من "مِلك" صاحبها. والعصبية، من وجه آخر، عامل لا يضارع عاملٌ آخر أثرَه في حمل الآحاد الأفراد على "التحرر" من حدود فرديتهم وقيودها ومسؤولياتها والانقياد لها. وهو ينصب الفرد الواحد قبساً من كيان عظيم وراسخ وشريف وبعضاً من فيض هذا الكيان. وعلى هذا، فالدعوة الى الفداء والشهادة والموت دون العصبية وكيانها غالباً مستجابة. ويستجيبها الأولاد والفتيان والشباب قبل غيرهم، على ما شهدت بعض فصول "انتفاضة الأقصى" الفلسطينية بغزة في مراحلها الأولى، ولا تتردد النساء، أمهات أو عزباوات أبكاراً، في تلبيتها جذلات فرحات.

ولعل انقلاب الحزب السياسي جماعةً أهلية، أو عشيرة منظمة وجامعة، توحدها رابطة العصب، فيصدر أفرادها وآحادها عنها يداً واحدة، وتحل هي فيهم حلولاً يستوفي "وجودهم" ودواعيه وغاياته - لعل الانقلاب هذا هو قبلة سعي محموم تستثمر فيه وتوظف آلات الدعوة والافتتان والأهواء والإعالة والرشوة والترهيب على مقادير متفاوتة. والتنديد بـ"النتن" العصبي، على ما كان سيد قطب يقول ويذكِّر، لم يحل بين الجماعات "الإسلامية"، على اختلاف فرق الجماعات وشيعها ومذاهبها، وبين تحزيب المناصرين والمريدين والمجنّدين على مثال عصبي ودموي راسخ.

ويرعى هذا المثال اتحاد جسم الجماعة، المشتت والمنقسم أساساً والمؤتلف من وحدات متعارضة، يرعى اتحاداً مصطنعاً عليه أن يغالب، على الدوام، افتراق الأهل أو العشير قبيلاً نظير قبيل آخر، وتعظيم ضدٍ شديد الشبه به. ويترتب على هذه الحال، "العربية"، ترجح وتردد مرهقان وأليمان بين مثال وحدة عريضة وشاملة لا يبلغ وبين فُرقة أصلية تتطاول إلى الوحدات النواتية الضيقة. فعلى شاكلة براءة العشيرة أو العائلة من قاتل أو مغتصب، أو مرتكب كبيرة تتهدد عدداً كبيراً من الناس بفشو "طاعون" الثارات فيهم، أو "خائن"، طعنت مشيخة الجماعة الخمينية المسلحة بلبنان (وهي معروفة باسمها المتواضع والمتحفظ، "حزب الله" الى خط فاصل - ثم لبنان)، في 2004، بولاء أحد موظفيها الصحافيين. والسبب في الطعن هو مقال كتبه الإعلامي، العَلَم على جماعته الأهلية والسياسية، في صحيفة صديقة، أي موالية يعيب ولاءها اقتسامها إياه وأولياءَ آخرين.

وكتب الرجل مقاله عشية زيارة محمد خاتمي، الرئيس الإيراني، لبنان، وخطبته أصدقاء "الجمهورية الإسلامية" المحليين إلى أنصارها ومحازبيها. وكان خاتمي في أواخر ولايته الثانية، وغرضَ حملة تحريض وتسفيه جارحة في بلده و"دولته" مهدت لخلافته الوشيكة وهزيمة اصحابه، واعتلاء الحرسي الأمني محمود أحمدي نجاد الرئاسة. واختار الإعلامي الحزبي (اللهي، على حسبانه) الكتابة في فرع من فروع المسألة الحسينية، على مثال شيوعي حزبي مجرب يقضي بامتحان الولاء في مسألة راهنة (هي الرأي في خاتمي) أو جهره من طريق الكلام في مسألة "مبدئية" (هي رواية جزء من محنة أرض الكر والبلاء).

ولم تخطئ مشيخة الجماعة الأمنية والمسلحة معنى رواية الجزء على الشاكلة التي رواها عليها الموظف الإعلامي في الصحيفة الصديقة. فقضت فيها بـ"انحراف" ضده وهو الخاتمي. فأُقيل الموظف من عمله أو استُقيل. وأذيع على الملأ خبر الإقالة - الاستقالة وبراءة جهاز الإعلام، وأولياء أمر الجهاز من الانحراف المقيت. فالسكوت عن الانحراف، أو اللين في التنديد به وقصر التنديد على إجراء يقل عن نفي المنحرف، وعن إفراده ولفظه وتقيوئه، تواطؤ ومحاباة في الحق وعلى الحق. وقطع مرتب الموظف عنه.

وكان في وسع الجهاز حمل فعل الموظف على خطأ مهني ووظيفي "رأسمالي"، وحمل جزائه على عقوبة قصوى تقر بها قوانين العمل ولا تأنف من وصفها بالتعسف. ولكن هذا الرأي يُغفل وجهاً جوهرياً من وجوه "الثقافة" العصبية وموازين أحكامها. ويقضي الوجه بأن الفاعل، وهو الموظف العامل والمجاز الناشط، والمؤمن المجاهد، ونزيل الديرة (الحي أو الربع)، وابن العائلة وفروع هذه الحال (الولد والزوج والأب والأخ وابن العم...)، وأخيراً المرء الإنسان أو الإنسي- هذه الأحوال أو الوجوه هي واحد لا يتجزأ ولا يتبعّض ولا يتميز في "نظر" الثقافة العصبية وفي حسبانها وحسبتها.

وعلى هذا، لم تطرد مشيخةُ الجماعة - الأمة المنحرفَ الخاتمي من عمله وحسب. فنفته من حزبه وأمة حزبه (وهو حزب ليس كالأحزاب ولا يفيد معنى الجزء أو الفرقة وينتسب مباشرة الى الواحد الأحد)، وطردته أو فصلته. وعمَّ الطعن في المنحرف الرأي والولاء، وخائن الأمانة الناكص، والركيك الإيمان، ولدَه وابنه القاصر سناً. فبلغ الأولادَ أصحاب الولد في مدرسته (العصبية) وصفه، رأيُ الجهاز ومشيخته في والد الولد، صاحبهم وملاعبهم وزميلهم. فعزلوا الولد، ونفوه من حلقات لعبهم ودرسهم، و"أخبروه" ما صنع والده ويستحق عليه، وهو معه، الرذل والعزل والتعزير. ولم يروِ الوالدُ والصحافي المرذول ما حلَّ بالولد، وما وسعه فهمه وإدراكه وتعليله من محنة الطعن في استقالة والده وهويته، وشموله هو بالمحنة.

وحمل الوالد المكلوم أسرته وسافر بها إلى بلد من بلدان ضفة الخليج العربية. ولكن المهاجر إلى أرض حرب، قياساً على معتقده ومعتقد حزبه، لم ينفك حارساً على باب مشيخة جماعته، وكاتباً بقلمها الى غداة صيف 2006، على التقليل. فمذذاك لم أقرأ لـ"صاحبنا"، أو فيه، ما يصل خيط الخبر المنقطع.

ونظير خبر الإعلامي الخاتمي وحاله، خبر متصل عن جماعة مقلدي المرجع الراحل محمد حسين فضل الله. فبعد استدراج بعض أنصار خامنئي، المنتصب للتقليد بعد وفاة آراكي، فضل الله الى الإدلاء برأي في شفاعة بعض أهل البيت لا يراه إيرانيون كثر، قام مقلدو خامنئي، وهم متصدرو الجماعة الخمينية المسلحة ومجتمعها الأهلي والعصبي، على المرجع، وطعنوا في مرجعيته وفتواه وتقليده، وأَصْلَوا مقلّديه العداء، على نحو ما يتقن أمثالهم العداء. فطردوهم من أعمالهم وموارد رزقهم حيث قدروا. وزرعوا الشقاق في الأسرة الواحدة انتصاراً لمرجع تقليدهم على "السيد". وأحاطوا بالريبة والشك من وسعهم إحاطته بهما. وأفتوا بـ"كراهة" مخالطة مقلدي مخالف صاحبهم ومجالستهم. وهو، "العالم" الراحل، منهم ومن رهطهم بمنزلة السند والدعامة و"الوصي". ولكن كلمة رأس الجهاز هي الفصل. ولم يتعلق الأمر بسفارة ولا بسفير، ولا بزيارة إلى دار حرب، ولا بنصرة مخالفين. فهذه ذرائع تكفيريين.

وتجاوزُ تهمة الوالد الصحافي الى "جرح" الولد القاصر قرينة بشعة وفظيعة على إرادة إيذاء وإيقاع ضرر لا قيد عليها من تمييز أخلاقي، أو "أدبي" (على معنى آداب المعاملة). ومن آداب المعاملة، وهي في باب الحرب، تمييز غير المحارب المدني من الحربي المسلح والمقاتل، وتمييز العاجز من المقتدر، والقاصر من الراشد، والمشهر صفته (بواسطة اللباس مثلاً) من كاتمها... وترمي آداب المعاملة، أو آداب الحرب، الى تقييد الانتصار والحؤول دون إلغاء صفة المتعاقد من المنهزم حين يأزف وقت "المعاهدة" والتزام العهود والاتفاقات في ختام الحرب. و"آداب الحرب، تلجم نازعها الحيواني الى محو العمران وأبنيته وأخلاقه، وتحتسب فيما تحتسب وقت ما بعد الحرب والاحتكام الى "السَّلَم" على القول القرآني. وختام الحرب ما لا يرضخ له أهل "العشيرة - الامة".

فليس، على هذا، وراء الجماعة، الضيقة أو الواسعة والعريضة، النسبية والإيمانية الاعتقادية، دائرة إنسانية أو إنسية كونية تتخطى الجماعة العينية، وقد تدعوها الى النظر في ما تشترك فيه معها، ومع جماعاتها الأخرى، من معايير وأحكام ومصالح.

والنظر في المشتركات أو القواسم يدعو الجماعات، أمماً و"ممالك" أو دولاً، الى مناقشة معايير أو ضوابط وقيم مركبة وجامعة. وتدعو هذه ملتزميها والصادعين بها الى التخلي عن أجزاء من سيادتهم أو ولايتهم السياسية. وهو قاد إلى إلغاء الرق والعبودية وحظر الإتجار بالبشر، وإلى الخطو خطوات على طريق هيئات عدالة دولية. وحظَّر انتشار السلاح النووي وسلاح الدمار الشامل وراقبه، وقيد المراقبة التجارية غير المشروعة، وألزم الدول والمجتمعات و"الثقافات" الإقرار بحقوق فردية أساسية عامة لا استثناء فيها أو منها. والاستماتة في إيجاب الخصوصية القومية والدينية والتاريخية، ونصبُها فوق "الجميع": القوانين والأعراف والعقل والقواسم المشتركة المحتملة وخلافات الجماعة (الوطنية أو الدينية) الواحدة وكثرة مكوناتها، يترتب عليهما (الاستماتة والنصب) التلويح المزمن والمقيم بأمر ونهي مُطْبقين وساحقين. ويحل لأصحاب الأمر والنهي، نيابة عن الجماعة المفترضة، استئصال منتهكها، وجارح وجدان الجماعة وروحها بانتهاكه.

ولا يستقيم هذا المذهب إلا إذا استولى على وجدان الجماعة من تُسلمُ له الجماعة قيادَها، طوعاً، وهو طوع محكوم بكثير من الاضطرار، أو كرهاً، وهو كره قوي الشبه بالانقياد التلقائي. فيستقوي صاحب الجماعة عليها، ويخلبها ويفتنها. وهذا قرينة على أن الجماعات المطمئنة، وغير المهددة، قلما يحلو لها تنصيب "سائس" ساحر وشديد القبضة عليها، ينسيها انقساماتها طبقات: طبقةَ الخواص و"البيت" وطبقة العوام، طبقة أهل القوة وطبقة أهل الضعف، أهل اليسار وأهل العوز... ويسرع السائس الساحر، وأهل طبقته، إلى نفي الانقسام، وتحجير الجماعة على معنى يتولاه أهل "الإمارة" والسياسة المتسلطون. وليس مثل الحرب الماضية والقائمة والمعلقة والموعودة، والمطلقة، سنداً لتحجير الجماعة ومعيناً لا ينضب لحجج التحجير، وأسبابه ودواعيه.

وحرب مثل هذه تفترض شرطاً عسيراً، يتعاظم عسره في عالمنا، العالم المعاصر الذي تسوده العولمة المزعومة اميركية وليبرالية أو "نيو" ليبرالية استزادة من النظر الحاد والمرهف والجارح. وهذا الشرط هو الرجوع في التداخل والتشابك، وفي استدخال المجتمعات وتهجينها بعضها بعضاً وترك "الحمائية" على معانيها الكثيرة، والعودة عن تعريف دول هذه المجتمعات السيادة أو الولاية على توسع، على قول المفسرين. والكلام في العولمة، مديحاً أو ذماً أو تحفظاً أو تنقلاً بين هذه المنازل، يستدعي انفعال أهل "العشائر" وغيظهم وهجاءهم. فيعتلون أسوار ديراتهم وحيطانها المنقوبة، و"يدبون" الصوت على ديكتاتورية الاسواق، وتسليع البشر ونفوسهم ومشاعرهم وانتهاك كراماتهم، واستنفاد موارد الطبيعة، وتلويث غلاف الكوكب الأرضي، وتوسيع الهوة بين الجماعات والافراد وتعظيم التفاوت بين هؤلاء وتلك.

ويعلِّم كتّاب "العشائر" وخطباؤها، وهم طليعة "الثورة العالمية" الاشتراكية والقومية، الامم المتخبطة في تيه الليبرالية وصحاريها كيف تستعيد الامم لحماتها ومسكاتها، وتنشر العدالة الاجتماعية في بواديها وأريافها وحواضرها وفي طبقاتها، وتقر دولها وأجهزتها على سيادة وسلطة صارمتين، وعلى ديموقراطية لا تشوبها شائبة من إفراط أو تفريط. ولا بأس بالتمثيل بسوريا، قبل عهد عبدالله الدردري وبعده، على المثال المنشود، وبمديح الضفيرة البعثية الايديولوجية وجمعها ما يشتهي أهل الدنيا والآخرة وما لا بد لهم من اشتهائه. فرأس الشر هو الاختلاط و"النسبية" والتردد على "العشائر" الأخرى بغرض غير فضحها، واستقبال جواسيسها في عقر دار الأهل والربع. وأما النظر في عاداتها وأفكارها و"علومها"، غير النووية والصاروخية الباليستية والكيميائية، فـ"تعسف" و"نجاسة" و"عار" وحقارة"، على قول بعض نافخي الربابة وهازي الدف في أعراس نصر شديدة الشبه بالمآتم والمساخر.

والتحلل من العشيرة وولائها المرصوص وانكفائها، ولو دعا التحلل الى ميل حيي الى محمد خاتمي، أو الى تقليد جنرال مجرب وأمين من جنرالات الاجتهاد غير صاحب اللقب الرسمي والجهازي، أو الى تحريم "الشبيه" على ما أفتى محسن الامين قبل 90 عاماً فأخرجته فتواه من النجف الى "خرائب" دمشق، أو الى التشكك في جواز الحرب الهجومية بعد تحرير الأرض الوطنية على ما رأى حسن قمي وكلبيكاني من كبار مدرسي قم في 1982...، ولو لم يعدُ هذا الى قتال الوالغين في دماء أهلهم الى ذقونهم ومبددي أموالهم ومواردهم على آلات استعبادهم وموتهم ودمارهم - يبث (التحلل) الذعر في نفوس اهل القوة وجنودهم وخدمهم وحشمهم و"شعرائهم". فالاختلاط أو استدخال الغريب النفس يضعف القوم ودعوى الحروب الاهلية والخارجية، وينكر صراحة الاصول والانسان والجماعات، ويشق الجماعة العصبية ويذررها، ويحرض على إجماع إلزام من غير إكراه، ويحمل على الرأي واجتهاده، ويمتحن علل الحياة الهشة ويقلبّها على وجوهها، ويسوغ الخلاف ويرسي السياسة على معالجته، ويغني اللغة ويكثر اللهجات فلا تقتصر على الوعيد والتوحيد، ويهدم المراتب المتحجرة. ولعل باكورة ما يصنعه التحلل من العشيرة إقالة خطباء السفه والطهر المجازين من منابرهم.
http://www.almustaqbal.com/storiesv4.aspx?storyid=541016