الثلاثاء، 19 أبريل 2011

ولادة القضايا والمسائل الطائفية والأقوامية ونظيرها القومي العربي... و "إسقاطهما" معاً

المستقبل - الاحد 17 نيسان 2011
دخلت الجماعات والمجتمعات العربية المشرقية عهد الدولة الوطنية، أو صورتها وبنيانها، واستقرت أو اضطربت على شاكلة كيانات سياسية ومثالها، من باب "الثورة السلبية" (على ما تقدم القول في مقالين سبقا في "نوافذ المستقبل"، 9/1 و23/1/2011). وتلازم الدخول، استقراراً واضطراباً، مع تقطيع أوصال بعض الجماعات الكبيرة، النَّسَبية (الأحلاف القبلية الكبيرة) والقومية (والقوم الكردي مثالها) والطائفية المذهبية (مثل الروم الأرثوذكس والمَلَكيين والدروز والشيعة الإمامية الإثني عشرية، وقبل هؤلاء وأولئك أهل السُّنة). فحُملت الجماعات العريضة والمنتشرة في عدد من الولايات وبعضها نازل على الحدود الجديدة بينها وقد انقلبت حواجز بين الدول، وبعضها الآخر نازل في أنحاء متفرقة من الولايات السابقة حُملت الجماعات الأهلية هذه على انقطاع بعضها من بعض. وهي كانت الى الأمس القريب قوية العلاقة، أو العلائق والأواصر، تروح وتجيء في حمى السلطنة الواحدة وولاياتها المتصلة، وديراتها المستقلة. والحق ان الاستقلال والاتصال نجما عن غلبة الجماعات على ديراتها وبلادها ونواحيها، وتدبيرها (أهالي) الديرات والبلاد والنواحي بموجب أعرافها وسننها وتقاليدها الغالبة. ولم ينجم الاستقلال والاتصال عن شراكة سياسية، ولا عن التزامات إدارية أو مصالح قضت بتسوير دوائر الإمَامة والإقامة، ورفع "المسالح" والحصون على طول خطوط الدوائر المرسومة والمعروفة.
[الملة المتصلة والواحدة
فقطعت الحدود السيادية الجديدة، والكيانات السياسية والإدارية الوليدة، أواصر وروابط الجماعات الأهلية والأقوام. وخلفت في نخبها القديمة والناشئة المولودة من الإصلاحات والإدارات والتجارات والمواصلات على وجه الخصوص، جروحاً وندوباً كان لها الأثر العميق في "سياسيات" الجماعات والنخب معاً. فالإدارة السلطانية العثمانية ساست الجماعات الأهلية المتفرقة، من قبائل أو عشائر وأهل مذاهب وملل دينية وأقوام (أو قوميات)، بسياسة سلطانية أو امبراطورية مشتركة تقريباً أقرت لها بروابطها وأواصرها، وبوحدتها وانفصالها، وأوكلت الى هيئاتها وأسلاكها ومراتبها الخاصة الولاية الداخلية عليها، ورعاية دوامها على سننها وأعرافها وتقاليدها والتحكيم في منازعاتها. ولقاء الولاية والرعاية الداخليتين اضطلعت الهيئات والأسلاك والمراتب، بنواحي السلطنة القريبة أو البعيدة، بأداء فروض الولاء والطاعة للسلطنة، سلطاناً ووالياً ومتصرفاً، الى آخر مراتب السلطنة الإدارية والسياسية المحلية. فتخللت الولاءات النَّسَبية والمذهبية والقومية الكيانات والأبنية الإدارية والجغرافية (البلدانية) والاجتماعية (البوادي/ الأرياف، البوادي/ المدن، الأرياف/ المدن).
فكان الدروز، على سبيل المثل، في الشوف ووادي التيم والجولان وحوران، وهذه نواح انضوت من بعد في أربعة كيانات سياسية وتقاسمتها ولايات متقلبة العدد (وإمارة ومتصرفية وإمارتان) ومختلفة العرض، كانوا في الأثناء "أمة" واحدة أو ملة متآصرة ومتكاتفة على اختلاف بلادها ومنازلها وجيرانها. وترتبت على الآصرة الملية والأهلية القوية والمقيمة، على رغم تفرق البلاد والإدارة والجوار، نتائج ذات شأن بالغ. فكانت الجماعة المذهبية والنَّسَبية، والوجهان متضافران، واحدة في نزاعاتها المتفرقة والمختلفة. فإذا تصدى دروز اللجا الحوراني، الفلسطيني والأردني والسوري، لجند ابراهيم باشا ابن محمد علي باشا، نائب السلطان على مصر، وهو (ابراهيم) في طريقه الى عاصمة السلطنة في النصف الثاني من ثلاثينات القرن التاسع عشر، عازماً على الاستيلاء عليها قبل ان يقطع عليه الجوق الأوروبي الطريق (في كوتاهية 1838) فرق اجتماعه ساقة ابراهيم أو الشطر الخلفي من جيشه. وجاءت المقاتلين النجدة من الجولان القريب ومن الشوف الأبعد. ووسع من شاء منهم الالتجاء الى بعض أهله في أي بلد يختاره من بلاد الملة الواسعة.
والهجرة، جماعةً، من ديرة الى ديرة في أعقاب هزيمة عسكرية، أو محنة أو فتنة، دأبُ الجماعة، على صورة هجرة الجناح اليمني من دروز الشوف، غداة كسرتهم بعين دارا في أوائل القرن الثامن عشر، إلى حوران والجولان. وقام الدروز كتلة على الجيش الفرنسي في النصف الثاني من عشرينات القرن العشرين. وهرب بعضهم الى بلاد بعضهم الآخر. وشفع بعضهم ببعض عند أهل القوة. وهم، في الأحوال كلها، يتزاوجون ويتزاورون. ولا تحول موالاة بعضهم أولياء أو حلفاء متخاصمين أو متعادين، على ما هي حال إسرائيل اليوم بإزاء دروز لبنان ودروز سوريا، من دوام المودة والتآخي بين أجزاء الجماعة المتصلة. فيسع الجنود الدروز في صفوف الجيش الإسرائيلي المحتل في 1982، والمرابط في الشوف، زيارة الأهل المحليين والخطبة والزواج من غير أن تفسد الحرب مودة الأهل. ويسع، من وجه آخر، المقدم الجنبلاطي مناشدة أهل ملته الفلسطينيين، "العرب الإسرائيليين"، ترك الانخراط في الجيش الإسرائيلي، فلا يحمل الأهل المناشدة على عداوة أو ضغينة، بينما يتصور انخراط لبنانيين مسيحيين أو شيعة في صفوف ميليشيا محلية أنشأها الاحتلال الإسرائيلي، في صورة جريمة لا يلغيها تقادم الزمن.
[جامعة الأجزاء
والدروز ليسوا بين الجماعات الأهلية المشرقية، حالاً على حدة. فالجماعات المسيحية العربية من غير الأرمن والأشوريين والكلدان والسريان (وهؤلاء جماعات ملية وقومية)، ومن غير الموارنة، جمعت بينها كنائس بطريركية مستقلة رأسها منها، ومن اكليروسها. ومعتقداتها تحدرت إليها من تاريخها العريق، ومن المطارحات والمناقشات والخلافات اللاهوتية والتنظيمية التي هزت "الشعب" المسيحي المشرقي بين بيزنطية "والجسر" (على البحار الثلاثة) شمالاً وبين بلاد القبط جنوباً وبين النهرين شرقاً في القرون الطويلة الأولى من المخاض الكنسي. ولم تشذ عن هذا الكنائس "الكاثوليكية" المتحدة، أرمنية كانت أم كلدانية... والجماعة الأرثوذكسية، من بين الجماعات الملية القومية، هي الجماعة المسيحية العربية الوحيدة ربما التي تجمع العروبة التاريخية والثقافية والبلدانية إلى التنظيم الإقليمي المستقل، على رغم روابط قديمة بالفنار البيزنطي فالعثماني، وروابط أضعف بالبطريركية اليونانية. فلما انقلبت الولايات السابقة، بعد دمج بعضها ببعض وتقسيم بعض آخر، كيانات سياسية وقانونية (وإدارية واجتماعية واقتصادية) مستقلة تقطعت أواصر رعايا الكنيسة الأرثوذكسية، وهم مواطنون في الكيانات الطارئة.
وإذا أقامت الأجسام الكنسية المتفرقة على هياكلها ومراتبها، وعلى أسقفياتها وليتورجياتها ومعتقداتها بديهة، فالحق أن الحال ا لسياسية والكيانية الجديدة لم تعدم أثراً عميقاً في وجدان الجماعات الديني والتاريخي معاً. ولعل هذه الحال أثرت في الجماعة الأرثوذكسية العربية فوق ما أثرت في الجماعات الملية والقومية الأخرى. فعلى خلاف هذه، انتشرت الجماعة الارثوذكسية العربية في الأنحاء العثمانية، والبيزنطية قبلها، كلها. ولم يبقَ لها موئل أو معقل غالب، على نحو المعقل الأرثوذكسي الأرمني بشرق الأناضول، أو الموئل اليوناني على ساحل إيجه، أو الحمى الأشوري بوسط العراق الشمالي، أو المعقل الماروني بشمال لبنان ووسطه الشمالي. فأقامت على انتشارها الضعيف، وعلى تخللها الجماعات السنية العربية، الغالبة على السكان. فكان الهيكل الكنسي البطريركي، في إطار الولايات السابقة وحدودها السياسية والقانونية الرخوة، هو جامعة أجزاء الجماعة الاعتقادية.
فلما تماسكت الحدود السياسية والقانونية الوطنية بعض الشيء، نشأت مصالح سياسية واقتصادية عن الأطر الإدارية والجغرافية الطارئة، متباينة. فشبكات التبادل والتجارة والانتقال القديمة والمستقرة منذ زمن بعيد، وهي شبكات ربطت بين الجماعات والبلدان على قدر ما ربطت بين البضائع والسلع والأسواق، تقطعت. واضطرتها الحدود الجغرافية والسياسية، ومكاتبها الجمركية وحسبتها على الاستيراد والتصدير وحصصهما ومصادرهما وعلى التهريب، ومراقبتها الأمنية، اضطرتها الى تنظيم شبكات تداول جديدة، وإلى دعم سلع والتخلي عن أخرى، ومراعاة مصالح "الحمايات" الأجنبية الغالبة. فتضافر التقطيع والتضييق الجديدان، مع غلبة مصالح الدول المنتدبة وتحطيمها وسائل الإنتاج وأنماط التبادل السائدة من قبل، على رمي الشبكات القائمة وأهلها، في أزمات متناسلة ومزمنة. وولد بروزُ شبكات ناشئة أصحاب مصالح جدداً نازعوا المتربعين في سدة المصالح الآفلة على مكانتهم وعوائدهم. وعزلت الحدود الجغرافية والسياسية الوطنية الناشئة الوحدات الأهلية، الملية، بعضها عن بعضها الآخر. وفوق هذا، وأشد فداحة منه، نصبت الكيانات الوطنية أجزاء الجماعات الدينية والأهلية الجزء بإزاء الجزء، وليس الكل المنتشر بإزاء كل منتشر غيره. فألفت "الأبرشية" الأرثوذكسية في الكورة نفسها، وقد انقطعت من بطريركيتها "الشامية" والعثمانية العريضة والواسعة، بإزاء الكتلة المارونية اللبنانية بل الأنطاكية "الساحقة" كلها، على ما روى إميل شاهين الى محمد أبي سمرا اخيراً ("النهار"، 16/1/2011). وعظَّم فداحة الأمر "الوجودية" اندلاع الصراع على المحل الأول في الدولة الجديدة، وكان (الصراع) مقتصراً على المحل الثاني أو الثالث في الإطار السلطاني أو الامبراطوري. فشحذت الحال الجديدة النعرات، وصوّرت الحال السابقة في صورة فردوس "وحدوي" ضائع. وتنطحت الجماعات الصغيرة والقليلة العدد الى التمثيل على الكل الواحد والاوسع. فسوغت المكانةَ القائدة التي تصبو اليها الجماعة من طريق تعظيم القضية التي تضطلع بالدعوة اليها. وعلى هذا، تديّن أنطون سعادة وميشال عفلق الارثوذكسيان، مولداً ونشأةً و"جلداً معنوياً"، بدينين قوميين يشبه واحدهما الاخر عصبية وأسطورية دمويتين. وحُمِّل الكيان اللبناني، ودعاته الموارنة وهم كثرتهم الكاثرة في الدولة "الكيانية" التي ضوت حدودها، من قنوبين شمالاً الى يارون وعين إبل ويارين جنوباً، كتلتهم الغالبة المسؤولية الداخلية عن تقطيع "سايكس بيكو" الخارجي ومبضعه الجراحي.
وعلى هذا، فالإنكار الأرثوذكسي، شأن الإنكار الدرزي ونظيره السني، في فلسطين ولبنان والأردن وسوريا والعراق (على وجه آخر)، على الكيانات والدول الوطنية المشرقية أو العربية عزلتها، أو "انعزاليتها"، وطائفيتها، إنما تصدر ("الإنكارات") عن بواعث ملية وسلطانية (امبراطورية) فوق صدورها عن باعث قومي سياسي. فما تنكره نخب أرثوذكسية، اجتماعية وإكليركية وثقافية، قومية سورية وبعثية على "التجزئة القطرية"، أي على الدول الوطنية المشرقية، هو تصديعها الحيِّز السلطاني المتصل الذي لاذت به زمناً طويلاً الجماعات الملية المتماسكة. وتنكر تقطيع الدول أجسامها الملية، وامتحانها مصالحها المستقرة ومكانات أعيانها الموروثة والمزمنة. فالدول الوطنية لم تقطع أو تجزّئ جسماً سياسياً متصلاً وجامعاً فهذا الجسم لم يكن قائماً وهو يفترض بنية سياسية وأحوالاً اجتماعية غير معروفة ولا تزال غامضة الى اليوم -، بل قطَّعت وجمعت جماعات أهلية ومللاً وأقواماً وولايات ونواحي متناثرة، ومنكفئة على العموم، تربط بينها رابطة السلطنة (وهذه ليست "لا شيء") الفوقية والمرتبية والائتلافية (الكونفيديرالية). وأرسى التقطيع والجمع الكيانيان والوطنيان موازين قوة ومكانة ومصلحة لا عهد للجماعات بها، واقتضت منها جهود تكيف مادية ومعنوية عظيمة وثقيلة، ورتبت عليها منازعات وانقسامات داخلية مريرة.
[النداء الملي
ولم تستو الجماعات على قدم واحدة بإزاء التقطيع والجمع الكيانيين. فلما اجتمعت كتلة الموارنة الكبيرة والراجحة في لبنان، وضوت الدولةُ الوطنية معظم أجزاء الكتلة، استقوت هذه بالدولة واستظهرت بها، وقامت منها، ومن جماعاتها، مقام "الطبقة الحاكمة" أو "الأمة"، على المعنى الجرماني (وهو قريب من الحال العثمانية وقبلها المملوكية). فاجتمعت الجماعات المذهبية الأخرى على كراهيتها والضغينة عليها. ولم يكن لشيعة لبنان "الكبير" تتمة ملية وأهلية بفلسطين أو بسوريا، البلدين المجاورين. فلم يكابدوا آلام "التجزئة" والانعزال، ولم يعانوا تباريح الاتصال، على ما سمي النازع الوحدوي السوري في ثلاثينات القرن الماضي اللبنانية. وبقوا "كيانيين" على قدر ما، وعلى ما ظن فيهم الوحدويون، الى أن حمَّ القدر الفلسطيني، وفي ركابه الأقدار الإسرائيلية والسورية والإيرانية. وعلى رغم اجتماع الأقدار هذه، وغلبة الجوار السوري والعامل الفلسطيني من قبل، لم تستفق الأهواء الوحدوية إلا استجابة لنداء ملي، مصدره التشيع الإمامي الإثني عشري وسيطرة جهازه العلمائي "الإكليركي" على الدولة الإيرانية. وأقام شيعة العراق على عصبية مذهبية واجتماعية ("يسارية") ما بقيت العصبية السنية والعربية الشريفية (نسبة الى أنصار فيصل ابن الشريف الحجازي المكي حسين) غالبة. فلم ينتسبوا الى عروبية نشطة، وفرقت بينهم وبين الجوار الفارسي الإيراني عصبية دموية وتاريخ من الغزوات والغارات والمجازر يرقى الى القرن السابع عشر.
وغلبت العرب السنّة على سكان المشرق، عدداً وسطوة واجتماعاً وتاريخاً وثقافة، ناطت بهم قبل غيرهم، وفوق غيرهم، "القضية القومية" على وجهيها، انفصالاً وطنياً واتصالاً واتحاداً أهليين وقوميين (والأدق القول: أهليين قوميين، من غير انقطاع ولا عطف. فالقومية بهذه الحال ليست منفصلة عن الأهلية، ولا عن صورة الحلف العريض). فهم وجدوا أنفسهم، فجأة، في مقابلة جماعات وأقوام استتبعوهم طويلاً في سلطناتهم، ودان لهم هؤلاء بالطاعة، فمحضوهم الحماية والجوار الآمن. وتولت الاستتباع طبقة عسكرية احترفت الحرب والرئاسة والجباية لقاء تسليمها بالشريعة الإسلامية معتقداً وقانوناً ناظماً لمعاملات المجتمع، وبإدارة مجتمعية ذاتية يتولاها سلك الفقهاء والعلماء بالتكافل والتضامن مع أهل التجارة ومشايخ "العشائر" والخطط والقرى. فاتصلت نواحي المشرق، الى مصر جنوباً وكيليكيا والأناضول شمالاً فقابادوقيا وتراقيا العثمانيتين من بعد، من غير انقطاع ظاهر. وتماسكت ديراتها ومدنها ومزارعها وقراها وطرق تجارتها وحجها من طريق "طبقتها" الحاكمة والسلطانية. وهي بنيتها الفوقية. ومن طريق فقهائها (ومحاكمهم ومذاهبهم) وتجارها (وقوافلهم ووكالاتهم وقراباتهم وحوالاتهم) وأعيان عشائرها (وأعرافهم وأطر اجتماعهم). وهم وهيئاتهم بنيتها التحتية. ونهض اتصال نواحي المشرق و "وحدته" على تقسيم أدوار واختصاص: فعادت "الحرب"، وهي لب السياسة وركنها، ومتعلقاتها المباشرة وغير المباشرة، الى "أولي الأمر"، واختصت "الرعية" بأداء الضرائب والأخرجة والأعشار والجزية والطاعة، على قول محمد علي الأرناؤوطي الى الشيخ عمر مكرم نقيب الأشراف الطالبيين بالقاهرة عشية استيلاء الأول على حكم مصر، و "عزله" الثاني.
والوحدة على هذا النحو، أي ائتلاف الجوار ائتلافاً رخواً ومرناً لا إلزام فيه غير ذاك الناجم عن تقسيم عمل مصلحي، تترجح بين قطبين: قطب سلطاني (امبراطوري) فوقي، وقطب أهلي (ديني عرفي واجتماعي معاشي) تحتي. ويتخلل القطبُ الآخر، ويلزمه الإلزامات ويقيده، بحسب ميزان القوة والمصلحة والظرف، وذلك من غير ان يجري التخللُ والإلزام والميزان على سنن أو قواعد معروفة وثابتة تخول "المتضرر" الاحتجاج بها أو الاحتكام إليها. وهذه، أي السنن والقواعد، تنشأ عن عقد سياسي لم يكن تبلور بعد. وحين تعاقبت الحوادث الدولية والعثمانية والوطنية المحلية على بلاد المشرق (أو الشرق الأدنى، في المصطلح الاستراتيجي والجغرافي السياسي الفرنسي)، وتفتحت المنازع "القومية" الاستقلالية المحلية وقويت، أقامت الجماعات وأصحاب المنازع هذه من رؤساء الجماعات وأعيانها ووجهاء الصف الثاني والثالث على قسمة القطبين، السلطاني الجامع من فوق والأهلي المؤتلف من تحت. واستمرت الجماعات، ومنازعها، على الترجح بينهما.
[أمم الولاية
وَوَلدت القسمة القطبية من غير عقلها، وَوَلد الترجح بين حدّيها، القضية (والأدق: القضايا) القومية والمسألة (والأصح: المسائل) الطائفية أو الملية على الوجوه التي وُلدت عليها المشكلتان أو المسألتان واستمرتا عليها، على هذا القدر أو ذاك، الى اليوم. فبقيت "القومية" شعوراً أو "تذكراً"، على قول إدمون رباط وميشال عفلق، وحركةً، على قول جمال عبدالناصر، كناية عن الذوبان البركاني أو تدفق السيل الذي يطيح الترع والمجاري ويكسرها. وبقي شرطها وقوامها ولاءً ومبايعة يتولاهما الجمهور، وهو على نقيض أحواله الأهلية والعصبية الأساسية والتكوينية. ومن غير رسو النقض المفترض، والناجم تخيله وتوهمه عن خروج "طبقات" المتعلمين والموظفين ومزاولي المهن الحرة والمكتبية الجدد عن أحوال أهلهم، على معاملات وأبنية اجتماعية وسياسية وثقافية متماسكة ومختبرة.
ويبايع الجمهور ويوالي وليَّ أمر يمثل في نفسه نسباً ودماً (فيصل بن الحسين)، أو انتساباً تاريخياً (عبدالناصر ووحدة "الإقليمين" المملوكية)، أو دوراً جوهرياً (ياسر عرفات وحبل السرة الفلسطيني)، أو فتوة فروسية وحربية (صدام حسين وبوابة الأمة الشرقية)... يمثِّل على الفكرة والقضية القوميتين، ويجسدهما تجسيداً مقدساً أو حراماً (ذا حرمة تحظر التحفظ والرأي والمنازعة والمداولة). وليس في الجسم السياسي، وبالأحرى ألا يكون في رأسه ما يستبقي أثر تركيب أو كثرة أو تفاوت تصف الجمهور المبايع والموالي وتعيِّنه وتعرّفه. فسند "الولي" على معنيي ولاية الأمر والسلطان، وحرمة الكرامة أو "البطولة" هو عروة، أو رابطة، أو روح "لطيفة" تحوم في فضاء المشرق العربي، وتشد، وهي في عليائها الأثيرية، كتل البلاد والأقوام والجماعات المنكفئة، وتنفخ فيها لحمة متينة تعصى حوادث الزمن وفرقته وتبديده. وتستيقظ الروح، أو تتنبه وتستفيق على قول "الشاعر" اللبناني الصارخ، في الملمات، وبإزاء موت الأمة الوشيك عن يد الأجنبي القاطع، الفرنجي الصليبي أو المغولي التتري أو المستعمر الأوروبي أو الصهيوني الكياني والأميركي. وقرين هذه ووليدها هو الطائفي الأقلوي والشعوبي الدخيل والمولَّد. وعلى هذا، لا تحتاج الروح القومية، ولا "الدولة" القومية أو "دولة الوحدة" من بعد الى حركات سياسية وطنية وبلدية محلية تنزع، في إطار دولها ومجتمعاتها الوطنية أولاً، منزعاً "قومياً" مشتركاً، وتنحو نحواً مركباً يمثل على الجمع بين المستويين المفترضين والتأليف بينهما. فما تحتاجه هو جَبُّ الطائفي الكياني والشعوبي الدخيل والمولَّد، وسحقُه. ولا يبلغ الجب أو السحق غايته إلا حين الانتصار على الرأس الاستعمارية والإمبريالية، وقطعها مجازاً، وفصلها عن "شعوبها" المسالمة و "المحترمة"، على قول بعض الإيرانيين الخمينيين اليوم.
فما أقامت الجماعات الأهلية، وهي بلدانية محلية واعتقادية وقرابية معاً، على اتصال شبكاتها في إطار السلطنة أو السلطنات، قبل الكيانات الوطنية، وما مضت على استقرار تقاليدها وعلاقاتها بين ابعاضها وأجزائها و "أبرشياتها" في الكنف الديني والقومي المختلط والجامع، بقيت المسألتان، المسألة القومية العروبية والمسألة "الطائفية" (والأقوامية) الكيانية، خافتتين بعض الشيء. والحق أن الكيانات الوطنية المشرقية التي نشأت وأنشئت غداة الحرب الأولى، وفي أعقاب نحو 80 عاماً على "التنظيمات" العثمانية، وعلى احتداد المنازعات الأوروبية الإمبريالية في إطار العولمة الأولى، فجّرت المسألتين، وربطتهما الواحدة بالأخرى برباط وثيق ومزمن غلب على العلاقات السياسية داخل الكيانات، وعلى علاقاتها الإقليمية الواحدة بالأخرى. وغذى الرباط الوثيق والمزمن هذا إيديولوجيات محمومة ومعاملات عنيفة حوّلت المسارح السياسية الداخلية والإقليمية ميادين حروب أهلية مستترة مضمرة أو صريحة فاحشة.
فبين الكيان الأهلي والعصبي الداخلي (ما قبل السياسي أو تحته، على سبيل الاستعارة) وبين السلطنة القومية المفترضة التي أُوكل إليها التمثيل على الدولة "الأمة" المرجوة (ما بعد السياسي أو فوقه)، خلت المجتمعات "السياسية" من حلقة وسيطة تفتح الكيانات الأهلية والعصبية ومنازعاتها على الدولة الوطنية المشتركة من وجه، وتغرس الإطار السلطاني في أرض الدولة، من وجه آخر. والأمران كانا يقتضيان إبطال نازع الكيانات الأهلية الى الانفراد بمكانة عصبية الدولة المستولية ومحلها، وإلى إرساء الدولة الوطنية، المؤتلفة من جماعات أهلية متقطعة، غالباً، على المُسكة العصبية. ولكن "الدول" الوطنية المستجدة والناشئة ضوت جماعاتها، أو كياناتها الملية وأقوامها (وأوَّل هذه الأقوام القوم الكردي العصي)، على معيار عصبي مترجح. فنصبت "الدولة" السورية الدروز والعلويين وسنّة الشمال العرب والأكراد، في وجه كتلة الوسط السهلي والمديني السني، كيانات قد لا تنازع الكتلة العتيدة، والغالبة على مجتمعات المشرق، الغلبة، ولكنها تقيد غلبتها، وتطعن في ميزانها ودعواها. وفي إطاره بلغ التفاوت الملي والطائفي ذروةً أورثت المسألتين الطائفية والقومية حدةً داميةً مريرةً ومزمنة. وأخرجت "الدولة" الوطنية اللبنانية الناشئة بعض الكتل المسيحية المجتمعة، أو الأكثف اجتماعاً في المشرق، من انبثاثها في الأرجاء العربية والإسلامية، وخصتها بكيان سياسي تنازعه نازعا الانعزال (أو الانفصال، على ما سمي أولاً) والاتصال ("الوحدوي") قبل ولادته الديبلوماسية.
وتوجت الإمارة الأردنية الهاشمية جسماً عشائرياً، أقرب الى التجانس الاجتماعي والأهلي، ولكن لا مُسكة له من داخل، وبغير تاجه الأميري فالملكي الخارجي، شأن "الوحدات" أو الأحلاف القبلية. فكان الجسم العشائري، قياساً على الكيانات الوطنية والمشرقية المجاورة، أمتنها وأعصاها على المنازعات الأهلية. وهذه طرأت عليه مع التحاق اعداد كبيرة من الفلسطينيين به ولجوئهم إليه، ومع اشتداد عودهم الأهلي، ورفضهم الصيغة الاتحادية أو الفيديرالية التي اقترحها عليهم، متأخراً، العاهل السابق. ومثلت فلسطين الانتدابية، وهي اختتمت حقبتها أو مرحلتها هذه بتقسيمين، على مأساة الترجح بين الكيانات الأهلية ويبن السلطنة القومية المفترضة. فأفضت العروبة الأهلية والعصبية الى ضم الضفة الغربية إلى (ما استوى) مملكة هاشمية أردنية (جراء الضم)، وإلى الإنكار على الأهل الفلسطينيين وطناً وكياناً سياسيين بذريعة "الدولة الأمة" القومية ولائحتها في الأفق. وعلى هذا، أفضى التقسيمان الى حربين "أهليتين" مزمنتين، غير متكافئتي الصفة، فلسطينية إسرائيلية، وفلسطينية أردنية. وأفضى طيف السلطنة العروبية الجامعة، وانفجار المسألة أو القضية الفلسطينية، رافد الطيف الأول والنافخ شبه الروح فيه مذذاك، أفضيا الى معمعة نزاعات وحروب اختلط فيها الأهلي العصبي بالوطني "القطري"، والعروبي القومي بالإقليمي ودوائره الظرفية والمتباينة. وفاقم العراق، حيث الميزان الشيعي السنّي والميزان العربي الكردي متشابكان بالميزان العشائري المديني والريفي، تعقيد المسألة الوطنية والسياسية. ويقتضي هذا معالجة مستقلة.

الاثنين، 4 أبريل 2011

خطابة الديكتاتورية العربية الآفلة و"ثوراتها"في حلّة وأداء مسرحيين وأوبراليّين هازلين ومأسويين

المستقبل - الاحد 6 آذار 2011

كانت خطبة «العقيد» معمر القذافي، في ختام 41 سنة ونصف السنة من الاستيلاء المباشر (1 ايلول 1969 22 شباط 2011)، بياناً مسرحياً، شكسبيرياً أو بيرنديلوياً أو أوبوياً (نسبة إلى «أوبو ملكاً» لألفرد جارّي الفرنسي)، في السلطة والحاكم الفرد والتأله السلطاني الهاذي والعزلة. والبيان الطويل والفذ والاسثتنائي آية من آيات الأداء المتلفز والمباشر، لغةً وإلقاءً وتشخيصاً ولباساً وقيافة و«ديكور» خشبات وأدواراً ثانوية. فالرجل الذي ظهر فجأة على شاشات الفضائيات، قبيل السادسة مساءً (أو الثالثة في توقيت غرينتش)، وتكلم طوال ساعة وربع الساعة، بدا، وهو في السبعين من العمر، إذا صح أنه كان في الثامنة والعشرين حين استولى على حكم ليبيا وطرد الإدريسيين عن العرش، حطاماً إنسياً، وبقية بشرية. ولولا ترويع الأخبار والصور الصادرة عن بعض البلاد الليبية، وأولها بنغازي، ونذر الهول التي لم تتكتم عليها كلمة سيف الإسلام معمر القذافي قبل يومين (في 21 شباط)، لكانت الخطبة المعمرية من أمهات الأعمال المأساوية والمسخرات الهازلة معاً. فالوجه غارَ في تجاعيد بشرة وغضون من غير لون ولا التماع. والقسمات ارتخت، وتراكم بعضها فوق بعض لزجاً وهلامياً، على ما يرى في بعض أشرطة ميازاكي المصورة والمتحركة. وانقلب محور الوجه أو قوامه وعباراته من الطول، على ما هي حال الوجه العادي، إلى العرض. فتراكمت القسمات، الواحدة فوق الأخرى، واقترب بعضها من بعض على نحو غير مألوف في الوجوه. وظهر التحول في الشفتين والفم فوق ظهوره في القسمات الأخرى. فحلت فيه، في التوائه العَرْضي ولعابه واندلاقه على الذقن تحت شعر الشاربين المتفرق والقليل والضعيف، عقود من الازدراء والقرف والكراهية والتجبر والانكفاء على نفس لا نافذة لها ولا شرفة. واعتمر الخطيب المفاجئ، والمتهالك بعضه على بعضه، قبعة قد تكون صحراوية، تشبه شبهاً غريباً قبعات الأمراء والقادة الإيطاليين في تصاوير القرنين الخامس عشر والسادس عشر ولوحاتهما. ولبس صدرية من اللون البني الغامق نفسه، تنتهي في الجزء الأعلى بياقة عريضة تنبسط على معظم هذا الشطر من الصدر. فلم يعوض اللونُ البني، وهو قريب من لون وبر بعض الجمال والنوق، بشرةَ الوجه الكالحة والمغبرة «لهجةً» لونية، على قول صنّاع التزويق وأصحابه. [فرح الاعدام ووقف الخطيب البادي الاضطراب، والحاضر حضوراً طيفياً أقرب إلى تطواف الصدى بين الأقبر في حكايات الجن وعبقر البدوية، في مدخل ثكنة العزيزية وبوابتها الحديدية بطرابلس الغرب. والمبنى العسكري والستاليني العمارة، ضخامة وثقلاً وإرهاصاً بالخراب وامتناعاً من إحاطة الصورة القريبة بأنحائه كلها، ظاهر الخلو من السكان والمقيمين. وهو لا يزال يحمل آثار قصف سلاح الجو الأميركي في 1987، رداً على ضلوع «الأخ العقيد» في اغتيال جنود أميركيين ببرلين. ووقف الزعيم الثوري متداعياً تحت قوس البوابة، وراء منصة عارية نصب فوقها لاقط صوت معدني نحيل. ويحف المسرح الهزيل والمقفر نصبُ ذراع طويلة وقوية وقبضة تهصر طائرة فانتوم أميركية، عادت عدسة التصوير إليه المرة بعد المرة، وترددت بينه وبين بوابة ثكنة العزيزية وواجهة المبنى الخرساء ووجه الخطيب الأغبر، وقيافته الصحراوية والنهضوية الإيطالية. وخطب حوله «جمهوراً» ضئيلاً ومتفرقاً وصفه عبدالرحمن شلقم، وهو وزير خارجية «الأخ معمر» سابقاً ومندوبه الدائم إلى الأمم المتحدة قبل استقالته و «صديقه» بداهة، غداة الخطبة بيومين، فقال: كان القذافي يخطب جمهوراً هو «أطفال أتى بهم من دور الرعاية (...) ومواطنين هم جنود ألبسوا زياً مدنياً«. وتكلم «القائد المؤسس»، غداة تلويح ابنه «السياسي» والديبلوماسي، والمفاوض، ومحرر الرهائن وبيّاعهم في سوق طويلة عريضة حدودها مستشفيات طرابلس الغرب وصوفيا البلغارية وأدغال تايلندا وبرلين واسكوتلندا ولبنان وليبيريا وإيران وسوريا وفلسطين بحرب قبائل وبلاد وديرات وأهل. وهي حرب سبق أن نفخ والده الذي «لا يمس» في مثلها بلبنان، قبل نحو 30 عاماً، وبالصومال وتشاد والحبشة وأطراف السودان ومالي إلى ليبيا نفسها، في العشرين عاماً «الافريقية» الأخيرة. فأوجز، إذا صدق الفعل في خيوط الكلام المتقطعة مثل خيط طائرة ورق مرتجلة، فلسفة ثورته وروحها، وبسط حوادثها ووقائعها وأحكامها، إيجازاً وبسطاً لا ريب في أن صورهما التلفزيونية «عمل» يجب حفظه وتداوله. فالرجل الذي تربع طوال أربعة عقود وبعض العقد على كرسي بلد افريقي شاسع، محوري ومفتاحي (بعد الاستئذان من فاروق الشرع وبثينة شعبان) موقعاً ونفطاً، ومد يديه الطويلتين، وعضدهُما «الفلوس» الغزيرة والسائبة واستباحة القتل من غير قيد، إلى بعض أنحاء الأرض، يبحر في الكلام والمخاطبة من غير دفة ولا شراع ولا بوصلة أو خريطة. فينتقل موج الخطابة المتلاطم بين الجهات كلها، ويتقدم وينكفئ على عقبيه، وييمم شمالاً ويحيد جنوباً، ويبدي ويعيد، ويقطع البداءة والإعادة، ويخلط الواحدة بالأخرى. ويوعد ويتهدد ويستجدي ويستدرج ويهيب ويسلّم وينزل ويعد. وينتصب ويتهالك، ويبدل نظارتيه، ويتفقد قبعته طويلاً، ويسوّي حمالة ثوبه العريضة بين كتفه وخصره. ويقطع الخطابة بقراءة مخطط خطبته، ويشرب من كوب ماء يأتي بها أحد خدمه، ويقرأ في قانون العقوبات الليبي «قبل الثورة». وتقتصر قراءته على «إعدام». ويكرر اللفظة في ختام جمل تصف الجرائم قبل النص الواحد على عقوبتها. ويفرح باللفظة فرح الولد بلعبة يخبئها تحت غطاء يخفيها، ثم يشد الخيط فتظهر اللعبة بعد خفائها، وتهتز أعطاف الولد انبهاراً بسحرَيْ الخفاء والتجلي، واحتفالاً بولادة الكلام الذي يوقّع السحرين توقيعاً منظوماً، ويعاقب بين الساكن والمتحرك معاقبة «قانونية». «إعدام»، «إعدام»، «إعدام»... وكأن هذا هو وجه المعنى وإيذانه وبشارته وعبارته المبينة. وتتداعى الخطبة في هذا الموضع تداعياً مفاجئاً. فينعطف «القائد» صوب حوادث ووقائع دامية ومعاصرة، وقعت في العقدين الأخيرين، مثل مقتلة تيان آن مين ببكين في 1989، وقصف الدوما الروسية في 1992 (وأغفلها ملخص الخطبة). فيرويها رواية «روحانية»، ويستحضرها على نحو استحضار المسحور، أو المربوط الذي حل الجن حركات جسده وعبارات لسانه، خيالاته المعذِّبة. وراوي الكوابيس هذه يرى الآن وهنا ما يرويه. وتغشى رؤاه السوداء والليلية عينيه وكلماته. ويخبر الرجل المتصدع، على شاكلة الملك لير في عين العاصفة الليلية، المنفضين عنه وأعداءه المتكاثرين أخبار حملات قمع دامية جردها حكام طغاة دينغ هسياو بينغ في الصين الشيوعية، وبوريس يلتسين في روسيا النافضة عنها لتوها رداء الحزب الدولة الحديدي، وبيل كلينتون مزعوم هو من بنات دماغ الخطيب المحموم على متظاهرين عزل أو نواب معتصمين في مبنى الدوما. وإذا بلطخات ومعرات تصم سير هؤلاء الحكام وسجلاتهم «الإصلاحية» تنتصب علامات هداية ورشد وفقه يهتدي بها والي حركات السطو والاغتيال والخطف في أجزاء من العوالم العربية والإسلامية (وبعض الأوروبية، من طريق الجيش الجمهوري الإيرلندي و «كارلوس» القاتل الفينزويلي - الفلسطيني...). ويردد السائر على نهج القتل العمد على مسامع «رعيته» بشائر إردائهم بنيران قواته الخاصة و»فيلقه الافريقي»، وقوات أولاده، الساعدي وهنيبعل وخميس، وجحافلهم. وفي الأثناء، بينما يرتجل الخطيب دعواته وتذكيره وتهديده ووعوده، ويتنقل بين الواحدة والأخرى على غير هدى ولا منطق، تُسرّي آلة التصوير عن المشاهد، فتترك الخطيب المفترض يغرق في أَجَمة خطابته ويتيه في شعابها المتشابكة، وتثبت صورها بوابة الثكنة، أو واجهتها، أو نصب الساعد والقبضة والطائرة الحربية. وتلم إلماماً خاطفاً بوجود أولاد دور الرعاية والجنود المتنكرين في زي مدنيين، وبهتافاتهم الناحلة وسواعدهم وقبضاتهم. ويبدد تعثر إلقاء القذافي، وتضييعه خيط كلامه، وعودته المكررة والآلية إلى مسائل سبق تناولها قبل لحظات، وتأتأته، تبدد هذه الإيحاء «الحربي» و «البطولي» الذي قصدت الصور الهزيلة الرمز إليه، والتمثيل عليه. فتنقلب المحاكاة «الثورية»، والبطولية الفاتحة، مشهداً بائساً ومتداعياً يؤديه امرؤ مستعار من مسرح صمويل بيكيت المقفر. فكأنه من «أبطال» «في انتظار غودو» أو «ختام اللعبة» المعفَّري الوجوه بالطحين، أسرى جرار مهشمة ومنزوية تقوم منهم محل الصدر والجذع والحوض والقدمين. [اصل الاستبداد الإرادي فالخطيب الذي يرى نفسه، في مدخل الثكنة الخربة التي قصفتها «القوة العظمى» قبل ربع قرن، وارثَ حرب عمر المختار على المحتل الإيطالي وانتصارات جمال عبدالناصر على الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة والجديدة وعلى «أذناب الاستعمار»، هذا الخطيب لا يرى الفرق بين «وقفته» الأخيرة وبين مواقف الأسلاف العظام، المحدثين والقدماء (عقبة بن نافع وطارق بن زياد وغيرهما من المحاربين والفاتحين الذين سمى باسمهم حامل راية «الفاتح من سبتمبر» القواعد العسكرية التي أخلاها الأطلسيون نزولاً على رغبة العقيد الانقلابي). وغفلته عن الفرق بين مسرحه الركيك والميلودرامي الآفل وبين مسارح الحروب والفتوح والأفعال التاريخية والدرامية الكبيرة قرينة بليغة وجارحة على هزال ما ينصب «الواحد»، على قول إتيين دولابويسي في السلطان المستولي، طاغية فرداً، وحاكماً بأمره ونهيه. وكان لابويسي (1530- 1554) سأل عما يسوغ انقياد الناس إلى صاحب سلطان آمر وناه فيهم، وهم الكثرة والعدد والقوة والرأي واليد المنتجة، وهو أي صاحب السلطان في أحيان كثيرة، قليل الأنصار وخاوي الوفاض من القوة والرأي والتدبير. ويعزو المفكر السياسي الفرنسي رفع الطاغية إلى مرتبة السلطان الواحد، إلى «إرادة العبودية» والانقياد والتسليم، وذلك بإرادة ورغبة تلقائيتين لا مسوغ لهما مسوغاً «موضوعياً»، مثل ميزان القوى وكفاءة القائد وتفوقه، إلخ. فهو قد يكون «عبداً أجدع»، على ما جاء في بعض الحديث، أو رجلاً ضئيلاً وأشوه وأحمق وألثغ، على قول صاحبنا. ولا يحول هذا بينه وبين صدوع الرعية بسلطانه وطاعته، ورفعه فوق مرتبة البشر، وحله المرتبة «العظمى» والمنزلة السامية والمتألهة. ويحقق «قائد الثورة» الليبي الرأي في أصل الاستبداد ا لإرادي والطوعي، على معنى التسليم والتصديق والاعتقاد. وخطبته الهاذية، والمشهد الميلودرامي والأوبرالي الهازل (والمأساوي) الذي اختاره ساحة ومعرضاً، بيان بليغ عن أركان سلطاته أو سلطانه. والبيان القذافي، شأن الأسطورة أو الخرافة ومقارنةً بالتجربة المعللة، «لا يُدحض»، وليس إلى إبطاله ومناقشته سبيل. فهو، من هذا الباب، شكلاً ومضموناً، مثال أنموذجي لخطابة (وخطابات أو مقالات) «القادة» العرب المتسلطين والمؤبدين. وهو مثال أنموذجي لأفعالهم وتصريفهم السلطة المؤبدة التي صنعوها، وتواطأت جماعات بلدانهم على صنعها والإذعان لها. ولعل ركن السلطان المشروع والمطلق الذي ينسبه إلى نفسه معمر ابن المجاهد البطل محمد («من ابطال القرضابية وتالا... المدفون في الهاني») ابن عبدالسلام أبو منيار («أول شهيد سقط فوق الخمس في أول معركة عام 1911»)، وابن أخي الشيخ الساعدي («في مقبرة منيدر») هو تحدره من نسب بطولي «ثوري»، يرتقي بدوره إلى اصل متأله. وما قد يبدو في الكلام السائر مجازاً، وقولاً مرسلاً على عواهنه، ينتصب في خطابه «القيادة» كتلاً من صور وألفاظ وأفكار أو أحكام يترتب عليها إنشاء عالم الحياة التاريخية والسياسية على مثال وشكل بعينهما. وتعريف الرجل نفسه «قائد ثورة»، ونفيه عنه، تالياً، الرئاسة أو غيرها من ألقاب الانتداب أو التكليف أو التمثيل، هذا التعريف يقصد به «قائد الثورة» تخطي الوسائط السياسية، والهيئات والمؤسسات، إلى جوهر السلطة الذي لا اسم له، ولا تمثيل عليه. وذلك أن الاحتكام إلى الرئاسة، أو إلى الوسائط السياسية والهيئات، وإلى الانتداب والتكليف، يلزم عنه تقييد الرئيس ومتقلدي المناصب بقيود تعاقدية وإجرائية دستورية. وهذا ما يسارع الوالي المتصدع والمتداعي إلى نفيه أشد النفي. فيُتبع تجديد صفته «قائد ثورة» بالإيضاح: «والثورة تعني التضحية دائماً وأبداً حتى نهاية العمر» عمرِ قائد الثورة وأعمار أبنائه وأحفاده إلى حين انقطاع ذراريهم بمشيئة علوية ربانية («إلى الأبد»)، في مقابلة ونظير «أجدادي» و «أجدادكم»، و «دماء أجدادنا» الواحدة، أنا وأنتم. وعلى هذا، فالثورة، وصنوها القيادة، لا تقتصر على الإنشاء والتأسيس، أي على الولادة. ومن بعد الولادة على تحرير الأولاد من والديهم، ومن ولايتهم عليهم، وتركهم يبلغون رشدهم وأشدهم أحراراً من غير وصاية أو ولاية مزمنة. فالإنشاء والتأسيس الثوريان لا ينتهيان إلى حد أو وقت. وهذا ما مثلت عليه وتمثل الأسر الحاكمة «الثورية» و «التقدمية» العسكرية، من اليمن إلى تونس، وبينهما علناً أو وراء الستارة العراق (الصدامي بعد العارفي والقاسمي) وسوريا (الأسدية أبداً ودوماً) ولبنان (الحزب اللهي الحرسي) ومصر (الناصرية) والجزائر (البومدينية). [وصلة العالمين ومرجع الإنشاء والتأسيس الثوريين والمرسلين لا إلى حد أو غاية هو التضحية، على قول صاحب النظرية الثالثة، و«قبلة» حركات التحرر العربية والإسلامية والعالمثالثية الثورية وقيادييها ومقاتليها ومناضليها وصحافييها وباحثيها وجامعييها وطلابها وروائييها وشعرائها ونقادها وناشريها. والقيادة الثورية، «دائماً وأبداً» مرة أخرى، أولها تضحية بالنفس والدم والأهل وملك اليمين. ومن يضحي بهذا كله وهو لا يُحصر، ويهبه هبة لا يرجو لها ولا عنها مقابلاً أو ثمناً، يشترط لقاء هبته السخية والكلية مكافأة مثلها، لا يحصر سخاؤها ولا قيد على كليتها. والمكافأة المستحقة هي القيادة الثورية أو الولاية الكينونية، في مصطلح الخمينية ووكالاتها، «حتى نهاية العمر» والأعمار المتحدرة من العمر الأساس والأول. والقيادة الثورية، على الصور القذافية والناصرية والصدامية والأسدية والبومدينية والصالحية والبنعلية، إنما تستحق المكافأة العظيمة وربما الباهظة هذه لأنها فعل يصل عالم الخلق، ودنيا الإنسيين والشاهد، بعالم الغيب والميعاد والبقاء، على ما لا يصرِّح «العلمانيون» ويجهر العرفانيون والمتألهون الخمينيون. وقائد الثورة، المقاوم والمجيد والمقاتل والحر والمجاهد والتاريخي والطاهر والفارس والشهيد «في النهاية»، هو هذا كله في آن، وجامع أسمائه الفاضلة (ولولا الفتنة لما اقتصرت على الفضيلة وتجاوزتها إلى الحُسن)، لأنه عائد من مجابهة الموت، ويعشق «عادة» الشهادة، وقافل منتصراً ومظفراً ومعاهداً. و»ليبيا شجرة نحن نتفيأ ظلالها لأننا غرسنا(ها) بيدنا وسقينا(ها) بدمنا». فالراجع من الموت حياً ومخضباً بدم التنين أو أبي الهول، أو الشيطان الاكبر، ليس حياً كسائر الأحياء وسوادهم وعامتهم، بل هو مبتدئ حياة، ومتعهد حياة وارفة وظليلة بسقايته الشجرة (الأمة) بدمه ودم أبيه وعمه وجده الجاري في عروقه وعروق أبنائه وبنته وأنسبائه الحقيقيين والوهميين. والخطبة المعمرية والعربية النسبية لا تنفك تروي سيرة الموت والبطولة المجيدة. وفصلها الأول، بعد فصولها الأولى التي سطرها الجد والأب والشيخ العم، مداهمته إذاعة بنغازي، وإعلانه «البيان الأول لتحرير ليبيا المحتلة» في «الفاتح العظيم» من ايلول (سبتمبر) 1969. وعلى من قد يستهين ببطولة المداهمة، وإعلان بيان التحرير، أن يعلم هول ما حرر منه البطل والقائد مذذاك «الليبيين والعرب والمسلمين» (وافريقيا وأميركا اللاتينية وآسيا والعالم، على قوله في مواضع متفرقة ومتواردة من الخطبة). فهو حررهم من «5 قواعد أمريكية (و) 20 ألف إيطالي يحتلون الأرض الليبية من مصراته إلى ترهونة إلى صبراته تحت السلطة المدنية الطليانية (...) وكانت البطنان محتلة بالكامل بالقوات البريطانية، (و) طبرق ترزح تحت السيطرة البريطانية الكاملة«. والحق أن هذا غيض من فيض. وقبل المداهمة وإعلان بيان التحرير كانت «الأرض الليبية» تنوء بأسباب الدمار وأعوانه ودواعيه: وهي «كل الدكاكين والورش وكل الخدمات، وعندهم (الطليان والأمريكان والبريطانيين) أعضاء في مجلس النواب ليبيين مرتشين». وفوق هذا، ناءت الأرض الليبية بالأسماء الأعجمية ومهانتها الفظيعة: «معسكر المستشفى في بنغازي، هذا كان معسكر ويفل، مكتوب عليه اسم ويفل». والمداهم العظيم وحده «(تجرأ) على أن يشطب على كلمة ويفل». ومعسكر الفويهات كان اسمه ديغاروستا. والبطل العربي بعث من رميم العجمة ورمادها البارد جمرة العربية ولألاءها، اسماً وحالاً وحياة. والمداهم الجريء وحده، وصحبه الخلص وهم فيض منه وفرع، أعلن من ميدان الجلاء في طرابلس ولا يقدح في عظمة الأمر أنه إعلان، وبقي إعلاناً «ان القتال سيكون من شارع إلى شارع، ومن بيت إلى بيت، ضد القوات الأمريكية... ما لم يتحقق الجلاء». وكفى الله المؤمنين القلائل شر القتال، وكفاهم «فقصَ وجه البارود، وتفجيرَ (القنابل)». فجلت القواعد الأمريكية الخمس، والقوات البريطانية، وجلا الـ20 ألف إيطالي (مدني)، وتحررت ليبيا من الاحتلالات، ومن «النكسة والعودة للوراء والخزي والعار». وهي، على هذا ومذذاك وإلى يوم الدين والنشر، غنيمة غالية، وطُعمة محرريها وحدهم. فهم، أو بقيتهم الباقية والمقتصرة على الرجل وذريته وفروعه، ضحوا بأنفسهم، وأعدوا العدة وأعلنوا، حين لا يعلم أحد «أين كنتم (أيها المتظاهرون المحتجون)؟ أين كان آباؤكم وأجدادكم أنتم يا مرتزقة...؟ لم تقولوها أنتم أبداً ولا آباؤكم يا شذاذ الآفاق، أين كنتم أنتم؟!». فمن لم يضحّ بنفسه، أو لم يعزم عزماً أكيداً على التضحية بها ولم ينوِ الشهادة على قول قائد الثورة الليبي، ومرشد الثورة الإيراني وحرسها وباسيجها وأنصارها وقواتها الخاصة والعامة هذا لا حق له في الحكم والقيادة، أي في الولاية البطولية والمقدسة والحرام. والحق في الولاية حصري. ولا يرى السلطان الليبي الآفل حرجاً في نفيه من هذا الحق الأبناء والآباء والأجداد، ولا الأولاد والأحفاد والأرحام (الفروج والأعراض)، والأموال بديهة أو «فلوس البترول» التي يزعم قائد الثورة الطاهر والحر انه عيي وهو يقول لليبيين «خوذوها بيدكم، كل شهر خذوا فلوس البترول وتصرفوا فيها» (بينما تتواتر الأخبار والأرقام عن أصول «سيادية» مودعة في المصارف والبورصات باسم «القائد» وذراريه وفروعه تبلغ قيمتها 100 مليار دولار). وتتجدد الولاية بتجدد «العدوان» المتناسل على باب العزيزية، ومربعها الأمني والاستخباري. وتحشد الرواية الخرافية المعمرية الأعداء من كل حدب وصوب، وهو يحصي العشرات منهم بالاسم: جبروت امريكا، وجبروت بريطانيا، والدول النووية، وجبروت حلف الأطلسي، وفرنسا «في الجنوب»، والسادات، وهبري (التشادي)، وهيلاسلاسي (الإثيوبي)، وبورقيبة (التونسي)، والنميري (السوداني)، إلى «الرجعية وعملاء الاستعمار» وإسرائيل، وغيرهم كثر. [الدولة المزدوجة وعلى صورة الرواية الأسطورية والفلسفية المتواترة والسائرة، وهي رواية حربية بدوية الأصل ورعائية، يسود المقاتل البطل والمقدام، العازم على التضحية والفداء شأن القائد و «طبقته»، القاعدين عن القتال، و «طبقة» المرتزقة. وهؤلاء لا يُعلم أين كان آباؤهم وأجدادهم، ولم يعلنوا ان القتال سيكون من شارع إلى شارع، ولا فقصوا باروداً ولا فجروا قنبلة، ولم يناطحوا الطائرات الأميركية، ولم تقصفهم هذه ولم «تدق بيت (هم)» ولم تقتل أولادهم. وهؤلاء، أي الكثرة الغالبة والساحقة، هم «رعية»، على معنى غيبته ذاكرة «ديموقراطية» على رغمها، واطرحت منه الترتيب الأخلاقي والسياسي والعرقي والبيولوجي. فالرعية هذه، بإزاء طبقة الحكام الأشراف والسادة (أو طبقة «أشرف الناس» و «المقاومة»، في المصطلح الخميني والبعثي المسلح)، هي طبقة لجبة تلم في صفوفها من لا يحصون عدداً: الدراويش والملتحين والمعممين والمنتكسين وأهل الحضيض وأشباه الليبيريين واللبنانيين والجرذان والمأجورين وشذاذ الآفاق والفئران والشذاذ والمتشدقين والمستسلمين ومتعاطي الحبوب والمغيرين والمجرمين والصغار والمقلدين والمرضى والمندسين والمرتشين والقاعدين في الخارج والحراقين والمَخزيين والمرتزقة وغير القائلين (أن القتال سيكون...) والسذج المضحوك عليهم والسراقين والعويلة («العيال» في المصرية) والمدوَّخين والسكرانين والمعزولين (عن أهلهم). وهؤلاء الرعية، وفوقهم «طبقة» الأشراف والقادة والأبطال والمقاومين (ولو اقتصرت على الصلب المعمري وذريته)، لا يرتبطون برابطة الدولة وأبنيتها وقوانينها، ولا برابطة المجتمع وعلاقاته ومعاييره. فهؤلاء جبلوا من نور، على قول أهل العصمة والإمامة في أنفسهم، وأولئك جبلوا من طين. والحرب «الأهلية» هي ميزان «السياسة» في بلد هذا شأن طبقة الحكام الأشراف وطبقة الرعية المحكومين فيه. فلا محل والحال هذه ولا معنى لتقسيم العمل السياسي وهيئاته وقيوده (الرئاسة والحكومة والنيابة والإدارة والقضاء والقوات المسلحة النظامية...)، أو لتقسيم العمل الاجتماعي (فالعاملون «شركاء لا أجراء»). و «مجتمع الحرب» أو «مجتمع المقاومة» هذا، على قول خميني وحرسي عتيد، يطرح قيود الحقوق والقوانين والهيئات والمؤسسات (الوطنية والدولية والاقليمية)، ويدوسها ويزدريها ويخشاها. فهي تفترض فرقاً بين الدولة وبين المجتمع، وبين الحكام وبين المحكومين، وبين العام وبين الخاص، وبين الجماعة وبين الفرد، وبين القوانين وبين الحقوق. وعلى هذا، فليس قول معمر القذافي، في ضوء ما تقدم، أنه ليس رئيساً لتصح فيه الاستقالة أو يصح فيه القتل فولكلوراً فحسب. فهو ليس رئيساً، بل هو قائد ثورة وبطل ومقاوم و»تاريخ مجيد على ما تلقب قادة الانقلابات العرب ويتلقبون كلهم»، لكي لا تجوز فيه الاستقالة أو الإقالة، وتبطل محاسبته ومراقبته، ويعطل تقييده. وهذه، الاستقالة والإقالة والمحاسبة والمراقبة والقيود، تفترض الفروق التي تنفيها الثورات والانقلابات «التقدمية» والعسكرية العروبية. وما يسوغ «لا رئاسة» القائد المزعومة يسوغ قيام المرتزقة الليبيين والعرب والافريقيين والأوروبيين، وقوات الساعدي وهنيبعل وخميس القذافيين الخاصة، محل القوات المسلحة النظامية الوطنية، من غير تبعات أو مسؤوليات هذا المحل. فما لا يتعين في محل ووقت وصلاحية ومبنى، أي في دولة وسلطات وهيئات واختصاصات، من اليسير أن يتخفى وأن يتبدد في «ليل المطلق الأليل والأجوف»، وفي مساخره المسرحية والميلودرامية الدامية. والزعم ان «الدولة»، أي القائد وحاشيته وأعوانه، هي الشعب «المصعد» أو المرتقي إلى سدة الأمر النافذ، يتستر على ما «الشعب يريد» رؤيتَه وتشخيصه وتظهيره وتقسيمه وتفصيله وإخراجه من الإبهام المعمّي وعَرْضَه على العلن والمحاسبة والفحص. ويبرر دمج «الشعب» في «الدولة» العربية (وفي كل دولة) ازدواج الحكم والسلطة والإدارة والقوة العسكرية والقضاء والقانون ازدواجاً قاتلاً. فإذا لم تكن الدولة (نيابة عن الشعب وشريطة مراقبته) هي ولي أمر الجيش الوطني، والمخولة وحدها إعلان حال الطوارئ، وإعلان الحرب، ورعاية السلم المدني، ازدوجت الدولة، وتناسلت «دولاً» و»شعوباً» و»جيوشاً» و«حروباً«. وفلسفة «ثورة الفاتح العظيمة»، على نحو ما تجلوها مقالات قائدها، وجلاها تاريخ ليبيا المأساوي، تلقي ضوءاً فاضحاً على تواريخ العراق وسوريا وفلسطين ولبنان ومصر واليمن والجزائر وإيران، الدامية والمحبطة. فهذه البلدان والمجتمعات نهب لرواية بطولية أسطورية ترفع القيادة المحاربة والمجاهدة فوق الرعية المحكومة، وتقسم «الشعب» حزبين وأهلين متقاتلين، وتلغي الدولة وهيئاتها وسلطاتها وقوانينها وتبددها في ولاية مقدسة ومطلقة يتوارثها الأولاد عن الآباء في أصلابهم، وترسي ازدواج الدولة والشعب والمجتمع كيانين كاذبين يستحيل تشخيص أحوالهما ومناقشتهما وتحسينهما من طرق عادية آمنة، معلومة ومعتادة. فالقائد من الرئيس، تلقب بلقب الرئاسة أم لم يتلقب، هو بمنزلة الميليشيا الأهلية (أو القوات الخاصة أو الثورية أو الحرس الخاص أو الجمهوري) من الجيش الوطني، وبمنزلة الحزب الواحد أو الطليعي والحاكم من المجلس النيابي والحكومة والإدارة، وبمنزلة عصبية القيادة الأهلية من المجتمع «السوي» وجماعاته وتكتلاته وطبقاته وبمنزلة أجهزة الاستخبارات والعمليات الخاصة من العلاقات الخارجية، والاغتيالات من العمل السياسي والديبلوماسي، والسلاح الذري من العلاقات الدولية... والقائد والميليشيا الأهلية الخاصة والحزب الواحد أو الطليعي وعصبية القيادة، ورواية «الثورة» البطولية والأسطورية التي تقيم الحدود والمراتب والأدوار وتصنعها وتؤبدها، هذه كلها تحتاج إلى خفاء صفيق تتستر به على أحوالها وأفعالها وعلاقاتها وغاياتها وأفكارها وأموالها. فالتملص من العلانية والمناقشة والمراقبة والمنازعة وتبديع المعارضة، هي سمات الديكتاتوريات «التقدمية» والشعبوية العربية، مالت سياستها الخارجية إلى السياسة الأميركية أم أقامت على «مناهضة الإمبريالية» و»تحرير فلسطين» والحرب الوجودية على اسرائيل واليهود، وعلى عالمثالثية («محايدة») مضمرة أو معلنة. وتقود مجتمعةً، على ما هي حالها غالباً، إلى محاكاة أبنية الدولة والسياسة محاكاة ظاهرة وصورية، فيما هي تبطن تفلتاً تاماً من موجبات الدولة والسياسة المفترضة. وردت الحركات الوطنية المدنية والديموقراطية، العربية الوليدة، على سمات الديكتاتوريات الشعبوية العربية المتحدرة من انقلابات عسكرية «تقدمية»، ببرامج ومطاليب إجرائية شكلية، وقانونية دستورية، تفضي إلى فصل السلطات، وإضعاف رأسها الجامع والمركزي الساحق، وحل الأجهزة الموازية والخفية، وإلغاء الازدواج، وتعزيز العلانية، والإقرار بالكثرة السياسية والاجتماعية وبحقيقة خلافاتها ومنازعاتها ومناقشاتها وبضرورة تمثيلها وجدوى هذا التمثيل... وهجرت الحركات هذه القضايا «الجوهرية» الدولية والقومية والعسكرية والاجتماعية الطبقية. ورعت، على حياء وخفر، إجماعاً مضمراً ومائعاً على اعتدال وسطي ومسالم، لا يرتب عداوة أو حرباً أو انعطافاً باهظاً. وهي، إلى اليوم، لا تظهر حرصاً على صوغ رواية أسطورية وبطولية تحل محل الرواية المجهضة والمدمرة، المتخلفة عن «ثورات» الديكتاتوريات المتصدعة والآفلة. والديموقراطية لا تعفي من الهوية الوطنية، ولا تعصم من العداوات والصداقات والحروب والاحلاف، ولا تلغي المواقع والأدوار والمصالح الاستراتيجية، بل تحمل هذه على مداولة حادة. ولا يحول دون إفضاء المداولة إلى انقسام أهلي بنيانٌ سياسي ديموقراطي متماسك لا ريب تضعه هذه الحركات نصب عينها.

الأنظمة السياسية العربية قبل امتحان الديموقراطية وحقوق الإنسان

المستقبل - الاحد 20 آذار 2011

قبل نحو 12 سنة، في 1999، حفل العام ما قبل الاخير من القرن العشرين، بتظاهرات سياسية عربية صوّرت، على أدق صورة، ما تتشارك فيه أنظمة الحكم، وأنظمة السياسة، في كثرة من البلدان والمجتمعات العربية. فحيث جرت انتخابات رئاسية - بسورية واليمن ومصر وتونس أو جرى استفتاء عام بالجزائر- وحيث خلف حاكم (ملك) حاكماً بالاردن والمغرب- او احتفل حاكم بتنصيبه حاكماً وبذكرى فوزه بالحكم بليبيا- كان الاجماع الرسمي والشعبي المظهر اللازم لمشروعية الحاكم، ولمشروعية نظام حكمه من بعد. ففاز الرؤساء بكثرة لم تقل عن 94 في المئة، وبلغت 99 في المئة في حال واحدة، ولم ينافس مرشح ثان جدي المرشح الاول، حيث ترشح ثانٍ (باليمن). وتولت الاحزاب الغالبة على المجالس النيابية، وعلى الحياة العامة، وإن لم تكن أحزاباً واحدة ومنفردة بالدولة، ترشيح الرؤساء إلى الانتخابات، أو إلى المبايعة واعلان الولاء، على ما جرت الكلمة ولم يتحفظ أولو الامر عنها أو عن استعمالها، وخلف المرشحون أنفسَهم على ولايات، ومدد ولايات، تترجح (عدداً) بين الثلاث والاربع، و(مدة) بين الخمس سنوات والسبع، وتترجح جملة مدد الحكم بين اثنتي عشرة سنة وتسع وعشرين. وإلى هذا، فالرؤساء الاربعة عسكريون في ابتداء امرهم، انقلب اثنان منهم على حاكم عسكري سابق، وثالث انقلب على حاكم مدني، وانتقل الحكم إلى رابع من طريق نيابة رئاسة بالتعيين وليس من طريق الانتخاب. [حلة الخلافة ولعل استواء الانتخابات المفترضة مبايعةً، وهي انتخابات من غير مرشحين ولا منافسة ولا حملة ولا فصل بين الدولة، ادارات ومجلساً نيابياً، وبين «حزب الرئيس»، يقرِّب الاجراء السياسي، الدستوري والديموقراطي، اي الانتخاب والاقتراع، من المبايعة المشيخية، والوراثة. فما لم يسقط الرئيس، أو ينحَّ، او يعزل، فهو مستمر على مزاولة السلطة وماضٍ عليها. والاقتراع، ولا تقل نسبته عن 85 في المئة من المسجلين، انما يجدد الولاية، ولا يتطرق إلى برنامجها، ولا إلى القوى السياسية والاجتماعية الملازمة لاقتراح البرنامج وإنفاذه. وهذا كذلك صفة شبيهة بالصفة الملكية المطلقة وغير المقيدة بأحكام دستورية تفصل بين «ولاية الاحكام» وبين «الحكم». وفي ضوء الشبهين هذين، المبايعة واطلاق الولاية، تبدو خلافة الملكين، الاردني والمغربي، والديهما، من غير منافسة ولا ترجيح ولا برنامج أو مضمون ولاية، من باب انتخابات الرؤساء الثلاثة الجمهوريين، أو تبدو الانتخابات الجمهورية حلة ترتديها الخلافة الملكية المطلقة من غير أن تضمر القواعد السياسية والاجتماعية والثقافية التي تتضمنها الانتخابات الجمهورية. وتدل مدد تولي الحكم في البلدان الخمسة، وفي غيرها، على صفة الاطلاق (من القيود الدستورية والديموقراطية) نفسها. فالمملكة الاردنية الهاشمية تولى حكمها الفعلي والمباشر عاهل واحد طوال أربعين عاماً. وتولى الملك في المملكة المغربية الشريفية والعلوية ملك واحد طوال 38 عاماً. ويحكم العراق، منذ 31 عاماً، شريكاً في الحكم ثم منفرداً، «الرجل القوي» نفسه. ودام حكمه إلى 2003، فجمع 35 عاماً تامة. وهذا شأن «رجل» ليبيا «القوي»، ورئيس الجمهورية السوري، بفارق عام واحد وعامين. ويدوم عهد الاول منذ 42 سنة، وحكم الثاني من طريق الابن المستخلف 41 سنة. وتتفاوت مدد الولاية في سلطنة عُمان، ودولة الكويت، واتحاد الامارات العربية، وفي امارتي البحرين (وهي مملكة منذ أوائل العقد الاول) وقطر إلى أمس قريب، ولكنها تعد بالعقود (بين الخمسة والثلاثة). وتخطى رئيسان «جديدان»، الرئيس التونسي (إلى حين سقوطه) والرئيس السوداني، العقدين الاولين من الولاية إلى نيفٍ وثالث. وأتمت ولاية عاهل المملكة العربية السعودية السابق العقدين قبل خلافة عاهل جديد هو ولي عهد منذ بداية ولاية سلفه. والاستثناء الفلسطيني ليس استثناء. فرئيس السلطة الفلسطينية الذاتية المنتخب الاول إلى 2004، انتخبه المجلس التشريعي في الشهر الاول من 1996، هو رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية منذ عام 1968، ورجل «فتح« الاول، وهي أولى المنظمات السياسية والعسكرية الفلسطينية وأقواها، منذ نشأتها في 1965. والرئيس الثاني هو رئيس «فتح». وصنوه الغزاوي منذ 2007 رأس «حماس». وأما لبنان، فخلف رئيس جمهوريته السابق، في أواخر 1998، بالاجماع النيابي، ومن غير منافس، وفي اعقاب «اختيار« وقع على المرشح من غير خارج الاطار النيابي والدستوي، خَلَف رئيساً تولى الرئاسة طوال تسعة أعوام هي محصلة ولاية من ست سنوات وتمديد من ثلاث اقتضى تعديلاً للدستور (1998 2007). والولاية الاولى ونصف الولاية انما تولاهما رئيس الجمهورية الاسبق جراء «اختيار» انتخبه واصطفاه قبل أن ينتخبه المجلس النيابي بإجماع نوابه الحاضرين. وهذا شأن خلفه (1998 2007). ولا شك في أن اضطراب الرئاسة والنظام الجزائريين بعد استقرار دام 13 سنة مع بومدين (11 منها، من 1965 إلى 1976، مضت من غير دستور ولا انتخابات)، وعقداً مع خلفه هو مرآة اضطراب اجتماعي بنيوي، وأزمة سياسية عميقة، أصابا الجزائر، دولة ومجتمعاً، وتخلصت منهما ظاهراً مع انتخاب الرئيس بوتفليقة منذ 12 عاماً. [السلاح والحزب الحاكم وجليّ أن استقرار الانظمة السياسية العربية، ملكية اميرية (دستورية، وبرلمانية، على ما هو حال المغرب والاردن والكويت، او مطلقة)، أم جمهورية (رئاسية او برلمانية)، يلازم استقرار الحكام، وينجم في معظم الاحيان عن شكيمتهم ودرايتهم، السياسيتين والامنيتين. فإذا اسثتنيت الملكيات والامارات (بما فيها الدولة و»السلطنة») الاسرية والقبلية، أحصي سبعة رؤساء، صاروا ثمانية اذا عد لبنان وتسعة اذا احتسبت الجزائر إلى أوائل 1999، خرجوا من صفوف الجيوش العربية. والبلدان السبعة او التسعة، هي جماع الدول العربية غير الملكية ولا الاميرية الوراثية، اذا استثنيت السلطة التنفيذية، من الاحصاء والمقارنة. ولا ريب في ان هذا قرينة قوية على التعالق بين استقرار الانظمة الجمهورية وبين نسبها العسكري والامني المباشر. فرئيس السلطة التنفيذية في هذه البلدان، هو القائد الاعلى للقوات المسلحة، وهو رئيس مجلس الوزراء الفعلي، ووزير الدفاع دستورياً في بعضها. وفي خمسة من هذه البلدان (أو ستة اذا احصي العراق فيها إلى 2003) لم يزل الرئيس هو نفسه الضابط الذي تولى الحكم حين نحى عنه من كان يتولاه قبله. ولم يختبر النظامُ الذي أنشأه مع توليه الحكم انتقالَ مقاليد الحكم منه إلى خلفه على خلاف الاختبار الملكي والاميري والسلطاني منذ مدد طويلة اذا استثني الاختبار السوري في العام 2000- اقترن هذا الاختبار بهيئة الدولة (منذ النصف الثاني من القرن العشرين عموماً) أو لم يقترن. وفي ثمانية من هذه البلدان، والاستثناء النسبي هو لبنان، تساند القوات المسلحة، وقوات الامن، في تثبيت الحكم والحاكم، وفي رعاية غلبتهما على المجتمع، منظمةٌ سياسية واحدة تحفها جبهة «وطنية». ويقوم الحزب «الخميني» المسلح في لبنان مقام الحزب الحاكم و»جبهته»، أو هو يحاول هذا، وتقتفي «حماس» في غزة خطاه. وتترجح صيغ المنظمة السياسية بين صيغة الجهاز المتماسك، والقائم بإزاء الدولة الظاهرة ومراتبها بمنزلة الرقيب عليها والمقوِّم «اعوجاجها» الشرعي والقانوني، وبين صيغة الرابطة النيابية، وتضم إلى النواب أعيان السلك الاداري ووسطاء النفوذ المحلي، وهذه الرابطة رخوة، ومجتمعة على الولاء للرئيس ولاءً شخصياً وليس حزبياً أو ايديولوجياً وعقدياً (عقائدياً). وتتولى المنظمة السياسية، جهازاً كانت أو رابطة، انفردت بالسلطة أم حفتها جبهة «وطنية» صورية، تتولى توحيد الدولة السياسي، إلى توحيدها الاداري من طريق الادارات والبيروقراطية، بما فيها البيروقراطية العسكرية والاقتصادية. وتوكل بعض الدساتير إلى الحزب القائد والاول بعض الصلاحيات الجوهرية مثل الترشيح إلى رئاسة الجمهورية، والترشيح إلى الانتخابات النيابية، وحفظ حصة من النواب على الحزب الاول، الخ. ويؤدي اضطلاع الحزب السياسي بهذا الدور، ولو لم ينفرد بالسلطة وأجاز لأحزاب أخرى او منابر قدراً من العمل والوجود، إلى دمج الدولة في الحزب السياسي، أو في الاحزاب السياسية المقبولة. وإذا خرجت الدولة، ادارات وبيروقراطية، من انفراد حزب حاكم بالسلطة، تولى «حزب الرئيس» ومن ورائه البيروقراطية العسكرية والامنية العليا، رعاية الوحدة السياسية للدولة. [العصبية والدولة ولا يقتصر تثبيت الحاكم الفرد على رأس الدول، جامعاً لمقاليد السلطة والتوحيد، على الحزب والقوات المسلحة والادارة، بل تتولى العصبية قسطاً من مهمات التثبيت والتوحيد هذه. وإذا كانت الاجهزة السياسية والعسكرية والادارية من تظاهرات التحديث الاجتماعي (النسبي) في بلدان امتُحنت جماعاتها الحاكمة امتحاناً وطنياً قاسياً، أو تأخرت طبقاتها الحاكمة عن مسايرة تغيرات مجتمعاتها فسرعان ما ظهر عجزها عن حماية وحدة الدولة، والتسلط عليها، بواسطة موارد الدولة السياسية وحدها. فلا الولاء السياسي والايديولوجي التلقائي، ولا القوة المنضبطة، ولا الوظيفة الادارية بوجهيها: المصلحة والمكانة الاجتماعية بدت لحمة قادرة، منفردة أو مجتمعة، على التمكين من بلوغ السلطة، ثم من حفظها. والحق ان أياً من هذه الاجهزة لم يبق بمنأى عن منازعة العصبيات عليه. فكانت الاحزاب والحركات السياسية، على رغم زعمها «الوطنية» العامة والعلمانية المحايدة، موئلاً لجماعات أهلية وعصبية. وهذه غلبت على الاحزاب والحركات السياسية، وصبغتها بصبغتها، أي صبغة الجماعات الاهلية، المذهبية أو القومية المحلية، أو القبلية. واصطبغت الاجهزة الادارية والعسكرية بصبغة القيادة السياسية، الاهلية، وحاكتها. وعمدت القيادات السياسية الجديدة، الحزبية والعسكرية، إلى انشاء نخب اقتصادية على مثالها، من طريق القطاع العام، أو بواسطة الالتزامات وحصص الاستيراد وتعهد الوساطات والامتيازات والمصاهرات. فالتحمت الدائرة العصبية الاقرب بلحمة كثيرة الموارد والوجوه. والتقت الانظمة السياسية المحدثة و»التقدمية»، أي تلك التي استولت على السلطة من طريق الاجهزة السياسية والعسكرية والادارية، بالانظمة «التقليدية» المنسوبة إلى القبيلة أو الاسرة أو الطريقة (الصوفية) أو المذهب والدين. واستوى الضربان من الانظمة واحداً. فاصطبغت الانظمة السياسية العربية كلها بصبغة عصبيات قادتها الاهلية. وبعثت غلبة العصبيات على سياسات داخلية وعلى منازعات داخلية بعينها، على قدر ما دعت إلى انتهاج سياسات اقليمية دون غيرها، ورجحت احلافاً على اخرى. فأشبهت الانظمةُ الجمهورية الانظمةَ الملكية والاميرية، وأشبهت الانظمة التقدمية الانظمة التقليدية، من وجوه كثيرة. واستوت مسألة مثل مسألة الخلافة، وكان يُظن أنها وقف على الممالك والامارات والسلطنات والمشيخات، قاسماً مشتركاً بين ضروب الانظمة السياسية العربية كلها، وأزمةً سياسية عمّت الانظمة وامتحنتها. فأظهرت الانظمة التقليدية طول باع في الامر تقدم باع الانظمة التقدمية. [المثالات الجامعة تؤدي الظاهرات التي مرت: أي الاجماع والمبايعة والولاية المتطاولة وتضافر الاجهزة السياسية والعسكرية والادارية مع العصبية الاهلية على تثبيت الغلبة على الدولة وتوحيدها تؤدي هذه معنى واحداً جوهرياً هو التلازم بين المثال السياسي العربي المعاصر وبين السعي في الالتحام العصبي. ويَمثُل هذا التلازم، في أوائل القرن الواحد والعشرين، على نحو واحد وجامع. فكأن المسارات التاريخية المختلفة والمتعرجة التي سلكتها البلدان العربية منذ مطالع القرن، وفي معظم الاحوال منذ منتصف القرن الماضي، مشرقاً ومغرباً؛ والاختبارات السياسية المتباينة التي خبرتها الجماعات الناطقة بالعربية والمتصلة «الديار» والبلاد والمتعالقة المصائر على هذا القدر أو ذاك، كأن هذه وتلك لم تنفع في بلورة مثالات سياسية متباينة ومختلفة تكون مرآة لاختلاف المسارات التاريخية والاختبارات السياسية وتباينها. وهذا بقي صحيحاً إلى شتاء 2011. وهذان، الاختلاف والتباين، ينبغي ألا يُنكرا في ضوء غلبة نازع، يبدو مشتركاً، إلى الالتحام العصبي وإلى تحكيمه في الحياة السياسية والقضاء فيها بأمره. فبينما بكّرت بعض البلدان إلى اختبار صور من العلاقات السياسية الدستورية والديموقراطية على شاكلة «الممتلكات» العثمانية المشرقية التي تناهى اليها أمر دستور 1876، وشارك بعضها في اختبار ممثليها إلى «مجلس المبعوثان»، أو على شاكلة مصر التي بعثت الحماية البريطانية المباشرة، في 1882، بعض نخبها العسكرية والدينية على الاجتماع والانتداء في ما يشبه «الحزب»، ونجمت عن الاجتماع والانتداء صحافة رأي، وخلفت المنازعات الاهلية اللبنانية في اواسط القرن التاسع عشر صحافة دعاوة وتحضيض وتكتيل- تأخرت بلدان أخرى، إلى اليوم، عن تحقيق مثل هذه الصور، أو بعضها، وارتكست بلدان أخرى عما اختبرته طوال عقود من السنين في اثناء القرن المنصرم، مثل صحافة الرأي وحرية الاجتماع (المقيدة). وكان العامل الحاكم والمؤثر في افتراق البلدان العربية، في علاقة جماعاتها بالسياسة، فريقين عريضين، هو مبانيها الاجتماعية، وبعدها أو قربها من المبنى الاهلي والعصبي. فحيث غلب المبنى الاهلي والعصبي من غير منازع تقريباً على ما كانت الحال في شبه جزيرة العرب، وإماراتها ومشيخاتها وسلطناتها، وفي أطراف ولايات المشرق العراقية والشامية واللبنانية والفلسطينية والمصرية، وفي الارياف والصحاري الافريقية الشمالية اقتصرت السياسة على الرئاسة، أو الرئاسات، ومراتبها. وقامت الرئاسات ومراتبها وشبكتها محل الهيئة السياسية الناظمة. والرئاسات جزء عضوي من هيئة الجماعات كلها، صغيرها وكبيرها، قليلها وكثيرها، ضعيفها وقويها، المختلط النسب منها والصريح. وتنضوي الرئاسة الادنى وجماعاتها معها، في الرئاسة الاوسع، من طريق الحلف والالتحام وليس من طريق الهيمنة والتذرير (أي التفكيك ذرات). وعلى هذا تقوم السياسة على عقد الاحلاف وفكها وتبديلها، من غير تغيير كبير في هيئة الجماعات، وعلاقاتها بعضها ببعض، أو في علاقات مراتبها ورئاساتها. فالمنازعة على الرئاسة حكر على «بيوت» دون أخرى. ولا يخرج المنازعة من المرتبة، أي من الاسرة والبيت والسلك، إلى التداول الحر والمنافسة، تعاظمُ فئة اجتماعية، وظهور قوتها ودورها، شأن تجار «مدن» الساحل، مثل الكويت والبحرين، وواحات نجد وعسير والقطيف وحائل. وعلى هذا، استغرقت الاحلاف والغزوات سياسة «ملوك العرب». وطرأ التغيير الداخلي من طريق الاحياء الديني، الوهابي، وحلف الفقهاء و»الرؤساء» الشيوخ، ومن طريق تجدده في العقد الاول من القرن العشرين. فانضوت قبائل نجد وتهامة والقطيف وحائل، ثم الحجاز، في مملكة واحدة، ربطت بينها برباط الحلف القبلي الكبير، تحت لواء أقوى العشائر شكيمة، وأقدرها على رعاية المراتب، وتوزيع المغانم، وعلى الاستظهار بالشرع ورجاله، والتزام موازين القوى بين الداخل وبين الخارج. وعلى هذا المثال العملي والمعقد، ضبط عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود الهيئة السياسية التي استأنف انشاءها منذ خروجه من الدرعية إلى الرياض، في 1909، ثم توحيده نجداً وملحقاته في سلطنة توجتها المملكة العربية السعودية في أواخر العقد الثالث. وكان مثارَ الخلاف السياسي، وامتحان السياسة تالياً، تقييدُ التوسع بالقيود الاقليمية والقبلية المناسبة. فقمع عبد العزيز بن عبد الرحمن مشي أحد قادة «الإخوان» إلى الشمال، صوب امارة شرق الاردن، المحمية البريطانية، وأباح الحرب على الجنوب، فقاد أبكار أبنائه الثلاثة، سعود وفيصل وخالد، الملوك الثلاثة اللاحقين، ثلاثة جيوش دخلت اليمن، غير المحمي، وتقدمت في نجران وجيزان في 1936. سلطان من غير ند وكِفء فاستقرت الكيانات داخل حدود أهلية معروفة وموروثة، وتولت القوة البريطانية رعاية العلاقات بين الكيانات السياسية والاهلية المستقرة، في حين رعت الاعراف، وعلاقات الولاء، الروابط السياسية الداخلية. وأولت هذه الرعاية المباني الاهلية والعصبية استقلالاً حقيقياً وعريضاً عن سلطة مركزية لم تكن، فعلاً، الا العصبية الاقوى والاعرق. ولما كانت الجماعات العربية هذه بقيت بمنأى من السيطرة الاجنبية والاوروبية، وبمنجى من وطأتها المباشرة والمدمرة، حفظت سنداً فاعلاً وظاهراً للحريات الاهلية بإزاء سلطة مقيدة بالاعراف والولاءات. وحالت بين الحريات والحقوق الفردية والخاصة وبين الخروج إلى العلانية، أي منعت الحريات والحقوق الفردية والخاصة من التبلور أصلاً. وهذا بعض تأويل «وداعتها»، إلى الريع النفطي، وما لم يشقها فارق مذهبي عريق. وأما البلدان العربية التي تعرضت للاحتلال والسيطرة الاوروبيين، وكان معظمها، من قبل ممتلكات عثمانية، فاستوت على هيئة الدولة المركزية والحديثة باكراً. فكان بعضها، مثل مصر (1922) والعراق (1928)، ملكيات دستورية منذ أوائل العقد الثالث. وحيث لم تنصب التقاليد المحلية والاهلية أسرة غالبة ومتصدرة سنّت الدولُ المنتدبة، أو المتسلطة والمستعمرة، مواثيق انتداب لم تلبث أن ولدت دساتير، شأن لبنان في 1926. أو أدخلت المستعمرات في نطاق أحكام وتشريعات استثنائية، مرجعها المبدئي شرعة دستورية وعامة، على ما كانت عليه الحال بالجزائر وتونس، وعلى قدر أقل بالمغرب. ونجم عن حكم الدول الاوروبية هذه البلدان وهي أكثر البلدان العربية سكاناً، وأقدمها مدناً وخبرة بالادارة، وهي إلى هذا يتصل بعضها ببعض بواسطة ساحل المتوسط، أو تقع على طريق أوروبا إلى أفريقيا، أو على طريقها إلى آسيا الوسطى فالشرق الاقصى- نجم عن الحكم الاوروبي ارساء ادارة مركزية، عسكرية ومالية واقتصادية وحقوقية، على المباني الاهلية وشبكاتها. فاجتمعت في أيدي السلطة الاوروبية، ثم في أيدي الطبقات الحاكمة المحلية بعدها، سلطة عظيمة تكاد تكون من غير ند أو مكافئ من المجتمع الناشئ نفسه. ويصدر ندها أو مكافئها والقيد عليها عن الجماعات الاهلية ومبانيها العصبية أو الدينية. ولعل هذه الحال هي في صلب المسألة السياسية العربية. فالتحديث السياسي والاجتماعي، منذ «التنظيمات» العثمانية في الثلث الثاني من القرن التاسع عشر، أدى إلى تقوية الكبراء والاعيان على حساب العوام الذين أضعفت الحمايات علاقاتهم الاهلية الداخلية. وكان نظام ملكية الارض الجديد علماً على الخلل هذا. فوضع الاعيان والشيوخ (أو المعمرون الاوروبيون في المغارب) يدهم على الاراضي المشتركة. ونزع التجنيدُ من الجماعات الاهلية ملاذها وحماها اللذين كانت تمتنع بهما، وسوّى الاحصاء، وسوّت الضريبة بين الافراد في الواجبات، بينما عجز النظام الانتخابي، والفصل بين السلطات ونصب القضاء سلطة مستقلة، عن الاضطلاع بالمساواة بين «المواطنين» المفترضين. فهؤلاء لم ينفكوا، حين أقرت هذه، أي الانظمة الانتخابية والدستورية والقضائية، قبل الاستقلال أو بعده، أهالي وجماعات وعصبيات وطوائف (حرفاً ومذاهب) وأقواماً. وكانت المباني الاهلية والعصبية، المتصلة بالاعيان والشيوخ والرؤساء والوجهاء (القدماء والجدد) «واسطتهم» إلى الاحتماء من سلطة تصوّرت في صورة القوة الغاشمة، والغاشية كل مرافق العلاقات الاجتماعية. فهذه المباني لم تصدعها السيطرة الاجنبية التصديع التام، وتوسلت بها إلى سوس الاهالي بمراتب يقر لها الاهالي بالمشروعية وينقادون اليها. فلجأوا اليها احتماء من قوانين الدولة الواحدة، أو طلباً لبعض «الامتيازات». فكانت السيطرة الاجنبية، انتداباً دولياً او تملكاً منفرداً، مدرسة للتعسف وانتهاك الحقوق والمساواة. وحذت السلطات المستولية المحدثة، والسلطات التقليدية اللابسة لباس الدولة، حذوها من غير تردد. دول» من غير مجتمعات وطبع هذا الالتباس بطابعه الحركات السياسية الاستقلالية. وكانت حركات الاستقلال عن السيطرة الاجنبية الجسر والسُلَّم إلى دخول السياسة المحدثة، من وجه، والسبيل إلى صوغ المثال السياسي العربي على صورة الانبعاث الداخلي والاحياء التاريخي والحضاري، من وجه آخر. فنشأت، بين الحربين العالميتين، حركات «الوفد» بمصر (استتماماً للمفاوضة على استقلالها، في 1919)، و»نجمة شمال افريقيا» في صفوف جزائريي فرنسا، محاربين قدامى وعمالاً مهاجرين، في 1920، والاحزاب الشيوعية بلبنان وسوريا وفلسطين ومصر، 1924 و1928. وجمعية الاخوان المسلمين بمصر، في 1928، ونشط في مضمار العمل العام، بمصر والعراق وسوريا وفلسطين ولبنان، في اثناء العقد نفسه، ضباط واداريون اختبروا السياسة في المنظمات العثمانية السرية، وكانوا نواة «الاحزاب» السياسية التي انتشرت في المشرق كله في العقد الرابع التالي. فكانت «الكتل الوطنية» و»العُصَب» وأحزاب «الدستور» و»الاستقلال» في المشرق والمغرب، منهم، ومن النخب العائلية والمدينية، التجارية والادارية الوليدة. وتواقتت نشأة حركات النخب هذه مع نشأة حركات «عامية» (من غير أسر النخب المتحدر معظمها من «التنظيمات» العثمانية)، من المتعلمين وأهل المهن الحرة والموظفين وأبناء المهاجرين الاولين إلى المدن، جمعت إلى المطلب الاستقلالي، نازعاً احيائياً، قومياً وتوحيدياً، حاداً وغالياً. فكان الحزب القومي السوري الاجتماعي، بلبنان وسوريا، وعلى نحو أضيق بفلسطين وشرق الاردن، طليعة هذا الضرب من الحركات السياسية. وتبعته حركات «القمصان»، بمصر وفلسطين، وإرهاصات «البعث العربي» بسوريا. واستبقت هذه الحركات، المختلفة والمتعادية، والمتقاتلة في أحيان كثيرة، رسم الدول العربية القائمة اليوم، ومثالها السياسي المشترك والمُجتمِع من اختبار ربع القرن المحوري هذا (1920 1945). فافترضت النتيجةَ المرجوة والمبتغاة، وهي الدولة المتماسكة والقوية أو «الدولة الامة» على ما تبدو من خارج ساذج، مقدمةً متحققة وناجزة. وليس على الحركة السياسية إلا نشر ألويتها وإعلانها في الحال، ومن غير ابطاء ومن غير اعتبار حواجز (مصطنعة) ومعوقات وطنية واجتماعية. فعمّ مثال للدولة، الكلية القدرة والمستغنية بنفسها من كل سند أو رافد أو خارج، استعادته الناصرية المصرية الحاكمة، وغيرها من مناهج الحكم والسياسة، الجديدة و»التقدمية». وأمكن الانظمة «الناصرية» المختلفة، وهي ناصرية على معنى الاستعادة والمحاكاة والبنية، بذريعة الثورة على عجز الانظمة التقليدية وضعفها، الاستيلاء على الحيز السياسي والحقوقي كله. وألحقت بها، وبإدارتها وموظفيها وأنصارها، شطراً كبيراً من الانشطة الاجتماعية والاقتصادية، على تباين مستوياتها السوقية والسلعية. فمذ ذاك، وهذا الطور تبلور غداة الحرب الثانية و»النكبة» الفلسطينية، ومع استيلاء القوات المسلحة على السلطة وهو لا يزال إلى اليوم غالباً، انقلبت السياسة، وانقلب مثال مزاولتها ومباشرتها، إلى منازعة أهلية عامة على السلطة كلها. ويكاد لا يسلم بلد عربي، ولو لم يكن في عداد بلدان الساحل المتوسطي والممر القاري، من هذه المنازعة، ومن اطاحتها ضوابط دولة القانون (والحقوق). فالحقوق كلها، المدنية والسياسية، قيود على سلطة الطوارئ التي تسوس بها معظم المجتمعات العربية الحرب الاهلية، المضمرة أو المعلنة، في بلدانها وبين جماعات هذه البلدان. وليس بمنجى من الحرب الاهلية هذه، ومن السلطة العرفية، تالياً، إلا البلدان التي تتصدر الروابط العصبية القريبة فيها المباني الاجتماعية والسياسية، وشريطة ألا تكون الجماعات كثيرة ومتفرقة المعتقدات. وإذا كانت السلطة العرفية والاستثنائية من خاصيات البلدان «المتقدمة» أو «التقدمية» وأنظمتها السياسية، فالبلدان الاخرى، بلدان الروابط العصبية القوية، تسوس خلافاتها ومنازعاتها وانقساماتها من طريق مراتبها، وقيود المراتب على النزعات السياسية والاجتماعية الجديدة. فما يجمع عليه الضربان من الانظمة السياسية هو إخراج المنازعة المعلنة والمتبلورة من العلاقات السياسية والاجتماعية، على حد واحد وسواء. وهي تجلي، مع المنازعة المعلنة والمتبلورة في حركات سياسية واجتماعية وثقافية وفي هيئات التمثيل والادارات وتنازع السلطات، حقوقَ المواطنين وقيودهم على مباشرة السلطة وسوسها «مواطنيها». فتترجح الدول والانظمة، في الفراغ الحقوقي والسياسي الذي تسبح فيه، بين استقرار مديد وثقيل تنعم به، على مثال تقدم وصفه، وبين انفجار متقطع ومباغت، موضعي أو منتشر. ولم تعف الانفجارات، في العقود الاربعة الاخيرة، عن أي بلد من هذه البلدان. فإما تُخمد المنازعة، في «ديموقراطيات» من غير منازعة، وإما تتفجر منازعات بين «أجزاء» الاهل وجماعاتهم. وقد تكون الحركات الوطنية والمدنية الديموقراطية في منقلب 2010 إلى 2011، وقبلها في لبنان 2004 2005 إلى اليوم، إيذاناً بانعطاف تاريخي يبني ديموقراطيات المنازعة السياسية، ويرسيها على إيجاب المجتمع والمواطنة والحقوق والعلانية والدولة (المنفصلة).

الأنظمة المهددة انكفأ حكامها وأصحابها على امتيازات مرتبة مغلقة

الأنظمة المهددة انكفأ حكامها وأصحابها على امتيازات مرتبة مغلقة ومتوارثة... من غير قيدِ عليها من تمثيل أو علانية أو منازعة المستقبل - الاحد 3 نيسان 2011 تشترك الأنظمة السياسية العربية التي يطاولها الاحتجاج والإنكار، مشرقاً ومغرباً، ويدعوها المتظاهرون الى الرحيل أو السقوط، في ميزة ظاهرة للعيان وبارزة هي «عمرها» المستطيل لا إلى نهاية (عطفاً على مقالتي في «نوافذ» في 20 آذار). وما يرد عليه المتظاهرون المنكرون بنفاد الصبر وفراغه، وباستعجال مضيّه وطيّه، هو جثوم «نظام» حاكم، يختصره رأسه الثابت ونصبه المعنوي والمادي، على صدور أهل البلاد وعيونهم وأسماعهم منذ عقود. وإذا كان ترتيب قيام حركات الاحتجاج، من تونس ومصر فليبيا الى اليمن والبحرين وسوريا، لا يتفق ومدد العهود والرئاسات، ولا يتدرج من الأقدم الى الأقل قدماً، فالحركات شملت أطول الأنظمة السياسية العربية عمراً، ولم تعف، الى اليوم، إلا عن نظام عمر حسن البشير السوداني (المستولي في 1989)، «الفتي» قياساً على بعضها. فكان نظام بن علي بتونس بلغ 24 عاماً حين سقوطه. ورحل نظام حسني مبارك عن 30 عاماً تقريباً. وأتم معمر القذافي الأربعين عاماً قبل سنة ونصف السنة. وهو عميد السن بعد سقوط صدام حسين في 2003. ولا يزال علي عبدالله صالح حاكم شمال اليمن، فاليمنين، بأمره منذ 34 عاماً. وحمل متظاهرو دوار اللؤلؤة بالبحرين على رئيس الحكومة ترؤسه الهيئة التنفيذية من غير انقطاع طوال عقود أربعة تكاد تكون تامة. ويستدلون بطول المدة على جمود الحكم، ودوام خلله وظلمه. وحين «يخاطب» بشار الأسد، وهو الثاني في العدد والترتيب، السوريين من طريق «مستشارته الإعلامية والسياسية» (على ما تعرَّف وتوصف)، فيعدهم الوعود الواضحة، مثل زيادة الأجور أو إنشاء صندوق ضمان اجتماعي، أو الغامضة، مثل «درس» إلغاء الطوارئ أو سن قانون أحزاب جديد وقانون إعلام مثله، يرد المخاطَبون مذكرين بالأعوام الأربعين المنقضية التي تربع في أثنائها الأب والابن في قمة السلطة. ويذكرون بسيادة «قانون» الطوارئ الحياة العامة السورية 7 سنوات «بعثية»، قومية (مع أمين الحافظ) وقطرية (مع صلاح جديد)، قبل الفصل البعثي الثالث والثابت من الانقلاب والاستيلاء. والمحصلة هي، على هذا، 47 سنة، على نحو ما يضم المصريون 11 سنة حكم السادات في أثنائها و18 سنة ناصرية خالصة ومباشرة الى «عمر» مبارك في السلطة، فتجتمع 60 سنة حُمِل «الأخوة المواطنون» طوالها على رعية قاصرة ومذعنة ومنقادة. [ الانصاب والآيات والمدد الطويلة التي يستكثرها المتظاهرون المنكرون على أنظمة الحكام المقيمين والمزمنين لا تقتصر على إحصاء عدد السنين (ومن معاني السنة، وجمعها على سنين، معنى القحط والمجاعة والكساد) الكثيرة واللجبة. وحين خرج المتظاهرون المنددون إلى الساحات والميادين والطرقات مخرجهم السلمي الأول وهو بقي سلمياً ما وسعهم وتُرك لهم الأمر استثنوا من «السلمية»، أو المسالمة والموادعة، مرافق و «أنصاباً» دون أخرى. فبادروا الى حرق دور بعض كبار النافذين، وأصحاب الحظوة والقرابة من رأس النظام، بقرطاج وموناستير التونسيتين. وتعمدوا إشعال النار في مباني شركات يملكها أهل الحظوة والقرابة، وتحتكر التصرف بقطاعات مواد أو عمليات مثل الاتصالات، وساووها بمباني تحلها بعض أجهزة الأمن «المركزي»، وبأخرى تنهض آية متجبرة على تسلط المنظمات الحزبية الرسمية، على ما صنعوا ببوزيد وتونس والقاهرة والاسكندرية والسويس وبنغازي وطبرق وراس لانوف وبعض أحياء طرابلس وصنعاء وتعز والحديدة ولودر ودرعا وحمص واللاذقية. فجمع المحتجون الثائرون في باب واحد ومشترك تعديات أجهزة التعسف والإذلال والتعذيب، وأقنعة التمثيل السياسي الصفيقة والكاذبة، وأدوات المصادرة الاقتصادية والمعاشية. وحين وسعهم الأمر، أدخلوا القضاء الصوري والشكلي في الباب هذا. ولعل توحيد أبواب السلطة ومواردها في باب مشترك ومتصل، ودمج التربع بسدتها الظاهرة والمرئية في وجوه مزاولتها وحمايتها البوليسية العنيفة، والاقتصادية الساحقة والمواربة، والقضائية المراوغة، لعل التوحيد والدمج هذين هما مرآة ما تفهمه حركات الاحتجاج المدنية والديموقراطية (والأهلية، في ليبيا واليمن وسوريا) من أبنية الأنظمة السياسية التي تستفز الاحتجاج وتستدرج إليه. فالمحتجون المنددون والناقمون حين يختارون، في المراحل الأولى من تحركهم وخروجهم، إحراق مقرات أمنية بوليسية، ومباني أحزاب رسمية قيادية، ومكاتب شركات اقتصادية احتكارية، إنما هم يعربون بعبارة صريحة وفصيحة عن معنى السلطة (أو النظام) في نظرهم وإدراكهم وتجربتهم الراسخة. وهم يقولون ان النظام الحاكم والمتسلط، أو «الديكتاتور» على قول الإيرانيين في أحمدي نجاد ثم في علي خامنئي، والجاثم منذ 24 عاماً الى 41 عاماً على الصدور والرؤوس، هو مركَّب مدمر من عنف مادي ومعنوي، ومن فساد اقتصادي وأهلي، ومن سطو سياسي وتمثيلي واعتباري لا قيد عليه ولا حد له. وهذا ما انتهت إليه الأنظمة السياسية العربية عنوة. وينهض عليه قرينةً حادة تربعُ قادتها في سدتها الوقت الطويل الذي تربعوه ويتربعونه. والوقت في هذا المعرض عامل نوعي وجوهري. والتنديد به ليس مظهر ضجر أو ملل أصاب جيلاً من المواطنين والسكان لم يروا، ولم يسمعوا طوال ربع قرن أو ثلث قرن إلى (قرابة) نصف قرن من السنين، متسلطاً في زي قائد ملهم وتاريخي، غير «سيادته» أو «فخامته» أو «زعامته» و»قيادته» (ناهيك بعطوفته وسماحته وقُدْسِ سره...). ففي غضون السنين الطويلة التي يجمع «الحاكم» فيها مقاليد الأمر والنهي، والجمع والمنع، في يده الغليظة لا ينفك يمد أذرع سلطانه الطويلة والملتفة الى زوايا «مملكته»، وثناياها الخفية والقصية، ومواردها الظاهرة والمستترة. ويتحول، في الأثناء المتمادية، الضابطُ الذي استولى على قصر الرئاسة ومبنى الإذاعة والتلفزيون ومقر قيادة الأركان (وسلاحي المدرعات والجو)، وحوله زمرة من رفاق «السلاح» أي الرصد، يتحول قائداً محازباً واستراتيجياً وديبلوماسياً كبيراً، ومفتياً فقيهاً، وزعيماً جماهيرياً وتاريخياً. فتخدمه أجهزة حزبية تعبوية وتنظيمية وأمنية جرارة، ويتربع في قمة إدارات ومرافق لا يحصى عديد العاملين فيها، ويسوس موارد إنتاج وقوى عاملة ودوائر تداول نصبه التأميم (وثوابت العقيدة القومية الاشتراكية) سيداً مطاعاً عليها. [ البطانات المزمنة والرؤساء الخالدون ورؤساء الأنظمة العربية، منذ ربع قرن الى (زهاء) نصف قرن، عليهم سوس هذا كله وغيره، وإذا بقي غير أو خارج، سياسة مباشرة لا تحتمل التأويل، ولا حسبان الصدور عن وسيط (اللهم إلا وسطاء أوقات الشدة والأزمة مثل محافظ من هنا أو بواب بناية من هناك). ويقتضي هذا «متابعة» وتأطيراً مباشرين، لا هوادة في معاييرهما وصرامة هذه المعايير. والمعيار الأول الصدور عن إرادة رأس النظام، و»استباق» منازعه وتوجهاته، على ما كان يقول النازيون الألمان في علاقتهم بمرشدهم وزعيمهم، أو «السير على خطه» على قول قريب جغرافية وتاريخاً وثقافة. والصدور عن إرادة مهيمنة تلزمه «عدة» (بشرية) تعمل الإرادة بواسطتها، على ما أوضح سليمان فرنجية، «الحفيد» و «صديق البيت»، بحسب تعريفه نفسه. فيترتب على هذا ملء الوظائف والمواقع الكثيرة، الأصيلة والرديفة والشاغرة والمستحدثة والمتوقعة والظاهرة والخفية، بمن هم أهل ثقة، ومستودع ودائع متعاظمة العدد والتعقيد. فلا يثبت رأس الهرم المقلوب في الولاية المطلقة وحده. ولا تدوم ولايته، وهي متصلة بشخصه الملهم وبصورته المتجسدة والشحمانية، إلا متلازمة مع مركب معقد من الأجهزة والمصالح والولاءات. فلا جمال عبدالناصر (المثال) من غير الكوكبة المتماسكة والمقربة من نوابه، ومسؤولي مكتبه وأذرعته الأمنية، و»أطر» تنظيمه الطليعي، ومحركي جماهيره وخطبائها ومثقفيها العضويين، ومن غير التقنيين والمهندسين والمخططين الذين «يترجمون» الرؤى التاريخية والآفاق السياسية إجراءات يومية، وأعمالاً إدارية وتحكيماً سارياً في الشاردة والواردة. فـ «الثورة» على النظام القديم وأصحابه ومصالحه، والاستيلاء الانقلابي أو العسكري والبوليسي «الأمني» (المخابراتي) على السلطة والمرافق والأنشطة الأهلية والاجتماعية والاقتصادية، رفعا الى مقام السلطان «قيادة» عامية وقليلة العدد ومتسرعة، وضعيفة الخبرة بمجتمعاتها وجماعاته، ولا لحمة سابقة بين عناصرها وبين الجماعات الأهلية والفئات الاجتماعية (على) الاستيلاء أو الانقلاب. وعلى هذا، تولت «القيادة» المستولية من فوق إنشاء كتلة عصبية واجتماعية عريضة تقوم محل القاعدة التي تفتقر إليها هذه «القيادة». فتوسلت الى لحمة الكتلة المصنوعة على عجل وإلى تماسكها خليطاً متنافراً من المقومات. وجمعت النزعة الاستقلالية الوطنية الى طلب الارتقاء الاجتماعي. وعهدت بهذين الى اجهزة آمرة لا رقابة عليها، تأتمر بأمر «القيادة» المستولية ولا تدين بالحساب إلا إليها وحدها. فنجم عن هذا انقلاب النزعة الاستقلالية الوطنية عصبية قومية توسعية، تجتر ثاراتها الخارجية والداخلية لا الى غاية أو نهاية. وعلى مثال قريب، قُرن الارتقاء والتجدد الاجتماعيان بالانتقام من الطبقات القديمة واختصارها في تبعيتها للمستعمر والمحتل السابق، وبالإطباق على المقدرات والموارد واستهلاك ريوعها وتوزيعها على جماعات موالين لقاء ولائهم، وخنق مصادر تجديد الموارد وبواعث هذا التجديد. وأوكل النظام الجديد تدبير العوامل المتنازعة والمتدافعة، ورعاية هذا التدبير الى أجهزة متسلطة لا قيد عليها غير السلطان النافذ الكلمة والأمر والمصالح والتحكيم. وعندما تصدعت لحمة الكتلة المرتجلة، جراء إخفاق السياسات القومية التوسعية، وتآكل العوائد الريعية، وتفاقم المنازعات في صفوف قيادة الكتلة العصبية والاجتماعية وقواعدها، وظهور بوادر العولمة المالية وأعراضها الأولى (ومنها تراكم «البترو دولار» غداة حرب تشرين 1973) اضطرت «القيادة» المستولية الى إرساء استيلائها وسيطرتها على عوامل وأركان جديدة. فهي نزلت عن رعاية العصبية التوسعية والقومية، وارتضت محلها سلماً بارداً، ووطنية منكفئة ومكلومة، وانقياداً خجولاً للسياسات الأميركية. وعوضت القوات المسلحة، لقاء منزلتها الظاهرة والرمزية الثانوية امتيازات اقتصادية وبيروقراطية كثيرة. وبنت دعامتها الاجتماعية على أنقاض القطاع العام وإداراته الخاسرة السابقة، من المقاولين، ووارثي الشركات المخصخصة، وأصحاب «القطائع» المحظيين، والمضاربين والوسطاء، وشركاء هؤلاء جميعاً المتقاعدين من الجيش والإدارة وقممها، والأقارب وشبكاتهم المترامية. ولم يحرر التخلي عن الدولة المتسلطة والجامعة، باسم «المشروع» القومي التوسعي والارتقاء الاجتماعي («العدالة الاجتماعية»)، المجتمع وطبقاته وفئاته من التوحيد السياسي والبوليسي القسري. فبقيت هيئات التمثيل والتحكيم والعلانية، من مجالس نيابية وبلدية ومحلية ونقابية مهنية، وقضاء (على مراتبه واختصاصاته)، وأجسام دينية أهلية أو وطنية عامة، وصحافة وإعلام، وأحزاب وجمعيات، وإدارات، في قبضة الدولة أو «القيادة» المستولية. [ سلطةٌ من غير ضد فما يقوم من الدولة والسلطة مقام الند والصنو، وما عُرف في التاريخ السياسي البريطاني الليبرالي باسم «حزب البلاد» (أو «حزب البلد«) في مقابل «حزب التاج» أو العرش، وهو في مصطلحنا المعاصر «المجتمع» أزيل عن محله الندي والضدي المقيِّد، وأخرج من دوره ونفيت حقوقه، وألحق قسراً بدولة متسلطة. وتسلطت هذه، أي «قيادتها» المستولية، على هيئات التمثيل، ووسائط العبارة العلنية عن المجتمع وهويات جماعاته. وحلت محلها في تعريف المصالح الجزئية والمصالح العامة، وفي وصف هذه المصالح من غير الاحتكام الى أصحابها، وعيار أوزانها ونِسَبها. وأنكرت «القيادة» المستولية جواز قوانين ومواثيق وأركان تعلو مصالح (أصحاب) الدولة المزعومين والمفترضين، وتصدر عن حق طبيعي راسخ. وتصدر بدورها القوةُ التشريعية والإدارية عنها، وعن التزامها. ويتولى القضاء، والمتقاضون جماعات وأفراداً، صوغ أحكامها، وتأويلها، والاجتهاد المضبوط في التأويل وفي بت المنازعات والخصومات اللازمة. وعلى الحال والمنوال هذين، تعاظم سلطان «قيادة» الدولة على المجتمع، وعلى قواه وإراداته وحاجاته، وحيل بين هذه وبين مراقبة آلات السلطان الجامح وتقييده، وإلزامه اعتبار حقوق الغير والناس واحتساب موجبات إراداتهم وخلافاتهم في سياساته. فمن جهة، انكفأت «القيادة» المستولية وأجهزتها وكتلتها وشبكاتها على نفسها انكفاء المرتبة المغلقة المرصوصة والمتوارثة («كاسْت»، على قول فرنجي). واستقلت بحالها عن العوام والرعية والجماعات، أو هي سعت في استقلال متوهم وممتنع. وحرست الانكفاء والاستقلال هذين من طريق تعطيل هيئات التقييد والتمثيل والعلانية والمنازعة والإدارة التقنية، وإلحاقها بها شأن الأجهزة الصماء المتفرقة. وسوغ، تسويغاً شكلياً وكاذباً، الانكفاءَ المرتبي المغلق أمران متصلان: تعليق الدولة الوطنية وسياستها وأدوارها ووظائفها على «المسألة القومية» (والدينية)، بعد صوغها صياغة عصبية ثأرية، و»وجودية» ذرائعية، أسهم التهافت الفلسطيني الوطني في دوامها. والأمر الآخر هو إناطة «المسألة»، وإدارتها وتدبيرها الى قوة على حدة من المنازعة والقانون والحسبة. وتصدر سمات القوة، على هذه الشاكلة، عن تقاليد سلطانية وعصبية استبدادية مديدة، لعل «التنظيمات» العثمانية وملابساتها من المثالات الكلاسيكية والحديثة عليها (ويحلو الكلام اليوم على «ثقافوية» التقاليد، ويسوغ نفيها واطراحها من غير فحص ولا تقويم). وتستقوي السمات هذه بحوادث متجددة، وموازين قوى متغيرة، وبموارد غير محلية غالبة وقاسرة. وتفحُّص الحركات المدنية الديموقراطية في ضوء التاريخ المديد ومراحله الأخيرة، وفي ضوء ملابسات نشأتها واشتداد عودها حيث اشتد عودها وتعثرها حيث تتعثر، يحقق الملاحظات التي تقدمت. فدواعي النشأة الأولى تعود كلها الى ما سماه المصريون «التوريث». فقبل نصف عقد ظهر الأبناء والأصهار وأبناء الأخوة والزوجات والأصحاب، وتحلقوا حول الحكم، واقتسموا المرافق، واستولوا على هيئات التمثيل والعلانية. وفاقم ظهورهم الصارخ التفاوت الاجتماعي الحاد بين المرتبة المغلقة المرصوصة والمتوارثة وبين الطبقات المتوسطة «الجديدة» (من غير الموظفين وأصحاب المصالح الصغيرة والمتوسطة)، المولودة من الخصخصة والانفتاح والعولمة والهجرة ومرافق الخدمات. والتوريث هو تتمة تعاقب الولايات الرئاسية، واستقرار «الولايات» والامتيازات الأخرى المتفرعة عنها، وتمتع الرئاسة بصلاحيات «مطلقة»، من غير قيد ولا حصر. ولكن التتمة لا تقتصر على الكم، وعلى عدد الولايات على رغم ثقلها، وتتعدى العدد الى كابوس «الأبد» النوعي. ويتصل بهذا، أي بالتوريث ودلالته، الانفجار السكاني وغلبة الشباب على السكان، وضيق سوق العمل، وزيادة البطالة، وانتشار العلاقات الأفقية والافتراضية، ويسر دخولها والانخراط فيها. ولكن «الثورة»، على ما يسمي التونسيون والمصريون والليبيون والسوريون واللبنانيون والبحرينيون واليمنيون حركاتهم المتفرقة والمختلفة، سياسية واجتماعية فوق ما هي اقتصادية. والقيام على التوريث هو قيام على الحجر على الحريات السياسية والمدنية، وعلى توسل هذا الحجر الى خنق المطالبة بعدالة توزيع الموارد وموازينها. وفي عداد هذه الموارد والعوائد مورد الهوية (الأهلية والثقافية والمهنية والعمرية والجنسية والفردية...) وإعلانها وتداولها في دائرة العلانية العامة والمشتركة، على ما لاحظ الأميركي مايكل والزير. فينهض التوريث آية على تأبيد احتكار المرتبة المغلقة («الطغمة») الموارد واقتسامها وتوارثها من غير قيد. ويقتضي تعطيل القيد، أو القيود على احتكار الموارد، تعريف الهويات بهوية (قومية دينية) واحدة، ونفي الهويات الأخرى والطعن فيها وعليها. ويترتب على التعريف والنفي المتعسفين إنكار التمثيل والحق فيه، وإنكار حقيقة النزاعات والانقسامات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية. والحال هذه، لا حاجة الى تجزئة التمثيل، وإلى وصف المصالح المتباينة علناً وجهاراً، ولا إلى التحكيم في المنازعات بواسطة القانون والقضاء والتقاضي. ولا ريب في أن غلبة الهوية الوطنية على الدولة والمجتمع واستقرارها، قياساً على اضطراب الهويات الأهلية الكثيرة وتخطيها المزعوم في هوية «قومية» متعالية ومفارقة، عجلت في نشأة الحركة المدنية الديموقراطية في تونس ومصر، ومهدت الطريق الى انفكاكها من ربقة «القيادة» المستولية والمتسلطة، على خلاف الحال في ليبيا وسوريا والعراق ولبنان واليمن وفلسطين. فتقاسم الهوية الوطنية يحول، على الأرجح، دون انتصاب جماعة من الجماعات الأهلية، أو سلك من أسلاك الدولة، مستودعاً متميزاً للهوية وولياً قواماً عليها. ويبطل طلب الجماعة امتيازات وسلطة قاهرة لقاء الوديعة المفترضة وحراستها وحمايتها. وما حظرته «القيادات» المستولية على الجماعات من تمثيل ومنازعة وعلانية وفرت بعضه وسائل الاتصال والإعلام الاجتماعية الرقمية والتلفزيونية. و»اتفق»، وقتاً وزمناً، انتشارُ استخدام هذه الوسائل في صفوف الشباب مع انعقاد بعض ثمرات العولمة ومفاعيلها في «تحرير» المرافق المؤممة وسوق العمل، وفي تبلور الطبقات المتوسطة الجديدة ووسائط اتصالها ومخاطبتها و»ثقافتها» وترتيب مشاغلها. وآذن تضافر المشكلات والمسائل والظاهرات هذه أي بروز التوريث واستتمامه تعاقب الولايات ومراكمة الاستحواذ على الموارد، وقصره الاستحواذ على مرتبةٍ مرصوصةٍ ومغلقةٍ والحجرُ على التمثيل والمنازعة والعلانية، وقيام وسائط علانية اتصالية واعلامية محلَ وسائط علانيةٍ اتصالية واعلامية محل العلانية السياسية آذن بأجوبة وحلولٍ غير الاجوبة والحلول المتوقعة والمولودة من داخل الانظمة السياسية وعلاقاتها. وفاجأت الجِدَّة الانظمة الاولى التي أصابتها الحركات المدنية والديموقراطية. فهي لم تعتد انكاراً ومعارضة من هذا الضرب، ولم تعد العدة لمثله. والمعارضة والانكار المعروفان والمختبران من قبل هما الصادران عن أحزاب أو حركات سياسية، معلنة او سرية، تنافس الطاقم الحاكم على السلطة والدولة والادارة والموارد، وتخوض المنافسة غير المتكافئة في دائرة لا تسوغ فيها المنافسة ولا تتمتع بأضعف شرائط المساواة. وأما الحركات الوطنية والمدنية الديموقراطية فلا تنافس على السلطة، بل تخرج من ثنايا المجتمع ناضجة، وتأخذ «القيادة» على حين غرة ومن خلف، إذا جازت العبارة. وارتجال الحركة، وهي لا شك تكونت في رحم حوادث وانعطافات عامة وخاصة لا تحصى، عامل قوة. وتبذل الانظمة، وطبقاتها الحاكمة، وسعها في سبيل الحركة الديموقراطية الى دائرة سياستها وعنفها، فإذا أفلحت تعثرت الحركة بالسياسة والعنف هذين. واستحواذ «القيادات» المستولية على السياسة، واستبعاد الحركة الاجتماعية والمدنية من دائرتها، جزء من قوة «القيادات» وأنظمتها المغلقة والمنكفئة. فإيصاد باب المجتمع السياسي العلني، والحؤول دون دخول الحركات المدنية والديموقراطية حلبته ومنازعاته ومنافسته على التمثيل، يقصران هذه الحركات على تناول أركان العلاقات السياسية (بين الحاكم والمحكوم) ربما وشرائطها الاجتماعية، ولكنهما يمنعان الحركات هذه من مباشرة السياسة ووجوهها السلطوية (تدبير السلطان والقوة) وعوامل الهوية فيها، مباشرة عامة وشاملة. فيؤدي «تقسيم العمل» الى تنصيب المجلس العام العسكري وصياً على الدستور والمرحلة الانتقالية وولياً. ويؤدي في بلدان أخرى إلى دوام الوصاية والولاية ما أشكل على جمهور المواطنين العلم بما تبطنه الحركة المدنية الاجتماعية من آراء وأحكام. فهذه الحركة ليست بديلاً من السياسة، ومن الحركات السياسية.