السبت، 27 أبريل 2013

جوانا حاجي توما وخليل جريج في شريط توثيقي وروائي "النادي اللبناني للصواريخ" معالجة النسيان بغير ذاكرة إحيائية



المستقبل، 21/4/2013 
صوت نسائي (أنثوي) يقول، حين يحين دوره الذي ينتظره ولا يفاجئه توقيته :" ولدت في 1969". وصوت رجل (ذكوري) يقول، من غير توقيت هذه المرة: "ولدت في 1969". ولا يفتتح الصوتان، ولا صاحباهما، شريط "النادي اللبناني للصواريخ"، التوثيقي الروائي أو الخبري الذي أخرجه ووثقه ورواه المولودان في السنة المرقومة والعتيدة، جوانا حاجي توما وخليل جريج. فهما يعلنان سنة ولادتهما، الاخيرة من العقد السابع، بعد أن قصّا على سمع الجمهور وبصره خبراً جديداً لم يتناه الى الجمهور، على ما هما واثقان. والخبر الجديد والدارس، على ما يليق بموضوعات أخبارنا (نحن "العرب") وقصصنا التي نتقفى أثرها ونتعقبه، هو أن شباناً لبنانيين أرمن (أو أرمينيين) كانوا يدرسون في معهد هايكازيان، ويتقدمهم ويدرِّسهم أستاذ مادة الفيزياء، مانوك مانوكيان، في السنة الثانية من العقد السابع، انصرفوا معاً الى صنع صواريخ، وتزويدها بوقود صلب، وتركيبها أجزاءً، وإطلاقها.
 وتدرج هذا الفريق في صناعته – وهو جعل نصب انتباهه انجازات المنافسة المحمومة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الاميركية بين 1956 (أول قمر اصطناعي روسي) و 1969 (بلوغ أول مركبة فضائية أميركية مأهولة القمر)- من هيكل صاروخ يبلغ طوله سنتيمترات هزيلة وقليلة، ويقتصر إشعاله على احتراقه وتبدده لحظة الاشتعال، الى جسم معدني مركب طوله متران ونصف المتر، بادي الاجزاء، صقيلها ولامعها، رابض على منصة تحضن الجسم الطويل والانيق من غير أن تأسره. وكان يحف الهيكل الناحل والاعجف شبان وفتيان يتدافعون في ما يشبه غابة زرعت على عجل ولم تتعهدها أمومة ساهرة، يمد أحدهم يده الى فتيل الوقود وهو يستطلع طريقه الى الهرب أو الاحتماء، بينما يشخص آخرون الى الآلة في وسط أغصان شجر والقلقُ بادٍ على أساريرهم وأوضاع سواعدهم. وحين شب الصاروخ وبلغ رتبة الاسم، أرز واحد أرز2...، وصار يُحمل على عربة جر، حف اطلاقه من شرفة تطل على البحر العريض حشد من الضباط، حولهم مواطنون "عاديون" يروحون ويجيئون وعلى الاخص ينتظرون الحادثة، ومعهم مصورو الصحافة والتلفزيون وآلات التصوير. والفرق كبير ما بين الجهاز الوليد الذي يفلت من عدسة المصور حال انطلاقه، ويكاد لا يرى ولا يتعقبه ويثبته إلا التخمين وحسن الظن، وبين الدخان الملبد، والملتف بعضه على بعض طيات بعضها يولد من بعض وينذر بلظى جحيم لا يحتمل.
ما قبل الولادة
 ويسأل صاحبا الشريط – وهما يوقتان ولادتهما وسنتها بسنة نزول المركبة الفضائية الاميركية وملاحاها قشرة القمر الجافة، وكان "النادي" اللبناني صار أثراً بعد عين وانفض أهلوه ورحلوا الى عواصم "العلم" ومحجاته الاميركية والكندية – عن الاثر الذي خلفته في ذاكرات المعاصرين والخالفين، وفي "مخيلتهم" ورواياتهم، اختبارات الصواريخ. ولم يظفرا بصدى. وأجابتهما الذاكرة الالكترونية نفسها، وهي خزان يفترض غير مثقوب ولا يرضى التبديد، عن سؤالهما: ماذا بقي من رغبة مانوك مانوكيان وطلابه ولبنانهم، في شق غبار صناعة الفضاء وأقمارها وصواريخها، ومنافسة الكبار، وكان يقال الجبارَيْن او العملاقين، عليها؟ أجابتهما الذاكرة الالكترونية بصور خطباء الكاتيوشا المعممين بعمامات الحجيَّة السود والخضر، وقبضايات مشتقات الصناعة الكورية الشمالية في رعاية اسرة كيم الاول فالثاني قبل الثالث حاكماً سعيداً اليوم. فالمعنى الذي علق بتجارب 1961 و1962، وجلاه آخر صاروخ بلغ مداه 600 كلم وحط على شاطئ قبرص، وكاد ان يصيب سفناً حربية بريطانية بكارثة، وتَطَلعَ الى الفضاء، هذا المعنى تبدد. و"هو"، إذا كان هو هو، على قول الزرداشتي و"الامامي" الغالي الاول، اليوم، غايةُ رجائه ان يكدس في مرآب خفي عشرات آلاف الصواريخ المنتصبة حَرَساً على تخصيب آلاف آلات الطرد المركزي بنطنز أو فردو اليورانيوم بنسبة 20 في المئة.
 فعاد جوانا حاجي توما وخليل جريج الى اقتفاء أثر ذاكرة تقليدية أو عادية، وَرَقية، على قول سائر، وأرشيفية. والفيلم التوثيقي والروائي لا يقوم أو يتماسك عملاً سينمائياً – يسأل ويخاطب ويدعو ويتقصى ويقارن ويُشهد ويحتج ويسمع ويسكت – من طريق رصف الوقائع والشواهد. فصاحبا العمل هما بعض هذا العمل، وحادثة من حوادثه، وخيط من خيوطه. ولا يقتصر الامر على إدراجهما سنة ولادتهما معلماً من معالمه وتعريفه، ولا على تعاقبهما على تعليق "الصوت من خارج" على مجاري القص وسياقاته. فهما، سؤالاً وتوقيتاً وتوليفاً، بعض مبنى العمل وعمارته. وعلى هذا، عمدا الى دمج الحادثة المنسية، المتواضعة والكبيرة، في سيرتهما. وحملا السيرة الخاصة، تلك التي تستهل حكايتها بالقول:" ولدت في سنة –"، حملاها على ما قبل تاريخها، أو تاريخهما المشترك والمشتبك بعضه ببعضه الآخر منذ "زواجهما". وهما إذا سألا بنبرة تنم بعتاب حاد :"لماذا نسينا؟"، وشملا نفسيهما بالسؤال بموجب ضمهما ما قبل تاريخ ولادتهما الى سيرة مشتركة ومركبة، اجتماعية وأخلاقية – من طريق احتمال التبعة أو المسؤولية عن العالم و"الناس كلهم"- أرسيا عملهما السينمائي على سعي دائب في اقتفاء أثر الحادثة المطوية، ظاهراً ووصلا الحادثة بالحاضر، وبآتٍ محتمل ومتخيل وأده انقطاعُ التجارب على صناعة الصاروخ، وعسرُ تطويرها.
 فقضى أمر غامض وملغز بعض الشيء – هو ليس استئناف الفعل (فلا معنى لمثل هذا الافتراض بعد انقضاء نحو نصف قرن على التجارب وحبوها)، وليس بعثه في وجدان أهال أنقاضاً ثقيلة عليه وشغلته شواغل أخرى كثيرة، وليس قطاف الآثار والأصداء المتخلفة عنه وصمدها في متحف، وليس تحريكها او النفخ فيها في احتفال "شعبي" على قارعة الطريق... ولكن الامر الغامض والملغز يأخذ من هذه كلها بطرف – قضى بتعقب ولادة الحادثة. وهذا منذ امحائها وتواريها وتضييعها خبرها في الوثائق المعاصرة: علب اشرطة التلفزيون الفارغة، سجلات معهد هايكازيان الصامتة، مقتطفات "الاكتوياليتيه" المصورة التي كانت تسبق عرض الفيلم المعلن. ثم تعقبها في بقايا ذاكرة شهود يومذاك اليوم – الى اقتصاص مراحلها وأطوارها الى حين تركها و"فوتها". وترتب بناءُ الشريط، وتقطيعه أجزاء ووصل هذه الاجزاء وحبكها، على التباسات الامر الغامض والملغز ومسائله: كيف يُخرَج الى الضوء ما كان مجهولاً؟ وكيف يُقتص أثر المنقطع أو المرسل الى أوائله أو مصدره؟ فدار شطر أول من الشريط على خيبة تعقب الاثر، وشطر ثان على الوقوع على أخبار "خارجية" أو صحافية هي "جثة" الحوادث" (على قول سيبويه في المكان)، وشطر ثالث على إحياء الجثة، ونفخ الروح فيها من طريق مصادفة غير مقدرة ولا محسوبة: فأصحاب التجارب أحياء يرزقون على بعد 11 ألف كلم، وهم لم ينسوا، ولم يضيعوا مجاميع الآثار والاصداء، ولم تفتهم معاني الحادثة الام والحوادث التي حفتها أو تفرعت عنها.
تايلور وسترونغلوف
 والشطر الثالث هذا، وهو معظم الشريط والتوثيق والتحقيق، يأتلف أو يختلف من نثرات حوادث وأحوال وإرادات ورغبات يتضافر بعضها وينعقد على افعال، لبعض الوقت، ويفترض بعضها الآخر إما موقتاً او لا الى وقت. فيتصدع الفعل، أو البؤرة التي جمعت بعض أجزائه، وذلك حين يتخفف على رغمه من "الهواية" العلمية، ونصب عينها القمر والمركبة المأهولة ومترتباتها أو ثمراتها التقنية والصناعية، ويدخل من غير استئذان في المعمعة العسكرية التي صادفت عشية 1967، وحزيرانها وحربها الخاطفة وانهياراتها السياسية و"القومية".
 ويُتمُّ شطر رابع، وهو من صور متحركة ومجسمة، الفصلَ الاخير المقدر والمتخيل من القصص البطولي والخيالي العلمي. فلو قُدِّر لخطة فريق هايكازيان، الملتحم بالجيش اللبناني الذي ندب أحد ضباطه الى تنسيق العمل مع الفريق وأعلم بتنسيقه قائده السابق ورئيس الجمهورية فؤاد شهاب، بلوغ غايتها، وانخرط لبنان في تكنولوجيا الفضاء وعلومه وصناعاته، لصار شريكاً بارزاً – ولتحوَّل "جمهورية" علم وتقنية، تحكمها طبقة الحراس، على شاكلة افلاطونية وخمينية باسدرانية مستولية، وتتشاطر الولاية مع طبقة الصنّاع والعلماء، على مثال تايلوري وفوردي يدمج "آلة الزمان" في "1984" وعالم "دكتور سترونغلوف" في عالم "دكتور نو" وعنابر (أو سراديب) منظمة "سبيكتر" ومشاهد "ناسا" ومنصاتها.
 والحق ان الرواح والمجيء في الزمن، ومزج التقصي المتأخر بالحوادث المتقدمة والسابقة، وتوليف المواد المتفرقة المصادر والأنسجة والايقاعات، لا تخرج الحكاية البطولية الشعبية (البكاريسك)، ولا تبطلها، ولا تحل محلَّها "افكاراً" مجردة أو قضايا ذهنية ومحض ذاتية. ولعل (بعض) ما يغلِّب الحكاية البطولية الشعبية- وهي تحاكي البطولة على وجه ساخر ينكر على البطولة استغراقها في مجدها الساحق والمهيمن – وتسويغها هيمنة وسحقاً مستأنفين ومتجددين-  على التحري الذهني والذاتي هو تطرقها الى النسيان، وإحجامها عن حمله على سلب خالص. فالسؤال: "لماذا نسينا؟" ليس جوابه في الشريط المركب، والمتفرق المواد والمصادر والروايات، تهمة اصحاب النسيان بالخطيئة والضعف، وهو لا يخلو من التهمة، ولا تحميلهم المسؤولية عن ارتكابهم العدم، وهو يحملهم بعضها. وليس الجواب التسليم والنكوص الخائرين. فالنسيان، على ما قد يرى المشاهد في ثنايا التوثيق أو التحقيق او الرواية، لا يقتصر على غيبة ما ينسى ومواراته أو تواريه في قاع مظلمة. وهو أقرب الى فعل موجب ومتصل يتعمد صرف الفعل الى مسالك مسدودة او اسطورية، والعزوفَ عن سقي آثاره وثمراته المحتملة، وإدارةَ الظهر لمناشدته مبتدئيه المضي والاستمرار على تجديد صيغه. فهو يشبه الاجهاض شبهاً قريباً.
 وعلى خلاف مذهب ظهر مع بدايات الحركة الفلسطينية الوطنية والمسلحة وغلبتها على المعارضات الداخلية والوطنية (والاهلية)، وشاع مع تسلط الجهاز الخميني وأنصاره على ثورة الايرانيين المدنية على الدولة البهلوية، وعالج "نسيان" الجمهور الاسلامَ، على زعم الجهاز بـ"ذاكرة شعبية" دعيت الى "احياء" شعائري خالص يثأر للمظلومين والمستضعفين الإلهيين من اهل القوة وسلاطتهم الشيطانية – على خلاف هذا المذهب يمثل شريط "النادي اللبناني للصورايخ"، متعرجاً ومتواضعاً وساخراً، على نهج آخر في معالجة النسيان. وهذا النهج هو جزء من ثقافة عريضة، أو من نقض عريض على ثقافة الذاكرة الاحيائية المستقرة والمتعارفة. وعليه، يروح المتقصي المتذكر الى ملاقاة الحادثة او الحوادث المقصودة والمختارة من طريق آثار مادية ومعنوية تركتها الحادثة واصحابها. وهو ينشئ الحادثة على قدر ما يقر بها ويقرها على حالها المفترضة أولى أو اصلية. وهذا يتناقض. فلا تفارق الارادة المتعسفة، الاجتماعية أي الفردية (على قول فرديناند تونيس الالماني)، إنشاء الحادثة، والسعي في بلوغها بواسطة أو من جهة آثارها واطوار هذه الآثار.
 وقد يقود تعقب الحادثة، وروايتها أو حكايتها "عن" آثارها وحملها على عنعنتها، وهو النهج الذي يتناول عليه خليل جريج وجوانا حاجي توما الحادثة، الى تصديع بؤرتها أو صاحبها. فإذا بما يفترض في الذاكرة إحياؤه واحداً وماثلاً في معناه المجتمع والمؤتلف، تتنازعه كثرة تشكك في حقيقة وحدته واجتماعه، وفي صدق نسبة الحادثة إليه. فحين يعلل الاستاذ السابق في معهد هايكازيان، مانوك مانوكيان، مبادرته، وفريقه من الطلاب المبتدئين، الى اختبار صناعة صاروخ، وتغذيته بالوقود الصلب، يقول أن حاديه هو جزاء لبنان على استقباله الناجين الارمن من المقتلة التركية ومحاولة إبادتهم، وإيوائه إياهم ورعايتهم. فعالم الفيزياء الكيماوية الارمني اليافع، والمولود في القدس من والدين نجيا من الموت في 1915 – 1916 وكانا طفلين، يرد "الجميل" اللبناني أو يريد رده بما يحسن وقومه أو شعبه صنعه، وهو صناعة علمية. ويردد الباحث العالم الذي اكتهل وأسنَّ في المختبرات الاميركية الكبيرة، وآخرها في تامبا الكاليفورنية مركز قيادة جوية عسكرية وألكترونية، مرات في اثناء روايته أن اختباراته الصاروخية، في 1961 – 1967، ميزت لبنان بين بلدان الشرق الاوسط، وأفردته بمكانة لم يشاطره إياها غيره. وعطف هذا القول، وهو يبدو جزءاً من مقالات الفخر والاعتزاز "اللبنانية"، على القول السابق والاول في استقبال الناجين من محاولة الإبادة، يضمِّن لبنان الذي يريد العالم الشاب أداء بعض دينه على قومه معنى انسانياً أخلاقياً وسياسياً يتقدم المكانة وخلبها.

الناجون من الإبادة
وصدور المبادرة عمن هذه حالهم – أولاد ناجين من محاولة إبادة عرقية "رائدة"، وأبناء قوم ألزمهم الفاتحون الاناضوليون المسلمون القناعة بالمحل الثاني وخدمة المستولين بما لا يحسن أهل السيف والفتح القيام به، والتوسط بينهم وبين تجار أوروبا وملاحيها وأهل صناعاتها- صدورها عمن هذا قصدهم على ما مر، يدعو الى النظر في "لماذا نسينا؟" على وجه آخر. فمن نحن، "فاعل" النسيان أو صاحبه، على قول اللغة العربية؟ وتمضي الرواية او الشهادة على تعرجها. فمسرح بعض الاختبارات الكيمائية الاول، وغرضها هو تحصيل الوقود الملائم، ليس غير المعهد الجامعي نفسه. والاستاذ وفريقه المتطوع يجري اختباراته سراً أو هو يتكتم عليها ويتحاشى إعلام الادارة بها. فعلم مدير المعهد بها، وهو قس اميركي منذ عقود ويروي اليوم بعد نحو 50 عاماً الحادثة التي نبهته الى حصول الاختبارات في مختبر معهده، مصادفة: رأى ما يشبه الوحل الرمادي على ساعدي ابنته وثوبها، فسألها ما هذا؟ فقالت انها تشترك في جبلة الوقود في الطشت المعدني. فذهب ليرى ما هو هذا الوقود، وعلم بالامر، وأراد كفه، ثم رضي استتمامه.
 وفي الاثناء كان تجريب الصواريخ يتنقل بين مسارح مرتجلة مثل بعض الوديان والهضاب والحقول والجبال في ظواهر بيروت البعيدة. وأنهى اختبار عشوائي خبر الصواريخ الى الجيش اللبناني. ففي إحدى المرات حط رأس الصاروخ غير بعيد من كنيسة بلدة قريبة. وكان حضور القداس الصباحي – وهم، على ما يقول مانوكيان البروتستانتي مبتسماً وغامزاً، أرثوذكس، على طرف اعتقادي وثقافي وسياسي نقيض- يغادرون الكنيسة. ولم يصب أحد بضرر، غير ان الامر شاع وعرف، وبلغ "المراجع الامنية". وكانت محاولة انقلاب "القوميين السوريين" قريبة، والانفصال السوري عن مصر كذلك، والانقسام المنهجي – الشمعوني مستعراً، في ميزان تلك الايام. وحضن الجيش خطة العالم الارمني الشاب ورعاها. وحسب أن في مستطاع الجهاز العسكري الوطني تعهد برنامج علمي يتستر به على "برنامج" عسكري مضمر، على ما قال العميد المتعاقد يوسف وهبي. وكان يومها الملازم أول، والمنسق الذي ندبه الجيش اللبناني الى مراقبة فريق هايكازيان وقطاف ثمرته العسكرية، ومسايرته ومراوغته. وكان رأس الفريق العلمي يترجح بين رغبته العلمية ونازعه الى العمل في الصناعة وتقنياتها.
 ففريق الخطة، المدني والعلمي والعسكري الحربي، تنازعتهما غايتان غير مؤتلفتين أو متفقتين. ولم تلبث الخطة أن اندرجت، على رغم الفريقين، في سلسلة الحوادث التي أفضت الى حزيران 1967. وكانت حلقتها الاولى ربما هي تحويل إسرائيل مياه الاردن، وامتحانه السياسات العربية ونزاعاتها على القيادة من الباب الفلسطيني وذلك في مؤتمرات قمة بقيت قراراتها غير نافذة. ونبهت اخبار التجارب اللبنانية دولاً عربية وخليجية خرج بعضها لتوه منن نزاع تهدد استقلاله مع جاره القوي والطامع فيها محافظةً يضمها الى محافظاته، لولا نزول مظليين بريطانيين فيه، وحمايتهم إياه. فاقترح "شيخ" الدولة، على قول استاذ جامعة تامبا، على المدرس نقل اختباراته الى بلده أو مشيخته. وعشية حزيران 1967 استعرضت الاحتفالات العسكرية العربية الصواريخ، من طراز سكود، سلاحاً ظن مخيفاً. ويقرِّب صاحبا الفيلم نمطي الصواريخ، العلمي الفضائي والعسكري البري، واحدهما من الآخر. ويخلصان من استعراض الاحتفالات الى صورة الانكسار الاليم على وجه جمال عبد الناصر وقامته وهو يدخل استوديو التلفزيون المصري في اعقاب الخسارة الفادحة والثقيلة.
 فهؤلاء كلهم: العالم الارمني الشاب وفريقه ومعهده، والضابط اللبناني وزملاؤه الضابط وقائد جيشهم السابق ورئيس جمهوريتهم، و"الشيخ" العربي المعول على سلاح محلي يقيه تهديد جاره ومطامعه، و"شيوخ" الدول العربية والمشرقية المتسابقون على حرب يستعرضون سلاحها ويجهلون سيرورتها ومترتباتها، الى آخرين يمرون عَرَضاً مثل جوزيف صفير التقني الطلق اللسان والثرثار (على تهمة وهبي) الذي أسهم في صناعة الوقود قبل أن يبني التيليفريك بين جونيه وحريصا... – هؤلاء كلهم، ولست أنسى جوانا حاجي توما وخليل جريج اللذين ولدا لسنتين خلتا بعد 1967، أجزاء من ضمير "نسينا" المتصل، ومن "نحن" النسيان الملوم والمعيب. وفي الاثناء، تناثرت "نحن" مصائر متفرقة ومتنازعة ومتحاربة، وهي كانت تواريخ وسيراً لا تجتمع في "صدر رجل واحد"، على قول المبرد صاحب "الكامل". فإذا لم ينسَ متذكر، فماذا عساه يتذكر ويبعث؟ وما هي معاني ما يحييه فعل التذكر؟ هل يحيي محاولة الابادة في حق أرمن الشرق التركي؟ أم يحيي النزوح المرير الى القامشلي، ومن القامشلي الى البقاع فبيروت أم فالجولان فالقدس؟ أم سحرَ مغامرة الاكتشاف العلمي التقني؟ أم الرغبة في حيازة البلد الضعيف بعض عوامل القوة خِفْية؟ أم مفاجأة الجار المعتدي بسلاح مدمر على غرة منه؟ أم السعي في "زحف" واحد مدجج بآلات القتل والعزة؟ أم العينين اللتين جفَ وميضهما والكتفين المنحيتين؟
 فالتذكر من طريق الكثرة، والإصعاد من الآثار والاصداء الى "أثر أول" (جاك درّيدا) متدافع عله ينطوي على شهود لا يكتنفه أو يعتوره فوت أو غيب أو غير، والتقيد بسلسلة الإسناد هذه – تقود الى الاقرار بـ"نفس شعاع" أو متفرقة دعى عليها مجنون بني عامر بالعدم ("عدمتك من نفس شعاع...") أو بالموت. ولا يكف قوميونا وصحويونا وعاشورائيونا وجهاديونا وأصيليونا وما بعد كولونياليونا (من شواذ ابن جني وإعرابه) عن الدعاء عليها بالموت، وهم في تمام عقلهم ودينهم، ودعوتها الى ثوبتها من تفرقها الى اجتماعها وائتلافها تحت جنح إمامتهم المحمية بصواريخ ذات رؤوس كيمائية، وذرية على ما يرجون ويسعون. فاستنجاد ذاكرة "المقاومة" الواحدة، واستحضار بؤرتها من غير واسطة، وإعمال شاهدها وغيبها على حد سواء، نُذّر حجر مميت على الفروق والكثرة.