السبت، 18 يناير 2014

المستقبل - الاحد 23 كانون الأول 2012 - العدد 4555 - نوافذ - صفحة 9


وضاح شرارة



كان رد الجواب على تسجيل الحكومة الاميركية "جبهة النصرة الاسلامية في بلاد الشام"، العاملة في الشمال السوري والشمال الغربي، في سجل المنظمات الارهابية، هتافَ متظاهرين سوريين، يوم الجمعة في 14 كانون الاول الجاري، "كلنا جبهة النصرة"، ورفع لافتات في بعض التظاهرات كتب عليها: "لا إرهاب في سوريا غير إرهاب بشار الاسد". وأحرج حمل المنظمة المقاتلة في صفوف المقاتلين السوريين المعارضين والمعروفة في حلب وضواحيها بصرامة مقاتليها وبأسهم وحمايتهم الأهالي من عدوان شراذم فوضوية تنتسب الى "الجيش السوري الحر" على الارهاب الائتلافَ الوطني السوري الطري العود. وأحرج على نحو خاص رئيسه، "الشيخ" معاذ الخطيب، وجمعية الاخوان المسلمين، الفصيل النافذ في الائتلاف. فنسباه الى "الكيل بمكيالين" في مصطلح فاروق الشرع، والى تغليب الوصمة "الايديولوجية" أو الاسلامية على سجل الافعال والاعمال، وهو سجل خالٍ على قول الخطيب والجمعية الاخوانية من قتل المدنيين "الاعمى"، والثأر من أهل المذاهب والتمثيل في القتلى والذبح على مرأى من أجهزة التسجيل التلفزيونية ومسمع منها.

والى أيام قليلة قريبة خرج متظاهرون سوريون في المدن والارياف الشمالية نفسها وجهروا رغبتهم في "ألا ينصرهم" أحد غير "الجيش الحر". وبعض الأهالي أسروا الى وكالات أنباء متفرقة تحفظهم عن مقاتلين غرباء أو متخفين على هوياتهم، لا يعرفهم أحد ولا يختلطون بالناس، وينم ظاهرهم وبعض أعمالهم بيسر غير معهود في جماعات المقاتلين البلديين. وهم، الى هذا، يدعون الى "إسلام" لا يعرفه معظم الاهالي، والى شرع غير القانون الذي ألفوا الكلام عليه، والاحتكام إليه. ويقرن الاهالي، أي بعضهم هذا، التحفظ المتردد والمتلعثم بإعجاب صريح بشجاعة القوم، وترفعهم عن السلب والغنم، وسعيهم في سد حاجات الاهالي الكثيرة والمرهقة. ولم يتردد الاهالي وحدهم، ولا بعض القيادات السياسية والعسكرية السورية. فبعض أعمال التفجير، في حلب ودمشق على الخصوص، تطاولت الى مرافق الاجهزة الامنية، وقتلت فيمن قتلت مدنيين وعابرين أو سكاناً محليين، الى موظفين عاملين. ولم تتسر "جبهة النصرة" فأعلنت مسؤوليتها عن هذه الاعمال.

وتذرعت وزارة الخارجية البوتينية و"السوفياتية" بعمليات "النصرة"، ودعت مجلس الامن ومجلس حقوق الانسان الى ادانتها والتنديد بها. وعزتها الى "الجماعات المسلحة الارهابية" التي تسلحها "الولايات المتحدة واوروبا وبعض الدول العربية النفطية"، بحسب الاحصاء المعهود منذ بعض الوقت. ويهلص منه أصحابه الى اختصار الحركة الشعبية والديموقراطية السورية فيه. والحق أن الولايات المتحدة الاميركية سكتت عن هذه العمليات قبل أن تعرب عن إدانتها المنظمة الاسلامية الاصولية برمتها، وعن شكوكها "الرجعية" والمتأخرة في اصحابها. وعندما نددت بعض منظمات حقوق الانسان الدولية بمسؤولية بعض فصائل الجيش السوري الحر عن إعدامات ميدانية، وقتل انتقامي وثأري بوسائل "وحشية"، وعن خطف رهائن واحتجازها والتلويح بقتلها، لم ترفع الولايات المتحدة ولا غيرها، ولم يشذ الداخل العربي والسوري صوتاً، جهيراً (أو جهورياً) يدين الانتهاكات الكثيرة في معرض حرب شرسة وقاسية يخوضها حكم او سلطان عشائري وبيروقراطي على اهالي سوريا وجماعاتهم وبلادهم، وعلى حركتهم وإنتفاضتهم. وأحجمت الصحافة الدولية، وهي وكالات الاخبار الكبيرة الانكليزية اللغة والفرنسية وبعض الصحف الذائعة الصيت في اللغتين، أحجمت الى وقت قريب عن تناول شبهات لابست بعض الحوادث البارزة التي نجم عنها عدد كبير من الضحايا (في داريا وفي عقرب... وغيرهما).

وقلما تتطرق اقلام سورية كثيرة شاغلها تعقب الحوادث والوقائع الوطنية والتعليق عليها، وعلى مفترقاتها ومنعطفاتها، الى وجوه العنف الفظيع التي تلابس الحوادث والوقائع هذه منذ الايام الاولى لقمع "الدولة" العشائرية والبيروقراطية رعاياها المتظاهرين والمتمردين عليها، والخارجين على قهرها واستئثارها ومهانتها وكذبها. وبدا تقليل العنف المتفاقم والمتعاظم، والسافر من غير تكتم ولا تستر، بـ"طبيعة النظام" المتسلطة والبوليسية، واعتياده خضوع الرعية، وماضيه الدامي (حوادث 1979 1982 التي كانت ملحمة حماة ومجزرتها ذروتها الهاذية)، الى اتساع الهوة الاحتماعية بين أهل القوة وبين عامة الشعب، سائغاً ومعقولاً. وبدا تعليل جنوح حركة الاحتجاج العامية والشعبية الى الرد على القتل والسجن والخطف والتعذيب بالحماية المسلحة معقولاً وسائغاً بالمقدار نفسه على اضعف تقدير. وحين عزت الحجة العقلانية والسياسية لجأ التعليل الى "عامل الهدم" الذي لا يسع "الثورة"، وهي أصل ينطوي على علله وعلى تظاهراتها، التخفف منه.

رأيان

ولا شك أو مشاحة في أن فرقاً عميقاً يميز رأي الانتفاضة السورية في صنع العنف التي تتوسل بها الى كبح ضراوة النظام وصده وكسر شوكته، من رأي أهل النظام الضاري في عنفهم وعنف نظامهم. فالمعارضون المسلحون، وأنصارهم معهم، لا ينفكون شديدي التحفظ عن نتائج الاعمال العسكرية التي حُملوا عليها واضطروا الى ركوبها مرغمين. وهم ينسبونها على الدوام الى مقاصد القوات النظامية، وهي قوات مزدوجة وبطانتها الداخلية أهلية مذهبية، وينسبونها الى إرادتها وتخطيطها. ويقصرون دورهم، وما نجم عن عنفهم تالياً، على الرد والدفاع عن النفس. ويغضون عن بعض الاعمال الهجومية الانتحارية التي تولتها جماعات "مزدوجة" بدورها، أو ابتدأت مزدوجة مثل "النصرة"، ويخاطبها مساجلوها الحرسيون الخمينيون اليوم، وينفون عداوتهم لها، ويحذرونها المصيدة الاميركية التي نصبت لهم وقد توقع بهم لا قدر الله! ويسكت المعارضون، حرجاً وحياءً، عن المبادرة الى العنف، وإعماله في مواقع لا يبدو إعماله فيها ضرورياً مثل مهاجمة بلدات أخلتها القوات الحكومية واتخاذها خندقاً أو قاعدة حين لا يرى الاهالي مبرراً لذلك. وغالباً ما يتعللون بضرورات عامة أكرهتهم عليها مصلحة الحرب الوطنية الدائرة في مسارح وميادين أخرى بعيدة. ويعولون على هذا التعليل، وعلى عمومية المصلحة المفترضة، في سبيل التحلل من التبعة أو المسؤولية عن القصد الى القتل والدمار ومباشرتهما بأيديهم وعقولهم وقلوبهم.

وعلى خلاف مقاتلي المعارضة المتطوعين، يتستر النظاميون (الوجه البيروقراطي من الاستيلاء الانقلابي) وفرق الموت والسلب شبه النظامية الموازية والمندمجة معاً، لا يتسترون قيادةً عصبية وجنوداً غفلاً عن قصدهم ضروب القتل والانتهاك والإيلام والدمار التي تسلم المصابين بها الى الخروج والهجر واليأس و"الحيوانية" (وإنكارها: "والله أنا مو حيوان!"). ورد بشار الاسد من قناة تلفزيونية روسية، قبل نحو الشهرين، على بعض أقطاب نظامه المنكرين عليه مطاولته الحركة الوطنية والديموقراطية المنتفضة، وصبره على سحقها بكل القوة والعنف اللذين في متناوله وعلى شاكلة أبيه (وهؤلاء ينسون أن رأس السلالة لم يرتكب حماة إلا مطلع السنة الثالثة من اضطرابات متنقلة وضيقة).

فقال "السيد الرئيس" الذي لا سيد غيره ما معناه (عطفاً على مقال الكاتب في "نوافذ المستقبل"، 9 أيلول 2012): يفترض الرد الساحق والسائغ محلياً وإقليمياً ودولياً استدارج المعارضات وجمهورها الى السلاح والفوضى الاهلية والخلاف والاستغاثة بالخارج وإلقاء السوريين في مهاوي الروع والجوع والنزوح والعالة، وعندها "يفهم" السوريون ومعهم العرب ما فهمه بوتين ولافروف وهو جينتاو، وقبلهم جميعاً قاسم سليماني وعلي خامنئي ووحيدي وحسن نصرالله وصفوي ويدالله دواني، منذ 13 آذار 2011 من أن سحق الحركة الشعبية شرطه "السياسي" المعقول والمقبول هو تبلور الحركة في صورة عصيان أهلي مسلح وباهظ التكلفة؛ وحينها لا يشك سوري ولا عربي ولا "دولي" غربي في ان الخروج من الحرب وفظاعاتها وترويعها، وعلى صدر سوريا ألف أسديّ وأمرها في يدهم "الى ألف عام" على قول السفاح العباسي الاول، هو (الخروج) الظفر العظيم. فـ"المزيج المرهق من العنف والصبر" (المطاولة) الذي شخّص فيه فرانسوا ميتران نهج حافظ الاسد في 1986 هو سلاح سلطان دمشق الاحمر القاني والأمضى. ويفترض هذا فشو العنف وتغلغله في شغاف الحياة اليومية وثناياها الاجتماعية العميقة والسطحية، أي هو يفترض انفجار "الازمة المأساوية" أو الفتنة، وتداعي القتل على شاكلة وباء الطاعون، على ما استعارت فاجعة سوفوكليس "أوديبوس ملكاً".

القدس(ي) والعقل

ومثل هذا العنف الوبائي لا يقدر عليه علمانيون مدنيون وعقلانيون، مهما تواضعت علمانيتهم ومدنيتهم وعقلانيتهم، ولا طاقة لهم به. فكيف بالمبادرة الى إشعال فتيله، والتحكم في نشره. وذلك من الشتيمة النابية والمهينة ("انسوا أولادكم واستولدوا نساءكم غيرهم وإذا عجزتم فهاتوهن" على قول ضابط أمن درعا، وقريب "سيادة الرئيس" الى مشايخ عائلات المدينة الحورانية وعشائرها)، فحصار المتظاهرين وتفريقهم واعتقال بعضهم، فإغلاق الحي وتفتيشه وتجويعه ومداهمة بيوته وتحطيمها، فمطاردة الناشطين وخطفهم وقتلهم، فنصب قناص على الاسطح... وعلى خلاف العلمانيين والمدنيين والعقلانيين (ومعظمهم في أول الامر نساء علمانيات...) بادر الى ذر الطاعون من يملك الآلة البوليسية والعسكرية والإدارية والاتصالية المناسبة، من وجه، ومن تطاوعه وتنقاد له لغة ملائمة، من وجه آخر ليس أقل خطراً ومكانة من الوجه الأول. ولم يملك دعاة الاصلاح والتحرر المدنيين والديموقراطيين، في أول أمرهم، شيئاً ضئيلاً من الآلة البوليسية والعسكرية التي قام الحكم العشائري والبيروقراطي السلالي على احتكارها. وهم حصلوا بعضه القليل حين تفسخت الآلة العتيدة، وتصدعت تحت وطأة العمل الذي أوكل إليها وتولته، ولا يزال معظمها يتولاه.

ولعل العامل الأقوى وربما المزمن في "قصور" المنتفضين السوريين عن التوسل بطاعون العنف، إذا شاؤوا، هو خلو وفاضهم من اللغة "المقدسة" الملائمة. فالعنف الاهلي، أي إباحة القتل المرسل من غير تمييز "درجات" التبعة والاستحقاق وإجازته على الظن العام والمجمل ("على الهوية") وإتباعه بالدمار والحصار والتهجير والتجويع والاغتصاب، ليس في مستطاع أفراد مدنيين وعقلانيين، "عاديين"، على قول دافيد روسيه الفرنسي، تصوره واحتسابه جائزاً (على معنى الإمكان).

وهذه "الفضيلة" تصيب رغماً عنه ربما من طلق الإحساس بالمطلق أو طلقه هذا الإحساس. فينبغي لمن يحسب في نفسه القوة، والعبارة لا تصح إلا في صيغة الجمع: لمن يحسبون في أنفسهم القوة على احتمال أفعال "فرقة الموت" "الجمهورية" والحرسية والايرانية المختلطة في حي الجورة وجمعية حوض الفرات ومساكن المعلمين وجمعية الدير العتيق وحارة "البيجامات" أو بكتن في دير الزور، واختيار "مقاتلي" الفرقة العتيدة الشبان الأشداء وتقييد أيديهم وصفهم أمام الجدار وضربهم على مرأى من آبائهم وأمهاتهم واخوتهم واخواتهم وأولادهم وإعدامهم برصاص "كثيف"، ودعوة هؤلاء تورية الى ندب الموثوقين من شرفات البيوت، وبكائهم وهم يعذبون ويمثل بهم ويهانون ووداعهم الوادع الاخير، وسوق من لم يقتل على هذا النحو بالحافلات الى الذبح ترافقه أهازيج الحرسيين، ورمي جثثهم في مبانٍ قيد الانشاء أو أقبية متروكة أو حدائق صارت مزابل أو مقابر لفظت العظام المتبقية من الجثث المتحللة القديمة فاختلطت بجثث تتحلل لتوها ودفنت على عجل فيستدل عليها بسرب النسور المحلقة فوق بقايا 86 جثة ذبحت وحرقت في يوم من ايام تشرين الاول 2012 (مراسلة من دير الزور خاص بـ"نوافذ- المستقبل" اللبنانية، 16/12/2012) ينبغي لمن يحسبون في أنفسهم القوة على احتمال هذه الاعمال الصدور عن نشوة يعطاها أو يبلغها "مؤمنون" من ضرب كانت الثورة الخمينية بإيران، وحرسها الثوري ومتطوعوها وفرق إعدامها الأهلية سباقة الى صنعه. وتولى بعض تقنييها البارزين نشره في العراق ولبنان، وأقبل عليه بن لادن وجماعاته إقبال الخوارج على "اللقاء"، لقاء العدو القريب أو قتاله ولقاء وجه ربهم على ما يحسبون. ولا تعصى هذه النشوة قتلة المافيا وعائلاتها المتحاربة حتى الافناء والإبادة.

ولا تغرب عن وصف وقائع العنف الوبائي السوري، - وتنذر بهذا الصنف من العنف مهاجمة الإخوانيين والسلفيين المصريين "أعداءهم" المدنيين والليبراليين والاقباط والشباب العصريين والنساء والصحافيين والقضاة ... - وجوه الفاجعة المأسوية وأزمتها الوبيلة. فالناس، وهم يعدون عشرات الآلاف من النازحين، على ما تروي ناجية الحصري ("الحياة" اللندنية، 16/12/2012)، قلقون أو نابون غرباء خارج أرضهم وبيوتهم. فهم ليسوا حيث هم ("خارج الاراضي اللبنانية تقنياً وخارج الاراضي السوري عملياً")، ونزحوا الى وادي خالد بلبنان من بلاد نائية: درعا وحلب ودير الزور وحولة، أو قريبة: حمص وريفها وتلكلخ ودمشق، بعدما هدم قصف عسكر النظام ومسلحوه منازلهم وجرفوها. والمدخرات استنزفت ولا يشتري ما بقي منها جزمة تقي الابنة المطر والبرد والوحل، ومن يحترف حرفة ضاقت عليه فرصها في الشتاء. فالغريب عارٍ، وضيافة الجار اللبناني القريبة قد تؤنس ولكنها لا تشفي حزنه. وهربه الى اراضي الجيران اضطره "الحرسيون" السوريون وحواجزهم أو مسالحهم (الجمرك المسلح) الى شرائه بمعظم ما يملك. فبلاد الطاغية "الشاب" أرض سباء و"عشائر" جائعة ومحمومة، لا قانون فيها ولا وازع. والسباء ليس استعارة: فالنساء يغتصبن ولو بلغن الـ75 سنة شأن حاجة روت في جمع باكيات على ميت وقالت:" ابكينني أنا، اغتصبوني امام زوجي وأولادي، كانوا خمسة جنود من جيش النظام... قلت لهم انني مثل أمهم وأختهم...". والتذكير بهول سفاح المحارم وفظاعته لا يردع قوات السباء. ولكن امتهان الضباط الفتاة قد يحملها على الانتحار، ويحمل تعرف الصبية على مغتصبها في قرية الهيشة على "الهستيريا". وقد يحمل أبا الجندي على قتله، وأبا فتاة أخرى خطفت قبل 3 اشهر على الموت حزناً.

وعلى هذا، فالعنف الوبائي لا يقاس بعدد القتلى وحده، وهم بلغوا في سوريا 50 ألفاً أحصوا واحداً واحداً وواحدة واحدة وغيب في المعتقلات المسالخ مثلهم، بل يقاس كذلك بتطرقه الى أركان الاجتماع والتأنس مثل حصانة الحياة وحرمتها، والتزام الاحتكام الى سنن معروفة ونافذة، والحؤول دون جموح العنف الى اقاصيه، وتمييز الأهل المخالفين من الاعداء... والمأساة تعصف بهذه الاركان وتمتحنها. وحين ولغ بعض "تقدميينا" و"يساريينا" المدنيين في الطاعون هذا، على ما صنعوا في فصول الحروب الملبننة وأيدوا الفلسطينيين، ومن ورائهم السوريون، على ذلك، وناصرهم هؤلاء عليه قالوا، وربما حسبوا فعلاً أن العنف إنما يتأتى من "مقاومة الطبقات الرجعية التغيير المحتم". وكان ينبغي وضع كل "القدس" الفلسطيني وأنوثته ومقومات الهوية التاريخية العربية والاسلامية، وموارد الاشتراكية ووعودها غير الخابية، في كفة الميزان نظير الاغتصاب الصهيوني، والنهب الاستعماري والامبريالي والعمالة الحقيرة له، والخيانات العربية التي لا تحصى، والتخلف الحضاري المهين، لتسويغ القصف الأعمى على المسيحيين اللبنانيين "الطائفيين"، ونصب الحواجز الطيارة على المفترقات، وتقطيع الجثث ودسها في أكياس البلاستيك و"إهدائها" الى هذا أو ذاك.

ولكن الذريعة التاريخية و"التقدمية"، وهي في معظم أحوالها تزعم العقلانية وتفتقر الى وطأة "القدس" وأركانه، لم تبلغ مبلغ تبرير الوباء والدعوة الى الولوغ فيه. وأسهم في لجم فشو الوباء وطاعونه، على رغم الـ160 ألف قتيل الذين أردتهم حروبنا اللبنانية المتعاقبة، اقتسام الجماعات المتقاتلة الدولة وآلات عنفها "المشروع"، وضعف هذه الآلات، وتشكك المتحاربين في مشروعيتهم وفي غاياتهم، وشقوق الجماعات الاهلية الداخلية المعنوية والمادية، وتولي المقاتلين أولياء من خارج الاهل ورعايتهم بقاء المقاتلين داخل "ولايات" جماعاتهم (وهذا ما خالفته الجماعة الخمينية والحرسية المسلحة في 7 أيار 2008 ببيروت و11 منه في جبل الباروك). ويكبح اقتصار إقامة القوم العلوي في سوريا على جبل السماق وسفحه الشرقي نحو حمص وعلى وجهه الغربي الشمالي الساحلي، بعض الشيء تفشي العنف الاهلي والعشائري. وأما الوجه البيروقراطي والنظامي العسكري والامني فمختلط، ويتأتى عنه معظم القتل والدمار "الوطنيين". وبلغ عدد قتلى القوات النظامية نحو العشرة آلاف قتيل، وهم الكتلة الكبرى بين كتل القتلى بعد كتلة المدنيين عموماً. ويقوم الدين "القومي"، والعروبي والسوري، مقام الدين الاصولي الجهادي والسياسي الايديولوجي، في ميزان الإقبال على وباء العنف وإضعاف كوابحه وشل إعمالها من داخل. فكلاهما يفترض الجماعة، الامة أو القوم، كلاً ناجزاً وجميعاً مستوفياً شروط تمامه وماثلاً في القائد وعصبيته. وكلاهما ينفي من صفوف الدولة الوطنية، المختلطة حكماً، من ليسوا من الجماعة، ويهدر دماءهم و"أموالهم" وأعراضهم وحرياتهم على وجه الاحتمال. فإذا انفجرت "الازمة" واستعرت احتاج المتقاتلون، عبيد الله القتلى وعبيد الله القتلة، الى آلهة الطواعين وألقوا على كواهلها التبعة الثقيلة والمرهقة والمستغلقة على العقل، عن قتل الانفس والإفساد الذريع في الارض.

"عقلانية" الجماعة الحاكمة الايرانية الخمينية في هزيمتها ومفاوضتها... لا تقتصر على الاقتصاد

المستقبل، 1/19/2013 

  هل وجهت طهران دعوة الى كاثرين آشتون ودعتها الى زيارتها أم ان وزيرة الاتحاد الاوروبي لم تتلق دعوة مثل هذه؟ هل يقصد بالدعوة المفترضة دعوة قديمة تلبيها "اللايدي" متى شاءت أم انها "ليست جديدة ولكنها صحيحة"، على قول نائب وزيرة خارجية إيران عباس عراقجي؟ هل قبلت طهران إنشاء الوكالة الدولية للطاقة الذرية مكتباً موقتاً أو دائماً في العاصمة الايرانية "للتحقق" من إنفاذ طهران اتفاق جنيف، على ما يقول ديبلوماسيون ويسوغون، أم "الامر لم يطرح في المفاوضات، وهذا نبأ مختلف، والوكالة لم تشترط مثل هذا الامر؟"، على قول بهروز كمالوندي باسم المنظمة الايرانية للطاقة الذرية؟ هل يستأنف مهدي كروبي، المقيم جبراً منذ شباط 2011 في منزل اعتقال أمني، حياة سياسية، على زعم رسول منتجب، نائب كروبي في رئاسة حزب "اعتماد ملي"، أم أن الرجل ضالع في أخطر تحدٍ جبه "الجمهورية الاسلامية" الخمينية منذ نشأتها، على قول بعض الجنرالات في الحركة الديموقراطية التي هزت أركان السلطان في طهران، وجزاؤه الموت المرجأ والمعلق قهراً وخوفاً وإذلالاً؟
 ولائحة أسئلة من هذا الصنف تطول في شأن طهران وسياساتها. فيكاد يسأل المتقصي: هل عقد في جنيف قبل نحو الشهرين ما يشبه اتفاقاً على ما يسمى ملفاً نووياً؟ وعلامَ اتفق؟ وعلام اختلف؟ ويثير مثل هذا السؤال سؤالاً يسبقه أو يلحقه: هل خرجت الحكومة الايرانية منتصرة ومظفرة، وأرغمت "الغرب" على الإقرار بـ"حقوقها كلها"، وفيها "حقها" في انتهاك معاهدة حظر الانتشار النووي إذا اقتضى أمنها ذلك؟ أم أنها تخلت عن عزتها وانتصاراتها العسكرية والسياسية، وعن مكانتها دولة عالمية عظيمة ومفتاحية لقاء رفع عقوبات متهاوية، كانت سبباً في ابتكار شعب إيران حلولاً مذهلة ومعجزة، تقنية وعلمية واقتصادية، للمشكلات المفروضة والمصطنعة؟
 والحق أن المحللين والمراقبين والصحافيين والسياسيين لم ينفكوا في أثناء الاعوام الثمانية المنصرمة، منذ ابتداء المفاوضة بين مجلس الامن (وألمانيا) وبين نائب المرشد على رأس مجلس الامن القومي من طرح الاسئلة عما تريده إيران الخمينية وتجربه وتختبره فعلاً وراء أو تحت ستارة من الخطابة الحربية والسلمية واللاحربية – لاسلمية معاً. وأصر فريق من هؤلاء (المحللين...)، في خضم الغبار المعمي، على ما سموه "عقلانية" القرارات الايرانية الكبيرة أو الحاسمة، وفي قلبها القرار النووي. وعزا كثر العقلانية المفترضة الى تجربة حرب ايران – العراق. فيومها، على قول هؤلاء، وسع القيادة الخمينية، وهي نحو أربعين اجتمعوا عشية اعلان طهران قبولها القرار الدولي 598، وأجمعوا على الرضوخ له. وكانت مضت شهور على صدور القرار. وتلكأت الحكومة في انفاذ القرار كاملاً قرابة شهرين قتل في أثنائها بضع عشرة ألف قتيل، وظهر على رؤوس الاشهاد انهيار آلة الحرب الخمينية، النظامية و"الثورية" (الحرسية والباسيجية). ولم ترضخ القيادة الاربعينية إلا في ختام مطاف طويل بدأ في الثلث الاخير من ثمانينات القرن الماضي، وتضافر على مباشرته وبلورته القطب الدولي الراجح وقطب إقليمي نفطي ينزع الى الرجحان.
 وشأن الحال اليوم، اقتضى الامر يومها التضييق على اقتصاد الحرب النفطي الايراني، والعراقي استطراداً وحكماً، في سبيل إقناع الحلقة الحاكمة حول روح الله خميني (وهو في نزعه) بالخروج من حرب تتهدد نظام الحلقة بالانهيار الوشيك إذا هي لم ترجع في قرارات خرقاء. ولكن حمل رجوع كبار المعممين والضباط والاعيان والنافذين جراء "حصار" نفطي قسم سعر الذهب الاسود على ثلاثة، على عقلانية اقتصادية محض لا يفي بالتعليل. فنحت العقلانية الاقتصادية الحسابية عقلانية سياسية لا ريب فيها دعت طبقة الاعيان الاولى أو العليا الى احتساب الرأي السياسي الشعبي، على ما بدا في مرآة الانهيار العسكري، وفي انتخابات الرئاسة الوشيكة والانتخابات النيابية الشوروية التي مالت فيها كفة مهدي كروبي نفسه! ولم تخلُ هذه العقلانية، كذلك، من حساب ديبلوماسي إقليمي ودولي: فإعلان غورباتشوف إزماعه إجلاء جيشه من افغانستان، على حدود ايران الشرقية، لم يكن ضعيف الاثر في رضوخ هاشمي رفسنجاني وعلي خامنئي لتناول "كاس العلقم"، على قول الولي الفقيه قبيل لقائه وجه ربه. و"عوضت" الجماعة الحاكمة قرارها العقلاني آنذاك بأربع ولايات رئاسية "عاقلة" نسبياً في الداخل (1989-1997 لرفسنجاني و1997-2005 لخاتمي)، قطعها محمود احمدي نجاد وتأييد خامنئي. 
 ولكن البعد السياسي في المسألة ليس ثانوياً، على رغم قوة حجة العامل الاقتصادي. فاستبداد النظام وطغيان أعيانه وأقياله لم يستأصلا بعض منازعه الشعبية والقومية الحية، على مثال امبراطوري أو سلطاني عثماني، "أُسري – شعبي" على قول بعض مؤرخي دولة بني عثمان، وستاليني في حقبة الحرب الثانية. وهذا ما يفتقر إليه الحكم الكوري الشمالي أو نظام "عصابة" آل الاسد، على سبيل المثل. واستثمار الجماعة العلمائية والحرسية والاوليغارشية العصبية "الاسرية – الشعبية"، أو الملية والقومية الاهلية في الحال الايرانية، في تثبيت سلطانها، واستحواذها على حصص المنافع والسيطرة واقتسامها بين أجنحتها، وفي تحريكها الجماعات والعصبيات الاهلية في بلدان الجوار المضطربة- هذا الاستثمار يظهر جلياً في فصول الحرب الطويلة التي جرها صدام حسين إليها، واضطرت "الاقليم" الشرق أوسطي الى خوضها. وعلى نحو ما خاضت الجماعة الحاكمة الحرب، خرجت منها، على ما تجلو رواية فصلي الهزيمة الايرانية والانتصار الامر.

"رمضان المبارك"... الصدامي
  في صبيحة 17 نيسان 1988 الساعة الرابعة والنصف، مع إقامة المؤذن أذان فجر اليوم الاول من رمضان، ابتدأت القوات العراقية حملة "رمضان المبارك"، على ما سمى صدام حسين، القائد الاعلى والاوحد للجيش، حملته. واجتمع في اليوم العتيد ابتداء الصوم – وقدَّر الرئيس العراقي أن الـ20 الف ايراني المرابطين على جبهة البصرة الجنوبية، في شبه جزيرة الفاو، لن يتخلفوا عن الصيام والصلاة والتأمل والتعب- والذكرى الواحدة والاربعين لإنشاء حزب البعث العربي (العفلقي والبيطاري) الحاكم في بغداد رسمياً. والـ20 ألف ايراني هؤلاء ينضوون في فرقتي مشاة تساندهما فرقة مدفعية، وبعض أفواج أطفائية، ونحو 100 دبابة و150 مدفعاً. وحشد العراقي قبالة هؤلاء- وهو قضى شهراً كاملاً في إيهام قيادة عدوه أنه عازم على مهاجمته في كردستان العراق حيث استولى الحرس الثوري والجيش النظامي الايراني على 600 كلم2 حول السليمانية وغير بعيد من حلبجة، وشارك الجيشان المتحاربان في قصفها بالغازات السامة والقاتلة – حشد 100 ألف رجل بمحاذاة الفاو، و2500 درع أو آلية (فيها 1200 دبابة)، و1400 مدفع ونحو مئة طوافة مقاتلة، وقسَّم جيشه اللجب هذا على 12 فرقة: 3 فرق مدرعة وفرقتان مؤللتان و6 مشاة وواحدة قوات خاصة، وكلها مدربة وشاكية السلاح (مصدر الوصف الاحصائي عمل بيار رازوكس، "حرب إيران – العراق، أول حرب في الخليج 1980 – 1988"، دار بيرّان، باريس، 2013، في هذا الموضع وفي معظم المواضع الاخرى الآتية).
 وخطة الحملة "بسيطة" و"تقليدية"، على ما يصفها المؤرخ والخبير العسكري، وتقضي بإطباق فكي كماشة على طرفي جسم العدو، واجتماعهما في قلبه، الفاو، ومحاصرة وحداته في الفخ. وهي أوكلت الى الجناح الأيمن الاستيلاء على الطريق الساحلية بمحاذاة جنوب شبه جزيرة الفاو. وتولى الجناح الايسر، الى الشمال، المسير على ضفة شط العرب نحو الفاو. وفي الساعات الاولى من الهجوم، أصلت المدفعية العراقية القوات الايرانية قصفاً مدمراً، أتبعه الفريق أياد فايد الراوي، قائد الحرس الجمهوري وقائد الجناح الايمن، بقصف كيميائي كثيف على خطوط الايرانيين الامامية، إمعاناً في ترويعها وبلبلتها. وقام سلاح الجو العراقي، في الاثناء، بتدمير 3 جسور عائمة تصل ضفتي شط العرب الواحدة بالأخرى. ولم يكن الامر يسيراً. فالمضادات الارضية الايرانية كثيفة النيران، وتملك الدفاعات صواريخ أرض – جو فاعلة، وسلاح الجو نفسه، على رغم خسائره ونزيفه وعسر استبدال قطع غياره، يقود طائراته طيارون مجربون وبارعون يتحدرون من الطاقم النظامي الذي تولى الشاه والخبراء الاميركيون إعدادهم وتدريبهم. وقرَّر الطيارون العراقيون الذين يقودون قاذفات سوخوي-22 م قصف صواريخ كيدج البعيدة المدى، وأوكلوا تصويبها ودلالتها الى ضوء ليزر تبثه طائرات ميراج ف-1 مجهزة بجهاز أتليس يرصد الاهداف ويعينها.
 وثنَّى الطيارون العراقيون بتدمير جسرين على نهر قارون، نظير خرومشهر، وحالوا بين الايرانيين وبين نقل مدد نحو الفاو. واجتاز 200 غطاس شط العرب، وهاجموا أهدافاً مواربة حرفت انتباه القيادة الميدانية الايرانية عن مهاجمة اهداف أخرى حيوية، بينما نزلت أفواج من مشاة البحرية على الطريق الساحلية، وساندت تقدم الحرس الجمهوري، وقصفت سفينتان برمائيتان من طراز بولنوكني، قُلبتا الى قاذفتي هواوين، الخنادق الايرانية. وحلقت المروحيات المقاتلة فوق مصاف الهاربين، وفتحت نيران رشاشاتها الثقيلة عليهم، وأثخنت فيهم قتلاً. وفي اليوم التالي، 18 نيسان، استولى المهاجمون على الفاو، بعدما كانوا قطعوا 30 كلم في اليوم السابق، على غير توقع القيادة العسكرية نفسها. ففي 36 ساعة، استرد العراقيون رأس الحربة الايرانية في الارض العراقية، وهي عصيت عليهم طيلة سنتين كاملتين. وقتلوا 5 آلاف ايراني، وأسروا 10 آلاف، واستولوا على العتاد الايراني الذي تركه المقاتلون وهم يولون الأدبار، كله. وغنموا، فيما غنموا، منصة صواريخ سيلكورم "الثمينة" التي أصلت صواريخُها رصيف تحميل النفط من الكويت، الاحمدي، منذ منتصف 1987. و"اقتصر" النصر العراقي على خسارة 800 جندي و20 درعاً. فردت طهران على هزيمتها بقصف رصيف الأحمدي بصاروخ سكود، غداة خسارتها منصة سيلكورم وصواريخها الدقيقة الاصابة.
 ودارت في مياه "خليج العجم"، على ما سمى العرب البحر الداخلي بين هرمز وبين الساحل الشرقي لشبه جزيرة العرب في 14-18 نيسان 1988، رحى معركة بحرية، ايرانية – أميركية، غير بعيد من جزر المضيق، أبوموسى والطنبين، يذهب المؤرخ العسكري، رازوكس، الى وصفها بأنها "أبرز اشتباك بحري خاضته البحرية الاميركية منذ ختام الحرب العالمية الثانية" (ص 462). وكبدت البحرية الاميركية القوات الايرانية في المعركة، وذروتها كانت في 18 نيسان، منصتين للباسدران، وأغرقت فرقاطة، ومركباً لاطلاق الصواريخ، و3 مراكب سريعة، وأعطبت مركباً رابعاً وطائرة فانتوم، وقتلت 57 بحاراً و20 حرسياً (باسدران). وعفت البحرية الاميركية، في اثناء الاشتباك، عن اغراق الفرقاطة "سَبَلان" بعد أمر فرانك كارلوتشي، وزير الدفاع، والرئيس ريغان والجنرال كولن باول مستشار مجلس الامن القومي، بتركها قرينةً على رغبة واشنطن في لجم العنف.
المقياس الاميركي والفريق الكسروي
 وأتاحت المعركة قياس القوتين البحريتين، ولا قياس بينهما حقيقة. وسخر صدام حسين، في تموز 1990، عشية عدوانه على الكويت وأثناء محادثته السفيرة الاميركية ببغداد أبريل غلاسبي، من حسبان واشنطن ان الاشتباك البحري بجوار أبوموسى في 18 نيسان حسم المعركة، بينما كانت قواته الجرارة ومدرعاته ودباباته ومدافع الميدان، والجهاز هذا كله مولته دول الخليج وبلدانه من مبيعات نفطها، تدك التحصينات الايرانية في الاراضي العراقية المحتلة. وسواء كان دور المعركة البحرية في انعطاف خميني ورفسنجاني وخامنئي ومنتظري، وهؤلاء كانوا مستودع القرار السياسي الايراني يومها، وجنوحهم الى "السلم"، راجحاً ام ضئيلاً، فما لا ريب فيه هو ان هذه المعركة لا تزال الى اليوم المرجع الذي يقيس عليه الحرسيون، ومعهم المحافظون والاصلاحيون على وجهين متقابلين، جهازهم الحربي، وحاجاتهم التسليحية الصاروخية والخلَّبية والخفية والتدميرية. ولعل مناوراتهم البحرية التي كانت، الى وقت قريب سبق انتخاب روحاني، لا تكاد تنتهي واحدتها حتى تستأنفها الاخرى، رد الجواب على اشتباك شَهرَ على الملأ الايراني والاقليمي "عري الملك". وأرادت الحكومة الاميركية، في 29 نيسان، تظهير نتاج المعركة العملي، فأعلنت بسطها حمايتها على مجمل النقل البحري في الخليج، النفطي وغير النفطي. فأذعنت طهران للاجراء الاميركي، واحتكمت الى "عقلانيتها" العتيدة التي لا ينفك المؤرخ والخبير العسكري يمتدحها، على ما مر.
 وغداة الاشتباك، وهو تواقت تماماً مع حملة العراقيين في سبيل استعادة أراضيهم المحتلة وأولها "حصن" شبه جزيرة الفاو، أقرت القيادة الايرانية، وأجنحتها المتنافسة والمتصارعة، بالواقعة الحربية الثقيلة، وبعواملها السياسية (أي بأحكام فئات الايرانيين وجماعاتهم في الحرب، وعزلة ايران الاقليمية والدولية) والاقتصادية (نضوب الموارد وتردي سعر النفط وانخفاض الانتاج والقيود على النقل...). فقال علي أكبر هاشمي رفسنجاني، رئيس مجلس الشورى وممثل خميني في المجلس الاعلى للدفاع والقائد السياسي فعلاً للقوات المسلحة في شقيها (النظامي والحرسي)، غداة المعركة أن "الوقت لا يعمل لمصلحة ايران". وفي انتخابات مجلس الشورى، في آخر نيسان، تقدم فريق مهدي كروبي، أمين عام رابطة العلماء المبارزين وداعية طي الحرب، على فريق رفسنجاني. وترك محمد خاتمي، وزير "الدعاية"، جمعية العلماء المناضلين، وعلى رأسها رفسنجاني وخامنئي، الى الرابطة، وهي قريبة من منتظري. فآذن انحياز الوزير الانتهازي والوديع بانقلاب ميزان القوة. وأدرك مساعدا خميني المقربان أن الحرب التي أراداها، واشتهياها سُلَّماً الى استتباب الامر وراء المرشد و"قائد الثورة" و"ولي أمر المسلمين"، الخ.، استنزفت أغراضها "الثورية" وهي تصفية الخصوم السياسيين والايديولوجيين والاجتماعيين، ورص بنيان "الحكومة الاسلامية" تحت لواء الولي الفقيه والعدل وفريقه النافذ والكسروي (والكسروية باب من ابواب السلطان وصوره و"مجلى" أصيل يضاف الى القيصرية البابوية والبونابرتية "الغربيتين"). ونسبت التخمينات والأهومة التي لا تنفك الكسروية منها الهزيمة البحرية الايرانية، أو الاقدام على امتحان الاشتباك المستحيل الى ثعلبة علي أكبر هاشمي رفسنجاني الاسطورية. فقيل، "من غير دليل" طبعاً وهو دأب أقاويل البلاطات الخمينية وحاشياتها، أن رفسنجاني استدرج قواته الى المعركة المعروفة النتيجة المحتومة ليقوّي دعوته الى انهاء الحرب على وجه السرعة، وقبل أن تقوّض أركان سيطرة الفريق الحاكم فيما عميد الفريق في نزعه الاخير، ويوشك أن يترك كرسي الولاية والارشاد والقيادة خالياً.
فصول الانهيار الحرسي والاهلي
 واستدرج رفسنجاني قواته الى المحنة أم لم يستدرجها، لم تترك سبحة عمليات "توكلنا على الله" العراقية، في 25 أيار 1988 و25 حزيران و12 تموز، وإنزالها في القوات الايرانية خسائر مدمرة، فرصة غير التعجيل في الامتثال لقرار مجلس الامن 898 وبنوده. وهي قريبة من بنود كان صدام حسين منذ خسارته "ممتلكاته" الايرانية في أواخر 1981 وانقلاب مجرى الحرب "المفروضة" حرب احتلال واستيلاء على أراض عراقية (رآها بعض "المراجع" حرب تحرير البصرة...). فشنت قيادة الاركان الصدامية الفصل الاول من العلميات، وأشركت فيه 150 ألف جندي في 14 فرقة، وجهزت المهاجمينن بـ3 آلاف درع و1500 مدفع. وحشدت القيادة الايرانية، وعلى رأسها علي شهبازي محل سهرابي الذي عزله رفسنجاني غداة خسارة الفاو، 50 ألف مقاتل و90 دبابة و150 مدفعاً.
 وحاول الحرس الثوري الصمود في وجه "آلة السحق" الصدامية، وطلبوا حماية سلاح الجو من حمم مدفعيتي الدبابات ومدافع الميدان. ولكن الميغ – 29 الجديدة، التي باعها غورباتشوف العلني (غلاسنوست) والاصلاحي الهيكلي (بريسترويكا) من الديكتاتور العراقي المستظهر بقوة مال الدول الخليجية وبرعاية أميركية متحفظة، الطائرات السوفياتي والحديثة حالت بين بقية سلاح الجو الايراني وبين استجابة الاستغاثة الحرسية. وأجازت الاركان العراقية للفيلق الثالث، على رغم تفوق ساحق في العديد والعتاد، قصف خطوط العدو بغاز الاعصاب، "في إكس" و"الطابون"، إمعاناً في التوكل على الله، وإنفاذاً لكلمته في أعدائه "الشعوبيين". فهرب الحرسيون الى الاراضي الايرانية، وخلفوا وراءهم عتادهم الذي لم يحمهم، ونحو 6 آلاف من رفاقهم الذين قتلوا في خنادقهم وراء رشاشاتهم، وعلى وجوههم أقنعة واقية وبدائية من الغازات لم تقهم انتشاره وتسللها الى رئاتهم وأدمغتهم. والى 50 كلم الى الشمال، هاجمت قوات الحملة مواقع الباسدران التي احتلوها قبل عامين في الاهوار والمستنقعات، وأخرجوهم منها، ورفعوا العلم العراقي على بلدة شلامشة الايرانية على بعد 10 كلم الى الغرب من خورمشهر، "مدينة الدم" التي استعادها المقاتلون الايرانيون من القوات العراقية المحتلة قبل 6 أعوام لقاء آلاف القتلى وفي حرب مدن دامية.
 ولم يفلح الحرسيون في استعادة شلامشة، وأخفق هجومهم المضاد. وعلى الجبهة الشمالية انتزع الجيش العراقي سد دوكان من الحرسيين، وأخفق في استعادة حلبجة المنكوبة. وعقدت بغداد صلحاً مع جلال طالباني ومسعود بارزاني، فعلقا اشتراك 30 ألف من البيشمركة في مقاتلة قواتها. وأعمل صدام حسين 20 ألف مقاتل ايراني من مجاهدين خلق في الهجوم على مهران، بالجبهة الوسطى، واحتلالها، وساندهم بفرقة مؤللة ومدرعة. فدخلوا الاراضي الايرانية مسافة 20 كلم. وأشيع ان غرض صدام حسين من نصب فخ "المجاهدين" استدراج قوات ايرانية من جبهة الشمال التي كان يبيت مهاجمتها بعد الفراغ من الجبهة الجنوبية، على ما حصل فعلاً، أولاً، ثم التخفف من "حلفاء" ثقيلين وبائسين والتضحية بهم على "الطريقة" الرفسنجانية، ثانياً (وانتهى بهم الامر الى معسكر أشرف ومصيره التاعس الى اليوم).
فصول الانهيار
 فلما شن صدام حسين، في 25 حزيران، الفصل الثاني من "توكلنا على الله" وقصدت قواته جزر مجنون العراقية وهور الحويزة لإجلاء 40 ألف رجل (4 فرق) ايراني يتحصنون فيها، جمع 160 ألف جندي (14 فرقة). وعلى جاري ما صار تقليداً معروفاً ومجرباً، افتتح المعركة قصف مدفعي عارم، وثنى بقصف كيميائي على الخطوط الامامية، وألقى الرعب فيها وفي الخطوط التي تليها. وأتبع القصف المزدوج بهجمات طائرات سوخوي – 25 "قاتلة الدبابات" على ما يقال في مروحيات "أباتشي  الاميركية، على الدروع والآليات. فاستولت قوة برمائية عراقية على جزر مجنون الشمالية في غضون 8 ساعات، وهي صمدت طيلة 3 سنوات كاملة من قبل. وحملت مفاجأة الانتصار ودهشته قادة الميدان العراقيين الى إنزال اللواء 42 المظلي وراء خطوط الايرانيين، وسد طريق الانسحاب والهرب عليهم. وفي 28 حزيران، كانت القوة المهاجمة ترابط على رأس جسر في الاراضي الايرانية، بعد ان استعادة الاراضي العراقية المحتلة كلها، وأسرت للمرة الاولى 4 آلاف حرسي، وجرحت 8 آلاف، وقتلت 3 آلاف. ففاق عدد الاسرى عدد القتلى، على خلاف العادة. و"تبدد في الطبيعة" بقية الخمسين ألفاً. فآذن ذلك بالانهيار الوشيك. وبرز خطان سياسيان يتقاسمان السياسة الايرانية الخمينية ويتنازعانها على حد سواء: أمر علي خامنئي المقاتلين والاحتياط والمأذونين بالرواح الى الجبهة والصمود فيها، وندد رفسنجاني بدعاة التشدد والانغلاق والعزلة وخصوم سياسة الانفتاح التي يريد حمل الدولة الايرانية على انتهاجها (على زعمه). وكانت رابطة العلماء المبارزين، وراء مهدي كروبي، حصلت على 60 في المئة من مقاعد مجلس الشورى في دورة الانتخابات الثانية. وأدارت حملتها على الطعن في دوام الحرب الخاسرة والباهظة، على رغم تأييد خميني هذه الحرب.
 وعرفت نتائج انتخابات مجلس الشورى في 3 تموز. وفي 12 منه شنت قوات صدام حسين الفصل الثالث من "توكلنا على الله" على الجبهة الوسطى، هذه المرة، بدَهلوران. وفاق الحشد العراقي الحشود السابقة، فبلغ 140 ألف رجل وألف دبابة وألف مدفع ميدان. فاستعاد العراقيون في يوم واحد آبار النفط الحدودية، وكانوا خسروها قبل 5 أعوام. وفي اليوم التالي، وسعهم التقدم في عمق الاراضي الايرانية من غير معوق أو مقاومة، واستولوا على دهلوران عشية 13 تموز. فتوسل صدام حسين بانجاز الجيش الى تهديد طهران، إذا هي لم تنسحب من كردستان، بالاستيلاء على آبار النفط الايرانية في الاحواز جنوباً. ولم يكن في مستطاع طهران تجاهل قوة الحجة الصدامية هذه المرة. فالاشتباك الاخير صدَّع 3 فرق مشاة ايرانية كانت ترابط في الوسط وتبددت مخلفة وراءها، غنيمة، 570 درعاً، و320 مدفعاً، الى 10 آلاف جندي بين قتيل وجريح و5 آلاف أسير. وعلى هذا، اقتصر سلاح الدروع الايراني في خوزستان على 200 مدرعة، في مقابلتها على الجبهة ألف آلية عراقية.
 في ختام ليلة 14 تموز الى 15 جمعت 40 من أركان النظام طيلة 8 ساعات كاملة من المناقشة والمفاوضة القاسيتين، في غياب روح الله خميني المتوعك، أقر المجتمعون بما آلت اليه حربهم الطويلة التي حملوا العراق ومعظم المشرق عليها وانتهز "النظام" العراقي فرصتها، ومعه معظم المشرق والغرب. وهي آلت الى تنصل الايرانيين منها بعد ان ناهزت الخسائر 470 الف قتيل، وخوت خزينة الدولة وصناديقها، وظهر على القوات المسلحة، وهي تحولت حرسية في الاثناء ولم تبق نظامية في معظمها، ضعفُ مناسبتها مهماتِها الدفاعيةَ والهجومية، وقصر اقتصاد ايران المعزولة عن تمويل حاجات السكان الاساسية واستجابة حاجات التسلح... وتولى هاشمي رفسنجاني، صباح 15 تموز، الاعلان عن انسحاب القوات الايرانية المحتلة من كردستان العراق. وأرفق الاعلان بإنفاذه السريع. فجلت القوات عن حلبجة، وعن بنجوين وعمران وراية، قبل ابلاغ رفسنجاني خميني بقرار الاربعين.
 ورد صدام حسين، في 17 تموز (ذكرى انقلابه الاول وعارف عبد الرزاق على عبد الرحمن عارف في 1968 قبل 20 عاماً)، التحية بمثلها، فجلت قواته عن الاراضي الايرانية التي غنمتها في حملات "توكلنا على الله" الثلاث. ولم ينتظر المفاوضات المباشرة - وهي تصدرت شروطه، وكان رفض الفريق الخميني شرعية صدام "السبب الاول" في دوام الحرب – ليتخلى عن مكاسبه وغنمه، وعودته الى مربع أول جرَّ عليه، وعلى مسانديه الخليجيين والغربيين والسوفيات غرماً ثقيلاً. وحين عرض رفسنجاني على خميني مداولات القيادة، وما أسفرت عنه، واقترح استقالته من كل وظائفه ورئاساته لقاء مسؤوليته عن القرار إذا ارتأى المرشد ذلك، طمأنه المرشد الى رعايته القرار وتحمله وحده التبعة عنه، على ما قال في رسالته العلنية. ولكن روح الله خميني لم يستخلف على الولاية السياسية هاشمي رفسنجاني، قائد الحرب الفعلي ومؤسس الحرس الثوري ومعمار البنيان القيادي الذي رزح على صدور الايرانيين ولما يزل. فاستخلف علي خامنئي، القريب من تصلبه وانكفائه الضيق وتشاؤمه المتجهم والمرير، واثقاً ربما في التزام رفسنجاني "خط الولاية" الرسمي في الاحوال كلها.
 واقتضى استخلاف خامنئي، بعد عزل منتظري، ملحقاً عسكرياً. فعشية المفاوضات المباشرة التي دعا اليها أمين عام الامم المتحدة خافيير ديكويليار الدولتين المتحاربتين، تشبث المندوبون الايرانيون برأيهم في بطلان "شرعية" نظام صدام حسين. فما كان من هذا إلا أن أمر جيشه، في 22 تموز، بفصل رابع من "توكلنا على الله". فهاجم الجيش قصر الشيرين، في الوسط، والحويزة، في الجنوب. ولمَّ لهجومه التأديبي 12 فرقة و2000 دبابة و3000 آلية مدرعة أخرى. فتقدم من غير مقاومة تذكر 50 كلم في الاراضي الايرانية، وأسر 8000 آلاف مقاتل، وبلغت طلائعه المتمهلة زهب وجيلان زرب على الطريق الى كرمنشاه، وبسطت سيطرتها في خوزستان على الحويزة وتجاوزتها الى حميد، على ضفة نهر قارون.
 ولم يمهد سحق القوات الايرانية الطريق الى جلوس علي أكبر ولايتي وطارق عزيز، وزيري الخارجية، الى جهتي طاولة واحدة. فأتبع صاحب الجيش العراقي هجوم قواته بهجوم أوكل به مجاهدين خلق على طريق كرمنشاه. فاجتاز أصحاب مسعود رجوي 100 كلم في يوم واحد من غير غطاء جوي عراقي. وحين شن الايرانيون حملة "مرصاد"، وسعهم إصلاء المهاجمين نيران مدرعاتهم ومدفعية ميدانهم من غير خشية سلاح جو رادع حبسه صدام حسين عن "حلفائه". فلما ندد آية الله العظمى الشيخ حسين منتظري بثأر قوات النظام الايراني لهزيمتها المهينة من "ضعفاء" الايرانيين على النحو الشرس هذا، زاد على خلافاته مع خميني وطاقمه خلافاً "انسانياً". وسخر الطاقم من "الخليفة المعين" ومن لين قلبه على نازع مستشر فيهم وفي امثالهم الى ازدراء العاطفة والرحمة. وحسم خميني تردده وشكوكه فأمر بعزل منتظري، وأخلى الساحة لمساعديه المقربين والمتنافسين. وفي 6 آب تفاوض عزيز وولايتي الى طاولة واحدة. وأقر صدام حسين باتفاق الجزائر الذي وقعه في 1975 على تقاسم مجرى شط العرب مع محمد رضا بهلوي. فسرى وقف النار في 20 آب 1988.
 فكيف انتهى الامر بالنظام الخميني، وتعبئته العسكرية والشعبية والدينية (المذهبية) الهائلة التي مهد للحرب وخاضها بها طيلة 7 أعوام و11 شهراً، الى هذا المصير الذي قامت العملية الاخيرة على مجاهدين خلق قرينة قاسية على انهياره المعنوي بعد انهياره المادي؟ يذهب رازوكس في ثنايا تأريخه، وفي المقابلات الصحافية الكثيرة التي أدلى بها تعقيباً على كتابه، الى تعليل يغلب الوجه الاقتصادي والمالي على الوجوه الاخرى، الديبلوماسية والسياسية الدولية والاقليمية والداخلية والعسكرية القتالية التي لا يغفلها ولا يقلل من وقعها. وقد يرجح تغير أو انعطاف النهج الايراني اليوم – عشية انتخاب روحاني رئيساً ومفاوضاتها التمهيدية، والتسليم بانتخابه، وغداة انتخابه- هذا التعليل. فهزيمة النظام المالية والاقتصادية فاضحة، وعرته أمام أنصاره وخصومه على حد سواء، شأن هزيمته العسكرية في ربيع 1988 وصيفه. ولا شك في ان جلاء الخسارة ووضوحها داع قوي الى الاقرار "العقلاني" والواقعي بها. ولكن بداهة الدعوة، وعزلها الاقتصاد عاملاً راجحاً وحاسماً، تغلف وجوهاً أخرى تضطلع بأدوار حقيقية ومؤثرة في رسم السياسات الخمينية والحرسية.

 فالنظام الخميني لم يقتصر على الخروج من الحرب في 1988، وهو لا يسعى اليوم في تصديع نظام العقوبات وحماية كتل من برنامجه النووي، وحسب، بل خرج من الحرب وأرسى الى ذلك، سلطته على مساومة سياسية داخلية ألَّبت حوله جماعات متوسطة وشعبية أبعدتها الحرب عنه ومزقتها وأفقرتها. وهو صدع بالهزيمة العسكرية قبل ربع قرن لأن قاعدته العريضة والمقاتلة حكمت في الحرب الطويلة والخاسرة بالعبث، وباستدراج الاحتلال والعدوان بعد التخلص منهما. فتظاهر الحرسيون في طهران وغيرها، واقترعوا بأقدامهم هرباً، الى اقتراع جمهور عريض بأوراق الصناديق، على ضرورة انهائها. وفي 1997 اقترع 70 في المئة من الحرسيين لخاتمي. وجدد النظام الملي والقومي الاهلي بطهران لحمته المركبة على اسس جديدة يسعى اليوم في بعثها في أحوال مختلفة. والحق ان خسارته تماسك لحمته في 1986-1988 تستحق الفحص، قبل مقارنتها بحال هذه اللحمة اليوم.

السبت، 4 يناير 2014

كريستيان غازي... مئة حياة وحياة متخيلة في صورة سيرة

المستقبل 5/1/2014

لم يلق الكاهن الناحل الطويل، صاحب الوجه الدقيق والقسمات الهادئة والمتأملة والصوت الواضح النبرة من غير جهورية، عسراً في إدخال كريستيان غازي (1934-2013)، على ما أنبأ مستطيل نحاسي ألصق بالنعش المسجى بحيال المذبح بين صفي المقاعد الخشبية في كنيسة سيدة الوردية في دار أبيه، الآب، وأولاده. ولم تعزه الحجة، لا من الاناجيل، ولا من رسالة الرسول بولس الى اهل كورنثوس، ولا من سيرة الصديق الراحل. فنوه بانتصاره للفلسطينيين المظلومين، ومدح جمال صوته وغناءَه سموَّ الكائنات والمخلوقات، وأشاد بسعيه الدؤوب في معرفة الناس وصداقتهم ومحبتهم. وجمع هذا في باب انجيلي هو "الولادة الجديدة"، بالروح، وعارضها بالولادة بالجسد وتقادمها، وأيلولتها لا محالة الى المرض والموت وانحسار الرجاء وقضائها في الحياة بالعبث والبدد.

ولا أعلم، وأنا مصغ الى الكاهن يؤبن كريستيان الساعة الثالثة والنصف من الاحد في 15 كانون الاول، من اين استقى الكاهن الخطيب، وهو أحد أربعة رهبان تناوبوا على قراءات من غير ذبيحة إلهية، بعض معالم سيرة الرجل الذي يؤبنون. والحق ان هذا شأن ثانوي. فما يتكلم فيه الكاهن، ويخاطب به الاحياء والحضور فوق ما يتوسل به الى تدوين سيرة امرءٍ قضى، انما هو دعوته: الى اعتقاد ابوة الآب وعموميتها ورحابتها وخلوها من الاشتراط، صاحبنا، والى الفيء اليها وتعليق الرجاء عليها وترك القنوط منها. ولا تعدم مثل هذه الدعوة المجربة موافقات بين رسمها العام وبين رسوم حيوات وسير إنسية عادية واستثنائية. وقد يعجب السامع وهو يرى الكاهن يتناول من حوادث سيرة صاحبنا أو وقائعها قرينة مشهورة عن ميله الفلسطيني، هي أحد أشرطته السينمائية، "فدائيون"، أو وسم الشريط، فيترجمها انعطافاً الى المتألمين والضعفاء والمشردين.
وأياً كان رأي المستمع في تأويل الكاهن اليقظ، والراغب رغبة قوية في مخاطبة الجمهور وهو على دراية ببعض الحاضرين أو يحدس فيمن قد يكون بعضهم هذا، لا ريب في ان الخطيب رجح تأويلاً على آخر، أو على تأويلات كثيرة أخرى. وإذا حاولت، أنا اليوم، الادلاء برأيي فيما دعا كريستيان غازي في الثلث الاخير من الستينات الى الانضواء تحت لواء الحركة الفلسطينية الوطنية، السياسية والمسلحة معاً ومن غير تمييز تقريباً، لاحترت طبعاً في تعليل الدواعي وإحصائها وترتيبها. وربما يسع واحدنا- وكريستيان نفسه لو كان بيننا، شأنه قبل نحو ثلاثة أشهر يوم التقينا وغنينا أغاني بذيئة من زمن مضى كناية عن ذلك الزمن من غير الإلماح اليه "بالاسم" ولا التوسع في تقصي وجوهه- النعي على "تحزب" تأويل الكاهن، وظن الميل والهوى فيه. والمقارنة السريعة بين مقالات كريستيان وأصحابه يومها وبين مقالة التأبين المسيحية الانجيلية (المارونية) غداة نحو أربعين سنة مضت على المقالات، قد تحمل من يقارن ويتذكر، شأني، الى تحفظ مشفق، لا يخلو من العجب ولا من التردد والحيرة.
وأما التحفظ فالباعث عليه واضح وظاهر. فالمقالات الفلسطينية، السياسية (" القومية" والوطنية) والمسلحة، كانت تستظهر بالمسوغات التي استظهرت بها مثيلاتها في حركات التحرر، على ما سمت نفسها وسميت. وهذه المسوغات هي رد العدوان الصهيوني، ورفع السيطرة والتسلط الغربيين والاستعماريين، واستعادة المغتصب والمصادر، وجمع الشتيت الفلسطيني على أرضه، ومؤازرة الشقيق العربي والحليف الاشتراكي على مُفرِّقه ومناوئه. وترتبت على هذه المسوغات النتائج المعروفة، من تجويز القتل والدمار في أحوال الضرورة وفي غير أحوالها، وتقديم المعايير العامة والجمعية المغفلة على أحكام العمل الفردية والشخصية، الاخلاقية والحقوقية والمهنية، الى تحكيم الفروق وموازين الغلبة والمصالح المباشرة والضيقة في الأحلاف والخلافات. وهذه ليست معايير العمل المسيحية السائرة، وجه الضبط. وإذا ذهب بعض كهنة أو رهبان اميركا اللاتينية الكاثوليك الى تسويغ ثورة الفلاحين العراة والأقنان على سلطان المتربعين المتعجرفين والانانيين في سدة الملك والثراء والأمر، فقلما باشر هؤلاء القتال باليد، الى مباشرته باللسان والرد على انحياز كنيسة متخمة الى المتخمين المتجبرين.
وأما الحيرة، وهي فوق التردد وأبعد منه، فمردها الى مراودة تشكك مبهم خارجٍ من ركام الصور والكلمات والاوضاع والايماءات الكريستيانية، ما حسبته (أنه) كريستيان غازي، وما ثبت على تشابه شديد الاضطراب أنه قد يكون كريستيان غازي فحضرني غداء الى مائدة مادونا (غازي، من طريق الزواج، ومجدلاني، من طريق الولادة) وكريستيان، في منتصف الستينات تماماً، تصدره جان عزيز، الكولونيل على قول ابنه الثلاثيني يومها، غازي وزوجه، أم كريستيان (أم جيلبير الديبلوماسي) الفرنسية. ولم تكن صدارة الاب، نائب فؤاد شهاب على قيادة الجيش قبل إقالته في مطلع الخمسينات، صورية أو شكلية. فهو كان صدراً عريضاً ومتين العضل، تعلوه رأسٍ رومانية القسمات فقد أعلاها لمة شعره ولم تخلف نقصاً أو فقراً، فكمال الرأس أقرها على حالها وعبارتها. وكلام الكولونيل على المثال إياه، يخرج بطيئاً، مسكوكاً ومتصلاً، يطوي إيجابه شكه ونفيه. والمرأة الأم قبالته، ناحلة القوام، ويصح فيها ما كان كريستيان يقول في والده:" ليس فيه درهم دهن". وعلى خلاف الكولونيل، نُحتت المرأة أو قدت في الرهافة واللطافة. والقول "على خلاف" لا محل له، والمقايسة لا تصح في الاثنين. فهما تامان، الواحد على حدة من الآخر.
وقلب توسط جان عزيز غازي المائدة وزوجته في مقابلته، ما عهدته حجرة الطعام والاستقبال والمعيشة في بيت مادونا وكريستيان (وميشال وهدى، قبل ولادة كارل) من ضحك وغناء وكلام وجلوس ووقوف ومخاطبات بالحركات وطريقة طعام وشراب. فخيمت على الحجرة رزانة لا تكلف فيها، أقرت أشياء الحجرة وأقرتنا معها، على افتراق وانفصال آمنين، وردّتها وردتنا الى دواخل وطوايا حارة و"حالمة"، على قول الشاعر المُغنَّى ("كل هذه الاشياء الوحيدة/تحلم بك و هي تنتظرك"). وكأن كريستيان آخر (ومادونا أخرى) خرج من طوره الهائج والمائج، والمتناثر والمجتمع، والصارخ والهامس، والراقص والقاعد، والمقهقه والمحدق الى طور الابن الولد المنكفئ على حده، وعلى حده الذي رسمه النسب. وكان الكولونيل ابتدأ الجلوس الى المائدة بصلاة التثليث القصيرة وعلامته. ومن غير كلمة واحدة في "الدين"، طيلة الجلوس، كان ظاهراً وقاطعاً ان السيدة والسيد مؤمنان، وأن مسيحيتهما، يقينهما ورجاءهما، وجه راجح من علاقتهما وشراكتهما.
وكريستيان يصدع بذلك كله، و"يعود" ابناً لرجل وامرأة، ويجلس الى مائدتهما، في بيته ومنزله وبين أولاده وبعض أصحابه. ويوجه كلامه الى الكولونيل العسكري الفرنسي، واللبناني الماروني الرجعي، وخريج مدرسة الحرب بسان سير، والعاقد على فرنسية بورجوازية كاللاتي غناهن جاك بريل (مغني كريستيان ومادونا الاثير مع ليو فيريه طبعاً)، وروى بول بورجيه بعض قصصهن في مقتبل القرن العشرين- وهو والد بنتين وطفل ذكر سماه متيمناً بالنبي ماركس، فيقول له: "بابا" (على نحو قولهم بابا نويل، وليس حلويات البابا) من غير خشوع ولكن بتأدب لا يخطئ الشاهد تعرفه صدى من اصداء طفولة لم تأفل ولا تزال حية في صدر المكتهل.
فعندما نوه الكاهن أمام النعش المسجى، وحضور يساري وفلسطيني وبقية عائلية من شجرة مادونا على الارجح، بنازع مسيحي ربما دعا كريستيان الى اعتناق ايمان فلسطيني والى ميل ثوري قلبه الصديق على وجوهه كلها، غريبها وأليفها- بادرتُ الى الاستهجان والانكار وبعض السخرية، على عادة قديمة لا يبرأ الواحد منها بيسر. ولكن "تحرك" صور كريستيان الكثيرة، والبعيدة من الانسجام والاتفاق، حمل على التروي والسؤال (أو المسألة): ألم أكن شاهداً على كريستيان في حضرة الكولونيل جان عزيز غازي الروماني وزوجه البعيدة والملائكية الطيفية؟ ألم أره الولد المتأدب والمهذب والناعم والحنون؟ ألم يتخلص في لحظة لا تدرك من خليطه الفوضوي والأوبرالي والراقص والدامع؟ أليس هو من زارني مرة، وفي صحبته شابة فرنسية جميلة وشهية، كما لا ينبغي لامرأة أن تكون، أرملة مظلي قتل في حرب الجزائر القريبة يومها، جاءت في رحلة طويلة زادها فيها فتنتها، فأخذ كريستيان، على شاكلة السامري الطيب، يرجوها ان ترجع الى بلدها، وأن تعتاش من عمل موصوف ولا تنقاد للمصادفات الكثيرة الطارئة من غير بقية؟
وأنا لا أريد عمادة كريستيان مرة اخرى. ولا عذر لي إذا فعلت، ولست بفاعل. ولكن صاحب "مئة وجه ليوم واحد"، وهو ربما أراد بوسم فيلمه الروائي (الوحيد؟) الانكار والثلب والنقد، على ما كان ليقول في فرنسيته القح، كان صاحب مئة سيرة وسيرة في حياة تحمل اسم رجل واحد، وهو روى سيرته هذه امام عدسة كاميرا ومسجلة، أو روى إحدى سيره المتخيلة والحقيقية نصف المتخيلة ونصف الحقيقية كلون عيني سوان في مطلع "ملحمة" مارسيل بروست، "نصفٌ ذاكرة نصفٌ نسيان"- فإذا بها لا تشبه ولا شبهاً طفيفاً ولا بعيداً ما رواه وروته مادونا ورواه من عرفه طيلة سنين كثيرة قبل أن أخالط دائرة صحبه وزملائه. فأراد في سيرته "الرسمية"، وهي ما تراوته صحافة سقيمة أو كسولة وقاعدة غداة وفاته، أن يخلف وراءه رسم بطل محلمي، استفاق، شأن أبيه على ما روى، على "فلسطين" ومعانيها المعاصرة والدارسة. ولا يدرك الواحد، وفي المعرض هذا الواحد هو أنا، ولا يعلل كيف يسع رجلاً علنياً تدل آثاره الكثيرة على معالم سيرته وتثبتها من غير خلاف، الاسترسال وراء قصص اسطوري قوي الشبه بالسير الشعبية والفروسية المعروفة. فيلاعب الكالاشنيكوف محل الأسنة، ويستبيح حمى العدو في غفلة ليس عن راداراته بل عن جرائه النابحة، ويصول في البلاد المحتلة ويعود غانماً لا خدش في جسده. ولا ينبغي للمستمع أو للمشاهد أن يشك في صدق انفعالات كريستيان الراوي وصاحب الخبر. فهو لو فعل حقيقة ما يروي لما اختلف الامر في شيء، ولالتمعت عيناه بضوء دمع رقيق، ووارى بالالتماعة وبصوت عميق وحار، من لجة الصدر وقرارة الحنجرة، حناناً مشبوباً وصاخباً يحل في كريستيان ويتلبسه، ويصيبه بالدوران، ويتركه مرهقاً وعلى حد الاختناق.

ولم تكن حاله هذه وقفاً على "فلسطين". ففي موقف الصداقة والألم والشرب والمغازلة والغناء والشعر والقنوط والاعجاب والاشتهاء والسماع والسياسة، وفي اشراقاتها جميعاً، كان كريستيان يجمع ما يقوى على قوله وإبلاغه وما لا طاقة له عليه أو على "تثبيت دواره الكثير". وهو حاول مداراة جموحه الى اقاصي أهواء تعصف به، أراد قولها في شعره السري، فتفتقت عن وجوه منحوته في الغرانيت البارد والأملس وتختزن، على أمل ورجاء، حياة هوى، متلظية ودفينة. فتغمر الرؤى والأخيلة كلامه ومحاورته ومقالاته، وتؤاتي أخباره وقصصه حيوات كثيرة، بعضها "عاشها" عاشق هائل العشق، وبعضها "عاشها" صديق عظيم الصداقة، وبعضها الثالث سعى في مناكبها وتقلب بين أظهرها مناضل لا تسع العوالم شفقته ورأفته وألمه وبلاءه. وحيث كان كريستيان، وهو أقام عقوداً في بلاده هذه، لا تتناقض الافعال والروايات والاحكام، ولا يدفع بعضها بعضاً، ولا تترتب على مراتب الصدق والاحتمال والاستحالة. و"التناقضات الداخلية" كانت ديدنه أو ديدن مقالاته وخطابته. فلا الأخيلة تخييل وشطح ولا الوقائع والحوادث مقصورة على ما هي وعلى أكوانها. فلم يعر انتباهاً، وأقنعنا بألا نعير انتباهاً هذا الرفيق الغريب الذي يصوغ في عبارات التوسيرية وسبينوزية، فولاذية المباني والبراهين، أهواء وانتشاءات رامبالدية. فكنا في حضرة رؤاه أعياء ومقيدين ومقعدين، على شاكلة ذلك الاوروبي النازل في قبيلة غابونية افريقية اشهده راقصوها ومحاربوها على رقصهم الحربي. ولم يغره الامر، ولم يدعه الى التعليم والتدريب والدعوة، وهو العارف أن الحياة الحق هي ربما على الدوام هناك أو هنالك، والمنكر أشد الانكار وأقواه نزوحها هذا و"حقها" فيه. فالتقت "ثورته"، الثورة (البروليتارية وثورة مستضعفي الارض ومعدميها والحفاة العراة)، بفكرة الثورة ومثالها المحدثين والمرسلين لا إلى غاية ولا إلى صورة.