الخميس، 21 مايو 2009

سياسة الجوار التركية في المشرق عثمانية بلغة غربية... على خلاف «اللغة» السورية
الحياة- 20 مايو 2009
تحدو حكّام تركيا من قادة حزب العدالة والتنمية، الإسلامي الليبرالي، رغبة قوية في حمل الأتراك أولاً والعالم القريب والبعيد ثانياً حركتهم الديبلوماسية والاقتصادية النشطة، في دوائر جوارهم الكثيرة، على انبعاث العثمانية أو تجددها. وكان تورغوت أوزال، رئيس الوزراء في أوائل تسعينات القرن الماضي، أدرج المفهوم هذا في التداول. وصاغه الأستاذ الجامعي ومستشار رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان ووزير خارجيته منذ نحو الأسبوعين، أحمد داود أوغلو، في 2001، أي غداة تسلم الحزب الإسلامي الليبرالي الحكم، نهجاً سياسياً استراتيجياً في كتاب وسمه بـ «العمق الاستراتيجي». ويذهب المستشار السابق الى ان سند الديبلوماسية التركية، على مفترق أربع دوائر هي أوروبا والبلقان والقوقاز والشرق الأدنى والأوسط، هو الأراضي التركية. والأراضي هذه، على ما يسميها، «مرنة». و «الأراضي المرنة» تقوم على «اتصالها» الطبيعي والسكاني (وليس «استمرارها»، على ما تترجم صحيفة «الشرق الأوسط» في 10/4) داخل الحدود السياسية والقانونية التركية وخارجها. ويستثني داود أوغلو إيران من الاتصال والمرونة. فـ «الحدود التركية – الإيرانية تعود الى 1639 [معركة تشيلديران]»، وهي «على ثباتها منذ 350 سنة» على التمام والكمال، ولم تقع حرب عليها مذذاك.
وينتبه الوزير اللاحق الى ان الأراضي المرنة، قد تبعث على «توتر شديد» أو تدعو الى «سلام واعتماد متبادل» أو «تكامل». وتمهد الطريق الى زيادة المبادلات، وإنشاء المناطق الحرة، واستعمال النفوذ لدى الأقوام «المتصلة» وحضها على الاعتدال. وسورية مثال على المرونة الجغرافية، وعلى التحول من التوتر الشديد الى تبادل الاعتماد والتكافل. فقبل 11 عاماً، تهددت المسألة الكردية، واتصال إقامة الأكراد على جبهتي الحدود التركية – السورية الرخوة وأراضيها المرنة، علاقات البلدين بالانهيار. وكان الرئيس حافظ الأسد حسب يومها أن في وسعه إيواء قيادة حزب العمال الكردستاني بدمشق، وتدريب كوادره في البقاع اللبناني، والتستر على انتقال المقاتلين على جهتي الحدود، «رداً» على سلب «اللواء العربي»، وعلى حبس مياه الفرات عن الأراضي السورية والعراقية والتحالف التركي – الإسرائيلي العسكري الذي أعلن في 1994.
ويتعمد الرئيس التركي، عبدالله غل، رمي هذه المرحلة وراء ظهره أو ظهر الدولة التي يرئسها، فإحياء المدى العثماني السلطاني أو الامبراطوري لا يترتب عليه حكماً، ولا ينبغي ان يترتب عليه إحياء النازع الى إنشاء سلطنة أو مناطق نفوذ وولايات. وعشية زيارة غل الطويلة الى سورية، وإلى قطبيها المدينيين دمشق جنوباً وحلب شمالاً، «تكلم» الرئيس التركي العثمانية، إذا جاز القول، في (اللغة) الأوروبية. فهو، من وجه، مدح خطوات الحكم السوري «المهمة» على طريق الإصلاح الاقتصادي. وقرينته على الإصلاح ليست خطط الدولة، ولا استثماراتها، ولا إنفاقها، بل تعاظم الاستثمارات الخاصة في الاقتصاد السوري، وإجازة السلطة «إعلاماً خاصاً منفتحاً». وتوقع الزائر «استمرار المسيرة» هذه. وهو، من وجه آخر، نسب الى القضية الكردية تأخير قبول تركيا في الاتحاد الأوروبي. وأوجب، على سبيل التمني جزئياً، ان يكون أكراد ســـورية سوريين، وأكراد العراق العراقيين، الخ. وهو اجتمع الى المســـؤولين الأكراد العراقيين، في اثناء زيارته العراق قبل 6 اسابيع تقريباً، في ضوء المعيار هذا. والجمع بين مديح الانفتاح على الاستثمارات الخاصة، وإرساء علاقات الجوار المثمرة على التعاون الاقتصادي، وبين تحميل الانشقاقات القومية، وانتهاكها الحدود الوطنية والســــياسية، التبعة عن غلق الباب بوجه الانخراط القاري الواعد والمثمر، هذا الجمع ليس اتفاقاً. والتنويه به، على عتبة زيارة المسؤول التركي الأول الى الدولة الجارة وهي الزيارة الرابعة على مستوى رفيع في غضون سنة والزيارة الـ15 على المستويات المتفرقة، ليس «بريئاً».
فالجمع بين مديح الانفتاح الاقتصادي وبين هجاء الانشقاقات الأهلية والقومية المتخلفة عن الأراضي المرنة والحدود الرخوة، قد يصلح كناية عريضة وقريبة عن أحوال الشرق الأوسط المضطربة، وعن سبل علاجها المجزية. وجدد غل، في يوم زيارته الثاني، دعوة ملحة الى إنشاء «أعمال اقتصادية مشتركة، وفتح أبواب التعاون على مصراعيها». وقد يبدو هذا من بدائه الأمور لولا إيلاء وزير الخارجية التركي الجديد التعاون المكانة التي يوليها إياه، وإلحاحه في استبدال المنافسة، وهي المصطلح الأوروبي (الاتحادي) المناسب والمستعمل، بالتعاون. ولولا عودة غل الى «التدخل» في الشؤون الاقتصادية السورية الداخلية.
فهو أثنى ثناء غنائياً على توقيع البلدين اتفاق التجارة الحرة قبل 7 أشهر، وعلى تعاظم التجارة بين البلدين، وبلوغها 1.7 بليون دولار في اثناء سنة (ويزيد الرئيس السوري المبلغ 300 مليون دولار على سبيل المدح). ولكنه استدرك، مستدرجاً ومنبهاً ومحذراً، وقال مخاطباً السوريين في افتتاح ملتقى رجال الأعمال المشترك: «تحريركم الاقتصاد، وتقليص البيروقراطية، وتقوية القطاع الخاص ورفعه الى مرتبة الصدارة، حرية بجعلكم تحصدون النتائج (الإيجابية)». وتوقع «تدفق رأس المال الأجنبي» على الاقتصاد المحلي حال إنجاز الدولة السورية «الإصلاحات التشريعية والقانونية» الضرورية. ومثّل الرئيس الديبلوماسي على السياسة المقترحة بحال تركيا، في معرض الإشارة الصريحة الى مواطن الخلل الفادحة في السياسة الاقتصادية السورية منذ 40 سنة. فقال ان مجيء رأس المال الى تركيا، واستثماره في مرافقها وأعمالها، يقتضي «توافر ضمانة حقيقية له» في البلد المضيف. «ودعانا هذا الى تقويم (ضماناتنا) تقويماً جديداً، وتذليل معوقات كثيرة» حالت بين الرساميل الأجنبية وبين الاستثمار في تركيا.
ويتوسط المشهد الجغرافي السياسي والاستراتيجي العريض الذي تنصب السياسة التركية خشباته، أو مسرحه الشرق الأوسطي، نهجٌ لخصه عبدالله غل في اقتضاب: «سورية هي بوابة تركيا على الشرق الأوسط، وتركيا هي بوابة سورية على أوروبا». وفي الحالين والاتجاهين، القطب الاستراتيجي الأول والراجح هو أوروبا واتحادها، أو الغرب عموماً، على ما قال أحد داود أوغلو يوم انتقلت إليه حقيبة الديبلوماسية من رجل الإصلاحات الاقتصادية، سلفه علي باباجان. ورجحان الكفة «الغربية» في الميزان الاستراتيجي والجغرافي السياسي في الدوائر التي ورثتها تركيا الحديثة، الكمالية، عن السلطنة العثمانية وتاريخها المديد والمختلط، يقوّم التواء الميزان هذا إذا خلي بينه وبين الميل مع نازعه السلطاني والتسلطي.
ولعل الحوار الضمني بين الرئيسين التركي والسوري في ملتقى رجال الأعمال المشترك، دليل على الزعم هذا. فاقترح الرئيس المضيف، مسترسلاً ربما مع «رؤى» ضيفه الجغرافية السياسية ومسوقاً الى بريقها، تكاملاً وتعاوناً في «فضاء اقتصادي» واحد بين تركيا والعراق وسورية وإيران. وذهب الى ان «معنى» التكامل والتعاون الاقتصاديين، في اللغة الخلابة التي يكتشفها المضيف، هو «ربط البحر المتوسط مع بحر قزوين والبحر الأسود والخليج». ودلل على انخراط سورية في الدائرة هذه بتطويرها «سكك حديد، باتجاه العراق لنصير العقدة الإجبـــارية لكل هذا العالم في الاستثمار وفي النقل وغيره». ويُفهِم الكلامُ هذا مغزى زيارة رئيس الوزراء السوري القريبة الى العراق، غداة زيارة وزير الخارجية، واستعجال دمشق تعيين سفير لها ببغداد وسبقها بغداد في هذا. وهو تفسير نضوب حركة «المجاهدين» الانتحاريين، وانتقالهم من الأراضي السورية والحدود المشتركة الى أنحاء العراق «الخصبة»، نضوباً جزئياً (سبق استئناف الحركة على مستوى أقل، على زعم المصادر الأميركية والعراقية).
ولكن أفق المضيف السوري، الجغرافي السياسي والاستراتيجي، عثماني سلطاني في لغة عثمانية. فهو يتوق الى «عقدة إجبارية» لا تقيدها الإصلاحات الاقتصادية ولا قوانين الاستثمار الخاص والأجنبي، ولا تلزمها الضمانات «الحقيقية»، على خلاف رأي الضيف الليبرالي الإسلامي. ويرى الرئيس السوري سورية وتركيا محوراً أو قطباً يقتصر على وجهة واحدة، «ممراً مهماً بالنسبة لآسيا وأوروبا والعالم العربي في مجال النقل والطاقة وكل المجالات الأخرى». وسورية وتركيا، في التصور التركي، بوابتان وممران في اتجاهين، جيئة وذهاباً: من طرف أوروبا التركي الى العالم العربي، ومن طرف العالم العربي السوري الى أوروبا. فهما «مهمتان»، (وهذا هاجس سوري مستبد) من غير شك، ولكن مقدار ما يحتاج العالمان، الأوروبي والعربي، الى التبادل، وتتعاظم علاقاتهما.
والفرق السياسي والاقتصادي والجغرافي بين اللغتين والصياغتين، عريض. فيغلّب الرئيس السوري الموقع الطبيعي والجغرافي على السياسة والاقتصاد، ودواعيهما وذرائعهما. ويحسب ان البلدين الحليفين هما، من تلقاء موقعهما المشترك ومن غير دولتيهما أو حكميهما وسياستيهما، جسر أو عقدة أو وصلة. فيضم الى «فضائه» المفترض بلداناً يجمع بينها «ود» سوري، ومصلحة سورية. وتنيط الرؤيا الاستراتيجية السورية الطارئة بالمصلحة والود السوريين التغلب على ما توليه السياسة والديبلوماسية التركيتان المكانة الأولى، أي الأنظمة الاقتصادية والإصلاحات والتشريعات والضمانات ورأس المال الأجنبي والاستثمارات والأسواق والحواجز البيروقراطية. وذلك داخل دول تتمتع بحدود قانونية ثابتة، وجماعات أهلية وطنية.
والبلدان التي يجمع بينها الرئيس السوري كتلة متصلة إنما ينتخبها بين بلدان أخرى محتملة يستبعدها، على رغم قربها وتجانسها النسبي وحاجتها. فلبنان والأردن أقرب الى تركيا، نظماً اقتصادية ودراية رأسمالية وخبرات تجارية وثقافة ليبرالية، من سورية نفسها، ومن إيران والعراق بالأحرى. وواجهة سورية الضيقة والمشكلة على المتوسط وحوضه، والعلامة على إشكالها دورها المعرقل في مسار برشلونة واضطراب علاقتها بالاتحاد الأوروبي، لا تتيح لها التنطح، على قدم المساواة مع تركيا «الأوروبية» والأطلسية، الى التمثيل على رابطة متوسطية، على خلاف لبنان، على سبيل المثال. وتربط الأردن بالعراق روابط أهلية واجتماعية وجغرافية واقتصادية وثيقة. وهو حلقة وصل بشبه الجزيرة العربية، وبساحل الخليج من طريق شبه الجزيرة، أقرب من سورية. وتفصل إيران عن الدائرة العربية حواجز تاريخية ومصلحية وثقافية وسياسية استراتيجية صفيقة. وجوار إيران القوقازي والآسيوي المتوسط أشد تعقيداً وتدافعاً من جوار تركيا. وهذه تقر بإخفاقين، بأرمينيا، في القوقاز، وقبرص، على المتوسط. وتنكر ايران إخفاقاتها الكثيرة. وهي، في الأحوال كلها، ليست جزءاً من «المنظومة» الأوروبية – المتوسطية. وقد تكون جزءاً من منظومة آسيا الوسطى – آسيا الجنوبية. فلا محل لها جغرافيا سياسياً واستراتيجياً في دائرة تتوسطها تركيا، وتجمع حولها بلداناً مشرقية ومتوسطية، تيمم شطر أوروبا. وأخيراً وليس آخراً، إيران الخمينية والإسلامية الشيعية بؤرة اضطرابات إقليمية أدت وتؤدي الى تقطيع أوصال الدوائر التي يُدخلها فيها موقعها.
والتعلل السوري، وعلى مقدار أقل الإيراني، بدعوة تركيا الى محاورة إيران و «حزب الله» و «حماس»، ومديح تركيا على سياستها هذه، لا يعتد بهما. فالأركان الأربعة التي يرسي عليها وزير الخارجية التركي الجديد علاقات بلده بجواره الأوسطي، و هي الأمن الجماعي والمفاوضة على الخلافات والاعتماد الاقتصادي المتبادل والتعايش الثقافي (والقومي) المتعدد، تنافي الأركان المضمرة، السلطانية الأمبراطورية، التي تنهض عليها السياسات السورية والإيرانية. فقوام السياسات هذه توظيف الأراضي المتصلة، وجماعاتها وأقوامها، في تقويض الكيانات الوطنية (العربية)، وبث الشقاق الأهلي، وخنق التقدم الاقتصادي المتاح، وابتزاز المجتمع الدولي ودائرته الغربية على وجه الخصوص بحروب إرادية ومختارة عمداً. وهذا ما لا يعلنه السياسيون الأتراك. وقد يعلنون بعض ما يخالفه حين يلقون باللائمة على «الحربين» الإقليميتين الأخيرتين على إسرائيل، على ما يقتضي العمل الديبلوماسي المجدي. ولكن لا لبس في الأفق السياسي الذي يسعون فيه: «إطلاق الصواريخ من غزة أو لبنان غير مجد»، «لا جدوى من التسلح النووي»، «لا ننافس مصر أو السعودية والعلاقة بيننا علاقة تعاون»، «المهم هو وحدة أراضي العراق ووحدة قراره السياسي»، «سعينا دوماً في سبيل ضمان الاستقرار في لبنان»، الى الآراء الاقتصادية التي مرت. وعلى هذا، فلا شك في صحة تشخيص احمد داود أغلو دور الأراضي المتصلة: فهي إما داعي انفجار أو مدرجة الى الحوار.

السبت، 16 مايو 2009

إثنينية انتخابية وطنية وعامة تخلف حروباً أهلية مستأنفة ومتجددة

الحياة- 13 مايو 2009

في نهاية 30 الى 35 سنة عاصفة تنحو معظم بلدان المشرق العربي الى بلورة بنية سياسية انتخابية تقوم على نظام «الحزبين»، وعلى تنافس تكتلين وطنيين عريضين. وليس التمثيل على الازدواج الحزبي بالقيسية واليمنية إلا على سبيل الظرفية التعليمية. ولعل خوض كتلتي أو جبهتي «14 آذار» و «8 آذار» اللبنانيين الانتخابات النيابية الوشيكة في الدوائر - الأقضية الـ26، في طول أراضي البلد وعرضها، من آخر القرائن على اثنينية سياسية وأهلية وطنية. وعندما «يتحاور» الفلسطينيون وينتخبون ويتقاتلون، فإنما يفعلون هذه، المحاورة والانتخاب الاقتتال، على المثال أو الرسم الاثنيني الغالب. فينقسمون فتحاويين وحمساويين. ويذهبون في انقسامهم هذا الى حد شطر السلطة القائمة و «الدولة» الموعودة دولتين أو إقليمين. وقد تؤدي انتخابات العراق القريبة، غداة توقيع الحكومة والقوات الأميركية المعاهدتين الأمنية والعسكرية، وبعد الانتخابات المحلية، الى تخطي الانقسام المذهبي والقومي بعض الشيء، وصوغ أحلاف معقدة ومتعرجة تلد في نهاية مطافها جبهتين مؤتلفتين من قوى متفرقة، تتولى واحدة الحكم، وتنهض الأخرى بالمعارضة. ويندرج مؤتمر التيار الصدري بتركيا، ورسوخه في الاحتجاج السلمي، وسعيه الى رعاية إقليمية جديدة، في التوجه هذا.
وتصدق الملاحظة على المملكة الأردنية الهاشمية، وعلى الكويت، على أطراف المشرق. وتغلب فيهما اثنينية قبلية وليبرالية، من وجه، وإسلامية وقبلية، من وجه آخر، على القسمة الانتخابية. وتشذ سورية، والحياة السياسية السورية وحدها في الإطار الجغرافي هذا، عن الاثنينية السياسية الانتخابية وازدواجها. ويعود هذا الى تصلب النظام الانتخابي وتحجره، وانسلاخه من التيارات والأهواء والعصبيات السياسية والأهلية التي تعتمل حقيقة في ثنايا الجماعات. ولا تتستر الأحادية الانتخابية الظاهرة والموجهة، وجبهة الأحزاب «الوطنية» الثمانية (بعد ضم الحزب السوري القومي الاجتماعي الى الأحزاب السبعة التقليدية) في قيادة «حزب» البعث وتحت هذه القيادة، على انقسام سياسي وأهلي ومذهبي واجتماعي قطباه الغالبان الى اليوم هما حزب الحكم والسلطان والمعارضة الإسلامية.
وينبغي أن تكون الاثنينية الانتخابية، والسياسية على مقدار أقل، دليلاً على نضوج العلاقات الوطنية بين الجبهتين أو الكتلتين العريضتين، وقرينة على بلورة نهجين عامين، أو برنامجين وطاقمي حكم. فتقارع الجبهةُ الجبهةَ، والنهجُ النهجَ. ويقارن البرنامج والطاقم بالبرنامج المنافس وطاقم حكمه المنافس. وعلى الضد من هذا، يبطن الانقسام، ظاهراً كان أم مضمراً، نزاعاً أهلياً عميقاً قد يحاذي الانفجار وينذر به، من غير أن يبلغه، على ما هي الحال في الأردن والكويت. ويلابس الانقسامُ في الأحوال الأخرى، على درجات متفاوتة، نزاعاً أهلياً معلناً يترجح بين أعمال العنف المادي والمعنوي المتنقلة، على ما هي الحال في فلسطين والعراق ولبنان، وبين إيلاء الكبت البوليسي والأمني الدور الأول في حماية السلم الأهلي الظاهر، من غير استبعاد التلويح بالقمع الدامي ومباشرته، على ما هي الحال في سورية. وعلى هذا، يحول أفق الحرب الأهلية، أو النزاع الأهلي العنيف، بين الاثنينية الانتخابية وبين التمثيل على اثنينية سياسية وطنية. فيمثِّل الحزبان المفترضان على عصبيتين متناحرتين تنزعان إما الى شق الدولة دولتين، واستيلاء العصبية على «دولتها» واستمرار حربها على عدوها، وإما الى غلبة ساحقة على الحزب الأهلي العدو وإرساء السلم الأهلي والاستقرار الظاهر على كبت وقمع يشفان، على رغم قوتهما واتصالهما، عن الاضطراب السياسي والأهلي العميق والعميم.
ولا ينفك الحزبان يتغذيان من موارد إقليمية كثيرة، عصبية وأهلية وسياسية وعسكرية ومادية، على مقادير متفاوتة، وقلما يتأتى لحزب من الحزبين، أو جبهة من الجبهتين، أن يستقل بموارده الذاتية عن «حلفاء» إقليميين هم، في معظم الأحوال، قادة أهليون ومسيطرون. فلا يستقر النزاع الداخلي على موازين وطنية، ولا تقيده، زمناً ودوائر جغرافية، موارد داخلية متاحة ومحدودة. ولا تحسمه، تالياً، الموازين الداخلية، ولا تقوده الى نهاية، أو الى صيغة ترعى مصبه السياسي. والحزب الخميني والحرسي المسلح في لبنان («حزب الله»)، على رأس جبهة «8 آذار»، دليل بارز وصارخ على دور الموارد الأجنبية وغير الذاتية، العصبية والأهلية والسياسية والعسكرية الأمنية والمادية، في نصب ميزان النزاع، والتحكم في دوائره وأوقاته وصيغة أو صوره.
فالحزب يدين بنشأته، وبميدان معركته ولحمته ومــقاتليه ومؤسساته وتمويله وسلاحه وأحلافه وســـياساته، لولي أمره الذي تولاه ورعاه وتعهد خطواته، ويتعهده، ويتكفل به وبحلفائه، الى اليوم. والتكفل بأكلاف القيادة والسيطرة المعنويتين والماديتين شرط لا غنى عنه لإرسائهما على بعض الثبات والاستقرار، ولدوام الاثنينية الوطنية و «تطويرها». وعلى هذا، فسيطرة الحزب الخميني والحرسي المسلح على كتل «8 آذار» الحزبية والانتخابية لا تستقيم إلا في ضوء خريطة النزاعات الإقليمية، وموارد أطرافها.
وتدين الاثنينية بتبلورها واستقرارها النسبي، وهي نشأت (وتنشأ) في أحضان بلدان ومجتمعات عرفت بكثرة مكوناتها المحلية وشرذمتها، الى الحروب الأهلية المتطاولة التي شهدتها، ولا تزال تشهدها وتغذيها الى اليوم. فلم تتماسك النزاعات اللبنانية المبعثرة والكثيرة وتستقر على نزاع انتخابي وسياسي يكاد يكون مشتركاً وجامعاً، يواجه فيه محور استقلالي مدني ومركب محوراً إقليمياً بوليسياً مسلحاً وهرمي التركيبة، لم تتماسك النزاعات على هذا المثال والرسم إلا بعد عشرات الأعوام من الحروب والنزاعات المتناثرة في أنحاء لبنان (والجوار) لا تحصى.
ويعود تفوق القيادة الإيرانية الحرسية على القيادة السورية الاستخباراتية الى توجيهها ثقلها نحو بناء قوة أهلية مسلحة، قائمة بنفسها وراجحة، على الجبهة الإسرائيلية والإقليمية أولاً، قبل توظيف جزء من القوة المتعاظمة والباهظة التكلفة على الجبهات الأهلية الداخلية، وأولها الجبهة الشيعية نفسها، من بعد. فاستولى الحزب الخميني المسلح على الجبهة الإسرائيلية - اللبنانية، جنوب الأراضي اللبنانية، وفي إقليم التفاح وشرق صيدا، وعلى طول بقاعها. وكان، في الأثناء، يحصن قواعده وخطوطه الخلفية في ضواحي بيروت، ويقرها على دور «خزان المقاومة» و «أرضها المحررة» من الدولة، ويصفي قوات «أمل»، جنوباً وبيروتاً وضواحي وبقاعاً وجبلاً. ويلحق شبان الحركة به، وبقواته وحملاته. ووسع الحزب الخميني المسلح، والإسلامي الثوري الدعوة والدعوى، و «الفلسطيني» والعروبي الميدان والمسرح، وسعه اختراق الجماعات السنية الأصولية المتحلقة حول الفلسطينيين ومنظماتهم المسلحة في المخيمات ومدن الجوار الساحلية، صور وصيدا وبيروت وطرابلس، والداخلية، بعلبك وبلدات البقاعين الأوسط والغربي.
وهو يتصدر اليوم الكتل الانتخابية، المزعومة خارج الحكم ومعارضة، في معظم دوائر الجنوب والبقاع وبعض جبل لبنان (بعبدا وجبيل)، وبعض بيروت. وتضطلع «الآلة» الحزب اللهية الحرسية بأدوار نافذة، بعضها اعتراضي، في معاقل سنية، بطرابلس وبعلبك وصيدا، أودرزية، مثل بعبدا، أو مسيحية، مثل جبيل. واضطلعت أصوات شيعية قليلة بالمتن الشمالي في الانتخابات الفرعية على مقعد شغر باغتيال بيار الجميل، بترجيح كفة المرشح العوني. فترسمت العملية الانتخابية، وتحالفاتها الأساسية والفرعية، خطوط جبهات القتال، القديمة والمستحدثة. وعلى نحو ما جهز الحزب الشيعي المسلح حملاته القتالية في بيروت والشوف والشويفات وعاليه، وبلغ عكار بالواسطة، وكان ضَلَع في اشتباكات طرابلس المتمادية، وبعث دورياته الى أعالي صنين ومفترق بلاد جبيل وقمم الجبال المطلة على البقاع، يقود الحروب الانتخابية الجارية، ويرعى جبهاتها. فيحكّم في «الخلافات» التي ينأى بنفسه عنها، وهي تنشب في عقر دياره الأهلية والعسكرية والتمويلية. ويجمع الزعيم المسيحي «التاريخي»، ميشال عون، الى زعيم شيعي لا يقل «تاريخية» عن سابقه، نبيه بري، ويقضي بخوضهما انتخابات «مهنية» في جزين، بجوار معقله في إقليم التفاح، وشبكة طرقه العسكرية بشرق صيدا. ويرجئ إعلان موقف ميشال عون من رئاسة «الأملي» الأول مجلس النواب القادم، فيستكمل هذا قرابة ربع قرن (22 سنة) من الرئاسة الثابتة.
وتسري العمومية الوطنية الانتخابية هذه في بلد فسيفسائي التركيب و «النسيج»، وعلى رغم قانون انتخابي يرمى بالطائفية المذهبية والشرذمة المحلية والعائلية. وهذا قرينة جلية على تقادم الزمن على «التحليل الطائفي» التقليدي. ولا يزال «التحليل» هذا ركيزة البرامج الانتخابية والسياسية الشيعية، ويتصدر «برنامجي» محمد رعد (نيابة عن حسن نصر الله) ونبيه بري، ومطالبتهما الهازلة بإلغاء «الطائفية السياسية». (وذلك شرط تقوية «طائفية» أهلية وعسكرية وبوليسية ومالية وثقافية وإدارية حصينة وإسمنتية). ففي دوامة الحروب الاحتياطية المزمنة، والمتفرعة من «القضية الفلسطينية» ومن صراع متجدد على الشرق الأوسط، وفي سياق الحروب هذه، نشأ على أنقاض الجماعات المحلية، ودوائرها ومراتبها، حلفان متنازعان ومتقاتلان. ويجمع الحلفان، على اختلاف بنيتيهما ولحمتيهما، قوى هي خليط من جماعات حاكمة في «دول» وأجهزة وجماعات أهلية وعصابات وأحزاب وروابط و «شخصيات» وأيديولوجيات ومصالح. وتتصدر إيران الخمينية و «النووية» حلفاً ورث من الحرب الباردة، ومن منقلبها السوفياتي، خصوصاً، بعض أساليبها وبنيتها، وكثيراً من تواطؤاتها، وجدد (في) أفكارها وغاياتها وثقافتها. وعلى خلاف الشرذمة السورية، لا ترى القيادة الخمينية الحرسية ضيراً في بناء قوة متماسكة واحدة من فتات الشراذم المتناثرة شرط التحكم في «قممها»، وفي عصبها. وهذا يعقد مسارات المفاوضات المزمعة، ويشبكها بعضها ببعض. ويسوغ الدعوات الملحة الى مفاوضة «حماس» و «حزب الله»، من غير تمييز جناح عسكري من سياسي. وربما سوغ دعوات قادمة الى مفاوضة «الإخوان» المصريين والأردنيين و «جيش المهدي» سابقاً، بعد الدعوة الى مفاوضة معتدلي طالبان و «عسكر الطيبة» الكشميري و «اتحاد الشباب» الصومالي.

الجمعة، 8 مايو 2009

الاستقواء بالاتحاد الأوروبي على الوطنيات الاقليمية...تزكية الوحدة القومية الديموقراطية بمنطق ولاية الحاكميات

المستقبل، 3/5/2009


من لا إلفة بينه وبين البيانات العربية في التنسيق والتعاون والتخطيط المشترك و "الوحدات"، الاقتصادية والأمنية والثقافية والعسكرية وأفقها السياسي و "القومي" الماثل ابداً ودوماً، قد يأخذه على حين غرة عجب بعض الساسة المشرقيين، من محترفي "الوحدات" هذه أو بياناتها، من تأخر "اتحاد عربي" يسابق الاتحاد الأوروبي ويتقدمه. والسبب في العجب السامي هو تمتع العرب، ودولهم وشعوبهم، على قول من تنوب عن بشار الأسد على رأس الجمهورية العربية السورية (اسم من ثلاث ألفاظ أو كلمات مشكلة المعنى والجمع)، باللغة العربية العظيمة والرائعة التي يتمتعون بها. ويؤيد خبير اقتصادي ومالي سابق، القول هذا. وحملُ الوحدة السياسية أو "القومية"، على قول عربي غامض ومزمن، على اتفاق اللغة المكتوبة والتراثية، حين أكثر من نصف المجتمع أمي والنصف غير الأمي معظمه "لا يقرأ" على ما زعم بن غوريون ويصدق من يروون عنه، هذا الحمل على اللغة يبعث على عجبين أو دهشتين: من رد السياسة الى اللغة وتوحيدها فيها، ومن تعظيم شأن ما لا تحصى القرائن على ازدرائه، والعبث به، وتركه مواتاً.

الزمن والدهري
فإذا رجع الواحد من عجبيه ودهشتيه، لم يفته طبعاً ان بعض الخفة تلازم الكلام على الاتحاد والوحدة، وعلى صفة العروبة المفترضة جامعة، وعلى ترتيب عوامل الوحدة التي لا يشك فيها "المؤمنون" بها (فهي "فعل" إيمان: حين القول فعل والفعل قول). ولا يفوت المراقب أو الملاحظ، من وجه آخر، ان إيجاب وحدة "العرب"، في أقطارهم الاثنين والعشرين الى اليوم أو دولهم، قلما يتعدى الإيجاب الوجودي، أو الحكم بالوجود والوقوع، الى الإيجاب السياسي، أو الحكم بإلحاح ضرب من العلاقة التنظيمية والإجرائية. فيسع بلدان الخليج والمغرب، ومصر بين هذه وتلك، نصب العروبة تعريفاً والاقتتال الأخوي فيما بينها، معاً. ويكاد يكون ساسة سوريا والسوريين وحدهم يُتبعون فعل إيمانهم العربي والوحدوي بترتيب تنظيم وإجراء على فعل الإيمان هذا، أي بتعدي القول الى الفعل. ولكنهم يخصون "لبنان" بتعديهم هذا.
وهو، التعدي (لغة وفعلاً)، يتوج عقوداً طويلة من سياسة جوار محمومة ومقلقة، غذّت حماها الفروق الاجتماعية والأهلية والدينية والجغرافية والسياسية المتعاظمة. وفي سياقة التاريخ الطويل هذا، وترقى "أوائله" الى أواخر القرن الثامن عشر وبدايات القرن الذي يليه أي الى ظهور أعراض انحلال السلطنة العثمانية، مال اهل الساحلية الى بلورة هوية تاريخية أو "زمنية" اجتماعية وإدارية، مدارها على "حوادث" الأسر الحاكمة والعصبيات والنزعات المحلية والولاة والولايات والجبايات والتجارات والزراعات والمدارس والموانئ والمجاعات والهجرات. ومال أهل الداخلية، الى تثبيت هويتهم على الأنساب الأهلية والفتوح (الخالية)، وذاكرة هذه وتلك ولغتها. وكان الفرق مرآة تاريخين مختلفين ومتنازعين. وترتب على فرق التاريخين، وعلى اختلافهما وتنازعهما، تناولان متباينان للفرق التاريخي ولمحله من الهوية والسياسة. فذهبت بلدان الداخلية العربية، ولا يزال معظمها يذهب الى ان الفروق الحادثة، الأهلية والاجتماعية والثقافية والسياسية، لا يعول عليها في في تناول الهوية الجامعة، وليست عاملاً يعتد به في معالجة صيغ الحكم والأبنية السياسية الداخلية، أو في صيغ العلاقات بين الدول والبلدان والجماعات.
وعلى خلافها، استلهمت بعض جماعات بلدان الساحلية، وهي لم تفض الى بلورة دولة وطنية في غير لبنان، الحوادث "الزمنية"، وأوجبت اعتبارها واحتسابها في ميزان الهويات ومصائرها. وكان إنشاء الدولة الوطنية، على رغم مبادرة الدول الأوروبية إليها، ثم دوامها على مقادير متفاوتة من التنازع والقلق، إثباتاً مضطرباً لجواز إرساء كيان سياسي قائم برأسه، فعلاً وحقاً (أو قانوناً مشروعاً)، على حوادث تاريخية زمنية، وليس على هوية "قومية" جوهرية، أهلية ونسبية في المرتبة الأولى. وجوز النشأة والدوام رجحان كفة الدول الكبرى في ميزان القوة وكثرة الكيانات الإقليمية والأهلية وضعف قياداتها ومجتمعاتها (أو جماعاتها)، وجمع الكيانات هذه، قيادات ومجتمعات، بين وقائعها الإقليمية أو "الكيانية" المنفصلة والمنعزلة وبين انتسابها "القومي" والأهلي الجامع.
وهي جمعت بين الأمرين، الوقائع "الكيانية" والنسب الجامع، من غير تناقض وتدافع، من جهة، ومن غير تأليف ونسيج، من جهة أخرى. فبقي فعل الإيمان الوحدوي والعروبي معلقاً ومجرداً، ما لم يدعُ داع سياسي ظرفي إلى خلاف الأمر، والداعي هذا صادر غالباً عن موجب لا راد له هو محاماة الجماعة الحاكمة والمتسلطة عن نفسها بوجه إنكار مشروعيتها، وتنديد الكثرة الأهلية بأقلويتها الأهلية والاعتقادية (على ما هي الحال في سوريا البعثية الأسدية، وعلى ما كانت عليه في العراق البعثي الصدامي)، أو بتنطحها الاجتماعي والمرتبي (على ما كانت الحال عليه في مصر وسوريا والعراق واليمن في أعقاب الانقلابات العسكرية). وأقامت قيادات الكيانات ومجتمعاتها على جمعها بين قطبين متدافعين، في الأفكار والذهن، ومتآلفين فعلاً وعملاً، حين استظهرت القيادات والمجتمعات بحوادث "زمنية"، واستقوت بها على الطبقات الحاكمة القديمة أو السابقة، وسوغت انقلابها، العسكري في معظم الأحيان، عليها، وعلى سيطرتها. ولم تكن وحدها "متناقضة"، فناقض تسويغها "الزمني" والتاريخي منزعها "القومي" والأهلي الثابت والدهري. فالجماعة الوطنية الحادثة فعلاً، والناشئة عن حوادث سياسية وثقافية واجتماعية وأهلية معروفة "الأزمنة"، على قول بطريرك ماروني و "لبناني" كبير، هذه الجماعة لم تحمل نفسها، ومصيرها التاريخي والسياسي الذي أدلى بها الى إنشاء كيان سياسي وحقوقي وطني، على حدوثها وتكونها، بل نسبتها، بدورها وعلى مثال الجماعات "القومية" المتناقضة، الى هوية دهرية وألفية ("ستة آلاف سنة") ثابتة. وليس هذا نهاية "التناقضات". فعندما تخففت جماعات لبنانية عروبية من ثقل عروبة مبدئية وعامة، حلمت بعروبة "حضارية".

الدمج والتقطع
والحق ان الترجح بين الوطني وبين القومي، أو بين التاريخ السياسي وبين هوية تتعالى عن التاريخ، لم تقتصر فصوله الأخيرة على الطاقم الحاكم السوري في علاقته بلبنان واللبنانيين، ولا على علاقة جماعات لبنانية بساسة سوريا وبعض أجهزتهم الأمنية والعسكرية. ولا قبلها، على علاقة الجماعات هذه بالمنظمات الفلسطينية المسلحة، أو بالرئيس المصري الأسبق، جمال عبدالناصر فنصب "القائد" الليبي معمر القذافي، نفسه من تلقاء نفسه داعية "وحدوياً". وتنقل بين مصر والسودان وتونس والجزائر والمغرب وتونس (في إطار مغاربي هذه المرة). وحاول قسر حكومات، أي رئاسات هذه البلدان على الاتحاد. وانهارت المحاولات هذه قبل ان تتصور في أضعف صورة مرئية، على خلاف صورة الوحدة السورية – المصرية، وبعيداً جداً من صورة الكونفدرالية اللبنانية – السورية، وهي أوضح صور التوحيد القومي العربي، وأكثرها دقة وتفصيلاً. ولعلها أقواها وأعرضها دلالة على مضمرات التوحيد القومي العربي غداة الحرب العالمية والانقلابات العسكرية التي "جددت" الجماعات والكتل العربية الحاكمة.
فاتحاد دولتين أو أكثر هو، في مرآة ما يسمى افتئاتاً ومجازاً "تجارب وحدوية"، إعلان جهازين حاكمين عزمهما على دمج "شعبهما" الواحد والمشترك، على رغم كثرة الدولة، في دولة واحدة، أو تحت رئاسة مشتركة قد تكون واحدة وقد لا تكون. ويُغفل الإعلان عمداً المراحل، وشرائط إنجاز المرحلة قبل الانتقال الى التالية، والقرائن التي يستدل بها على الإنجاز أو على الإخفاق في هذا الميدان أو ذاك (من التعريفات الجمركية الى التعليم)، والإجراءات البديلة او الاستلحاقية في حال تأخر إنجاز المرحلة أو بدا مستحيلاً، إلخ. فما يتخطى مجلس الرئاسة، أو هيئات الحكم العليا، لا يحظى بالانتباه، ولا يستوقف دعاة الوحدة وأصحابها. واستثناء مجلس التعاون الخليجي، وخروجه على قاعدة عربية جارية، فرادة مردها الى "محافظة" دول مجلس التعاون، وإلى "واقعية" قياداتها ورئاساتها، على خلاف "ثورية" القيادات وضعف أودها السياسي واستعجالها العقيم. وتضمر الوحدات، على نحو ما يضمر تقديم اللفظة على أخرى قريبة هي الاتحاد، الذوبان في جسم واحد، وحين يبلغ الأمر هذا المبلغ من نفي التمييز، ورفض الإقرار به، تُحمل عوامل الإتحاد المفترض على اللغة والمعتقد والتاريخ (على معنى الأسطورة). وهي عوامل قوية الأثر من غير شك في طلب الانصهار على شاكلة الحلم وفي التسليم لإرادة توحيد "عليا" والتضحية بين يدي هذه الإرادة. ولكنها لا تقوم مقام نثر التدبير والإدارة، ولا مقام "شعر" السياسة الكبير. وهي، في الأحوال كلها، تفترض (وتغذي معاً) مثالاً من السياسة سلطانياً أو امبراطورياً فاتحاً لا يستقيم ولا يتفق مع بيئات إقليمية أو دولية، ولا محلية وطنية ابتداء، تدور مبانيها على معايير عمل مختلفة، وتسعى في غايات أخرى.
ولا يخفى ان الدول العربية، أي جماعاتها الحاكمة، التي يلح عليها شاغل التوحيد "القومي" والإقليمي، تكاد تكون نهباً، في الآن نفسه، لشواغل الحدود "القطرية" الصغيرة، ولمشكلات انتقال البضائع وسفر الأشخاص وتشريعات العمل والهجرة والإقامة والاستثمار والمياه. فإلى اليوم، لم ينجز ساسة سوريا المتعاقبون تخطيط حدود بلادهم مع دول الجوار "الشقيق" كلها: 1) لا مع لبنان، حيث لا يزال عمال مساحة لبنانيون يقتلون حين يوكل إليهم الأمر في الشرق الشمالي وفي البقاع الأوسط، ويثير ترسيم مزارع شبعا مسألة جغرافية سياسية واستراتيجية خطيرة، وحيث تغلق الجمارك السورية وأمنها بوابات الشاحنات والسلع الى الداخلية من طريق سوريا، ولا يعلم أهالي آلاف اللبنانيين ما مصير محتجزين أو رهائن أو موقوفين من أقاربهم في سوريا وسجونها وعلى أراضيها. 2) ولم ينجز الساسة أنفسهم تخطيط حدود بلدهم مع الأردن الذي ينازعونه نحو 50 كلم2 من أراضي الجرف الصحراوي، ويساومونه على المياه الثمينة وترعها، ويتحكمون في طريق النقل الى شبه جزيرة العرب. 3) والحدود السورية – العراقية مثار مشكلة عصية منذ 1978 – 1979، غداة انفراط عقد "جبهة الصمود والتصدي" التي أنشأها الحكمان البعثيان، الصدامي والأسدي، رداً على انخراط الرئيس المصري أنور السادات في مفاوضات كمب ديفيد، ثم في اتفاقاته. وتخلف عن انفراطها، الى إعدامات ميدانية بادر إليها صدام حسين، قطع علاقات التمثيل الديبلوماسي، ووقف تدفق النفط في أنبوب كركوك – بانياس، وغلق الحدود تقريباً ومراقبة المسافرين والتجارة (والسيارات المفخخة) مراقبة صارمة. ولم "تفتح" الحدود من جديد، عشية 2003 وغداتها خصوصاً، إلا بوجه مجندي "القاعدة" وقتلتها وانتحارييها، ومناضلي البعث الصدامي ومقاتليه، وهم في طريقهم الى الأنبار أو الموصل، وبعضهم في طريقه الى طرابلس وبيروت وصيدا.
وهذا غيض من فيض، وقليلة هي الدول العربية، في المشرق والمغرب، التي لم تشهد حروباً إما بين الدول وإما حروباً داخلية إقليمية ينهض لبنان، من طريق اللبننة، خالفة البلقنة، علماً عليها منذ نحو نصف القرن. فكانت باكورة الاستقلال الجزائري حرباً جزائرية مغربية في 1962. ولا يزال "الشعب" الصحراوي بتندوف والساقية الحمراء، معقلاً ثابتاً من معاقل حرب البلدين. وسبق السعي الليبي في "ضم" تونس الى حاكمية الجماهرية القذافية تسلل حدودي الى قفاصة موله القائد "العظيم". وحين أراد هذا إعلان العودة عن انخراطه في المسائل العربية، الداخلية اولاً، مثّل على عودته هذه بطرد عشرات الآلاف من الفلسطينيين الى الحدود الليبية – المصرية، وتشريدهم هناك. والرجل نفسه، ومن ورائه بلده، خاض حرباً على جبهة تشاد في أواخر ثمانينات القرن الماضي على أوزو. وتعرض الى تسلل من مصر في أواخر السبعينات وأدواره المتفرقة في السودان والصومال والنزاع الإريتري – الإثيوبي ومالي والنيجر، على جبهات هذه البلدان الداخلية والأهلية أو على جبهاتها فيما بينها، نشطة. ومتلونة وكان صدام حسين "محركاً" حدودياً فاعلاً ومدمراً. فهو خاض اعظم وأطول حرب دبابات بعد الحرب الثانية على الحدود الإيرانية – العراقية. وخلفت الحرب هذه نحو 600 ألف قتيل، وما لم يحص من الجرحى والمعوقين والمفقودين الى اليوم. وبعث اجتياحه الكويت، غداة سنتين على وقف النار على جبهة العراق الشرقية، أعرض تحالف أممي شهده المجتمع الدولي مع نهاية الحرب الباردة. واستبق التحالف الأممي، في قيادة الولايات المتحدة، احتمال انهيار الحدود الخليجية على حوض "بحر" النفط الكبير. فمن المحيط (سبتة ومليلة)، هادراً أم أبكم، الى البصرة (شط العرب) على الخليج واسكندرون، شمالاً، تتخبط دول "الأمة" وشعوبها وأقوامها وجماعاتها، في دوامة منازعات حدودية، في الداخل والخارج.
وهذا جزء من مخلفات "زواج" السرح الأهلي والقبلي والتجاري والديني (الحج) في عهدة خاقان البرين العثماني التركي، والولاية أو السيادة في عهدة الدول الوطنية. وحلت هذه محل الولايات، وقطّعت الأهل والأرض تقطيعاً وصف فيما بعد (ويوصف الى اليوم) بالكيفي والظالم و "التجزيئي". ويطلق الوصف غالباً في ضوء معايير ورغبات وخطط لاحقة وجزئية، قد لا تقل افتعالاً واصطناعاً عن "التجزئة" الاستعمارية. ولما ملكت الدول عصمتها، وآلت ولايتها على نفسها الى قياداتها الوطنية و "القومية" لم تدخر هذه جهداً ولا آلة في سبيل تدعيم الولاية المختلطة، السلطانية، والوطنية، على الرعايا والأرض. وانقسمت النخب السياسية، والعامة أو الجمهور، الانقسام الذي تقدم وصفه. فتنازعهما، النخب والجمهور، نازعان، واحد الى الانكفاء على الداخل، وتحصينه من الجوار والخارج من طريق قطع علاقاته الأهلية والسياسية والوطنية بهما، دولاً وجماعات. والنازع الآخر الى السيطرة على جماعات دواخل الدول الأخرى، واستمالة ولائها على دولها وجماعاتها الحاكمة، والانتصاب بإزائها مرجعاً وقطباً.
فالنخب السياسية الحاكمة "قومية" وعروبية ومتعالية على القطرية المحلية والانعزالية حين يغلب السرح الأهلي والقبلي والتجاري والديني، أو النطاق السلطاني والامبراطوري، على النطاق الوطني وهيئاته الرخوة ومصالحه المضطربة. وهي "قومية" وعروبية في كل مرة تحوجها فيها القوة الغربية، الأوروبية – الأطلسية (الواحدة على مثال امبراطوري استعماري، تعريفاً وماهية)، الى بعث صورة امبراطورية ماضية. وهذا ليس عسيراً عليها. فالتاريخ الإقليمي، القديم والوسيط و "الحديث"، يعج بالامبراطوريات، وبخليط الولايات والأقوام والأهل الذي يتربع في سدته أهل أو قوم، ويستولي على السدة متقنعاً بالدولة ونظام "الحكومة"، على معنى الدولة الأوروبية المحدثة. ولكن غلبة الصورة أو الرسم السلطاني والامبراطوري على الحركات السياسية العربية "الوطنية"، وفيها الحركات الإسلامية والقومية والأهلية والمحلية، أعجزتها حين بلوغها الحكم عن التدبير الحكومي، وعن بناء الدولة في الداخل والخارج. والتدبير يقدم "المساواة والكثرة والمنازعة والإدارة – وهي عوامل غير متجانسة – على تفاوت الحاكمية أوالولاية، وعلى تعاليها ووحدانيتها ونفيها الخلافات وتمهيدها بالإكراه.

الدولة والإمبراطورية
وحين تصدى دعاةٌ مؤسسون لمسألة "الضعف" أو "التأخر" أو "الانحطاط"، على ما سمى سياسيو القرنين الحاليين وكتابهما قصور أو تقصير بلدانهم (العربية والإسلامية) في ميدان "التمدن" و "المدنية" – وهذه كلها من مصطلح "النهضة" – بعثوا القوة المنشودة والمرجوة في صورة الوحدة الجامعة، وأنزلوا الوحدة الجامعة في جسم الخلافة وأحلوها فيه، أو في المملكة، أو في الامبراطورية الإقليمية. وليس حسن البنا المصري الإسلامي أو ميشال عفلق العروبي أو أنطون سعادة اللبناني "السوري"، ليسوا إلا أصداء منزع صادر عن السرح الأهلي والقبلي والتجاري والديني ونطاقه السلطاني والامبراطوري، وعن مقاومة السرح هذا رسم الدولة المحدثة، واستعدائه عليها الموارد الأهلية والقبلية والدينية والتجارية البسيطة أو السوقية. وهؤلاء كان حاديهم أو داعيهم الأول ضم أطراف "عوالمهم" بعضها على بعض، وغلق أبواب العوالم هذه وحدودها على دواخلها، واستعادة قوتها المفترضة بدءاً من حدودها وتخولها ومساكها، على ما كانت تسمى مواضع المراقبة على الانتقال والنقل.
وتستوقف، في أدبيات اليوم السياسية أو خطبه وبياناته، المقارنة المتواترة والبدهية بين الاتحاد الأوروبي وبين السوق العربية المشتركة المأمولة، على ما مر بمطلع العجالة. وتنكر الأدبيات هذه، والأرجح انها تجهل (أي يجهل اصحابها) السيرورة الأوروبية، ومراحلها ومرارة مخاضها ومنازعاتها المستمرة وترجحاتها. وهو جهل اضطرار وضرورة. فموضوع الجهل أو موضوعاته الكثيرة هي ما لا قياس عليه في الاختبارات أو في الحاجات العربية المدركة. ولعل مثال هذا الفرق الشاسع بين الرغبة المعلنة في رفع الحواجز والمعوقات بوجه التبادل والنقل والانتقال وبين اقتصار التجارة البينية على 4 الى 7 في المئة من التجارة الخارجية الإجمالية. وفي تقرير قريب لمنظمة العمل العربية ان نسبة انكشاف الاقتصاد العربي على الاقتصاد العالمي، وهي تقاس بقسمة التجارة الخارجية (العربية) على الناتج الإجمالي المحلي، بلغت، في 2006، نحو 80 في المئة. وتظهر مقارنة المؤشرين ضعف المبادلات قياساً على اقتصادات منكشفة وما يحجز أو يحول بين السلع وبين تبادلها يحول على نحو أشد وأقوى بين الناس وبين سفرهم وتنقلهم، وبين الأفكار والمطبوعات والكتب وبين تداول الرأي فيها ومناقشتها. وإذا أتاحت التقنية عبور الحدود البرية أو البحرية، تولت خطابة الصور والمقالات تحجيرها على خنادق وسرادقات متحزبة ومتناحرة. فالاتحاد الذي يزعم "الوحدويون" طلبه، وينشدونه، ينزل على البلدان والمجتمعات من عل سلطاني وفاتح، على مثال الولاية أو الحاكمية.

سيرورة الحكومة
وعندما تناول "مؤرخ" مجدد (لا تستوقفنا في المعرض هذا مسألة "اختصاصه" ومادة الاختصاص) هو الفرنسي ميشال فوكو، في محاصرات عامي 1977 و1978، مسائل "الأمن والإقليم والسكان" (نشرت في 2004)، وتضافرها، عالج النظام الإقليمي الأوروبي المتصل والمشترك على النحو الذي بدأ ينزع الى الاستقرار عليه في أواسط القرن السابع عشر. واختار، في أعقاب ما لا يحصى من الدارسين، عام 1648، وهو عام معاهدة فيستفاليا (أو وستفاليا، على ما يكتب بعضهم اسم المدينة الألمانية)، علماً على ولادة النظام الإقليمي هذا. وهو صار الى النضج، وبلغ مرحلته الطويلة، وغير المحصنة من الارتكاس، 12 عاماً غداة نهاية الحرب العالمية الثانية، مع معاهدة روما (1957). وحين ألقى المحاضر محاضراته، وهي لم يكن غرضها الوقائع السياسية الخبرية ولو "العظيمة"، غداة عشرين عاماً على معاهدة السوق الأوروبية المشتركة بين ست دول، صار عدد الدول تسعاً، وخطت خطوة أولى على طريق التنظيم النقدي فأقرت "ثعباناً" ضبط تقلب العملات داخل هوامش ضيقة، وأجرت أول انتخابات نيابية مباشرة الى برلمان أوروبي مشترك. ولكن أواخر السبعينات كانت تسبق ربع قرن المناقشة والخلاف الحادين اللذين نجما عن اقتراح دستور أوروبي، اقترعت فرنسا وهولندا على رفضه، في 2005، وعن طلب تركيا عضوية الاتحاد والهوية الأوروبية.
وذهب ميشال فوكو يومها، أي قبل ربع قرن على بروز معضلة الهوية الأوروبية في علاقتها بالمسيحية، من وجه أول، وبالإرادة الشعبية الموجبة، من وجه ثان، وبحدود أوروبا الجغرافية والسياسية، من وجه ثالث (وكان هذا الوجه رازحاً تحت ثقل النير الشيوعي السوفياتي وتقسيمه أوروبا وسطوه بالقوة على شرق أوروبا وبعض جنوبها البلقاني) – ذهب الى "كثرة" أوروبا، على معنى المصادر والمشارب والتواريخ الكثيرة. ولكن قوام الكثرة الأوروبية هذه هو اشتراكها في بنيان الدولة، أو الحكومة، وخروجها المشترك كذلك من الرسم الامبراطوري. والأمران متلازمان. فالإقرار بكثرة الدولة، وكياناتها المستقلة والنهائية، على قول لبناني شائع ومكرر، كسر الرسم أو الأفق الامبراطوري الجامع، وأحل "الميزان الأوروبي"، على ما قيل منذ مؤتمر فيينا في 1815، وجوق الأقطاب والدول الكبرى محل السدة الرأسية المتصدرة. وألغي المحل مع انقلاب مفهوم السياسة انقلاباً نقلها وأرساها على أركان أخرى لا عهد لها بها. فنشأت أوروبا المؤتلفة على نحو ائتلاف الجوق من أصوات متفرقة. ولا يبقى الجوق جوقاً، أو الميزان ميزاناً، إلا ببقاء الأصوات على تفرقها وفرادة اصواتها والمساواة بينها.
والتأريخ الشائع والرائج بفستفاليا ومعاهداتها – والمعاهدات هذه يتصدر شرحها والتعليق عليها "كتاب" هنري كيسنجر "الجامع" في "الديبلوماسية"، على سبيل المثال – مرده الى ان الوثيقة السياسية والديبلوماسية كانت ختام حروب دول وحروب أهلية ودينية عمت أوروبا، وشقتها بين الكثلكة والبروتستانتية داخل الدول بينها، وفي علاقاتها بعضها ببعضها الآخر. وعرفت الحروب هذه بحرب الثلاثين عاماً، وكان ابتداؤها الرسمي في 1608، سنة إنشاء الاتحاد الإنجيلي, وفي 1610، سنة إنشاء الرابطة المقدسة. وهي دامت حقيقة قرناً وبعض القرن. وشبت نذرها مع الحروب الدينية أو المذهبية. وكان الإصلاح البروتستانتي الألماني، في 1517، فاتحتها، والشمال الأوروبي، حيث انتشرت الشيع الإنجيلية، مسرحها الدامي، والامبراطورية الجرمانية المقدسة محورها. وخرجت الدول والمجتمعات الأوروبية من الحروب الكونفيديرالية، على ما سمى الالمان الحروب الدينية والسياسية والإقليمية هذه، مع التحول من إدراج الدول في زمن دائري هو زمن دولتها، أو مداولة القوة والغلبة بينها قبل ان تدور الدوائر عليها وتخلفها "دولة" أخرى (وهو الزمن الامبراطوري)، الى إدراجها في تاريخ لا يدول ولا يدور، ولا ينتهي الى نهاية أو ختام.
فالحروب المعقدة والمتشابكة والمدمرة التي خاضتها الدول والمجتمعات الأوروبي في معظم القرن السادس عشر وشطر من القرن التالي، سعياً في غلبة دولة على الدول الأخرى وفي غلبة مذهبها على المذهب الآخر وضم الجماعات المتفرقة التي تدين بمذهبها الى دولتها ورعاياها، امتحنت مثال الامبراطورية الجامعة أو المسكونية، والمقدسة قداسة الاعتقاد، ولفظته وأبطلته. فانتهت الحروب الأهلية والمذهبية داخل الدول المنقسمة الى فصل ديانة الحاكم والدولة، وهما واحد، من سلطته على رعاياه وإقليمه. ووسع بعض الرعايا التدين بمذهب أو معتقد غير مذهب الحاكم والدولة من غير الخروج عليه، أو موالاة حاكم آخر يدين بمذهبهم. وأما السبيل الى هذا فأمران: الأول سن قاعدة قضت بوجوب ان يكون الناس على دين ملوكهم وبطاعة "الكنائس" الوطنية ولي الأمر العام في الدولة، وقضى الثاني بحمل الدين المختلف على شأن ضميري وذاتي يقر في طوية المؤمن "الحرة" ولا يقدح في ولاء المؤمن لدولته وولي أمرها.
وعلى هذا فمعيار الدولة من نفسها، وليس من جامع عام كوني خارجها، وينطوي عليها انطواء الكل الواحد على أبعاضه وأجزائه، أو انطواء الغاية التي تتوج المراحل والأدوار الممهدة على المراحل والأدوار هذه. والدول كثيرة الى أبد الآبدين، إذا جاز القول. وقوانينها من نفسها، وغايتها هي نفسها، ولا غاية تمامية لها من غيرها. والقول بالدولة أصلاً وعلة و "عقلاً"، وهو قول وحال أو نظام عمل، ترتب عليه نزاع بين "السياسيين" على ما سموا، وبين انصار الكنيسة المسكونية والجامعة. وافترضت صورتا الكونية الجامعة هاتان، افترضتا الدول، وعلاقتها بعضها ببعض، على مراتب ومقامات وأعتاب (بحسب العبارة العربية المعروفة). وطي الصورتين الكونيتين طوى التفاوت بين الدول، وأحل محل الخصومة او العداوة، منافسة بين كيانات سياسية تامة، هي غاية نفسها، على ما مر القول للتو. ولا يتوقع تخطيها أو تجاوزها الى كيان أوسع أو "أعمق". وأما حيز المنافسة فهو المبادلات الاقتصادية المتمادية والمتكاثرة، وهذا الحيز ميدان يجري فيه المتنافسون، ويتسابقون على السيطرة فيه وعليه. ومالت علاقة الدول بعضها ببعض الى الدوران والاضطراب في الحيز هذا أولاً.

صرحا الديبلوماسية/ الحرب والحسبة
وكانت الخصومات والعداوات، والأحلاف تالياً، سلالية واسرية ملكية أو مالكة. فتحتسب احتمالات المجابهة والحلول، وأكلاف هذه وتلك، في ميزان ثروة "الأمير" الحاكم وممتلكاتها وخزينته، وفي ميزان استقرار سلطته، وقوة سطوته. ومع الانتقال من الولاية والحاكمية الى الحكومة، احتسبت الخصومات والعداوات والأحلاف، وهي أخلت المحل الى المنافسة (على معنى نشأة محل آخر)، في ميزان الدولة كلاً وجميعاً. ولم يبق موضوع الاحتساب، أو مادته، ممتلكات الحاكم وثروته وعوائده – وكان العثمانيون يسمون الممتلكات والعوائد السلطانية "ديوان الخاص" – فصار موارد الدولة ومقدراتها وطاقاتها التجارية وميزان مبادلاتها. وحملت الأحلاف مذذاك على مزيج المصالح الموقت، وعلى محصلة شبكها. فمعيار "القياس" السياسي الجديد هو قوة الدولة، على خلاف معيار توسع إقليمها وأراضيها، وبسطها تحكمها على أقاليم جديدة، وعلى أهل الأقاليم وممتلكاتهم. وتعظيم قوة الدولة في ميزان الموارد والقدرات والمبادرات ليست الغلبة، ولا الحاكمية، السبيل إليه ولا الذريعة، بل شبك قوى الدول المتفرقة والمستقلة في أحلاف سياسية تسعى في استعمال القوى على الوجه الأجدى.
وترتب على عقلنة القوة وعواملها، من موارد ومبادلات وتداول (سلع ومنتجات ورساميل، بديهة، وإليها البشر الأصحاء، والمدن الخالية من الأوبئة، والطرق السريعة، والبريد الآمن، والمعلومات المحققة، والتعليم المتصل، والعلماء المجددين...)، بناء صرحين أو كتلتين كبيرتين من المباني المركبة والمتماسكة: المباني الديبلوماسية – العسكرية، ومباني "البوليس"، على معنى الحسبة الإسلامي موسعاً، على ما يأتي. فنشأ عن إطار المنافسة نمط ديبلوماسي وعسكري يقيد الدول، ويعقل مطامحها ونماءها وتعاظم قوتها بقيد منها. ويترك لنماء القوة وتعاظمها متنفسات تتيح للدولة الواحدة موارد القوة من غير استفزاز منافسيها، ولا إضعافهم، وبالأحرى من غير القضاء عليهم. ونزعت تقنيات النمط الديبلوماسي والعسكري الجديد – وما ترتب عليه من بناء شبكة حصون، وشق طرق، وابتكارات تسليح، ورسوم تكتيكية، ومن تخصيص سلك من محترفي التخاطب بين الدول، وصوغ المعاهدات والمفاوضات، وشن تشريعات ونص على حقوق وقوانين – الى إرساء الجوار الأوروبي على إيجاب سياسات تشترك في توازن من غير مراتب.
ولا يفهم بالمنافسة محل الخصومة والعداوة، أو بالسعي في تعظيم القوة عوض التوسع والضم، وبانتفاء المراتب والمساواة بدل الوحدة الامبراطورية ورأسها، لا يفهم بهذه نظام من غير قوام أو عمود فقري. فأوروبا الكثيرة هي خريطة جغرافية داخل حدود وكيانات نحَّت أفق المسكونية الإكليركية والامتداد السلطاني. ولكن كياناتها، وتعد العشرات إذا احتسبت على ما ينبغي الإمارات الألمانية، ليست سواسية في ميزان القوة، على معناها الجديد. فثمة 15 دولة تفوق قوتها قوة الدول الأخرى، منفردة ومجتمعة، على المقياس المشترك. وعلى خلاف علاقة هذه الدول بعضها ببعضها الآخر، تنهض علاقاتها ببلدان العالم، خارج الخريطة الأوروبية، على السيطرة او الاستعمار، وعلى الاستعمال التجاري والاستغلال. وأما داخل أوروبا، فيستحيل على الدولة الأقوى، حسابياً، أن تملي إرادتها أو قانونها على أي دولة من الدول الأخرى، كانت من "النادي" المنتخب أم من خارجه. ولم يحل هذا بين دول قليلة، أربع أو خمس، وبين البروز. وقضى الميزان، والتزام أوروبا دوامه والحفاظ عليه، بانحياز الدول الأخرى مجتمعة ومتكتلة، الى قطب مشترك يكافئ الدولة البارزة قوة ووزناً راجحاً، ويقيدها بالميزان، ويردها الى حكم الأسوة في الشرف (أو الى "ارستقراطية أسوياء").
وعلى هذا، لا ينشأ السلم عن الوحدة، ولا عن بسط قوة غالبة أو جبارة واحدة سطوتها على الدول (الأوروبية) الأخرى، بل ينشأ عن الكثرة. وليست الكنيسة الجامعة مصدر السلم المتوقع، بل نظام الكثرة المقيمة على كثرتها. والنظام هذا يتولى امناً يتيح لكل دولة من الدول تعظيم قوتها، أو قواها، من غير ان يكون هذا سبباً في انهيار دول أخرى، أو في انهيار الدولة العظمى نفسها. وأداة الموازنة الأولى هي الحرب. وهذه كفت عن ان تكون حرباً "خاصة"، أو حرب الحاكم على حاكم آخر. وانقطعت من صلتها الحميمة والوثيقة بالقانون والحق والعدل، أو بـ "حكم الله"، على ما كانت الكنيسة تقضي في حروب الأمراء في العصر الوسيط. ونشأت صلة جديدة ومختلفة بين الحرب وبين السياسة. وذلك قبل نحو قرن من إرساء الصلة هذه على صيغتها السائرة والمعلنة. وتنص الصيغة على ان الحرب لا تشن لإحقاق حق، وهذا يفترض "سماءً" مأهولة بالحقوق والماهيات، والداعي الى شنها وخوضها هو علل القوة والدولة. ولعل وظيفة الحرب الأولى هي الحؤول دون الإخلال بالميزان المشترك. فهي، من وجوه كثيرة حرب على حرب الاستيلاء الامبراطورية اللائحة في الأفق (وكانت الحربان العالميتان حربين على لائحة ألمانيا الفاتحة، وعلى تهديدها أوروبا بالسيطرة عليها من غير تقيد بالميزان، والتحفظ الأوروبي عن تفوق القوة الأميركية ووحدانيتها مرده الى الخشية من انبعاث الرسم الامبراطوري، وينتقد "الواقعيون" الأميركيون الويلسونية، المبدئية أو المسلحة، باسم الميزان ورسمه).
واضطلعت المفاوضة الديبلوماسية الدائمة، ومعها نظام استعلام واستخبار معلن عن حال البلد "الآخر" وقواه أو موارده، بما لن تلبث عن الاضطلاع به البعثات والسفارات والقنصليات. وأُقر للبعثات هذه، ولمقارها ومبانيها وطاقمها ومراسلاتها، بحقوق لا تعقل في إطار نظام الحاكمية والسيادة هي حقوق الإخراج والاطراح من الأراضي الإقليمية. فتسري على الطاقم الديبلوماسي، وعلى مباني بعثته الوطنية، قوانين البلد الذي يمثله. فيرضى البلد المضيف استثناء أرضٍ وناس من قوانينه، ومن سيادته وولايته على هؤلاء، وعلى هذه. فتقام "أوكار الجواسيس"، على ما وصف أنصار روح الله خميني السفارات الغربية وأولها السفارة الأميركية، على مقربة من دار السلطان وسراياه. وهذه "الغرابة" جزء من تقييد القانون الدولي الجديد، وكان يسمى "حقوق الناس"، الحرب بين الدول، على ما لاحظ الألماني كارل شميدت. وآذن ذلك بالتماس "مجتمع أمم" طريقه، وبخطوه خطواته الأولى عليها.
والشطر الآخر الكبير من النظم التي بلورت الدول وروابطها وكثرتها، هو شطر الحسبة (أو البوليس على ما سمي يومها، ووصفت البلدان المتمدنة والمتقدمة بـ "البوليسية" على المعنى المزدوج هذا). والحسبة الأوروبية، على نحو ما استنتها السلطات والمجتمعات الأوروبية عند منعطف القرنين الخامس عشر والسادس عشر، هي فن الحكم الجديد على عتبة الحداثة، على ما يعرفها ميشال فوكو. وفن الحكم لا يسعى في بعث مثال جوهر والإقامة عليه. ويتناول الفن عدد السكان، وعلاقته بمساحة الإقليم، والممتلكات والثروات، وموارد الغذاء، والسياسة الزراعية، واستصلاح الأرض، وزيادة سكان الريف، ومراقبة الرسوم، وجودة الهواء، وسعة الطرقات، ومواضع المسالخ والمقابر، وملاحظة العمل والبطالة والمهن، وتداول السلع ونقلها. وهذه أبواب "المجتمع". ويُعمِل فن الحكومة علاقات قوة في دائرة منافسة تفترض نماءً وسباقاً، ويقوم على حفظ القوة وتوزيعها وتجديدها، على شرط ألا يخل تنامي القوة الداخلية بالميزان الأوروبي المشترك. فعلى الدولة الواحدة من دول الجوق أن تضطلع بتعظيم قوتها الوطنية على مقدار يناسب نماء قوى الدول الأخرى، فلا تسبق هذه القوةَ الوطنية ولا تتخطاها. وموازنة الحسبات تفترض جودتها الداخلية، واحدة واحدة. وتفترض رعاية الدول الأخرى، وبينها على الدوام علاقة منافسة، جودة الحسبة في الدول التي تنافسها. وهذا منطق غريب على خصومة الحاكميات السلطانية، ويعصاها فهمه، على ما يُرى اليوم في "الشرق الأوسط"، واسعاً أو متوسطاً أو ضيقاً، وفي علاقات دوله، حليفاً أو خصماً، الواحدة بالأخرى.
وصُنع هذا النظام في سياقة صناعة معارف ومعاملات (على المعنى الفقهي الأعرض) نحت نحو إعمال العوامل بعضها في بعض. فلا تعالج المجاعات من طريق ضبط الأسعار بقانون أو فرمان، ولا بسياسة حمائية تحظر التصدير أو تحظر التخزين، بل بزيادة المساحات المزروعة، وتوافر الغلال، ورعاية نقلها وتوزيعها على وجه السرعة، وفتح أبواب الاستيراد، والاستفادة من زيادة السعر المحلية وزيادة الاستثمار. وفي باب آخر، يعالج وباء الجدري بالتلقيح وعمومه، وببعث واقعة المرض على نحو يجيز للجسد التغلب عليه. فلا يسعى العلاج في "إطفاء" المرض وقتله، ويُستدرج الى الظهور بعض الوقت، شأن الغلاء، ويقيد بعضه ببعض. وقد يبدو هذا بعيداً من السياسة والحركات القومية والوطنية، ومن الدول ونطاقها الإقليمي. وهو بعيد فعلاً عندما يقيم الناس، شأننا، في عوالم مادية وذهنية واجتماعية ومعيارية متنازعة ومختلفة، وعندما تقتضي منازعاتهم إغفال كثرة العوالم هذه، وانتسابها الى مصادر متضاربة. والوحدات "القومية"، والنهضات الثقافية، والإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية، وحركة الإحياء على أوجهها، والحال هذه، من أيسر الأمور وأقربها متناولاً، على معنى اليسر الذي قصده الكاتب الأميركي الساخر، مارك توين: الإقلاع عن التدخين يسير، فأنا أقلعت عنه 46 مره.

الأربعاء، 6 مايو 2009

«ألغام» مرشحة للانفجار في وجه الدولة الجامعة... كتل «المعارضة» اللبنانية في حرب انتخابية أهلية تبطل الاقتراع السياسي الحر

الحياة - 06/05/09//
اشترط الرئيس الفرنسي «التاريخي» شارل ديغول على مفاوضي جبهة التحرير الوطني الجزائرية، في أعقاب 8 أعوام من حرب دامية تخللها من الجهتين إرهاب كثير، أن يتركوا المدي أو السكاكين في ردهة قاعة المفاوضة قبل الجلوس الى طاولتها، والخوض الكلامي في بنودها، والاحتجاج بالمنطق والوقائع والمصالح للآراء المختلفة. وترجمة القول الديغولي المأثور والبديهي الى لغة الحياة النيابية والبرلمانية، واللبنانيون يخوضون منذ أشهر إن لم يكن منذ سنوات فصلاً حاسماً ومضطرباً من فصول الحياة هذه، ترجمته جلية: الإقبال على صناديق الاقتراع يفترض استبعاد العنف والإكراه الماديين والمعنويين، وقبول النتائج سلفاً ما لم يطعن في الإجراءات بناءً على القوانين المرعية والمعروفة. والترجمة هذه صدى بعيد وخافت للأصل الحقوقي الذي انتهى إليه قبل ثلاثة قرون وبعض القرن أعرق البرلمانات والبرلمانيين، البرلمان البريطاني. وهو ينص على ان الاقتراع صحيح حين يتيقن المقترع من أن اقتراعه لا يتهدد سلامته الشخصية ولا أمنه.
والانتخابات اللبنانية الوشيكة، على هذا، بعيدة من الأركان الثلاثة أو الأربعة. فالعنف والإكراه الماديان والمعنويان غير مستبعدين وهما في صلب الإعداد للانتخابات، ويخالطان الإعداد مخالطة حميمة ومتصلبة. والنتائج غير مقبولة سلفاً، ويقال صراحة وبالفم الملآن أن عليها الانصياع سلفاً لاختيارات وسياسات سابقة مثل التسليم للمنظمات المسلحة، وتمتع الكتل المذهبية الكبيرة بحق النقض على السلطات كلها، والإقامة على حلف سياسي وعسكري وأمني إقليمي والتمسك به في الأحوال كلها، ومجاراة السياسات الداخلية احتياجات الحلف هذا من غير مناقشة. ولا تتستر كتل «المعارضة»، وهي في صلب الحكم وتملي عليه تجميد معظم قراراته، على تهديد المقترعين بعاقبة اقتراعهم الوخيمة على سلامتهم وأمنهم إذا هم لم يقترعوا، في المحصلة العامة، لسياستها، ودوامها الذي تسميه توافقاً بل «توافقية».
وكان يجوز ربما حمل هذا كله علــــى انحراف، قليل أو ثقيـــل، عــــن مثــــال انتخابي سوي، تسخر منه كتل المــعارضة فتنسبه الى سويسرا أو السويد، على ما جرى الوصف مرات كثيرة على ألسنة خطبائها. ولكن قران القول بالفــعال «التربوية» و «التعليمية» الطويلة والمتمادية لا يبرر التشخيص بالانحراف عن مثال مشترك.
فالمثال المشترك يقبله المتنافسون مثالاً، ويسعون في إصلاحه وتغييره على مقادير متفاوتة، وأنحاء مختلفة. وهذه ليست حال المتنافسين، إذا صح أن الأمر يقتصر على منافسة ولا يتعداها الى عداوة مريرة. وينتهك إحلال العداوة محل المنافسة - ناهيك بالسلاح، والأعمال العسكرية الأمنية، والاغتيالات، والتحصن داخل المعازل الأهلية وتخليصها من الدائرة المشتركة والعامة – ينتهك الأصل الوطني الأول والمسبق الذي لا قوام ولا معنى لانتخابات أو لمجلس نيابي من دونه، ومن دون إثباته أصلاً أول وسابقاً.
وطوال الأعوام الأربعة المنصرمة، منذ اغتيال رفيق الحريري، وطوال العقد ونصف العقد (1989 – 2004) قبل الاغتيال وقبل المجلس النيابي المنتخب في 2005، مثَّلت الكتل والمنظمات المنضوية تحت اللواء العروبي السوري الحزبي والإسلامي الإيراني الحرسي، على تعاطيها السياسة في لبنان واللبنانيين. فكتل «المعارضة» اليوم هي سليلة سياسات اللواء المشترك هذا، طوعاً وإرادة. وهو يميزها من مشاركة كتل أو جماعات استقلالية، اليوم، في ولاء وتبعية اضطراريين وقسريين (ينفي بعضها عن مراحل من مشاركته هذه الاضطرار والقسر، وينسبها الى «العروبة» و «فلسطين» و «التقدم»). وتمثيلها على مفهومها عن السياسة، وعلى منطق السياسة الذي تريده ولا ترتضي غيره، يناقض مقومات البرلمانية مناقضة صارخة وساخرة ودامية. فالزعم أن ركن العقد الوطني الأول، والأوحد، هو قتال عدو «قومي» و «وجودي» في إمرة صديق «قومي» و «وجودي»، على ما تلا إميل لحود في خطاب قسمه، هذا الزعم يبطل من الأساس استقلال الجماعة الوطنية السياسية، أو «الأمة» السياسية (وليس القومية ولا الدينية)، بكيان ودولة.
وترتبت على الركن المزعوم معظم الأفعال التي أطاحت الجماعة الوطنية والسياسية اللبنانية، أي الدولة اللبنانية أو «الكيان»، قياساً على «الكيان الصهيوني» تفادياً للتلفظ بإسرائيل. وتعريفه هو انفصاله وانعزاله. وتدعو السياسة القويمة، «الوطنية» على قول الجماعات العروبية الأهلية والسياسية، الى استئناف الاتصال، أو التوحيد في عهدة الوحدويين. والتوسل بالقوة المسلحة، والإرهاب، والاغتيال، والحرب الأهلية، والخطف، والتعطيل، والاحتلال، والإفساد الجماهيري، واستدخال الإدارة وأجهزة السيادة، والتضليل الإعلامي، وإدارة الجماعات سياسات خارجية وأمنية وعسكرية واجتماعية وقضائية تقررها وحدها على خلاف قواعد الغالبية والأقلية واشتراكهما في نصاب أو مرجع واحد – التوسل بهذه ليس جائزاً وحسب، بل هو فرض عين على الجماعات والأفراد. وعشرات بل مئات الحوادث «الأمنية» والسياسية منذ ابتداء الاغتيالات قبل 4 أعوام ونصف العام، تحقق المثال «السياسي»، أي الحربي والعرفي الذي تهتدي به جماعات «المعارضة» العروبية والإسلامية.
والشواهد من الفصل الأخير الذي يسبق إجراء الانتخابات النيابية العامة في 7 الشهر المقبل، كثيرة وبليغة. فلم يبتكر رئيس كتلة «الوفاء للمقاومة» («الإسلامية» الحرسية) النيابية، حين حمل رئيس الحكومة، الائتلافية والوطنية المفترضة، فؤاد السنيورة على محمل واحد مع الرئيس الأميركي السابق جورج بوش، ورئيس الوزراء الإسرائيلي السابق يهود أولمرت، نزولاً على إرادة محمود أحمدي نجاد، شيئاً أو رأياً غير مسبوق. ولكن الرأي هذا لا يقتصر على توحيد رئيس الحكومة بـ «عدوين وجوديين»، أو «كينونيين» في الرطانة الحرسية، بل يخلص من التوحيد بالعدو المطلق، الى إعلان إرادة الكتل التي يتكلم بلسانها رئيس الكتلة النيابية العتيدة إبطال أعمال الحكومة السابقة، والتنصل منها. وهذا ليس «إنقلاباً أبيض»، على ما حسب أحد السياسيين الاستقلاليين. فهو إيذان بالحرب الأهلية المرجأة التي وعد بها «سيد المقاومة» في خطبة الجمعة المسائية في الفاتح من أيار (مايو). ويقوم الإبطال والتنصل مقام من إحياء دين صحيح، وتقويم انحراف مبتدع. ويستحل المبطل، وهو صاحبنا رئيس الكتلة، ويُحل القتلَ جزاء الردة.
ويكمل النائب العتيد إبطاله في «مذكرة» قدمها نيابة عن «مقاومته» الى جلسة «الحوار الوطني» (في 28 نيسان/ ابريل). فيخلص من مقدمة يفترضها بدهية: «(ان) المقاومة في لبنان، فضلاً عن سورية وإيران، ليست في وارد شن هجمات صاروخية (ابتدائية) مفاجئة على إسرائيل»، وهو ما تكذبه «حربا» الخيار الحزب اللهية والحماسية، أي «الحربان» الأخيرتان اللتان اختارهما الحزبان المسلحان عمداً، يخلص من المقدمة الى النتيجة: إن «تشديد (العدو) على عنصر المفاجأة في سيناريوات اندلاع الحرب التي يناور عليها أمر باعث على الريبة، لجهة كونه الجهة التي تبيت نية البدء في الحرب». وعلى هذا، أي على خطط المناورة الإسرائيلية «نقطة تحول 3» المزمعة من آخر أيار الى 4 حزيران (يونيو) والمعلنة، يدعو البرلماني الرئيس والعريق الى إعلان حال طوارئ مزمنة، سياسية وتقنية، في لبنان. وهي الحال الوحيدة التي تليق بمجتمع الحرب ودولتها، وبأهلها ورعاياها، ويريدها قائد «المعارضة» الأوحد على مثال النظامين الإيراني والسوري. ومجتمع الحرب ودولتها لا يحتاجان الى انتخابات أو مجالس نيابية. وهذه تفترض كثرة واختلافاً ومفاوضة ودستوراً. فهما يحتاجان حكماً صارماً، و «إرادة والتزام القضايا المحقة (وهي واحدة، الكاتب) بروح المسؤولية العميقة»، بحسب رد الحزب الخميني المسلح على تقرير وزارة الخارجية الأميركية في الإرهاب، ومديحه «تقنيات» الحزب في المضمار هذا.
وفي استقبال نسيبه مدير عام الأمن العام السابق جميل السيد، مضى رئيس مكتب «حزب الله» السياسي إبراهيم أمين السيد على مقارنة رئيس كتلة حزبه النيابية، فقال: «كما طالبنا إسرائيل بخريطة الألغام الإسرائيلية في لبنان، فإننا الآن، بعد خروج الضباط الأربعة، نطالب فريق 14 آذار (مارس) بخريطة الألغام التي وضعوها في التحقيق الدولي، وهذه الألغام ستنفجر (التسويف نافل، الكاتب) بين أيديهم ووجوههم». وأردف نسيبه اللواء «المحرَّر»، على ما يقول الحزب في الأسرى السابقين في سجون إسرائيل، أن وزير العدل الحالي في وزارة خالف بوش وأولمرت على الرحيـــل، هــــو ممثل «العدل السياسي عند سمير جعجع». وهذا هو مفاوض رجل الأمن على دخول الوزارة ورافض الدخول عشية مقتلة كنيسة سيدة النجاة في الزوق (1994). والوزير و «عِلمه» «عبد عند السياسة». ويقصـــر رجل الأمن السابـــق قضيــــة رفيق الحريري، شأن حسن نصر الله بعد يومين، على أبوته سعد الحريري. ويـــندد بقاضيين لبنانيين يسميهما، ويطعن فيهما. وينقل عن أحدهما قولاً يترتب على صحته «عار» أبدي لا يغسله دم. وينكـــر، شأن ولي أمر الحزب الخمينــــي المسلح، مفاعيل الاغتيال الاستـقلالية والسيادية، وينتصب محامياً عن سياسة الاحتلال الأمنية التي كان أحد مهندسيها.
وليس هذا جديداً ولا تتويجاً لسوابق كثيرة متصلة. وليس هو أقوى إنكاراً لاشتراك الناخبين اللبنانيين المفترض في جماعة سياسية ووطنية واحدة تجمع مواطنين على قدم المساواة، على رغم اختلاف آرائهم ومشاربهم وعلاقاتهم بفصول تاريخهم القريب قبل البعيد. ولكن قول هذا من غير تحفظ، في سياق الإعداد لانتخابات وشيكة آتية مدارها على مفاهيم الدولة الوطنية والمواطنة والسياسة والحكم، وإرداف القول هذا بتزوير وقائع عريض وبدفاع مستميت عن تسلط أجنبي مستبد وعقيم – يطعن في وحدة الجسم الانتخابي المفترضة، وفي انتساب الناخبين الى دائرة ومعايير وطنية وحقوقية مشتركة. والمسألة تتعدى النظام الانتخابي وقوانين الانتخابات التي تحلو لنا مناقشتها، وتتناول أسس السلطة. فكتل «المعارضة» تحتكم ظاهراً، ومن طرف اللسان، الى انتخابات تبطل الكتل هذه، عملاً وقولاً و «فلسفة»، مقدماتها ونتائجها ومفاعيلها الدستورية والسياسية. وتؤوّل الدستور، على شاكلة «فقيهها» الدستوري والنيابي المأذون و «الشاطر»، في ضوء إرادة إبطال المفاعيل المعروفة والسائرة. فهي لا تصدر عن تقسيم الجسم الانتخابي والشعبي، وعن ترتيبه على مراتب متفاوتة في «طبيعتها» وأصالتها وجدارتها، وحسب. وإنما ترمي الى تثبيت التقسيم والتفاوت هذين. وتتوسل الى غرضها المزدوج بخلاف معايير الانتخاب، ونقيض افتراضها جماعة وطنية وشعباً واحداً في دولة واحدة يصنعها البشر.