السبت، 20 ديسمبر 2014

صحافيان فرنسيان يرويان بعض الفصول «السود» من العلاقات الفرنسية – السورية الأمنية ...الانخراط مع النظام اقتصر على خدمة احتياجاته البوليسية

المستقبل 21/12/2014
جرى التضليل الأمني والبوليسي، المسمى إعلاماً وصحافة عربيين وملتزمين، على التهليل لصحافيين غربيين يتحفظون عن سياسات أميركية وأوروبية شرق أوسطية. وغالباً ما يصاحب التحفظ العملي والأخلاقي تنبيه الى قصور هذه السياسات عن احتساب وجوه من أحوال الانظمة المحلية تعود على البلدان والمجتمعات الاميركية والاوروبية ببعض المنفعة، أو بدفع بعض الاخطار و»المفاسد»، في لغة الفقه. وعلى هذا، حظي معلقون مثل باتريك سيل وسايمون هيرش، ونعوم شومسكي على نحو مختلف، ومحامون قطعيون مثل جاك فرجيس، ومتخيلو مؤامرات عميقة وكونية مثل الذين قلبوا هجمات 11 أيلول 2001 تجهيزاً تقنياً (و»فنياً) من صنع وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية والموساد الاسرائيلي، هؤلاء حظوا بتصديق عربي واسلامي رفع أحكامهم الى سدة القول الفصل والصادق. ويسعى التضليل الامني والبوليسي في ضم نماذج متأخرة، زمناً، من صحافيين متحفظين أو مشككين يتعاطون التحقيق في الوقائع السورية والايرانية الاقليمية واللبنانية، الى الكوكبة المصطفاة من الأعلام الذين تقدم ذكرهم. وفي عداد القافلة الهزيلة الاخيرة الصحافيان الفرنسيان كريستيان شينو (من «راديو فرانس انترنسيونال») وجورج مالبرونو (من صحيفة «لوفيغارو» اليومية). وهذان نشرا في الاسابيع الاخيرة منتخبات من مراسلاتهما الى «صحيفتيهما»، يعود بعضها الى الاعوام الاولى من العقد السابق، في كتاب وَسَماه بـ»الطرق الى دمشق- ملف العلاقات الفرنسية السورية الاسود» (دار روبير لافون، أيلول 2014 ويعود الترخيص بطباعة الكتاب الى حزيران من العام).

«والطريق الى دمشق» عبارة فرنسية سائرة او اصطلاحية تكني عن ادراك الايمان الهارب منه. وذلك منذ توجه بولس الرسول، حواري المسيح، الى دمشق غداة تعليق الوالي الروماني السيّد «ملك اليهود»على خشبة، هرباً من الندم الثقيل على محاربة صاحب بشارة الخلاص من وَلَد داود، وممسوح المشيئة الابوية، وإيلام أنصاره والمؤمنين به. وفي الطريق من بيت المقدس الى دمشق، قاصداً انطاكية اليونانية والرومانية، وقع الايمان بصاحب البشارة في قلب اليهودي المتعنت والهارب وقع الصاعقة الخاطفة والحارقة. ومذذاك صارت «الطريق الى دمشق»، العبارة، علماً على إدراك المصير المحتوم والمرسوم، أي الإيمان بالمخلص بعد نكران شديد، الهاربَ منه الى «الاميين»، من غير أصحاب الكتب. ومنذ توسط قائد استخبارات سلاح الجو والقوة الجوية السورية، حافظ الاسد، شطراً من السياسة الاقليمية الاوسطية وبعض روافدها الرافد اللبناني والفلسطيني والكردي والارمني والعراقي- وإعماله فِرَقاً مسلحة وإرهابية في مسارح هذه السياسة وجوارها البعيد، دلت الكناية على معانٍ أخرى تميل الى الدلالة على التسليم بإرادة المتربع في سدة السلطان بدمشق وبوسائل إقناعه وشرحه.

فالعبارة «السورية» والاقليمية، حين تنتزع من ملابساتها البولسية ومصائر الرسول الكنسية والمسكونية، لا تخلو من غمز مهين بمن يسلك «هذه» الطريق الى دمشق بعد صدوف عنها. وحين يروي الصحافيان الفرنسيان، اليوم، بعض فصول «سود» من سجلات السياسة الفرنسية، في عهود فرانسوا ميتران وجاك شيراك ونيكولا ساركوزي وفرانسوا هولاند، واستخباراتها المتعاقبة، ومعاهداتها مع «الدولة» السورية الامنية، فهما لا يوحدان هذه الفصول على سوية واحدة من التسليم أو «الايمان» بما سبق إنكاره ومحاربته. فإذا عاد فرانسوا ميتران ونيكولا ساركوزي، بعد قطيعة ونفرة واغتيالات، الى بعض التعاون الامني مع الاجهزة السورية لقاء «اعتدال» سوري نسبي في المسألتين اللبنانية (تعليق اغتيالات الاستقلاليين بعد ولوغ فاحش) والفلسطينية (ترك ياسر عرفات يخرج من بيروت وطرابلس) لم يسلك جاك شيراك هذه الطريق.

وكانت مفاوضة جورج بوش الابن على محاصرة تحكم بشار الاسد في لبنان وتصديعه دولته وهيئاته، من طريق قرار مجلس الامن 1559 وإدانته تجديد ولاية إميل لحود ودعوته الى مصادرة سلاح الميليشيات الاهلية، ذروة سياسة تنكبت السير على الطريق المهينة. ولم يدعه حرصه، في 2006، على حماية اللبنانيين من الرد الاسرائيلي الشرس على الاستدراج الايراني والحزب اللهي، ومن التوسل الايراني والسوري بالنكبة الانسانية والسياسية الى تصديع الدولة والاجتماع اللبنانيين، الى مجاراة الدعوات الامنية السورية، واستجابة طلباتها التجهيزية، إلا في حدود ضيقة.

والى اليوم لم يرجع الرئيس الفرنسي الرابع في مناهضته سياسات التخريب والارهاب الاسدية والعمياء. ولا يكذّب تحفظُ بعض الديبلوماسيين والاستخباريين الفرنسيين عن بعض القرارات الفرنسية «المستعجلة»، مثل استدعاء السفير إريك شوفالييه من دمشق في 2012 أو تصدر الدعوة الى الاقتصاص من القصف الكيماوي على الغوطة في صيف 2013، (لا يكذب) هذا المنحى ولا يبطله. وميل بعض اجهزة الاستخبارات الاوروبية، الاسبانية والالمانية والبرتغالية والبريطانية والفرنسية ربما، الى طلب عون اللواء علي المملوك «صاحب» ميشال سماحة والنائب عن دولة العائلة أو العصابة على «الجهاديين» الاوروبيين المتسللين الى الاراضي السورية والعراقية، و»العائدين من سوريا» غداً، ليس صدوعاً (بعد!) بالاشتراطات السياسية السورية. والاشتراطات السورية، وهي توجز في فتح السفارات من جديد واستئناف علاقات ديبلوماسية تقر بمشروعية النظام المدمِّر، سرعان ما تقوَّض التعاون الامني المزمع.

ويهلل أصحاب السلطان الامني والبوليسي في سوريا لاحتياج الاوروبيين الى معلومات استخبارية عن مواطنيهم المنخرطين في المنظمات «الجهادية» الاسلامية، وبعضهم يزمع العودة الى بلاد إقامته أو عاد فعلاً وارتكب القتل، وقتال دولها، وترويع أهلها. ويرى اصحاب السلطان الى الاحتياج الاوروبي، وجهره، دليلاً على صدق تشخيصهم للزلزال السياسي والعسكري الذي يضرب انظمتهم المتهاوية والمريضة بالاستبداد والتعسف والفساد والتفاوت والتزوير، وقصره (قصر التشخيص) على المنظمات الارهابية «السنية». فهم يخيِّرون الدول الاوروبية، وأجهزتها الاستخبارية التي تتولى مكافحة الارهاب، بين إرهابهم (إرهاب أصحاب السلطان الامني والبوليسي السوري)، وبين الارهاب الاسلامي و»الجهادي» الضخم والشامل. ويميل بعض الاستخباريين الفرنسيين، وهم مصدر أو مصادر الصحافيين شينو ومالبرونو، الى حصر مضار أو أذى الارهاب السوري («والايراني») الاقليمي الرسمي في نتائجه المباشرة مثل الرهائن المحتجزة أو السياسيين الاصدقاء والجنود الذين اغتيلوا او الخدمات التقنية التي خسرتها الصناعة الوطنية. وهؤلاء يحملون انجازاتهم أو إخفاقاتهم على المهمات التفصيلية المناط بهم تولي حلها. وهذا أصل من أصول المهنة الاجرائية.

وهم، والصحافيون والاعلاميون الذين يتعقبونهم ويقتفون خطوهم ويعتقدون معتقدهم الامني المهني والجزئي، يلوحون عند كل إخفاق، وكل إنجاز، بمردود «سياسة أخرى» كانت لو انتهجت لانتجت نتائج مختلفة وايجابية باهرة. فهم، أهل الاستخبار وأهل الاعلام «الامني»، يعزون الى السياسات المعيارية المتشددة، والى تمسكها الجزئي غالباً بحقوق الانسان ومناهضتها الغلو البوليسي في خنق الحريات وقمع المعارضين، إخفاقَ التنسيق الاستخباري، والعجزَ عن الحؤول دون حصول عمليات انتحارية أو اغتيالات «اسلامية» في الداخل أو الخارج. و»ملف» شينو ومالبرونو «الاسود» لا ينفك يلوح بمثل «السياسة الاخرى» أو البديلة هذه، شأن صحافيين أو إعلاميين آخرين كثر يشخصون مكمن الدواء، المفضي الى أعمال انتحارية وإرهابية واغتيالات، في حمل القيادة السياسية أحكاماً معيارية على محمل الجد.

والحق أن عمل الصحافيين الاستقصائيين يجمع التلويح الاستخباري المهني بـ»السياسة الأخرى»، غير المعرَّفة تعريفاً ملزماً ولا دقيقاً، الى الاقرار الموارب وتوريةً بسراب السياسة المزعومة وخوائها، وحتم إفضائها الى انقياد السياسة (الفرنسية في هذا المعرض) الى رغبات السلطان الامني والبوليسي الهاذية والقاتلة. والمهللون المحليون لبعض تلميحات الكتاب الى العلاقة القوية التي ربطت جاك شيراك ورفيق الحريري واحدهما بالآخر وتسليم شيراك بآراء الحريري في أحوال الشرق الاوسط، والى دور مروان حمادة وجبران تويني في «اعترافات» زهير الصديق، واضطلاع هذا بمحل «الشاهد الملك» وجره ديتليف ميليس الى تهمة الضباط الاربعة وسجنهم هؤلاء يغضون عن عمل التحقيق الصحافي الفعلي الذي قام به الصحافيان، ودعاهما الى البرهان على استحالة انتهاج اركان الانظمة والاجهزة البوليسية السورية سياسة غير الابتزاز والترهيب والاغتيال والتدليس. (ولا يبرأ هذا الشطر من التحقيق من بعض الإغفال: فزهير الصديق، الكاذب، جزء من كوكبة شهود زور، على ما سموا، تولوا إشاعة الكذب والاختلاق «المعقولين» في التحقيق المتعثر والبطيء والعسير، وحضَّ التحقيق على التسرع وأوهم ببلوغ الغاية قبل الايعاز الى الكاذبين بالعودة عن اختلاقهم. فشهود الزور جواب القتلة الثاني، أو خطة باء، على افتراض التحقيق يسر الكشف عن الجريمة. وفي شهادة مروان حمادة الثانية أمام المحكمة الخاصة بلبنان، ظهرت خيوط جواب ثالث، أو خطة جيم، حين سأل أحد محامي الدفاع عن بدر الدين الشاهد عن مخابرة هاتفية بعد محاولة اغتياله من هاتفه الى هاتف بدر الدين المظنون. وهذا تحقيق قول رستم غزالة الى حمادة: الاغتيال إما من صنع اسرائيل وإما من صنعك أنت، ولا متهم ثالثاً، فإذا أقررت بذلك أكمل وزير العدل الدعوى وإلا فلا دعوى ولا ملف دعوى ولا محكمة).

فهما حين يتناولان مسألة أولى هي إعداد بشار الاسد الى خلافة أبيه، والمسألة متصلة بدور فرنسي «شيراكي» تقني واستخباري، يقعان تلقائياً على الدور السياسي البوليسي الذي يدور، ولا مخرج منه. وهما يؤرخان لتجدد «الحرارة» في علاقات البلدين، أي رئيسيهما، بانتخاب جاك شيراك في 1995، الى كرسي الرئاسة. وكان شيراك الذي شغل مرتين من قبل، في عهدي جيسكار ديستان الليبرالي الوسطي وميتران الاشتراكي، منصب الوزير الاول، خلص من اختبارات السياسة الفرنسية في الشرق الاوسط، مشرقاً ومغرباً، وأدواره فيها (فهو من ابتدأ تعاوناً فرنسياً- عراقياً أدى الى بيع صدام حسين مفاعل تموز...)، الى ان «مهمة» هذه السياسة الاولى في هذه المرحلة هي استواء سوريا، أي حافظ الاسد، «بلداً عادياً» لا يلبث أن «يندمج في المنطقة»، على قول جان كلود كوسران، سفير فرنسا في دمشق يومها، وأحد مستشاري ميتران من قبل. وحال اضطلاعه بالرئاسة أوفد هيرفيه غيمار، وزير الدولة المالي، الى دمشق وكلفه مناقشة سداد الديَّن السوري، وتوسط لدى كادموسو، مدير صندوق النقد الدولي، وأوصاه بمفاوضة دمشق على اجراءات التعاون المالي.

وعندما توفي الاسد الاب، حسِب شيراك أن فرص نجاح «برنامجه» السوري الاندماجي تعاظمت، وأن الخالف الابن والشاب ألين عريكة من أبيه، وأسلس قياداً. ولم يشك الرئيس الفرنسي في أن دينه على سياسة الاسد، ودوره في صوغ مخرج لدورة قتال اسرائيل و»حزب الله» في نيسان 1996 كان راجحاً، ليس ضئيلاً. فكان الرئيس الغربي الوحيد الذي طار الى دمشق فالقرداحة ليشيع الراحل الى مثواه. ويقول الصحافيان أن مساعدي شيراك، الى شيراك نفسه، اختلقوا، تصديقاً لتوقعهم وأمانيهم، حكاية الرئيس الشاب المتعلم والمنفتح والمتحرر من أخلاق الثكن العسكرية وأجهزة الاستخبار (وهذا ما نبّه اليه الابن نفسه في حديث أدلى به الى مالبرونو ونشرته «لوفيغارو» في 3 أيلول 2013). وحرص شيراك على إحاطة المستخلف، قبل خلافته الفعلية، بعناية أبوية، إنفاذاً لوصية أوصاها إياه الاب، على زعم الرئيس الفرنسي في الجزء الثاني من مذكراته.

وفي الأثناء، كان الشاب الغر والقليل الخبرة والمتشاغل الالكتروني قطع دراسته اللندنية وعاد، غداة مقتل أخيه في حادثة سير أوائل 1994، الى جوار أبيه. فعهد إليه هذا بالاشراف على بعض القطاعات السرية والامنية العسكرية من الاتصالات الجديدة. وولاه إدارة الشعبة «21» واختصاصها التجسس على اتصالات السوريين الجارية. ويلاحظ الصحافيان أن شراء جهاز «فاكس» عادي في سوريا يقتضي التماس إجازة من الاجهزة البوليسية، وأن دمشق العاصمة تفتقر الى دليل هاتف (شأن موسكو السوفياتية في حكم ستالين «العظيم» وخالفيه، و»استغنائها» عن خريطة مترو). وكان بشار الاسد وثيق الصلة بوكيل كبرى الشركات الفرنسية العاملة في قطاع الاتصالات، ألكاتيل، في سوريا. فجمعه هذا بأركان الشركة الفرنسيين. ففاوضهم على إدخال الهاتف الخليوي الى السوق السورية. ومهد لجعله في متناول العموم باختباره في حلقة ضيقة هي الحرس الجمهوري من طريق نظام
GSM مغلق. وفازت الشركة بعقدها الاول على هذا النحو. وكان عقدها الثاني أمنياً كذلك. وبموجبه جهزت موظفي أمن الدولة بهواتف لاسلكية تتلقى المخابرات وترد جوابها في آن، على خلاف التخابر من طريق هواتف لا يسعها القيام بالامرين معاً، على ما كانت الحال. وربطت هواتف أمن الدولة بأحدث مبتكراتها التكنولوجية، وهو شبكة خلوية ضيقة المداخل.

وتولى ولي العهد، وهو في طور التأهيل «السياسي»، ملفاً أمنياً ثالثاً. وكان الطيارون العسكريون السوريون اشتكوا تعذر اتصال الطيارين حال تجاوز التشكيل الجوي 3 طائرات، وعزوا العطل الى شبكة الاتصال الروسية. ففاتح الابن المتدرب شركة ألكاتيل بالأمر. وحال مبادرة الابن الى الخوض في المسألة، وهي توصف بـ»البالغة الحساسية» وتتعلق بإجراء يعرض سلاح الجو وسلامة طياريه لأخطار داهمة، أدرك الفرنسيون، وهم تقنيون من وجه واستخباريون من وجه آخر، أن مفاوضهم هو الرئيس المقبل. وقوَّى الاستنتاج تولية الأب الحاكم ابنه الشاب والقليل الخبرة، في 1998، ما تواطأ إجماع سياسي وصحافي وأمني وضيع على تسميته، على جهتي الحدود، بـ»الملف اللبناني» (وهذا ما أخجل بشار الاسد في مقابلاته الصحافية «اللبنانية» الاولى، فأنكر التسمية، فلما آل الامر إليه صنع ما صنع). و»الملف اللبناني» هو العَلَم على الجوهر الامني للسياسة السورية الاسدية، وهو «انجازها» الفظيع والمدمر من غير ريب. والمسألة اللبنانية، على الوجه أو المقلب الفرنسي، هي عصارة سياسة فرنسا «العربية» في صياغاتها المتعاقبة منذ شارل ديغول في أدواره وأطواره المختلفة.

ولما كانت سياسة الاب تصرِّف شؤون «الولاية» اللبنانية (وهذه ليست لغة الصحافيين) بواسطة الثلاثي عبد الحليم خدام وحكمت الشهابي وغازي كنعان، وحدسَ هؤلاء في المستخلف خصماً إن لم يكن عدواً، وجاراهم بعض أعيان الجماعات اللبنانية على حدسهم أو رأيهم، باشر الابن الخالف عهده على الولاية أو البكلربكوية بإعفاء الثلاثة من وظائفهم أو إقالتهم منها. والاقالة هذه من بواكير «التجديد» الذي اضطلع الخالف «الشاب» والمولج بالمهات الفنية «الثورية» التي عهد بها والده إليه، بها. وهو ترجمها في الداخل استقداماً لبعض الخبراء السوريين المنفيين طوعاً في الخارج إلى ادارته البيروقراطية. فدعا غسان الرفاعي وعصام الزعيم ونبراس فاضل الى تولي مناصب وزارية أو استشارية.

وبينما كان الجنرال ألان بلليغريني، قائد قوة القبعات الزرق غداة 2006 من بعد، يركب أجهزة هواتف «حصينة» أو محمية تصل جاك شيراك ببعض السياسيين اللبنانيين (وبعضهم شأن إميل لحود، الرئيس «اللبناني السوري»، رفض الحصانة)، أوفد الرئيس الفرنسي مدير مدرسة الادارة الفرنسية (
ENA) ماري فرانسواز بيشتيل، وجاك فورنييه، مساعداً الى دمشق، وانتدبها الى انشاء المعهد الوطني للإدارة على مثال «المدرسة» الفرنسية التي يزعم الكاتبان ان بشار الاسد كان منبهراً بها (وهذا ما يجوز فوق الشك فيه، في ضوء فصل الرواية التالي). وأرفق الخبيران الانشاء الاداري بتقرير إصلاحي «شامل» على ما يحب السوريون الحزبيون القول والظن. ويغامر شينو ومالبرونو بالكتابة، على هدى حسبان بيشتيل أن محاورها «صادق»، أن «شاغل بشار الاول هو إرساء ادارة عليا عامة محايدة، مستقلة وفاعلة» (ص84). وفي الجملة التالية يرويان عن الخبيرين تشاؤمهما وإحباطهما حين عاينا «قبضة الاجهزة الاخطبوطية على الادارة». وأسر إليهما عصام الزعيم، وزير التخطيط السابق، استعظامه خفاء جواسيس الاجهزة الامنية في وزارته عليه، هو الوزير. ويسر الى الصحافيين المحققين، بـ»واقعية» مقززة ونموذجية، أنه لا يرى غضاضة في بث الجواسيس في الوزارة شرط أن يُعلم الوزير، وحده من غير شك، بهم.

والفصل الآخر من التعاون الفرنسي السوري يتناول إعداد الدولة الفرنسية كفاءات تقنية صناعية وزراعية، على منوال الخبرة التقنية والالكترونية والادارية التي حسب الرئيس الديغولي الاخير أن «الدولة» السورية تحتاجها أو تفتقر إليها، وفي وسعه هو أداؤها واستمالة الحاكم الفرد السوري من طريقه، وخدمة الصناعة والسياسة والتقنية الفرنسية وحماية الدولة اللبنانية، وفيها صديقه رفيق الحريري (وينقل الصحافيان، بين سذاجات كثيرة أخرى، رأي كريم بقرادوني، «حميم» إميل لحود، في الحريري الأب، وفي افتقار «سنيته السياسية»، على قول الحميم العتيد، الى «الحياد». وهما يغفلان في تعريف الرجل، ومن تعريفه، سلالة الذين خدمهم، على ما جرت العادة في صكوك التجارة المعروفة). وأثمر التعاون «مركز البحوث والدراسات العلمية». ويوم كتب صحافيا راديو فرانس انترنسيونال و»لوفيغارو» كتابهما ثم نشراه لم تكن الصحف أذاعت خبر اغتيال خمسة من باحثي المركز ودارسيه، أوائل تشرين الثاني، وهم 4 سوريين وإيراني، على ما قيل، ولا أذاعت سكوت المصادر السورية النظامية عن الخبر. ويعزو وصف الصحافيين المركز في ضوء بعض مآلاته، صدقهما ودقة تقصيهما.

ويروي أحد وسطاء العلاقات الثنائية أن صورة المركز التي ضمنتها أجهزة الاستخبارات الفرنسية ملفها في الصناعة الكيميائة السورية الاسدية، غداة قصف قوات سورية «نظامية» الغوطة الشرقية أواخر آب 2013، تعود الى 1976، غداة 4 أعوام على إنشائه. وحين إنشائه، يقول الوسيط، كان مؤلفاً من 3 مجمعات: المجمع المركزي وكان يعمل فيه مهندسون نازيون لاجئون الى سوريا، ويعمل في الثاني خبراء من ألمانيا الشرقية، وفي الثالث خبراء من ألمانيا الغربية. ومات الخبراء النازيون، وتبدد الألمان الشرقيون حين انهيار الجدار و»الشرق» معه. وبقي الألمان الغربيون والفرنسيون. وأنشأ الفرنسيون، في 1976، المعهد العالي للعلوم التطبيقية. واستقبلوا في مدارسهم التقنية العليا، عشرات الطلاب السوريين. ويلاحظ أحد السفراء الفرنسيين السابقين في سوريا أن استقبال بوليتكنيك ومدرسة المناجم ومدرسة الدراسات العليا التجارية طلاباً سوريين كان ليكون أمراً اعتيادياً لولا أن «رائحة فاسدة»، على قول الروائي المصري، فاحت من الاصرار الرسمي على إلحاق الطلب في دوائر بحث «حساسة»، مثل الذرة والكيمياء.

ولم يفت سفير فرنسا في دمشق (في 1993)، جان كلود كوسران، وهو مدير جهاز الاستخبارات الخارجية لاحقاً، ملاحظة عودة المتخصصين بفرنسا الى سوريا، وتوجههم الى «البحث» في برامج كيميائية وجرثومية. ونبهت سابقة تعاون صدام حسين مع بعض مختبرات الصيدلة الفرنسية الكبيرة، مثل «ميريو»، وحذو حافظ الاسد وابنه على مثال صدام، المراقبين الفرنسيين الى الاخطار المحدقة ببرامج تعاون دراسية وصناعية من هذا الصنف. وفي الاعوام 1982-1986 استوردت سوريا مواد صيدلانية قفزت نسبتها من مجمل وارداتها من 13.11 في المئة الى 23 في المئة، حين كان الانتاج الوطني يتعاظم بدوره. وانتقل مركز البحوث الى إدارة مدنية تولاها عمر أرمنازي، بعد ادارة الجنرال عادل ملحجي. وأحاط أرمنازي 4 ضباط من الرتب العالية، أحدهم «العالم» الكبير اللواء علي المملوك.

الأحد، 30 نوفمبر 2014

الإمام المهدي وعيسى بن مريم والملاحم وعملة الخلافة و"التاتوو" وعصير "بامبا": الفجائع المشرقية أمارات مخاض في الآلام والأوجاع



المستقبل، 30/11/2014

 لم تتأخر "دولة الخلافة "الاسلامية"، "على منهاج النبوة"، على ما ينبئ اختيار مدرس الدين السامرائي سابقاً لقب "أبو بكر"، الخليفة الراشد الاول بعد نبي الاسلام، عن سك عملتها على وجه الاستعجال، ذهباً وفضة ونحاساً. وصكت "الدولة" على قطع  نقودها رموزاً أو صوراً أرفقتها بشروح عليها وافية وبليغة. فنقشت على القطعة الذهبية من فئة خمسة دنانير، وهي الى اليوم القطعة الاغلى، خريطة العالم. ولا يخفى ان الخريطة، المسكونية والكروية والجامعة، صدى لصفة "العالمية" التي وصف بها بن لادن وأيمن الظواهري "جبهتهما" على اليهود والصليبيين في منتصف التسعينات، قبل قلبها "قاعدة" جهاد عام تعرِّفه البلدان أو تخصص عَرَضاً مسارحه. وهي كناية عن جمع مشارق الارض ومغاربها، وتوحيد جهاتها، وليس الاقتصار على دائرة سايكس وبيكو أو على خريطة سان ريمو، تحت الراية السوداء التي تتوسطها الشهادتان. ونقش "ديوان بيت المال"، أو وزارة المالية في رطانتنا "الاعجمية" (على معنى الكافرة في لغة القوم)، على قطعة فئة الخمسة دراهم الفضية منارة دمشق البيضاء، وهي دون فئة عشرة دراهم التي نقش الديوان عليها المسجد الاقصى. فرمز من طرف جلي الى تقدم المسجد الاقصى على منارة دمشق. وشرح بيان الديوان ما يقتضي الشرح، فقال في المنارة الدمشقية البيضاء: انها "مهبط المسيح عليه السلام وأرض الملاحم".
إحياء الكنايات
 وربما استوقفت عبارة "أرض  الملاحم" قارئها، واستوقفتها اضافتها الى المسيح، وجمع نبي وداعي الحملان والنفس الزكية، على قول الحديث الإمامي، الى الملاحم، وهي من اللحم (لحم البشر) وخرطه بالسيوف، أو بالت. إن. ت. ونثار المعادن. ولم تخفَ السؤالُ المستفهم أصحابَ دار السكة الجديدة. فبعد تسميتهم الرمز المستخدم، وهو المنارة، وشرح الدلالة، مهبط المسيح...، أخرجوا الدليل :" عن النَّواس بن سمعان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا بعث الله المسيح بن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، بين مهرودتين، واضعاً فيه على أجنحة مَلَكين، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ". وألحقوا بـ"الحديث" سنده الصحيح: "من حديث رواه مسلم" (ولم يروه أحد غيره؟ لا أحمد ولا البخاري؟ على ما جاء في إخراج "الدلالات" الاخرى؟) والإلماح الخاطف الى مبعث المسيح بن مريم يكني عن وقت او ميقات "الملاحم" التي تسبق مجيء المهدي أو فرجه وخروجه، وهي حروب... ملحمية، تسفك فيها الدماء الى الركب، على قول القصص الشعبي البطولي، وتعلو الجماجمُ والرؤوس المقطوعة "جبالاً" عظيمة. فالكمّ في هذا المعرض آية عظمى من آيات السلطان والوطأة، على ما نبه إلياس كانيتي. ولا يكذبه اليوم لا جحافل أبو بكر البغدادي ولا قوات الدفاع الوطني الاسدي وصحافتها البذيئة. وأهل الكوفة (الشيعة)، وهم يحسبون ان لمدينتهم سهماً في خاتمة الزمان وملاحمها، على شاكلة أهل الحجاز وأهل الشام وبيت المقدس والعراق والطالقان وخراسان، يروون (يروي بعض إخبارييهم) أن من آيات آخر الزمان ومجيء المهدي، معاً، "حصار الكوفة بالرصد والخندق، وتخزيق الزوايا في سكك الكوفة، وتعطيل المساجد أربعين ليلة... ويسبى من الكوفة سبعون ألف بكر... وتقبل رايات من شرقي الارض غير مُعْلَمة (...) يسوقها رجل من آل محمد عليه السلام (...) يسير الرعب أمامها شهراً حتى ينزلوا الكوفة مطالبين بدماء آبائهم (ويبنى للقائم) في ظهر مسجد الكوفة مسجد له ألف باب...".
 وما يبدو مستغلقاً في الاخبار المهدوية والاخروية الخلاصية هو جزء من تضمينات وكنايات تراثية يعتني رواتها المعاصرون عناية خاصة وشديدة بحفظها وإحيائها. فهي قوام هويتهم وملجأها وحرزها، وهي مصطلح لغتهم التي يتداولونها ويتحصنون بها وتميزهم من غيرهم. وما يحرص الرواة على بقائه وفهمه من الاخبار والروايات والقصص هو دلالتها على قرابتهم، هم وحركتهم وأفعالهم وفظاعاتهم أو "روائعهم"، بولادة عالم جديد يبعث معالم المبعث النبوي، ولو على "منهاج النبوة" المفترض والمتخيل على وجه العود على بدء. وتصوِّر الاخبارُ والروايات الولادة المفترضة في صور آلام وانتهاكات ودمار ورهبة عظيمة ولا حد لها. فالحادثة المتوقعة والمنتظرة قطيعة (إلهية) ووجه من وجوه وطأة الخلق والخروج من العدم والاباحة، والدخول في حدود الامر والنهي وقيودهما الثقيلة. وتشترك "الجماعتان"، وهما اثنتان تمثيلاً، السنية والشيعية في هذا التراث، على نحوين مختلفين بعض الاختلاف، وعلى الاخص في معاني آلام الحمل والوضع والولادة وأهوالها وملاحمها.
والأثر أو القصص الكوفي يحصي معظم المعاني التي تتداولها الجماعتان: الحصار، وهدم المساجد، وتعطيل العبادات، وسبي النساء، والقتل الذريع، والثارات، والزحف الهائل، والرايات والعلامات الملتبسة، والقيادات المحمدية النبوية. وتحتمل هذه المعاني التأويل على أوجه لا حصر لها، والحملَ على حوادث ومواد عينية متجددة. فالحصار صليبي وأميركي (ويغلَّب بروتستانتياً، على قول "مفكر" تقدمي وماروني لبناني) ويهودي اسرائيلي، ولا يبعد انقلابه "وهابياً" من وجه، وإيرانياً "رافضياً" و"نصيرياً" استطراداً، من وجه آخر. وهو قد يمثل في زي عقوبات مالية وتجارية تسد مجاري عوائد النفط، وتشدد الرقابة على التحويلات المصرفية وسداد أثمان السلع المحظورة والمهربة، والمتوقعة من صفقات مثلثة أو مربعة القعر أو الوسائط. وقد يمثل في حلة أساطيل تمخر المحيطات والبحار والخلجان، وتحيط بالسواحل، وتحول دون قطع النفط والخامات الحيوية. والغارات الجوية التي تتعقب قوافل المقاتلة، وتدمر مخازن نظيرتهم، وتغتال قادتهم المؤتمرين في بيوت الناس المغتصبة، وتعسر مواصلاتهم، وتضعضع جبهاتهم وخطوطهم، هي ضرب من ضروب الحصار. ومن ضروبه كذلك تجهيز السيارات المفخخة، وندب "قنابل بشرية"، على ما يسمي الاوروبيون "الانتحاريين" (و) "الاستشهاديين" معاً، الى قيادتها وتفجيرها حيث يزاول الناس عمل يومهم وليلتهم. وقطع الكهرباء والماء والمازوت والدواء والدقيق عن القرى والمدن، حصار. وأخيراً، وليس آخراً، قصف أحياء السكن بالبراميل، وإرفاق البراميل بخزانات الوقود، حصار. ومثله نصب 46 حاجز تفتيش "أمنياً" على طريق أو شارع يبلغ طوله مئات الامتار.
 وما قد يراه رأي عام أو متوسط (على شاكلة متوسطات استطلاعات الرأي وفئاتها) عصريُّ وبعيدٌ من الانتظار الخلاصي، تغلب عليه صبغة ليبرالية وإنسانوية تقدم الحق في الحياة العارية على المعايير الاخرى، غلواً في القسوة، وبهيمية ("لا إنسانية") فاحشة، يراه الخلاصيون، حزب اللهيين (أو عصائبيين أو فضليين أو بدريين) أو داعشيين، من علامات الوعد بالخلاص وأشراط إنجازه. فعلى ما تقدم القول، العِظَمُ العددي والكمي، والارقام الفلكية شأن السبعين ألف بكر السبايا والمئة وثلاثين ألفاً القتلى من آل هاشم جزاء اضطهادهم وهم آل بيت النبي وعترته (في الأثر الإمامي)، قرينة على "اختلال الزمان" (عبد الرحمن الجبرتي المصري في غزو "الفرنسيس" مصر المملوكية) وعلامة لا تخطئ على عصر "الملاحم". واللغة التي يتكلمها أهل هذا العصر وأصحابه المسلمون أو الاسلاميون، على فِرقهم وجماعاتهم المتحاربة أو المتآخية والمتحالفة، هي لغة مجازية تغلب عليها الاستعارات والكنايات، ولا تسمي "الاشياء" بأسمائها. وبينها (أي الكلمات) وبين "أشيائها" أو معانيها التي يقصد قولها أصحاب اللغة الملحمية والخلاصية ركام لا يحصى من التوريات والمضمرات المُودَعة آلاف الاحاديث والآثار والاخبار المجتمعة من جهات العالم (الاسلامي) وفرقه ووقائعه وحوادثه العصية على الجمع وبالأحرى على الضبط.
محنة و"تاتوو"
 وما يحسبه الفهم أو الذهن العصري والزمني النثري أعمالاً غيبية تنتسب الى تجربة سحرية أو "شعرية"، وعالم غير العالم المشترك والمألوف، يدرجها أصحابها ومعتقدوها في ثنايا عالمهم اليومي وحوادثه المعتادة. ولا يخلو الادراج هذا من منطق، أي من وظيفة وعمل، يخاطب به من يحسبون أنفسهم أهل ابتلاء ومِحن بعضهم بعضاً. ويروي صحافي في صحيفة حرسية، "خامنئية – أسدية"، تصدر في بيروت أن "الحديث عاد في البيئة الشيعية عن ظهور الامام المهدي الى الواجهة" (محمد محسن: "313" الموصل و"313" بيروت – روايات عن ظهور المخلص، الاخبار، 28/10/2014). وآية هذا "الظهور"، أو تواتر تداول بعض العلامات على ما يريد الصحافي القول، هي رواج الرقم 313 ("عدد قادة جيش المهدي حين ظهوره") في بعض وسائط التواصل الاجتماعي، ووشمه على معاصم "ناشطين" حزبيين أو مناصرين للجماعة الشيعية المسلحة "تاتوو"، على ما يكتب متفرنجاً وعصرياً صاحب الخبر، أو "قرب صدر" ناشطات، على ما يلمح خَفِراً وحيياً. وعلى مثال الرايات غير المُعْلَمة والمقبلة من شرق الارض بين يدي رجل من آل محمد، تشتبه دلالة الوشم: فالرقم "بات... اسماً تجارياً لأكثر من متجر وحملة حج وزيارة"، من وجه، وهو قد يكون "تبركاً"، من وجه آخر.
 ويحضر الرقمُ واقعةً تتصل بـ"جيش المهدي" المفترض، ويرويها "المحقق" الراوي، على صورة الغياب وفيها – على ما شاعت العبارة قبل وفاة الشاعر الفلسطيني محمود درويش ثم بعد وفاته، ورُفعت علماً باهراً على طباق لا يصح إلا ان يكون شعرياً، على ما يفهم صحافيون معاصرون وناشطون الشعر. يكتب صاحب الخبر ان احد مقاتلي الجماعة المسلحة في سوريا، ويدعى (يلقب) "أبو علي الحر"، حاور "في إحدى المعارك" زملاءه ورجاهم "باستحياء أن يضعوه على قائمة أسماء (بعض من استشهدوا)". وختم المقاتل الذي سقط في احد اشتباكات القلمون "المقطعَ المعروض على (يوتيوب)، بعد استشهاده، قائلاً بمنسوب أعلى من الحزن (دخيلك يا صاحب الزمان. الوضع معش يتحمل)". وربما تعني العبارة الحزينة في سياقة المقال ووقائعه وخطابته، ان المقاتل الحزبي والعالي الرتبة بين أقرانه يرجو ان يكون في عداد الـ313 العتيدين والقادة في "جيش المهدي" المنتظر أو شعبته اللبنانية. فهو يكلم "صاحب الزمان"، ويناشده قبول دخالته وإجارته (حق الجوار أو الحماية)، ويبثه شكواه وطأةَ الحال الثقيلة وإعياءها الصبر والاحتمال. وبين الوسم التجاري الاعلاني و"التاتوو" قرب "الصدر" الانثوي وبين استحقاق الاحصاء في زمرة نخبة المقاتلين ومقدمة الجيوش الزاحفة من مشارق الارض ومغاربها وراء الرايات الخفاقة، يلم "الانتظار" المهدوي بالملاحم السورية والمشرقية عموماً- وبشروط الانتصار فيها مثل إيجاب "طاعة الولي" (الفقيه والمقاتل) إضعافاً للسفياني وذم الانتظار السلبي" الذي أسقط الموصل بأيدي "الدولة"- إلمامه بالحياة اليومية وشجونها وبشؤونها العصرية والسلعية الاستهلاكية.
 ويصف هذا الخليط المضطرب والرجراج من العلامات والاقوال والاعمال والمعاني حال شطر من الاماميين الاثني عشريين المنكفئين على عالم صغير وضيق حشروا انفسهم داخل "ملايين جدران(ـه)"، على قول الشاعر السوري. واحتسبوا عدد الجدران، على شاكلة عشرات الالاف من القتلى والسبايا الأبكار، مكانة عظيمة، وأقداراً استثنائية وخارقة. وامتحنت العالمَ المنكفئ والمتقوقع على قصصه وعلاماته حوادث ضئيلة، قياساً على "الملاحم" المشرقية القريبة والمعاصرة وعلى "وعود" الروايات والآثار المتداولة – هي العمليات الانتحارية، قلب الضواحي جنوب بيروت (المختصرة في اسم علم : "الضاحية")، وأعدتها وحرَّكتها "كتائب عبدالله عزام" من فروع "جبهة النصرة" وروافدها اللبنانية الصيداوية والفلسطينية، وتخللتها اغتيالات تولاها جهاز اسرائيلي على الارجح-. فلاحت في جنبات الجزيرة المنكفئة، وفي نفوس سكانها المحشورين فيها، علامات الحصار وأماراته المخيفة والمروعة. فرفعوا أكياس الرمل والبراميل المعدنية والمعبأة حجارة أو اسمنتاً على أبواب محالهم، وشرفات منازلهم، وأبواب سككهم. وأقاموا الحرس المسلح على مداخل مدينتهم أو "عاصمتهم" وأبوابها الـ39. فاعتلى المسلحون الحزب اللهيون مرتفعاً حصيناً وراء أكياس الرمل على مثال أمني اسرائيلي، على بعد مترين تقريباً من نقطة تفتيش قوى الامن اللبنانية الرسمية، وسلطوا على السيارات الكثيرة والمتشابهة مراقبة شديدة لم تنفع كثيراً. وحين اختبرت في العشرة الأُوَل من محرم، مرت 4 سيارات حاكت التفخيخ، ولم ترصد إلا السيارة الخامسة، على رواية احد السكان المنفيين. وعظَّم الهلعَ في النفوس والاجساد توهمُ مناعة وحصانة دأبَ نهج سياسي ودعوي اعلامي ملح على تمكينه من عقول الاهالي وصدورهم. وأوكل ضباط ومعممون محليون وإيرانيون الى هذا النهج الجمع بين إيلام الشعور الممض بالاستضعاف والضآلة والحصار وبين زهو الاصطفاء والإمامة الموعودة والغلبة على "حزب الشيطان" وجبروته وطاغوته. ولا ريب في ان تشييع قرابة 500 مقاتل قضوا بين الجولان و جوبر ومقام السيدة زينب وبين الزهراء ونبّل، مسح الخوف بمسحة العدم.
 فائتلف من هذه، ومن مزيجها المتنافر والمضبوط، تخييل جامع في ميادين متفرقة تُلمّ بوجوه العبادات والمعاملات. وشبَّه التخييل على مراقبين خائفين، فيهم بعض الزملاء الاصدقاء في "نوافذ"، قوةً وسلطاناً "اسبارطيين" (دام النظام الاسبارطي المتشدد 6 قرون تامة). وعادت الذاكرة ببعض اصحابنا الى دورة الالعاب المتوسطية في 1989 أو 1990، باللاذقية؛ ويومها خلص لبنانيون خارجون من ابتلاء الحروب الملبننة المديدة، بهرهم أداء الفرسان السوريين، الى ان هذه الاداء هو مرآة "دولة – شعب" لا يفل حديدها، لا في العاجل ولا في الآجل. وسبق الالعاب المتوسطية بخمسة عقود احتقال الحزب القومي – الاشتراكي (الاجتماعي في ترجمة انطون سعادة)، النازي، بمؤتمره بميونيخ، في 1937. ولا يحصى عدد الكتاب العرب المعاصرين الذين خلبتهم اضواء المؤتمر ودقة تنظيمه وجلالة الالوية السود فوق مربعات الحشود الرومانية. ولا ترمي المقارنة السطحية بين الحشد الكربلائي العريض وبين ألعاب الفروسية السورية إلا الى التنبيه على تعمد كتلتين حاكمتين مركزيتين ومتسلطتين سوق رعيتيهما الخائفتين، والمنكفئتين على عالمين ضيقين وأسطوريين يتماسكان ما أقاما على ضيقهما وانكفائهما، و(الى التنبيه) على صرف عملة الجموع والحشود المرصوصة المنظمة، والمستميتة في الطاعة، يقيناً بالقوة والدوام، وبالعدالة والحقيقة، وكأن الوجهين صنوان أو كأنهما واحد.
الحرب الفاصلة... نهاية الغمة
 والحق أن الانتظار الخلاصي والمهدوي لا يُصَدَّق، ولا يلقى قبولاً أو يقر على شعيرة مشهودة ومقنعة، إذا لم يصحبه جمهور وفير وكبير من الناس المؤمنين. فبين الانتظار المهدوي وبين التعبئة العسكرية والجماهيرية قرابة قوية. وتصوير الايمان الخلاصي على صورة الشعور الوجداني والأثيري، أو اللوعة الحرى والمتظلمة، يستبق عمداً الرعب الذي يلقيه العنف المضطرم في صدور "المهدويين"، جمهوراً و"ضباطاً" قادةً وجنرالات، وهو يؤذن بالملاحم و"طوفان الدم الى الركب". فالرايات (علامة العلامات) والجيش (على المعنى الاشتقاقي: من جيشان السيول والأعاصير وقطعان الإبل الراغية) وجهة الشرق و(طلوع الشمس على "الارض" قبل اختطاط العمران الحدودَ والاصطلاح عليها) وتضييع الأنساب والهويات والأسماء واشتباه علامات الذكورة والانوثة (وسَبي الأبكار علامة هذين)، الى قرائن أخرى تكثّرها الآثار لا الى حد، لا تستقيم دلالتها الأخروية على نهاية "الزمان" أو صرمه إلا إذا حضرت الجماعة "كلها"، وانعقدت هيئاتها على نصاب موصوف. وهذا الشرط لازمٌ ولا غنى عنه، ولو على وجه الكناية: فيقوم عدد الحاضرين "المليوني"، على وصف أثير على قلوب الخمينيين الحرسيين ولا غنى للملاحم "الاسلامية" عنه، مقام "الناس" كلهم، و"حبات رملهم". وأرتال السيارات والشاحنات التي تغمط عدساتُ التصوير الداعشية أواخرَها، وتعمّي على مَسْربها أو مهربها في مؤخَّر الصور، هي صيغة طولية يضرب آخرها المفترض في غيب بعيد وغير مرئي، للحشد المليوني.
 فانقلاب الزمان (والمهدي عامل هذا الانقلاب) قبيل قيام الساعة ويوم الحساب والدين إنما يمهد لمصالحة الانسانية نفسها، وحضورها كلاً وجميعاً هذه النفسَ المجتمعة والمتآلفة. ويقتضي هذا انقسام الانسانية حزبين أو إنسانيتين: واحدة إلهية وأخرى شيطانية. وقد تخالف القسمة محلَ أو دور يوم الحساب والدين، واضطلاعَ ديَّان عادل وحده بالحساب، انتخاباً وخلاصاً أو إعداماً وهلاكاً. والمخالَفةُ هذه، والمخالفة عموماً المنطق المتماسك والنهاري، لا تؤرق المخيلة الخلاصية والأخروية على نحو ما انها لا تؤرق مخيلة الخلق والإنشاء والتكوين. فهي تأتلف من معانٍ صادرة عن نزعات متفرقة وسياقات وملابسات مختلفة، وتستجيب احتياجات قد لا يجمع بينها معيار مشترك. واضطلاع ديَّان أو ديّانين كثر بالحساب الاخير قبل يوم الحساب وانصرام الزمن يترتب على استعجال استيفاء الدَّيْن (دَيْن المظلومين وأهل الضعف على الظَّلَمة من أهل القوة والسلطان) في الحياة الدنيا ومن طريق حرب أهلية تكاد تكون عائلية في بعض عباراتها (الحسينيون في مقابلة اليزيديين).
 ولكنه، من وجه آخر، يترتب على إرادة تجييش وتعبئة عامة لا تقتصر مواردها وعواملها على معيار أو ميزان قانوني كفائي، على معنى الفرض الكفائي أو فرض الكفاية في فتوى القتال، بل تقصد الإحاطة من غير قيد بالجماعة والأفراد، عيناً عيناً. ونقل الدينونة، على ما لا يقول المسلمون عموماً، الى مسارح الحياة الدنيا ومرابعها يستدرج الى تحكيم السياسة وأهل الرئاسات والأسلاك في هيئات الدينونة ومسالكها، ويوظف انفعالات "يوم" الحشر الجياشة في مواقع القتل والقتال العسيرة والمُغمة. فتوحيد الدين والدنيا، والفسطاطان وأهل المذهبين يجمعان على وجوبه، لا يبلغ ذروته الصوفية الحلولية على النحو الذي يبلغه في "التجربة" المهدوية الأخروية. وتنير مقومات ترقب خروج المهدي، والإيقان بوشكه، نهجاً سياسياً تُشاهد اليوم بعض فصوله على الجبهات المشرقية المشتعلة. والنهج يشير على "الأمراء" بأنجع السبل الى استدراج الاحوال المهدوية وانفعالاتها الجياشة والمضطرمة. والشرط الضروري هو انفجار حرب عظيمة. ويستحسن أن تكون أهلية وأخوية وأن تستقبل ترجمة الأعداء الشياطين (الدول الكبرى) الى جماعات أهلية وأخوية. فالدم الذي يحل سفحه وسفكه بلا حساب، ويصلح حجةً على طلب مرضاة "رب الناس" وحده، وعلى التزام أوامر الشارع (صاحب الشرع) ونواهيه، إنما هو من غير شبهة ولا تلبيس دم أخوة الرحم الأشقاء - على ما رأى الجاحظ، صاحب "البيان والتبيين"، في ضوء القرنين المنصرمين يومها من حروب المسلمين وضوء حرب الأخوين الأمين والمأمون (ابني هارون الرشيد وحفيدي محمد المهدي!).
والمثل الايراني الخميني، في هذا المعرض، يكاد يكون مدرسياً أو "كلاسيكياً". فمبادرة صدام حسين الى شن قادسيته على مجوس العصر، كما سمى نظام الضفة الشرقية في خليج العجم ومعمميه، وقعت على رأس النظام وقع "المفاجأة الربانية". فرد بحرب امتحنت الايرانيين في حياتهم وشبابهم واقتصادهم، امتحاناً قاسياً، ووالت عليهم المحن والابتلاء والغمة التي لم يتردد آيات الله وحجج الاسلام المعممون في وصفها بـ"الحسينية". وخلفت فيما خلفت اعتقاد ان "كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء". وغداة نحو 30 سنة على اندلاع الحرب التي قتلت نحو ثلاثة أرباع المليون قتيل تذكر محسن رفيق دوست، أحد أوائل الحرسيين الاسلاميين وأشرفهم رتبة، تلك الأيام فقال انها كانت "مظلمة". ولا ريب أنه أراد أو عنى "منسوب" ظلمات، على قول صحافي الارصاد الجوية الملحمية، عالياً. فاستعان الايرانيون، مراجعَ بطهران وقم ومشهد ومقاتلة في أوحال الاهواز وأهوار السبخات حول البصرة، على ابتلاء سعى فيه بعضهم مصمماً ومتصوراً، بظهورات ورؤى مهدوية زكاها المراجع والحجج والطلبة، ورعوا انتشارها وحرصوا عليه. فورث الايرانيون من أعوام الملاحم هذه نحو 3 آلاف "مهدي"، على تقدير مهدي غفاري، يقبعون في السجون (عن مقالة في "الايكونوميست" لخصها عبد الإله مجيد، موقع إيلاف، 27/4/2013). وعلى وجه الدقة يقبع بعضهم، من العوام وأهل الضعف، في السجون. فبعض آخر، وعلى رأسهم محمود أحمدي نجاد، تربع أقل من العقد بسنتين في قمة السلطة الجمهورية. وكان بعض ثالث، مثل آية الله بروجردي، لأقام 11 سنة في السجن جزاء دعواه المهدوية لولا ظهوره على شاشة التلفزيون وإقراره بأنه ليس المهدي المنتظر ولا صاحب الزمان.
 ومنذ 28 يناير (كانون الثاني) 2011 المصري، ومعركة الجمل في ميدان التحرير القاهري، تخيم على الحركة الإخوانية بمصر أطياف ملاحم "العصر" أو "الساعة". وبعد التمهيد ربما التلقائي وغير المتعمد والمشترك لهذا الضرب من الاطياف، في الميدان ثم في محمد محمود والمتحف وماسبيرو وبورسعيد والاتحادية والمقطم، توج اعتصام ساحة رابعة العدوية ومدينة نصر، وفضه "الملحمي"، على معنى تقدم شرحه، مراحل الطريق الى الرؤيا. وأريد للرؤيا ان تمثل على انقلاب الزمن وعلاماته. وتواطأ على هذه الارادة العدوّان أو الحزبان. وهذه المواطأة معهودة في القسمة المهدوية، المزدوجة على الدوام، وآيتها اليوم رفعُ المصافح على العصي. ولا يقتصر التتويج على جملة الحوادث المصرية التي ضلع فيها الإخوانيون. فأحد الكتاب الباحثين الفرنسيين، جان - بيير فيليو، أحصى في كتابه قيام الساعة في الاسلام (2008، دار فايار بباريس) بين 1984 و2006، سنة كتابته عمله، 171 كتاباً، بعضها نشرات وبيانات واسعة، تناولت مسألة ظهور المهدي في البلدان العربية. وفوق الـ70 في المئة من هذه الكتب طبع بين 2001 و2006. والأرجح أن الغزو الاميركي الغربي للعراق، بعد مهاجمة البرجين التوأمين بنيويورك، كان باعثاً على تناول الموضوع. فتجاوبت "المسيحانية" المحلية و"المهدوية" الانجيلية اليهودية - المسيحية الاميركية. وحملُ الحرب الاميركية، وحرب "القاعدة" على الولايات المتحدة، على ياجوج وماجوج وهارمجدون من أعراض التجاوب هذا.
 ويعود استئناف المقالات المهدوية، وصوغها صوغاً جديداً يحتسب عناصر توراتية ورؤيوية (من سفر الرؤيا الاخروية المنسوبة الى يوحنا الرسول) الى عناصر "معاصرة" مثل الأطباق الطائرة ومثلث برمودا، الى تعاقب 4 حوادث متماسكة هي استيلاء روح الله خميني على الحكم بإيران في أوائل 1979، وهجوم جهيمان العتيبي على الحرم المكي، في منتصف العام نفسه، واندلاع الحرب العراقية - الايرانية في خريف 1980 واغتيال الجماعة الاسلامية الرئيس المصري أنور السادات في خريف 1981. فلما هاجم جنود أسامة بن لادن المعقلين الاميركيين، العلامة الاقتصادية بنيويورك والبنتاغون بواشنطن، امتلأت رسوم الانتظار الاخروي الاسلامية بـ"وقائع" ملحمية شاهدة نفخت فيها، وجددتها، وألَّفت بينها وبين روافد كثيرة قديمة ووسيطة ومعاصرة. ولاحت في أفق الحوادث والوقائع الداهمة موقعة فاصلة، هارمجدونية، بين الشر والخير، أو بين المسيح الدجال والمهدي. وصورت الحرب العراقية الموقعة على صورة العلامة. واستأنفت الحروب المتناسلة مذ ذاك، وابتلاؤها وغمتها ومحنها، الحرب الاخيرة.

السبت، 15 نوفمبر 2014

"التنوير" وملابساته في مرآة تاريخ هانز بلومينبيرغ...الارادة السياسية القاصرة والبنيان الفكري الضروري


 المستقبل 16/11/2014

  في كتابات ومقالات "تنويرية" عربية كثيرة، يبدو التنوير أمراً يسيراً وفي متناول من أراده أو عزم عليه وعقد النية. وحكمه أشبه بحكم الفقه (الاسلامي) في اعمال تقتضي صحتها، من جهة الفقه، الجهر بها قولاً واضحاً ومسموعاً، ولو اقتصر السمع على صاحب القول او القائل. وهذا يسمع نفسه ليس بأذنه أو منها بل بحنجرته (أو من حنجرته)، على قول روائي وناقد فرنسي معروف. وفي هذه الاحوال، ومنها الاستخارة و عقد العقود ("قل قبلت"، على ما يلقن وسيط العقد المتعاقدَ أو وكيلَ المتعاقدة)، القول هو شطر من الفعل أو هو بعض الفعل وشرط من شروط انجازه. وعليه، فالتنوير أو تحكيم النفس الراشدة والعاقلة في أحوالها، وفي احكام عملها ومعتقداتها ونظرها واجتماعها الى غيرها، هو عزيمة من العزائم تصدر عن النفس المستنيرة والمنقلبة من حال التسليم والتقليد، من غير فحص ولا تدبر، الى حال النظر الفاحص والمهتدي بـ"نور" العقل وحده. وإذا سرى الانقلاب هذا في النفوس عمَّ العقلُ، أو عمت الانوار القوم أو الجماعة أو الحاكم، ونهضوا الى صناعة التاريخ، وهو فتوحات وسلطان وعلم وعدل وشريعة وجباية، كما هو معلوم ومشهود لدى أي نفر حرسي خميني أو لدى أي قاعدي داعشي أو نصرتي. ولا يزال "النور الذي يُقذف في القلب" علماً لفظياً وخطابياً على سيرورة التنوير في معظم كتابات القوم النهضوية والمجددة والحداثوية والتأصيلية.
الطعن والإحياء
 وبعض الكتابات المتأخرة (وقتاً) ينتخب مثالاً فكرياً وتاريخياً وسياسياً "عصر الانوار" الفرنسي. فهو يبدو أقرب تناولاً من المركب الفلسفي والعلمي العسير الذي يبتدئ ، على اشتباه وتعسف، بديكارت الفرنسي و"الديكارتيين" (سبينوزا ولايبنيتز) وكبار علماء الفلك الرياضيين، ولا ينتهي بكانط، صاحب "نظرية السماء" قبل التصدي لرسم حدود العقل النظري (العلمي) والعقل العملي (الاخلاقي) ومَلَكة الاقضية أو أحكام الذوق (والحُسْن أو الاستحسان الجمالي والقيمي اليومي). ويبدو المثال التنويري الفرنسي مباشراً ومفهوماً وعملياً. وهو يماشي المثال السياسي الحركي، على النحو الذي استقر عليه منذ غداة الحرب العالمية الاولى، ومباشرة إنشاء الاحزاب والجمعيات الثقافية والدعوية الدينية "الحديثة". واضطلعت النماذج الفاشية والشيوعية السوفياتية- في اعقاب غلبة نموذج الجمعيات السرية، الكاربونارية (مثل جمعية غاريبالدي) والعسكرية الانقلابية والماسونية- بدور مباشر في تغليب الهيكل التنظيمي الارادي والايديولوجية التعليلية والحتمية على الإنشاء الحزبي والجمعي. وساوت هذه النماذج الفعل أو الصنيع التاريخي الكبير والثوري باجتماع الروافد الصغيرة والمتواضعة، و"الوحدات" الفردية، في النهر العظيم. والمساواةُ هذه، وحملُها الفعل التاريخي على مصادره الفردية أو الذرارية وتعليلها المبادرة والارادة الفرديتين والجماعيتين بالصدور عن تاريخ كامن صامت وجوهري قبل انفجاره البركاني، هي (المساواة) ركن الايديولوجية، على معناها المعاصر و"الغربي" الذي لا يقتصر على "الفكروية" العمومية ولا على "الادلوجة" المفردة.
 و"علم" التاريخ المزعوم، في صيغه الادبية والخطابية سوَّغ إغفال عوامل راجحة في إلقاء أسس عالم التنوير المفترض، أو عالم "الازمنة الحديثة" الاوروبية (والى اليوم، الازمنة الحديثة اوروبية أو متأوربة). فالأفكار أو المثالات والقيم التي تُحمل على التنوير، مثل الصدور (التاريخي) عن إيجاب نفسي ذاتي وإرادي حر، أو مثل تأويل الوقائع والانيات الطبيعية والإنسية من غير العود بها على اسباب أو علل خفية ومفارقة، هذه الافكار والمثالات والقيم تلابس من غير انفصال فبركة أو صنع العالم (عوالم) التاريخي والاجتماعي الانساني، المعنوي والمادي، كلاً وجميعاً. فلولا إيذان المجتمعات بصناعة عوالمها، أو أجزاء من عوالمها، واصطناعها أجزاءها من ألفها الى يائها تقريباً، لما قدر لـ"فكرة" الصدور عن النفس والقيام بها في دائرة التاريخ والاجتماع، أو في المجال السياسي، أن تولد وتتماسك وتعم، تحت اسم الديموقراطية، المجتمعات كلها. وحين يطعن المحافظون و"الرجعيون" وبعض "اليمينييين" في الديموقراطية وأنظمتها المتفرقة يلازم مطاعنهم غالباً نازع الى إحياء أو بعث العالم اللاهوتي، وترتيبه الهرمي المتسلسل والمتصل من أعلى عليين الى اسفل سافلين. ولعل التلازم هذا أثر من آثار ولادة "الازمنة الحديثة" العتيدة، من قيام أصحابها وأهلها، نخباً وعوام، على النظام القديم وطبقاته ومباني علاقاته ومعتقداته، والنقض عليه وهدمه، وصوغ مشروعية جديدة منقطعة من المشروعية السابقة ومستقلة بمعاييرها، على ما ذهب اليه هانز بلومينبيرغ (عطفاً على مقال سابق في عمل بلومينبيرغ، المستقبل- نوافذ، 17/2/2013).
 وهذه الولادة، على هذا النحو، لم تضطر اليها معظم المجتمعات غير الاوروبية، ولم تكابدها أو تعانِها. والقول أن هذه الحال لا تخولها التصدي لطلب الديموقراطية أو إعمالها في أنظمتها يجافي الاصل الديموقراطي، وعموميته الجامعة والجوهرية، ونازعه الكلي الى المساواة العامة بين الافراد من غير استثناء. وليس معنى مجافاة الاصل الديموقراطي الوقوع في الخطأ حكماً، ومجانبة الصواب حتماً، على ما يحسب ربما الديموقراطيون. فالديموقراطية، على وجه "صورة حياة"  أو "نحوِ حياة" وليس وجه نظام حكومة وحسب، لا تنشأ عن العقل والعلم أو المعرفة، على رغم إعمالها معاني أو دلالات تحتج بالعمومية العقلية وترتيباتها، أو بالحق الطبيعي ومترتباته. وملابسة الديموقراطية مجتمعات متفرقة، ولا حدَّ يحصر تفرقها أو يحصيه، تحملها أي تحمل "عمالها" على ابتكار أسئلة وأجوبة متجددة، ولا مثال سابقاً أو ثابتاً تجرب عليه، فيوضع عليه علم علمي، إذا جاز القول. فهل تضطر هذه الحال "عمال" الديموقراطية، أو أصحاب إعمالها من غير تخصيص ولا تخصص، الى الاكتفاء بالعزائم والنيات أو بالإرادة، على ما مر القول في مطلع المقالة، دليلاً او مَعْلَماً؟ وما محل "التنوير" من السعي في "صورة الحياة" الديموقراطية؟
ما لا نهاية له
والحق أن المسألة الاولى تتخطى دائرة هذه العجالة. وأما السؤال الثاني فينبه على اشتراك طلاب الديموقراطية في معايير أو أحكام عمل متضافرة، لا غنى لطلابها عن الاشتراك فيها إذا قصدوا بلورة "الصورة" التي ينشدونها، وتداولها في معاملاتهم وآرائهم. وقد تفوق حصة المضمر من المعايير وأحكام العمل حصة المعلن. وفي هذه المضمر أفكار أو أحكام موروثة من "التنوير" أو تحدرت من عمله المديد والمعقد في المعاني الاجتماعية – التاريخية، وفي أنظمة العلاقات والمعاملات. فلا تنفك الافكار والاحكام الموروثة هذه من إيجاب زمن تاريخي مشرَّع ومرسل لا ينتهي الى حد أو نهاية، على خلاف الزمن الذي يفترضه مثال "الازمنة" والمواقيت الموقتة على ظهورات وساعات وعلامات وغيبات ودورات وقرانات. وزمن التقدم وآفاقه وآجاله المتجددة، على خلاف أزمنة التبدد والدروس والاشتباه، لا يعقل تمامه، ولا يسبر غوره. فهو، والحرية والارادة والرغبة، لا يحاط به (وبها). ودعا الفرق بين فكرة ما لا نهاية له وبين اقتصار الفعل البشري وزمن البشر على المحصور والمحدود بحد الى الاستدلال على حقيقة ما لا طاقة للبشر من تلقاء أنفسهم على إيجابه، وهو الواجب الوجود نفسه، على قول المتكلمين. وحل الدليل الوجودي هذا، وقوامه استحالة ايجاب من يحصره حد ما لا حد ولا نهاية له، لولا حقيقة غير المحدود، محل دليل المحرك الاول، ومبناه على استحالة المرور وتداعي العلل والاسباب لا إلى غاية ونهاية أو الى "محرك" أول لا يتحرك.
 وعلى رغم سبق الدليل الوجودي، وإعماله (فكرة) ما لا نهاية له في الاستدلال، الإعمالَ العلمي أو الفيزيائي للفكرة وصوغَها على نحو يتفق وشرائط هذا الإعمال – لم تدخل الفكرة التداولَ العام، ولم تضطلع بدور في المحاورات الفكرية والثقافية التي تجمع في باب "التنوير"، إلا من طريق المباحث العلمية الفيزيائية والميكانيكية. ولم يفت مؤرخي العلوم والفكر الذي يستهلم العلوم أركانه وأصوله الانقلابَ الذي أعقبَ بلورة ما لا نهاية له وإعماله في التعليل الفيزيائي والميكانيكي للحركات، مثل كتابة تسارع حركة هوي الجسم أو سقوطه، أو مثل قانون أو مبدأ مضي الجسم على حركته الاولى الى ما لا نهاية ما لم يطرأ احتكاك يعاند الحركة ويبددها ويوقف الجسم المتحرك. وقد يكون كتاب هانز بلومينبيرغ "مشروعية الازمنة الحديثة"، وهو كتب على خمس مراحل (في 1966 و1973 و1974 و1976 و1978)، من الاعمال القليلة التي تجمع الوجه اللاهوتي والكلامي والوجه العلمي في مركب فكري وعملي متفاعل العناصر، من غير تناغم ولا انقطاع أو انفصال. فالوجهان لا يصدران عن شيفرةٍ أُمٍّ، أو نواة كامنة ومشتركة تنطوي على احتمالات مقدَّرة، وحدود معلومة، ونقائض لا مناص منها، معاً، بل هما يتضافران على إنشاء متعرج قد يسعه إدراج بعض أوقاته وأدواره في سياقة متماسكة، وقد لا يسعه ذلك. وافتراض التماسك أولاً وابتداء، والحكم بضرورته وتلقائيته، على بعض دعاوى "التنوير" العربية، ضرب من الكسل السحري، والتعويل على عوائد ريعية تترتب على استثمار ذاتي ونفسي في العزائم والنوايا والارداة.
 فحين أثبت جيوردانو برونو (أحرقته الكنيسة في 17/2/1600) صفة ما لا نهاية له للعالم الذي وصفه المتكلمون بالمخلوق والمُحْدث، أسند صفة العالم الى صفة الخالق، والى منطق الخلق القاضي بالضرورة بمساواة الخالق بخليقته والخليقة بخالقها- وإلا أصاب النقصُ أو القصور والعجز صانع (العالم) الناقص والقاصر. وعلى هذا، "هاجرت" إحدى صفات الخالق العظمى، على قول بلومينبيرغ، الى العالم المخلوق و"توطنته"، و"صارت عالماً". ومهد الطريق الى الصيرورة هذه معضلات هزت أعماق اللاهوت المسيحي حين ميز، داخل الالوهة، بين أمرين مختلفين: الاول هو تجلي الأقنوم الثاني (أو الدين) الذي ساواه الاقنوم الاول (الاب) بنفسه وأخرجه من الزمن، والآخر هو فعل الخلق أو إحداث المحدث في وقت أو زمن. وعاد اللاهوت فأدخل، حين تناول التجسد، الابن، ومحله من الثالوث، في العالم المخلوق. فحمل مفهوم الخالق على أضداد ونقائض لا حصر لها. وحين اتصل مفهوم ما لا نهاية له بالقدرة المطلقة "امتلأ بمضمون موجب ودمر بنية الكلام الوسيط" (ص 90 من الترجمة الفرنسية). وذلك أن تجسد الابن، أي فرديته التاريخية، علامة على سعي في بلوغ مفارقة الالوهة العالمَ أو الخليقةَ، وتعاليها عنه، من طريق مفارقة الانسان التي يبلغها في المناولة ( أو تناول الذبيحة الالهية). والابن بالجسد، أي الالوهة في انسان فرد، يضمر تضمين الكينونة سيرورة إلهية متفكِّرة ومزدوجة، شأن ازدواج المتفكِّر (في موضوع). فوجدان النفس المسيحي هو الفعل الالهي في انسان فرد ودنيوي.
"كثرة العوالم"
ويلاحظ صاحب "مشروعية الازمنة الحديثة"، أن قضاة محاكمة جيوردانو برونو، وهم قضوا بحرقه في ساحة كامبو دي نيوري بروما، أهمل استجوابُهم الراهب "المارق" اعتقادَه "كثرة العوالم" غير المحصورة. وهي ثمرة فلكيات كوبيرنيك (وس) وخلعها كوكب الارض عن "عرش" الخليقة. والفلكيات الكوبيرنيكية أفضت، بعد صاحبها، الى انكار التجسد، وهو يفترض تنصيب العالم الارضي والانسي في "ذروة الخلق"، وإبطال الخلاص ودورانه على الانسان، وإسباغه النعمة على الارض. وذريعة علم الفلك الى الإبطال هي العوالم الكثيرة الى غير نهاية ولا حصر، واستحالة ترتيبها على مراتب شرف معللة. فليس، بهذه الحال، ثمة موضع أو محل يحله الخلاص الالهي ويصطفيه. فالكون هذا (الكوبيرنيكي)، استنفدت كثرته التي لا نهاية لها إطلاق الالوهة غير المقيدة ولا المحصورة. فهي "لم تستبقِ شيئاً من نفسها ولنفسها بإزاء كثرة العوالم غير المحدودة، ولم يبق ثمة ما تستدرك عليه من أي مخلوق من هذا العالم" (ص 627 من ط.ف.) وهذا الكون هو صورة الظهور، و"يكاد يشبه التجسد"، ولكنه على خلافه، لا يشترك لا في صورة الفرد الانساني، ولا في وقت "الحادثة" التاريخي. وإلغاء وهم البؤرة أو المركز من ثمرات كوبيرنيكية قاطعة. فالمكان الكوني المترتب على كثرة العوالم، متجانس وتستوي مواضعه أو "نقاطه" كلها في القيمة والمكانة. (وما يصدق في المكان لا يصدق في الزمان، وهذا الفرق يحول بين برونو ومطابقة وجدان "نفسه" فهمَ الحداثة نفسها على صورة حقبة أو زمن من الازمنة وليس على صورة ذروة أو فجر).
 ولاحظ اسحق نيوتن على مفهوم ما لا نهاية مكانية له (أو ما لا نهاية له المكاني). وكانت مقالات لايبنتز وكلارك في المكان المطلق شبهت جواز أساس ميتافيزيقي أول لمفهوم نيوتن عن المكان. وقوّى الرأي هذا ان مفهوم المكان المطلق يفتقر الى تعريف موضوعي أو كمي. فنيوتن عرف المكان المطلق حاسةً أو جارحةً إلهية. والمفهوم نتاج ثانوي أو فرعي على تعريف مبدأ مضي الجسم على حركته وقوتها ما لم تعاند القوة قوى أجسام أخرى تعترضها. وأوجب المكانَ المطلق الذي لا نهاية له الاضطرارُ الى إحلال الحركة محلاً مناسباً يتسع لها. والمحل المناسب حيز خالٍ من الاجسام المتحيزة والمعاندة، وأشبه بالفراغ والخلاء الصوفيين، على نحو ما تصورهما التصوف الوسيط. وهذه الحال بعيدة من السمو الذي تربع فيه المكان المطلق، ونسبه الى صفة من صفات الخالق. وهي قريبة من حمل المذهب الذري الابيقوري ولاهوته الآلهة على العجز. فهو أبطل جواز ترتبِ مفاعيلَ عن الفعل الالهي تتخطى الفراغ، وتمضي على التأثير. وعرَّف نيوتن المكان المطلق بـ"مدى الحضور الالهي الذي لا نهاية له". وهو ترجح بين اضطراره الى استعمال المكان المطلق في مبادئ الميكانيكا وبين استحالة وجود مطلق آخر خارج المطلق الالهي. فسعى في مخرج وسط هو الحاسة الالهية.  
  وليس تدافع حدَّي الترجح، الاضطرار العلمي والاستحالة الميتافيزيقية والمنطقية، هو ما دعا لايبنتز الى إبطال المكان المطلق، المتكافئ والمستوي، بل استحالة إعمال مبدأ العلة الوافية (التعليل) في مكان خلاء مثل هذا. فهو (أي لايبنتز) "عزَّ عليه" الصدوع بالفرق غير المعقول بين حدوث العالم – وهو حادثة درامية، وعليها مبنى الميتافيزيقيا والكلام ومسائلهما- وبين حمل الكلام والزمان على الكمية أو على الطاقة فيما بعد، وعلى حيادهما. فأوجب في الاسباب والعلل فروقاً نوعية. وصفة المرسل لا الى نهاية (صفة) إلهية ولاهوتية ترتبت على إحصاء أرسطو صفات المحرك الاول غير المتحرك في ضوء تحليل كينوني لمفهوم الزمان ودورات الأجرام وحركتها. وفكُّ المكان المطلق والزمان المطلق من العالم يفضي الى فصل المطلقَيْن، المكان والزمان، من نهاية العالم وتبدده، فهما باقيان من غير انتهاء الى أجل أو حد.
التقدم
ويصعب بل يستحيل التوفيق بين حمل الزمان والمكان على تمدد لا يحصر وبين القول بسكون العالم وإقامته على فوضى عصية على النظم والعقل أو على كمال حركة الافلاك الدورية. وارتسم "التقدم"، أو فكرته ثم مباشرته والسعي فيه، في ثنايا هذه الاستحالة. وأصابته عدوى ما لا نهاية له من طرق كثيرة، بعضها عملي "خالص" وبعضها ثقافي عام وسياسي. وكانت تصورات التقدم الاولى تقتصر على مراحل الحياة والأعمار، ونضوج التجربة في الاثناء، وبلوغ التقدم (العلمي) ختاماً متكاملاً قريباً من "تمام التاريخ"، على ما قيل بعد نحو قرنين من الزمن (مطلع القرن التاسع عشر). وسوغت فكرة ما لا نهاية له التسليم بتأخر تمام المعرفة النظرية ومترتباتها العملية. فقَرَن الفرنسي بليز باسكال، في "رسالة الفراغ" (1647)، الكناية عن مراحل الحياة بفكرته عن "الانسان الكلي" الذي يصل الاجيال والقرون بعضها ببعض، في ذات "نفس") متخيلة ومثالية واحدة. وأوكل قرانُ أدوار الحياة وأطوارها بمثال "الانسان الكلي" الانسانَ بما لا نهاية له، وأوكل ما لا نهاية له بالانسان.  
 ويقول بلومينبيرغ ان المرسَل "السيروري" هذا هو تمثيل أليم على الفرق اللازم الذي ليس في وسع الانسان الحادث، والذائق الموت، لأْمَه أو تجاوزه بين حدوثه وبين سيرورة لا حد لها. فيبلغ الانسان حقيقة قَدره غير الناجز في تاريخ يعاقب بين حيوات البشر لا إلى خاتمة معلومة. ويتردد صدى هذه المقالة في رسالة غوته الى شيلير (في 21/2/1798، على ما لا يفوت بلومينبيرغ التدقيق)، والاثنان عمدتان في التنوير أو "العقل" الالماني، إذ يكتب: "الانسانية جمعاء في مقدورها فهم الطبيعة". وحملُ معاصرهما، هيغيل، البشر وتاريخهم على سيرة ذاتية واحدة ومتصلة، سيرورية، هو من ولائد هذا النحو من النظر. ويستدرك غوته على ما كتب للتو، فينبه الى ان الانسانية "لا تجتمع أبداً"، ولا تحضر وقتاً واحداً. وأما "الطبيعة" فدأبها التخفي أو الاحتجاب عن العين والعقل البشريين. والامران، امتناع الحضور والتخفي، ينجم عنهما استحالةُ بلوغ عقلانية التاريخ المفترضة (الى) الفرد الواحد. فتدعوه حاله هذه الى كراهة محله الضئيل والعابر من سيرورة زمنية ماضية على وجهها الى حيث لا يلقى رَحْل، على ما تشاءَم فيورباخ. وخلص من تشاؤمه الى تحسين تقييد العقل بقيد ذاتي، والتحفف من رجاء تعويض ميتافيزيقي عن القصور الزمني. (ولا بأس في هذا المعرض، من المقارنة بين تأريخ بلومينبيرغ وبين تأريخ ماركسي "تنويري" يومها، في خمسينات القرن الماضي هو هنري لوفيفر الفرنسي في كتاب خص به باسكال، وانتخب مسألة الانسان النوعي مسوغاً لإقحام باسكال في سلسلة "رواد" الماركسية وممهدي الطريق الى استتباب "حقيقتها" وظهور خفاء التاريخ في مقالاتها، وفي الاحزاب و"الدول" المستنيرة بأنوار هذه المقالات. فعلى خلاف لوفيفر، المثقف الشيوعي الحزبي، وإغفاله الاضطراب و"الألم" وافتقار المقالات الباسكالية الى الركن المكين وتردد أصدائها في ذرية قلقة – ينبه بلومينبيرغ على هذه: الاضطراب و"الالم" ... وينبغي أن يردَّ هذا ماركسيين عرباً و"عضويين" عن رفع لواء الرجل).  
 وكان هوبس سباقاً الى الملاحظة أن قولنا "لا نهاية (لحال)" قد يدل على تصور نفسي مبهم، ولكنه لا يعني تصوراً عن موضوع لا نهاية له. وهذا ليس تعريفاً أو حداً لشيء. فكأننا نقول اننا لا نعرف إذا كان الشيء مقيداً بحد وأين يكون هذا الحد. وهذه المقالة، الموضوعة على ما لا نهاية له، ليست جواباً عن مسائل الفلسفة والكلام التقليدية الكبيرة. فهي أقرب الى "آلة" تتولى انتزاع نصل هذه المسائل. ولا تستتبع حملَ التاريخ على معنى، بل تنكر زعم القوة المتسلطة والقاهرة، المفترضة أو الماثلة، إضافة معنى الى التاريخ. (ويكتب صاحب "مشروعية الازمنة الحديثة" هذا وعين على النازية التي عاش 25 سنة الاولى من عمره ، الى 1945، في جوارها ثم في "ظلها" الساحق، والاخرى على الستالينية الكليانية التي حصرت الشطر الشرقي من ألمانيا غداة 1945 الى 1989 وتداعي جدار برلين).
دولة الطوارئ
 وعلى خلاف مذهب كارل شميدت، في 1922، الى ان المفهومات البارزة والغالبة على نظرية الدولة الحديثة – مثل الولاية غير المنازعة، وحال الطوارئ، والصديق والعدو، وغلبة السياسات على سائر الاعتبارات – كلها مفهومات لاهوتية مزمَّنة وفروع على أصل الارادة الالهية المطلقة، يلاحظ بلومينبيرغ أن الغلبة اللاهوتية على المفهومات السياسية ليست وليدة تسلل اللاهوت الى سياسات الدول الحديثة بل هي ثمرة إيجاب الوقائع السياسية على وجه حقيقة مطلقة. ويتحدر الايجاب، على هذا النحو أو الوجه، من تعويل هوبس على وحدة الدين والدولة، أو على توحيد الدين بالدولة، وإناطة الهيمنة على الطاقات الدينية المتفجرة بالسلطان السياسي بواسطة القوة القاهرة. وفي نهاية القرن السابع عشر أيقن أحد أوائل "التنويريين" الفرنسيين، بيير بايْل، بأن الدين هو مشكلة الدولة العصية. فهو ذريعة ازدواج تعريف رابطة الفرد الواحد بجماعتين، ومطية تفريق الولاء على موليين أو ولايتين. وعلى هذا فالدولة القويمة والصالحة هي تلك التي لا يأهلها "مؤمنون".
 ولم تسلم الدول (الوطنية) من آثار المنازعات الدينية والمذهبية على المعتقدات المطلقة، ومن عدوانها المدمر على الكيانات السياسية، إلا بعد نقل الرابط غير المشروط بين العدو والصديق (أي حرب الواحد الاهلي على الآخر) من الداخل الوطني الى منازعات الدول الوطنية الاقليمية أو القارية. والشبه، وهو يبلغ التناظر، بين تبلور النزاعات الداخلية على شاكلة مواقع مطلقة، وقائمة بنفسها، وبين استواء ذات الفعل، أو الذات (الإلهية) الفاعلة والمريدة، على المثال نفسه، لم ينجم (أي الشبه) عن تنقيل.  وهو ما يزعمه شميدت. وإنما نجم عن استقراء. فصدارة الولاية السياسية لم تترتب على غلبة السياسة على الامور كلها قدر ما ترتبت على  توكيل الولاية السياسية بتقرير تمييز ما ليس سياسياً مما هو سياسي. وسبق أن اضطلع اللاهوت بالبت فيما هو "زمني" أو مدني. ولا لَبْس في أن مكانة سلطة التحكيم في الحالين ليست واحدة، على رغم جواز تشبيه الولاية السياسية بالولاية الاكليركية اللاهوتية على سبيل الاستقراء والتمييز، وليس على سبيل الاستدلال والتوحيد أو الدمج.

 والرأي المتنور في المسألة هو أن الوقائع السياسية المطلقة، وهي حال الطوارئ وتمييز الصديق من العدو...، باطلة، وباطل زعم حتمها. فعقلانية الانوار لا تقر حال الاستثناء (أو الطوارئ) على وجوهها كلها، ولا بمطلقها. ويصدق هذا، أي الاحجام عن الاقرار، في الطبيعة وظاهراتها. فقوانينها تترتب على طبائع الاشياء، ولا تجيز استثناء ناجماً عن إرادة مطلقة. والمساواة القانونية والحقوقية بين البشر هي نتيجة الحق الطبيعي، شأن القول بثبات الدستور وتجريم المس به أو الخروج عليه. والاحوال الاستثنائية التي قد تكتنف الدولة، وتحرفها عن سويتها، إنما هي وجه من وجوه إخفاق "التنوير" وتعثره. وإسناد كارل شميدت دليله (على التزمين) الى اختصار جوزيف دي مستر الملكي الفرنسي "المطلق" والكاثوليكي المناهض الاصلاح، الدولة في الامر والبت وإطلاقهما من كل قيد يتولاه أو يسوغه التعقل أو تسوغه المناقشة المتحفظة، فكأنهما (الامر والبت) "مولودان من عدم" – وليس تزميناً لفكرة الخلق من عدم. فهو تأويل مجازي للحال التي أعقبت الثورة الفرنسية، في 1789، وجبِّها ما قبلها. وهذا ما فاق طاقة الانظمة الملكية المطلقة إبان عزها وسطوعها، وهي لم تطمع في امتلاك سلطان واسع مثل هذا، على ما قال ميرابو للويس السادس عشر. وصيغة "التنوير" التقدمية، على معناها السياسي تتحفظ عن الاقرار بهذا.  

الأحد، 2 نوفمبر 2014

«الاحتلالات» والاعتصامات الميدانية تحت شارة «الربيع»... السياسة حين تُباشر من غير هالة ولا قيادة أو عٍلم



نوافذ، 2/ 11/ 2014
لم تكد تظهر بوادر خروج الحركات والانتفاضات العربية و»ربيعها» في 2011-2012 عن توقعات وآمال نيطت بها، أو عُلقت عليها، حتى تسابق كثر من أصحاب هذه التوقعات والآمال على التنصل من الحركات والانتفاضات هذه، والتنكر لها، والرجوع في آرائهم الاولى فيها. وبدا الرجوع والتنكر والتنصل صدى معللاً وسائغاً لنكوص الحركات والانتفاضات عن انجاز وعودها والتزامها. وذهب تعليل النكوص مذاهب شتى، حمل معظمها على آثار التربة الاستبدادية المعمِّرة في البنية الاجتماعية التي صدرت عنها هذه الحركات ونشأت في ثناياها. وبعض آخر ذهب الى تعليل انتكاسة الحركات والانتفاضات الربيعة، تارة بقصور قوامها التنظيمي، وافتقارها الى أطر مجربة وبرنامج واضح وقيادة بصيرة؛ وتارة ثانية بقوة التيار الإخواني المتربص ورجحان كفته على كفة التيار الديموقراطي والليبرالي؛ وتارة ثالثة بالاستقطابات الاقليمية والدولية وإناختها بثقلها التقليدي و»الرجعي»، المالي والسياسي والاجتماعي والثقافي، على حركات نشدت مثالاً هو نقيض المثال الذي استوحته الدول القطبية وتستوحيه. وخلص تعليل رابع، جبري ومستكين، الى ان الثورات لا بد من أن تعقبها «نوبات» مضادة، كامنة في أبنية الدولة والمجتمع القديمين، فإذا لم تسرع الثورة الناشئة الى القضاء على ضدها، حبطت وأجهضت.

سابقات عربية ربيعية

وتقدمت محاولات التعليل الكثيرة على محاولات الوصف، القريب أو البعيد. ونحا التعليل نحو تشخيص علة واحدة وجامعة. ومال إلى الاستيفاء والاستنفاد، فأدخل عوامل وظواهر فرعية كثيرة تحت العلة الجامعة وقسرها على الدخول تحتها. وإلى ذلك كله، وعلى رغم التنبه على تنقل الحركات والانتفاضات من بلد أو مجتمع الى بلد آخر أو مجتمع آخر وجريها غالباً على شكل واحد أو مشترك، هو الاعتصام السلمي والحاشد في ميادين المدن الكبيرة وساحاتها وقيامها الظرفي مقام «شعب» عيني، وطوافها في مدة قصيرة قارات العالم والبلدان على اختلاف أنظمة حكمها وأبنية مجتمعاتها- أغفلت محاولات التعليل عالمية الحركات والانتفاضات أو أمميتها، وأطرحت هذا الوجه من صفتها. أو هي حملته على اتفاق او مصادفة لا بد أن تربتهما «عولمة» مبهمة تُعمَل في تعليل كل ما يحصل في إطارها وبين دفتيها العريضتين. واتصال هذه الحركات على شاكلة موجة حَمَلَ على مقارنتها بموجة حركات 1968 الطالبية وغير الطالبية، وبموجة 1989 التي اكتسحت الانظمة الشيوعية بشرق أوروبا وعصفت بالصين، وبربيع الشعوب في 1848، قبل الاثنتين. ولا ريب في ان اختلاف مصائر هذه الحركات والانتفاضات، وطيها السريع في معظم الاحوال، والانقلابَ الحاد عليها وقمعها، وافضاء الانقلاب والقمع (حيث حصلا أو أمكنا) الى انظمة حكم لا تقل قهراً واستبداداً عن سابقتها- عجلت في «نسيان» الحركات والانتفاضات «الميدانية» العربية. وربما نسبت إليها تجديد شباب الاستبداد أو الحروب الاهلية المتمادية إليها، وحملت هذه وذاك على عاتقها.

وهذا الإغفال المثلث- إغفال وصف الحركات والانتفاضات وعالميتها وكثرة مصائرها- هو ما سعت بعض الاعمال في تداركه وتعويضه. فبعد عشرات وربما مئات من المقالات والكتب، كتب ألبير أوجيان، الباحث في الاجتماعيات ومدير معهد مارسيل موس، وساندرا لوجييه، أستاذة الفلسفة في جامعة باريس الاولى ومديرة مركز الفلسفة المعاصرة في الجامعة نفسها، كتب الفرنسيان ما سمياه «تقصياً (عن) أشكال السياسيات الجديدة»، ووسماه بعنوان «أصل الديموقراطية» (لا ديكوفيرت، باريس، 2014). وتتبوأ الثورات أو الحركات «العربية»، التونسية والمصرية واليمنية (اعتصامات طريق السبعين التي أفضت الى تنحية علي عبدالله صالح) مكانة متصدرة. ويلاحظ القارئ إهمالَ الحركة الليبية، وهي شكلها غير شكل الحركات الاخرى الميداني والسلمي والشعبي والمحاور والراديكالي، وترك الاعتصام البحريني في ساحة اللؤلؤة، ربما لتجانس جمهوره المذهبي وائتماره بأمر منظمة سياسية محترفة توسلت بالاعتصام الى غايات غير ميدانية ولا سلمية. ويمر الكاتبان على الحركة السورية، في طورها الاول، مروراً خاطفاً. ويتردد صدى نسبة حركات 2011-2012 العربية، ولو خافتاً، الى حركة 14 آذار اللبنانية، والى حركة حزيران 2009 الايرانية (الخضراء).

فيذكِّر صاحبا «أصل الديموقراطية» ببيان نشر على موقع حركة «أوكيباي (احتلال أو احتلوا) وول ستريت»، شارع نيويورك المالي والمصرفي، وذهب ناشروه فيه الى انهم يتوسلون بـ»تكتيك الربيع العربي الثوري الى بلوغ أهدافـ(هم) ويقدمون اللاعنف ضمانةً لسلامة المشاركين القصوى«. ويعرِّف المحتلون المعتصمون صنيعهمم بأنه «حركة مقاومة من غير قائد، تجمع ناساً من كل الالوان وكل الاجناس، وكل الآراء السياسية». وما يتشاركه هؤلاء هو أنهم الـ»99 في المئة الذين لا يطيقون بعد شَرَه الـ1 في المئة وفسادهم». ولا يحول اطراحهم القيادة، وحملهم أنفسهم على مقاومة جامعة ومسالمة، وتعريفهم قاسمهم المشترك بإخراج الواحد في المئة من صفوفهم، واقتفاؤهم على مثال تكتيك الربيع العربي- بينهم وبين إعلان شعارهم الراديكالي: «الحل الوحيد هو الثورة العالمية». وحين خطب جوليان أسانج، صاحب ويكيليكس وناشر جزء من المراسلات الديبلوماسية الاميركية التي أعملها التونسيون في التنديد بديكتاتورهم الفاسد، زين العابدين بن علي، في كانون الاول 2012، جمهوراً من المؤيدين والصحافيين المحتشدين تحت شرفة سفارة الاكوادور بلندن (حيث لجأ ولا يزال لاجئاً)، قال: «الديموقراطية الحقيقية هي مقاومةالشعب، مسلحاً بالحقيقة، الاكاذيب، من (ساحة) التحرير الى لندن، هنا».

المثال السياسي المتجاوب

وسابقتا اعتصامات الحركة المدنية في الجامعات الاميركية في 1960، والحركة الديموقراطية الطلابية بساحة تيان آن- مين ببكين في منتصف 1989، لا تغمطان جدة الاعتصامين التونسي والمصري في كانون الاول 2010 كانون الثاني وشباط 2011. والحق أن الاعتصامين هذين تبوآ مكانة المثال والريادة. وأسهم في إعلاء مكانتهما اضطرار بن علي الى الاستقالة في 14 كانون الثاني، وحسني مبارك في 11 شباط، أي «رحيلهما» بعد أسابيع قليلة على ابتداء الاحتجاجات، وقبل بروز الخلافات الحادة في صفوف المعتصمين وانقسامهم تيارات وأحزاباً وبرامج وخططاً متضاربة ومتناقضة، وعلى الخصوص قبل ظهور إرادة وضع اليد على السلطة والاستيلاء عليها من وراء ظهر «الشعب». فما بعثته الاعتصامات، وبعثه بلوغها غاياتها في غضون أسابيع تعد على اصابع اليد الواحدة وبعد عقود من الرسوخ في رأس الحكم، هو تصديق زعم أبو القاسم الشابي ان الشعب إذا أراد «يوماً» الحياة قسر «القدر» على الاستجابة. وأخرج السياسة، وهي صنو القدر في معتقدات كثيرين منا، من استكانتها وتسليمها وتفاهتها. وعظَّمت أصداءُ الحركات (العربية) الدولية، وجهرُ اعتصامات شعبية «غاضبة» في البلدان الديموقراطية الغربية، من مدريد الى نيويورك، اقتداءها بهذه الحركات، مكانتَها ودلالتَها. فنبهت الاصداء المتواترة والعريضة الى ابتكار الحركات العربية مثالاً سياسياً جديداً أنشأ أمكنة مشرَّعة ومستقلة في قلب المدن يسع من شاء الوقوف بها، والتنديد بازدراء الحكام وأولي الأمر وأهل الثورة عامةَ الناس من أهل الضعف، واختبار صور غير مألوفة من المداولة والمناقشة والحياة السائرة.

وسرعان ما سرى الصوت في انحاء العالم، وبلغ أقاصيه (وهذه لم تبق أقاصي لما تقوضت مكانة المركز أو القلب). فدعا صينيون من طريق الشبكة، في 20 شباط، أي غداة 5 أسابيع على رحيل بن علي عن «عرش» تونس، الى التظاهر تأييداً للتونسيين. فخشيت السلطات الشيوعية عدوى الحركتين التونسية والمصرية، وحجرت على ألفاظ التعارف واطرحتها من تداول الرسائل الالكترونية وتبادلها. وهذا قرينة قوية على عمومية لغة الاعتصام في الميادين، ويسر تداولها في مجتمعات و»ثقافات» سياسية تباعد بينها الاحوال والازمنة والمسافات. ولا يخفى ان ما وسع السلطات الحزبية والامرية ببكين مراقبته وتقييده في شتاء 2011 أعجزها قمعه بهونغ كونغ في خريف 2014. وهي لم تتوقع هبوبه من الجيب أو القطاع، على نحو ما لم تتوقع سلطات البلدان التي هبت عليها ذرية الاعتصامات العفوية والمسالمة حصولها. وعلى رغم سرعة جواب الصينيين، سبقهم البلجيكيون فتظاهر ببروكسيل، في 23 كانون الثاني قبل يومين من 25 بالقاهرة، نحو 40 ألف بلجيكي لبوا دعوة على فايسبوك الى انكار عجز الاحزاب السياسية البرلمانية عن تأليف حكومة، والتنديد به. وكان مضى عام كامل على استعصاء الازمة الوزارية من غير ان يبادر السياسيون البرلمانيون الى إظهار عزمهم على حلها.

وعلى نحو قريب من هذا، نزل 200 ألف برتغالي الى شوارع لشبونة، في 12 آذار (2011)، وأجابوا نداء رابطة «جيل ضعيف الحيلة» على وسائط التواصل الاجتماعي، أهاب بهم التصدي لخطة تقشف جديدة تفاقم البطالة الكاملة أو الجزئية، وتضطر خريجي التعليم الجامعي الى الرضا بوظائف لا تزيد مرتباتها عن 500 يورو في الشهر. وبعث السبب نفسه 500 ألف متظاهر في مدريد، في 15 آذار، على التجمع في ساحة كبيرة، بويرتاديل سول، وإقرار الاعتصام فيها مساء، من غير ضرب موعد لرفعه. وسرت «عدوى» الاعتصام الى اليونان بعد عشرة أيام على تظاهرة مدريد و»احتلال« ساحتها المركزية. فنصب الأثينيون مخيماً في ساحة سانتاغما، في مقابلة البرلمان. وتظاهر، في 15 حزيران، نحو 200 ألف متظاهر. وفي 17 أيلول 2011، ظهرت «قرية من خيم» في زوكوتي بارك، بنيويورك هذه المرة، ردَّ جواب على دعوة فريق من الناشطين: «احتلوا وول ستريت». وتناسلت «الاحتلالات» أو الاعتصامات في المدن والعواصم المتفرقة: لندن، فرنكفورت، جنيف، طوكيو، تل أبيب... وتداعى انصار هذه الحركات الى إعلان ترابطها وتواشجها وانخراطها في اطار مشترك. واختاروا موعداً يوم 15 تشرين الاول ضربوه للتنسيق بين 900 مدينة في 90 بلداً على موقع على الشبكة.

المشروعية المتهاوية

ولم تفِ التظاهرة الجامعة بوعودها، فكانت أعداد المتظاهرين قليلة، واقتصر التظاهر يومه، على خلاف المأمول. ولكن عام الاحتلالات والاعتصامات هذا لم يخل من حركات احتجاج «تقليدية»، من اضرابات مطلبية وقطاعية ونقابية، بينها وبين حركات الاحتلال والاعتصام العريضة العامة و»الثورية» تناغم وتوارد شكليان أو منهجيان أكيدان. فنزل الطلاب والثانويون الشيليون، في 28 نيسان 2011، الى شوارع المدن، منكرين مضي الحكومات المتعاقبة، منذ نهاية عهد بينوشيه، على سياسة تعليمية واحدة تقضي بخصخصة التعليم من طريق زيادة الاقساط زيادة «فاحشة». ودعت النقابات الطالبية الى تظاهرة عامة، في 9 آب، فلبى الدعوة 500 ألف متظاهر بسانتياغو. وهذه المرة كذلك، فشت «عدوى» الحركة الطلابية في شطر القارة الجنوبي: فنسق طلاب 14 بلداً اميركياً لاتينياً مسيرة مشتركة، في 24 تشرين الثاني 2011، أجمعت على طلب تعليم مجاني «نوعي». واقتصر الحضور على 100 ألف متظاهر. ولكن جدة التظاهرة وقوتها لم يكن العدد مرآتهما، بل التنسيق العريض الذي تخطى الحدود الوطنية الى أفق جامع وعام، أو كوني، على مثال أنجزته منظمات غيرحكومية فاعلة، وقامت «غرينبيس» و»أمنيستي» و»أطباء من غير حدود» و»هيومن رايتس ووتش» علماً عليه.

وهزت كيبيك إضرابات طالبية، كان أولها في آب 2011. وأفضت، في شباط 2012، الى إضراب عام جمع التعليم الجامعي على رفض زيادة الاقساط. وتظاهر مئات الآلاف من الكيبيكيين رداً على قمع بوليسي قاسٍ، وعلى سن البرلمان قانوناً عرف بـ»قانون 87» قلص الحريات السياسية المدنية، وقسر المدرسين على التعليم عنوةً، وجرَّم التجمَّع والرأي والتظاهر والدعوة الى التظاهر من طريق وسائط التواصل الاجتماعية، وعهد الى الشرطة بتقييد التواصل. فجهر كثيرون عصيانهم المدني والعلني على الشبكة، فأذاعوا دعوات صريحة وسافرة الى التظاهر، وانتهاك القانون «اللئيم» هذا. وقعقعوا بالأواني المنزلية المعدنية، على مثال الارجنتينيين في 2001. فاستقالت الحكومة، وألغت الحكومة التي خلفتها زيادة الاقساط والقانون 87، معاً. ودعت تنسيقات طالبية من خارج النقابتين البريطانيتين الرسميتين، في تشرين الثاني 2011، الى حملة وطنية على الاقساط المدرسية وتقليص النفقات العامة في الموازنة. وكان إعلان اقتراح الاجرائين، في 2010، أثار تظاهرات عريضة وعنيفة لم تتورع عن احتلال مقر حزب المحافظين، وتحطيم محال تجارية، وجبه الشرطة بالعصي والحجارة والقناني الحارة.

وفي سياقة مباينة وبعيدة ظاهراً عن سياقة الاضرابات الطالبية، تعاقب انفجار مفاعل فوكوشيما النووي باليابان، في 12 آذار 2012؛ وأجازت محكمة بريطانية في 24 شباط من العام نفسه، تسليم جوليان أسانج السويدي، صاحب ويكيليكس، الى الحكومة السويدية (تمهيداً على الارجح لتسليمه الى الولايات المتحدة الاميركية)؛ وفي أواخر 2013، رفع إدوَرد سنودن، الموظف الاميركي في وكالة الامن الوطني، الستر عن تجسس دوائر الاستخبارات الرسمية على اتصالات المواطنين الخاصة وتواطؤ شركات تشغيل وسائل التواصل الاجتماعي على التجسس الاستخباري. ونمَّت هذه الوقائع وغيرها «مثلها» على شاكلة اقتراع الايسلنديين على رفض سداد الدين العمومي، وصوغهم دستوراً جديداً بواسطة استفتاء على الانترنت، أو طرد الاوكرانيين رئيساً فاسداً قصر عن تكليفه- بخسارة الحكومات الديموقراطية شطراً راجحاً من مشروعيتها ومن سلطاتها، واضطرار جماعات فاعلة وناشطة الى التنديد بشلل الحكومات المنتخبة وقعودها عن المعالجة المناسبة التي يقتضيها حجم المشكلات وعولمتها المتعاظمة.

أعراض العولمة

فالحركات التي مر إحصاء بعضها، وتشترك في تقارب أوقاتها، الى اشتراكها في وجوه كثيرة أخرى لم تُتناول بعد، تتحدر على الارجح كلها من أزمة 2008 المالية والاقتصادية. فهذه الازمة، وهي لم تنته فصولها الى اليوم، كشفت عن فداحة تقلص السيادة الوطنية التي تتجلى في بنيان الدولة على العوامل الاقتصادية المؤثرة في التنظيمات والهيئات الداخلية الحيوية، وعن تعاظم التفاوت في توزيع الموارد المعنوية والمادية على الفئات الاجتماعية في الداخل وعلى الصعيد العالمي. ويصيب الامران، أي تقلص سيادة الدولة وتعاظم التفاوت، مقومات السياسة في الصميم ويوهنانها. فغلبة المصالح والقرارات المالية والمصرفية والنقدية الغفل على سياسات الدول، وعلى هيئاتها وحكوماتها المنتخبة، تسوّي في العجز والشلل بين القوى السياسية على اختلاف مشاربها ونزعاتها وبرامجها، وتحيل اقتراع المواطنين واختيارهم الى لعب عقيم. وتتعطل دواعي المشاركة السياسية والاجتماعية، وتحلّل الجسمَ الوطنيَ أجزاء أو ذرات من غير لحمات إرادية تربط بينها. فتبحث «الجماهير» عن تكتل من نمط آلي و»طبيعي» معياري تُسْلِسُ أمرها إليه، والى من يدعون القدرة على إحياء هذا النمط أو بعثه من رميمه، على ما يُرى في تظاهرات مناهضة المثلية في فرنسا. وهذه السياقة يقع عليها المراقب، على وجه الضدية، في الحركات التي تقدم إحصاؤها السريع. فراديكالية بنود البرنامج المعلنة وثوريتها، وعموميتها المرسلة والمقصودة، واضطلاع بنود ظرفية وجزئية بدور المدخل الى القصد العام («العالم الجديد») والعودة من القصد العام الى المواد الجزئية، وإيجاب حيز سياسي ومطلبي على حِدةٍ من الهيئات والمؤسسات التمثيلية التقليدية، والسعي في إحضار «الشعب» وولايته المرجعية على صورة ملموسة وعينية هذه السمات كلها قرينة على إرادة التفاف على الابنية السياسية المجربة والمتهافتة، وتطويقها من طرق مختلفة توجب مباني سياسية أخرى.

واختار الكاتبان، ألبير أوجيان وساندرا لوجييه، في ضوء غلبة التجريب على هذه الحركات وفي ضوء هشاشتها وترجحها وتخبط مصائرها، التزام وصفها وصفاً دقيقاً، والاقتصاد في تعليلها، وتعليق الرأي في مستقبلها ونتائجها، والامساك عن تقويم آثارها، المتوقعة، وذلك من غير الاغضاء أو السكوت عن ضعفها. فما يلاحظه الكاتبان، من غير الجزم فيه، هو قيام التجمعات العريضة و»الاحتلالات»، أو الاعتصامات التي أفضت إليها غالباً، بتجديد تجربة الفعل السياسي الصادر مباشرة عن المواطنين، والملتزم احترام المساواة التامة بينهم. ولا شك في أن تواقت الحركات، وانتشارها في مواضع متباعدة من العالم، أي عولمتها، يضاعفان صفتها الجماعية والمشتركة. وإجماعها على الاندراج في «ربيع» واحد على قول الاميركيين النيويوركيين أو قول الاوكرانيين من أهالي كييف وغيرها، دليل آخر على قوة الصفة الجماعية والنَسَبية هذه. ومن غير أن تصوغ هذه الحركات «فكراً» متماسكاً يبيِّن عن مقدماتها، ويصف عمارة وسائطها ومفاصلها- والحق انها تنكر انكاراً شديداً السعي في مثل هذا العمل وتحمله على نازع ذهني ذهاني واحترافي استبدادي-، تنم اجراءاتها وخطواتها بفكر سياسي لصيق بالوقائع العامة والخاصة التي تتقلب هذه الحركات بين أظهرها، أو تبحر في مياهها. وإرادة الصدور عن «حضور» شعبي عريض وماثل هو رد جواب على تآكل الهيئات التمثيلية وانصرافها عن الاضطلاع بالعبارة عن مصالح صفوف متعاظمة من المتروكين وأهل الضعف. وهؤلاء تحسب هذه الحركات، على قول «محتلي» وول ستريت، انهم الـ»99 في المئة» من المواطنين.

ولكن إرادة الصدور عن «شعب» ماثل وحاضر- ومثل هذا الشعب هو فكرة، على معنى مثال أو أفق جامع لا يدرك فعلاً وحقيقة آن يتيح جمع المتفرق القائم والمادي بين دفتي وحدة- لا تقتصر (هذه الارادة) على إيجابها وإثباتها على نحو قاصر وناقص وملتبس معاً. فتتمتها الضرورية والعملية هي تبني الكثرة والتعدد من غير اشتراط ولا تحفظ. ويُلزم هذان، الكثرة والتعدد، بقبول الآراء والمعتقدات وصور الحياة كلها. وانهيار النظامين التونسي والمصري السابقين شرَّع الباب على غليان أسمع أصواتاً مكبوتة، وألسنة عقدها الخوف والصمت ومنعها من الجهر والعلانية. وإخماد هذا الغليان، عن يدي «الاخوانيين» والعسكريين، جاء برهاناً على ان نظاماً ديموقراطياً مستتباً لا تقوم له قائمة ما لم يتعهد حق الاصوات والالسنة كلها، من غير استثناء، في العبارة والجهر. ولعل ضمان مساكنة الآراء المتقابلة والمتشاجرة في اطار مشترك يقر بالخلاف، هو من تبعات النظام الديموقراطي، أو «الديموقراطية الحقيقية»، العسيرة. وعلى هذا، ليست الديموقراطية نظاماً سياسياً وحسب، بل هي «شكل حياة» أو «صورة حياة»، على قول الكاتبين مستعيدين مفهوماً هو أصل من أصول مقالات فيتغنشتاين. والشكل، أو الصورة، شأنه (أو شأنها) هو شأن الحياة نفسها: رتق خروق «الثوب» المتسعة من غير كلل، واستئناف الحياكة من غير تسليم للتراث وضمانه.

القواسم المشتركة

وما تشترك فيه الاعتصامات و»الاحتلالات» والتظاهرات الميدانية، ثالثاً، هو المحافظة على حرية حكم أو رأي المعتصمين و»المحتلين» واحداً واحداً، ورفض أو انكار ترتيب الآراء والاحكام على مراتب من الشرف أو المكانة. وترجم المعتصمون محافظتهم ورفضهم إصراراً على ألا يقدِّموا أو يصدِّروا زعيماً، وألا يصوغوا برنامجاً. ولم تفت ملاحظة الامر الاعلام والصحافة، فاستماتا في تنصيب فلان من المعتصمين «مقدماً» عليهم ومرشداً أو إماماً. ولم يعثرا على بغيتهما إلا في يوسف القرضاوي، المتنطح بقوة حرسه الاخواني الخاص الى حمل تقدمه صفوف المصلين على مرتبة سياسية وقيادية. وأما وائل غنيم أو محمد دومة أو وائل عبد الفتاح وأمثالهم فكانوا نقائض على الابطال المتدافعين على مراتب البطولة وامتيازاتها في صفوف «الاخوانيين» ثم «لواءات» العسكريين و»الفلول». ولا شك في ان بعض المعتصمين أرادوا التصدي لأدوار متصدرة ومحترفة على معنى «الثوريين المحترفين» الاغنياء عن التعريف، وحيل غالباً بينهم وبين الصدارة المحترفة. والاصرار على رفض المراتب وتوليها، وعمومه على مقادير متفاوتة، قرينة من قرائن أخرى على تشكك عميق في تسنم مواقع السلطة والتهافت عليه، ومرآة رغبة قوية في خدمة عمل جماعي ومشترك بديلاً من تولي التحريض عليه وتنظيمه وحمل لوائه. ويضمر رفض المراتب نقداً لاذعاً للمقالات «التنظيمية»، الايديولوجية والفلسفية، التي تنبري لمديح شهوة الانتصار، وتمجيد الشجاعة والقيادة، والحض على المغامرة والمخاطرة. فهذه تقود، من طرق شتى، الى بعث التسلط والسيادة والولاية على المأمورين الراضين بانقيادهم والمُسلِّمين باذعانهم ورضوخهم. ورفض المراتب يقود الى سؤال جوهري: ما صورة السياسة إذا عزم مزاولوها ومباشروها على مزاولتها ومباشرتها من غير هالة العطية (الالهية)، ولا برنامج (يزعم استباق الحوادث والتحكم فيها)، ولا عنف؟ وإذا قدموا جماعة المشتركين على النزعات الخاصة؟

والقاسم المشترك الرابع بين الحركات «الميدانية»، إذا صحت الصفة، هو خروجها عن النطاق الذي ترسمه المنظمات السياسية الرسمية، واستلهامها تقنيات ابتكرتها روابط أو جمعيات غير حكومية، مثل تعبئة دالة المستهلكين، وإعمال قوة الحق والقانون، والتوجه الى افراد الهيئات المنتخَبة، والدعوة الى حملات مقاطعة، والتشهير بفساد موصوف، والتنديد بأفعال غير لائقة (مثل تزوير ثابت أو رشوة موثقة). وسائق هذه التقنيات، على قول بعض مناهضي العولمة، هو «حمل الحكومات على الانقياد» وإلزامها استجابة رغبات واحتياجات المواطنين الذين عهدوا إليها بتدبير أمورهم وتصريفها. ولا تنفك مباشرة السياسة على هذا النحو من علانية لا هوادة أو توسط فيها. وهي تترتب على التباس السياسة بالمنازعة على إعداد الرأي («العام») وتربيته، من غير استعلاء ولا توجيه أو عنف معنوي. والتوجه الى الرأي يقترن حكماً بمراقبة ما تبثه قنوات الاعلام وتوزيعه. ومن ويكيليكس وأنونيموس الى تكتلات الصحافيين الدولية التي تحقق في التهرب الضريبي والفراديس الضريبية وتبييض الاموال، شاعت أشكال العلانية، ومناهضة التستر عليها، في الانظمة الديموقراطية، بينما تتعاظم صفاقة الانظمة الديكتاتورية والمتسلطة ويصعب التستر عليها (ولعل من الامثلة الصارخة على خداع هذه الانظمة محاورة جوليان أسانج، صاحب ويكيليكس، حسن نصرالله، صاحب الجماعة الخمينية المسلحة، ونشر الصحيفة اللبنانية الحرسية والاستخبارية بعض البرقيات الديبلوماسية الاميركية...).

والقواسم المشتركة هذه، والحركات التي اتسمت بها، قد تؤذن (فالجزم في المسألة لا يتفق و»روح» الحركات الميدانية، من وجه، ولا مصدِّق له في اختباراتها الى اليوم) بصنف جديد من السياسيات وموضوعها هو تثبيت مثال للعلاقات الاجتماعية ولتوزيع النفوذ والسلطات، بين أهل كيان سياسي مشترك- ، وربما آذنت بعلاقة جديدة بالسياسة- أي بدائرة عمل موضوعها إنشاء اطار دستوري للدولة يتولى نَظْمَ وظائف الحكم والتمثيل والمشاركة (على قول الكاتبين وتعريفهما). ولكن عسر الجزم في مصائر هذه الحركات وثمراتها لا يحول دون ملاحظة ولادتها من رحم الاصل الديموقراطي ونازعه العميق واللصيق الى امتحان نفسه، والى حملها على المناقشة والمسألة والطعن والتشكيك. فالديموقراطية، الاصل وليس النظام أو النُظم، هي الصورة السياسية والاجتماعية الوحيدة التي تلد من داخلها نزعات وجماعات نقيضها تطعن أو تعيب عليها ضيق دائرتها وحدودها، وتجبهها وتعارضها باسم أصلها وباسم مترتبات هذا الاصل وفروعه. فتغذي جموحاً الى الاطراف (أو تطرفاً) لا ينفك يندد بسلاسل عملية وإجرائية تقيد بها السياسة، وهي نُظُم وظائف الحكم والتمثيل والمشاركة في اطار دستوري على ما مر، الديموقراطية «البرية»، على ما وصفها كلود لوفور وميغيل أبينسور، وتعثرها. فحين ينتهي الانتخاب او الاقتراع، وهو كان في أول أمره من إواليات السياسة الديموقراطية الثورية، الى استقرار اوليغارشيات محترفة وعاجزة، والى استتباب الامر لبيروقراطيات آمرة تجدد قسمة الامر والطاعة أو قسمة السيطرة والانفاذ المذعن- ينهض من يدعو الى تجديد مبدأ أو أصل التكليف والتوكيل الموقت والمقيَّد الذي تحدر الانتخاب والاقتراع منه.

وتبدو حركات الميادين واعتصاماتها وتظاهراتها وبياناتها وذراريها، إعمالاً راهناً وحراً للأصل الديموقراطي على وجوهه (ومرَّ إحصاء خمس سمات أو خمسة وجوه). وعمومُها البلدان والمجتمعات المتفرقة التي عمتها وبلغتها، وتواقتُها وكأنها تنجز مواعيد ضربتها أو اتعدتها، وتناقلت سمات تكاد تكون ثابتة مشتقة من أصل عام وجامع واحد، تبدو هذه ردَّ جواب على «أزمة» سياسية واجتماعية جامعة وعامة (أونيفرسيل) بدورها. ولا يخفى المراقب، بالغاً ما بلغت سذاجته، أن حركات الميادين ووجوهها المشتركة، تفند سمات أو صفات العولمة المالية والسوقية والتكنولوجية ومضامينها، سمةً بعد سمة ومضموناً بعد مضمون. وهي تتوجه بالنقد أو بالنقض العملي على عوامل ومظاهر الازمة السياسية الكيانية أو البنيانية التي تضرب أركان الانظمة الديموقراطية، المستعارة و»الاصيلة» معاً. وليس من قبيل اتفاق أعمى ان احتلال الميادين، والاعتصام فيها، أعقب على الدوام انتخابات عامة استأنفت توكيل الوكلاء القاصرين والخائرين أنفسهم، أو جددت ولاية أهرامات الفساد والاستبداد المتربعين في سدات حكومات منذ «الابد» (السوري وغير السوري).

وقد يكون هذا، أي المبادرة الى الاعتصام أو التظاهر الكثيف والجامع في أعقاب انتخابات مقفلة، ما أسبغ على «الربيع» («العربي») نموذجيته. فتظاهرُ اللبنانيين الجامع في شتاء سنة 2005 وربيعها نَقَضَ على استعمال الاحتلال السوري وعامله المحلي المزدوج السلطة البرلمانية والرئاسية استعمالاً متعسفاً ومفرطاً. وخرج ملايين الايرانيين الى الميادين والساحات قبيل الانتخابات الرئاسية المزورة وبعدها احتفالاً «اخضر» بالاقتراع لواعدَيْن بمقاومة الاوليغارشية الحرسية والحوزوية ثم تنديداً بسرقة الاصوات الناخبة. واستبق مواطنو هونغ كونغ على طرف القوس الجغرافي الآخر، تزوير الحزب الشيوعي المستبد والفاسد، الانتخابات المزمعة السنة الآتية. والمصائر الخائبة التي صارت اليها «الاحتلالات» والاعتصامات، أو معظمها، لا تبطل دلالتها، أي تجديدها الاصل الديموقراطي، ونقدها إقواءَ الابنية الديموقراطية وجفافَ نسغها، وغلبةَ العولمة المالية والمصرفية والاجرائية عليها. ولكنها لا تضمن، من وجه آخر، شيئاً، ثمرةً «ضرورية» تترتب على منطق جازم. فـ»استفتاء كل يوم»، على ما عرف إرنست رينان الامة في 1871، أي تجديد العزم على احياء الاصل الديموقراطي والنفخ فيه والسهر على استقامته، يصدق تعريفاً لما تولته الحركات والاعتصامات وتتولاه.