السبت، 26 ديسمبر 2015

أنظمة الاحتكار العصبي العربية في تناقض داخلي مدمِّر (مقابلة)

المدن -يوسف بزي 26/12/2015
هنا نص الحوار مع وضاح شرارة في جزئه الأول، ونشدد على أن أجوبته هنا أتت شفاهية، وتم في ما بعد التدقيق في إملائها وتحريرها من غير تعديل:

* قبل نحو عشر سنوات استقلتَ من التدريس في الجامعة اللبنانية، ثم صُرِفت من عملك في جريدة "الحياة"... كانت تلك بداية مرحلة جديدة في حياتك. ما هي طقوسك اليومية، عدا ذاك الموعد اليومي "المقدس" لرياضة المشي؟

- أثرت أشجاني. على كل حال، يختبر المرء وضعاً أو أحوالاً بعد تركه لعمل وظيفي، منتظم بأوقاته وأماكنه وناسه الذي يلتقيهم.. يختبر تفاوتاً بين شعور قوي بالحرية، بسعة الإمكانات، بترامي حدود الممكن، وبين ضيق الوقت الفعلي المتاح والتركيب المعقد للعمل وإنجازه.
هذا الاختبار يحاول واحدنا، أو يظن أن بإمكانه تجاوز هذين الحدّين بانضباط طوعي، سرعان ما يتهاوى بوجه تنوع الرغبات، أو يأخذه اعتباط التنقل بين اهتمامات مختلفة ومتفاوتة، صعب حصرها وضبطها.
بالتالي، يجمع واحدنا اضطراراً بين شعائر كثيرة التفاصيل، منها القراءة اليومية الصباحية للصحف، فاجمع ملاحظات وأحياناً أنظم منها ملفات. وهذا عمل إداري تقريباً. كذلك هناك عُطَل إذا جاز التعبير، هي نزهات بين كتب يراكمها واحدنا، ويقرأ بضع عشرات من الصفحات من كل واحد منها، وتغلب مزاجيتها وبعثرتها ويغلب الهوى عليها. أحياناً، لأسباب غير واضحة، يؤدي هذا إلى إنجاز عمل كتابيّ، وأحياناً أخرى تغلب السجية، فيخزن واحدنا في رأسه أو صدره خططاً لأعمال كتابية ومقالات، واسعة غالباً، أو لكتاب له موضوع متماسك ومحور، وتُضبط معالجته بحدود واضحة.
هناك كذلك نوع من حضور وأحياناً رجحانٍ لكفة الحياة اليومية، الاهتمامات التي تتراوح بين الطبخ والتدبير المنزلي. وربما يدخل في هذا الباب المسترسل مشاهدة التلفزيون بطريقة مختلفة عما كانت عليه من قبل. والهوى هو مشاهدة الأفلام السينمائية والأفلام الوثائقية وموسيقى الجاز أو الكلاسيكية والرقص. كل هذه الأبواب التي كان الاهتمام بها يقود إلى مشاهدة غير منزلية، أصبحت جزءاً من حياة البيت. ويرافق هذا شغف ورغبة في رؤية أشياء لم يتح من قبل مجال لرؤيتها. ليس أمر المشاهدة أو المتابعة إحصائياً، إنما هو الاستعداد والانتظار والقبول. وهذا ليس جديداً تماماً، ولكن ثمة لوناً من الإقبال على ذلك أقوى وأحدّ مما اختبرته من قبل.

* بين كتاب جديد لك وآخر، نعد أنفسنا بكتاب عن سيرتك... هل ستكتبها؟

- لشخص مثلي، نثر بعض الشذرات من سيرته، أو ضُمّنت لمحات من هذه السيرة  في مقالات متفرقة... هذا الشخص يتردد بين وجهتين، أو منحيين: المنحى الأول يدعوه إلى كتابة سيرة نثرية، أي أن يعكف على سرد وقائع، وعلى وصف ناس، ورواية حوادث وتقديم أمكنة، أي أن يبقى على صفحة الوقائع بمعناها التسجيلي. ولكن ما أن أصيغ الموضوع على هذه الطريقة حتى يحضر قصورُ هذه الطريقة، وانتبه إلى أن زعم تسجيل الوقائع وسردها على هذا النحو يغفل حياة هذه الوقائع وروحها، ويحذف منها حركة داخلية، ليست خفية، وهي ثمرة إعادة السرد اليومية للنفس، بين النفس ونفسها، التي يقوم بها الواحد منا طوال الوقت.
كل يوم صباحاً، من دون أن أسأل نفسي، أفتعل نوعاً من جواب عن سؤال مخيّم من غير صياغة، هو: أين صرت؟ ماذا فعلت؟ أين تفكر أنك ذاهب؟ ما هي وسائل هذا المسير؟ هذه الأسئلة، وهي ظاهراً مجردة وتقليدية، صياغتها الفعلية تحمل كمياه النهر الجارية صور ناس ومواقف وأوضاع وأحوال ومشاعر، وانقطاعات وانعطافات ومراجعة نفس وندم ووثبات وأحلام واستعادات.. فالجواب هو محاولة خروج من هذا الخضم المتلاطم الفوضوي، ومحاولة تثبيت لهذا الاضطراب، غالباً ما ينتهي أو يعلّق على اهتمام عملي مباشر، وتبقى أصداء فكرة السيرة تحوم. فهذه الحال من التجاذب يظهر أحياناً أنها تؤدي إلى مطالع روايات. مطلع من صفحتين أو أربع يكتب عادة في جلسة متوهجة، ثم تنكفئ الكتابة عندما يبدو أن هذا التوهج لست أنا صاحبه، فأعود إلى التأمل في سياق أو في بناء له مراحل، وله عوامل، وله نوع من أوضاع نواتية أو محورية.. وإلى اليوم لم أفقد لا النية ولا الأمل في أن أنجز هكذا سيرة.

* منذ عشر سنوات، نزلت إلى الشارع بحماسة وتفاؤل كبيرين، إذ وجدت في لحظة 14 آذار 2005، "اجتماع تواريخ اللبنانيين الخاصة وتاريخهم الوطني المشترك"، وأسهبت في وصف تظاهرات ذاك الربيع. نزولك هذا إلى الساحة كان حدثاً في تاريخك "السياسي" الخاص، أليس كذلك؟

- ربما يجب القول أن المشاركة في المسيرات والتظاهرات واللقاءات، ربما بعد أكثر من ثلاثين سنة على ما يشبه الاعتكاف، كان حادثة "خاصة" أكثر مما هي "سياسية"، أي أن حادثة اغتيال رفيق الحريري كانت لها أصداء في ثنايا الوقت الذي ولد من الأعوام التي أعقبت 1989، والتي كان لرفيق الحريري دور أو وزن أو هو عامل من العوامل الأساسية التي رسمت قسمات هذا الوقت - وهذا كلام على حدود السياسة – أي مشروع إعمار بلد، وعودة حياة مؤسساتية منتظمة من الانتخابات الى المستشفيات والمدارس والمحاكم والسير والجباية، وإحياء الإدارات المختلفة، وإعمال القوانين والضبط على أوقات، وطبعاً تزفيت الطرق وبناء الأنفاق وتوسيع المطار.. مسائل كان واحدنا ليس فقط يدركها، ويختبر نتائج هزالها أو نتائج شللها. فجاء الاغتيال في الأيام الأولى ليهدد هذه المرتكزات والإنجازات والاحتمالات، يهددها بالكسر والقصم، ويلوّح بعودة الحروب الأهلية أو الملبننة، وهي "أهلية" نتيجة تركيب ورسوم الحروب الأهلية العربية وكجزء من النزاعات الدولية. طيف هذا التهديد أو شبح الحرب هذا كان مروعاً.
فأنا من الناس الذين بدأت الحروب تسفر عن وجهها ونحن في الثلاثين من أعمارنا. كنت بدأت أفكر وقتها ماذا أفعل؟ ماذا أكتب؟ كيف أعيش؟ والدخول في هذا الاضطراب الكبير، في الاقتتال من غير ميزان ومن غير معيار، كان كابوساً هائلاً. وهذا حَرَق أو أعدمَ خطط حياة، فَعَل فجوة حول واحدنا ووضعه أمام عجز هائل وإحباط بلا حدود.
هذا من الأمور التي دفعتني، وغيري من الناس، أن ينزلوا الى الساحات. وعلى صعيد أكثر عمومية: النزول الأول يوم الجنازة في 16 شباط 2005، وبدأ يرتسم فيه شيء بدا لي جديداً، هو خروج اللبنانيين على طريق مرسومة أو تركيب فرضه عليهم المزاج السياسي والأمني الاستخباري السوري. فمجرد رؤية جموع بأعداد نسبياً كبيرة، على غير موعد، من غير دعوة وطبعاً من غير إلزام، أخذ صورة المعجزة. هذه التلقائية التي سبقت الخطط السياسية، رغم دعوة وليد جنبلاط الأولى للمشاركة بالتشييع.. هذه التلقائية المشتركة والمتواقتة والمتزامنة تخيلتها وقتاً سياسياً حلم به واحدنا طوال عمره. ولواحد مثلي متحدر مما يسمى عملاً تنظيمياً – جهازياً، يتصيدَ الناس واحداً واحداً، ويقيد الدعوة بأفكار وبخطوات وببنود وبرنامج، ويصطدم على الدوام بتحفظ الناس، وحذرهم، وبرؤيتهم لالتزامهم من زاويتهم هم، بينما العمل التنظيمي – الجهازي يفترض صدور الناس عن المصالح المشتركة القسرية، الحتمية، واستجابتهم لحوافز موضوعية تقر بها ذواتهم. وطبعاً تجربة "حزب الله"، التي كنت أراها يوماً بعد يوم تتبلور وتتجسد، لم تكذب هذا الخط السابق.
وأنا الذي شاركت في تظاهرات 9 حزيران 1967 في بيروت، وفي ما بعد في كل جنازات القتلى الفلسطينيين واللبنانيين الى عامي 1972 – 1973، وغرقت في طوفان المتظاهرين.. كانت تجربة 16 شباط 2005 وما بعدها، اختباراً من نوع جديد تماماً. هذا ما حاولت أن أصفه في عدد من المقالات والتدوينات. فَرحتُ أكثر من فرحي بأن هناك طوائف تتظاهر وهناك ما يسمى "وحدة وطنية"، إذ كنت أعاين تداخل الناس الآتين من الطريق الجديدة والظريف ومطارح أخرى، وناساً أتعرف عليهم أنهم "قواتيون" و"عونيون" و"كتائبيون".. فوق هذا الفرح، فرحت بعدم وقوف الناس "بلوكات" وبانفراط البلوكات والكتل الصغيرة، وتكون كتل أخرى في أماكن أخرى.. واستخفني ناس وفتيات صبايا وشباب وبعض الأسر، التي تدخل في التظاهرة وتخرج منها. كانت صورة الروافد التي تصب في البحر الكبير، والروافد التي تخرج من هذا البحر، من دون التزام بمحل أو موضع أو موقع. ويكمل هذا المشهد أن لا أحد يهتف، أو لا أحد يتقدم الكتل، أو لا أحد مرفوعاً على الأكتاف، ولا ميكروفون أو سيارة عليها ميكروفون، وليس هناك ناس مقتنعون أن المحل الذي هم فيه عليهم أن يلازموه كي لا يضعف "الموكب". تصورت أن هذا المشهد، هذه الطريقة من الاجتماع والحضور، هي صورة لصيرورة لبنانية تاريخية، قوامها هذا الاستقلال الطوعي عن مصادر أو مراتب الأمر.
طبعاً، كان في الذهن الأشياء والأمور التي أنتجتها وثبتتها غلبة ما سميته "العروبة السياسية"، وهي سيرورة تشكيل جماعة حاكمة، متنافرة المصالح ومتنافرة المادة الإنسانية والاجتماعية، لحمتها من خارجها، على قدر "خارجية" العروبة السياسية، أو العروبة العربية، عن مجتمعاتها.
14 آذار اسم لقوى أو تيارات سياسية واجتماعية، وُلد تكتلها من واقعة، من حادثة. لم تولد من أمة لبنانية واحدة سرمدية، لم تولد من فكرة تملك جهازها السياسي التاريخي الأهلي.. المتخيل أو الحقيقي. لكنها ولدت من تشابك ومن التقاء روافد، استجابت لدواعٍ بلورتها الحادثة وتاريخها.
وفي استعراض مقارن لتواريخ سياسية في العالم العربي (أي العالم الذي سكانه ينطقون بالعربية)، غلب دائماً على نشوء تيارات وقوى سياسية مثالٌ زعم على الدوام تلخيص روح الأمة، مصائر الأمة، مراتب الأمة وأقوامها. فالتواضع اللبناني، الذي هو تواضع ضخم مثل أبي المتنبي (و"أبو" المتنبي هو جدته في المناسبة: "ولَوْ لمْ تَكُوني بِنْتَ أكْرَمِ والِدٍ... لَكانَ أباكِ الضّخْمَ كونُكِ لي أُمّا)، نشأ عن حوادث تشبه حادثة 14 شباط و14 آذار 2005 وغيرها من الحوادث. فـ"لبنان" القرنين السابع عشر والثامن عشر ارتسم في سياق حوادث ضم وفرز، وفي سياق تكوّن أجسام اجتماعية غير معروفة من قبل، مثل الكنيسة، ومن وصلٍ بين ما كان منفصلاً، ومن استيراد خارج إلى الداخل، ومن خروج عاميين من عاميتهم وتصدرهم، من غير نسب ولا صلب ولا شرف، جماعتهم العاملة والساعية في مناكب الأرض.
من ناحية ثانية، هذه الصيغة التاريخية، صيغة تكوّن لبنان واللبنانيين ومجتمعاتهم، لا بد من الإقرار بانقطاعها، وبنزيفها ربما طوال القرنين الماضيين، التاسع عشر والعشرين، هذا التاريخ ليس روحاً وليس ماهية وإنما هو بحسب منطقه (منطق هذا التاريخ) الفعلي، متصل أو منقطع، وهو تدبير يخطئ ويصيب، ينتكس، يتقدم أو ينجز. فالحال هو أن صلتنا المدركة والفاعلة بهذه بقيت مترجحة ومضطربة إلى اليوم. وهذا ما لا تطيقه لا العروبة السياسية ولا التشيع الخميني ولا الحركات الأصولية والجهادية الإسلامية. فما أنجزه الاحتلال السوري طوال ثلث قرن تقريباً هو إخراج السلطة السياسية والدولة من الروابط الضعيفة، التي كانت تشدها إلى مجتمع المجتمعات اللبنانية، ونقصد بهذا عدم وجود مجتمع متماسك وواحد.
وجزء من التراث التاريخي اللبناني الوطني، هو علاقة تقييد بين المجتمعات الأهلية وبين سياسييها، أو قيادييها أو وجهائها، هي غير السلطة، ولعبت طوال القرن التاسع عشر دوراً راجحاً وحاسماً في الرقابة على العائلات وعلى أسر الوجهاء.. وعلى العاميين، أمثال يوسف كرم، الذين خرجوا من الناس ومن الجماعة، من غير الأشراف والوجهاء، وقاموا بتحريك جماعتهم ورسم مستقبلهم ومستقبلها.
العروبة السياسية، "القيادة السورية"، وحليفها وخادمها المحلي، أتت بنهج سياسي قام على اقتلاع الوجاهات والناس الذين سماهم العرب "أهل القوة". اقتلعهم من مرجع يحكم مشروعيتهم. فيُنتخب النائب ليس لأن له عزوته، أو لغرضيته، أو ليخدم مصالح جماعة تتحكم بانتدابه، إنما تتشكل لوائح "بوسطات" أو "محادل" بناء على معايير تصدر من فوق وتُملَى على تحت. وهذا هو منطق "الودائع" الانتخابية، ومنطق تسديد خدمات إلى الأجسام السياسية الكبيرة، الميليشيات المسلحة أو شبه المسلحة، وترتيب رواتب أو مرتبات على انضباطها السياسي، وعلى سيرها في خط ضباط الاستخبارات والولاة السوريين.
14 آذار، الواقعة، العلم، الشارة، بعد نحو 30 سنة على صوغ "نظام الحرب الأهلية"، انقلب على هذا المنطق، أي استعاد المبادرة إلى الجماعات. والحق أن هذه الجماعات لم تنسخ الأبنية الأهلية السابقة، والمتصدعة في أثناء الحروب المتناسلة، إنما مزجت عوامل متفرقة ولدت بدورها أبنية سياسية هجينة.
وغلبّت هذه الهجنة المنظمات، المسلحة حالياً أو سابقاً، وأولتها مكان الصدارة، وألحقت بها الأجزاء الأهلية التقليدية وأرجعتها إلى مكانة ثانوية، واستوعبت جزءاً من الفئات أو الطبقات المتوسطة الجديدة (المهن الحرة، الخدمات، التجارة المتوسطة، المكاتب، المراتب الادارية والتنظيمية...) من غير أن تتيح لها بلورة أجسامها السياسية المستقلة والحاملة لمصالحها وهمومها وأشكال علاقاتها وثقافتها، وألحقتها بها سياسياً وثقافياً.
ورمى الاصطناع والافتعال الكبير الذي فبركته العروبة السياسية اللبنانيين في دوامة أو في لجة الحياة السياسية المتخيلة من ألفها إلى يائها. ومرتكز هذا التخييل هو جسم "حزب الله" الذي رُفع نصباً لمقاومة إسرائيل والغرب عموماً (رغم أن إسرائيل ليست الغرب، والغرب ليس إسرائيل، على خلاف الزعم القومي العروبي والإسلامي). ولم يتماسك هذا التخييل إلا بمجموعة من الافتراضات والمزاعم، التي ذهبت إلى أن "المقاومة" هي صلب الكيان الوطني، وأن الأعمال العسكرية هي لب السياسة ومادتها، وأن العمليات الأمنية في هذا البلد المجاور أو ذاك البلد البعيد، نهج مشروع، ولو أدى إلى شرذمة المجتمعات المعنية، وانتهاك دولها وقوانينها وروابط أهلها.

* كيف تنظر اليوم إلى تلك التجربة اللبنانية (14 آذار)، التي يصفها البعض بأنها كانت مقدمة "الربيع العربي" أو أنها "فرصة مهدورة"؟

- منذ بداياته، التكتل الذي حمل اسم 14 آذار وولد من تظاهرة ذاك اليوم، اتسم برخاوة بنيوية طاولت الكتل الجزئية، ومحاور تكتلها، كما طاولت العلاقات بين الكتل. من الأمور التي استوقفت كثراً وأنا منهم، منذ بدايات التكتل ونشأته، احتفاظ الكتل الجزئية باستقلاليتها التنظيمية والسياسية والانتخابية والفكرية. وهذا الاستقلال نهض على قواعد أهلية واجتماعية وإقليمية مختلفة ومتفرقة. وبدا أن هناك نوعاً من صمَم تجاه أي رغبة أو مطالبة بشبك الجماعات ومنظماتها وأماكنها وخططها ومناهجها. من ناحية أخرى ينبغي القول ان هذه الكيانات الأهلية تكوّنت في الاعوام الأربعين السابقة، أي تلك التي شهدت أعوام طويلة منها حروباً وعداوات ومصالح متشابكة أو منقطعة وإقصاءات واغتيالات... وسعي العروبة السياسية السورية والخمينية في تصديع الأجسام السياسية، وانتزاع جذورها من تربة جماعاتها وأرض هذه الجماعات ومرجعيتها، حجّر أو جمّد الأجسام السياسية على شكليتها، وعلى صوريتها، وعلى دورانها على نفسها وتغذيها من هذا الدوران..
طبعاً، وولادة حركة 14 آذار (وليس الكتلة المؤتلفة أو المجتمعة من الكتل الجزئية)، هذه الحركة هي غير تنظيماتها، ولكنها، على قدر كبير، مرتبطة بتنظيماتها، لم تملك ولم يتح لها لا الوقت ولا الفرص، لأن تكسب ديناميتها، وأن تنشأ منها بنى سياسية في مستطاعها أن تفرض على الأطر والتيارات والكتل السياسية السابقة منطقاً ومعايير بدأت تتلمسها. ولم تنجح في الوقت القليل المتاح لها - قبل الانتخابات وقبل تشكل 14 آذار الكتلة - في تكوين ملامحها الخاصة. فعاد النبيذ الجديد إلى الانسكاب في الأقداح أو القوالب القديمة.
وهذه الحركة ليست هي مقدمة لـ"الربيع العربي"، على رغم اشتراكها مع حركات الربيع العربي في التلقائية العامية والقيام على انسلاخ السلطة أو الأنظمة عن حركة مجتمعاتها، ولا هي "فرصة مهدورة"، لأن ما صنعته لا أظن أنه ذهب هدراً، وهو باق في متناول محاولات قادمة، إذا استأنفت هذه الحركات تاريخاً انقطع مع سحق الربيع العربي وحركاته ووأده.

* نشهد اليوم تفككاً واسعاً لـ"الدولة الوطنية"، خصوصاً في المشرق العربي. وإذا كان فشل مشروع "الدولة الوطنية" مديداً وتاريخياً، ما هو المستجد برأيك الذي جعل الفشل انفجارياً إلى هذا الحد؟

- أرى أن موضوع "الدولة الوطنية" العربية هو محل غموض واشتباه حادّين. الدولة الوطنية، ومثالها، هي خلاف السلطنة، الصغيرة أو الكبيرة. الدولة الوطنية تنشأ ونشأت عملياً عن تصدي قوة سياسية، اجتماعية، وعسكرية واقتصادية، إلى تحطيم كيانات عصبية ومحلية أضعف من هذه القوة المتصدية. في صياغة خلدونية لهذه السيرورة، يجوز القول أن تغلّب عصبية قوية على عصبيات أضعف، شرط إرسائه (التغلب) على كيان دولة، لاحقاً وطنية، هو ذوبان عصبية الدولة القوية في كيان عام ومشترك، ينتقل من امتصاص موارد العصبيات الأضعف واحتكارها العنف وآلاته، ووضعها في تصرف رؤساء العصبية القوية وجماعتها، إلى توزيع عام وغير متعسف لهذه الموارد. 
والمرحلتان المتلازمتان دامتا في المثالات الأوروبية، قروناً أربعة أو خمسة على الأقل. وأدى التلازم إلى معادلة عسيرة مضطردة تقتضي مبادلة العنف الذي أدى في المرحلة الأولى إلى تدمير الروابط العصبية الضعيفة والجزئية والملحقة، بدمجٍ تفقد معه عصبية الدولة الغالبة انفصالها العصبي وخاصها الأهلي، وذلك لقاء انقياد أهل الجماعات المُدَمَّرة الروابط العصبية الداخلية، إلى قانون عام ومشترك.
وهذه العملية الطويلة والمتشابكة تفترض عدداً كبيراً من الشروط غير المضمونة النتائج (على خلاف "قوانين" نديم البيطار في الوحدات القومية)، لعل أبرزها هو صوغ مفهوم عملي ومؤسسي عن فكرة "صاحب الحق" (Sujet de droit). وصاحب الحق ليس من يسري عليه القانون، فالقانون هو من صلاحية الدولة والحاكم، على رغم أن الحاكم والدولة يسري عليهما القانون العام، تماماً كما يسري على العامة أو "الرعية". والقانون يكتسب صفته من التزامه معايير أصولية ومبدئية، إذا خرج عنها فقد إلزامه وعموميته، وانتهى إلى هوى لا يقيد غير صاحبه.
أما الحق (ويُجمَع على حقوق)، فمصدره هو مَن ليسوا في موقع السلطة والافراد والجماعات الذين يُلزمون السلطة بمراعاة حقوقهم ويتولون الدفاع عن هذه الحقوق وفرضها، في إطار علاقات سياسية، سمتها الأولى هي "مشروعية النزاع". فلا حق إلا بالإقرار باختلاف الجماعات وكثرتها، ومنها يأتلف الجسم السياسي، وتدور العلاقة السياسية الدستورية في الدولة (الوطنية) على محور النزاع.
وعلى خلاف هذا الوصف التاريخي لنشأة مثال الدولة الوطنية، تنزع الآراء والأفكار العربية، المتداولة والسائرة، إلى حمل الدولة الوطنية على رغبات طيبة، وعلى انبعاث الروح القومية الواحدة، وتجدد النسغ التاريخي السابق والمفترض حياً وهاجعاً. ومثل هذه الآراء تعمى عن أحوال الدولة الوطنية المولودة من تاريخ وظروف وإرادات ونزاعات. ولعل هذا الأمر هو السبب في فقر الأفكار السياسية التي تتناول مسألة الدولة، ودورانها في حلقات مفرغة. وأرى أن معضلة أنظمة الاحتكار العصبي العربية هي في تناقض داخلي مدمِّر. فالعصبية المستولية على الدولة يستحيل عليها، ما احتفظت بغلبتها لنفسها وعلى صفتها (العلوية، السنّية، الشيعية، العربية العرقية، القبلية، الخ.)، دمج العصبيات المغلوبة في كيان دولتها. فالاستيلاء العلَوي، على هذه الصفة، ينفخ في العصبيات المغلوبة الأخرى، ويدعو أهلها إلى الاجتماع على عصبيتهم الذاوية أحياناً. ولا خروج من هذا الدور الذي يدور إلا برضوخ العصبية الغالبة أو المستولية لانقراضها وأفولها وذوبانها في كيان سياسي وطني يعود على العصبيات المغلوبة من قبل بامتيازات القانون وبامتيازات صاحب الحق الفرد وأصحاب "الحقوق الذاتية".
ويقود الاستيلاء العصبي، على رغم اصطناعه في أحيان كثيرة ولاء بعض نخب العصبيات الأخرى (على شاكلة عبد الحليم خدام، ومحمود الزعبي وفاروق الشرع وعلي مملوك اليوم) إلى انقسام العصبيات انقساماً حادّاً وقاطعاً، يجمع في قطبٍ أول المستولين وحلقة المقربين والمنتفعين، وفي القطب الآخر الجماعات المغلوبة أو الضعيفة أو المستضعفة. ويتستر هذا الانقسام، الذي يقبل استثناءات جزئية كثيرة ومركّبة، على نزاعات أهلية واجتماعية ومصلحية وثقافية كثيرة، تغذي الفرق القاطع بين الغالب وبين المغلوبين، بين مسيطر وبين منقادين وخاضعين. ويحول الانقسام على هذا النحو دون سيرورة دمج وطنية أو "قومية". ومن ناحية ثانية، يقود الاستيلاء العصبي إلى بناء "دولة" على رسم السلطنة أو الامبراطورية (الكلمة الكبيرة قد تعني إمارة تافهة في ناحية مقفرة من نواحي البادية أو الجبل).
وهذه "السلطنة" تضوي جماعات وأهالي ونواحي وديرات وقطائع.. كثيرة أو قليلة، تربط بعضها ببعض علاقات ولاء وأحلاف، شرطها الأكيد هو ألّا تفقد هذه الجماعات قوامها العصبي الداخلي، وألّا يلتحق أفرادها وآحادها، على صفتهم الفردية، بكيانات أوسع أو بكيان غالب. والحق أن هذا لا يخلّ بالعقد السلطاني، فهو يسري على تماسك العصبية الغالبة سريانه على العصبيات المغلوبة. فمن مصلحة العصبية الغالبة ألّا تتماسك بمنطق الأفراد الإرادي والحرّ، لأن هذا الضرب من التماسك لا يُؤمَن معه انفراط عقدها، والتحاق أفرادها بمصالح مشتركة أخرى تُفقِد أهل القوة موارد قوتهم.
وإذا عددنا هذه العناصر الثلاثة، وجُمعت في ما يشبه منظومة، وامتُحنت هذه المنظومة في حوادث مشهودة في السنوات الماضية، لبدا ربما أن الوحدات الخاوية التي أمسكت بمقاليد المجتمعات العربية المشرقية، استنزفت طاقتها على تخييل أحوال سياسية واجتماعية مترابطة ومؤتلفة. على سبيل المثال: امتحن انهيار الاتحاد السوفياتي والكيانات السياسية المصطنعة التي وحّدتها قسراً حركات التحرر الوطني، في النصف الثاني من القرن العشرين، (امتحن) هذا الانهيار نظامَ الدولة الحزبي (الدولة - الحزب) والاحتكاري، الريعي والرعوي، المركزي، حين خسر هذا النظام مثاله المتخيَل والمتوهَم، وافتقر إلى مدده الاستثماري والتقني وخبرائه، مدده التسويغي والتاريخي (الأيديولوجي). فتكشفت الخسارة عن هوّات فاغرة تفصل أهل القوة عن أهل الضعف، والميسورين عن المعوزين، والعاملين عن البطّالين، وأهل الريف عن أهل المدينة، والمتعلمين عن الأميين، والمتماسكين عن المتساقطين... وفي وسط الانفراط هذا تربعت القضايا الكبيرة: الوحدة القومية، القضية الفلسطينية، النظام الإقليمي، التكامل الاقتصادي- السياسي، التنمية، دولة الرعاية، التوازن الاستراتيجي، المقاومة... تربعت في خوائها العاري، وظهر وراء الدعاوى الضخمة هزال وإدقاع يدعوان إلى الشفقة والتعاسة.
وفي قلب هذه المعمعة، انتصبت معضلة أخرى مدمِّرة، هي معضلة الحركات الاسلامية والجهادية. فالفرق الشاسع بين أفق هذه الحركات المُدّعى، وهو عريض عرض تاريخ الإسلام الامبراطوري وفتوحاته المترامية وموارده الهائلة وانفراده بالسلطان في قلب العالم القديم طوال قرون، وبين أحوال هذه الحركات الفعلية، يدعو الفرق أصحاب الحركات الجهادية الإسلامية إلى ملئه أو رتقه بعنف واستماتة يشبِّهان القوة واحتمال الخروج من حال الضعف التي تتخبط فيها هذه الحركات، ويتخبط فيها أصحابها. وحين يحصّل بعض هذه الحركات قدراً من القوة، شأن "داعش" أو "النصرة" أو شأن غيرها من الحركات الجهادية (بوكو حرام، أنصار بيت المقدس، أنصار الشريعة، حركة الشباب..) وبعض الجماعات الإخوانية، جمحت إلى أقاصي العنف الذي تمتلك بعض أدواته أو عوامله. وهذا على خلاف الجماعات الضعيفة والقليلة في ابتداء أمرها. وأظن أن التقاء أو انعقاد هذين العاملين، الأول خسارة الأنظمة الاستبدادية لحمتها المؤسسية ودورها وقوامها التماسك ظاهراً، والثاني بروز تيارات الجهاد الإسلامي وانتشارها وانتشار مقاتليها ومجاهديها في المجتمعات المشرقية، بعد اختبارها الأفغاني والجزائري والعراقي- انعقادهما إذن أفضى إلى تزامن انهيار مجتمعات هذه الدول الاستبدادية وتوسل الجماعات المغلوبة بإسلام جهادي أسير تناقضاته، إلى جموح العنف والاقتتال الأهليين، وانفلاتهما من كل عقال. فبلغ العنف مثالاً مجرداً ومنعتقاً من أي مضمون معنوي واجتماعي محدد، ما استهوى متساقطين كثراً من أبنية اجتماعية متداعية ومتصدعة. وهذه حال أعداد كبيرة من المتطوعين الغربيين في صفوف الحركات الجهادية، وهي حال من جمعتهم الخمينية الإيرانية في منظمات وشراذم قريبة من جيوش المرتزقين. وعلى هذا المثال، نشأ "حزب الله" اللبناني، وتنشأ اليوم المنظمات الشيعية العراقية المسلحة.

(يتبع في جزء ثان وأخير)
 http://www.almodon.com/culture/917000ac-212a-4afe-8538-69c25309c56c#sthash.zzKkdAbS.dpuf

الأحد، 20 سبتمبر 2015

أيلان كردي... الولد والبحر



الأحد 20 /9/ 2015  

 
لولا الوحدة المتكومة على شاطئ تأوي إليه أمواج رفيقة ومتعرجة، قد تفي بهدهدة ولد نام منذ بعض الوقت ولا تطمع في قلب مركب صيد صغير، لغلب الظن أن الجسد الصغير، المسجى على سريره الفسيح والعريض، لن يلبث أن يستفيق من نوم غرق فيه وينهض منه ليتابع سفره أو يلحق بركب أهلٍ سبقوه الى مكان يعرف الولد النائم، حين يستيقظ، طريقه اليه. فالرأس الكبيرة، قياساً على الجسم، احتفظت بتمليسة الشعر السابل والخفيف. واليدان منفرجتان، غير مقبوضتين. وظلت أصابعهما وراحتاهما من غير ثني على خوف أو توجس، أو كراهية.

والجسد الصغير، المنكب على وجهه وصدره وبطنه وركبتيه ومقدم حذائيه، مقيم على اجتماع اجزائه وأعضائه، وعلى مناسبة مواضعها ومطارح سكناتها بعضها بعضاً. فكأن يداً ساهرة رعت نومه على هذا النحو الذي ربما اعتاده أو يرغب فيه، وهو النحو الذي تحمله أمه عليه حين تشده الى صدرها، وأودعته من غير فظاظة الرمال الطرية وبحصها المتناثر بين مد الموج، المستطلع والحذر، وبين جزره المستعجل والهارب.

وينام الولد غير متشعث ولا متفرق في انتظار النهوض والرواح ربما الى المدرسة القريبة، أو في زيارة الى بعض الاهل والجيران. فهندامه هندام عيد ويليق بالاحتفالات الاهلية والمدرسية، وينم بذوق الام ومهارتها في خلط الالوان، وإجابتها بعضها بعضاً، وإيمائها بعضها الى بعض واقتراحها. فالاحمر النبيذي الذي يصبغ بصباغه القاني والمسترسل صدرية الطفل يلائم من غير نبو كحليَّ البنطلون القصير والممتلئ بمؤخرته وحفاضاته على الارجح. وبين القميص أو الصدرية والبنطلون بعض من غوى الجسم الطري. والقدمان لم تتخليا عن حذائين جديدين لا تزال خياطة نعليهما ظاهرة. ولم يعفِّ المشي على الطرق المتربة والكثيرة الحجارة على بلاستيك النعلين المخطط لإسالة الماء في «الترع» الدقيقة.

وما عدا اصفراراً حاداً يشي بشحوب حول الاذن اليسرى، وقد يكون من آثار أشعة شمس طالعة لتوها على مناكب هذا الشطر من الارض، لم تشُب ألوان الجسم ومواضعه شائبة. ولولا آثار كدمات على الحاجب الايسر تقود الى إغماضة سوداء، لم تشِ قرينة بغير نوم النائم أو قيلولته قبل السفر والرحلة.

وعلى هذا، فأيلان كردي قد يكون، أو كان ليكون ملاحاً عتيقاً ومجرباً لا تحصي السنون القليلة تجاربه، مخر عباب البحر النبيذي، على ما تصف «أوديسة» هوميروس زرقة بحر إيجة المائلة الى الاخضرار، وعرج على شاطئه محتسباً بعض الاقالة من التعب قبل استئناف الرحلة. وهو استلقى على موضع من الشاطئ، ربما سبقه الى الاستلقاء عليه عوليس، «الرجل ذو الالف حيلة»، وهو في طريقه من طروادة في تراقيا اليونانية (والرومللي العثماني من بعد واليوم) الى إيثاكا والمرفأ الاثيني. وعلى هذا الشاطئ، أو غير بعيد منه، أبصرت نوسيكا، ابنة ملك الناحية او الثغر، عوليس عارياً ومنكباً على صدره ووجهه، وفي شعره حبات رمل علقت من الشاطئ برأسه ولحيته، وملح كثير. وحسبت ابنة الملك الجميلة والفتية، وهي تتنزه في صواحبها وخادماتها، ان الرجل العاري والمستلقي على الشاطئ، والبقية الباقية من قافلة بحرية أغرقتها عاصفة عاتية هدأت منذ يوم أو يومين، لا يبعد أن يكون إلهاً متخفياً في خلقة رجل وصورته.

وهذا من معتقدات القوم وزمانهم. وهو قد لا يكون إلهاً ولكن هذه الالفة المنعقدة على هذه الغرابة تشي لا محالة بنسب إلهي. فهما، الإلفة والقرابة، من غير طينة أشياء عالمنا، ومن غير طينة أوقاته، وكأنهما من سوابقه ولواحقه أو مقدماته وملحقاته. وأيلان المجتمِع على نفسه، أو المقيم على تنسيق اجزائه وجوارحه (مِن جرح - مَن جَرَح الولدُ الكردي النازل من كوباني وهضبتها وفراتها الى بحر الروم؟)، يولي وجهه ورأسه البحر الذي لفظه وسجاه رملَ الشاطئ وبحصه. وهو لا يوليهما البر، على خلاف اليوناني العائد من حرب دامت عشر سنين، ضعفي عمر «الحرب» التي كان ابن كوباني «عائداً» منها الى أرض ومدن بعيدة لم يحدس على الارجح في وجودها ورسومها. والوجهُ، أي توجُّه الجسد كله، الى البحر، وهو البري أباءً عن أجداد، يحمل أيلان ربما على طير ملون وثقيل أراد الطيران في رحلة بعيدة المزار الى بلاد جزر الواق الواق، على ما حسب سلفه الآخر والاسعد حظاً، سندباد البحري البغداي فالبصري. ولم يطق الطير المضي على الرحلة، فتخلف مرهقاً، وكبا على الرمل، مركباً قاتم الاشرعة ومنكس الجناح.

وقد يكون هذا - أي الجمع بين الرحلة المديدة وبين الجنوح المبكر، وبين صمدة العرس ووحشة الكب، وبين الوجه الى البحر وإدارة الظهر الى البر، وبين إزماع السفر وبين التسليم لصدر الام وصدر الارض- ما حمل ولد كوباني، المكلومة والمدماة، على صورته الاخيرة وأصدائها المتجددة والمترامية. فالصورة تنم بإشارات لا تستوي معاني دالة إلا من طريق تتمات ومثالات تنفخ فيها وقتاً وعمراً لم يُعطهما أيلان، ولم «يمتع» بهما. فهو عوليس وسندباد وملاح وطائر مهيض وتلميذ أول يوم مدرسة وعريس صفه وأثير أمه ومهاجر مغامر، هو هذا كله على وجه «كان ليكونَ» ويلابسَ هذه المصائر ويباشر بعضها لولا انقلاب المركب وانحرافه عن طريق جزيرة ليسبوس الى هاديس، عالم اليونان السفلي ومقر (أطياف) موتاهم. وانقلاب المركب، وغرق مسافريه، وسوق الامواج الطفل الغريق وحيداً وشتيتاً الى شاطئ بودروم، وجلي عدسة المصور(ة) أيلان الطفل على وجهه المنكب على الارض بين بحر وبر أو سفر ومرسى، قطعت هذه المصائر ودفنتها في طي الغيب وضميره.

ولكن أيلان لا يزال معلقاً بين هذه المصائر، ولن ينفك، منذ الثاني من أيلول/ الثالث منه، معلقاً ومترجحاً بينها. وفي وسعنا، وربما علينا أن ننحي باللائمة على أنفسنا- نحن مشاهدي الصور وموحدي الحقائق والوقائع والاكاذيب بصورها-، انكار تسليمنا للصورة الفوتوغرافية ونصبنا إياها علماً على قوة الحوادث ودلالتها، وإلحاح معالجتها، وعلى نقائض هذه. ونزعم في سرنا، غير مصدقين، أننا لو خيرنا بين انقاذ لوحة لفان غوغ من ألسنة حريق وبين انقاذ هرة لما ترددنا وفضلنا الهرة على اللوحة، على زعم ألبيرتو جياكوميتي النحات الكبير، ونؤاخذ أنفسنا على ضعف تصديقها المعيار النبيل هذا.

فالعالم الذي صنعناه، على ما هو عليه، وسوانا على ما نحن عليه، يتوسل بالصور الفوتوغرافية الى العبارة عن أحواله ومصائره وتأويلها. وبعض هذه الصور، معظمها على الارجح، يزعم القوة على ايجاب محال الناس والاشياء والادوار والحوادث والمعاني. وبعض قليل جداً لا يوجب شيئاً من خارج، ولا يحل محل شيء. وتمثل سوزان سونتاغ على هذا الضرب من الصور برسوم غويا «فظائع الحرب». فيعقد بين المعاني والرسوم المضمرة أو الوليدة والمحتملة بعقد من غير عصمة. ويدعو، من غير إكراه، الى إعمالها في استقراء الحوادث والمصائر، ونشر ما «كان ليكون» من أمرها لولا كذا وكذا مما فعلنا، ومما لم نفعل، ومما كان علينا ان نفعل. ويخرجنا هذا الضرب، من الافتتان وتحجيره وإقراره الى التشكك في أنساب الحوادث والوقائع، وتقليبها على وجوه جائزة كثيرة.

الأحد، 6 سبتمبر 2015

الحركات المدنية اللبنانية (والعربية) ومحنة ترجُّحها بين الأداء الإعلامي وبين تمثيل «الثورة»

6/9/2015

انحسر الاحتلال والتسلط السوريان على جماعات اللبنانيين وأفرادهم عن قطاعات ودوائر من الحياة السياسية والحياة الاجتماعية، على حدود «الحياتين» وتخومهما، تفتقر إدارتها أو سياستها الى تقاليد وقواعد معلومة ومستقرة بعض الاستقرار. فـ»الادارة» الاحتلالية السورية لا عهد لها في بلدها أو مجتمعها بحركات اجتماعية ومدنية ترجئ التعريف السياسي والعصبي وتعلقه الى بعض الوقت، وتدعو الى معالجات تدمج الجوانب والوجوه التقنية في معايير مصلحية عامة- وطنية، على معنى يلتبس على أفهام ضباط الاستخبارات والموظفين الوسطاء، وسعاة البريد بين رأس «العصابة» وبين الحواشي الفرعية والثانوية. وأسعف «عمالُ» الاحتلال وأنصاره المحليون وخلائفه وعمدة دوامه وتسلطه معاً، قوات الردع والقهر فقسموا السلطة على اللبنانيين قسمين أو شطرين: واحداً سموه سياسة، وحصروه في شؤون الأعمال الحربية على اسرائيل ورد عملياتها، وضبط آثار العمليات في أحوال جماعات السكان التي تحملت وزر هذه الآثار أو معظمها، وفي علاقات الجماعات الأهلية اللبنانية بعضها ببعض (وصوغ النظام الناجم عن ميزان العلاقات). والشطر الآخر صُرف الى تدبير الأمور الحياتية الجارية، والمثقلة بأعباء 15 عاماً من «التحرير» المدمر والناقم على ازدهار غير مقسوم قسمة متساوية، أو غير متوازن على ما جرى القول من بعد.

فوسع خطيب «حزب الله» المسلح في 2004 يوم طرحت مسألة المحروقات وكلفتها، وعالج لواء ركن العماد اميل لحود ووزير داخليته وخارجيته الفعلي الأمر، بتنظيم تظاهرات في الضاحية أردي في أثنائها 3 قتلى، وسدد مجلس الوزراء 50 مليون ليرة لبنانية أو 33 ألف دولار أميركي دية القتيل الواحد أو تعويضه، وردد نبيه بري لازمة الياس الهرواي في قصور لبنان عن التصدي لمسألة المازوت من غير المساعدة الاخوية السورية وسعه القول أن الوزارة أخلت بالقسمة، ونكثت بالعهد المسؤول. فهي كان عليها، بحسب عقد ضمنه أولاً الاستطلاع والرصد السوريان، ان تتولى تدبير «المازوت والطحين»، وتترك شؤون الحرب و...الحرب، العالية الكعب، الى مارشالات (عقداء) المعادلة المظفرة واختباراتهم المدوية في عبادان وخورمشهر وجزر مجنون وشط العرب وحلبجة، وقبلها في القنيطرة ومرتفعات الجولان. وها تقصيرها يؤلب «الناس» الشرفاء على قياداتهم السياسية والطبيعية، وعلى أحزابهم المقاتلة والمقاومة. وهذا ما «لا نستطيع القبول به»، على قول صاحبهم. وهو مؤامرة مفضوحة على المقاومة ودمها وعظمتها...

[الحرب/الخدمات

والحق أن القسمة، السياسة (على معنى الحرب وموازين القوة الفعلية والولاء) والخدمات، كانت أكثر اشتباهاً والتباساً. فنظير الحزب الشيعي والايراني المسلح، «حزب الله»، والمتعالي عن المحاصصة وتوزيع الغنيمة الداخلية من الوظائف الحكومية والوساطات وعوائد المرافق العامة والسمسرات، ما خلا تعويضات الاخلاء والاعفاء من كلفة الخدمات الاساسية وبعض البوابات، والقانع بعوائد المقاومة والشهادة من بيت مال المرشد الايراني، وأوقاف أضرحة المعصومين، هجمت المنظمات الموالية والحليفة على فيء الوزارات وريوعها. فعادت وزارة العمل ردحاً من الزمن الى وزراء البعث و»القوميين السوريين». وتعهد وزارة الصحة والاسكان والموارد الكهربائية والمائية والجامعة اللبنانية رئيس المجلس النيابي المزمن وحاشيته الاقربون. وولي التربية «ناصريون» أو بعثيون سابقون تدغدغ بعضهم أحلام رئاسية، والدفاع صنائع مختلطون ومخضرمون... وتركت المالية، الادارية والتنظيمية (التقنية)، الى أنصار رفيق الحريري ومساعديه. وعقد الامور وفاقم التباسها سعي رئيس مجلس الوزراء «الضروري» في ازدواج الادارات العامة أو إثنينيتها. فهو عمد الى استخلاص المرافق الحيوية من المصادرات وحصونها السورية والعروبية السياسية المحلية، ومن استرسال الادارة والموظفين في سبات دهري بالغ التكلفة. وحمله على رعاية الازدواج اعتقاده بفاعلية السوق وإوالياته، ورده على ثقل ريوع الاحتلال السوري و»المقاومة» الباهظة باستمالة ولاءات شخصية وعامة تتولى النهوض بالوظائف الانمائية والاعمارية الكبيرة وبالاعلام، وتجزي الحلفاء الدوليين عوائدَ مغرية.

ورست القسمة، واشتباهها والتباسها، على حال غريبة ومعمَّية لم تفقد مفاعيلها السياسية والاعلامية أو بعضها، الى اليوم. فقرَّ في الاذهان والافهام، من طريق سعي سوري وحزب اللهي وأملي حثيث... جاراه اليسار المتحدر من الحقبة الفلسطينية المجيدة وذيولها الناصرية والقذافية والصدامية الهزيلة، أن القوات السورية المحتلة و»سياستها» اللبنانية تقتصر على حماية انتصار التكتل الاسلامي المقاوم على الفريق المسيحي الانعزالي، ورعاية «المقاومة الاسلامية» الناشئة فالمقتدرة والقوية الساعد من اجتياح اسرائيلي وشيك ولا ينفك مهزوماً. وعلى هذا، من يُسأل عن حكم الدولة واللبنانيين ونهجه هذا الحكم، ويُحاسب على انحرافه عن اضعف معايير العقلانية والاستقامة على انحرافه الخفي و»روائحهما» هو القطب السياسي الثانوي والتابع. ولا يزال قائد الجيش الاسبق ومقدَّم تيار مسيحي عريض وخائب، ميشال عون، يطعن في «الاكثرية المتحكمة»، مستأنفاً القسمة السورية والحزب اللهية والاملية السابقة والكاذبة. ولا تزال الصحافة الحرسية و»التجارية» تطعن على «الحقبة الحريرية»، بعد استثناء أمل وميشال المر والحرس الماروني الرئاسي والحزب الارمني الغالب من هذه الحقبة، وتزف بشرى «تصفيتها» القريبة، السياسية والمعنوية هذه المرة.

فمن تسلط على اللبنانيين وعلى الدولة؛ وشَطَر جماعاتهم وأفرادهم شطرين وفريقين تفصل بينهما حروب أهلية سابقة ولاحقة مزمنة؛ ونصب «مجتمع الحرب» الشريف والقوي والاصيل نظير أو لقاء مجتمع وضيع وعميل «كومبرادور» وويكيليكسي شاغله حب الحياة الذليلة والتمرغ على أعتاب السفارات التي تختصرها سفارة اغتيلت مرات، وأخرى غير مرئية ولا قائمة؛ ومن قسر اللبنانيين جماعات ودولة على نفخ الحياة في المعنى الفلسطيني الآفل والمريض، ومكَّن لمحترفي «تحرير» و»عودة» قرف منهما أهلهما، وازدرى ارادة الجماعات والافراد (في) حياة آمنة وعلاقات مواطنة ومساواة؛ وساس اللبنانيين على هذه المعايير المستخلصة من تجربة تسلط داخلي مدمر أفضى الى المأساة السورية المروعة- من هذا شأنه زعم أنه لم يكن يوماً في موقع السلطة والحكم بل كان معارضاً شرساً ومداوماً للفساد والمحاصصة والتبذير والامتيازات والطائفية، ومدافعاً متماسكاً وعنيداً عن الجمع بين المقاومة الصلبة وبين الحوكمة الرشيدة السديدة والعقلانية. ونسب «الحزب» السوري والايراني (اختصاراً) نفسه الى المحرومين والمستضعفين والمظلومين والمسحوقين. فثنّى بحرب اجتماعية جامعة وقاصمة على الحرب الاستقلالية الوطنية وحرب التحرير «الدينية» الشاملة والأزلية على «الامبريالية» وشياطينها، على مراتبهم.

وأغلق «الحزب» المختلط والجامع، العروبي والمسلم والسياسي والاهلي والاجتماعي والمسلح، الابواب والنوافذ على الحياة السياسية اللبنانية وعلى اللبنانيين الخارجين من نحو عقدين من النزاعات والحروب المنقلبة والمُعشّية، وسجنها في مطمر عبقري لم يبتكره ولكنه بالغ في تزيينه وغوايته وإعماله، هو مطمر «الطائفية». فما كان علماً على تخبط السلطنة (الخلافة) العثمانية والاسلامية في سلاسل أو قيود شكل السيطرة السلطاني أو الامبراطوري والديني، وعجزها عن التماس طرق ناجعة الى تدبير مجتمع بالغ الاختلاط القومي والديني والاجتماعي في ظرف انقلاب ميزان قوى تاريخي- اختصره «الحزب» السوري والايراني في عيب «لبناني» (ضمناً: مسيحي وليبرالي وغربي) أو وصمة لبنانية. فناط بها العيوب الاصلية والفرعية كلها، على نحو ما تُعلّق المحن والمصائب والعثرات على العين وصيبتها. ونعتُ الطائفية الكريهة بالسياسية- وهي التي يراد «إلغاؤها» في مجلس النواب، وبموجب اقتراح قدمه رئيس المجلس المزمن والمتجرد من الغرض والمصلحة «3 مرات» على قوله في خطبته الصدرية الـ38، ولم يلق الاستجابة- هذا النعت لا يرمي الا الى التمهيد لسيطرة «الطائفة الميليشيا» الواحدة والمرصوصة. فتتمة الالغاء، أو شرطه، انتخابات نيابية عامة على أساس أو معيار أكثري ينادي به اليوم مناداة مبحوحة الحزب الشيوعي (حدادة) وأمة حسن نصرالله وفتات الاحزاب الحليفة : تتجند الغالبية العددية المذهبية، «العسكرية» والمالية الخدماتية المنضبطة، للاقتراع في الدوائر المختلطة (من جبيل الى بعبدا وساحل لبنان الى دوائر الجنوب شمالاً وغرباً وجنوباً، وفي دوائر البقاع الموشاة) «اقتراعة» رجل واحد.

فيسدل الستار الصفيق والحالك السواد على احتكار طغمة أهلية وعصبية، أي «حزبها» الواحد، السلطة والمغانم والمرافق والموارد، وتتربع في سدة «دولة»- «أمة» واحدة تنخرها العداوات والنعرات، وتنتظر انفجار الآنية المحكمة الغلق، والفائرة تحت الغطاء المحكم ظاهراً. وتنطلي الخدعة على النخب الثقافية (فالمعارضون السوريون الاوائل والمدنيون حسبوا، وبعضهم لا يزال على يقينه، بأن السوريين غير طائفيين، على خلاف اللبنانيين طبعاً). و»الطائفية» اللبنانية الذميمة والكريهة، والتي تزكم أنوف «الحزب» السوري العسكري البوليسي والايراني السلطاني والمذهبي، هي، حقيقةً وعملاً، تلك التي تقضي بتوزيع السلطة والموارد جماعات يحملها على تعريف نفسها بروابطها الاعتقادية والاهلية تحصن الجماعات الاخرى من بعض أرجح معايير الحداثة وأعمها، مثل المساواة المدنية والمواطنة السياسية وحقوق الانسان وإصدار التشريع عن المداولة والاحتجاج الراجح والوقائع والحاجات الطارئة... ويحملها على هذا التعريف، من وجه آخر، امتناع هذه الجماعات من الاخذ بالمعايير المتحدرة من التنوير وكلياته الجامعة والعامة. وتتوسل الجماعات الاهلية الى حصانتها بل إحصانها بسلطة «الدولة» المستولية وقوتها العسكرية القاهرة. فنشأ عن هذا احوال هجينة تغذي «التناقضات» السياسية والاهلية: تقوم جماعة أهلية جزئية وخاصة محل الدولة العامة والوطنية الجامعة من غير ان تتخلى عن روابطها أو متعلقاتها الجزئية التي تلحم بين أجزائها، وتستولي على عوائد الدولة ووظائفها وتتولى توزيعها توزيعاً متفاوتاً يذهب معظمه الى الجماعة الاهلية وعصبيتها. ولا بد ان يترتب على القيام الاهلي محل عمومية الدولة الوطنية أو القومية أو الدينية الشكلية، وعلى توزيع الموارد غير المتكافئ، انقسام حاد بين أهل القوة والاستيلاء وبين من يرون أنفسهم اهل ضعف مصادَرين ومستتبعين.

وينشب الصراع، بهذه الحال، بين جماعات يجمع شتاتها التماسك الاهلي بإزاء الجماعة الاهلية المتسلطة والمركزية والساعية في استقطاب اجزاء أو افراد من الجماعات الخاضعة الاخرى، وضمها اليها على شاكلة رهائن او حيلاً تتستر على سيطرتها او غلبتها. وتجدد هذه الحال مقومات الكيانات الطائفية والمذهبية والقومية (الاقوامية)، وتنفخ الحياة فيها وفي اطرها المدينية والمهنية، وتبعث الخلافات والمنافسة في صفوفها. ولا يسع الجماعة الاهلية الغالبة إلا اللهاث وراء سراب سيطرة محكمة ترتق خروق الجسم الوطني المتعاظمة، الناجمة عن سيرورات الحروب والنزاعات الاقليمية والدولية، وعن أطوار الوقائع السكانية والاجتماعية الجديدة. والحروب الاهلية والعصبية هي أفق الجري وراء سراب مثل هذه السيطرة الكاملة. ويتوهم أهل القوة المستولون ان القبضة البوليسية الساحقة و»الاستئصالية»، على قول جزائري عسكري، والامعان في التجريد القومي أو الاعتقادي، هما دواء خروق الجسم الوطني وفسوخه وانهياراته.

[ التعريب

وقبل أن يرسو مثل هذ المركَّب (العصبي الامني- البيروقراطي- الريعي- الاقليمي) في سوريا البعثية الاسدية وما بعد الناصرية، والاصح القول قبل ان يظهر عارياً فيها، دلت الدلائل كلها على ولوغ فلسطيني- سوري، ثم سوري- ايراني في صناعته وتبيئته في لبنان واللبنانيين. ولا شك في مماشاة البيئات اللبنانية، الاهلية والمدينية المحدثة والمختلطة، هذا المثال. فهي كلها مترجحة، على مقادير متفاوتة، بين تغليب اللحمات العصبية على اجتماعها، وانكفائها عليها، وحماية هوياتها الفقيرة من طريق تعليقها على الهويات الاوسع وسراباتها، وبين استجابة الاحكام الفردية المترددة، ودواعي الانشاء الجزئي والارادي واختباراته، و(استجابة) الامتحانات السياسية والاجتماعية المحتملة. واستقوت العروبة السياسية في لبنان- وهي محصلة الحلف غير المتكافئ في وقت أول، بين قوى أهلية (عروبية اسلامية) وحزبية مدينية ضعيفة القوام الاهلي والشعبي وهزيلة المراس السياسي، وبين منظمات فلسطينية مسلحة مشرذمة وتأتمر معظم أجنحتها بمصادر إنشائها ورفدها بالمقاتلين والموظفين وتمويلها بسلاح «حلفائها» وأولياء أمرها وأمر سياستها ومواردها. فاستعرت الحملة على «الطائفية»، وشُهِّر بدَيْن لبنان (المسيحي والماروني والمصرفي المالي و»حلقة الوصل الامبريالية»، على قول أحد أصحابنا) بكيانه المنعزل، «الانعزالي» و»غير الاتصالي» العروبي في لغة العصر يومذاك، الى الطائفية وحدها. وقصرت هذه على «جماعة مذنبة» أو مجرمة واحدة. وخُيِّر اللبنانيون بين التمسك بطائفيتهم واقتتالهم الفطري، على ما ذهب اليه بشار الكيماوي، خالف حافظ «جزار حماه»، في مستهل 2005، وطبقتهم السياسية المتعفنة وليبراليتهم المزيفة والمهجنة- وهذه كلها وضعت في خرج واحد- ، وبين مثال «الدولة» العروبية والعضوية الواحدة والقوية، والديموقراطية الشعبية والاصيلة تالياً وعلى الدوام.

و»عُرِّب» لبنان واللبنانيون في سياقة طويلة من الحروب الملبننة، الداخلية والاقليمية، ومن صوغ اجتماعهم ومؤسساتهم على موازين قوى مقحمة ومصطنعة. والتعريب يعني إخراج المنازعات السياسية والاجتماعية والثقافية، عنوة وبالقوة المسلحة والمرصوصة، من مجاريها وأوردتها المتغلغلة في اجسام الجماعات الفعلية والقائمة على انواعها: الاهلية والاقوامية والاعتقادية والمهنية والوظيفية الطبقية والسياسية والبلدانية الجغرافية، وأذابت هذه النزاعات في مواجهة أو حرب «مركزية» بين التحرر القومي، و»دولته» وحزبه أو طاقمه، وبين العدو المستعمر والمستكبر والكافر الامبريالي الصهيوني. ولا يؤبه كثيراً او قليلاً بمضمون التعريفات أو النعوت هذه. فدورها الاول عملي أو عملاني وهو النفخ في الحرب الاهلية والداخلية التي تسوغ احتكام السلطة وأهل القوة المزمن الى حال الطوارئ وأحكامها العرفية الثابتة والمتشددة، المعلنة أو المضمرة. وعليه، فأهل السلطة والقوة الاهليون والمنتصبون في قلب «الدولة» ولاةً عليها هم على الدوام مناضلون ومعارضون، وربما انقلبوا ناشطين محاصرين ومستضعفين تصليهم القوى الغاشمة والمستكبرة حرباً وعدواناً عالميين لا ينقطعان. وعليه كذلك، فهم لا يبلغون من الاستيلاء على السلطة، والانفراد بها، وحراسة مداخلها ومخارجها، نهاية او غاية لا تبلغ.

ومعنى التعريب كذلك، والحرب الاهلية المسلَّطة على الدوام على الاجتماع الوطني، باسم التحرر القومي ووحدة «دولته»، أن تؤخر الاحتياجات الاجتماعية والمعيشية، ومعها ربما وقبلها المعايير الحقوقية المدنية، الى مرتبة دنيا ونافلة، فلا تذرّ الشقاقَ والخلافَ في «الشعب« المرصوص والمتجانس والمتحفز للحرب، وقعت أم عُلِّقت الى أبعد الأجلين. فلما اجتمع شطر راجح من اللبنانيين- وهو راجح معنوياً وقد لا يكون راجحاً احصائياً ومادياً وانتخابياً- على معارضة «النظام السوري- اللبناني» أو المركَّب العروبي السياسي، وقاموا على اغتيال أحد مداميكه، أياً كانت اليد القاتلة، وعلى تصرفه المتعسف والعشوائي بـ»قوانينه» أو أعرافه المضمرة، انتهك هذا الشطر القسمةَ التي ينهض عليها «النظام السوري اللبناني». وهو لم ينتهكها من باب خلطه أهالي الطوائف والجماعات الاهلية، وتكذيبه انغلاق اللبنانيين بالفطرة على عصبياتهم ودوائرها وعلى احترابهم الاهلي، وحسب. فانتهكها من باب أوسع وأعرض هو تسليط المحاسبة القانونية والقضائية على «الحق» السلطاني، القومي والشرعي، في الاغتيال والقتل إذا اعترضت «الرعية» مسالكَ السلطان الى غاياته القومية والشرعية. فالحق السلطاني في القتل وجه من أوجه التوحش الذي زعمت بعض الفرق الجهادية والارهابية التصدي لإدارته حيث تنحسر قوة «دول الكفر»، وزاولته الانظمة العصبية الامنية من غير تنظير قبل أن يرتد عليها وعلى مجتمعاتها ويدمرها أبشع تدمير وأوحشه.

[ المدنية

وهذا هو «النظام» الذي خلَّفه تضافر المنظمات الفلسطينية المسلحة والسيطرة السورية البوليسية والريعية والاقليمية على إدارة «سيبة» أو سباء لبنان واللبنانيين. وأسهم هؤلاء في الادارة، وأقبلوا عليها غير متحفظين إلا لماماً. ولم يَسعْ نظام العروبة السياسية محق أجزاء أو سمات من النظام «الطائفي» السابق طبعت بطابعها مجتمع الجماعات اللبنانية، وتحدرت اليه من صدارة «مجتمع جبل لبنان» التاريخية منذ القرن الثامن عشر وفي اثناء القرنين اللاحقين. ويدين مجتمع الجماعات اللبنانية، وهو لم يبلغ التمام الاجتماعي والفردي، جراء الحصار العصبي الداخلي والاقليمي له، الى هذه الصدارة وميراثها بالنقض على غلبة جماعة واحدة من الجماعات واستيلائها على الدولة العمومية واستتباعها، وقيامها محل الدولة من غير التخلي عن روابط الجماعة العصبية. ويدين لها بالليبرالية الاجتماعية والاقتصادية، وبتبلور عوامل مجتمع مختلط ومديني نازع الى الفردية ومقيم على رعاية تضامن أسري يصعب الاستغناء عنه ريثما تنهض هيئات عناية قوية وباهظة الكلفة. ولم تخطئ العصبيات المسلحة، وأولها العصبية الشيعية، فهمَ حركة «14 آذار» وفصولها المتتابعة. فحملتها على حركة مجتمع سياسي وطني وليبيرالي مدني تنزع الى تقويض «النظام السوري- اللبناني»، وقسمته الخبيثة والمدمرة الدولة قسمين أو شطرين: سياسياً أهلياً لا يتماسك ولا يستقيم إلا بالاستيلاء العصبي على إدارة «الدولة»، وشطراً اجتماعياً مدنياً وفردياً يُقصر على عقلنة بعض الاحتياجات وتلبيتها.

ولكن هذه القسمة لم تعد ممكنة بعد أوقات أو أدوار 2005 اللبناني، و2009 الايراني، و2010 -2011 التونسي والمصري والليبي والسوري واليمني. فانفصال القطب السياسي (الاهلي)، وزعمه القيام بنفسه وبوحدة الدولة والمجتمع والسيطرة عليهما من فوقٍ معلقٍ في الخواء الاجتماعي والسياسي، امتحنه انفجار المجتمعات ودولها امتحاناً لا قيامة لهذا القطب، وعلى هذه الحال، بعده على الارجح. واستعادة «عصبيات الدولة« في معظم البلدان العربية (والاسلامية في حال إيران) التي بدا أن القسمة انهارت فيها، تسلطها ورجحان كفتها، لا يعني استعادة القطب السياسي (الاهلي) قيادته إلا على نحو ساخر ومسرحي كوميدي وتشبيهي. ويخلط اللبنانيون الثائرون على الفساد والادارة الخائبة، وعلى دهرية الجماعة الحاكمة من غير عصبية دولة صريحة ومتجانسة، (يخلطون) حركات متفرقة ومتنوعة. فوجه من حركتهم، أو حركاتهم، يماشي القسمة السياسية/الاجتماعية، ويعلن الرضا بها والانقياد لها. ولكن مدنية الحركات هذه، وتحدرها من «14 آذار»، يطعنان طعناً مباشراً وثخيناً على القطب السياسي الاهلي والعسكري الامني الذي صنعه الاحتلال السوري و»نظامه» وخلّفه وراءه، وتمثل العصبية الشيعية والحرسية عليه تمثيلاً ناتئاً وقبيحاً. فتعمد العصبية هذه، من طريق بعض فروعها التي تعيلها وبعض سواقط جماعات طرفية، الى استدخال الحركات المدنية. فتحمل المجابهة العنيفة والموضعية، أو محاكاتها التلفزيونية والاعلامية، على العمل الثوري والجذري، وتحمل جسم الحركة وكتلتها الغالبة على التردد والنكوص والانقياد «للسفارات» الفولكلورية التي حلت محل المسوغات السياسية والاجتماعية.

ولكن خداع الحركات المدنية نفسها، وتوهمها أن استجابة بضعة آلاف من اللبنانيين دعوتها الى التظاهر الحر والمباح من غير قيد يعني نضوج ظروف تغيير «النظام» والانتصار على «الطائفية»، يقصران (الخداع والتوهم) الحركات على إخراجها الاعلامي المضلل الذي يتضافر على تسويغه أهل الحركات والمتربصين بها والمشككين فيها، جميعاً. فطوال نحو عشرة أيام انشغل فيها اللبنانيون بالاحتجاج على تراكم النفايات، والآراء في التراكم والاحتجاج، والدعوات الى المسيرات، اقتصر الاعلام ودعاة التنديد على تزيين المشهد وترويجه من غير زيادة عليه. فانشغل الطرفان، الاعلام والدعاة وقد صارا طرفاً واحداً، بتكرار نفسيهما ومحاكاتهما وأداء المحاكاة. فأهملت الجوانب التقنية والمالية والسياسية المؤسسية والتشريعية والاجرائية من المناقشات. ولم يدعَ الى المناقشة لا الخبراء الفنيون، ولا أهل التجارب والمعالجة، ولا المشاركون السابقون في معالجة بعينها (ومعالجة بلدية صيدا «جبل نفاياتها» قريبة العهد)، ولا نواب أو وزراء أو إداريون لابسوا المسألة، ولا صناعيون وتجار نقل، ولا بلديون، ولا ناشطون في حقول العمل المدني. فكأن هؤلاء، والقضايا التي تدور عليها مشاغلهم وأعمالهم وخبراتهم، حواش تعكر صفو المشهد التلفزيوني المترجح بين برنامج الحوار الحليق والناعم وبين استعادة ساحة تيين آن مين في حزيران 1989 (استعادة كاذبة ومغشوشة: فالفتى العاري الصدر، والحافي القدمين، في مقابلة السياج الشائك و»الهبولة» التي أشعلها أصحابه، لا يغامر بشيء، ولا تهدده دبابات الجيش الاحمر ولا استخبارات دينغ شياو بينغ، ويسانده أهل شيعته وحيه، ويصفق له جمهور ساحة رياض الصلح الظرفي والمفتون). فخرج الجمهور، والمؤدون، وهم على علمهم الثابت والفقير بالمسألة التي شغلت اللبنانيين وتشغلهم. وبددت الحركات المدنية فرصة انضاج رشد سياسي وحقوقي تحتاج اليه حاجة المتنفس الى الهواء.

الأحد، 30 أغسطس 2015

حروب الجماعات والعصابات السورية... من غير «شرطة» جامعة



المستقبل (نوافذ) 30/8/2015
تتوالى الحوادث السورية الفاجعة - المعينة والمفردة تارة مثل قصف السوق بدوما ثم قصف المقبرة، والمجتمعة والمتصلة تارة اخرى مثل بلوغ عدد الغارات الجوية التي شنها الطيران الحربي الرسمي في الاشهر العشرة المنصرمة، الى منتصف آب، أكثر من 33 ألف غارة (تولت المروحيات 18038 منها والطائرات الحربية 15337) - من غير ان تبلور مخرجاً سياسياً من الحروب المتفشية والمتناسلة بعضها من بعض. وإذا كانت اعمال أو افعال «النظام» الحربية او الديبلوماسية (المفاوضة على خروج المقاتلين من الزبداني) أو الاجرائية والادارية (اشتراط موافقة الجهات الامنية على العمليات العقارية وسياسة التجنيس) تدعو من غير لبس الى الادانة والتنديد، لم يخل عمل أو فعل تقدم عليه معارضة من المعارضات العسكرية الميدانية الكثيرة من مطعن أو عيب يقوض إيجابيةَ مقاومةِ النظام العصبي الامني والريعي الذي يتصدره الاسد الثاني، والقيام عليه. والاجماع المضمر في صفوف جماعات المعارضات المسلحة على إدانة عصابة «الدولة الاسلامية» المزعومة ووحشيتها لا يمهد الى ميثاق واحد أو «شرطة» واحدة، على قول الحركة الدستورية الايرانية مطلع القرن السابق. فلم يملك المتحدث المتخفي باسم «النصرة»، أبو محمد الجولاني نفسَه من الامساك عن إدانة «إخوته» في الاسلام والايمان على قوله، جماعة «الدولة» في معرض الترويج لـ»اعتداله» وترشيح جماعته للانخراط في جبهة متضافرة. ولم يفلح نحو 3 آلاف قتيل من الجماعتين سقطوا في اواخر 2013 وأوائل 2014، في اقتتالهما على الرقة وشرق حلب، في حسم ما بينهما من تداعٍ وانعطاف وعلائق.

والرأي في الجماعات المسلحة المعارضة التي تقاتل «داعش»، وقد تبلي في قتالها، وتعلن من وجه آخر معارضتها السياسية وربما المسلحة (على قدر أقل) للنظام البوليسي، لا يحمل هذا الرأي صاحبه على الانحياز الى هذه الجماعات، ولا على توسم الميثاقية المأمولة في قتالها وفي نهجها الاهلي والسياسي. والجماعات الكردية السورية هي المقصودة أولاً بهذه الملاحظة. فمهادنة هذه الجماعات، ولو على نحو سلبي، الاسدَ الكيماوي في دير الزور على الخصوص، على رغم مبادرة رأس العصبية المراوغ الى هذه المهادنة واستجابتها هي، آذنت بالسياسة السكانية القومية أو الاتنية التي أعقبت تقدم وحدات حماية الشعب الكردي في تل أبيض بعد كوباني، في اوائل 2015. وتستعيد مثل هذه السياسة، «التطهيرية» على مقادير متفاوتة، الانقسامات العشائرية والقبلية والمذهبية التي تفرّق الاهالي وتعصِّبهم أحزاباً وكتلاً، في شمال الوسط والشمال العراقيين قبل حملة «الدولة» على الموصل وبعدها.

واضطرت قيادة «الائتلاف» السوري، غداة انشاء جيش الفتح، وعموده الفقري «النصرة»، واستيلائه على معظم ادلب وحصاره جسر الشغور والاستيلاء عليها ومحاذاته الجبل والساحل العلويين، الى انكار قصف طيران التحالف قوات «النصرة» في أعزاز وبنش وجوارهما. ولم تلبث «النصرة» إياها أن هجمت على بقية مسلحي المعارضة «المستقلة» والمؤتلفة الذين دربتهم البعثة العسكرية والامنية الاميركية الى تركيا، وجردتهم من سلاحهم وأسرت بعضهم وقتلت 4 منهم (هم عشرهم تقريباً). وإحصاء امثال هذه المفارقات في سوريا وميادينها العسكرية والسياسية لا ينتهي الى غاية أو نهاية. فاللبننة- الاثيرة على قلوب الامنيين والكتاب و»المفكرين» السوريين، في عهد «رجال موت» حافظ ورفعت الاسد - تبدو قاصرة عن الالمام بالمنازعات السورية، وعَزَف عنها جمهور المعلقين. وهي اثنينية حيث الكثرة مسترسلة. وأما البلقنة فهي من موروثات عصور زاهية نجحت في ارجاء انفجار حرب عالمية أكيدة ووشيكة طوال قرن كامل من الزمن. واستخلصت من السلطنة أوطاناً ومجتمعات وقفت على ابواب أوروبا. ووسع الرجل المريض، العثماني، في الاثناء، أن ينازع غير مستعجل احتضاره أو سكرات هذا الاحتضار. وهذا، أي استخلاص الاوطان والمجتمعات من «سلطانات» مُقْوية ومتداعية، ما لا قِبَل به لا للسلطانات ولا لولاياتها السورية ومواليها المحليين.

فـ»الحرب» السورية المتشظية والمتناثرة حروباً أهلية ومحلية واجتماعية وايديولوجية واقليمية ودولية كثيرة لم يرسُ الاشتباك أو القتال فيها يوماً على ميزان جامع يحشد حزباً في وجه حزب، على رغم شهوة النظام العصبي الامني والريعي الى الانتصاب قطباً مقاوماً وقومياً وحدوياً ووطنياً علمانياً وشعبياً، في وجه قطب تكفيري عميل، وخليجي أعرابي ظلامي ودموي. وعلى رغم يقين القطب الاصولي بنهوضه نداً اسلامياً صادقاً يقاتل ردة تفوق شراستها ردة القبائل على الرسول غداة وفاته، تعددت المعارضات المدنية ثم المسلحة، على رغم ضعف روابط النسب بين المجموعتين، وتفرقت وتشرذمت على مثال غير معهود ولا مألوف. فكان تفرقها ردَّ جوابٍ مريضاً وهاذياً على خواء الوحدة «القومية» الاسمية التي رفعها نظام «العصابة» علماً على «دولته» القاهرة وسياساته القمعية والريعية. وسرى في الجماعات المقاتلة والمتكاثرة كالفطر، على عدد المشارب والولاءات المباشرة وجهات التمويل وموارده التي تصدر عنها، اقتناع حاد بأن كل ما يشبه النظام الامني والعصبي الاهلي والريعي ومزاعمه- في العروبة والقومية الواحدة والممانعة وحماية الاقليات والعلمانية والاستقرار والامن والدولة... - هو شر وكذب ويجب مخالفته.

وآثار النظام الباعثة على الشرذمة والانانيات المتخبطة لم تقتصر على المزاعم والدعاوى والافكار فتعدتها الى أبنية الروابط والمصالح. فعريت العلاقات الاجتماعية والانسانية من دواعي الاشتراك والثقة، ومن إعلان الخلافات ومناقشتها والتحكيم فيها. فالاحزاب شكلية والانتخابات مسرح دمى قيدتها المادة الثامنة السابقة من الدستور أم لم تقيدها، وجمعيات رجال الاعمال والنقابات أطر تتوسل بها القيادة العمودية الى المراقبة والامتحان والافساد وبذر الشقاق، والادارات الرسمية تتستر على مراكز قوى فعلية تتولى التعيين والعزل والوساطة المدفوعة تحت عباءة «الحلقة الضيقة». وعلى هذا، افتقرت التعريفات الجزئية والهويات الوسيطة، المذهبية والمحلية والقرابية والقومية والاجتماعية والمهنية... والفردية النفسية، الى قوامها ومسوغها. وعُلِّق السوريون، شأن العراقيين والليبيين وشطور من اللبنانيين على نحو آخر، في فراغ تعريف جامع ومانع، متحصل من نفي التعريفات الملموسة والحسية والحيوية المقيّدة التي تقدم إحصاء بعضها، وقُمعت «الانساب» والروابط كلها. وخص بأعنف القمع أقرب «الانساب» الى عقد آصرة أو عروة قوية وتلقائية بين الناس أو الاهل، وأبعدها من الاستمالة والشراء والتعويض (أي من الاصطناع والنسب الصناعي أو «الوهمي»).

فكان الاسلام- في صيغ الاسلام الاهلي فالسياسي، والاسلام «المقاتل» قبل الجهادي والاصولي، والاسلام الصوفي، و»الاسلام الاجتماعي على ما سمي الاسلام التعليمي والمسجدي والخيري والارشادي شبه الرسمي- وسوريا هي ما هي، صنو «العروبة السياسية» أو «الحزب -الدولة» التي اشتركت في فبركتها الاحزاب القومية واليسارية، والحركات الاستقلالية الاهلية الحزبية والعسكرية، وتوجتها حركات «الكفاح المسلح» ومنظماته الوطنية. وهذا الاسلام هو صنو «العروبة السياسية»، ونازعها الى تجريد الافراد والجماعات من اعلاقهم الجزئية والحيوية الوسيطة، المتحدرة اليهم من مجتمعاتهم، وهو ندها وخصمها. ونزعت علاقة الاثنين، في صيغهما المتفرقة والمختلفة، الى الحرب الاهلية، على ما رأى مراقبون ومؤرخون في احوال مصر عشية الانقلاب العسكري «القيصري» في صيف 1952. فالانقسام الاخواني والوفدي، وغلبة التيارين على شطرين عريضين من المصريين، تقدم على انقسام ملكي وجمهوري ظاهر، وحال دون انفجار الحرب الاهلية من غير اطفاء عواملها الكامنة والمزمنة. والحق ان «الحزب - الدولة» في العراق الصدامي وسوريا الاسدية وفي ليبيا القذافية على نحو فرعي، دعا الاسلام السياسي والاصولي الى تجاوز الندية والخصومة المركبتين نحو حروب الاهل والجماعات العامة.

فاستيلاء «الحزب - الدولة» العام، ومرونة صيغته المترجحة بين الضبط الديني الشرعي وبين الضبط البوليسي والاداري، واستحواذه على موارد القوة والمعاش وعلى المناصب ومباني الاجتماع، وتولي مركزه وحده التوزيع والحظوة، وتحجيره المجتمع افراداً وجماعات على انقسام أهلي متوتر- هذه كلها مجتمعة تحمل السياسة والاجتماع معاً على الاحتكام الى حروب عددها على عدد النزاعات المعروفة والخفية والناشئة. وهي حروب غير متكافئة ولا متناظرة، ولا يسع «المعارضة»، الكلية وغير المؤتلفة من افراد وآحاد، جبه سلطان «الحزب- الدولة» أو «العصابة- الدولة» ببؤرة مركزية تقوم، بإزائه وتنازعه المشروعية. فلا يدعوها داعٍ ملح الى خوض حرب وطنية تنزع الى التأليف بين الجماعات والكتل الجزئية، على مراتبها، في اطار متماسك. وعلى الضد من هذا، تدعوها دواعٍ كثيرة وحيوية الى ابتداء حروب أهلية منفصلة تردد، بدورها، أصداء عداوات الكتل بعضها لبعض. وعلى مثال قضاء القرون الوسطى الحربي، لا يُتوقع ان تنطق الحروب الاهلية بالحق، ولا أن يحتكم المتخاصمون الى معايير أو موازين متعارفة. فالمتخاصمون إما ان ينتصروا، ودليلهم على عدالة قضيتهم هو إبادتهم عدوهم، وإما أن يُسحقوا، وهذا دليل على بهتان قضيتهم.