الأحد، 23 ديسمبر 2012

وباء العنف (السوري) ركنه إيمان يفل الاجتماع ويصدعه



المستقبل 23/12/2012
كان رد الجواب على تسجيل الحكومة الاميركية "جبهة النصرة الاسلامية في بلاد الشام"، العاملة في الشمال السوري والشمال الغربي، في سجل المنظمات الارهابية، هتافَ متظاهرين سوريين، يوم الجمعة في 14 كانون الاول الجاري، "كلنا جبهة النصرة"، ورفع لافتات في بعض التظاهرات كتب عليها: "لا إرهاب في سوريا غير إرهاب بشار الاسد". وأحرج حمل المنظمة المقاتلة في صفوف المقاتلين السوريين المعارضين والمعروفة في حلب وضواحيها بصرامة مقاتليها وبأسهم وحمايتهم الأهالي من عدوان شراذم فوضوية تنتسب الى "الجيش السوري الحر" على الارهاب الائتلافَ الوطني السوري الطري العود. وأحرج على نحو خاص رئيسه، "الشيخ" معاذ الخطيب، وجمعية الاخوان المسلمين، الفصيل النافذ في الائتلاف. فنسباه الى "الكيل بمكيالين" في مصطلح فاروق الشرع، والى تغليب الوصمة "الايديولوجية" أو الاسلامية على سجل الافعال والاعمال، وهو سجل خالٍ على قول الخطيب والجمعية الاخوانية من قتل المدنيين "الاعمى"، والثأر من أهل المذاهب والتمثيل في القتلى والذبح على مرأى من أجهزة التسجيل التلفزيونية ومسمع منها.

والى أيام قليلة قريبة خرج متظاهرون سوريون في المدن والارياف الشمالية نفسها وجهروا رغبتهم في "ألا ينصرهم" أحد غير "الجيش الحر". وبعض الأهالي أسروا الى وكالات أنباء متفرقة تحفظهم عن مقاتلين غرباء أو متخفين على هوياتهم، لا يعرفهم أحد ولا يختلطون بالناس، وينم ظاهرهم وبعض أعمالهم بيسر غير معهود في جماعات المقاتلين البلديين. وهم، الى هذا، يدعون الى "إسلام" لا يعرفه معظم الاهالي، والى شرع غير القانون الذي ألفوا الكلام عليه، والاحتكام إليه. ويقرن الاهالي، أي بعضهم هذا، التحفظ المتردد والمتلعثم بإعجاب صريح بشجاعة القوم، وترفعهم عن السلب والغنم، وسعيهم في سد حاجات الاهالي الكثيرة والمرهقة. ولم يتردد الاهالي وحدهم، ولا بعض القيادات السياسية والعسكرية السورية. فبعض أعمال التفجير، في حلب ودمشق على الخصوص، تطاولت الى مرافق الاجهزة الامنية، وقتلت فيمن قتلت مدنيين وعابرين أو سكاناً محليين، الى موظفين عاملين. ولم تتسر "جبهة النصرة" فأعلنت مسؤوليتها عن هذه الاعمال.

وتذرعت وزارة الخارجية البوتينية و"السوفياتية" بعمليات "النصرة"، ودعت مجلس الامن ومجلس حقوق الانسان الى ادانتها والتنديد بها. وعزتها الى "الجماعات المسلحة الارهابية" التي تسلحها "الولايات المتحدة واوروبا وبعض الدول العربية النفطية"، بحسب الاحصاء المعهود منذ بعض الوقت. ويهلص منه أصحابه الى اختصار الحركة الشعبية والديموقراطية السورية فيه. والحق أن الولايات المتحدة الاميركية سكتت عن هذه العمليات قبل أن تعرب عن إدانتها المنظمة الاسلامية الاصولية برمتها، وعن شكوكها "الرجعية" والمتأخرة في اصحابها. وعندما نددت بعض منظمات حقوق الانسان الدولية بمسؤولية بعض فصائل الجيش السوري الحر عن إعدامات ميدانية، وقتل انتقامي وثأري بوسائل "وحشية"، وعن خطف رهائن واحتجازها والتلويح بقتلها، لم ترفع الولايات المتحدة ولا غيرها، ولم يشذ الداخل العربي والسوري صوتاً، جهيراً (أو جهورياً) يدين الانتهاكات الكثيرة في معرض حرب شرسة وقاسية يخوضها حكم او سلطان عشائري وبيروقراطي على اهالي سوريا وجماعاتهم وبلادهم، وعلى حركتهم وإنتفاضتهم. وأحجمت الصحافة الدولية، وهي وكالات الاخبار الكبيرة الانكليزية اللغة والفرنسية وبعض الصحف الذائعة الصيت في اللغتين، أحجمت الى وقت قريب عن تناول شبهات لابست بعض الحوادث البارزة التي نجم عنها عدد كبير من الضحايا (في داريا وفي عقرب... وغيرهما).

وقلما تتطرق اقلام سورية كثيرة شاغلها تعقب الحوادث والوقائع الوطنية والتعليق عليها، وعلى مفترقاتها ومنعطفاتها، الى وجوه العنف الفظيع التي تلابس الحوادث والوقائع هذه منذ الايام الاولى لقمع "الدولة" العشائرية والبيروقراطية رعاياها المتظاهرين والمتمردين عليها، والخارجين على قهرها واستئثارها ومهانتها وكذبها. وبدا تقليل العنف المتفاقم والمتعاظم، والسافر من غير تكتم ولا تستر، بـ"طبيعة النظام" المتسلطة والبوليسية، واعتياده خضوع الرعية، وماضيه الدامي (حوادث 1979 1982 التي كانت ملحمة حماة ومجزرتها ذروتها الهاذية)، الى اتساع الهوة الاحتماعية بين أهل القوة وبين عامة الشعب، سائغاً ومعقولاً. وبدا تعليل جنوح حركة الاحتجاج العامية والشعبية الى الرد على القتل والسجن والخطف والتعذيب بالحماية المسلحة معقولاً وسائغاً بالمقدار نفسه على اضعف تقدير. وحين عزت الحجة العقلانية والسياسية لجأ التعليل الى "عامل الهدم" الذي لا يسع "الثورة"، وهي أصل ينطوي على علله وعلى تظاهراتها، التخفف منه.

رأيان

ولا شك أو مشاحة في أن فرقاً عميقاً يميز رأي الانتفاضة السورية في صنع العنف التي تتوسل بها الى كبح ضراوة النظام وصده وكسر شوكته، من رأي أهل النظام الضاري في عنفهم وعنف نظامهم. فالمعارضون المسلحون، وأنصارهم معهم، لا ينفكون شديدي التحفظ عن نتائج الاعمال العسكرية التي حُملوا عليها واضطروا الى ركوبها مرغمين. وهم ينسبونها على الدوام الى مقاصد القوات النظامية، وهي قوات مزدوجة وبطانتها الداخلية أهلية مذهبية، وينسبونها الى إرادتها وتخطيطها. ويقصرون دورهم، وما نجم عن عنفهم تالياً، على الرد والدفاع عن النفس. ويغضون عن بعض الاعمال الهجومية الانتحارية التي تولتها جماعات "مزدوجة" بدورها، أو ابتدأت مزدوجة مثل "النصرة"، ويخاطبها مساجلوها الحرسيون الخمينيون اليوم، وينفون عداوتهم لها، ويحذرونها المصيدة الاميركية التي نصبت لهم وقد توقع بهم لا قدر الله! ويسكت المعارضون، حرجاً وحياءً، عن المبادرة الى العنف، وإعماله في مواقع لا يبدو إعماله فيها ضرورياً مثل مهاجمة بلدات أخلتها القوات الحكومية واتخاذها خندقاً أو قاعدة حين لا يرى الاهالي مبرراً لذلك. وغالباً ما يتعللون بضرورات عامة أكرهتهم عليها مصلحة الحرب الوطنية الدائرة في مسارح وميادين أخرى بعيدة. ويعولون على هذا التعليل، وعلى عمومية المصلحة المفترضة، في سبيل التحلل من التبعة أو المسؤولية عن القصد الى القتل والدمار ومباشرتهما بأيديهم وعقولهم وقلوبهم.

وعلى خلاف مقاتلي المعارضة المتطوعين، يتستر النظاميون (الوجه البيروقراطي من الاستيلاء الانقلابي) وفرق الموت والسلب شبه النظامية الموازية والمندمجة معاً، لا يتسترون قيادةً عصبية وجنوداً غفلاً عن قصدهم ضروب القتل والانتهاك والإيلام والدمار التي تسلم المصابين بها الى الخروج والهجر واليأس و"الحيوانية" (وإنكارها: "والله أنا مو حيوان!"). ورد بشار الاسد من قناة تلفزيونية روسية، قبل نحو الشهرين، على بعض أقطاب نظامه المنكرين عليه مطاولته الحركة الوطنية والديموقراطية المنتفضة، وصبره على سحقها بكل القوة والعنف اللذين في متناوله وعلى شاكلة أبيه (وهؤلاء ينسون أن رأس السلالة لم يرتكب حماة إلا مطلع السنة الثالثة من اضطرابات متنقلة وضيقة).

فقال "السيد الرئيس" الذي لا سيد غيره ما معناه (عطفاً على مقال الكاتب في "نوافذ المستقبل"، 9 أيلول 2012): يفترض الرد الساحق والسائغ محلياً وإقليمياً ودولياً استدارج المعارضات وجمهورها الى السلاح والفوضى الاهلية والخلاف والاستغاثة بالخارج وإلقاء السوريين في مهاوي الروع والجوع والنزوح والعالة، وعندها "يفهم" السوريون ومعهم العرب ما فهمه بوتين ولافروف وهو جينتاو، وقبلهم جميعاً قاسم سليماني وعلي خامنئي ووحيدي وحسن نصرالله وصفوي ويدالله دواني، منذ 13 آذار 2011 من أن سحق الحركة الشعبية شرطه "السياسي" المعقول والمقبول هو تبلور الحركة في صورة عصيان أهلي مسلح وباهظ التكلفة؛ وحينها لا يشك سوري ولا عربي ولا "دولي" غربي في ان الخروج من الحرب وفظاعاتها وترويعها، وعلى صدر سوريا ألف أسديّ وأمرها في يدهم "الى ألف عام" على قول السفاح العباسي الاول، هو (الخروج) الظفر العظيم. فـ"المزيج المرهق من العنف والصبر" (المطاولة) الذي شخّص فيه فرانسوا ميتران نهج حافظ الاسد في 1986 هو سلاح سلطان دمشق الاحمر القاني والأمضى. ويفترض هذا فشو العنف وتغلغله في شغاف الحياة اليومية وثناياها الاجتماعية العميقة والسطحية، أي هو يفترض انفجار "الازمة المأساوية" أو الفتنة، وتداعي القتل على شاكلة وباء الطاعون، على ما استعارت فاجعة سوفوكليس "أوديبوس ملكاً".

القدس(ي) والعقل

ومثل هذا العنف الوبائي لا يقدر عليه علمانيون مدنيون وعقلانيون، مهما تواضعت علمانيتهم ومدنيتهم وعقلانيتهم، ولا طاقة لهم به. فكيف بالمبادرة الى إشعال فتيله، والتحكم في نشره. وذلك من الشتيمة النابية والمهينة ("انسوا أولادكم واستولدوا نساءكم غيرهم وإذا عجزتم فهاتوهن" على قول ضابط أمن درعا، وقريب "سيادة الرئيس" الى مشايخ عائلات المدينة الحورانية وعشائرها)، فحصار المتظاهرين وتفريقهم واعتقال بعضهم، فإغلاق الحي وتفتيشه وتجويعه ومداهمة بيوته وتحطيمها، فمطاردة الناشطين وخطفهم وقتلهم، فنصب قناص على الاسطح... وعلى خلاف العلمانيين والمدنيين والعقلانيين (ومعظمهم في أول الامر نساء علمانيات...) بادر الى ذر الطاعون من يملك الآلة البوليسية والعسكرية والإدارية والاتصالية المناسبة، من وجه، ومن تطاوعه وتنقاد له لغة ملائمة، من وجه آخر ليس أقل خطراً ومكانة من الوجه الأول. ولم يملك دعاة الاصلاح والتحرر المدنيين والديموقراطيين، في أول أمرهم، شيئاً ضئيلاً من الآلة البوليسية والعسكرية التي قام الحكم العشائري والبيروقراطي السلالي على احتكارها. وهم حصلوا بعضه القليل حين تفسخت الآلة العتيدة، وتصدعت تحت وطأة العمل الذي أوكل إليها وتولته، ولا يزال معظمها يتولاه.

ولعل العامل الأقوى وربما المزمن في "قصور" المنتفضين السوريين عن التوسل بطاعون العنف، إذا شاؤوا، هو خلو وفاضهم من اللغة "المقدسة" الملائمة. فالعنف الاهلي، أي إباحة القتل المرسل من غير تمييز "درجات" التبعة والاستحقاق وإجازته على الظن العام والمجمل ("على الهوية") وإتباعه بالدمار والحصار والتهجير والتجويع والاغتصاب، ليس في مستطاع أفراد مدنيين وعقلانيين، "عاديين"، على قول دافيد روسيه الفرنسي، تصوره واحتسابه جائزاً (على معنى الإمكان).

وهذه "الفضيلة" تصيب رغماً عنه ربما من طلق الإحساس بالمطلق أو طلقه هذا الإحساس. فينبغي لمن يحسب في نفسه القوة، والعبارة لا تصح إلا في صيغة الجمع: لمن يحسبون في أنفسهم القوة على احتمال أفعال "فرقة الموت" "الجمهورية" والحرسية والايرانية المختلطة في حي الجورة وجمعية حوض الفرات ومساكن المعلمين وجمعية الدير العتيق وحارة "البيجامات" أو بكتن في دير الزور، واختيار "مقاتلي" الفرقة العتيدة الشبان الأشداء وتقييد أيديهم وصفهم أمام الجدار وضربهم على مرأى من آبائهم وأمهاتهم واخوتهم واخواتهم وأولادهم وإعدامهم برصاص "كثيف"، ودعوة هؤلاء تورية الى ندب الموثوقين من شرفات البيوت، وبكائهم وهم يعذبون ويمثل بهم ويهانون ووداعهم الوادع الاخير، وسوق من لم يقتل على هذا النحو بالحافلات الى الذبح ترافقه أهازيج الحرسيين، ورمي جثثهم في مبانٍ قيد الانشاء أو أقبية متروكة أو حدائق صارت مزابل أو مقابر لفظت العظام المتبقية من الجثث المتحللة القديمة فاختلطت بجثث تتحلل لتوها ودفنت على عجل فيستدل عليها بسرب النسور المحلقة فوق بقايا 86 جثة ذبحت وحرقت في يوم من ايام تشرين الاول 2012 (مراسلة من دير الزور خاص بـ"نوافذ- المستقبل" اللبنانية، 16/12/2012) ينبغي لمن يحسبون في أنفسهم القوة على احتمال هذه الاعمال الصدور عن نشوة يعطاها أو يبلغها "مؤمنون" من ضرب كانت الثورة الخمينية بإيران، وحرسها الثوري ومتطوعوها وفرق إعدامها الأهلية سباقة الى صنعه. وتولى بعض تقنييها البارزين نشره في العراق ولبنان، وأقبل عليه بن لادن وجماعاته إقبال الخوارج على "اللقاء"، لقاء العدو القريب أو قتاله ولقاء وجه ربهم على ما يحسبون. ولا تعصى هذه النشوة قتلة المافيا وعائلاتها المتحاربة حتى الافناء والإبادة.

ولا تغرب عن وصف وقائع العنف الوبائي السوري، - وتنذر بهذا الصنف من العنف مهاجمة الإخوانيين والسلفيين المصريين "أعداءهم" المدنيين والليبراليين والاقباط والشباب العصريين والنساء والصحافيين والقضاة ... - وجوه الفاجعة المأسوية وأزمتها الوبيلة. فالناس، وهم يعدون عشرات الآلاف من النازحين، على ما تروي ناجية الحصري ("الحياة" اللندنية، 16/12/2012)، قلقون أو نابون غرباء خارج أرضهم وبيوتهم. فهم ليسوا حيث هم ("خارج الاراضي اللبنانية تقنياً وخارج الاراضي السوري عملياً")، ونزحوا الى وادي خالد بلبنان من بلاد نائية: درعا وحلب ودير الزور وحولة، أو قريبة: حمص وريفها وتلكلخ ودمشق، بعدما هدم قصف عسكر النظام ومسلحوه منازلهم وجرفوها. والمدخرات استنزفت ولا يشتري ما بقي منها جزمة تقي الابنة المطر والبرد والوحل، ومن يحترف حرفة ضاقت عليه فرصها في الشتاء. فالغريب عارٍ، وضيافة الجار اللبناني القريبة قد تؤنس ولكنها لا تشفي حزنه. وهربه الى اراضي الجيران اضطره "الحرسيون" السوريون وحواجزهم أو مسالحهم (الجمرك المسلح) الى شرائه بمعظم ما يملك. فبلاد الطاغية "الشاب" أرض سباء و"عشائر" جائعة ومحمومة، لا قانون فيها ولا وازع. والسباء ليس استعارة: فالنساء يغتصبن ولو بلغن الـ75 سنة شأن حاجة روت في جمع باكيات على ميت وقالت:" ابكينني أنا، اغتصبوني امام زوجي وأولادي، كانوا خمسة جنود من جيش النظام... قلت لهم انني مثل أمهم وأختهم...". والتذكير بهول سفاح المحارم وفظاعته لا يردع قوات السباء. ولكن امتهان الضباط الفتاة قد يحملها على الانتحار، ويحمل تعرف الصبية على مغتصبها في قرية الهيشة على "الهستيريا". وقد يحمل أبا الجندي على قتله، وأبا فتاة أخرى خطفت قبل 3 اشهر على الموت حزناً.

وعلى هذا، فالعنف الوبائي لا يقاس بعدد القتلى وحده، وهم بلغوا في سوريا 50 ألفاً أحصوا واحداً واحداً وواحدة واحدة وغيب في المعتقلات المسالخ مثلهم، بل يقاس كذلك بتطرقه الى أركان الاجتماع والتأنس مثل حصانة الحياة وحرمتها، والتزام الاحتكام الى سنن معروفة ونافذة، والحؤول دون جموح العنف الى اقاصيه، وتمييز الأهل المخالفين من الاعداء... والمأساة تعصف بهذه الاركان وتمتحنها. وحين ولغ بعض "تقدميينا" و"يساريينا" المدنيين في الطاعون هذا، على ما صنعوا في فصول الحروب الملبننة وأيدوا الفلسطينيين، ومن ورائهم السوريون، على ذلك، وناصرهم هؤلاء عليه قالوا، وربما حسبوا فعلاً أن العنف إنما يتأتى من "مقاومة الطبقات الرجعية التغيير المحتم". وكان ينبغي وضع كل "القدس" الفلسطيني وأنوثته ومقومات الهوية التاريخية العربية والاسلامية، وموارد الاشتراكية ووعودها غير الخابية، في كفة الميزان نظير الاغتصاب الصهيوني، والنهب الاستعماري والامبريالي والعمالة الحقيرة له، والخيانات العربية التي لا تحصى، والتخلف الحضاري المهين، لتسويغ القصف الأعمى على المسيحيين اللبنانيين "الطائفيين"، ونصب الحواجز الطيارة على المفترقات، وتقطيع الجثث ودسها في أكياس البلاستيك و"إهدائها" الى هذا أو ذاك.

ولكن الذريعة التاريخية و"التقدمية"، وهي في معظم أحوالها تزعم العقلانية وتفتقر الى وطأة "القدس" وأركانه، لم تبلغ مبلغ تبرير الوباء والدعوة الى الولوغ فيه. وأسهم في لجم فشو الوباء وطاعونه، على رغم الـ160 ألف قتيل الذين أردتهم حروبنا اللبنانية المتعاقبة، اقتسام الجماعات المتقاتلة الدولة وآلات عنفها "المشروع"، وضعف هذه الآلات، وتشكك المتحاربين في مشروعيتهم وفي غاياتهم، وشقوق الجماعات الاهلية الداخلية المعنوية والمادية، وتولي المقاتلين أولياء من خارج الاهل ورعايتهم بقاء المقاتلين داخل "ولايات" جماعاتهم (وهذا ما خالفته الجماعة الخمينية والحرسية المسلحة في 7 أيار 2008 ببيروت و11 منه في جبل الباروك). ويكبح اقتصار إقامة القوم العلوي في سوريا على جبل السماق وسفحه الشرقي نحو حمص وعلى وجهه الغربي الشمالي الساحلي، بعض الشيء تفشي العنف الاهلي والعشائري. وأما الوجه البيروقراطي والنظامي العسكري والامني فمختلط، ويتأتى عنه معظم القتل والدمار "الوطنيين". وبلغ عدد قتلى القوات النظامية نحو العشرة آلاف قتيل، وهم الكتلة الكبرى بين كتل القتلى بعد كتلة المدنيين عموماً. ويقوم الدين "القومي"، والعروبي والسوري، مقام الدين الاصولي الجهادي والسياسي الايديولوجي، في ميزان الإقبال على وباء العنف وإضعاف كوابحه وشل إعمالها من داخل. فكلاهما يفترض الجماعة، الامة أو القوم، كلاً ناجزاً وجميعاً مستوفياً شروط تمامه وماثلاً في القائد وعصبيته. وكلاهما ينفي من صفوف الدولة الوطنية، المختلطة حكماً، من ليسوا من الجماعة، ويهدر دماءهم و"أموالهم" وأعراضهم وحرياتهم على وجه الاحتمال. فإذا انفجرت "الازمة" واستعرت احتاج المتقاتلون، عبيد الله القتلى وعبيد الله القتلة، الى آلهة الطواعين وألقوا على كواهلها التبعة الثقيلة والمرهقة والمستغلقة على العقل، عن قتل الانفس والإفساد الذريع في الارض.

http://almustaqbal.com/storiesv4.aspx?storyid=552350

مسودة الدستور المصري بصناعة جمعية تأسيسية ملّية... الدولة نصاب أهلي متغلب ينافي النصاب السياسي والحقوقي الجامع

المستقبل، 9 /12/ 2012


استدرج اقتراع الجمعية التأسيسية على مواد مشروع الدستور المصري الـ234 إجماع الاعضاء الـ85 الباقين وغير المستقيلين، تقريباً. وخرج عن الاجماع الغالب 9 أعضاء يُنسبون وينسبون أنفسهم الى الجماعات السلفية. وهؤلاء رفضوا المادة الخامسة من مسودة الدستور، وهي صيغت على النحو التالي: "السيادة للشعب يمارسها ويحميها، ويصون الوحدة الوطنية، وهو مصدر السلطات". وجلي أن المادة هذه هي "أم الدستور"، والركن منه، وعلة المعنى الدستوري أو الموجب الدستوري. فلا معنى لمعايير عمل هيئات الدولة وقواعدها وتعريفاتها- مثل وصف النظام السياسي (المصري) بالديموقراطي وإقامته على مبادئ الشورى والمواطَنة والمساواة بين المواطنين وعلى سيادة القانون واحترام حقوق الانسان، إلخ، على ما تنص المادة السادسة من المسودة إلا بعد الاقرار بالسيادة او الولاية العامة "للشعب"، وبتبعية السلطات له، وصدورها عنه.

وتنص مادة السيادة والمصدرية الشعبية على سبق التأسيس الدستوري، والرابطة السياسية والوطنية الجامعة التي تنشأ عنه افتراضاً، الأسس والروابط الاخرى التي تربط بين الجماعات الجزئية والفرعية. فعلى رغم قيام الجماعات الجزئية، العرقية القومية والدينية والمحلية والمهنية، قبل الجماعة الوطنية والسياسة الجامعة والمتحدة، تتقدم الرابطة أو العروة الوطنية السياسية روابط الجماعات وكياناتها الموروثة والعريقة. وحين يرفض السلفيون وأمثالهم، من غير أن يكونوا "على دينهم"، ولاية الشعب الدستورية ومصدريته السلطوية (على معنى السلطانية)، فهم يعارضونها بـ"الحاكمية"، على ما يترجمون الولاية، وينسبونها الى الخالق. وعلى حسبان السلفيين وأهل الحاكميات المتوارثة وغير التعاقدية (عبقرية العرق أو الامة القومية...) لا يجوز أن يتخطى الدستور، ما لم يكن تنزيلاً او شرعة متوارثة، المعاني الاجرائية والتنظيمية الفرعية على ألا يخفى أو يقيد سندها الأصلي وهذا السند يصلها بمصدر غير مشروط وغير محدث، على قول كلامي واعتقادي معروف.

الشعب الواحد وجماعاته الكثيرة

وينبغي، على هذا، أن يرفض السلفيون وأمثالهم المشاركة في جمعية تأسيسية دستورية التأمت لتداول الرأي في كيفيات التفريع على الركن الأساس أو الاصل، ولاية الشعب على نفسه. ومثال هذه الولاية استهلال اعلان أو بيان الاستقلال الاميركي بالعبارة المأثورة مذذاك:" نحن، الشعب...". و"نحن" هذه هي نحن الجلالة، على معنى ملكي لا يتستر على نسبه الديني القريب: فالملك الذي يقول نحن، ويرسم المراسيم النافذة بقوة النحن وقولها، هو سليل "آباء" يرتفع نسبهم الى مشيئة أو إرادة، على قول عثماني لا يزال سارياً في انظمة ملكية عربية معاصرة، نصبتهم وأوجبتهم "أولي الأمر" بالمسح بالزيت المقدس (والمسيح هو الممسوح أي من مسحته المشيئة). وهم، آباء السلالة، يتناقلون معنى "صوفياً" لا يموت بموت الجسد الفاني والفاسد والذائق الموت. والقوانين او الأحكام التي تصدر عن "أولي الأمر"، أو صاحبه، إنما هي إرادات أو فرحانات أو خطوط تتبع بنعت الشرف: خطوط شريفة أو خط شريف كناية عن علو المرتبة، وفرق ما بينها وبين الجمهور أو العامة أو سواد الرعية المحكومين المنقادين الى أولي الأمر وأهل السلطان.

وورث "الشعب" من الولي دوامه على مر الزمن. ولم يتردد المؤمن الروسي ألكسندر سولجنتسين في القول إن الشعوب الكثيرة هي وجوه أوجبت كثرتَها ودوامَها إرادة إلهية او حكمة. فلا يحق لقيصر أو لأمين عام حزب شيوعي حاكم أو "قومي" عشائري حاكم ومتسلط (أو لمرشد، بالاحرى) إبادة شعب منها أو وجه أو معنى، على ما راود الامر الارادة الستالينية في بعض الشعوب القوقازية أو الارادة الهتلرية في اليهود والغجر و"الروم" أو الارادة الصدامية في الكرد، أو الارادة الخمينية في البلوش والاحوازيين والبهائيين... فالكثرة، كثرة الشعوب والعشائر، هي شرط "التعارف"، على قول آخر. ولكن شعب الدستور- وهو ينشأ عن الدستور ويولد منه معنوياً واعتبارياً، وذلك حين يكتب شرعته الدستورية ويختارها- شعب الدستور هذا "مخلوق" من مداولات المتعاقدين، بعقد "اجتماعي". و"الاجتماعي" للدلالة على نشوء رابطة العقد عن المتعاقدين وتعاقدهم، وعن إرادتهم الحرة واختيارهم.

ويضمر هذا القول، أو هذا الافتراض، ما يخالف الوقائع المشهودة والمعروفة. فالشعب، على المعنى السائر والظاهر، سبق صيغة الدستور. وهو لم يصغ دستوره أو يصغه إلا قروناً بعد نشأته التاريخية والفعلية. ويتولى المداولة والكتابة من ينوبون عن جماعات وكتل من الناس بعضها سبق أن حكم نفسه بنفسه واستقل بأمره واقتتل، وبينها روابط ووشائح تفرقها ولا تجمعها أو توحدها، على خلاف جزء المادة الخامسة في مسودة الدستور المصري الذي ينص على أن الشعب صاحب السيادة ومباشرها وحاميها، "يصون الوحدة الوطنية". فسبق الشعب زمناً، والتفرق جماعات وأجزاء، والمداولة ثم التعاقد بالإنابة والوكالة والتمثيل، كلها تطعن في القول أن الشعب الذي ينشئ الدستور إنما هو "ثمرة" هذا الدستور. وهو (أي القول) معين النص على سيادة الشعب وصدور السلطات والدولة عنه.

والالتباس يشبِّه التناقض، ويوحي بمخالفة الدستور الوقائعَ مخالفة حادة ورأسية. ولعل السبب في الالتباس هو حمل كيان الدولة السياسي المحدث والمصطنع، وشروط قيامه بأدواره التمثيلية والتشريعية والتنفيذية، على كيان الشعب الطبيعي والحقيقي والمادي. فيُشغل الدستور في مواد كثيرة منه بإحصاء "الشعب" المصري ووصفه. وهو تارة "شعب" في المادة الاولى السياسية الاصلية ، وتارة "مجتمع"، في المادة السابعة المترجحة بين أصل حقوقي سياسي (العدل والمساواة والحرية) وبين أصل أخلاقي وعملي واجتماعي (التراحم والتكافل والتضامن والأعراض...). ويخلو الباب الاول، "الدولة والمجتمع" ومواده 27 مادة، من تعريف المواطن المصري تعريفاً دستورياً وعاماً، وتالياً من تعريف الشعب المصري على المثال نفسه. فيتناول الباب الأنساب والاصلاب والهويات الجوهرية والتاريخية والأسماء. وينتقل من إثبات الوحدة، وهي تفترض قائمة على أركان سياسية ونظامية مثل الجمهورية والدولة والسيادة والديموقراطية، الى تفصيل عواملها العينية الجوهرية المفترضة: الدين (الاسلام) واللغة (العربية) والتشريع (الشريعة الاسلامية). وتُسْلم عوامل الوحدة المبدئية، أو عوامل الهوية الجامعة، الى وجوه التفريق: "مبادئ شرائع المصريين المسيحيين واليهود المصدر الرئيسي للتشريعات المنظمة لأحوالهم الشخصية ..." (المادة3) والتفريق ليست شرائح المسيحيين واليهود "المصريين" مصدره أو ابتداءه إدخال "الشعب المصري"، قبل تعريفه وحدِّه التعريف والحد "الأساسيين" أي الحقوقيين والقانونيين، في "أمتين" تتخطيانه وتتجاوزانه الى غير المعلوم.

وابتداء التفريق هو، بديهة، النص على دين الدولة ومصدريته التشريعية العامة، على خلاف ديانات "الشعب" أو "المجتمع" الكثيرة والأهلية الخاصة (الشخصية) والروحية. وتترنح المواد الأصلية والأصولية بين التخصيص والتجريد من غير ضابط أو سائق. فاستدعت مادة دين الدولة ولغتها ومصدر تشريعها النص على "مبادئ شرائع" الجماعات الدينية غير المسلمة. واستدرجت المادة هذه العودة الى المادة التي سبقتها (الثانية" الاسلام دين الدولة..."). فخصت "دين الدولة" بتفصيل تناول "هيئته"، الأزهر "الشريف". وتوجت التخصيص بإخراج الهيئة العتيدة التي يصرف الدستور اليها مادة أساسية كاملة (المادة 4) من 3 أسطر، من الدولة إخراجاً باتاً: فهي "هيئة اسلامية مستقلة". ويصلها اسلامها بـ"الامة الاسلامية" التي يتخطى "مجالها" دولة الجمهورية وسلطتها وقوانينها، وتعلوها مكانة وقوة أحكام ونفاذ وأرجحية. ويعصمها "استقلالها" من سريان القوانين العامة ونفاذها فيها: فالأزهر "يختص وحده بالقيام على كافة شئونه"، ويقتصر دور الدولة من غير شكر ولا منة على كفالة "الاعتمادات المالية الكافية لتحقيق أغراضه". وشيخ الأزهر، رأس الهيئة ومقدمها و"أميرها"، على معنى صاحب الأمر فيها، لا يفصل "القانون" إلا في "طريقة اختياره"، ولا يقول الدستور الديموقراطي والجمهوري: "في انتخابه". وهو، أي الشيخ الأكبر، "مستقل غير قابل للعزل".

وعلى هذا، فما موجب أو مسوغ نص دستور الدولة على موقع هيئة منفصلة، تستقل عن الدولة بإدارة شؤونها، ومجالها أو دائرتها، وبوظيفتها، وموارد مشروعيتها، ودوام رأسها؟ وما السبب في كفالة الدولة موارد الهيئة المالية من غير لقاء أو مقابل، أي من غير سلطة و"حق"، بحسب مبدأ دستوري جوهري؟ وتميز المادة "الازهرية" الهيئة الخاصة أو الأهلية والخصوصية، وجمهورها أو جماعتها، من الهيئات والجماعات الأخرى. فلا تنص مادة أخرى على كفالة الدولة اعتمادات مالية كافية تصرفها الى الكرازة المرقسية، والسدة البطريركية، على "نشر علوم الدين والدعوة"، فتسوّي "بين كل مواطني (...)" جمهورية مصر "الموحدة (التي) لا تقبل التجزئة". وتكون تسويتها أو مساواتها على الوجوه المنصوص عليها كلها: الحقوق والواجبات، التعددية السياسية والحزبية، وسيادة القانون، واحترام حقوق الانسان، وكفالة الحقوق والحريات... والتمييز هذا يطعن في الوحدة، وفي المساواة، ويبطل عملاً وفعلاً استقلال نصاب الدولة أو الدولة في صفتها نصاباً سياسياً جامعاً وليس نصاباً أهلياً غالباً، عن "المجتمع". وعلق كثيرون على حشر هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف" في باب "الرأي الشرعي" وتقاسمها والشيخ الأكبر هذا الرأي. ولكن إبطال نصاب الدولة أدهى وأسبق.

التخصيص والتفريق

وتقفز صيغة الدستور من المواد الثلاثة "الدينية" (4 و 5 و6) الى المادة المدنية والحقوقية الاصولية أو الاساسية: "السيادة للشعب...". ولم يفهم السلفيون، وغيرهم على الارجح، لغز القفزة هذه، وخروجها عن "نسق التسلسل والتماسك الدستوري"، على ما كان يقول إدمون رباط. وهم أنكروا المادة أصلاً،مضموناً وشكلاً وموضعاً. وأنكروا في جلسات الهيئة التأسيسية تأخير المادة "التفسيرية":" مبادئ الشريعة الاسلامية تشمل أدلتها الكلية وقواعدها الاصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة" (وهي كانت المادة 221 في المسودة الاولى وصارت المادة 219 في الثانية والثالثة)، الى باب احكام عامة، على حين انها تتصل بالمادة الثانية، ولا تعدو الشرح عليها، وتذييلها. ورد الاخواني محمد البلتاجي، أحد أعيان الاخوانيين، على إنكار شيوخ التيار السلفي التأخير والفصل، بحجة دستورية، وغير ظرفية، دامغة: "اننا نلتزم اتفاقنا مع القوى السياسية المنسحبة التي حنثت بالاتفاقات". فمبنى الشرعة غير الأساسية البتة، والتي تتقدمها "أمم" مصر وشاراتها والهيئات المستقلة وجماعات الأهل، إنما هو بحسب الاخوانيين على اتفاق مع قوى سياسية حانثة...

والاستثناءات المفضية الى التخصيص والتفريق والتمييز ليست وقفاً على الازهر والاسلام ومبادئ شرائع المصريين المسيحيين واليهود. فيتطاول الاستثناء الى الاسرة، وتخص هذه بـ"معالجة" خطابية جوفاء: "اساس المجتمع"، "قوامها الدين والأخلاق الوطنية" (الدين والوطن اثنان؟ والوطن المصري يستوي مستوى واحداً والدين اي الاسلام؟)، "تحرص الدولة والمجتمع" (هما واحد؟ بماذا يفترقان؟) على "الطابع الاصيل للأسرة المصرية، وعلى تماسكها واستقرارها" (من طريق ضمانات اجتماعية عامة؟ أم من طريق تقوية السلطة الابوية وقواميتها؟ أم المساواة في الحقوق بين الذكور والاناث؟ أم من طريق إقرار مقاضاة التعنيف؟). لا هذه ولا تلك ولا تلكم بل بطبابة شافية وحاسمة، لم يفطن إليها صاحب فطنة قبل مشرِّع 1971 وخالفه الاسلامي اليوم، هي "حماية تقاليد (الاسرة المصرية) وقيمها الخلقية" بالوسائل المجربة: الختان والتزويج المبكر والتنقب العام وتقييد الاختلاط في المسجد والمدرسة والمكتب والمشغل والحافلة وتتويجه بشق سكتين في الطريق الواحدة على أن تكون في اتجاه واحد يحول دون النظر والاشتهاء والمعصية الحرام، على طريق "(ترسيخ) مساواة المرأة مع الرجل... دون إخلال بأحكام الشريعة الاسلامية" (مادة 68).

ويحصي الدستور، بعد الأسرة وما سبقها، المرافق التي يتصدى لرعايتها وإبلاغها مستويات "رفيعة": الأخلاق والآداب العامة (وهي غير آداب الاسرة؟)، التربية و"الحقائق العلمية" (مادة 11)، "الوحدة الثقافية والحضارية واللغوية"، الاقتصاد الوطني، الزراعة، "حرمة" الاموال العامة، السجن، "الرسل والانبياء كافة" (مادة 38). وهم يحظر التعرض لهم في سياقة النص العام على حرية الاعتقاد "المصونة" وحرية الفكر والرأي "المكفولة" وحق حرية الابداع و"الاجتماعات الخاصة (...) دون إخطار...". وينقلب الامر جداً حين يتصدى القانون (غير ) الاساسي لكيانات عينية مثل الصحف والمطابع والكتب والجمعيات والأحزاب والنقابات والاتحادات والتعاونيات والمدارس والمستشفيات والمساكن، الى القضاء والجيش والغرفتين النيابيتين والرئاسة نفسها. ففي الكيانات والهيئات هذه ينقاد كتّاب الشرعة المفترضة وصياغها الى سجيتهم الادارية والسلكية الاجرائية، ويمعنون في غفلتهم عن منطق الدستور الانشائي والتأسيسي. فينصون على إفراد الجيش بمجلس للأمن القومي يغلب عليه العسكريون، وينكفئون فيه وبه على سياستهم ومصالحهم وموازنتهم ويستقلون بها، على مثال أزهري شريف سابق. ويُقبل منهم اختصار ميزانتيهم في رقم واحد يحجب عن فضول الشعب ونوابه ومراقبة ادارته وقضائه المالي، وعن رصد العدو استخباراته الكليلة، المخصصات والاعتمادات والمناقصات والعوائد الاستثنائية والاستثمارات العادية. وحجبها ضرورة أخلاقية ودفاعية استراتيجية في آن، على أسلوب جامع ومانع في التشريع تقدمت أمثلة عليه.

والمجلس الوطني للاعلام وكالة أخرى أو جسم سلكي متخصص آخر يتولى مهمات وأعمالاً جليلة: المسؤولية عن "ضمان حرية الاعلام ... والمحافظة على تعدديته... وعن حماية مصالح الجمهور..." (مادة 215). والمهمات والأعمال الجليلة التي يندب مجلس مهني وإداري طائفي الى الاضطلاع بها لا تحظى بتعريف حقوقي وفلسفي ووظيفي عريض تفترضه هذه المهمات. وهي تقتصر لا محالة على التصريف الاجرائي والبيروقراطي إذا لم يهيمن عليها مثل هذا التعريف. وتتقلص المعاني الكبيرة والمثالات الى ألفاظ جامدة وفقيرة. وتحظى الأحكام الاجرائية الحَرْفية، مثل "تطوير" مؤسسات الدولة الصحافية و"تنمية أصولها" و"ترشيد" أدائها، من العناية والرعاية بأضعاف ما يحظى به التعريف الحقوقي والفلسفي. وبإزاء اللغو الاداري الرتيب والآلي يبدو التنبيه الى الاصول، وهي مصدر التعريف، تكلفاً لا طاقة للمصريين به، ومكرمة يجدر بهم القعود عن طلبها. والى هذا ربما مرد شعور مصريين كثر بـ"ركاكة" مشروع الدستور المقترح وهزاله.

وإعفاء مشروع الدستور رئيس الجمهورية من تسمية رئيس الوزراء، وهو ليس الوزير الاول، على ما يسمى في الانظمة الرئاسية والملكية الدستورية، من الغالبية النيابية، في المرة الأولى، تحايل على المنطقين: الرئاسي والبرلماني معاً. فهذا الاعفاء يفترض أن للرئيس المنتخب بالاستفتاء المباشر أن يحل محل الاقتراع، الشعبي كذلك، على النواب وانتخابهم، وأن يقوم وصياً عليه قبل أن يرضخ له في المرة الثانية، على مضض. فيكلف بتأليف الوزراة من تنتدبه الغالبية الى ذلك (وهذا الإجراء هو قلب الاصلاح الملكي المغربي، وما رفض بشار الاسد الامتثال له في دستوره المعدل). وهو (الاعفاء) يفترض، من وجه ثان، أن على مجلس الشعب (البرلمان) "تكرار" الرئاسة، وتثنيتها ومماشاتها في وقت أول. فإذا عصى البرلمان تحكم الرئاسة، رجعت هذه عن تنطحها، وأقرت للغالبية النيابية بحقها في الوزارة وتقاسم سلطات الانفاذ والادارة مع الرئيس. وإرجاء حل المجلس الى إخفاق التكليف الثالث، وهذا التكليف يتوجه على المجلس كلاً وليس الى غالبيته، يضعف النازع الى ائتلاف غالبية نيابية تتولى وحدها تسيير الحكم وتحاسب عليه، ويقوي نازعاً نيابياً مشهوداً وسائراً الى احلاف ظرفية ومصلحية متقلبة ولُحمتها توزيع المغانم والأسلاب. وهذا ضرب من دعوة وإيعاز طائفيين وصنفيين (من طوائف الحرف وأصنافها في العهود المملوكية والعثمانية)، على شاكلة الوكالة الازهرية والوكالة الامنية والعسكرية القومية، والوكالة الاعلامية.

الموجب الحقوقي

و"تحصين" القرارات الرئاسية المرسية (و"المحمدية" على حسبان خطيب مسجد الشربتلي) من القضاء، على درجاته ومراتبه وفي قمتها المحكمة الدستورية، اقتضاه عسر اجبار القضاء، في مجتمع طلق سكونه الى "غليانه" (دوركهايم)، على الرضا بحال الطائفة أو الصنف، والرضوخ لـ"تنظيم" على شاكلة الوكالات والأسلاك. وقد ينقاد قضاة كثيرون في أحوال غير قليلة الى الحال والتنظيم هذين، وهم انقادوا اليهما فعلاً أوقاتاً طويلة. ولكن الانقياد الفعلي لا ينفك مخالفاً "طبيعة" الحق والقانون ونسق النظر والرأي الحقوقيين والقضائيين. و"الطبيعة" والنسق هذان معياريان وموجبان بنفسهما ومن نفسهما، وليس بمقتضى قوة أو مصلحة فعلية. وغالباً ما يخالف الموجب الحقوقي والقضائي مقتضى المصلحة الخاصة وربما العامة. وبعض الدول الديموقراطية العريقة لم يقر المحكمة الدستورية المختصة أو المحكمة العليا العامة على صلاحيات تنشئ الحق (والقانون) وتوجبه، أو "تخلقه" على قول أجنبي، إلا بعد قرن ونصف القرن على نشأتها. فليس في "المجتمع" جماعة أو فئة أو قوة تختص بمصلحة هي إنشاء حق وإيجابه من طريق قوة القضية المقضية، على رطانة أهل القضاء، وحدها.

ويعود هذا بالمسألة الى علاقة دستور الدولة بالمجتمع، بحسب عنونة مشروع الدستور المصري الباب الاول من مواده. وهو صرفه الى خليط لا يتميز من الاحكام العامة والخاصة. فطلب الاسلاميين، "معتدلين" إخوانيين و"غلاة" سلفيين وحشويين، دستوراً "اسلامياً"، على معاني النسبة الكثيرة والمشتبهة، بذريعة تديّن معظم المصريين بالاسلام، وانتسابهم التاريخي والثقافي اليه، يفترض (الطلب) أن الدستور هو مرآة كيان الشعب أو الامة الطبيعي أو الجوهري، وصورة وجدانه أو إحساسه (بـ) نفسه، ومن داخل هذه النفس. وعلى هذا، شاعت في المشروع العتيد كنايات الهوية ومصطلحها المبهم والغامض. ولما كان ما يفهم بالدستور وعنه يتصل بالدولة وإرادتها وأجهزتها، شاعت في الدستور المقترح حتى ملأته الوكالات ومعاييرها الادارية والاجرائية، على شاكلة تقرب من أنظمة الأسلاك والمنظمات الداخلية. وفي المحصلة، تفرق "الشعب"، مرجع الدستور ومصدره والقوام على دولته وحكومته، كتلاً وجماعات وهيئات عينية، ولا يعقل التأليف بينها في شعب سياسي وهي على حالها "الحقيقية". فالتأليف يقتضي أولاً التجريد الحقوقي والسياسي، وتعريف الجماعات والهيئات والكيانات تعريفاً مشتركاً وجامعاً، لا مساواة أو تسوية من دونه، يحلّها في مواطنين أفراد وآحاد. وهؤلاء يسبقون الجماعات والهيئات والكيانات سبقاً معنوياً ونسقياً، وليس سبقاً واقعياً أو حقيقياً.

والتأليف على هذه الصورة هو شرط فك الدولة من المجتمع، وتوحيد الشعب السياسي على خلاف الجماعات والكيانات الأهلية، وإرساء السلطة على المصلحة العامة وتدبيرها، وتداول أحزاب مختلفة إياها، فلا يفتتح الحزب المستولي والغالب في كل مرة نظاماً خاصاً ومنقطعاً. وهو شرط استقلال القضاء والقانون وتعاليهما عن الميول الظرفية المتضاربة، وتخليص الادارة من علائق شاغليها و"عمالها"، وتحريرها من مِلكهم ويدهم، الى آخر شرائط اخراج نصاب الدولة العام والمشترك من متعلقات العصبيات والامتيازات والتفاوت. ودستور هذا دأبه يَعْرض الدولة على المجتمع، ويخرجها منه، ويحول بذلك بين الجماعات الاهلية والسياسية الحزبية (والافراد الذين يمثلون جماعات وأسلاك) وبين "التجسد" في الدولة أو تجسيد "المجتمع"، أو مرفق من مرافقه، في الدولة المتسلطة و"الملّية"، على ما يترتب على طلب الاسلاميين، وترتب على استيلاء "القوميين" على الدول المتفرقة التي استولوا عليها.

فزعمُ أن على الدولة تمثيل الشعب وتجسيده، من غير سبق تعريف الدولة (الوطنية) تعريفاً حقوقياً ومن غير تعريف الشعب تعريفاً سياسياً، يؤدي لا محالة الى استيلاء عشيرة او ملة، أو "عشيرة ملة"، على السلطة والقوة والموارد. وعلى هذا الزعم، وتحقيقه عنوة واستيلاءً، نهضت أنظمة معمر القذافي وصدام حسين وحافظ الاسد وابنه، نصت "دساتير"ها على الأمر أم لم تنص. وينبغي ألا يحجب التهريج القذافي الدامي، حين حل الدولة، ومفهوماتها ومعانيها وإداراتها وجيشها، في الشعب والجماهير والمنتجين مترتبات الافكار التجسيدية والتمثيلية المباشرة على الوقائع السياسية والقانونية والاجتماعية (والعسكرية والادارية...) الوطنية. فالدولة، أو نصاب السيطرة والتوحيد والموازنة والتحكيم معاً، إذا لم تعرض على النظر العام والمشترك، وعلى المداولة والمنازعة، لا مناص من أن تستدخل العلاقات الاجتماعية كلها على شكل اشوه، وتحيلها استتباعاً واستئساداً ساحقين، ومسرح حروب اهلية مزمنة. والقراقوشية القذافية والصدامية الحسينية والاسدية، على اختلاف تواريخها و"موادها"، هي ثمرة تغليب الأجسام الاجتماعية والتاريخية الحقيقية والمادية على المعايير الحقوقية والشكلية المجردة والمشتركة. فالسلطة، في هذه الاحوال، "شيء" عيني يُملك ويحاز ويملأ ويوزع ويسترجع ويورث، الى آخر وجوه مسالك "الشيء". وعلى هذا، فالنص على الجمهورية والديموقراطية والتعددية وتداول السلطة وحقوق الانسان وحرية الرأي والتحزب... لا يعدو احصاء وعود ممتنعة ومستحيلة، إذا حسنت النيات، أو الكذب والتدليس المتعمدين إذا خبثت.

وذلك أن الجمهورية والديموقراطية والتعددية ... لا تستقيم إلا بافتراض حل الجماعات والأجسام، حين دخولها في الدولة الدستورية والوطنية ومباشرتها السياسة في اطارها وتحت شرعها، في إرادات راشدة وقائمة برأسها واختيارها، أي في مواطنين أسوة. فـ"وطن" هذه الارادات هو دستورها، أي ميثاق تعاقدها واتحادها. وهو مسوغ الكلام على "وطنية دستورية"، على قول أميركيي الولايات المتحدة. ولا تسوغ سلطة "مشيأة" مع هكذا دستور، وهكذا وطنية. وتسوغ، على خلاف زعم أصحاب "الجذور" الدينية والقومية "العميقة" و"الحية"، محافظة الجماعات المتحدرة من بلدان ومجتمعات وطنية متفرقة على "خصوصيتها" الى جنب اندماجها في أمة سياسية. وشطر راجح من حيوية امة الولايات المتحدة الاميركية مرده الى تمييز الشعب السياسي والدستوري من "الشعب" التاريخي والاجتماعي، الحقيقي والمادي. فيسع المصريين المسلمين، اذا شاؤوا، الاضطلاع بالأزهر وتمويله وتدبير شؤونه، في اطار قانون جمعيات أهلية. ولا ريب في أن هذا التمييز عسير، ولا يبلغ إلا بـ"مجاهدة" النفس مجاهدة بطولية، ومن صنف غير الصنف "الجهادي" أو الاخواني الشائع الذي يفضي مثاله الدستوري الى تعاقد وكالات وجماعات وجمعيات في حلف قبلي تتربص به الحرب الاهلية