الاثنين، 29 أبريل 2019

اليرموك والباغوز، "الرئيس" و"الخليفة"... في صورتين فوتوغرافيتين



قبل نحو أسبوعين من إخراج بقايا مقاتلي "داعش" المتحصنين في بلدة الباغوز السورية، وقتلهم، وزعت وكالة الصحافة الفرنسية، في 20/3 صورة فوتوغرافية يُرى فيها أو عليها كتلة رخوة ومتصلة من قماش أسود تملأ ثلاثة أرباع الصورة. والربع الرابع الذي لا تخيم عليه الكتلة، ولا تكسوه بسوادها الفاحم، هو أرض متربة وغبراء تضيئها شمس يتوسط انحدارُها بعد ظهر النهار، على ما تشهد ظلال أشخاص مائلة إلى يمين الصورة. وهؤلاء يمشون في البقعة المضيئة أو يقفون فيها، وتفصل البقعة بين الكتلة المجتمعة في مقدم الصورة، وبين دائرة وراءها تقل إضاءتها عن إضاءة البقعة المتوسطة، إما لأن ترابها بنّي وداكن اللون وإما لأن شجرات (نخيل؟) قليلة، وتكاد تكون غير مرئية، حالت دون غلبة الغبار على التراب.

 وتُخيَّل النظرة الأولى الى الصورة- وهي على صفحة الصحيفة الورقية غيرها على شاشة الانترنت الملونة والبائتة الفروق بسبب الضوء- طفحاً جوفياً أسودَ ومعتماً على جلد الأرض وعمرانها الإنسي. فتبدو الكتلة الليلية الهشة شطراً أو ثقلاً ألقت به الأرض، وأخرجته من بطنها الحالك والمستتر. ولا يحسب الناظر أو الرائي أنه هو من يبادر إلى النظر وإلى تمييز ما يرى، فيخال أن الكتلة في قلب الصورة الفوتوغرافية هي مصدر النظر أو، بالأحرى، هي الهاجمة على النظر والآمرة في استدارجه وتثبيته واستفهامه عما يراه.
 ومن هذا الوجه، ثمة شبه وفرق قويان بين صورة نساء "داعش" في الباغوز وبين صورة أهل مخيم اليرموك (صورة التقطتها ووزعتها وكالة الأونروا في 31/1/2014) بضاحية دمشق المحتشدين في انتظار توزيع الإعاشة عليهم غداة حصار قاسٍ دام أشهراً. فكتلتا الأبنية المدمرة والطيفية على جهتي الطريق، واحتشاد الناس صفوف رؤوس ووجوه في مجرى الطريق الضارب أولها في أفق لا ترى منه إلا فتحة ضوء شتائي، تشبِّه موجة عاتية قذفها بحر أو محيط شرس. وعلى وجه آخر، يتصور الجمع المكتظ والعميق في صورة يوم الحشر وانتظار الحساب والدينونة على أبواب جحيم، ناره انتظارٌ مديد وشاخص إلى موضع معلق. وعلى وجه ثالث يكني الحشدين الانقاض عن خروج الناس في صورة فئران من جحور مهدمة. تسري في حشد أهل اليرموك حركة مائية هائمة على "وجهها". وهذا المد هو ما يهجم على النظر، ويعلو به ويهبط، ويجنح ويغور في الوسط، ويرسم الوجوه والقيافة في مقدم الصورة ويُغرق المدَ في إغفال "الجماجم"، على قول جباة الأخرجة والأعشار، في مؤخرها.
 ولا تبقى صورة الداعشيات وقتاً طويلاً على إغفالها، ولو اقتصر تصفحها على صيغتها الورقية. فبين المسدلات على رؤوسهن وأكتافهن وأجسادهن النقاب الكامل، على ما يسمى النقاب الخالي من "طاقة" العينيين أو "منورهما"، نساء يعترض نقابهن، على سوية أعلى الرأس المدبب، ضوء أو وميض يلوح، على قول ابن الفارض في مسرى "ليلى العامرية مساءً"، من هذا الموضع. وقد يرى الرائي في طاقات أحجبة الرؤوس زجاج نظارات، أو محاجر عيون كائنات فضائية، على خطى سبيلبيرغ، وأفلامه الفضائية وصبغتها بصباغها مخيلة جمهور عريض ومتجدد.
 وإذا اهتدى الرائي بهذه الأضواء التي تشبه النجوم الغائرة في جوف سماء لا يدرك قاعها، وسعه الانتباه إلى أن صفحات الرؤوس (وليس الوجوه أولاً) التي يميزها ويخرجها من إغفال السواد المتصل لا تلبث أن تستوي على شاكلة وجوه. وهذه الوجوه لا تشخص إلى جهة واحدة، ولا إلى موضع واحد. وبعضها، من خلف ستر الحجاب، يخاطب بعضاً آخر، أو يعير أذنه مصدر كلام أو مخاطبة بالعينين أو التفاتة وجه أو حركة رأس أو بالنطق. فتميل الرأس على الرأس، ويشيح النظر عن النظر. وقد ترى يد، عارية أو في قفاز بلون الجلد، تمسك بأصابعها شيئاً، أو تقر شيئاً من لباس المرأة على موضعه، أو تستقر على كتف جارة أو على ذراعها.
 ويُلمّ بأعلى رؤوس النسوة الجالسات والمقتعدات التراب ضوء شحيح، لا يدري الرائي إذا كان السبب في شحه منه هو، من ضعفه، أم من قماش الأثواب التي تلبسها المنقبات من أعلى الرأس الى أخمص القدمين. وينتشر الضوء في كتلة النسوة على أنحاء ومقادير متفاوتة. فاللواتي يمينهن (جهة اليمين) إلى مصدر الضوء الغارب، حظ أعلاهن من الضوء الأغبر يفوق حظ أوساطهن. ويحدس الناظر إلى كتلتهن بقعاً بين الجالسات، كأنها بحيرات حبر، يفوق سوادها الحالك سائر السواد المولود من خليط القماش والغبار.

 وتشترك الصورتان الفوتوغرافيتان الداعشية وصورة أهل مخيم اليرموك، في التمثيل على الانسلاخ من عالم سفلي وغائر، والحط في عالم آخر لا يبرأ من الحطام والاضطراب والانهيار. وينزل العالم هذا بجوار الضوء، وتخرجه الفروق الكثيرة والمرئية، الألوان والرسوم والمسافات والظلال، من الشبه المعمّي والأخرس أو تفارقانهما على مثال واحد. فالداعشيات أخرجهن معهن طوعاً عباءاتهن، ورغبن طوعاً في الإبقاء على كتلتهن وسوادهن وخفائهن. والأرجح أنهن، لو استطعن، لحلن دون ظهور الفروق بينهن، ولتحجرن، من غير أضعف فرق، على مجانستهن بعضهن البعض الآخر، وواحدتهن الأخريات. فكتلتهن الصماء، وهن أردنها على هذه الشاكلة، مرآة معدنية يحفرن فيها شبهاً لا يعتوره فرق أو ينبغي ألا يعتوره فرق. ويصدر هذا الشبه عن إرادتهن، وعن انقيادهن ربما أولاً لإرادة رجالهن، أو للرجال الذين هن نساؤهم ولسن غير نسائهم ووعاء رجولتهم.
 وتبسط صورة أهل اليرموك على نحو فج ومباشر تسلط جبروت قاهر وفوقي على الجمع المقموع في قمقم ضيق او سراديب مدينة متصدعة ومحطمة، ويكاد اندلاع الناس (على مثال اندلاع النار) في شارع المدينة، وخَلَل أنقاضها المعلقة مكاناً وزمناً - فالقصف الآتي والمتوقع يطلع من الشرفات والجدران والباب المتداعي إلى يمين المشاهد- يكاد أن يعني إحياء المدينة والنفخ في رمادها، ووصلَ أجزاء جسمها المقطّع بعضها ببعض. وترسو على ضفة نهر الجماجم وفي مقدم الصورة، وجوه مفردة، وقسمات قوية العبارة تتخفف من إغفال قُسر عليه العدد قسراً وعنوة. فـ"طليعة" الموجة البشرية تعرب عن المعنى الفريد الذي تؤديه الوجوه القريبة وقد أتاح قربُها، وصدفةُ هذه القرب، جلاءها، وأخرجها من عتمة الشَبَه وتنكير الجمجمة والإحصاء (وهو ما لا تنفك الإعاشة منه).
 وعلى هذا، يبعث أهل اليرموك المحاصرون في الصورة الفوتوغرافية حركة زمنية قوية. وتجتاز الحركة هذه - بين القاع البعيد وبين صدارة الوجوه، وبين بواطن الأرض وملاجئها،  وبين سطحها الشاهد على إعصار العنف والتكتيل- مسافة تفصل تعسف القهر وقسره البشر على الكمون عن تجديدهم سعيهم في الأرض وعمرانها وضوئها ومقاومتهم دمارها. وتحرس الداعشيات حراسة مشددة الخباء الذي يعرِّفهن من داخل، فيصدرن عنه صدوراً ينفي عن سوادهن وشبهن الانقياد لأمر من خارج. فالقانون ("الشرع") والفطرة في حالهن، واحد. والعدستان اللتان صورتا انتظار أهل مخيم اليرموك المحاصرين بنار "الرئيس" بشار الأسد توزيعَ الإعاشة، واجتماع الداعشيات اللواتي أخرجهن مقاتلو "الخليفة" أبوبكر البغدادي من ساحة حرب الباغوز- صورتا كذلك صنفين من اختبار الزمن والسلطة والنفس، معاصرين ومختلفين ومشتركين في بعض الأمور.



"سوريا الأسد"...فصول تصديع الدولة والمجتمع



 المدن، 17/4/2019
يدمج ماتيو راي، مؤرخ تاريخ سوريا القرن التاسع عشر القرن الواحد والعشرين (عطفاً على مقالات سابقة: سوريا "الواحدة" على محك انقسامات تاريخية، من السلطنة الى الانتداب،  عبر دولها وأطرافها وأقوامها وأحزابها وانتفاضاتها)، عهود الاستقلال "المدنية" (من 1946 إلى 1949) والعسكرية (1949 إلى 1954) فالمدنية العسكرية (1953-1958) فالوحدوية (1958-1961) فـ"الانفصالية" (1961-1963)- يدمجها في مرحلة أو حقبة واحدة يسمُها بالاستقلال. فتمهد، على هذا، لمرحلة تالية يفرد لها فصلاً على حدة. ويتناول الفصل "البعث في السلطة"، ويجمع استيلاء البعث "القومي" المختلط، العسكري والمدني (1963-1966)، إلى البعث "القطري" (1966-1970). ويقدِّم الفصل لفصول ثلاثة تشترك في عنوان متصل محوره "الأسد"، وتنقسم حلقاتٍ: الأولى والثانية فالثالثة. وخاتمتها هي عتبة 2011، عام "انقلاب الآيات والأهوال الكبرى" على قول عبد الرحمن الجبرتي المصري في دخول الفرنسيين مصر. وقد يحدس القارئ في هذا الترتيب معالجة تلحق التغيرات السياسية والاجتماعية الكبيرة بالتناوب على رأس السلطة، وتحجم تالياً عن تقطيع أو تحقيب يصدر عن رسو التغيرات العريضة والعميقة (إن حصلت وبرزت للوصف) على صور متشابكة وموصوفة.
عوامل خمسة
 والحق أن المؤرخ يتعقب العوامل الراجحة في انقلاب الجماعات والبلاد السورية من طور إلى طور، ومن حال اجتماعية وسياسية و"ثقافية" (أو فكرية على وجه الدقة) إلى أخرى، ولكنه يؤثر تقييدها بعناوينها أو أبوابها الحزبية والشخصية الواضحة، وحملها على العناوين والأبواب هذه. فيحصي في أعوام الاستقلال الأولى المنازع والوقائع التالية:
*إناطة معالجة المشكلات التي رمت بالشعب في هاوية الانحطاط والاستعمار بالسيادة والاستقلال الوليدين، أي بـ"الحرية" في مصطلح الوقت. وإدراج سوريا الدولة الوطنية الجديدة في سياقة ماضٍ ومستقبل، عربيين وإسلاميين (على ما يغفل راي القول أو يضمر)، أتاح للتيارات السياسية والفكرية المحلية الزعم من غير مناقشة أن "جوهر" الأمة أو "روحها"- على قول ردد في ثلاثينات وأربعينات القرن العشرين أصداء الثورات الفاشية والنازية والقومية المتعصبة ومذاهبها- الأصيل لم يتأثر بالعَرَض الاستعماري الغربي وربما العثماني السطحي. وما النخب الاستقلالية الجديدة، الحاكمة والمدعوة إلى الحكم، إلا وسيط عودة الأمة إلى حقيقتها المتذكرة. ويسوغ المؤرخ دمج الأدوار المتعاقبة بـ"سعي (التاريخ السوري) سعياً محموماً في إرساء السيادة في الحقول الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والديبلوماسية" (ص 148).
* اضطلاع "الأسرة الكبيرة الحاكمة" بدور اجتماعي سوغته وساطتها بين السلطة المنتدبة والمستعمرة السابقة وبين الجماعات الوطنية والمحلية. ولكن عناصر الوساطة تغيرت مع أمرين: خروج السلطة المنتدبة وترتب نتائج اجتماعية وسياسية على التحسينات الصحية، وعلى إثراء أسر مدينية سورية في الحرب الثانية وظروفها. واستثمر الأثرياء الجدد أموالاً في زراعة القطن، وفي صناعات النسيج والأسمدة والكيمياء. وانتقل شطر من الاراضي الزراعية الصغيرة إلى أيدي كبار الملاكين، على خلاف تقليد محلي قديم. ورجح تعاظم ثراء الأثرياء كفة المدن الاقتصادية والسياسية على كفة الأرياف. ووصمت المرحلة اللاحقة، البعثية واليسارية، هذا الوقت بوصمتي العمالة للاستعمار والفساد، ونفته من التاريخ السوري الرسمي، "القومي" و"الاشتراكي". وذلك قبل أن يرفعه جيل لاحق، قضى نحو أربعة عقود تحت سلطة "قومية" و"اشتراكية" استبدادية، إلى أعلى عليين.
 * إفضاء التحسينات الصحية (والغذائية) إلى زيادة السكان أضعافاً في سنوات قليلة. وفي أثناء نصف قرن تقريباً، بين 1946 و2000، زاد عدد السكان 7 أضعاف، من 3 ملايين إلى نحو 20 مليوناً. وغذت الزيادة السكانية السريعة والثقيلة تنافساً حاداً على الأرض، وعلى الموارد، وأدت إلى اختلال ميزان توزيعها على الأفراد والمحافظات والجماعات الأهلية معاً. وذلك في موازاة هجرة متفاقمة من الأرياف إلى المدن وضواحيها.
* استقرار العلاقات السياسية، الانتخابية التمثيلية أولاً، على عقد يكاد يكون معلناً: مجازاة الولاء السياسي بخدمات ومنافع بعضها عيني مادي (تعبيد طريق أو افتتاح مدرسة) وبعضها الآخر سياسي (الانضواء تحت لواء إقليمي...).
* التباس الهوية السورية وترجحها بين قطبين متنازعين: قطب عربي (عروبي) يعرف سوريا جزءاً من وطن كبير عليها أن تتولى جمع أجزائه، وقطب "قطري" بحسب مصطلح عممه حزب البعث، أو وطني يحمل سوريا على دولة مستقلة ينبغي أن تضطلع بتوحيد أجزائها، بلادها وجماعاتها.
تيارات سياسية
وانقسمت الطبقة السياسية السورية تيارات ثلاثة، في 1946-1947. فدعا الأولى إلى جمع سوريا وشرق الأردن في كيان سياسي واحد. وقدم الثاني جمع سوريا والعراق. وعلق الثالث توحيد الدول العربية على جامعة هذه الدول والتنسيق المتدرج والمتوازن بينها جميعاً. وبينما يمم شطر من السوريين صوب أمة المسلمين وبايع حسن البنا المصري الإخواني، مال شطر آخر إلى وحدة بلاد الشام، بين طوروس وسيناء، وأخرج في هذا الإطار البدو وأشباههم.
 وتوالت حوادث ومنعطفات أعملت في "المادة" السورية الوجهات العريضة التي اختصرتها البنود الخمسة المتقدمة وانطوت عليها. فنشأت قوى حزبية وانقسمت تكتلات، واستنت قوانين وانتهجت سياسات، وثارت أزمات وعقدت أحلاف، وخيضت حروب واستولت انقلابات على السلطة فأحبطتها انقلابات عليها، في ضوء عمل العوامل في المادة التي وصفت العجالات الثلاث الأولى مبانيها. ولا يخلص القارئ من هذه الملاحظة إلى أن الكاتب ينتهج نهجاً "بنيوياً" (يقوم على تجريد عوامل ثابتة ومشتركة يسلطها على مادة نثرية ومتغيرة) وغائياً (ينضبط على "غاية"، مثل اندلاع الحرب الأهلية الطويلة أو مثل استيلاء حافظ الأسد على السلطة واستتباب الأمر له ومن بعده لوارثه المباشر). ولكن التعليل التاريخي، بالغاً ما بلغ تعقيد مسالكه وعلاقة حلقاته وأدواره،  وتكثيره وجوه تقصي التأثير والتأثر، يدعو (التعليل) ويفضي إلى ضرب من السببية الغائية.
 ففي ختام الفصل الذي يعقده المؤرخ لتولي حزب البعث السلطة وانفراده بها، بين 1963 و1970  (استيلاء الأسد) يوجز أحوال سوريا على وجه يبرز (أصول) الاصلاح  الزراعي والنزوح الريفي وتأميم الاقتصاد. ويرتب على هذه الأصول فروعاً تأتلف منها "صورة جديدة": جماهير متوثبة ومسيَّسة تسييساً حاداً، وأبنية متحزبة ومتصدعة تحت وطأة الانقلابات المتعاقبة، ومنازعة على الدائرة العمومية والمشتركة ("الحيز العام" في عبارة أخرى) (ص 239-240). وتنهض هزيمة 1967 قرينة على خواء الدعوات والنداءات الثورية ودليلاً على صدارة الوحدة الداخلية الوطنية. ولعلها وجه من وجوه نزيف قوى المجتمع جراء "تغير حاد" مهد الطريق، لا محالة، إلى استيلاء حافظ الأسد على السلطة، وانفراده بها، واستقراره فيها. والشطر الضروري يرفقه الكاتب بـ"براعة" المستولي تخفيفاً للحتم.

رسم خلدوني؟
ويستعير المؤرخ، حين يحاول الإلمام بمسير الأسد إلماماً جامعاً ومتصلاً، بالرسم الخلدوني، على خطى ميشال سورا في دولة البربرية (كتبت دراساته في النصف الأول من العقد التاسع الماضي وطبعت بعد مقتله، في 1984 على الأرجح،  في أسر "حركة الجهاد الإسلامي" الخمينية، ونقلت إلى العربية تباعاً وصدرت في 2017 عن دار الساقي ببيروت). فيكتب أن الاستيلاء هذا إنما جرى على مثال انقضاض الأطراف على المركز السياسي، وتوسلها بعصبية وشوكة تشدان أهل العصبية بعضهم إلى بعض، وتجمعان الأمة على الولاء لرئاستهم ("فريقهم"). والحق أن الرسم هذا مجازي وخطابي فوق ما هو وصفي. وما عدا مكانة العصبية يكاد لا يُلم بشيء، وعلى الخصوص بما يتعلق بالتحولات التي طرأت على القوى وعلاقاتها ووظائفها. والفرق الكبير والحاسم بين ما يصفه ابن خلدون وبين ما يُلمح المؤرخ الفرنسي إليه إلماحاً غامضاً هو أن "المركز" الذي استولى حافظ الأسد عليه- في ختام مراحل متعاقبة، ومتماسكة بعض التماسك، ترقى إلى إنشاء الإدارة الاستعمارية الفرنسية أجهزة الدولة السورية الإدارية والعسكرية والاقتصادية، وتستمر بواسطة دور الجيش في أثناء معركة الاستقلال ثم في الازمة الفلسطينية فالوحدة المصرية السورية...- لم تقم له قائمة فعلية ونافذة خارج حركة الاستيلاء وحلقاتها المتعاقبة والمتقطعة أو قبلها.
المركز و"السياسة" الجديدة
 فما صنعته هذه الحركة هو إيجاب صنف جديد من السياسة ("الأمر") يتنافى والبنية الائتلافية (الفيديرالية أو الكونفيديرالية) التي ربطت على نحو رخو ومضطرب الجماعات الأهلية، وعصبياتها ورؤوس هذه العصبيات وبلادها (مناطقها) وسواقطها المنسلخة منها، بعضها ببعض في إطار دولة وطنية مفترضة. والكلام على "مركز"، حين يتكلم ابن خلدون على غلبة استتباع وعلى عصبية دولة تجانسهما مستحيل، في هذه الحال يخلط خلطاً معمياً بين وجوه الغلبة والاستيلاء. فيحمل الموضع الذي تزاول منه الدولة العصبية الأمر على المعنى الحرفي أي ...الأمري، (يحمله) على المكانة الراجحة والقوة المادية والمعنوية وتأليف المصالح. والحق أن الخلط هذا أو الدمج هو ما سعى فيه حافظ الأسد وأراد التعمية عليه، فنجح في التعمية وأخفق في الدمج.
 وقد تصح الصورة البيانية الخلدونية، وإطارها المثالي، في "ممالك" ترتب الجماعات القرابية الملتحمة داخل المملكة وعلى ضاحيتها الصحراوية على مراتب القوة والتماسك والأحلاف. ولا يصح في إطار الدولة الإقليمية والإدارية والعسكرية، بديهة. ويختلف معنى المركز في الحالين اختلافاً بيناً. ولعل هذا ما أدركه العسكري الذي كان خاتم الانقلابيين السوريين في النصف الثاني من القرن العشرين. فهو لاحظ من غير شك أن الانقلاب "الناصري" الوحدوي لم يلبث أن أخفق إخفاقه الذريع لأن الجماعات الأهلية الكبيرة والجزئية، والطبقات ("التكوينات" على معنى الأجسام في طور التكوين) الاجتماعية والمراكز العسكرية والادارية نظير هذه وتلك، أقامت على تمتعها بقوة واستقلال ذاتيين و"ائتلافيين". وحال هذان دون نفاذ أمر وتدبير مركزيين شاملين في ملك الأرض ورؤوس الأموال وفي الجمعيات والولاء الإداري والعسكري وفي مناهج التعليم والأحوال الشخصية والقضاء وعلاقات الجوار و"التطور" التاريخي... واقتضى انشاء المركز، على الصورة الأمرية والاجرائية الجديدة، "استئصال" موارد الجماعات والطبقات والأسلاك من القوة والاستقلال والوساطة. وانضواء جماعات "طرفية" أهلية، مذهبية وبلدية إقليمية وقومية واجتماعية، تحت هذا اللواء لا يجرد طرفيتها في هذا المعرض من معانيها الوليدة والمتجددة.

العصبيات العامية
 وما يغفله المثال الخلدوني المفترض، والشكلي الخالص على زعمي، هو النحو الذي نشأت عليه العصبيات الجديدة في إطار أبنية الدولة الوطنية وأنشأها عليه هذا الإطار. فهي ليست لحمات (عصبيات) الأعيان والرئاسات الأسرية والمشايخ (على المعنى "العلماني"!) المتحلقة حول بيوتاتها وعمدتها وأضراسها"، بل هي عصبيات عامية، "تحتية"، عصبيات "أهل الضعف" في مصطلح عباسي، قام بعضها على الأعيان والرئاسات القديمة والجديدة (الثرية أو المتنفذة) وخلعها من غير مداراة. وترعرعت بعض جداول العصبيات العامية والتحتية في أحضان حركات قومية ودينية، تعالت في مرحلتها الأولى على الأطر الوطنية ومستواها "القطري" التجزيئي، ودعت إلى تخطيها ونسخها بـ"أحسن" منها وأوسع. وكانت المراكز المدينية الأرحام التي ضوت إليها هذه الجداول، وتصورت نواها فيها.
 واضطلع جهازا التعليم والإدارة بدور غالب في نشوء العصبيات العامية. فهما توليا صناعة أعداد كبيرة من متعلمين مدرسيين وطفيليين لا يصلح معظمهم الساحق إلا لتجديد تناسل الجهاز الذي ولدهم وصورهم على صورتهم الثقافية والوظيفية المنقطعة والمجردة معاً. واستقبل الجهاز الإداري والجهاز العسكري والأمني جزء منه، جمهورَ المتعلمين العريض على سبيل الوقاية الاجتماعية والسياسية من بطالة لم تحتسبها "الدولة" في عهودها المتعاقبة: العثمانية والانتدابية والاستقلالية، وبالأحرى البعثية و"الأسدية". وغذى النمو السكاني السريع، وشروطه الصحية وغلبة الأرياف العددية في وقت أول معاً، اختلالَ ميزان القوى والعدد بين الجماعات، من وجه أول، وبين كتلتي أهل القوة وأهل الضعف داخل الجماعات، من وجه آخر. فتقدمت الجماعات الريفية على نظيرها المديني (والفروق الاجتماعية والثقافية بين الكتلتين قليلة)، وتعاظمت كتلة "العامة" إطلاقاً ونسبياً بينما ضمر عدد "النخبة" نسبياً على وجه أكيد.
تفاوت "التخلف"
وشهدت سوريا في الأثناء ما شهدته الدول والمجتمعات "المتخلفة"، في أعقاب السيطرة الاستعمارية غالباً، وغداة الحرب الثانية وانهيار الامبراطوريات- من تفاوت حاد بين الزيادة السكانية والنزوح إلى المدن وبين ضآلة نمو أسواق العمل والانتاج المحلية أو الوطنية. وأدى التفاوت المتعاظم هذا- وهو خلّف بطالة مستشرية "بنيوية"، وقلص الأجور والانتاجية معاً، وأضعف الأبنية الطبقية التحتية ومحا سماتها الخاصة- إلى علو منزلة الوظيفة الحكومية في أسلاك الدولة وأجهزتها. فحولها، وحول حصصها وأنصبة الجماعات منها، "أعشاشاً" ريعية تتنافس الجماعات و"جماهيرها" العامية على مراقدها وأحضانها الدافئة.
 ولم يعد يفي العقد "الانتخابي" السابق، أي مقايضة المنصب السياسي بخدمة أو منفعة، بالاحتياجات والأعداد والطموح إلى أدوار. فالاستيلاء على الدولة والمجتمع، على قول المادة الثامنة من الدستور السوري "السابق، وتطويعهما السياسي والثقافي العروبي و"الاشتراكي"، وتقسيم مواردهما تقسيماً متفاوتاً على صورة مراتب الأمر والقوة، أمسى هدفاً سائغاً. فمنطق الحصص والريوع يضمر استيلاء الأقوى على الشطر الأعظم. وقد يضمر، لولا العامل السياسي وضبطه، الاستيلاء على الموارد كلها، وتسليط "المركز" الذي أنشأه وأرساه على خواء ودمار سياسيين شاملين، على الأطراف والضواحي كلها. ويُمثل الاصلاح الزراعي على المنطق السياسي هذا: فالاراضي التي وزعت على المزارعين والفلاحين كانت هبةً وعطاءً، فلم يُضطر الفلاحون والمزارعون إلى انتزاع أرضهم بواسطة حركة فلاحية، أي حركة سياسية. وعلى مثال قريب، كثرت القيادة الأجهزة الموازية في الحزب والإدارة والامن والجيش...
الايديولوجية وتذويب الهويات
 وقد يبدو الرسم التاريخي السوري المقترح "عظمياً"، مجرداً من الغدد والأعصاب والعضلات الاجتماعية الأهلية والإيديولوجية. وقد يعود هذا، إذا صدقت الملاحظة، إلى التباس سياسة الاستيلاء على الدولة والمجتمع ومواردهما بمركب إيديولوجي قومي ويساري شعبي وعامي، ييسر افتقاره "القطري" إلى التماسك اتصاله بنتوء "الجسم" السياسي، وتشبيه المعاني الظرفية والطارئة كلها. فالعروبة التي أنزلتها المذاهب والأهواء السياسية السورية منزلة العقيدة الوطنية والأهلية الواحدة و"الجامعة" اضطلعت في مراحل التاريخ السوري بأدوار موصوفة أُعملت في تذويب الهويات المادية والمعنوية التي في مستطاعها إلزام الحلف السياسي البارز بمفاوضة الأحلاف الأخرى وإقرار سياسات مركبة.
 وتنهض الخلافات على "الوحدة" المزمعة أو المتحققة أو المقدرة، أدلة على هذا الزعم. ففي مواجهة خطط التوحيد الهاشمية (الأردنية) أو الهلالية الخصيبة (العراق) احتجت المعارضة العروبية، البعث في المرتبة الأولى والجناح "الوطني" من الحزب الوطني، لرفضها هذه الخطط بتبعية النظامين للسيطرة البريطانية. فدمجت الهوية القومية المفترضة قائمةً بنفسها بمعزل من الأنظمة والأحوال السياسية العارضة، في حال عابرة وسطحية هي الاحتلال الأجنبي. ويترتب على الدمج إقرار بأن اتحاد بلدين عربيين، على طريق وحدة "كبرى"، لا يعود بالمنفعة أو الجدوى على التحرر من الاستعمار، ولا يمد إرادة الاستقلال بزخم أو مورد جديد. وعلى هذا، فليس الاستعمار السبب في التجزئة، على خلاف دعوى العقيدة، وإنجاز وحدة تحت حكم الاستعمار لا يقدم ولا يؤخر، لا في "الحرية" ولا في "الوحدة"، ولا في "الاشتراكية" بالأحرى.
 وحين سنحت وحدة مع دولة متحررة من الاستعمار، ورائدة في مضمار قيادة التحرر منه، تولى فرضها، خفيةً عن أشد الراغبين فيها، فريق مخاتل وانتهازي من العسكر. وتولى فكها وتصديها بعض من أشد أنصارها في أمس قريب. وتذرع مصدعو الجمهورية العربية المتحدة بتمييزها بين مصدري مواطني الدولتين، وترتيب ممثليهم على "فوق" و"تحت" تبعاً لمصدرهم "القطري". فظهر على الملأ أن التحرر من الاستعمار والتشدد في مقاومته لا يضمنان دوام الوحدة، ولا يحصنانها من نزوات "الانفصال". والأنكى أن الاجراءات الاشتراكية غذت الميول الطبقية المتفرقة - البورجوازية الاحتكارية والشعبية الكادحة، والبيروقراطية العسكرية، والبرلمانية الاقطاعية- إلى التملص من قبضة متسلطة، "قومية" أي أجنبية في هذا السياق.
 فتحقق أن لا قوام للعصبية العربية، لا من غيرها (الحرية والاشتراكية) ولا من نفسها، إلا أنها، على رغم خوائها العظيم، آلة إيديولوجية وسياسية، من بعد، كاسحة ومدمرة. فإعمال نصلها أو شفرتها القاطعة في التكتلات السورية المتحفظة عن سياسات الكتلة البعثية، "وطنية" أو "شعبية" (حزب الشعب) أو شيوعية أو ناصرية، وصَمَها تباعاً ومعاً بالقطرية أو بالطبقية أو بالهاشمية أو بالرجعية المتأمركة تارةً والمتصهينة تارةً أخرى. وهذه كلها أضداد مميتة للعصبية القومية العروبية. ووَجهّت هذه العصبية شفرتها إلى الفلسطينيين وفرقتهم عرفاتيين وحبشيين وصداميين وساداتيين. ووجهتها إلى اللبنانيين فصنفتهم انعزاليين طائفيين ومتصهينين وعملاء وإرهابيين وخنجراً في خاصرة العروبة وهدفاً مشروعاً للاغتيال والحصار والتجويع والقصف.
 وهي آلة إنكار الهويات على أصحابها. وعلى هؤلاء إما الانحياز الى تعريف بالولاء للاسم الواحد وخلع هويتهم، وإما النفي من الإسم والتعريف والوجود المعنوي والمادي. والعُظام (البارانويا) الذُهاني الذي يسري في عروق المركب الإيديولوجي "الأسدي"، أدى دوراً مدمراً في تصديع الهوية الوطنية السورية، وسد في وجهها باب إنشاء تعريف يمكن الجماعات من تقييد المنازعات وجموحها إلى أقاصي العنف، على النحو الذي شهدته فصول من التاريخ السوري ومن تواريخ جيرانه المتصلة. وهذا ليس من هموم صاحب التأريخ الذي نتاوله، ولا ينبغي ربما أن يكون من همومه.

سجون "داعش" لا تترك آثاراً ولا أطلالاً


المدن، 24/4/2019
 
ميناء غزة (رويترز)
في معرض بحث اللجنة الدولية للصليب الأحمر عن لويزا أكافي، الممرضة النيوزيلاندية، وعلاء رجب ونبيل بقدونس، السائقين السوريين- والثلاثة خطفوا في 13/10/2013 في طريقهم إلى إدلب في قافلة إنسانية ويرجح أن "داعش" هو الخاطف والسجان- ناشد مدير عمليات اللجنة، دومينيك شتيلهارت، من يعلم شيئاً عن الثلاثة إبلاغهم ما يعلم. وكان شتيهارت أمل أن تتكشف هزيمة التنظيم الارهابي، وانحسار سيطرته على آخر جيوب كان يسيطر عليها، في الرقة وهجين والسوسة والباغوز الفوقاني، عن الأسرى والرهائن والمخطوفين، أو عن آثار تقود إليهم أو إلى معرفة مصيرهم.
 فالأسرى يسجنون أو يحبسون في محبس أو حبس. ويفترض أن يكون سجنهم مغلقاً، ويعزل المسجونين عن الخارج بجدران وسقوف.  وحين طردت "قوات سوريا الديموقراطية" ("العربية- الكردية المدعومة من تحالف دولي تقوده الولايات المتحدة الاميركية"، في تعريف سائر) التنظيم الارهابي من معاقله السورية كلها، بحثت في سجونه، بين الرقة والباغوز، عن آثار خلفها المسجونون وراءهم، في معتقلاتهم. وهذا البحث يصدر عن تجربة تكاد تكون عامة. فحيث يلفي ناس محبوسون قسراً أنفسهم في مكان مسور، منقطعين من تواصل العالم المشترك، ومن علامات استدلاله في المكان والزمان، يلجأون إلى نظام تعارف وتعريف بديل يدرجهم في عالم مشترك، ويسعف قراء الآثار على تعقب أحوالهم وأطوارهم.
 وإذا وسع الناس وهم أحرار التصرف، كتابة وتصويراً وتاغاً، بالجدران ومساحات الكتابة المتاحة في جوانب مستطيلات الحجارة (ميناء غزة على سبيل المثل)، لم يتركوا سنتيمتراً واحداً لم يسطروا عليه سطورهم. فكتبوا مناشداتهم ("كوني لي وطن أكن لك...") ورؤاهم ("يرتسم أمامي محياك") ومواعيدهم ("لموش" 4/12) وهواتفهم، وعهودهم ("الدنيا التي تخلو منك... تخلو مني 21/10/2017")، وتهانيهم ("عقبال 120...")، وأيامهم ("one day we will be، وقلوبهم أو صورها، وأسماءهم المرمزة... وتظلل سماء يلعب الغيم في ملعبها الفسيح محاورةَ "الكتّاب"، الشبان على الارجح، بعضهم بعضاً وقراءهم العابرين، وشركاءهم في أمور معلومة وأخرى مجهولة. وتظلل السماء الطلقة معالم تاريخ قريب وأطلاله الاسمنتية.
 وإنسان العصر الحجري رسم على جدران المغاور، في لاسكو الفرنسية وغيرها، مشاهد من صيد الثيران، المقدسة ربما، وركضها. وأراد الرسامون أم لم يريدوا، "تقول" رسومهم مواد ألوانهم وصناعتها وحفظها ومصادرها النباتية والمعدنية وبعض دلالاتها، وتقول خطوطهم بعض وجوه تناولهم عالمهم وأشياءه. ومن مغاور لاسكو إلى مراحيض المقاهي والمطاعم والمدارس والحانات ومحطات السفر، في أنحاء العالم كله، أقام البشر على تدوين أسمائهم، وأرقام هواتفهم، وتاريخ اعتقالهم وأهومتهم ودعواتهم على الجدران والحيطان النظيفة والوسخة، الخفية والظاهرة، المصنوعة من السيراميك أو من الاسمنت العاري، المطلية بالدهان أو بالكلس. وقد يطبعون عليها آثار الشفاه أو يمرغون لعابهم أو منيهم أو غائطهم. فالأثر، أيُّ أثر، خير ألف مرة من إغفال العدم والغياب والصمت.
فماذا فعل "داعش"– وهو أسر الآلاف من أهل البلاد التي حكمها "بالسيف" على قوله، وبنار المدافع والمتفجرات والبنادق وحديد المدرعات وناقلات الجند، وبـ"إيمان" المتطوعين والمرتزقين الانغماسيين واحتياط المصارف، فعلاً-، حين نفذت كلمته و"شريعته" في أسراه وسباياه ورقيقه؟ صنع "سجوناً ومعتقلات ومنفردات" (محابس انفرادية)، على قول عسكري من "قسد". وهذا "طبيعي". فأهل السلطان في الحضارات كلها، والثقافات على أنواعها، الغربية الملعونة الآفلة والشرقية المشرقة الوارفة، عزلت في أماكن محكمة الغلق من تحملهم على الانتهاك أو التمرد أو الخروج.
 وأدرك أبوبكر البغدادي و"نخبته"، وربما سبقه الظواهري أو بن لادن إلى إدراكه النافذ و"العبقري" هذا، أن الحبس، والحجز بين المحبوسين وبين عالمهم المعتاد والمشترك، يقصِّر عن قطع الروابط والأواصر التي تشد المسجونين إلى الاجتماع والعمران. فما يجدر بالمعتقل الداعشي (وهو مرفق من مرافق "الدولة الاسلامية" على زعمه أي إنه صيدناياها – المعتقل الأسدي السوري- وإيفينها- المعتقل الخميني الايراني- وقصر نهايتها- المعتقل الصدّامي العراقي، وأبوغريبها الاميركي الاحتلالي...) أن ينجزه، وينفخ فيه روح ثقافته وحضارته المشرقيتين هو قطع دابر المسجونين بعد إخلائهم سجنهم وجلائهم عنه إلى حيث يعلم أحد أو لا يعلم.
فـ"داعش"، ومن لف على غرار لفِّه أو قريباً منه، لا يقتصر على العزل والقطع والقتل حاضراً، بل ينظر إلى أبعد، إلى مصير الآثار التي قد يخلفها أسير الحرب، وقد تكون اسمه وحده ليس إلا، فتشي بفعل "الخليفة"، وتنشئ رابطة بين الرهيبنة وبين متعقبي الآثار وقرائها. ومن طريق هذه الآثار القليلة والغامضة يعود الرهائن الى عالم الأحياء ولغته ويدخلون مداولاته وأحكامه ومنازعاته. وعلى قدرٍ ما، يحيون. وينهض هذا دليلاً على ضعف "داعش": فهو إذا أراد موت أسيره وجَبّ أثره، أخفقت أو حبطت إرادته.
 فعمد إلى "تلبين (تطيين) جدران السجون والمعتقلات والمنفردات" وذلك سعياً في "مسح الأسماء والذكريات المنقوشة على حيطانه"، قال عسكري من "قسد". وبعد التلبين (باللِّبن) "دَهَن (داعش) المهاجع الكبيرة باللون الأبيض لإخفاء ما تبقى من ذاكرة المعتقلين". ويشرح الرجل السبب في المرحلة الثالثة، بعد التلبين والتبييض، وهي التحريق: "كان عناصر (داعش) يقومون بحرق وتلبين (و) دهان مقراته وسجونه السرية لعدم معرفة شيءعنهم" (عن المعتَقلين وعن المعتقِلين، معاً وجميعاً). وعلى هذا، يطلي السجانون ثلاث طبقات على بقية المسجونين: طبقة اللبن، وطبقة الدهان، وطبقة (الحرق بـ) النار. وفي آخر المطاف "أسمي غياباً الوجه الذي كنته، صمتاً صوتك" (رينيه شار في مقالة سجّاني المجانين وحرسهم، والسجانون والحرس ليسوا أصحاب الوظيفة المرسومة وحدها، فهم منطق المعاملات والأحكام، والمعارف التي تسوغ الوظيفة وتدخلها في شبكة وظائف متماسكة).
 فالمعتقل الداعشي لا يقنع بالعزل اقتصاصاً أو منعاً لضرر قائم أو مؤجل، ولا بالقتل ثأراً أو جزاءً أو رداً، ولا بالاستئصال إرهاباً وترويعاً. فهذه كلها تتناول الكيان المادي وحدوده العملية وتحتسب عمليات قانونية وجزائية، منحرفة من غير شك ولكنها تحتكم إلى عقلانية حسابية، ولا تخلو من التبديد الفظيع، ربما على مثال الحرب عموماً والحروب المقدسة والأهلية على وجه الخصوص. فلا يقتصر المحو على الرمي في العدم، على نحو ما يرمى المكبل بالحديد في البحر أو النهر، فيطويه الماء وقاعه العميق.  ويتطاول الاعتقال الداعشي، أو هو يريد التطاول إلى المعاني التي يبسطها جدار ميناء غزة على الملأ، وتقيم في الظل على جدران السجون والمستشفيات وغرف الانتظار والمقاصف وغيرها مثلها. وتفترض هذه المعاني مخاطَبين إنساً (يأنسون، وإذا ازدوجوا صاروا "انسان"، على زعم كمال يوسف الحاج نقلاً ربما عن مارتن بوبر، الألماني- "الفلسطيني" وجامع "أنا وأنت" في تضايف وتلازم لا فكاك منه لواحدهما من الآخر).
وينبغي أن يحرم إعدام الآثار ثلاثاً (التلبين والتبييض والتحريق) المسجونين والمعتقلين والموقوفين من القيام في زمن حاضر أو ماض، وفي زمن آتٍ من بعد. ونظير الحرمان يتمتع جند "داعش" بسلطان يعصى التصور، وينشئون نظاماً يوكل إليهم إخراج البشر من إنسانيتهم ونفيهم منها، ويبرر سؤال بريمو ليفي: "أيكون هذا إنساناً؟". ويكاد يضارع هذا ما سماه علماء الكلام الوسطي (القرون الوسطى) الاوروبيون " ظل السلطان" (الإلهي) أو ظل "القدرة". فهم سألوا: هل في سلطان الخالق ألا يكون ما كان؟ وبعضهم أجاب، على شاكلة "داعش"، بالإيجاب. والسؤال والجواب حديثان. ففي رواية أورويل، 1984، ينصرف طاقم عريض من الموظفين إلى محو الآخبار والوقائع التي لا تتفق مع مصائر أصحابها الحالية، على غرار محو صورة تروتسكي القريب من لينين بعد خلافه مع ستالين. وقبل أقل من عقدين دمر "طالبان" الأفغاني تماثيل بوذا في باميان، وهي نحتت قبل نيف وألفي عام، في "جاهلية" القوم. واحتذى "داعش" في الموصل وتدمر، ونظيره في تومبوكتو، أثر "الدولة" الطالبانية. فينبغي أن تضمّ مقابر الجثامين مواضي أصحابها الأحياء.

"مجتمع جديد" في ساحة اعتصام الخرطوم؟



المدن، 29/4/2019


 يتظاهر السودانيون في شوارع الخرطوم وساحاتها وهم ينتسبون إلى بلدان وجماعات وهيئات واسعة تعرّفهم ويصدرون عنها. فبعضهم يقيم في حي الرياض، بشمال الخرطوم الشرقي، ويتظاهرون على هذه الصفة أو النسبة. وبعض آخر من السبط، على النيل الابيض وإلى الغرب الشمالي على حدود أم درمان. وبعض ثالث من طيبة الحسناب، جنوب الخرطوم وعلى النيل كذلك. وحين يعلن أهل عطبرة، "مهد" حركة الاحتجاج رغبتهم في المجيء الى الخرطوم والمشاركة في الاعتصام بساحة أمام مقر القيادة العسكرية، يستقبلهم وفد الأهالي عند نزولهم من القطار المليء والطافح إلى سطحه بالركاب الضيوف. وهذه، أي الاعلان عن صفة المتظاهرين المؤيدين، شأن القضاة والأطباء والمحامين والاساتذة الجامعيين، والطلاب، والعاملين في شركات الكهرباء والطيران والتأمين والكيمياء، والهيئة الجامعة التي تتولى دعوة الأهالي الى التجمع والمسير تسمي نفسها "تجمع المهنيين السودانيين". وهي عرفت بهذا الاسم قبل أن تشاركها "قوى إعلان الحرية والتغيير" الحزبية والسياسية الكلام باسم المتظاهرين المعتصمين.
"الشمّاسة"
ويكتب محمد أمين ياسين، من الخرطوم (الشرق الاوسط، في 24/4/2019) ان ثمة مئات "يجوبون شوارع الخرطوم، يتسولون، يقتاتون من براميل القمامة، يبيتون في مجاري الصرف الصحي وأطراف الطرقات... فاقدي السند..."، انضموا بدورهم إلى المعتصمين وساحتهم وأمسوا رافداً من روافد الساحة "العسكرية" وجماعة من جماعاتها. ويُسمى الهامشيون المشردون هؤلاء، على ما يروي ياسين، الشمّاسة "أو أولاد الشمس". ويخمِّن أن اسمهم مشتق من "كونهم يعيشون من دون سقف يحميهم من الشمس". وسبق لهم أن اضطلعوا بدور بارز في القيام على جعفر النميري، في 1985، فسمى أنصار العسكري قيام بعض "الشارع" السوداني عليه "ثورة الشماسة"، تصغيراً وازدراءً. وبعض الشماسة يتعاطون "السلسيون": "وهي مادة لاصقة تستخدم في رقع إطارات السيارات والدراجات"، ويتعاطاها هؤلاء مخدراً رخيصاً ومدمراً. وشطر منهم في سن لا تزيد عن 7 أعوام ولا تتجاوز الـ15 سنة، وهم الغالبية، وفيهن طفلات أمهات وأطفالهن".
 وفي ضوء صفتهم التي تقدمت، يجمع الشماسة سمات الهامش، أو القاع الاجتماعي والمديني. فهم فتيان أو فتيات دون سن "الرشد"، ولا مهنة لهم ولا حرفة. والمهنة الوحيدة والموصوفة التي تنسب إليهم هي "تلميع الأحذية". وهذه المهنة شارة على دنو المرتبة، وعلى الاستعاضة عن البطالة الصريحة بعمل يصم صاحبه بوصمة "الصغار". وهم "منحرفون"، يدمن بعضهم المخدر المتاح والبالغ الضرر. وتناول مادة الغري، على ما يسميها اللبنانيون وربما المشرقيون عموماً، يصنف المتناولين في أسفل درجات المدمنين، ويخرجهم من مراتب هؤلاء الداخلية والمتعارفة. وتنتهك "الطفلات الأمهات" مرتين أعراف "النكاح" (الزواج، العلاقة الجنسية) الاجتماعية والشرعية، سناً وإطاراً، أو فقهاً وحكماً.
 وعلى هذا، "ينبغي" للمجتمع السوداني وهيئاته وروافده التي تصب في ساحة الاعتصام منذ 4 نيسان (أبريل)، وتنقل معها على الأرجح "مواد" مجتمعها ومصادرها العملية والمعنوية والذهنية والأخلاقية، أن يلفظ أهل "القيعان" هذه، على تسمية مكسيم غوركي. ويُنتظر أن يتبرأ من مخالطتهم،  ويقسرهم على التزام حدوده، والبقاء في العراء، أو في دوائر مسورة وموصومة على شاكلة المجذومين والغجر والمجرمين والبغايا وأهل "الحارات" وأقوامها. وكانت هذه حالهم قبل ما يسميه السودانيون اليوم "الثورة"، وهو الفصل الأخير منها، فصل الاعتصام والجلوس، على قول الصوفية وطلاب الجامعات الأميركية، في الساحة أمام مقر قيادة الجيش السوداني العامة بالخرطوم، وتجديد الرابطة التي تجمع إيجاب أنفسهم واجتماعهم مصدراً لتدبير أمرهم المشترك، علانية وأحراراً متساوين وراشدين.
الضيافة
 وعلى خلاف التوقع، المترتب، ربما على تصديق مزاعم سياسية محلية شاعت في نصف القرن العربي والإسلامي الأخير، لم يوصد المجتمع السوداني المعتصم والجاهر فروقه البلدانية والقومية والمهنية والاعتقادية أبوابه في وجه هذه الجماعة من جماعاته. فيروي الجزولي عمر، "أحد شباب المعتصمين الذين يعملون في تأمين وحراسة الحواجز والمتاريس، على تعريف المراسل محمد أمين ياسين به، أن "العشرات من هؤلاء الأطفال" الشماسة "وصلوا (إلى) القيادة العامة"، أي ساحتها. "وتزايدت أعدادهم باطراد، وعلى باب الساحة، و"المجتمع الجديد" الذي حضنته، اشترط عليهم حرس الحواجز والمتاريس التخلي عن السكاكين التي يحملها بعضهم، وترك "السلسيون". و"تجاوبهم الكبير" ساواهم بالمعتصمين الآخرين، و"دمجهم" في مجتمعهم.
 فهم يشتركون في تنظيف الساحة، وفي نقل المؤونة وتوزيع مياه الشرب والطعام على المعتصمين، وفي حراسة المكان. ونصبت اللجان القائمة على رعاية الاعتصام "خيمتين في وسط الساحة (...) واحدة يهجع (الشماسة أو أبطال الشوارع) إليها ليلاً للنوم، وأخرى (يتعلمون) في فصلها المدرسي الحروف والأرقام". ومن أراد إعمال "موهبته" في الرسم أو الغناء أو المسرح وسعه ذلك. ويقول عبدالعزيز كناري، من جمعية "مجددون" المدنية، أن الجمعية "وفر (ت) لهؤلاء أطباء متخصصين في علم النفس ليتحدثوا معهم عن حياتهم وكيفية مساعدة أنفسهم، فضلاً عن التثقيف الصحي وسلوك النظافة العامة". ويخلص الطبيب النفسي مصطفى آدم سليمان إلى أن هؤلاء المنفيين من المجتمع السوداني القديم "أحسوا بآدميتهم وقيمتهم..."، وأقبلوا على "الاندماج المجتمعي (الحادث) بشكل غير مقصود"، على قول الطبيب. وكيفما فُهم القصد أو خلافه، فما أنجزه مجتمع السودانيين "الجديد"، في هذا الوقت وبهذا المكان وعلى شروطه، هو مساواة قاعه وهامشه، بعض قيعانه وبعض هوامشه، بصفحته ومتنه (ببعض صفحاته ومتونه). فأنشأ هؤلاء مواطنين أكفياء وأسوة وأخوة وشركاء "في البلد"، على قولهم.
 يشبه خبر مراسل الصحيفة قصَصَ القصّاصين (الوعاظ) وحكاياتهم التي تنتهي بأن من يقصون حكايتهم "عاشوا في ثبات ونبات وولدوا صبياناً وبنات". والفرق هو أن سياقة الحكاية السودانية الراهنة هي الديموقراطية المعاصرة ومعاييرها ووسائلها وغاياتها، وليس نماء الحرث والنسل. ولا شك في جزئية الحكاية وضيق نطاق من تتناولهم، وقلة عددهم، وفي قصر وقت الاختبار واستثنائية ظرفه. فالمجتمع الذي تصفه المراسَلة يشبه تظاهرات المؤاخاة التي سيرتها الجماعات الثورية الفرنسية، في 1789-1793، وكتلت متظاهريها كتلة مرصوصة و"أذابتهم"، على وصف جان – بول سارتر "الجماعة الذائبة" الثورية، وصهرتهم روحاً واحدة متماسكة ومتجانسة. فلا ينبغي لآحادها وأفرادها أن يتميز واحدهم من الجمع بما يفرده من الآخرين، وإلا صدقت فيه وصمة "الفردية" وخيانتها وخروجها على الجماعة.
فروق غير ذائبة
 وحين يمدح الطبيب النفسي مصطفى آدم سليمان ساحة الاعتصام، ويقول إنها "ذوبت كل الطبقات وأزالت الفوارق المجتمعية بشكل مدهش" يخالف مديحه سمة بارزة وسمت الحركة السودانية بميسمها منذ خطواتها الأولى.
 فالحركة لم تتكتم على مصادر جماعاتها وكثرة هذه المصادر وتفرقها، وروافدها، وأعربت عنها من غير لبس، ولوحت بها علماً على الفروق بينها وعلى ائتلاف "الثورة" منها، وحرصها على الإقرار بها. والحق أن المسار البياني لحركة "الحرية والتغيير" السودانية فريد في بابه، إذا قرن بأمثاله وأشباهه العربية والمعاصرة.
 فالحركة خرجت من النسيج الاجتماعي والسياسي والجغرافي، على تفرقه الكثير الوجوه والمنازع وبقيت لصيقة به، ولم تنكر توشية خيوط هذا النسيج. فلم تصدر، على خلاف الانقلابات العسكرية والحزبية والمختلطة (على شاكلة انقلاب حسن الترابي الحزبي- العسكري قبل 30 سنة)، عن مركز واحد يزعم تمثيل "الأمة" و"الدولة" تمثيلاً مسبقاً ناجزاً ومستوفياً. فالأمة السودانية مشروع أو أفق على الحركة، في صورها اليوم وفي مراحلها الآتية، إذا أخفقت القوى والمنازع المناهضة في تطويقها، أن تسير على هديه، وهي تقر باستحالة بلوغه والإحاطة به. وترفض إمكان الأمرين: البلوغ والإحاطة، وما يترتب عليهما من مزاعم التمثيل والتجسيد والوصاية التامة وغير المقيدة بأجل.
 ودعا اعتراف "الاعتصام" السوداني، وكيانه المعنوي والمادي، بالعناصر الاجتماعية المتفرقة والمتباينة وفيها أو منها المغرقة في الهامشية والطرفية على أشكالها، (دعا) معظمَ الحركات الانفصالية أو الاستقلالية أو "الائتلافية" الفدرالية، في دارفور وكردفان والنيل الازرق، إلى تعليق قتالها الخرطوم في انتظار بلورة مثال جديد ائتلافي للولاية أو السيادة. ولا مناص للمثال الجديد من الإقرار بانقسام الدولة والمجتمع، وباختلاف عللهما وقيام كلاهما الواحد بإزاء الآخر من غير ابتلاع أو التهام. فإذا أثمر الاعتراف بالفروق الداخلية، وبتباين المصالح في "صفوف الشعب" وبينها (واستبعد مثال الشعب الواحد والمندمج في خدمة طغمة "قومية" مستبدة)، أبنية سياسية تحضنُ التنازع في إطار قواعد جامعة، فقد يضوي هذا الإطار إليه الجماعات المحلية والقومية والعرقية والدينية. وتتخلى هذه الجماعات عن سعيها في حماية نفسها من العدوان المركزي والعسكري، تارةً بالحرب "الأهلية" وتارةً بـ"العمالة" لقوى خارجية.

"تخصيص" الدولة
 وتسلط المركز الواحد والمتربع في قمة سلطة "فولاذية" (عصبية وأمنية غالباً) يلد انقسامات "يتحاور" أهلها وأصحابها من طريق القتال بين الجماعات الأهلية وداخل هذه الجماعات (فجنوب السودان مسرح اقتتال داخلي متجدد قبل الانفصال أو بعده، وحركات "تحرير" دارفور استقر نزاعها على ولاء مناطق وقبائل متحاجزة، و"حلف" الترابي - البشير قام على توزيع غنائم رجراج...). وزعم جماعة من الجماعات المُركبة - من جسم عسكري وجماعة أهلية وكتلة حزبية- الاستيلاء على الدولة الوطنية ومرافقها، والاضطلاع بدورها الجامع مع الاحتفاظ بروابط الجماعة الخاصة وتماسكها ومراتبها، يفضي إلى "تخصيص" الدولة وتصديعها، وإلى إحلال منطق الأهل العصبي فيها، على ما حصل في "سوريا الأسد" و"عراق صدام" و"إيران خامنئي والحرس" و"لبنان نصرالله وعون"... على درجات متفاوتة.
 وهذا ما أدركته الشركات الأمنية التي تستشيرها حكومات تهب عليها معارضات شعبية غير متوقعة، شأن الحكومة السودانية "السابقة" (حكومة البشير)، على زعم محطة "سي إن إن". فالمحطة نشرت مراسلات حكومية سودانية تلتمس من شركة روسية امنية، "كونكورد مانجمانت"، يملكها "طباخ" بوتين ومعد طعام الكرملين ودوائره، يفغيني بريغوجين، إعداد خطة تتولى إحباط الحركة السودانية. فاقترحت الشركة نشر "أخبار" عن مهاجمة المحتجين مساجد ومستشفيات وإعدادهم للحرب الأهلية، ووصمهم بعداء الاسلام والقيم الاسلامية، وبمحاباة المثليين وتأييد اسرائيل...
 وهذا "المركب" هو ظل الانظمة العصبية والبوليسية "العربية" والاقليمية، وسياساتها القومية والدينية. وهو صورة معكوسة عن الأنظمة "المثالية" التي تزعم بعض الطبقات الحاكمة إنشاءها وحراستها: أنظمة لا تصيبها الحرب الأهلية إلا بسبب العصابات المأجورة (وليس جراء الاستبداد والظلم والإقصاء والإدارة الفاسدة والخرقاء)، وتتذرع بالجهاز الديني إلى تسويغ محافظة اجتماعية وثقافية عقيمة، وتنصب اسرائيل مصدراً أوحد لشر ميتافيزيقي. وساحة الاعتصام السوداني هي نقيض هذا، سكتت عن بعض المسائل أو خاضت فيها.

الخميس، 28 فبراير 2019

جورج البطل وحزبه... حصاد المحاكاة والعبث


المدن، 26/2/2018
جورج بطل (الصورة عن مجلة "بدايات")

من مواقف محاوَرة جورج البطل (1930-2016)- الشيوعي الذي تولى العهدة عن علاقات حزبه الخارجية في إطارها السوفياتي طوال عقود- محاوره ورفيقه وشريكه الشيوعي الآخر ("المنظمة") في محاولة توحيد منظمتيهما في 1996، فواز طرابلسي، الموقف التالي (جورج البطل/ أنا الشيوعي الوحيد، دار المدى، بيروت، 2019): كان المحاوِر سأل صاحبه في مطلع الفصل التاسع، الموسوم بـ"الشيوعيون والحرب" عن عشية "الحرب" وسنواتها: مؤتمرات وحوادث و"دخول المقاومة الفلسطينية الأراضي اللبنانية"، و"بدء العسكرة" و"قيادة جديدة تسلمت المسؤولية بعد المؤتمر (الحزب الشيوعي) الثاني" (1998). فيتم جورج البطل إحصاء الوقائع الجديدة: إنشاء تنظيم عسكري سمي الحرس الشعبي بعد المؤتمر العتيد في إطار "العسكرة"، وأحد شروطها وربما عواملها تقوية العلاقة ببعث صلاح جديد الحاكم في سوريا (1966-1970) و"فتح" ياسر عرفات وصلاح خلف و"جبهة" جورج حبش "الشعبية" (ص 241-245).
 و"الحرس الشعبي ليس إلا الحلقة اللبنانية، المحلية من عقد عربي يفترض أن يطوق حبله الكامل، فيحمل اسم الأنصار، أعناق البلدان العربية، القريبة ("بلدان الطوق") والبعيدة، إذا جاز البعد في المسألة الفلسطينية، مثل السودان. وعلة إنشاء الأنصار على قول لا جدال في بداهته، أن "الشيوعيين، ينبغي أن يكونوا جزءاً من المعركة المصيرية"، وهم فطروا بطبعهم وسليقتهم ونحيزتهم على أن يكونوا "دوماً في الطليعة". وجراء أمور غامضة أو مخالفة لطبيعة القوم ودورهم المركوز فيهم بالضرورة "لم يستمر تنظيم (الأنصار) لأكثر من شهر: "سُفِّر" عبدالخالق محجوب رأس الحزب الشيوعي السوداني إلى القاهرة، الأردنيون (الشيوعيون هم استعارتهم) فوتحوا بالأمر ولا يعلم القارئ جوابهم، والعراقيون "بدوا" جديين وقرينة جدهم (جديتهم) إيفادهم مندوبين "جديين"، والسوريون أو حزبهم "أَفشل المشروع نتيجة صراعاتهم... الداخلية (التي لم تسمح لـ(رياض الترك) بأن يتفرغ للمهمة أو أن ينجز أي إنجاز". ويخلص "القيادي" التاريخي إلى نتيجة لا تترتب على المقدمة الطليعية والمصيرية الجامعة (السودان والأردن والعراق...): "في الحقيقة وبإيجاز شارك الجميع ثم هربوا".
"الحركة الثورية العالمية"؟
 وعلى الضد من التهافت العربي، والشيوعي الطليعي وجه منه وجزء، ولد الحرس الشعبي، إذاً اللبناني، مخلوقاً كاملاً وسوياً، و"استقر وأقام قواعد في الجنوب، وبدأ عملاً عسكرياً جدياً، شكل لنا بنية تحتية جاهزة للحرب من  وسلاح وأشخاص مدربة (كذا!) على السلاح. واستفدنا من مجموعة رفاق تقاعدت من الجيش (...). امتلكنا قاعدة كبيرة في قبريخا ووادي الحجير". ويبقى سراً في ضمير الكتمان وأرشيف الحزب، غير المحفوظ على أرجح الظن، عدد المقاتلين ونوع الأسلحة وكمية الذخيرة ومساحة القاعدة ومستوى التدريب ومصدر التمويل وأكلاف "القاعدة" المفترضة وعملياتها غير السرية.
 وتتضاءل هذه الأمور بإزاء الخبر الذي يزفه "المؤرخ" الظرفي إلى محاوره، وإلى قارئه من بعد :" خلال الفترة الواقعة بين عامي 1970 و1975م، خضنا معارك في الحركة الثورية العالمية". ويتردد القارئ في شأن ما يُقصد به الاسم الطنان. فهل هو ذيول حروب الاستقلال والتوحيد والاستيلاء على فيتنام وكمبوديا ولاوس؟ أم هو حركات الطياحة والغوار والعصابات في بعض بلدان جنوب أميركا الكبيرة والصغيرة وفي بلدان إفريقية كثيرة؟ أو هو ذيول ربيع 1968 الداب بين اليابان شرقاً وبين الحصن الامبريالي غرباً (و"الشيوعية الأوروبية" من ثمراته) وبينهما الثورة الثقافية الكبرى، في حقبة ماو تسي تونغ الأخيرة وحرب الأرياف على الحواضر وتوسع الظل السوفياتي في شرق إفريقيا ووسطها وفي وسط آسيا.
 لا هذه ولا تلك ولا هاتيك، لا خيَّب الله لك يا من قد يسأل ولا يتذكر ظناً ولا تخميناً! "الحركة الثورية العالمية"- وهي جماع ندوات مؤتمرات و"كونفرانس" ولقاءات الأمناء العامين في الأنظمة الشيوعية والسوفياتية الحاكمة ومندوبي أجهزتها الديوانية المتخلفة عن كومنفورم (هيئة تخابر) ستالين وكومنترن (الأممية الثالثة) لينين وزينوفييف وتروتسكي و... ستالين، وبعض الدوريات التي لم تمت معها، وعمل جورج البطل "مسؤولاً عن العلاقات الخارجية" في إحداها- هي منظمات يمولها "مال موسكو"، على قول أقحاح الرجعيين مثل حركة السلم (دفاعاً عن التسلح النووي الروسي) وحركة التضامن الإفريقي - الأسيوي (انتصاراً لبريجنيف وسوسلوف و"التطور اللا رأسمالي" على "الكتاب الأحمر" وحروب البؤر الغيفارية المغامرة). وهذه المنظمات تعقد مؤتمرات وقد لا تصنع شيئاً آخر، في ضوء أخبار صاحبنا ومحاور. ويحضر المؤتمرات الجوالة في عواصم العالم اختصاصيون عالمون بما ينبغي أن يقال وبما يحسن السكوت عنه، إلى أن تنزل الفتوى، وينزل القول الفصل، فلا يبقى ما يماحك به ويَلغي فيه اللاغون.
 و"الحركة الثورية" هذه، وعلى خلاف كل منطق وعقل ثوريين "ترددت في موقفها من نضال الفلسطينيين" (يوم ضلعت منظمات هؤلاء المسلحة والسياسية في منازعات أهلية متصلة وحملت "الثورة" على القيام محل "الشعوب" الوطنية وجماعاتها السياسية والأهلية والتحكيم في خلافاتها وحسمها باسم ميزانها الأعلى ووحدة معركتها...). و"ربط السوفيات بين الارهاب والعمل الفلسطيني"، بل كانوا على رأس دعاة الربط الفظيع هذا. ويقول الشيوعي الوحيد، متواضعاً للثورة والثوار والأجيال الآتية :"وقد شاركت في هيئات قيادية داخل تلك المؤسسات"، ومن غير أداة وصل أو عطف يقول: "صدح صوتنا الفلسطيني عالياً".
 و"الصوت الفلسطيني"- وهو إذا عطف على ما سبق وعلى ما يلحق صوت المصير (المعركة الموصوفة) وصوت الثورة أولاً وأخيراً، وصوت الطليعة طبعاً، وصوت الدور التاريخي المتوقع والمأمول، وصوت السلاح ("السلاح أيضاً نضال")... إلى أصوات عظيمة أخرى: الجماهير وحزبها وقائدها "الاستثنائي" (جورج حاوي) و"قرينه" السياسي- انتصر في الحركة الثورية العالمية، وثنّى فانتصر عليها :"بذلنا جهداً استثنائياً حتى أدخلنا ياسر عرفات للمرة الأولى إلى اوروبا تحديداً الى الاتحاد السوفياتي في مهرجان الشباب العالمي في العام 1973م وقد اقتضى هذا معركة مع الاتحاد السوفياتي وقبولاً من ألمانيا الشرقية...". وتجشّم مناصب المكتب السياسي "السفر أكثر من عشر مرات" إلى برلين (وراء السور) قبل الغنيمة الكبرى بدخول الزعيم الفلسطيني أوروبا وليس أوراسيا مثلاً، "رسمياً وليس تهريباً أو حضوراً ثانوياً".
 "البناء الفوقي" والضباط
 ويمهد هذا الشطر الثمين من محاورات  موظف الاستعلامات والاتصالات والوساطات  السوفياتي- وأثبت هذا الشطر بحرفه وحلقاته مرآة أراها أمينة لبعض الأبنية والأمثلة والعوامل التي أنشأت الحركات الشيوعية واليسارية على نطاق أوسع ومتصل، "عالمها" وتصورات هذا العالم ولغته ومترتباته العملية- يمهد للأفعال الحاسمة. ومن التمهيد هذا فصول السلاح، و"التدريب في أكاديمية سوفياتية مهمة"، والنقل من اللاذقية، وزيارة حافظ الأسد، والثياب "الشبيبية" من ألمانيا، والسترات الواقية "للرصاص" (كذا!)، والمطابخ، والحفلات في رئاسة الدولة "الديموقراطية". والمحصلة :"دربنا ضباطاً لقيادة جيش جرار". فاحتاج الضباط إلى "عشرات الآلاف من العساكر ليقودوهم، على عكس الشائع والمعروف: يُدرب الضباط ويُعدون تلبية لاحتياج الجيش وعملياته ومهماته وجبهاته وحربه. وبداهة قول جورج البطل المعكوس والمخالف تدل دلالة ساطعة على النهج الشيوعي السوفياتي: "البناء الفوقي" ومرافقه وأجهزته أولاً، ثم يُبت في الأمور الملحقة والثانوية: المقاتلين و"الرتش". ويذكر المذهب بـ"الدور الذي يبحث عن بطل"، وهو دور رسمت النظرية ملامحه وعوامله، وما على البطل إلا أداؤه. وعليه، فـ"الثورة" هي ما يقوم به "الثوريون". وتعريفُهم من أنفسهم وتلقائهم، ومن نسبهم إلى جهازهم، وليس من صنيعهم وعملهم في وقت وفي مكان، واضطلاعهم بمهمات وتمهيدهم لأخرى في ضوء معايير تنحو إلى العمومية الجامعة والمشتركة (في الحقوق، في الحريات، في الطاقات...).
 وينتقل المتحاوران من التمهيد التقني (السلاح، التدريب، المال...) إلى التمهيد السياسي. فيفصل جورج البطل بين بعدين في الحروب المتناسلة غداة 1967: بُعد فلسطيني وبُعد داخلي. ولكنه يترك البعد الفلسطيني من دون وصف ولا تعليل، ويقصره على إقامة المنظمات الفلسطينية "الدويلة". وهذه الدويلة لا تاريخ لها، ولا سوابق، لا في لبنان ولا في الجوار العربي، ولم ترتب نتائج حيث أقامت (في الأردن) أو مرت (في سوريا). ولم يتنازعها متنازعون وأوصياء، ولا أعملها أصحاب مصالح وأهواء متقلبون في أغراضهم ومقاصدهم، إلخ. فهي هي: مصير وطليعة وجد وثورة. (أنظر أعلاه). ويلخص الرجل البعد الداخلي بـ"استعدادات (عسكرية) في المنطقة الشرقية". فهذه سبقت "كل القوى في المنطقة الغربية فيما يتعلق بالإعداد والسيطرة على منطقة وإقامة كيان أو شبه كيان" (ص246-249).
 ويخيل للرجل أن فصله اللفظي البعدَ الداخلي من البعد الفلسطيني يفك الواحد من الآخر. فإذا تأخر الإعداد العسكري "الغربي" (نسّبه إلى المنطقة الغربية، العروبية والإسلامية هوىً وسكاناً) عن نظيره الشرقي (المسيحي "اللبناني-اللبناني" على قول صحيفة العمل قبلها) - وهو تأريخ أو تحقيب مبتسر ومموه-. فالبؤرة العسكرية الفلسطينية كانت السباقة إلى النشوء والعمل. واستمالت "البعد" الداخلي، العروبي والإسلامي الأهلي والحزبي الإقليمي واليساري، في وقت مبكر، واستتبعته وألحقته في خدمتها من دون بقية استقلال بـ"داخل" مفترض أو مزعوم. فتحالفت الكتلة الفلسطينية- العربية، وهي قوى متقاتلة ومتناحرة ومتنافسة على الولاءات الأهلية والإقليمية المشرذمة، مع "جبهة أحزاب وقوى وشخصيات (وطنية)" لا تحصى خلافاتها، ولا يجمعها غير تشاركها الطمع في السيطرة على "الموقع" أو المفترق الاستراتيجي اللبناني، واقتسام ريوعه الفلسطينية والعربية المنتظرة والمتوهمة تحت قناع حرب تحرر مثلثة القارات.

"المافيا اللينينية"
وعلى هذا، انقلبت المنظمات العروبية- الإسلامية، في غضون سنة، أجهزة مرتبية المستويات والصلاحيات والوظائف والرواتب والخدمات (السيارات والشقق وجماعات المرافقين وصفوف الداخلين إلى المصاعد، على ما يروي الراوي من غير مواربة، ص 266 وص269-273 وص280، وغيرها). واحتذت على مثال الكتلة الغالبة. وهذه لم تلبث القوات المسلحة السورية أن تغلبت عليها. وانصرف "الثالوث" السوري-اللبناني- الفلسطيني إلى تصديع البلد المضيف ودولته و"مجتمعه" وجماعاته إلى حين إنجاز أتم الشبه بأرض سباء أو "ساحة" أو "ملعب".
 ويقول الرجل أن جورج حاوي، شيخ "المافيا" اللينينية (ص280 وص 104 في صيغة أخرى)، دعا المؤتمر الثالث إلى تبني "شعار" الرد على عنف الرجعية بالعنف الثوري"، في ضوء تمييز البعد الداخلي من البعد الفلسطيني. وعلى زعمه أن نقاشاً جدياً تفحص "طبيعة الحرب"، وتساءل أطرافه: "هل ستكون حرباً طويلة المدى أم إن البورجوازية أعقل من أن تدمر البلد وهي تعيش حالة انتعاش، لا سيما أن موسم الصيف على الأبواب؟". واختيار "البورجوازية" ("وكلاء الشركات وأصحاب المعامل والمصارف" و"في قلبها المسيحيون"، ص248) أو انتخابها، في خضم حوادث تتزاحم فيها بالمناكب أزمات الدول والكيانات، والإخفاقات في إرساء أركان اقتصادات متوازنة ونامية، وتقتتل أجنحة الأحزاب العسكرية والمدنية المستولية على السلطات وعلى امتلاك وكلاء وعملاء مسلحين في الدول القريبة- هذا الانتخاب قرينة صارخة على سقوط المتحاورين في حفرة "ماركسية" كاريكاتورية.
 فهما يفترضان كتلة اجتماعية وسياسية واحدة ومركزية، لا تشوبها ولا تعكر تراصها أواصر عصبية وأهلية ووطنية وطائفية متفرقة ومتنازعة، تتولى "قرار" الحرب، وتمولها. وهما يحسبان أن الشق المسيحي من "البورجوازية" هو الآمر الناهي في أجنحتها الاقتصادية والأهلية كلها، وفي الطبقات الاجتماعية "الشرقية" (المسيحية) من غير تمييز، وفي الهيئات والمؤسسات والتكتلات السياسية والدينية والثقافية. ويخالف التقدير الفظ والضرير هذا الوقائع المشهودة، وتدل كلها على انقسامات ومنازعات كثيرة دلالتها على تأثير الظروف والحوادث ومعانيها في تحريك الخطوط السياسية. ويتذرع التبوييب الطبقي بدور "البورجوازية" الحزبي إلى نصب عدو طبقي لها، لا يقتل افتراضاً وكاريكاتورية عنها، هو "حزب(جماهير) المثقفين والفنانين والشعراء والنخب في البلد" وأولاد العائلات، الحزب الشيوعي (ويسهو "القيادي" اللينيني عن ... العمال والفلاحين، أصحاب المطرقة والمنجل وأهلهما!).
 ويسأل المحاور، وهو لا يقل قيادية ولا لينينية عن صاحبه، الرجل سؤالاً شيوعياً نموذجياً وينتمي إلى باب التمارين على "النقد" (الذاتي، وهو المفضل) والاعتراف بعد خراب البصرة وبيروت وحلب وصنعاء وبغداد والقدس... بالهفوات والأخطاء، فيقول:"ألم يكن لنا تصور حداثي طبقوي مبالغ فيه حول عقلانية البورجوازية وقوتها؟ (...) كان هناك وهم مشترك أن قليلاً من الضغط العسكري يجعلهم يتنازلون للإصلاح.". وأناقة "التصور الحداثوي الطبقي"، ومسحة النقد الذاتي في حلة إطراء النفس وكيل المديح لها ("العيب" المعاب هو إسباغ حزب "الإصلاح" على العدود الركيك والمتهافت و"الغبي"، على وصف حاوي النبيه والذكي، قواماً متماسكاً لا شأن للعدو به)، تقصران التوهم على العدو. أما "نحن"، كتلة "الإصلاح" و"التحول الديموقراطي" فالعقلانية والحداثة والطبقة الطبقية هي الميزان الذي نزن به وحدنا أفعال الآخرين، ولا يزننا غيرنا، وهو حكماً لا عقلاني ولا حداثوي ولا طبقوي، به.
 فلا عقلانية العدو الطبقي هي نظير عقلانيتنا "الشيوعية" الصارمة. وهذا على نقيض سرد "القيادي" ملاحظاته على مشاهداته. فينقل عن كمال جنبلاط عتبه على وفد الشيوعيين: "يا عمي، عم تخربطوا البلد. ما لحقنا أيمتى إجا رشيد الصلح وعندنا وزيرين... في شوية خدمات وتوظيفات بدنا نعملها لأهل المنطقة" (ص 249). وحاوي "اندفع في (الحرب) بسبب تقديره أنها ستكون طويلة. بدت قراءته للحرب أصدق وأصح من قراءات آخرين... وبالتالي دَعَم العسكرة. وللأسف الشديد... خسرنا الكثير من الكوادر الواعدة التي تبعثرت حول العالم... لأنهم لا يريدون الانخراط في الحرب..." (ص250). وبعد "بدءٍ نظيف" بدأته الحرب "واكبنا على الفور لصوص بيروت كلهم، وبدأت عمليات النهب والسرقة" (ص255)... عقلانياً وطبقوياً وحداثوياً، طبعاً.
 وغياب طبقة بورجوازية وطنية وتقدمية تمول الحرب الثورية، بديلاً ربما من طبقة عاملة "واعية"، أوجب على الحركة الثورية الوطنية (الحزب الشيوعي وحليفه القريب) انتظار "الكرم" الليبي القذافي "المتأخر" (ص 257)، ومجيء "المبالغ الأولى المنتظمة من العراقيين"  الصداميين وذباحي الشيوعيين العراقيين و"دفع حصصنا" (نفسه). وفي لقائه حافظ الأسد (صيف 1976 "حمل" كمال جنبلاط "أحقاد العائلة الجنبلاطية (على) الأمراء المسيحيين و(على) الأمراء الدروز الذي تنصروا" (ص 261). وهذا غيض من فيض العلامات والقرائن على العقلانية والحداثة الثوريتين اللتين لبستا حزب الإصلاح والتحول الديموقراطي، وعوَّل عليهما القادة حين دخلوا الحرب، وحين أعدوا العدة لها واستعجلوا قدومها.
انعطاف في فنجان
ودعت إلى الوقوف عند الفصل اللبناني من الحروب الأهلية الإقليمية الواسعة في مذكرات الرجل مكانة الفصل والحروب من وجه، ودلالتها على "خفة" الحركات اليسارية والعروبية وأجهزتها القيادية العسكرية والحزبية (وهي موضوع الكتاب). وعادت الخفة هذه على المجتمعات والدول وأهلها ببعض ما لم تنهض منه، على أضعف تقدير. ويصل الراوي فصل الحروب المحلية بفصل آخر سبقه يتناول مؤتمر الحزب الشيوعي اللبناني الثاني (1968). والفصول الثلاثة التي عقدها الكتاب للمؤتمر نفسه، السادس (ص 133-156) والسابع (ص157-186) - والثامن (ص 187-240)، لا تستوفي الحوادث التي تتعلق بالمؤتمر، تمهيداً ومجرى وذيولاً. فهذه تتغلغل في أوردة الرواية وتظلل وقائعها. وهي ألصق بالراوي من الوقائع الأخرى. وذلك لأن المؤتمر العتيد هو الفصل الذي يوحد السيرة الشخصية بالسيرة السياسية من غير فرق أو تمييز، ويجلو شلة الرفاق والأصحاب والأصدقاء في صورة قيادة حزبية "تاريخية" و"استثنائية"، على ما بقي أفرادها يحسبون. ولا يقتصر الدور القيادي على لبنان وبلدان الجوار العربي، فيتعدى الدائرتين إلى "المستوى" العالمي. فلا يشك جورج البطل، "المسؤول" عن كتلة بلدان في جهاز مطبوعة "قضايا السلم والاشتراكية"، في انتصاب شلته الحزبية التي تغلبت على "شلة حسن (قريطم) وصوايا (صوايا)"، وشريكهما الباهت نقولا الشاوي، مثالاً احتذى عليه وجوه ربيع براغ في 1968. فهو يردد أن دوبتشيك وأصحابه يصنعون "ما نصنعه نحن" (يومها)، ويعزو إلى أصحابه تعريف الكتلة السوفياتية بياسر عرفات...
 وحمل شلة "الشباب" في أواسط العقد السابع من القرن العشرين، على خلع الثلاثي "الهرم" ("الخيول الهرمة"، على قول الشاعر ميشال سليمان المعاصر) والانقلاب عليه عوامل كثيرة لعل أرجحها تركة 1958 ("الحوادث" الأهلية اللبنانية)، وعزلة الحزب الشيوعي بين الجماعات الاهلية والسياسية الناصرية و"الوحدوية". وهذه الجماعات مسلمة في معظمها. أما الجماعات المسيحية فـ"النظام" اللبناني، الاجتماعي قبل السياسي، استمالها، وأوحت التيارات الإصلاحية الدينية (فاتيكان-2) بجواز صيغ وطنية تؤلف بين النزعات الاجتماعية وبين الديموقراطية التمثيلية. ونجمت العزلة، على ما رأى شطر من الحزبيين، عن نهج خالد بكداش، وتحفظه الشديد عن الوحدة المصرية - السورية. وجدد ما أثاره التحفظ من تنديد قومي وعروبي حاد بعض الإدانة التي بعث عليها اعتراف موسكو في 1948 بالدولة العبرية. فخلص جيل من الشيوعيين لم يشهد "النكبة"، ولا خاض فعلاً في 1958، ولكنه ورث ذيولهما وآثارهما في أواخر ومستهل عقدين قوميين، إلى أن علاج القضايا الكبيرة والصغيرة هو "السباحة" مع التيارات القومية  وفي مياهها العميقة والموّارة.
 ولم يكن أثر الغيفارية والكاستراوية الرومنطيقيتين، والماوية على نحو أضعف، ضئيلاً. ومن وجه آخر، لم "يجحد" الشيوعيون الشباب- وهم كانوا خالي الوفاض من أي تراث سياسي وتاريخي يتعدى الشعارات الظرفية- التراث الجهازي والإداري الذي تحدر إليهم ولا علم لهم بغيره، وكان ذريعتهم ووسيلتهم إلى تعريفهم أنفسَهم وشق طريقهم إلى دورهم وإلى معاشهم. وأقنعتهم الانقلابات الحزبية، العسكرية والتنظيمية، والحركات المسلحة في العالم الثالث، بتخطي الإمساك و"التواضع" اللذين قيدا الأحزاب الشيوعية العربية إلى يومها، وصرفاها عن الاستيلاء على السلطة، بينما تمكنت أحزاب قومية، هزيلة القوام و"الفكر"، من الاستواء أحزاباً حاكمة. وقد يكون جورج حاوي خير تمثيل علىى مزيج هذه النزعات والدواعي والحسابات والأبنية.
 وما يصوره الراوي انعطافاً تاريخياً، يرويه فعلاً على شاكلة "انقلاب قصر" (والقصر في هذا المعرض حوش عشائري). وحصة التغيرات الاجتماعية والسياسية والثقافية منه لا ترى بالعين المجردة ولا بالمجهر المكبر. فالنقابات، على سبيل المثل، ظلال باهتة. والحركة الطلابية خيال بعيد. ومحاولات تجديد التحركات والبرامج "الشعبية" لم تبلغ أصداؤها آذاناً "قيادية" صماء. وهذا ثمرة قران الانحطاط السوفياتي والاستتباع "العربي" في منتصف الحرب الباردة.