الأربعاء، 20 فبراير 2013

هانز بلومينبيرغ و"مشروعية الأزمنة الحديثة" في خضم خلاف الدنيوي الزمني والديني الأخروي: حقيقة الحداثة أصيلة وهي غيرت أركان العالم وقطعته من أنسابه

المستقبل - 17/2/2013

على نحو ما ينكر بعضهم، وهم كثر، على "تغرب" المسلمين او العرب افتعاله أو اصطناعه، وتالياً "لقاطته"، أنكر اوروبيون لا يحصون على الازمنة الحديثة المولودة من "التنوير"، غير المنقطع من كوبيرنيك الى مطالع القرن العشرين، تمويهها على ولادتها من القرون المسيحية، أو تزمين هذه الولادة (حملها على الزمن أو الزُّمنة، على قول بطرس البستاني). فهي، الازمنة، تزعم لنفسها الانفصال عن الديانة والانقطاع منها. وتنسب الى نفسها ولادة "شرعية" من جديدها المنقطع. وفي الاعوام 1966 1988، في خمس طبعات مختلفة، صرف هانز بلومينبيرغ الالماني (1920 1996)، عمله الموسوم بـ"مشروعية الازمنة الحديثة"، الى البرهان المفصل على ابتداء الازمنة الحديثة تحررَ الزمنيّ، علماً وفكراً وعملاً من الأزل الديني، وابتداء سيرة منقطعة ونسباً جديداً. والشبه القياسي لا يعتد به. والعبرة في الاداء الوظيفي والمقارن. ويقتصر التناول اللاحق على مقدمات ليس عسيراً على القارئ حملها على نظائر في التاريخ السياسي والاجتماعي.

ويلاحظ بلومينبيرغ ان مذاهب في التأريخ، هي مذاهب أو عقائد في تأويل الحداثة الاوروبية (في انتظار "حداثات" أخرى)، تستولد هذه الحداثة، ونتاجاتها الكبيرة مثل أخلاقيات العمل والثورة الاممية ورئيس الجمهورية من مثالات سابقة مثل النسك الرهباني والانتظار الخلاصي والملك على عرشه، تباعاً. وتزيد هذه المذاهب على الابنية او الصور المحدثة، قياساً على مثالاتها المفترضة، صفة الزمنية والدنيوية. وعلى هذا، فأخلاقيات العمل الحديث، وهي تنيط بأداء المهنة أو الحرفة معنى عظيماً يقضي بالانصراف التام اليها والتشاغل بها وقصر الانتباه عليها، تتحدر من اخلاقيات او موجبات الترهب المسيحي، على ما قضت بها انظمة الرهبانيات والتنسك في القرون الوسطى الاوروبية. وليست الثورة الاممية والعمالية التي أوكلت اليها الحركات الاجتماعية والسياسية في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين تحرير البشرية من أغلال الفقر والقهر والتفاوت، إلا صدى حركات الخلاص الدينية، وانتظار مجيء الملكوت على الارض. و"اقتصر" دور الحداثة وفعلها على "إنزال السماء على الارض"، على قول متداول وسائر، وإبدال "تحت" الارضية والدنيوية من "فوق" وغيبها وآلاف اعوام زمنها المؤلفة.

وتنشئ هذه الآراء أو الاحكام علاقة نَسَبية متصلة بين المصدر أو الاصل وبين الغاية تفترض، بدورها، تحولاً في المادة التاريخية من طور الى طور أو من حال الى حال. فالحالان او الطوران، على هذا، هما من احوال المادة الاولى او من اطوارها. وعلى المقارنة بين المراحل المتعاقبة قياس الاشواط التي قطعها السير الى المحجة الزمنية والدنيوية، وتشخيص الخطوة التي قادت الى الغاية المنشودة والمعلومة. وأذعن لهذا التعليل، وهو يزعم ان من طريقه يُفهم ما كان استعصى فهمه لولاه، وحَمَله على مسالك تأويل الحوادث والوقائع وظروفها من لا يقر بمقدماته اللاهوتية. وثمة نحوان او وجهان يجري عليهما إعمال التزمين والزمنية، النحو اللاهوتي والنحو التاريخي. والفرق بين النحوين لا يُحمل على فرق قيمة او معيار، مثل تقديم الزمني على الالهي واعلاء مكانته قياساً على مكانة دنيا سابقة، ولا يحمل كذلك على تأويل الخسارة على وجه التحرر من التقليد والغيب. وفي معرض تفنيد هذا المذهب في التأويل، يذكر بلومينبيرغ بأن المعنى اللاهوتي والديني نفسه انطوى في بعض مقالاته ومذاهبه على معنى موجب للتزمين، ولم يحمله على خسارة معنى انحطت به (أو أنزلته) من علياء الالوهة الى حضيض الدنيا وسفالتها المتمرغة في وحل الزمن والحادث والفساد. والمقالات والمذاهب هذه تطرفت أوغلت في إثبات هاوية دينية اصلية بإزاء العالم، فجددت بعض مقالات اللاهوت في المفارقة الالهية تجدداً "جدلياً". وما اعتنى به لاهوت "الشقاق"، أو الأزمة، هو جلاء تزمين العالم وليس التحري عن تضمينه في القدس. ولعل هذا ما صبغ استعمال لفظة "التزمين" بخطابة لاهوتية لا يخطئها الفهم.

التعريج

وثمة حاجة الى تعاسة العالم، على معنى "العالم" الممتلئ، ليزدان ما "ليس من هذا العالم" (او هذه الدنيا) ببداهة الانتظار. وبعد ان انتصب "التزمين" في السياسة الثقافية، علماً على التحرر من كل صور السيطرة اللاهوتية والاكليركية وتصفية مخلفات القرون الوسطى، صار قرينة على الفصل بين الجبهات والتفريق بين العقول، واستبق دينونة اليوم الآخر وتخليصها "الآخرة" من "الدنيا". فلا ضرورة بهذه الحال لإدراك ما حصل فعلاً في سيرورة التزمين على وجه خسارة في المعنى او الكنه، فربما كان هذا تخففاً من اعباء ثقيلة. وما أعقب لاهوت الازمة، وذيوله في الفلسفة الوجودية، يمم شطر تسويغ لاهوتي للتزمين. وكسب فيورباخ من حيث لا يحتسب وأحرز نصراً على اللاهوت نفسه. وهو حمل اللاهوت على وجه الاناسة (او الانتروبولوجيا) الآخر او قفاها، فذهب الى ان علامات تاريخ الخلاص ليست إلا توريات مرمزة وكنايات عن مشكلات تعتمل في ثنايا العالم وتضاعيفه، أو لغة "أعجمية" يرطن بها مُطلقُ العالم والانسان والمجتمع. وعليه، بدا كل ما ليس زمنياً استعارة ينبغي استعادتها الى اللغة الاصلية. فليس المشكل هو التزمين بل التعريج الطويل الذي أسلم اليه التزمين واقتضاه.

ومنشأ قوة الافتراضات التي تحمل الحداثة على تزمين او تمدين مقالات اللاهوت (المسيحي)، هو ان هذه الافتراضات تبطن نظرية مضمرة الى نظريتها المعلنة. فهذه، النظرية المعلنة، ترى الى اضمحلال الاحكام المعيارية، والى انحسار التأويل، شرطين ايجابيين مهدا الطريق الى التزمين. وأما النظرية المضمرة فتدعو الى حمل سيرورة التزمين على فصل من فصول سيرورة الخلاص (الديني) نفسه. وعلى هذا، فتركُ الاحكام المعيارية الى الوصفية، ونشدان التحليل بديلاً من التأويل، وما نجم عنهما من خلع السياسة الشرعية وهيئاتها وأجسامها عن كرسيها، هي، بحسب النظرية المضمرة، ثمرة عناية الهية مقدرة أرادت "تطهير" المسيحية و"امتحانها" من طريق التزمين، واحتسبت نتائجهما. وعلى وجه آخر، عرَّف بعضهم الازمنة الحديثة بـ"ربح عالم"، هو عالم الحداثة التاريخي والاجتماعي والسياسي والعالم العلمي التقني، وبـ"خسارة عالم" هو عالم المراتب والمعاني الناجزة والحدود المستوفاة، معاً. وتغلب الخسارةُ، و"غيابُ العالم على نحو لا مثيل له" (على قول حنة أراندت)، الربحَ أو الكسب. فإنسان الازمنة الحديثة رجع من اعتقاد حقيقة عالم الغيب و"البقاء" من غير اليقين بحقيقة عالم الشاهد والحاضر الطبيعيين والفيزيائيين. والطبيعيات، على مثال فلكيات النهضة، أوجبت حساباتها الرياضية إبطال حقيقة التظاهرات الحسية المرئية، وغلبت عليها ما لا يسع الحواس أو الطبائع البشرية بلوغه ما بقيت أسيرة أحوالها. ونأت الطبيعيات الرياضية والحسابية بإنسان الازمنة الحديثة من "الارض" وحقائق الحواس فوق ما نأت به آمال الخلاص المسيحية في الآخرة بما لا يقاس.

ولا يصدق القول في الازمنة الحديثة إنها بعثت الوجدان بحقيقة العالم الزمني والدنيوي الذي سبق المسيحية. فليس العالم الزمني والدنيوي الحديث نظير "الكون" (كوسموس) الذي أنشأه اليونانيون. وهو لا يشبهه. والحداثة لم تقايض آخرة أو غيباً وراء الشاهد الحاضر بدنيا ماثلة. ولا هي "اشترت" حياة دنيوية وراهنة لقاء التخلي عن حياة آتية. فـ"العالم" ليس في كلتا الحالين شيئاً او معنى ثابتاً ومحققاً، فيُنتظر انبعاثه على حاله الاصلية في السيرورة التاريخية من غير حجاب (ديني) أو قناع كان يحجب الحقيقة الباقية والاصلية. وينافي الرأي هذا حقيقة الحداثة التاريخية وأصالتها، وكلَّ حقيقة تاريخية، ويقصرها على مخلفات وثنية باقية بعد انحسار الدين وانكفائه الى قوقعته. فالإعادات، وغلبة الظاهر على المضمر، وانفكاك العوامل بعضها من بعض، وكذلك التقنعات وكشف الحجب وإماطتها، تفترض كلها، في مضمار الفهم التاريخي، تحكيم فكرة الجوهر الثابت أو مثاله. وهي تخلط، على قدر أو آخر، استعمالاً وصفياً بآخر تعليلي سببي. فالقول أن "التزمين في الريف" في دولة من الدول، قطع شوطاً بعيداً والقرينة عليه هي ضعف الروابط بالكنيسة في الابرشيات الريفية، ليس كالقول إن الرسم الرأسمالي على نتاج العمل هو تزمين لليقين بالخلاص على ما تجلوه عقيدة الاصلاح (البروتستانتي) في القسمة المقدرة. ففي الحال هذه، يحمل معنى مخصوص، هو الرسم الرأسمالي، على معنى آخر سابق، ويعلل به، وذلك على نحو لا يُستبان معه حصول التحول من معنى الى آخر: فالتحول المفترض لم ينشأ، في هذا القول، لا عن تواتر الدلالة ولا عن بسطها، وإنما نشأ عن خروج عن الدلالة والعمل الاصليين، وانحراف عنهما.

ولكن إعمال "التزمين" إعمالاً مفيداً (على المعنى اللغوي) لا يتأتى من نفي "الأصلي" و"المنحرف". فما ينبغي ضمه الى "التزمين" ليستقيم الإعمال المفيد والمرتجى هو من طبيعة لاهوتية حتماً. فيبدد مفهومُ "التزمين"، إذا هو حمل على مسوغات لاهوتية، المقومات التي يحتاج اليها فهم السيرورات والابنية التاريخية. فالفهم هذا يقتضي الإحاطة بما لا يقل عن تغيير أركان العالم، وعن تقطيع اواصر وأنساب، والحفاظ على هوية، في آن. وإذا صح أن "التنوير" هو "تزمين جاد" فقد يوجب عليه هذا أن يضطلع بتزمين مفهوم التزمين نفسه، أي بتأريخ انقطاعه وفرادته، وتخليصه من ذيول التأويل اللاهوتي المستحدث. وحيث يوجب التأويل اللاهوتي تبعية أو نسباً، ويرد المسألة الجديدة ومقوماتها الى شَبَه بمقدمات مسألة سابقة، إذذاك على تزمين التزمين التحري عن الانقطاع، وتشخيص حداثة من غير نسب أو صلب تتحدر منه.

أصلاب منحولة

ويذهب أصحاب المقالة اللاهوتية في التزمين الى ان مسألة اليقين، أو ضمان اليقين في نظرية معرفة الأزمنة الحديثة، ليست إلا وجهاً محدثاً، زمنياً إنسانياً، لمسألة مسيحية جوهرية وسابقة هي مسألة الايمان اليقيني بالخلاص. ورابطة المسألتين الواحدة بالأخرى هي "الشك المطلق في حقيقة الواقع في نفسه". فمصدر "المطلق" في التشكك هذا، وهو ركن نشدان اليقين النظري، خارجي وسابق، أي ديني وخلاصي. ورأى فيورباخ، في مطلع القرن التاسع عشر الالماني، ان العلم الذي أنشأه ديكارت في الثلث الثاني من القرن السابع عشر الفرنسي، وأرساه على الشك المطلق في اول الامر، قام بالدور الذي قامت به الكنيسة، ألا وهو "ضمان وجود فكري جامع وعام" (أو كلي، على معنى الاحكام الكلية في المنطق). والفلاسفة هم لاهوتيون "يوسطون" المفهوم المجرد.

وعلى مثال قريب من هذه المقالة في مطلق الشك، يذهب آخرون إلى ان أخلاقيات العمل الحديثة ليست إلا "تزمين القداسةِ" وأشكالِ النسك والانقطاع المتفرعة عنها. ويبدو أن الماجن ومحترف الغواية نفسه، على قول بودلير، يتحدر من القديس المسيحي ومن الحكيم الرواقي: كلاهما يبعث على الدهشة ولكنه هو معصوم منها ومحصن. وفي دائرة ثالثة، ليست إماطة الحجب عن أحوال النفس في السير الذاتية الادبية إلا "اختبار ذات النفس مزمَّنة"، على خطى الطهرانية وغلو تقواها. والفرق هو إلباس صرامة التأمل الديني واستقامته لباس الدقة العلمية. ولا يعدم انصار حمل الحداثة على اصلاب وأنساب دينية مسيحية رد القصص البطولي الشعبي الاسباني ("البيكارسك") على "اعترافات" القديس أوغسطينوس، و"روبينسون كروزوييه" على يوميات المؤمن الطهراني وتوسله بكتابتها الى تقصي سبل الخلاص. وعلى الشاكلة نفسها، ينسب فرض المساواة السياسية بين المواطنين على تزمين مفهوم أسوة البشر أمام الخالق. وتقتفي معايير الحق الجزائي الحديث آثار "لاهوت زمني"، وتفترض خطيئة مقتبسة من دائرة القُدس (أو المقدس). ولا تشذ مفهومات الدولة الحديثة عن متها بحبل قوي الى مفهومات لاهوتية. والحق أن التنسيب لا يقتصر على المفهومات، مفهوماً مفهوماً، بل يتعدى المفرد الى البنيان المتماسك والجامع الذي يضوي المفهومات، ويُسلكها سلكاً واحداً، ويُعملها معاً. وعلى هذا النحو، فالحال المأزومة وحال الطوارئ وأحكامها العرفية أو الاستثنائية تقومان، سياسةً وقضاءً، مقام المعجزة في اللاهوت. ولم يصنع ماكيافيلي، في بلورته للدعاوة (الدعوة + الدعاية)، إلا "ترجمة" صور الخلاص وإيجابها في صور دنيوية وزمنية مثل السلطة أو وحدة الوطن. وشيوعية "البنيان الشيوعي" انما هي تأويل الفردوس التوراتي أو الخلاص الأخروي على وجه زمني وبشري. وإذا تصدى ديكارت الى استنتاج العلم (أي الاستنتاج منه) معاييرَ عمل ترسي تمام "الاخلاق الناجزة" على ميزان ثابت، ولم يقصره على تناول العالم، أسرع هيغيل الى حمل الدعوى الغالية الى أصل مسيحي أراد جمع قصدِ عالم أو بسطه الى ضبط العمل على أوامر ونواهٍ.

ومفهوم التزمين يجمع الى نسب فلسفي وتاريخي نسباً حقوقياً واشتقاقياً (لغوياً) خادعاً. فالقول ان الاسقف "تزمَّن"، أي دخل في باب الحياة الزمنية والمدنية، وتحت السلطة والقوانين الزمنية وغير الكنسية وغير الحبرية التي تسودها وترعاها، وانخرط في القرن، ليس مثل القول إن الولي أو القديس "تزمّن"، أو القول ان الانتظار الأخروي انخرط في القرن ولبس صفته. فتزمين القداسة أو الرجاء الاخروي لا يفكهما من التماس أفق ظهور الخلاص العنيف. ويوجب التزمين ومنطقه امحاء الظهور والخلاص الأخرويين من الافق. وعلى المعنى الحقوقي والقضائي، استعملت لفظة تزمين للدلالة على تجريد الاكليروس من ممتلكاته منذ معاهدة فيستفاليا (1648). والقانون الكنسي يعني بتزمين ("ساوكولايزاسيو") الراهب اخراجه من الجماعة، وتعليق واجباته بإزاء السلك، وعودته الى حال كاهن رعية (مدنية). والمعنى الاخير لم يضطلع منذ إقراره الكنسي في القرن الثامن عشر بأي دور فلسفي أو "تاريخي" على خلاف تعريف مداولات نيابة الرايخ في 1803 التزمين بـ"اغتصاب حقوق الاكليروس"، و"إخراج الممتلكات غير المشروع ولا القانوني من ولاية الاكليركيين ويدهم". وحملت المداولات التزمين على انتهاك غير مشروع. ولا يفوت الانتباهَ أن اجراءات الثورة الفرنسية في حق ممتلكات الكنيسة، وهي لم تكف الى 1803، نُسبت الى عصر الانوار. وكانت ذريعة لقاء الفلسفة الاول بالتزمين هي تضمين عقد التاريخ القَبْلي سيرورة تحرير الممتلكات الخارجي والإكراهي. فصدر في 1798 كتابان ألمانيان في اعقاب كتاب كانط "منازعة الكليات" (كلية اللاهوت وكلية الحقوق وكلية الفلسفة وكلية الطب في الجامعة الالمانية)، وُسم الاول بـ"العقل يشترط التزمين" والثاني "العقل لا يشترط (اجراءات) التزمين"، يرد على الاول، ويفند دعواه في الممتلكات ومصادرتها بحجج كلية عامة وقَبْلية كذلك. وما جاز في الممتلكات والاشياء ساغ جوازه في الذهنيات والافكار والمعتقدات. والتوسع هذا، من دائرة الجهاز المادي الى دائرة الجهاز المعنوي والفكري، لم ينجم عن مترتب منطقي وحسب، بل أوجبه تناول للتاريخ حمل الحادثة من الحوادث (مصادرة الكنيسة على ممتلكاتها...) على نتيجة معقولة ومولودة من ظرف عملي. وعلى هذا، فالحادثة السياسية الحقوقية والقانونية عَرَضُ نازعٍ زمني دنيوي متصل، ومتماسك الحلقات والاوقات.

واشترط بعض الباحثين في تاريخ المفهومات على جواز اشتقاق "التزمين" اشتقاقاً صحيحاً من المفهوم الحقوقي الاجرائي (المصادرة)، وعلى استقامة تضمين مفهوم التزمين الاجراءَ الحقوقي والقضائي، اشترطوا البرهان على توليد ألفاظ مَرسوم المصادرة ومن تلك التي تدل على سيرورات تاريخية أخرى في باب التزمين. ويُغفل هؤلاء قصور تاريخ المفهومات عن الاحاطة وحده بمسوغات المفهوم واستيفائها على وجه التمام، كما يُغفلون ما بين المفهوم وبين تاريخه من انفكاك وانحراف. فليس بقاءُ الوقائع التي قد تدخل في باب التعريف بمفهوم التزمين بمنأى من عناصر المفهوم الحقوقي حجةً وافية. ويبطلها، والحق يقال، استعمال "التزمين" على معان كثيرة، ومن غير وجه جامع. وافتراض أصل ناجز وممتلئ للمفهوم، على أن تتفرع عنه مشتقات ثانوية وفقيرة، يطرح العامل التمامي أو الغائي، الارادي والمتعمد، في بلورة المفهومات واستوائها على صورتها "المكتملة". وفي أحوال كثيرة، ويصح هذا في التزمين أو "العلمانية"، ينقلب الاستعمال من حمل اللفظة على دعوة غائمة وشاكية الى حد (تحديد) سيرورة خاصة ومعبدة. والانقلاب هذا يبعث على الدوام تقريباً "ذكرى" عمل حقوقي وتاريخي، ويُبقي على الاستعارات التي ظلَّلَت ولادة الاستعمال او مراحله الاولى. ويُعرف قاموس س. رايك (1961) مادة "تزمين" على النحو التالي: "(...) أي صرم تصورات وأفكار إكليركية أو كهنوتية، ولكن كذلك، في معرض الكلام على اشياء اكليركية أو اشخاص اكليركيين (مقدسين)، صرم أواصرها (أواصرهم) بالإلهي". ولفظة "الصرم" هي صدى الاستعارة الحقوقية والقضائية، ونظيرها في التعريف هو الأواصر بالإلهي". والعبارة لا تتسر إيحاءاتها على الانتهاك الذي تفترضه وتولته، ويترتب عليه عنف غير جائز ومحظور.

وعلى إعمال مفهوم أو مقولة التزمين، في ضوء الفعل الحقوقي القضائي، التمثل بخصائص اجراء التجريد (من المِلك) او المصادرة عليه. وهي (الخصائص) ثلاث: العلم بالمصادَر من غير شبهة، وثبات الحق في ملكه من غير منازعة، وصدور الحرمان منه عن إكراه. ومثال المصادرة المضمر أو الكامن يظهر في الكلام على صرم العرى أو فكها من المصدر الاول والأصلي، أي الالهي. وإيجاب قوة الافكار والافعال على مرتبة استنتاجها من العقل الجامع والعام (أو الكلي) يجاور من غير حاجز الجزم بمصدرها الديني. ويوحي جوار على هذه الشاكلة بِجَرْي الافكار والافعال المنقطعة من مصدر أول وواحد، أي المزمَّنة أو المتزمِّنة، على مثال مشترك من غير تعالق أو تواشج فيما بينها. فاشتراكها إنما هو ثمرة المصدر الاول الذي انفكت منه، وصرمت روابطها به. والعالم الحديث ينبغي أن يُحمل على تزمين المسيحية، وليس على تاريخه وإيجابه هذا التاريخ. وإذا هو لم يصدع بالأمر، ونَسَب الى العقل الزمني (على مثال السلطة الزمنية) وجداناً أصيلاً بالنفس أُنكر عليه صدق هذا الوجدان، وطُعن على تحايله على واقع لا يسعه الجهل َ باتصاله التاريخي، ولا زعمَ القيام بالنفس من غير تبعية لأصوله التاريخية. وعلى المؤرخ الاهتداء بهدي المعايير التي تُعمَل في أحوال المصادرة (القانونية القضائية). والوجدان التاريخي بالقيام بالنفس يتكشف عن إيهام ذاتي إذا هو تنبه على صدوره عن المسيحية، وقصر انعطاف الازمنة الحديثة عن العصر الوسيط على انقطاع روابط الانسان بنظام الكون. ومقالة كارل لوويث هذه (1949 بالانكليزية و1953 بالالمانية) تدخل في باب الجوهرية التاريخية وإيجاب مثالات تاريخية ثابتة وواحدة. ويسوغ الايجاب هذا توحيد تاريخ الخلاص المسيحي وفكرة التقدم التاريخي. ويفضي الى الجزم بأن الازمنة الحديثة لا تعقل من غير سندها الى المسيحية.

الأركان

والفرق بين الخلاص وبين فكرة التقدم قاطع. فالخلاص الأخروي مبناه على حادثة تنزل على التاريخ وهي من غير طينته ونسيجه، أما فكرة التقدم فتتوجه على الآتي من داخل بنية التاريخ، ويحضر التقدمُ أوقات التاريخ كلها. ويفترض التقدم العمومية من غير استثناء، وهذا ما لم يكن على الدوام متاحاً. وهو ثمرة اختبارات جديدة افضت بها هامتها التاريخية المديدة الى العمومية. والخلاص الأخروي لازمه خوف ورعب مروعان. والى ذلك، فالانتظار الأخروي عوَّل على مجيء الخلاص من الخارج، واطرح التعويل على السعي الانساني والطوبي. والصور الطوباوية والخيالية التي تتوج التقدم في بعض المنازع التاريخية، لم تنشأ عن الوجدان الخلاصي الأخروي. فهي وليدة إخفاق الأنوار السياسي، واقتصارها على النقد الأخلاقي. وفكرة التقدم ليست صورة ضعيفة عن الدينونة أو عن الثورة، بل هي تسويغ الحاضر من طريق الآتي الذي يتوقعه، ويسعى فيه، ويقارنه بالماضي. واستيلاد تخطيط التاريخ والاحاطة بالطبيعة من ضمان التفكير ("أنا أفكر") صدقه بنفسه، ومن تلقائها، ضماناً مطلقاً، يخطئ التشخيص: ففكرة المنهج هي الاصل وليس الضمان الذاتي المطلق. والمنهج ليس تخطيطاً ولا ترجمة عن تقدير الخلاص الالهي، بل هو إنشاء استعداد أو نازع الى الاسهام في سيرورة مشتركة وذاتية تنتج معرفة وعلماً و"مسيراً مطمئناً في هذه الحياة" (ديكارت). وجمع وجوه التقدم ومثالاته الكثيرة، الجمالية والنظرية والتقنية والاخلاقية، في رسم واحد وتاريخ واحد، يفترض أن الانسان وحده يضطلع بالتبعة عن هذا التاريخ، وينهض الى "صنعه". ويخوله هذا الاستدلال على مسير التاريخ، واستنتاجه من فهم صاحب العقل نفسَه، صانعاً او خالقاً. والآتي، على هذا، هو تعاقب أفعال معاصرة. والتاريخ القَبْلي، الناجم عن استدلال القَبْليات الناظمة علاقات الوقائع في الاختبار، يجوز حين يصنع "المتكهن" الحوادث التي يتكهن بها ويسلكها في نظام. والبناء على معرفة التاريخ في سبيل عقلنته هو من ثمرات حساب التكافؤ والتفاضل الجديد. وما لا يتناهى ليس مستعاراً من صفة الخالق بل هو صورة من صور التسليم بدوام الحركة والإذعان لدوام لا يعقل انقطاعه. والذين يحسبون أنهم يعلمون خاتمة التاريخ المحايثة يخولهم علمهم التوسل بمن لا يعلمون والتصرف بهم على ما يتصرف بالأشياء والآلات بحسب علمهم. وما لايتناهى يبطل مزاعم العلم التام أو "الالهي"، ويبطل التصرف بالبشر على وجه الوسيلة أو الآلة.

ولا تستقيم موضوعة تزمين المسيحية من باب طرقته مقالات كثيرة في اللاهوت وذهبت الى ان العصور الحديثة تدين لها بفكرتي التاريخ المتصل، عوض "التاريخ" الدوري، والانسان الفرد الفاعل والمسؤول ثمرة التجسد. ويحمل هذا على التزمين الاول او محايثة "الارض" الاولى. وحمل الزمنية على المسيحية من وجوهها المتفرقة لا يؤدي الى الاقرار بقوة التزمين على الإحداث أو صنع الحادث (على قول المتكلمين المسلمين) وقلبه من حال الى حال. فهي، والحال هذه، قناع يتستر على ما لا يطيق العالم رؤياه أو إثباته على صفته الدينية من بعد. ونسبة اليوم الآخر، أو ختام التاريخ وتمامه، الى الزمن الدنيوي أو "العَالْماني"، على نحو ما يكتب بطرس البستاني، تقتصر على الموضع، ولا تتجاوزه الى هوية الفاعل: التاريخ الزمني ليس صاحب الرجاء الاخروي والخلاص المهدوي بل هو موضع تحققه. والحق انه لا معنى على وجه الدقة للقول ان الدعوة الدينية، التوراتية أو البروتستانتية، الى إيلاء المشاغل الدنيوية مكانة راجحة لا تنقضها ولا تزعزها مشاغل الخلاص الأخروي، وهي مقدمة أولى من مقدمات التزمين. فالتشاغل الدنيوي لا ينافسه تشاغل آخر، ويبطل معناه إبطالاً تاماً نفي دوام الدنيا وزمنها، ورمي زمنها بالفناء الوشيك. فقرب الخلاص، أو وشكه ينفي الوقت ويقضي ببدده، وينقضه من أركانه، ويقوض إيجاب النفس ويجعله علماً على العبث. وطلب إرجاء البعث أو القيامة، أو إمهال المؤمنين قبل طيهم لعلهم يستدركون على ما فاتهم، لا يتوجه على مهلة تاريخية بل على وقف إنفاذ حكم. والرجاء الاخروي والخلاصي هو الراجح، وهو الباقي على حاله أزفت القيامة أم أرجئت. وشرط انتقال "المِلك" (الامتلاك) من ملكوت السماء الى الارض هو بروز صاحبي حق، قانونيين أو حقوقيين، راسخين، يتناقلان الهبات والعطايا: فتنتقل أملاك الكنيسة والاكليروس المعنوية والرمزية والمادية، الى الزمنيين أو العَلمانيين. والعلاقة لا تعكس: فالتزمين يصح في ما ينسب نفسه الى غير الزمني، ويصدق على تخليص العالم (الحياة الدنيوية والزمنية) من نقيضه وخلافه، وتركه الى شأنه ونفسه وانقطاع الامل في خلاصه. وعليه، تبلورت أو حصحصت حقيقة لا سابقة لها.

والمقدمات السريعة هذه لست إلا مدخلاً عاماً الى فصول دققت في الاركان التي نشأ عنها إرساء العالم الزمني والدنيوي، المادي والتاريخي، على علل ذاتية. وأول هذه الاركان هي ما لا يتناهى ولا ينتهي الى حد، ويجمع فكرتي الألوهة و(دوام) الحركة والكون معهما على مثال فهم مشترك. وثاني الاركان هو أزمة لاهوت الخلق المطلق المتمادية، وإفضاؤها الى الإسمانية الغالية التي انقلبت من إثبات الفعل الالهي غير المقيد بالعقل الى "تحرير" المخلوقات من مقاصد الخلق وترتيبه. والركن الثالث هو تحرير الفضول أو النهم الى المعرفة من الادانة الاخلاقية والعملية والصوفية. و"عودة" النهضة الايطالية الى المصادر أو الينابيع اليونانية واللاتينية فرع على هذا الاصل. وركن آخر هو الثورة الفلكية، وتعاقب كوبرنيك وكيبلير وغاليليو على بلورتها الرياضية والتجريبية. وقبل أن يتولى فيورباخ وفرويد، بين مبتدأ القرن التاسع ومبتدأ العشرين، تضمين "الانسان" الحسي آخرَه أو غيرَه من غير مفارقة، تولى نيكولا الكوزاني وجيوردانو برونو استخراج الكون، والعالم الارضي، من الذات الكلية وعلى حدة منها، إما من طريق تقييد هذه نفسها أو من طريق "استنزافها" واستبطانها (في) الكون، وحلها فيه.

ويُفترض في هذا الرسم أن يحمل المقارنة بين "النهضات"، او المقايسة بين "حركات" التنوير (وهو ما يُزعم لبعض المقالات المدرسية الباهتة)، على بعض التواضع والإمساك والتبصر. فـ"تحرير العقل" من اللاهوت ومتعلقاته، ومن الاستبداد وطبائعه، ومن الجهل وتورياته، على مثال "الانوار" المفترض، يقتضي استعارات (على قول بلومينبيرغ) تغرف من "عالم الحياة" المتشابه، ولا تحول دون بلورة مفهومات ومعادلات محكمة. والاستعارات الاسلامية، وهي وحدها على خلاف المفهومات والمعادلات تستحق الاضافة أو الصفة، تترجح بين الهداية والاتباع، وبين البدعة والضلالة، وبين التوحيد وبين الكثرة، وبين الامن وبين القتل، وبين النبوة وبين السلطات، وبين النهضة والإحياء وبين الانحطاط... وتنحو هذه الاستعارات نحواً صلباً ومتزمتاً، قريباً من نحو المفهوم او المعادلة من غير تجريد هذين أو انخراطهما في عمليات تحول محسوبة ومحتملة ومعلقة على حقول ومضامير. وثمن النحو الصلب والمتزمت انقطاعُ عالم الحياة المتشابه من العبارة واللغة والأداء، وإغراق الاستعارات الغالبة في محاكاتها المفهوم بالإيماء، وتصديها لعالم الحياة وتشابهه بالإسكات والخرس.