الجمعة، 28 أغسطس 2009

الدعوة القومية - الاسلامية الى الإجماع على «المقاومة» تنزع عن الدولة الوطنية صفتها السياسية والدستورية


الحياة- 27 /8/ 2009

تنيط «حماس» علاقتها بالسلطة الفلسطينية، والخطوات والاجراءات الآيلة الى توحيد شطري الكيان الوطني الفلسطيني الممزق وهيئاته، تالياً، بمسألة أولى تتصدر المسائل الأخرى هي اطلاق معتقلي الحركة الاسلامية «السياسيين» في سجون سلطة رام الله، على قول الحركة. ومع كل مسألة - من حوار المنظتمين الكبيرتين، «حماس» و «فتح» غداة كارثة غزة، الى الاعداد للانتخابات الرئاسية والتشريعية في أوائل 2010، وبين الحوار والإعداد انعقاد مؤتمر «فتح» السادس وتجديد اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية - اشترطت الحركة الاسلامية الحاكمة في غزة على حكومة السلطة في الضفة الغربية، وعلى «فتح» من ورائها، «تحرير» أسراها من الأسر. وهي تحصيهم بـ 700 أسير، وتجمعهم الى أسرى السجون الاسرائيلية ومعتقلي هذه السجون، وفيهم أسرى «فتح» والمنظمات الحليفة أو القريبة. وكان حؤول «حماس» بين مندوبي «فتح» الى المؤتمر العام السادس وبين السفر الى بيت لحم، وتعطيل اقتراع المندوبين في انتخابات المؤتمر الختامية من طريق الهواتف النقالة، اجراء أرادته المنظمة الاسلامية رادعاً في حق «فتح» والسلطة، واقتصاصاً سياسياً من احتفاظ الاثنتين، وهما واحد في نظر الحركة، بمناضليها أو ناشطيها في الأسر السياسي.
وترد السلطة غالباً على هذا رداً مرتبكاً. فتنفي عن المعتقلين أو الموقوفين الصفة السياسية والوطنية. وتنسب اليهم، على ترد وتلعثم، أعمالاً جرمية عادية، أو تسوغ اعتقالهم بضبطهم وهم يخططون لاغتيالات على شاكلة خطة اغتيال محمود عباس في كمين نصب غير بعيد من المقاطعة، عشية سلخ «حماس» غزة عن السلطة وانفرادها بحكم القطاع. ونفت المنظمة المتهمة التهمة، ولا تزال على نفيها. ولا يتستر النفي على مطالبة «حماس» لناشطيها ومقاتليها في الضفة الغربية، بصفة سياسية تحملهم على «المقاومة»، قاتلوا ادارات السلطة و «فتح» أم قاتلوا القوات الاسرائيلية المرابطة، منذ 2002 وعملية «السور الواقي» إما داخل المدن والبلدات التي كانت القوات أخلتها أو على حدود المدن والبلدات هذه.
ومطالبة «حماس» لناشطيها ومقاتليها، في الضفة الغربية وفي غزة وبإزاء الاحتلال الاسرائيلي والسلطة الوطنية (أو «الاحتلال» الوطني)، على حد سواء، بصفة سياسية تعمهم كلهم، وتعم أعمالهم، هذه المطالبة تترتب على أصل وركن سياسيين جوهريين. فقول «حماس» أن معتقليها في الضفة الغربية هم معتقلون سياسيون يطعن في السلطة الوطنية، وينكر على الرئاسة والحكومة الفلسطينتين برام الله تذرعهما بصلاحياتهما الحكومية (السلطة) وغير الفصائلية (الوطنية) الى تعقب واعتقال من تعتقلهم، ثم الى مقاضاتهم ومعاقبتهم وانفاذ الأحكام فيهم. وتنزع «حماس» عن السلطة سندها القانوني والسياسي، وتحيلها الى أداة متعسفة بيد فصيل «فتح». وتجعل من الاعتقالات رداً ثأرياً أو «أهلياً» على سلطة «حماس» المنتخبة، والفائزة بالأغلبية والحاكمة باسمها. وعلى هذا، فإثبات صفة الحمساويين السياسية ينزع عن معتقِليهم وسجانيهم الصفة هذه، وينسبهم الى فصيل أهلي يناهض المنظمة الاسلامية ومجاهديها وجهادها.
وتصيب التهمة من «فتح» وجمهورها، ومن السلطة وأجهزتها الادارية والأمنية ومواطنيها، جرحاً لم يلتئم، وتثير شجوناً ملحة. والبرهان على أثر التهمة بعض مناقشات مؤتمر بيت لحم، وتصدي شطر غير قليل من المؤتمرين لتعريف «فتح» أو تجديد تعريفها بـ «حركة تحرير». ويجيز التعريف المتجدد والمستأنف هذا، على ما كرر بعض وجوه المؤتمرين على الشاشات التلفزيونية، بعث «المقاومة المسلحة» شكلاً مشروعاً من «أشكال المقاومة كلها». والذين خلصوا الى النتيجة هذه حمّلوا السياسة الاسرائيلية ومراوغتها وتعنتها، تبعة النتيجة والاضطرار اليها. وذكر بعض آخر، من طرف خفي، بإسهام «فتح» في «المقاومة المسلحة» ومنظماتها الكثيرة، وإعالتها بعض هذه المنظمات والأجنحة. ووسع زكريا الزبيدي، أحد المطلوبين البارزين وأحد وجوه جيل «فتح» الجديد، القول أمام العدسات أنه «مشروع شهادة» قبل أن يكون قيادياً شاباً تعول عليه «فتح» في مداواة الأفول والهرم والقعود. وأخيراً، انتخب المؤتمرون الى اللجنة المركزية بأصوات فاق عددها عدد الأصوات التي حازها الأعضاء الـ 17 الآخرون، المسؤول التنظيمي، أبو ماهر غنيم. وعميد اللجنة المركزية الجديد هو من معارضي اتفاق أوسلو، ركن السلطة الوطنية والذاتية الفلسطينية. وأخرج المؤتمرون من اللجنة المركزية العتيدة مفاوض اتفاق أوسلو الأول، أحمد قريع. وحُمل التنديد هذا على الفساد وليس على السياسة.
وهذه قرائن على ترجح لم تبرأ منه «فتح»، شأن جماعات عربية سياسية كثيرة، بين «الثورة» و «الدولة» على ما كانت خطابة الستينات تقول. وتترجمه خطابة اليوم ترجحاً بين «المقاومة» وبين «أميركا» أو الاستسلام. ويقود هذا «فتح» وحلفاءها في السلطة والحكومة الى التستر على السياسة التي تنتهجها في الضفة، ويضطلع بها سلام فياض (غير الفتحاوي)، غيرَ مقتصر على التنفيذ أو التقنية الادارية. ويتولى فياض في المناطق التي ينازع الاسرائيليين عليها، ويسهر هؤلاء على أمنهم فيها، توفير شروط حياة يومية ومدنية بمنأى جزئي من سيطرة المسلحين، ومن زج الشارع والأهالي في منازعاتهم ومناسباتهم واحتياجاتهم «الأمنية». واقتضى هذا من خبير البنك الدولي السابق حماية أجهزة الادارة المدنية والبلدية والاقتصادية والاجتماعية والقضائية - والقضاء ليس ادارة - من تسلط «جماعات الأمن» على ما يسميهم الفلسطينيون. وحمل أجهزة الأمن على تولي أمن المواطنين والناس وليس الاقتصار على أمن قادة الأجهزة و «كوادر» المنظمات السياسية والمسلحة من طريق استدراج المنظمات المعادية الى القتال أو الاقتتال.
واضطر نهج فياض «فتح» وقياداتها وضباطها وموظفيها وجمهورها الى بعض الاعتدال وبعض الانضباط. وقبول الفتحاويين (بعض) الاعتدال والانضباط جزء من دفاع «فتح» عن نفسها ودوامها. وعاد هذا النهج على السلطة الوطنية بتأييد «شعبي» معتدل كذلك ومتواضع. وهو يحظى بتأييد أميركي وأوروبي حار، وببعض الرعاية الاسرائيلية. فإلى مصلحة الأطراف الثلاثة في امتلاك محمود عباس، و «فتح» محمود عباس وحلفائه، قواماً غير متهاو بإزاء بنيان «حماس» الأهلي المرصوص، ينفذ سلام فياض، فعلاً ومن غير دلالة إعلامية صاخبة، بعض بنود «خريطة الطريق» الأولى. وحين يدعو فياض الى اعلان دولة فلســـطينية من طرف واحد، في 2011، فإنما يربط الانجاز الوطني والأمني بانجاز سياسي مرجو يسوغه الشــــق الأول.
ويتصدر بنود «الخريطة» على ما معروف، بند محاربة الارهاب. وحمل البند هذا على الجد يدعو رئيس الحكومة، ومن ورائه رئيس السلطة وقادة الأجنحة والبيروقراطية الأمنية و «الأعيان» والتجار وبعض الجمهور، الى تعقب ناشطي «حماس» وحلفائها وأقنعتها.
ومئات المعتقلين والموقوفين الحمساويين في الضفة الغربية هم فعلاً مقاتلو «حماس» وناشطوها ومفتوها وخطباؤها ودعاتها وأطر جمعياتها ومدارسها، أي عدتها العسكرية والسياسية والاجتماعية. وهم في خدمة سياسة «حماس» وخطها الجهادي الأهلي، ونقضها على خط السلطة الفلسطينية المفترض، والمترتب على قبولها (المترجح) «خريطة الطريق». ولا ريب في أن فوز «حماس» الانتخابي في 2006، على رغم جزئيته ودَيْنه الى تصدع جسم «فتح» ومنازعاتها فوق دينه الى التأييد السياسي، توج بنيان «حماس» الأهلي العسكري والأمني، واسبغ عليه مشروعية «الدولة» الى مشروعية «الحركة». ولا ريب، من وجه آخر، في أن النصر الانتخابي أرسى الانقسام الفلسطيني على بنية تحتية أهلية جرّت الخلافات كلها الى الأسر الأهلي، وحالت بين المتنازعين وبين الاحتكام الى مرجع سياسي ووطني مشترك.
ويبلور الانقسام الفلسطيني القائم والمزمن، على النحو الذي أتمته «حماس» في 2006-2007 ثم في الحرب التي استدرجتها على غزة في 2008-2009، نهجاً عربياً - اسلامياً «شرق أوسطياً» توالت المنظمات الفلسطينية ثم السياسة السورية فالسياسة الايرانية - السورية، على حضانته ورعايته. وكان لبنان واللبنانيون، بعد الاردن، مختبر هذا النهج، ولا يزال (ولا يزالون). وركنه الأول فصل الدولة الوطنية، شعباً وجماعات وهيئات تمثيلية وأجساماً ادارية وعسكرية وأمنية، عن مصادر مشروعيتها، وشق المصادر هذه، وأولها «الشعب»، عن الدولة ومعارضتها به. و «الشعب» هذا ليس الشعب السياسي، المتفرق أحزاباً وآراء ومصالح وبلاداً وأحلافاً تجتمع على تحكيم شرعة مشتركة في خلافاتها، بل جزء «الأمة» الاسطوري والثابت على توكيله قيادة الأمة سوسه وأمره الى قيام الساعة («الأبد» الأسدي و «الإلهي» الخميني الحرسي).
ويترتب على الفصل والشقاق هذين تكفير الدولة الوطنية، ونسبتها الى «جاهلية» قومية أو دينية، علمانية ودولية عربية. ويستقيم الفصل والشقاق من طريق تخندق حزب أهلي، مذهبي ومحلي و «عامي» جماهيري ومنظم (على معنى التأطير والسوق)، خندقاً واحداً ومتصلاً. و «حزب الله» في لبنان هو مثال الخندق الأهلي القريب من الكمال الذي يقسم الدولة الوطنية خنادق، ويقصر الدولة على خندق منها يستوي والخنادق الأخرى في العموم السياسي، أو يقل عنها. ويقوم الخندق الأهلي نقيض الدولة، ويحتمي بها، وبحقوق انسانها، من تبعات سياسته على الأمن والحريات والاقتصاد. وتنحو «حماس» هذا النحو، ويؤخرها ربما ضعف مواردها الأهلية، وافتقار الفلسطينيين الى التراث التاريخي والاجتماعي والثقافي الذي يتوافر اللبنانيين، ويفرقهم شيعاً وأهواء وينفخ في عزائمهم المبددة معاً.
ونوع الإجماع على «المقاومة» الذي تدعو إليه «حماس» و «حزب الله»، وعلى «دولهما» الراعية، إجماع على النمط الأسدي والنجادي الحرسي، لا يتوافر في الأحزاب السياسية، ولا في المجتمعات أو البلدان التي لا تحكمها عصبيات أهلية متسترة بأقنعة الدولة والهيئات والدساتير وتمييز السلطات بعضها من بعض. وعلى شاكلة «حماس» و «حزب الله» و «الجهاد» («وقواعده») و «جيش المهدي» و «جندالله» و «عصائب الحق»، يقتضي دوام المنظمات - الكيانات هذه، ووحدتها المرصوصة و «أمنها»، تعبئة متصلة لا تسوغها غير حال الحرب، الحقيقية أو المحتملة. والدولة أو السلطة التي لا تمتثل لحال الحرب هذه، ولا تسوس بلدانها وجماعاتها بسياسة الطوارئ والاحكام العرفية، تقوم بوجهها خنادق أهلية هي أشبه بـ «المناطق المحررة»، التي ترعاها حركات التمرد والثورات المسلحة في أميركا الجنوبية أو في افريقيا وآسيا الوسطى، سابقاً واليوم. وانفصال «حماس» بغزة، وتمردها على السلطة الوطنية، خاتمة متماسكة مع السياق الذي ولدت «حماس» منه. ورفضها الإقرار للسلطة برام الله، ولاجراءاتها، بصفة سياسية ودستورية، ينجم عن رفض الاقرار بسلطة تعلو سلطة الحرب الأهلية وغلبة فريق أهلي على فريق آخر وسحقه.
وانتشار عدوى الخنادق اللبنانية، من الخندق الخميني الشيعي الى طيف الخندق العوني المسيحي فالخندق الجنبلاطي الدرزي (وهذا يدعو السنّة الى ألا يكونوا «طائفة» ساعة إعلانه «خصوصية» جماعته)، سلاح ماضٍ في وجه تسلل المنازعة السياسية الى العصبية الأهلية. وعلى هذا، سوغ أحد الوزراء الدروز «الشباب» «خطة» صاحبه «السياسية»، على ما سماها (صحف 23 آب/اغسطس المحلية) بالقول: «أعتقد بعض المنظرين أنه ربما أصبح التقديمون الاشتراكيون (أي الدروز - الكاتب) يؤيدونهم ولا يؤيدون وليد جنبلاط. أعتقد بعض المنظرين أن أنصار وليد جنبلاط وجمهوره قد انفكوا عنه وبالتالي هذه وسيلة من وسائل الضغط للتأثير في موقف وليد جنبلاط». فما يرفض «نصير» وليد جنبلاط احتماله في «الجمهور» الجنبلاطي ترفضه العصبيات الأهلية الحاكمة في جماعاتها و «دولها» ومناطقها. فإذا لم يسعها الاستيلاء على الدولة، ولا الانفصال بجزء من الاقليم، استدخلت الدولة بـ «المقاومة» والحرب والعروبة والتحرير والمراوغة والوسطاء

الثلاثاء، 25 أغسطس 2009

سيرة الواحد الفرد في مهبّ حوادث الاجتماع والتاريخ «العربيّين» المعاصرين


المستقبل - الاحد 23 آب 2009 2


قبل ثلاثين عاماً، توفي، ببغداد، محمد شرارة، أو محمد الشيخ علي شرارة، أبو ابراهيم، عمي، عن 74 عاماً. وقبل ثلاثين عاماً، حين وفاته ببغداد العراق، بلده الثاني أو الأول أو الأول الثاني معاً، على هوى الأوقات والأحوال، بدت الكتابة في رجل ليس غير عم الكاتب، تطفّلاً على القارئ وتجاوزاُ. فللقارئ مشاغل ليس فيها قرابات الكاتب المتطفل، من بقي منها ومن رحل ومن يزمع رحيلاً ووداعاً. ولكن أبا ابراهيم محمد ابن الشيخ علي شأنه ليس شأن والدة المتنبي و«أبيها الضخم». وليست قرابته ذريعة الكتابة والتأريخ. فسيرته - «محمد شرارة/ من الإيمان الى حرية الفكر» بقلم بلقيس شرارة، عن دار المدى (دمشق وبيروت وبغداد)، 2009 تتناول «مفترق الأشياء الفريد»، على قول أنطونان آرتو في المرء الفرد، الذي كانه (المفترق) وكانها (الأشياء والوقائع والناس). وهي تتعقب خطو رجل، أو امرءٍ، جِبِلّتُه الناس جميعاً»، على قول جان بول سارتر في نفسه، وعلى ما كان المترجَم وصاحب السيرة أحب ان يقال فيه، وأن يصدق القول فيه، وأظنه صادقاً.[ الحال الجمهوريةوالمفترق الفريد هذا، والجبلة، شطر منهما أعرفه من قرب، وعن كثب، على ما تزعم بعض طرق القول وأماشيها على زعمها. ولا يقتصر الأمر على المعرفة. فهو يتعداها الى الاشتراك في الصنع، وفي الكون. فبعض «الأشياء» التي كان عمي مفترقها، أو اجتمعت عنده، وكانت سيرته وحوادثه وليدة اجتماعها وانعقادها عليه، هي «أشياء» تحدرت الى الكاتب، أنا ابن اخيه الشقيق على مضض شديد (شأن «الأنساب» المشكلة وبقيتها في دوامة حياة المدن وأهوائها؟). ولم يقتصر تحدرها عليّ، بديهة. وإلا دخلت فيما يدخل فيه ما لا يهم غيري، وحق فيها القول انها غير مهمة، ولا تدعو الى الهم على الملأ ورؤوس الأشهاد، وإلى الكتابة والمداولة. فهي جزء من عوامل في مصائر عامة ومشتركة. وهي بعض وقائع ماض يمضي شطر منه خفيفاً وبديداً، وشطرٌ أو بعضٌ آخر لا يمضي على قول مؤرخ فرنسي في الحقبة «الألمانية» من تاريخ مواطنيه. وهذا شأن المواضي التي يعصى تعقلُها وتدبرها وفهمها «اصحابها». فحكمها التكرار والبقاء او الإزمان فكرة في الذهن والصدر تلح وتعود على بدء. ومن تلح عليهم الفكرة المزمنة واللعينة يعيدون على انفسهم رواية الحوادث، بدايتها وسياقتها، على نحو يخلصهم من تبعات فعل فعلوه وأتوه، أو يزيح عنهم تبعات إمساك عن فعل أحجموا عنه، ثم يعودون الى الإقرار المعذب بالفعل أو الإمساك، ويرجعون عن الإقرار به، لا إلى غاية أو قرار (وليس هذا وصفاً لحال مقدَّم مذهبي لبناني ومن مقدمي حروب الأهل والمقدمين، تنتابه تصورات «تاريخه» نوبات موجعة يشفى منها ثم تراجعه).والتعقل والتدبر والفهم، وإيقاعها على الوقائع التاريخية، ليس، على وجه الدقة، من هواجسنا وشواغلنا الجماعية أو الفردية، وليست مما يقض مضاجعنا. ونحن، إذا جاز الإطلاق، قلما نحمل أفعالنا على أفعال، أي على اجتهاد رأي وعلى حكم تلزم مترتباته وذيوله صاحبه، على نحو ما يلزمه اعتقاده مسوغات الرأي ومقدماته. فالأفعال صدرت عن «الكبراء» أم عن «العامة» والجمهور، هي أعمال أوجبتها معتقدات، على ما يحسب «المثالي»، أودعت إليها ضرورات لا فكاك منها، على ما يحسب «المادي». ولعل من الأمور الثمينة في سيرة المترجَم، ابي ابراهيم محمد بن الشيخ علي شرارة، تواتر الأفعال والاجتهادات في وقائع حياته، وتوليه أفعاله واجتهاداته هذه، وتحمله التبعة عنها، وكتابته في أحيان كثيرة رأيه فيما حصل، وفيما قر قراره عليه. وهو في معظم احواله كان امرءاً سائراً، أو من الجمهور، «في الناس لا شرط ولا أنصار»، على قول محمد مهدي الجواهري مجايله وصاحبه وربما صديقه في بعض الأوقات. وجمع، الى حاله الجمهورية والعامة، التعقيب كتابةً، والتعليل والتسويغ والوصف. فهو شاهد مدوِّن على خروج المرء العامي، العربي لساناً وثقافة وانتساباً أو نسباً سياسياً وبلاداً، من الأجسام الجمعية ومبانيها القديمة والمولَّدة الى مبانٍ مولَّدة أخرى تلتمس، على تراجع واضطراب شديدين، طرقها ومنطقها وعملها في حقول أنقاض غامضة المعالم، على أضعف القول.فالفتى المولود ببنت جبيل في عائلة يتوارث بعض أسرها طلب العلم (الديني) الإمامي، إما في مدارس جبل عامل، أو في النجف أو في بعض مدن ايران، بينما تشترك أسرها الأخرى، والغالبة عدداً، في أبواب المعاش المعروفة مثل التجارة والزراعة والحرف والكد، لحق بالنجف غداة الحرب العالمية الأولى، طالباً. وكان يومها في الخامسة عشرة. وشهد في موطنه الأول، يوم لم يكن الموطن لبنانياً بعد، بعض وقائع السلطنة العثمانية في نزعها الأخير وحربها العظيمة. ومن الوقائع هذه التجنيد، والفرار منه والتخفي، والقحط والجوع وغلاء الأسعار. وحين نزل الفتى العاشق (على الملأ)، والمنازعُ والدَه على عشقه وحقه فيه، العراق، كانت ذيول ثورة العشرين، ومقاومة عشائر الفرات إصعاد القوات البريطانية من ميناء البصرة وشط العرب الى بغداد، أصداءً في الأخبار والروايات. ونصبت الدوائر البريطانية فيصل بن الحسين، شريف مكة السابق، ملكاً مفترضاً جامعاً على بلاد رافدين لا تحصى منازع أقوامها وأنسابهم ومذاهبهم وخلافاتهم ومصالحهم وأحلافهم، على قول العامل الأموي الثقفي القاسي «فيهم» قبل 13 قرناً (يومها).[ رسومُ العامةودرس الفتى المهاجر الى البلدة العراقية «علوم الدين» طوال 15 عاماً توجتها إجازة الاجتهاد. وفي الأثناء، في 1930، عاد الى لبنان الجنوبي، وبنى بإحدى بنات آل الزين. وعاد عريساً، في الخامسة والعشرين، الى المدينة الترابية والكالحة. وفي منتصف العشرينات منح الجنسية العراقية مع «مهاجرين» آخرين مثله، فيهم وأولهم فيصل بن الحسين، الحجازي مولداً وإقامة. وحين بلغ درجة الاجتهاد في الفقه، وتخوله إجازته هذه الانتصاب الى إمامة اهل قرية أو بلدة أهلها شيعة إماميون وجعفريون مثله، ترك العمامة وعلمها، وما تجيز له من «حق» في «الحقوق» التي يؤديها المأمومون الى شيخهم. وكانت ذريعة الترك ضعف أود المأمومين وعسرهم، وهم اهل ضيعة قريبة من بلدة المعمم الشاب. وتبطن الذريعة دواعي كثيرة أخرى مثل رغبة «العالم» في مباشرة حياة شخصية وعائلية ومهنية وعامة بعيدة من رسوم «العلماء» السائرة والمعروفة. فهو أديب فوق ما هو فقيه. وهو زوج ووالد وصديق وقريب وصاحب فوق ما هو مفت ومدرس. وبدت له دواعي الاختلاط بالمتعلمين الموظفين، وهم معظم «الفئات المتوسطة» في مجتمعات الدول الناشئة غداة الحرب الأولى، ومشاطرتهم اختيار وجوه العيش المحدثة والطارئة في السكن واللباس والمخالطة والمصاهرة والمحادثة وتربية الأولاد والاضطلاع بدور عام بدت له الدواعي هذه أقوى من دواعي التزام سمت «العالم» المعروف والموروث والثابت.فخرج من سلك المعممين الفقهاء والمدرسين «العلماء» الى خليط لا يضبطه سلك. فزاول تعليم العربية وآدابها في مدارس وزارة المعارف العراقية. وتنقل بين مدن العراق، جنوب بغداد وشمالها وببغداد نفسها. وكتب في صحف محلية. ومال الى رأي «الإصلاحيين» و «النهضويين» و «التطوريين» و «التقدميين». وهو رأي عام، على معنى العمومية غير المقيدة بفروق تولت منازعاتٌ ومناقشات علنية وطويلة بلورتَها في أعمال ومذاهب. واشتركت في الرأي العام هذا، في صوغه وفي بثه وتلقيه بالقبول، جماعات مختلفة المصادر الأهلية والمرتبية والاجتماعية والبلدانية، وعلى استواء ثقافي بلغ حد التجانس. والقول ان المعمم العاملي النجفي، شأن بعض أقرانه القلائل، خرج على الهيئة الدينية الفقهية والعلمية وقام أو ثار، مبالغة تاريخية واجتماعية (على معنى الاجتماعيات). فلم يتبع تركَ العمامةِ والانتصابِ للفتوى والتحكيم في معاملات «رعية» ريفية وعباداتها، لا نقد للعقائد، ولا شقاق على أركان الاجتماع «القديم» ولا مفاصلة مع اهل هذا الاجتماع. ولم يكن حتى طلاق بالحسنى بل انصراف كل في سبيله وكأن عقداً لم يعقد بين المتعاقدين السابقين. وإذا كان ترك بعض المعممين الإماميين الشبان العامة في العقد الرابع من القرن الماضي عَرَضاَ من أعراض أحوال التدين الجديدة، ومرآة انعطاف دنيوي ومدني، فالأرجح ان تفوقه دلالة وخطراً أعراضٌ أخرى مثل تخلي طلبة محتملين من أبناء أسر «علماء» معممين عريقة وراسخة، عن طلب «العلم». وهذا ظاهر في بيان أعداد طلبة النجف، وضمور هذه الأعداد في منتصف العقد السادس، على ما أرخ حنا بطاطو على عجل. وعاصرت الظاهرة هذه ترك نساء المدن المسلمات، الحجاب، ثم غطاء الرأس، ولبسهن تدريجاً لباساً «يصف» اجسادهن، على قول الرسول في ثوب ماريا القبطية. ولا ريب في ان ارتياد المدارس، ثم العمل بموجب كفاءة مدرسية، الى اتساع الإدارات، وتعاظم مرافق السوق والهجرة من الأرياف واكتظاظ المدن واختلاط أهلها، تظاهرات انقلاب العلاقات الاجتماعية انقلاباً حاداً لا يأتلف معنى واحد من سيروراته المتفاوتة.ولم ينته الأمر بالنجفي السابق، ومدرس اللغة العربية وآدابها، والكاتب الصحافي المتأدب، الى الانخراط في الحياة السياسية الحزبية، «نصيراً للسلم» شيوعياً و «ديموقراطياً شعبياً»، إلا في أعقاب عقدين من الزمن (عند انتصاف الخمسينات). وفي الأثناء، استضاف المدرس والأديب في بيته ببغداد، حلقة من الشعراء الشبان، نساء ورجالاً، في سن طلابه أو فوق هذه السن بقليل، كانوا في اوائل من طووا الشعر العربي التقليدي، بناء وعروضاً وموضوعات وتعريفاً لمحل القول الشعري من المقالات «الأدبية». وفي المسألة الأدبية هذه، شأن المسألة «الدينية» من قبل، غلبت الرسوم الاجتماعية والثقافية، مثل علاقة الأجيال بعضها ببعض والاختلاط بين الجنسين واتصال عمل النشر والطباعة بدوائر التعارف وحلقاته وهي في طور لم «يؤلّف» جمهوراً من القراء والمتذوقين بعد. فمضيف الحلقة التي عدت فيمن عدت بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وبلند حيدري وعبد الوهاب البياتي وآخرين، لم يشارك المتحلقين «عملهم» الشعري، إذا جازت الكلمة في المعرض هذا. ولم تربطه بهم أواصر الكتابة، أو «الإنتاج» على ما قيل من بعد، ولا التسويغ الثقافي والنظري. وهو بقي في ما كتب ونظم - فهو استمر ناظماً على بحر وقافية، وعلى مديح الراوي في القافية - بقي على منهاجه «النجفي» المعتدل.[ التقطع والعودة والهجرةوالاعتدال الديني والأدبي والاجتماعي والتربوي والسياسي، وميزانه على ما مر رأي إصلاحي ونهضوي وتطوري وتقدمي، لم يحفظ المترجَم من نوائب العصر حين عصفت عواصفه، واحتدمت منازعاته. فاعتقله الأمن الهاشمي السعيدي (نسبة الى رجل العراق القوي نوري السعيد) عاماً من غير تهمة غير الرأي. وطرده من عمله. ولاحق بعض أولاده. وتنازعه انقسام الحزب الشيوعي العراقي فريقين يبدع واحدهما الآخر، ويحكم فيه بالردة، ويؤلب الأولاد على الآباء. فاضطر المدرس الكاتب، ومضيف الأصدقاء والصحب، والحزبي اخيراً، الى ترك وطنه العراقي وفيه أسرته وأقرانه وأصحابه، وهو كان قضى فيه 35 عاماً، الى بيروت. ومذذاك توالت فصول التنقل والتقطع والعودة والهجرة طوال العقدين المريرين من تاريخ العراق المعاصر. فبعد أعوام من العمل المرهق في تعليم مدرسي «جماهيري» ببيروت، سافر المنفي الى عراقه وإلى دوامة منازعات البلد المذهبية والقومية والحزبية المسلحة والعنيفة.وانقلب طلب الحرية والاستقلال عن يد ضباط الجيش التقدميين والناصريين والبعثيين القلائل، بذريعة اشتداد وطأة القمع السعيدية (وهي اشتدت فعلاً وحقيقة)، كابوساً ثقيلاً من الاقتتال والانفجارات والاغتيالات والعداوات المتأججة والانقلابات المتربصة. ولم يسلم المعلّق الصحافي السياسي من عداوة جيرانه الناصريين ونقمتهم. فرماه بعض أولادهم بالحجارة. وأعاده «العهد» التقدمي، القاسمي، الى السجن. وفصله من عمله. ودب الانقسام في الحزب الشيوعي العراقي. وكثرت الاغتيالات من غير ان يتضح من يأمر بها، أهو جهاز محترف أنشأه رأس الحكم العسكري أم جماعات منشقة يورط بعضها بعضاً، وينتقم بعضها من بعض. فاستجاب الكاتب الخارج من السجن لتوه، والذي حاول حزبه توريطه في توقيع مقالات تعلن الشقاق على عبدالكريم قاسم، نصيحةً بمغادرة العراق. فسافر الى الصين مدرساً ومترجماً ورقيباً، ومراقَباً، حين شب الخلاف الصيني السوفياتي. وعرت الصين الماوية حمى ظهرت نذرها في 1961 1962 وأوردتها مورد الثورة الثقافية، أي الحرب الأهلية والاجتماعية الحزبية التي لم تخرج منها فعلاً إلا في 1978. وشهد المنفي منجزات «الماركسية اللينينية، الستالينية والماوية، تزمتاً وصرامة بدا التزمت والصرامة النجفيان، قياساً عليهما، يسراً وأنساً. وهالته القسوة السارية في ثنايا علاقات الناس بعضهم ببعض، وفي جنباتها، ومن القرائن عليها دوام حراثة الأرض على ظهور البشر وأكتافهم ورقابهم. فأنكر ما رأى وما خمّن. واستعجل السفر، مرة أخرى.وكانت المحطة القريبة والمتاحة هي موسكو، حيث إحدى بناته. وهي الناشطة الحزبية، والشيوعية منذ فتوتها. ومر بموسكو عائداً الى لبنان، أي بيروت. وفي المقارنة ببكين وجوارها، بدت موسكو واحة مدنية وإلفة وفساد، معاً. ولكن المدينة لم تدعه الى نزولها طويلاً، ولم تستمله. وتعذرت عليه العودة الى العراق الممزق والمتناحر، والخارج من انقلاب الى انقلاب. فرجع الى مقامه البيروتي المضني والكئيب والهامشي. وبقيت أسرته، أو معظمها، ببغداد في مهب حرب أهلية ومذهبية و «عقائدية»، أو إيديولوجية، مرسلة لا تقر باسمها وحالها، ولا مخرج منها، ولا قيد عليها من غير اقتتال جماعاتها اقتتالاً إفناءُ العدو أفقُه الأقرب. وكانت الحملة الأميركية والغربية، «الصدم والترويع»، غداة 40 عاماً، المخرج المتاح. وحين عاد البعثيون، واستولوا على حكم العراق، في 1968، ترك المدرس اللبناني العراقي بيروت الى بغداد، وهي مرة أخرى مسرح ثارات قديمة ومتجددة. وحف موت بعض أقرب الأهل، بالعودة الرابعة أو الخامسة. واضطر الى «عودة» أخرى، في 1974، عشية انفجار لبنان وتصدعه المزمنين، الى بنت جبيل. وأقام بها الى 1977، بمنأى من بيروت. وعاد الى بغداد. وبعثرت الاعتقالات والاغتيالات المقنعة الأقرباء. وأفضى التواء كاحل الى موت عاجل و«هادئ» في المستشفى. وانتقل الميراث العراقي الثقيل الى بعض الذرية. فحمل «الغسق» بقية الرجل الأقرب إليه على اختيار الموت.وعلى هذا، تنقَّل، والأدق القول ترجح (ابو ابراهيم) محمد الشيخ علي شرارة في أثناء ثمانية عقود لم تتم، استهلها أو استهلته مع أوائل القرن العشرين، وطواها أو طوته مع انعطافة القرن «القصير» (1914- 1991 بين بداية الحرب الكبيرة الأولى وبين نهاية الحرب الباردة، على قول أحد مؤرخيه) صوب خاتمته الوشيكة، ترجح بين بلدات ومواطن وعوالم وحوادث (وأصحاب) شديدة التباين. فكان مفترقها الفريد وملتقاها، على ما تقدم القول، وكانت الجبلة التي جبل منها، واستوى صورتها التي لا يشاركه أحد في «نوعها». والفرادة هذه ليست امتيازاً ولا مكانة، على خلاف التلويح الرومنطيقي والجبراني بها. والعودة إليها ليست من هذا الباب. وهي مشكلة ومسألة فوق ما هي مفتاح أو تعليل. فمن تروى سيرته على النحو الذي تقدمت روايتها عليه قد لا يخرج من الرواية إلا بركام مفهرس أو غير مفهرس من أسماء الأعلام والأماكن، ومن الوقائع والحوادث المؤرخة، وثبتٍ بالكتابات والآراء والمشاعر. وبين هذه وتلك يصل اسم علم هو مادة في معجم مواد. وحال الركام والبعثرة والجوار المحض تلازم السيرة، وهي مبنى أول من مبانيها، وحكم ما لا يصدر عن ضرورة، شأن المُحْدَث كله، على قول المتكلمين.ورواية سيرة «كاملة» ومفصلة، خاصة وعامة، جواباً عن سؤال: من (يكون) فلان؟ هذه الرواية، والاضطرار إليها ليستقيم الجواب، هي من أعراض دخول مجتمعاتنا «العربية» فصلاً فردياً وسِيرياً من تاريخها الاجتماعي. فلا يستوفي معاني الفصل هذا الكثيرة والمحتملة انعقاد الرواية على الأبواب أو العوامل المفترضة، الجمعية والمجملة المعروفة، مثل الجماعات الأهلية والبلدان والمهن. وتطرق رأي الواحد، وهو في هذا المعرض المترجَم، وأهوائه ومنازعه الى انتهاج هذه الطريق أو تلك، والمضي عليها أو الميل عنها الى أخرى قريبة أو بعيدة، من القرائن على كثرة العوامل والموارد في السيرة، وتفرقها.

الجمعة، 21 أغسطس 2009

حزام أمان الدور الإيراني الإقليمي الراجح وضمان دوام القيادة «الإسلامية

الحياة- 13 أغسطس 2009

اندلعت حرب صيف 2006، قبل ثلاثة أعوام، بمبادرة من حزب «المقاومة الإسلامية»، الشيعية الخمينية، في لبنان. وكان الإيذان بها مهاجمة قوات الحزب الشيعي المسلح دورية اسرائيلية وراء خط الحدود الدولية، وهذا رسمته لجنة من الأمم المتحدة والجيش اللبناني غداة انسحاب القوات الإسرائيلية المحتلة في عام 2000. وتذرع الجيش الإسرائيلي بابتداء المنظمة الأهلية المسلحة الهجوم، وانتهاك الحدود والهدنة المضطربة، فأراد «سحق» المنظمة المهاجمة في حرب محدودة. وأعدت المنظمة الأهلية المسلحة دفاعاً قوامه 1 - مهاجمة العدو، قوات وأرضاً وسكاناً، داخل حدوده، و2 - التحصن من سلاحه الجوي وقوة نيرانه بالبلدات والسكان، وهؤلاء ارتضوا القيام من المنظمة محل الدرع الواقية، و3 - الزام الحكومة الدستورية التضامن مع القوة الأهلية المهاجمة، واحتسابها قوة وطنية، وتمثيل مصالحها بإزاء المجتمع الدولي على الصفة الجامعة والمشتركة هذه.
وآذنت حرب «حزب الله» واسرائيل بسياسة اقليمية وداخلية (لبنانية) من صنف جديد، خلفت «السلم» الإقليمي الذي رعته السياسة السورية منذ استيلائها على الدولة اللبنانية بعد اتفاق الطائف (1989) الى خروجها العسكري من الأراضي الوطنية، وجلائها عنها. فما رابطت قوات عسكرية سورية على الأراضي اللبنانية، وتولى موظفو دمشق وأنصارها المحليون إدارة الدولة وهيئاتها ومرافقها، كان جلياً أن الأراضي اللبنانية التي تحتلها القوات الإسرائيلية هي مسرح احتياطي وفرعي في الحرب «العربية» - الإسرائيلية الباقية، أي الحرب السورية - الإسرائيلية، المستبعدة منذ 1973 وغير المرغوبة. وعلى هذا، وسع ساسة سورية، ومعهم حلفاؤهم في ايران، خوض حرب منخفضة العنف، ولا يترتب عليها أثر في الميزان العسكري الإقليمي، هي من روافد الدور السوري الأسدي و «القومي» في المساحات الثلاث، ومن عناصر مفاوضة الحكم الأسدي المتطاولة الدول الإقليمية والقوى الدولية على مكانته ودوره.
وأنجزت الدولة العبرية انسحابها على رغم الإنكار والاحتجاج السوريين. وتولى الرئيس القادم، يومها، بشار الأسد، أحد أدواره السياسية التجريبية الأولى. فأنذر الإسرائيليين، إذا هم أصروا على انسحابهم من الأراضي اللبنانية، من غير اتفاق مع الحاكم السوري على «السلام الشامل»، وركنه الجولان، بـ «اضطرابات» لا تحمد الدولة العبرية عقباها، ميدانها الأراضي اللبنانية. ففي الأثناء، في الأعوام 1982 - 2000، رعت السياسة الأسدية المنظمة الأهلية العسكرية الشيعية. وتولى «الحرس الثوري» الإيراني، تحت عباءة المرشد ومن مال خمسه (على قول الشيخ صبحي الطفيلي، أمين عام «حزب الله» الرسمي الأول)، حضانة المنظمة، وتدريبها وتسليحها واصطفاء مراتبها وقياداتها. وعاد ريع الرعاية السياسية والاستخبارية، أو معظمه، الى الذراع السورية، واحتياجاتها المحلية والإقليمية، وأول الاحتياجات هذه حفظ الجولان، وتصدر «القيادة» السورية السياسة العربية في القضية الفلسطينية وفروعها الكثيرة، من لبنان وفيه. والمنظمة الأهلية والعسكرية الشيعية «اللبنانية» مفتاح البنيان هذا. ويدعو الى حمل التهديد السوري على محمل الجد، على ما نصح يومها ايفغيني بريماكوف، وزير الخارجية الروسي، دور الحاكم السوري في بناء المنظمة الأهلية العسكرية، وتحكمه في استعمالها.
فلما أجلى اللبنانيون، والسند الدولي الذي حظوا به، الشطر الظاهر والعسكري من السيطرة السورية، وثنوا بانتخاب مجلس نيابي خسرت السياسية الأسدية كلمتها الفصل فيه، وأقرت الحكومة الطلب الى الأمم المتحدة إنشاء محكمة مختلطة تتولى النظر في جريمة اغتيال رفيق الحريري وجرائم الاغتيال والترويع المتصلة بالجريمة الأم - تهددت الأمور هذه الانجاز السياسي والاستراتيجي السوري، ثم السوري - الإيراني، في لبنان بالتقويض. وركن الانجاز هو استقلال المنظمة الأهلية والعسكرية الشيعية بحكم طائفتها وبلادها، أو مناطقها، «نيابة» عن الدولة الوطنية والمشتركة وعلى رغمها، وانفرادها بإدارة السكان والأرض، أمناً وموارد ومجتمعات وعلاقات خارجية وولاية (أو هوية). وترتب عملياً على الاستقلال والانفراد ازدواج الدولة ومشروعيتها، وتعليق سلطاتها وهيئاتها، ورهن عمل السلطات والهيئات بقوة نقض مسلطة عليها، وتستظهر بأمر واقع متخلف عن تاريخ مديد من الحروب الملبننة في رعاية عروبية، فلسطينية وسورية، ثم ايرانية وارفة.
فكان على القوى الأهلية الشيعية المسلحة، غداة الجلاء السوري العسكري، تولي دوام ازدواج الدولة، وما ينجم عنه من تعليق السلطات والهيئات، وإبطال مفاعيل قراراتها ومفاعيل سياستها الجديدة والمستقلة. وأداة الازدواج ودوامه هي «المقاومة»، الوطنية والفلسطينية والعربية والإسلامية، تباعاً ومعاً. فهي مسوغ تدفق السلاح والمقاتلين والمال والمنظمات والسياسات على «أرض السيبة (السباء)» اللبنانية، ومسوغ «تعميمها» أخيراً. و «المقاومة» هي ركن مقارعة الدولة الانعزالية، «العاطلة» (وليد جنبلاط) والسياسات «الاستكبارية» (شيخ مدينة صور في القوة الفرنسية تحت لواء «يونيفيل»). وهي أداة دمج لبنان المنفصل في رحاب المنطقة العربية، وقضاياها الحيوية والعظيمة التي ينزع لبنان، كيانياً ووجودياً، الى نسيانها، والتلهي بقضايا ثانوية مثل أمن اللبنانيين ومصالحهم وازدهارهم ومنازعاتهم المحلية والطائفية التافهة.
والمآل الذي تؤول اليه «هوية المقاومة»، أو «المقاومة هويةً»، هو إقامة البلد، لبنان أو فلسطين أو سورية (على نحو آخر)، على شفير الحرب الإقليمية، الإسرائيلية - «العربية»، المستدرجة، والحرب الأهلية المرافقة أو السائرة في ركاب الأولى. ومنذ 2006، والطيف الذي يخيم على المشرق العربي، ويجول في أرجائه، هو طيف أو أطياف حرب الاختيار التالية التي قد تلجأ طهران الى استدعائها وتباشرها بالواسطة والإنابة. ولم يحدث هذا سوى مرة (ثانية) واحدة هي حرب غزة في أيام 2000 الأخيرة و2009 الأولى. فالقرائن كلها كانت تدل، من غير لبس، على إعداد الدولة العبرية خطة هجوم كاسح على غزة المستقلة أو المنفصلة، وعلى نواة حكمها، أو التحكم فيها والتسلط عليها، «حماس». ولم تضيع «حماس»، وقيادتها الدمشقية على وجه الخصوص، الفرصة. فامتنعت من تجديد «هدنة» مهلهلة ومزرية، على شاكلة السياسة والإدارة الحمساويتين، ومضت على اطلاق الصواريخ «التكتيكية» على سديروت وعسقلان، وعلى المستوطنات القريبة. وانتظرت المفعول الثابت والمترتب على صواريخها «غير المضرة» و «غير الفعالة»، على ما تقول المنظمة الإسلامية الأصولية في صواريخها، وهو الهجوم الإسرائيلي.
وعدةُ جوابها وردها على العملية الإسرائيلية لا تختلف كثيراً عن عدة المنظمة الخمينية المسلحة في لبنان، وهي إحاطة نفسها بكتلة أهلية مرصوصة تدين للمنظمة بالولاء الأعمى، وتدين لها بمقومات الحياة اليومية، ومرافق المعاش. وفي نهاية المطاف، وهو مطاف من النزوح والبطالة والخوف والفقر ومن تدمير العلاقات والعرى الاجتماعية والسياسية، تمسي المنظمة المسلحة ملجأ هوية الكتلة الأهلية الوحيد. فيسع المنظمة المسلحة، حين بلوغ الأمر هذا المبلغ من العراء والتحلل، أن تفعل ما تشاء في كتلتها الأهلية المرصوصة وبها. فهيمنة المنظمة المسلحة على الكتلة الأهلية، وعلى «مجتمعها» الحربي أو المقاوم، تحبط الحساب السياسي الذي يضبط أعمال العدو الحربية. فجزت الكتلةُ الشيعية، وبعض الحلفاء، «حزب الله» على حربه على اسرائيل، واستدراجه رد هذه المرتجل والبائس، تعصباً له، ومساندة لتهوره في الداخل والخارج، وخشية من اعلان التحفظ عن غلوه في استفزازاته وفي موالاته. وجزت الكتلة الأهلية الغزاوية، وشطر من كتلة الضفة الغربية، قيادة «حماس» على استدراجها المتعمد والمدمر تعصباً وولاء وسكوتاً.
وهذا ما تحرص القيادة الإيرانية على رعايته، وتتولى، في حالي «حزب الله» و «حماس»، تمتينه وتوفير فرص دوامه. فالجبهات «العربية» - الإسرائيلية المضطربة هي حزام أمان السيطرة الخمينية على إيران، وهي ضمان دوامها، ومورد قوة عظيم في مفاوضة القيادة الخمينية الدول الكبيرة على أمنها ودورها. ولا يتكتم الدعاة المذهبيون «الإسلاميون» على الأمر. فيصرح أحدهم (في صحف 27 تموز/ يوليو)، من لبنان: «المسألة لا تتصل بتاتاً بما يسمونه طموحات ايران النووية، بل بمصادرة القضية الفلسطينية، وانهائها، ولا سبيل لهم الى ذلك مع ايران قوية، وممانعة وداعمة للمقاومة وحركات التحرر».
وعشية شن «المقاومة» الخمينية عمليتها في 12 تموز (يوليو) 2006 من لبنان، كانت «ممانعة» ايران النووية تمتحن امتحاناً قاسياً. ويومها، أخفقت مفاوضة علي لاريجاني الدولَ الأوروبية الثلاث على ارجاء عرضها معاقبة الحكومة الإيرانية على مجلس الأمن، واستصدارها القرار الأممي الأول بالعقوبات. وعشية مضي «حماس» على قصف صواريخها، كان «دعم» إيران القوية «المقاومة وحركات التحرر» ينتهك في مفاوضات سورية - إسرائيلية غير مباشرة تتوسط فيها تركيا «الأوروبية» والسنية و «العثمانية». فاقتضى الأمر بعض التصويب، واحراج الدول العربية - الإسلامية التي لم يحرجها الهجوم الإسرائيلي على حدود «شيعية»، وإحراج الوسيط التركي. وفي الأحوال كلها، ليس من العسير على إيران الخمينية، وعلى قوى «الممانعة والمقاومة»، ترجمة مشكلات إيران هذه، الدولية والإقليمية والداخلية الأهلية، في «لغة» فلسطينية وعربية مبينة، لا تشوبها عجمة أو جمجمة من أي صنف.
وتقتضي الترجمة الفورية والسريعة إقامة بلدان «الطوق»، على رغم المعاهدتين المصرية - الإسرائيلية والأردنية - الإسرائيلية، على اضطراب وشقاق داخليين، وعلى خلاف أهلي و «وطني». فهذه، الاضطراب والشقاق والخلاف، تتيح إبطال سياسات دولية واقليمية مهادنة وغير حربية. وهي تستدرج، في منطقة مشرعة على المنافسات والمنازعات والتكتلات المتقلبة، الى المقايضات والصفقات. وتستتبع تعليقَ الدولة، أي نظام السيطرة السياسي والاجتماعي، واضعاف أجهزة التحكيم والقرار والإنفاذ. وأنجزت «المنظمتان» الإسلاميتان» و «المقاومتان» في لبنان وفلسطين هذا التعليق على نحوين متباينين، ولكنهما يقودان الى نتيجة مشتركة، هي امتلاكهما «الحق» في المبادرة الى شن الحرب على اسرائيل، وإلزام الدولة الوطنية (أو ما يقوم مقامها في فلسطين و «أراضيها») و «النظام» العربي التضامن معهما وحمايتهما، والانفراد بالسلطة أو التسلط على الكتلة الأهلية التي ارتصت حولهما.
و «الحق» هذا، وفروعه، يحميه ويرعاه رعايةً قريبة استقرار السياسة الداخلية على شقاق اهلي طرفاه شعب مقاوم، في جهة، ونظيره «حزب أميركي» أو متأمرك ومتصهين في الجهة الأخرى. وإذا سوغت الأحوال الفلسطينية، الجغرافية والسياسية والأهلية، شق السلطة كيانين و «دولتين»، فالأحوال اللبنانية تسوغ شق الدولة سلطات وهيئات وحقوقاً وأجهزة متنازعة ومتكافئة في ميزان المشروعية والتمثيل والعدد. وفي الأثناء، يحتاج الحزب الخميني المسلح و «حلفاء» سورية الأسدية، و «السيدان» الوليان، الى غلاف الدولة اللبنانية، ومواردها الإقليمية والدولية وحصانتها، قيداً على ثمن المغامرات المتهورة. وصيغة الحكومة الوطنية جزء من القيد هذا