الأحد، 30 سبتمبر 2012

أجنحة عسكرية وبنوك رهائن ومعازل وديبلوماسيات موازية وسيطرة مفقودة وإعلام رقيع ... سياسات "العشيرة ـ الأمة" وحال الغيبوبة

المستقبل - الاحد 30 /9/ 2012


حين تندد عشيرة أو عائلة، أو بلدة، بمرتكب فعلة مشينة وثقيلة مثل القتل أو الاغتصاب، غالباً ما يلبس تنديدها القاطع لباس التبرؤ من صاحب الفعلة، وإخراجه من جسم العشيرة، وقطع نسبه أو سببه المعنوي بها. فهو ليس منها، وهي لا تعدّه نسيباً أو قريباً أو سبباً، ومثله "تضامنها" معه، وتحميل المسؤولية عنه دولة وشعباً شقيقين أو عدوين. والمعنى في الحالين ملتبس وغامض. فإذا أرادت القول انها، جميعاً وجسماً متماسكاً، ليست ضالعة في الفعلة، ولا تتحمل تبعة أو مسؤولية عنها، فقولها هذا فائت، ومعلق، قانوناً وقضاءً وحتى عرفاً. فالقانون والقضاء لا يحملان جريمة مثل القتل أو مثل الاغتصاب، ولا غيرهما مثل السرقة والتهديد بالسلاح...، على غير مرتكبها الفرد أو مرتكبيها الأفراد الأعيان. وإذا لم تعمد العشيرة الى التضامن وصاحب الفعلة المرتكِب فهي حكماً براء منه. وإذا لم يثبت ان للعشيرة جسماً أو قواماً مادياً فاعلاً، واحداً ومشتركاً، غير اسمها وأواصر القرابة والمصاهرة والجوار وحقوق هذه العرفية، فإعلانها تنصلها من صاحب الفعلة، ورذله والبراءة منه على الملأ، لا يعدو البعث الصوري واللفظي لكيان عفّى عليه "الزمن"، وهو في هذا المعرض انقلاب الاجتماع من طور أهلي وعصبي جميعي الى طور قانوني فردي و"بورجوازي" (مديني ومدني).

ولا يخلو البعث الشكلي واللفظي من بعض الحقيقة والقوة، ففي وجوه ودوائر كثيرة من المعاملات والعلاقات والأحوال- أبرزها ربما المسماة الأحوال الشخصية، وهي مشتركة عامة ويصدر أصحابها عن معايير متوارثة وملزمة أوكلوا البت فيها الى سلك فقهي ثابت-، على "صاحب" المعاملة أو العلاقة الانقياد الى الأحكام والمعايير الكلية والقاطعة. وإذا تخطت الوجوه والدوائر دائرة العصب أو القرابة أو الجوار، وقضت في مسائل عامة أوسع من هذه الدوائر، فمعاييرها على العموم هي نفسها معايير هذه الدوائر. فالزواج والتطليق والتوريث ودية الدم وحكم النسب والخلع منه تتصدرها كلها أعراف الجماعات وحدودها. وهي قد تتقدم أحكام الشرع وتبطله في مسائل حاسمة مثل توريث النساء واحتساب الديات، طوال قرون، فلا يسع الشرع وأهله إلا مجاراة الأعراف والصدوع بتمويهها و"حيلها" والإفتاء بجوازها.

والحق أن البراءة والنسبة تصدران عن تقديم العصب وتضامنه، أو لحمته، على المسؤولية الفردية أو الشخصية. فحين تخرج العشيرة واحداً فرداً منها، أو تحتفل بواحد فردٍ آخر، وبمرتبة عالية كسبها من طريق حظوة أو إنجاز أو خدمة أو "شهادة"، فهي تزعم أن الأفعال، في ميزان التقبيح والتحسين، لا يصنعها أصحابها وحدهم، ولا يتحملون التبعة عنها وحدهم كذلك. وهم، إذا دينوا بما فعلوا أو مُدحوا، يذهب شطر راجح من الإدانة أو المديح إلى الجماعة الأقرب، الدموية والنَّسَبية، التي وُلدوا منها وفيها، ويعرِّفهم اسمها.

فالعصبية عذر مخفف قوي إذا أعملت في تفسير أو تسويغ أفعال يعاقب عليها القانون، ويجازي أصحابها جزاءً قاسياً. وهي صنو القصور سناً أو عقلاً في الأفعال المتعمدة والإرادية، وتكافئ الإقدام على الفعل في حال الغيبوبة عن النفس وخروجها من "مِلك" صاحبها. والعصبية، من وجه آخر، عامل لا يضارع عاملٌ آخر أثرَه في حمل الآحاد الأفراد على "التحرر" من حدود فرديتهم وقيودها ومسؤولياتها والانقياد لها. وهو ينصب الفرد الواحد قبساً من كيان عظيم وراسخ وشريف وبعضاً من فيض هذا الكيان. وعلى هذا، فالدعوة الى الفداء والشهادة والموت دون العصبية وكيانها غالباً مستجابة. ويستجيبها الأولاد والفتيان والشباب قبل غيرهم، على ما شهدت بعض فصول "انتفاضة الأقصى" الفلسطينية بغزة في مراحلها الأولى، ولا تتردد النساء، أمهات أو عزباوات أبكاراً، في تلبيتها جذلات فرحات.

ولعل انقلاب الحزب السياسي جماعةً أهلية، أو عشيرة منظمة وجامعة، توحدها رابطة العصب، فيصدر أفرادها وآحادها عنها يداً واحدة، وتحل هي فيهم حلولاً يستوفي "وجودهم" ودواعيه وغاياته - لعل الانقلاب هذا هو قبلة سعي محموم تستثمر فيه وتوظف آلات الدعوة والافتتان والأهواء والإعالة والرشوة والترهيب على مقادير متفاوتة. والتنديد بـ"النتن" العصبي، على ما كان سيد قطب يقول ويذكِّر، لم يحل بين الجماعات "الإسلامية"، على اختلاف فرق الجماعات وشيعها ومذاهبها، وبين تحزيب المناصرين والمريدين والمجنّدين على مثال عصبي ودموي راسخ.

ويرعى هذا المثال اتحاد جسم الجماعة، المشتت والمنقسم أساساً والمؤتلف من وحدات متعارضة، يرعى اتحاداً مصطنعاً عليه أن يغالب، على الدوام، افتراق الأهل أو العشير قبيلاً نظير قبيل آخر، وتعظيم ضدٍ شديد الشبه به. ويترتب على هذه الحال، "العربية"، ترجح وتردد مرهقان وأليمان بين مثال وحدة عريضة وشاملة لا يبلغ وبين فُرقة أصلية تتطاول إلى الوحدات النواتية الضيقة. فعلى شاكلة براءة العشيرة أو العائلة من قاتل أو مغتصب، أو مرتكب كبيرة تتهدد عدداً كبيراً من الناس بفشو "طاعون" الثارات فيهم، أو "خائن"، طعنت مشيخة الجماعة الخمينية المسلحة بلبنان (وهي معروفة باسمها المتواضع والمتحفظ، "حزب الله" الى خط فاصل - ثم لبنان)، في 2004، بولاء أحد موظفيها الصحافيين. والسبب في الطعن هو مقال كتبه الإعلامي، العَلَم على جماعته الأهلية والسياسية، في صحيفة صديقة، أي موالية يعيب ولاءها اقتسامها إياه وأولياءَ آخرين.

وكتب الرجل مقاله عشية زيارة محمد خاتمي، الرئيس الإيراني، لبنان، وخطبته أصدقاء "الجمهورية الإسلامية" المحليين إلى أنصارها ومحازبيها. وكان خاتمي في أواخر ولايته الثانية، وغرضَ حملة تحريض وتسفيه جارحة في بلده و"دولته" مهدت لخلافته الوشيكة وهزيمة اصحابه، واعتلاء الحرسي الأمني محمود أحمدي نجاد الرئاسة. واختار الإعلامي الحزبي (اللهي، على حسبانه) الكتابة في فرع من فروع المسألة الحسينية، على مثال شيوعي حزبي مجرب يقضي بامتحان الولاء في مسألة راهنة (هي الرأي في خاتمي) أو جهره من طريق الكلام في مسألة "مبدئية" (هي رواية جزء من محنة أرض الكر والبلاء).

ولم تخطئ مشيخة الجماعة الأمنية والمسلحة معنى رواية الجزء على الشاكلة التي رواها عليها الموظف الإعلامي في الصحيفة الصديقة. فقضت فيها بـ"انحراف" ضده وهو الخاتمي. فأُقيل الموظف من عمله أو استُقيل. وأذيع على الملأ خبر الإقالة - الاستقالة وبراءة جهاز الإعلام، وأولياء أمر الجهاز من الانحراف المقيت. فالسكوت عن الانحراف، أو اللين في التنديد به وقصر التنديد على إجراء يقل عن نفي المنحرف، وعن إفراده ولفظه وتقيوئه، تواطؤ ومحاباة في الحق وعلى الحق. وقطع مرتب الموظف عنه.

وكان في وسع الجهاز حمل فعل الموظف على خطأ مهني ووظيفي "رأسمالي"، وحمل جزائه على عقوبة قصوى تقر بها قوانين العمل ولا تأنف من وصفها بالتعسف. ولكن هذا الرأي يُغفل وجهاً جوهرياً من وجوه "الثقافة" العصبية وموازين أحكامها. ويقضي الوجه بأن الفاعل، وهو الموظف العامل والمجاز الناشط، والمؤمن المجاهد، ونزيل الديرة (الحي أو الربع)، وابن العائلة وفروع هذه الحال (الولد والزوج والأب والأخ وابن العم...)، وأخيراً المرء الإنسان أو الإنسي- هذه الأحوال أو الوجوه هي واحد لا يتجزأ ولا يتبعّض ولا يتميز في "نظر" الثقافة العصبية وفي حسبانها وحسبتها.

وعلى هذا، لم تطرد مشيخةُ الجماعة - الأمة المنحرفَ الخاتمي من عمله وحسب. فنفته من حزبه وأمة حزبه (وهو حزب ليس كالأحزاب ولا يفيد معنى الجزء أو الفرقة وينتسب مباشرة الى الواحد الأحد)، وطردته أو فصلته. وعمَّ الطعن في المنحرف الرأي والولاء، وخائن الأمانة الناكص، والركيك الإيمان، ولدَه وابنه القاصر سناً. فبلغ الأولادَ أصحاب الولد في مدرسته (العصبية) وصفه، رأيُ الجهاز ومشيخته في والد الولد، صاحبهم وملاعبهم وزميلهم. فعزلوا الولد، ونفوه من حلقات لعبهم ودرسهم، و"أخبروه" ما صنع والده ويستحق عليه، وهو معه، الرذل والعزل والتعزير. ولم يروِ الوالدُ والصحافي المرذول ما حلَّ بالولد، وما وسعه فهمه وإدراكه وتعليله من محنة الطعن في استقالة والده وهويته، وشموله هو بالمحنة.

وحمل الوالد المكلوم أسرته وسافر بها إلى بلد من بلدان ضفة الخليج العربية. ولكن المهاجر إلى أرض حرب، قياساً على معتقده ومعتقد حزبه، لم ينفك حارساً على باب مشيخة جماعته، وكاتباً بقلمها الى غداة صيف 2006، على التقليل. فمذذاك لم أقرأ لـ"صاحبنا"، أو فيه، ما يصل خيط الخبر المنقطع.

ونظير خبر الإعلامي الخاتمي وحاله، خبر متصل عن جماعة مقلدي المرجع الراحل محمد حسين فضل الله. فبعد استدراج بعض أنصار خامنئي، المنتصب للتقليد بعد وفاة آراكي، فضل الله الى الإدلاء برأي في شفاعة بعض أهل البيت لا يراه إيرانيون كثر، قام مقلدو خامنئي، وهم متصدرو الجماعة الخمينية المسلحة ومجتمعها الأهلي والعصبي، على المرجع، وطعنوا في مرجعيته وفتواه وتقليده، وأَصْلَوا مقلّديه العداء، على نحو ما يتقن أمثالهم العداء. فطردوهم من أعمالهم وموارد رزقهم حيث قدروا. وزرعوا الشقاق في الأسرة الواحدة انتصاراً لمرجع تقليدهم على "السيد". وأحاطوا بالريبة والشك من وسعهم إحاطته بهما. وأفتوا بـ"كراهة" مخالطة مقلدي مخالف صاحبهم ومجالستهم. وهو، "العالم" الراحل، منهم ومن رهطهم بمنزلة السند والدعامة و"الوصي". ولكن كلمة رأس الجهاز هي الفصل. ولم يتعلق الأمر بسفارة ولا بسفير، ولا بزيارة إلى دار حرب، ولا بنصرة مخالفين. فهذه ذرائع تكفيريين.

وتجاوزُ تهمة الوالد الصحافي الى "جرح" الولد القاصر قرينة بشعة وفظيعة على إرادة إيذاء وإيقاع ضرر لا قيد عليها من تمييز أخلاقي، أو "أدبي" (على معنى آداب المعاملة). ومن آداب المعاملة، وهي في باب الحرب، تمييز غير المحارب المدني من الحربي المسلح والمقاتل، وتمييز العاجز من المقتدر، والقاصر من الراشد، والمشهر صفته (بواسطة اللباس مثلاً) من كاتمها... وترمي آداب المعاملة، أو آداب الحرب، الى تقييد الانتصار والحؤول دون إلغاء صفة المتعاقد من المنهزم حين يأزف وقت "المعاهدة" والتزام العهود والاتفاقات في ختام الحرب. و"آداب الحرب، تلجم نازعها الحيواني الى محو العمران وأبنيته وأخلاقه، وتحتسب فيما تحتسب وقت ما بعد الحرب والاحتكام الى "السَّلَم" على القول القرآني. وختام الحرب ما لا يرضخ له أهل "العشيرة - الامة".

فليس، على هذا، وراء الجماعة، الضيقة أو الواسعة والعريضة، النسبية والإيمانية الاعتقادية، دائرة إنسانية أو إنسية كونية تتخطى الجماعة العينية، وقد تدعوها الى النظر في ما تشترك فيه معها، ومع جماعاتها الأخرى، من معايير وأحكام ومصالح.

والنظر في المشتركات أو القواسم يدعو الجماعات، أمماً و"ممالك" أو دولاً، الى مناقشة معايير أو ضوابط وقيم مركبة وجامعة. وتدعو هذه ملتزميها والصادعين بها الى التخلي عن أجزاء من سيادتهم أو ولايتهم السياسية. وهو قاد إلى إلغاء الرق والعبودية وحظر الإتجار بالبشر، وإلى الخطو خطوات على طريق هيئات عدالة دولية. وحظَّر انتشار السلاح النووي وسلاح الدمار الشامل وراقبه، وقيد المراقبة التجارية غير المشروعة، وألزم الدول والمجتمعات و"الثقافات" الإقرار بحقوق فردية أساسية عامة لا استثناء فيها أو منها. والاستماتة في إيجاب الخصوصية القومية والدينية والتاريخية، ونصبُها فوق "الجميع": القوانين والأعراف والعقل والقواسم المشتركة المحتملة وخلافات الجماعة (الوطنية أو الدينية) الواحدة وكثرة مكوناتها، يترتب عليهما (الاستماتة والنصب) التلويح المزمن والمقيم بأمر ونهي مُطْبقين وساحقين. ويحل لأصحاب الأمر والنهي، نيابة عن الجماعة المفترضة، استئصال منتهكها، وجارح وجدان الجماعة وروحها بانتهاكه.

ولا يستقيم هذا المذهب إلا إذا استولى على وجدان الجماعة من تُسلمُ له الجماعة قيادَها، طوعاً، وهو طوع محكوم بكثير من الاضطرار، أو كرهاً، وهو كره قوي الشبه بالانقياد التلقائي. فيستقوي صاحب الجماعة عليها، ويخلبها ويفتنها. وهذا قرينة على أن الجماعات المطمئنة، وغير المهددة، قلما يحلو لها تنصيب "سائس" ساحر وشديد القبضة عليها، ينسيها انقساماتها طبقات: طبقةَ الخواص و"البيت" وطبقة العوام، طبقة أهل القوة وطبقة أهل الضعف، أهل اليسار وأهل العوز... ويسرع السائس الساحر، وأهل طبقته، إلى نفي الانقسام، وتحجير الجماعة على معنى يتولاه أهل "الإمارة" والسياسة المتسلطون. وليس مثل الحرب الماضية والقائمة والمعلقة والموعودة، والمطلقة، سنداً لتحجير الجماعة ومعيناً لا ينضب لحجج التحجير، وأسبابه ودواعيه.

وحرب مثل هذه تفترض شرطاً عسيراً، يتعاظم عسره في عالمنا، العالم المعاصر الذي تسوده العولمة المزعومة اميركية وليبرالية أو "نيو" ليبرالية استزادة من النظر الحاد والمرهف والجارح. وهذا الشرط هو الرجوع في التداخل والتشابك، وفي استدخال المجتمعات وتهجينها بعضها بعضاً وترك "الحمائية" على معانيها الكثيرة، والعودة عن تعريف دول هذه المجتمعات السيادة أو الولاية على توسع، على قول المفسرين. والكلام في العولمة، مديحاً أو ذماً أو تحفظاً أو تنقلاً بين هذه المنازل، يستدعي انفعال أهل "العشائر" وغيظهم وهجاءهم. فيعتلون أسوار ديراتهم وحيطانها المنقوبة، و"يدبون" الصوت على ديكتاتورية الاسواق، وتسليع البشر ونفوسهم ومشاعرهم وانتهاك كراماتهم، واستنفاد موارد الطبيعة، وتلويث غلاف الكوكب الأرضي، وتوسيع الهوة بين الجماعات والافراد وتعظيم التفاوت بين هؤلاء وتلك.

ويعلِّم كتّاب "العشائر" وخطباؤها، وهم طليعة "الثورة العالمية" الاشتراكية والقومية، الامم المتخبطة في تيه الليبرالية وصحاريها كيف تستعيد الامم لحماتها ومسكاتها، وتنشر العدالة الاجتماعية في بواديها وأريافها وحواضرها وفي طبقاتها، وتقر دولها وأجهزتها على سيادة وسلطة صارمتين، وعلى ديموقراطية لا تشوبها شائبة من إفراط أو تفريط. ولا بأس بالتمثيل بسوريا، قبل عهد عبدالله الدردري وبعده، على المثال المنشود، وبمديح الضفيرة البعثية الايديولوجية وجمعها ما يشتهي أهل الدنيا والآخرة وما لا بد لهم من اشتهائه. فرأس الشر هو الاختلاط و"النسبية" والتردد على "العشائر" الأخرى بغرض غير فضحها، واستقبال جواسيسها في عقر دار الأهل والربع. وأما النظر في عاداتها وأفكارها و"علومها"، غير النووية والصاروخية الباليستية والكيميائية، فـ"تعسف" و"نجاسة" و"عار" وحقارة"، على قول بعض نافخي الربابة وهازي الدف في أعراس نصر شديدة الشبه بالمآتم والمساخر.

والتحلل من العشيرة وولائها المرصوص وانكفائها، ولو دعا التحلل الى ميل حيي الى محمد خاتمي، أو الى تقليد جنرال مجرب وأمين من جنرالات الاجتهاد غير صاحب اللقب الرسمي والجهازي، أو الى تحريم "الشبيه" على ما أفتى محسن الامين قبل 90 عاماً فأخرجته فتواه من النجف الى "خرائب" دمشق، أو الى التشكك في جواز الحرب الهجومية بعد تحرير الأرض الوطنية على ما رأى حسن قمي وكلبيكاني من كبار مدرسي قم في 1982...، ولو لم يعدُ هذا الى قتال الوالغين في دماء أهلهم الى ذقونهم ومبددي أموالهم ومواردهم على آلات استعبادهم وموتهم ودمارهم - يبث (التحلل) الذعر في نفوس اهل القوة وجنودهم وخدمهم وحشمهم و"شعرائهم". فالاختلاط أو استدخال الغريب النفس يضعف القوم ودعوى الحروب الاهلية والخارجية، وينكر صراحة الاصول والانسان والجماعات، ويشق الجماعة العصبية ويذررها، ويحرض على إجماع إلزام من غير إكراه، ويحمل على الرأي واجتهاده، ويمتحن علل الحياة الهشة ويقلبّها على وجوهها، ويسوغ الخلاف ويرسي السياسة على معالجته، ويغني اللغة ويكثر اللهجات فلا تقتصر على الوعيد والتوحيد، ويهدم المراتب المتحجرة. ولعل باكورة ما يصنعه التحلل من العشيرة إقالة خطباء السفه والطهر المجازين من منابرهم.
http://www.almustaqbal.com/storiesv4.aspx?storyid=541016

الاثنين، 17 سبتمبر 2012

شيخ العصبية الأسدية يجادل جناحها الأصولي «الكوري"... الاستيلاء الخالص يقتضي حرباً «كيماوية» ... متعذّرة ومرجأة


المستقبل - الاحد 9 أيلول 2012
رد الرئيس البعثي بشار الاسد في مقابلته قناة «الدنيا» (29 آب المنصرم) التي استعاض فيها بالحوار عن الخطابة، رد على جناح الحكم اليساري الاصولي، اذا جازت الصفتان. فهذا الجناح ينكر على رئيسه وزعيمه تأخر «الانجاز» أو «الحسم» والابادة أشهراً، وينكر عليه دوام القتال، أي القصف والاجتياح والاغتيال الجماعي، فوق «الاسابيع والايام والساعات» التي يقتضيها، على رأي الجناح اليساري الاصولي، قمع الحركة السورية الوطنية والديموقراطية. ويذكّر خالفُ «بطل تشرين» وفاتح لبنان وجزار حماه منتقديه المستعجلين بأنه هو وهم يخوضون «معركة اقليمية وعالمية». وعرض المعركة وعظمتها يؤخران الحسم بعض الوقت. وهذا سبب أول في استطالة الحرب.


ويلوم الجناح اليساري الاصولي رئيسه على حاجته الى «ضوء اخضر» قبل الاقدام على القتل الحر، وهو اسم آخر للانجاز أو الحسم لعله الاسم الصريح والاول. وربما يكني الجناح بالضوء الاخضر عن الإجازة للقتلة الذين ينتظمهم جسم بيروقراطي مثل الجيش، أو الذين يقتصرون على الروابط الاهلية مثل عصابات الزعار والشطار والفتيان أو «رجال الموت» على ما سموا أنفسهم على جدران بيروت، أو بالتوسل بأصناف من السلاح المدمر والسريع الى قتل ذريع ورادع، على ما يحسب الاسديون اليساريون الاصوليون. ويحجم كبير «الاشقاء» من أهل القتلة عن اجازة التوسل بهذه الاصناف من السلاح. ومرد احجامه، على ما فهم أشقاؤه وحرسه، الى مشاورته «الاصدقاء» الروس والصينيين والايرانيين واللبنانيين، خشية الاعداء الاميركيين والاوروبيين والاتراك، وبعض العرب من بعد، وخوفه من انقضاضهم عليه وعلى اجهزة قتله حال تيقنهم من إباحته إعمال سلاح قتل أو دمار شامل. والامساك عن السلاح الفتاك هو سبب ثانٍ في دوام الحرب، وغرقها في حال معلقة.

وجواب مقدَّم النظام العصبي قاطع وحاسم وناجز، وهذه مشتقات مفرداته ومصطلحه، على قول آية عظمى راحل: الضوء الاخضر «في القضايا السيادية وفي القضايا المحلية وفي القضايا الوطنية»، واستعمال سلاح الدمار في صدارتها، نحن «نمتلكه»، ولا يمتلك غيرنا ذرة منه، على خلاف مطاعن الطاعنين. ويوضح الوارث أمراً في صلب مذهبه او معتقده السياسي الثابت، وهو ان الانفراد بالبت في شؤون السلطة، وحماية هذا الانفراد «مهما كان الثمن»، على قول مأثور يتداوله الاعوان على مراتبهم، هو «الداعي لوجودنا كوطن ودولة». فركن معنى «السيادة» وهو معنى عام ليس في وسع المصلِح المجدد والفقيه الدستوري تخصيصه فيُدخل تحته «القضايا المحلية» و»القضايا الوطنية» من غير تمييز ولا تقييد هو توحيد الزعامة والتصرف المنفرد والمطلق بالسلطة في كيان الدولة السياسي والمجرد وكيان الوطن الحسي والشعوري. والتراخي في جمع الانفراد بالحكم الى معنى السيادة هو سبب ثالث في دوام الحرب واتساعها.

وعلى هذا، لا يصدر صاحب الامر أو وليه «السوري»، في لغة الحليف الخميني والحرسي، عن غيره أو عن رأي هذا الغير وإرادته. والشك في ركن المذهب أو المعتقد السياسي الاسدي طعن في وفاء الوارث لميراث سلفه الاول و»رب» العشيرة المقدس، وانحراف عن سنته في دمج القيادة في الدولة والوطن والأمة. وكان تخفيف الاسدي الثاني من نص «الدستور» الوقح والفظ على قيادة الحزب الدولة والمجتمع السوريين ذريعة لوم على تراجع وضعف فادحين. فإذا اهتز هذا الدمج، وهو ما يعرِّض به الأصوليون، انهار البناء الذي صبَّر السوريين وسوريا في هيئة المومياء العظمية طوال نحو نصف القرن من الزمن.

ويعلل حارس المومياء مُصابَ الحرب التي يخوضها جهازه بالزمن، أو وقوع الحرب في «وهدة الزمان»، على قول الروائي الشيوعي المفتعل، ودوامها وكثرة أوقاتها، بـ»تطوير (السوريين المعارضين) لأسلوب أعمالهم». وهذا إقرار بالواقع، وبتماسكه بإزاء السلطان الكلي الاقتدار والسيادة، على ما يتوهم الرجل وأصحابه. فهو يكاد يصدع بحقيقة كيان معارض يتمتع بـ»اسلوب» عمل و»يطور» هذا الاسلوب، ويلزم الدولة، وهو يقصد العصابة المقاتلة، بـ»مزيد من الخطوات المقابلة». ويُفهم من الرد ان الجناح اليساري المغامر أو الكوري، على ما سمي، لم يرَ مسوغاً لإحجام الرئيس عن استعمال قوة قمع ساحقة منذ الايام الاولى للحركة الديموقراطية، وحمل إرجاءَ استعمال القوة الساحقة الى مطلع صيف 2012 على التسويف والضعف. فيقول القائد العام للقوات المسلحة (والاستخبارات والقوات النيابية والادارية والمالية...):» البعض يريد ان نتعامل مع تلك المرحلة كما نتعامل مع المرحلة اليوم»، أي بدك المدن والبلدات بمدفعية دبابات ت 72 وبقصف طائرات الميغ 21 و23 و29 ومروحيات م إي 24، وبرمي الأحياء والحارات بعصابات القتل والتمثيل الاهلية. ويقطع جازماً: «وهذا الكلام غير منطقي». وفي اختصار شديد يكاد يعصى الفهم العامي والظاهري:» المرحلة مختلفة«.

وهو يرد الاختلاف الى عوامل من العسير على «الكوريين» احتسابها أو قبولها، مثل «عدم وجود تفهم شعبي» (على خلاف تفهم الشعب دك حماه فوق رؤوس معظم أهلها قبل 30 عاماً، وتفهمه احتلال لبنان وتدمير دولته وخنق المنظمات الفلسطينية المستولية على اجزاء منه أو تصفية قياداتها...). والتدرج في تعظيم قوة النار «القدارت النارية» المصوبة على أهل حمص وأحيائهم، على الضد من إلحاح الاصوليين اليساريين، السبب في التدرج هو ان استخدام كل القدرات العسكرية «مرفوض». وهو لا يجرؤ على القول أن الروس وربما الصينيين يحرجهم هذا الاستخدام. وهو، ثانياً، «لا يحقق النتائج المطلوبة«.

ولا ريب في ان المتحفظين الداخليين من أهل السلطة عن سياسة «التراخي» التي ينتهجها قائدهم في معالجة قيام معظم السوريين على سلطانهم يرون في الانشقاق عن نظام العصابة المستولية، وعلى الاخص انشقاق رئيس الحكومة الإسمي السابق، مأخذاً عليه، وعلى تقريبه حزبيين وإداريين وعسكريين سنة غير مأمونين، وليس له عليهم الدالة التي كانت لأبيه. وهو، على ما يحسبون، خامس الاسباب في تباطؤ سحق «الثوار» و»الثورة»، وإرجائه ربما الى يوم آجل قد لا يدرك قبل أبعد الاجلين المخيف. وإجابة من سمته بعض الصحافة الغربية، في هذا المعرض، «البروفيسور«، كناية عن ميله الى الشرح التعليمي (الساذج)، إجابة جدلية و»سوفياتية»، تتخطى «المنطقي»، بحسب صفة أو نسبة أثيرة على قلب الاسد الثاني.

فعلى منوال ستالين الذي عمد الى تطهير الحزب الشيوعي القائد، وجهاز الامن فوق القائد، وأركان قيادة الجيش المولود من الحرب الأهلية وانتصاراتها، عشية الحرب الثانية المصيرية، وعلى منوال حركة تطهير الحزب الشيوعي والصيني في مراحل متفرقة من الصراع على رأس السلطة وفي بعض أحرج الاوقات (المجاعات، الصراع الصيني السوفياتي، الخلافة...) يردد الطاغية والسفاح «الصغير» اليوم أن انشقاق الجنود والضباط والنواب والوزراء والموظفين والسفراء واللاجئين، وخروجهم على «سيادته» وسيادة صحبه وعشيرته، إنما هو انتصار محقق على الفساد والخوف والطمع: «عملياً، هذه العملية هي عملية إيجابية وعملية تنظيف ذاتية للدولة أولاً وللوطن بشكل عام». ولا ريب في انه يلمح الى حجاب رئيس الحكومة السابق اللاجئ الى الاردن، وربما الى مناف طلاس، ويغمز من قناة هذا وذاك، ويعزو اجتيازهما الحدود الى غض الاستخبارات النظر.

«والتنظيف الذاتي» فضيلة جوهرية من فضائل الانظمة الكليانية أو الشمولية. فهو ينسب الى الانظمة، وإليها وحدها و»ذاتيتها»، من دون «النجاسات» أو «الاوساخ» المنفية، التطهير أو التنظيف. وتحسب «النفايات» أنها تصدر عن نفسها، وإرادتها ومصلحتها، حين تخرج على سيادة الدولة والوطن، بحسب جمع وملازمة يصِر عليهما طاغية العشيرة ومدرسها. وهذا من مكر السيادة ورميها: فيتوهم المنشقون انهم بادروا الى الانشقاق من تلقاء أنفسهم وذواتهم. وهم من غير أنفس ولا ذوات، على ما يفترض النظام وعلى ما يحسب أنه صنع بيديه. وما انشقاقهم إلا نتيجة وظيفة عضوية وحيوية يتولاها الجسم الوطني الصحيح والسليم. ويظن المنشقون أنهم يرمون نظام «الدولة والوطن بشكل عام»، ويوقعون به الضرر حين ينفصلون عنه، ولا يدرون أن نظام «الدولة والوطن بشكل عام» إنما يرمي بهم «الجماعات الارهابية» ويصيب منها ومنهم مقتلاً حين ينفيهم من جسمه، ويشقهم عن نفسه.

وكناية الطهارة والتطهر، وهي صنو البراء أو البراءة في الاعتقاد الديني السياسي الاخواني والخميني، آلة من آلات التسلط على الدولة والمجتمع، وأداة ترتيب الرعية على مراتب متباينة في القرب والبعد والجدارة. وتصاحب الكنايةُ الحرب الاهلية واستواءها نظاماً سياسياً عصبياً، لا محل فيه للجماعات المتفرقة والجزئية ولا لهيئات الوساطة والتحكيم. وينتهي الامر بجزار عموم الاقاليم السورية، الطاهر أو النظيف الذاتي، الى دمج الخارج في الداخل والداخل في الخارج، وتسوية الصعيدين أو الوجهين. وتمييزهما هو ركنُ الدولة الوطنية، واساس التفريق بين الحياة السياسية واطارها الآمن والسلمي والقانوني الحقوقي وبين النزاع العسكري الخارجي.

فيزعم «الشيخ» العصبي ان «العدو تحرك هذه المرة... من الداخل وليس من الخارج»، غافلاً عن خلطه وخلط دعايته الرسمية، وأعلام سوق الرقيق الإعلامي الذي يروج دعاويه ودعاوى اصدقائه الاثرياء الشرفاء، الداخل بالخارج خلطاً يستحيل معه تخليص «بن لادن» و»التكفيري» و»السلفي» و»الاخواني» و»السني» من الاميركي الصهيوني الخليجي (أو «بعض العربي») التركي. والتحرك من «الداخل» بأمر من «الخارج» المتسلل والمستبطن والملابس الداخل، يرد عليه بـ»الحماية من الداخل أيضاً». وعلى هذا، وقع على عاتق الجيش «حماية الوطن... من الداخل«.

والمنطق الصوري والقومي والسيادي هذا لا يُفل، والراد عليه «كالراد على الله»، على قول إجازات الاجتهاد الإمامية الاثني عشرية. ويتمتع هذا المنطق الصارم والرباني بقوة جوهرية وفاعلة في الجواهر والهويات: «قد تقول لي (يخاطب القائد المختار المذيع العامي) انهم سوريون وأقول (أنا المختار الاسدي) ان أي سوري يقوم بتنفيذ مخطط أجنبي ومعادٍ يتحول (نظير الخبز والنبيذ في الذبيحة الالهية) إلى عدو ولا يعود سورياً». ويجوز أي يجب قتله وقصف وهدم بيته على رأسه ورؤوس أولاده وتشريده وتجويعه وحرق غلاله وتسميم آباره وقطع الماء والكهرباء والخبز عنه وأسره وخطفه وتغييبه وتسليح «الوطنيين» عليه وحمله («تحويله») على العدو الاجنبي والمقاتل، على ما تفعل الامبريالية البشعة والظالمة في المقاتلين المظلومين.

والحق أن ما تقدم قديم قِدَم الاستيلاء القومي العروبي والعصبي على الدول التي سلط عليها «حظها» التاعس الجماعات المستولية هذه (وهي، الدول والجماعات والمجتمعات أو «الشعوب»، على حسبان أهل التنظيف الاقواميين، وليدة هذا التعْس وصانعته). فمعظم جماعاتها وطبقاتها الحاكمة والمحكومة تشترك في تحكيمها معايير الطهرة والأصالة والبراءة في علاقاتها بعضها ببعض، وفي معاملاتها مع «الاجنبي» و»الغريب». وهي لا تزال تحسب، في عالم لم ينفك يخلط الشعوب والأجناس والدول ومصالحها بعضها ببعض- وسبق لها هي أن كان لها، يوم كان لها شأن، سهم راجح ومعلّى في خلط الشعوب والاجناس والآلات والتجارات والعلوم والكلمات والحقوق- ، أن معايير الطهر والاصالة والبراءة، الدينية والعصبية، في متناول الجماعات السياسية، وطوع إرادتها. فهي، الجماعات والطبقات الحاكمة والمحكومة، تقيس على مثال سياسة الاستيلاء والاستتباع الخالصة التي نصبت المستولين من غير أضداد ولا قيود، في رأس دول ومجتمعات خاوية.

ومجادلة رأس العصبية المستولية جناحَه اليساري الاصولي و»الكوري»، ورده على حمى الجناح الكيماوي وعلى إلحاحه في خوض حرب تطهير شاملة على السوريين، قرينة داخلية على استعصاء إعمال هذه المعايير والعمل بها. فيدعو رأس العصبية بعض «ضباطها»، وعوامها المجندين في عصابات القتل الخاصة و»رجال الموت»، يدعوهم الى احتساب معوقات حرب التطهير والتأصيل والبراءة، الشاملة، مثل صفة المعركة الاقليمية والعالمية، ودور «الاصدقاء»، وتطوير «الثوار أساليب عملهم، والحاجة الى «تفهم شعبي» لارتقاء القتل من الآحاد الى العشرات فالمئات في اليوم الواحد، ومن العشرات والمئات الى الآلاف في الشهر... فـ»القيادة السورية»، على ما تسمي نفسها، شأن «القيادة الايرانية»، تحتاج ، قبل الاستقرار على حرب داخلية - خارجية مزمنة إلى إعمال طقوس غيبوبة تخلط اللظى النووي بولادة نظام عالمي وتاريخي جديد، ووأد قوى جبارة، تبعث النبوات، وتحرق الشياطين، وتقرأ الادعية.

الثلاثاء، 4 سبتمبر 2012

فقرات على هامش أشرطة «دفاتر لبنانية» الوثائقية وسينماها الرواية تولد في ثنايا الوثائقي وتضاعيفه

المستقبل، 2/9/2012
غلس شرارة ووضاح شرارة


ـ خارج البؤرة

الافلام التي جمعتها «دفاتر لبنانية» وعرضتها تملك مفعول مكتبة أقراص سينمائية مدمجة (دي في دي)، وفي الوقت نفسه غرابة المتحف. والمكتبة والمتحف يدعوان الى تقليب الاعمال على وجوهها، ومشاهدتها أجزاء أو أشرطة كاملة المرة بعد المرة. ولكن المهرجان السينمائي، على رغم بعض نسخ الاشرطة السيئة و»المضروبة»، هو اطار العرض المناسب: الشاشة الكبيرة، آلة العرض وجهازه. وعلى هذا، تتمتع الاشرطة بقوة إيجاب ذاتية، وتتمتع في الوقت نفسه بمفارقة ترفعها فوق مستوى الواقع الذي تتناوله وترويه. فهي جزء من مجموعة أشياء تذكارية يحتفظ بها الواحد، مثل «بوستر» شوماخير تحفه هالة القِدَم وتبعث على الاعجاب.

وفي المقارنة بين الافلام اللبنانية الجديدة وبين الافلام القديمة، تُشْعِر الجديدةُ المشاهدَ بقوة الاشياء المصورة، وبتماسكها وقيامها بنفسها. ويقوي الشعورَ هذا تقارب بين القصص يولد منه يقين وحضور ماثل وبعض العنف ربما، على ما هي الحال في «الحوض الخامس» (سيمون هبر)، وفي «القطاع صفر» (نديم مشلاوي). فثلاثة أرباع الشريط صور أو لقطات ثابتة، بعضها وضاء، وتضطرب بؤرتها وتترجح بين الغائم وبين الواضح المرتسم، فيقع المشاهد في ما يشبه الدوخة، ولا يميز اقتراب البؤرة من ابتعادها. ويتساءل: هل يعقل أن ثمة حيزاً في الصورة أو تفصيلاً لا ينفك يقترب من العدسة أو لم يتقرب بعد ما يكفي؟ وهذه الطريقة في التهديد «تقية».

وفي «أبي ما زال شيوعياً» (أحمد غصين)، تترجح صور مشهد دق اللحمة، وهو مشهد افتتاحي تقريباً، بين اشتمال البؤرة على التفصيل والدخول في دائرتها وبين الخروج منها والانتحاء جانباً. فيتبقى موضوع الصورة غائماً الى حين بلوغه مستوى العدسة. وهذا يصح في حال فيلم رانيا اسطفان، «اختفاءات سعاد حسني» كناية عن ظهوراتها وتظاهراتها، على رغم أن عمل اسطفان يقع على التوليف، وليس على الصورة الأولى. فما تؤديه الصور وحركتها وتعاقبها، هو مركَّبها، مثل تعاقب أفعال الضرب وتوقيعها، فلا يشغل المشاهدَ فعلُ الضرب، والانفعال به، بل التوليف الذي يتولى المشاهد صنعه على بعض المسافة من الصور المباشرة، وموضوعها المادي، وسطوة الموضوع. فيقتسم الانتباهَ الى الموضوع او الفعل، ما تفعله سعاد حسني نفسها، وكيف ترد على ضربها...

أما «القطاع صفر» فيخلو من رد أو فعل غير النظرات التي تحط على الاشياء والامكنة. والاصوات، وفيها اصوات المحاوَرين، تبقى خارج الصحراء القاحلة والخالية من البشر. وفي فصول المستشفى، المدبغة، المسلخ... يتولى الصوت من خارج تعليل السكن ومواضعه وأشكاله. والحركة لا تولد من حركة آلة التصوير بل من التصويب، أي من تقريب البؤرة وتبعيدها من قشرة المرئي. فالحركة ليست وليدة آلة التصوير وحركتها الخارجية، بل وليدة العدسة وحركتها الداخلية. والصوت، في الشريط نفسه، ينجو الى الخطابة المفرطة، والى ملئ الاطار الفارغ. وذلك على شاكلة بعض مشاهد «الحوض الخامس» مثل مشهد رواية أحد السواقين بطولاته، وفي أثناء الرواية تمر الشاحنات وتغلب جلبة مرورها الرواية وتقنعها، وتقطع مشهد الرواي.

وربما تقنيع الصور هو ما يفتح الباب لفضول الطفولة، ولفضول طفلي أو طفولي: بابا كيف كنت عندما صغيراً؟ شو كنت تعمل؟ فرجيني صورك. وشريط كورين شاوي، «أوكسجين» وهو لم يعرض في «دفاتر» يتناول حال شقيقها وأهلها في الحرب. وكذلك غسان سلهب في «1958».

ثمة وجوه لا تحصى لتناول الحرب. ويبدو أن ما يُغفل عنه غالباً هو أن المخرجين ليسوا من جيل ما بعد الحرب بل هم مولودين في اثناء الحرب. وفي الحال هذه، لماذا كان الرجوع الى الاهل؟ الناسَ كلهم، وفيهم المخرجون الذين بلغوا نحو الثلاثين، خبروا صيغاً من الحرب مختلفة. وهل معرفة الواحد بوقائع من الحرب تعني أنه «يعرف الحرب»؟ لا. القصص الارشيفية ليست دليل معرفة حقيقية، على خلاف زعمها. فهي عندما تروى، وهذا ما لاحظه نور عويضة، تتحول صيغة من الصيغ، ورواية من الروايات، ولا يعول عليها فوق ما يعوَّل على الشهادة.

ـ الحلم حالاً

صوت والد أحمد غصين في اشرطته المسجلة والخرساء، وروايات والد سيمون هبر وشاحناته وأخيراً والدة نيحاوي، وكلماتها المجللة بالرماد والمليئة بنفثات لفافات دخانها وتبغها... كلهم ثرثارون، مثقلون بأخبار وحوادث أزمنة وبالاسف والتأسي، لكنهم بخلاء في صمتهم. وبإزاء ابنها، نظر «يامو» جلي، ويبدو مستهلكاً ومستنفداً لا يسع أمراً أو شيئاً مفاجأته وأخذه على غرة. والمرأة اعتادت المحاورة والمحادثة وكأنهما صورة مصيرها التامة والجوهرية، على رغم نبرة ابنها الأجشة في اثناء المحاورة، ونازع المَشاهد الملونة والحدودية في مدينة الألعاب، أو على طرف الكورنيش البحري، الى بعض الرقة. فتحدونا رغبة حادة في معرفة حقيقة قصة «يامو»، على ما عاشتها واختبرتها في أدق تفاصيلها والتواءاتها وخيباتها وندوبها. ولا نزال تهدهدنا الجملة السابقة:» كان بدي اعمل ممثلة مسرح، هيدا كان حلمي»، وهي امامنا فجأة وفي أثناء لحظة خاطفة، حقاً ممثلة، ويدوم هذا الوقت الذي يدومه انتباه المتفرج الى أظافرها المطلية، وشفتي الممثلة المكتنزتين (!)، وسيجارتها المقيمة، وصوتها المترامي والمتماوج. فبلغت أمنيتها وكان لها ما أرادت.

ـ توقيع الحكايات

يولد أصحاب بعض الاشرطة وصناعها في أشرطتهم. فيقص «الحوض الخامس» (سيمون هبر) و»أبي ما زال شيوعياً» (أحمد غصين) و»يامو» (نيحاوي) ولادة الثلاثة، هبر وغصين ونيحاوي أنفسهم، على وجوه مختلفة. وفيما يروي هبر ولادته من أبيه، اسماً وتاريخاً وصوراً، يروي الآخران ولادتهما من أميهما، صراحة ومن غير مواربة في فيلم نيحاوي ووسمه، ومواربة ومن طريق الأب في وسم فيلم غصين. والفيلمان الاموميان، اذا صدقت النسبة (وهي نسبة ونسب من طريق الام، والام إن لم تكن سبيلاً الى الخؤولة والاخوال، في تقاليد مجتمعات الاجداد والآباء والاخوة الإخوان، هي عَلَم على التنكير أو «أداة» تنكير)- يؤرخان غياب الاب: مهاجراً ومخاطباً يراكم الاولاد في رجعاته المسماة عطلات (مع غصين)، وطليقاً وغريباً من غير أرض معروفة (مع نيحاوي).

وفي الاشرطة الثلاثة توقع الصور الفوتوغرافية الحكايات والاخبار التي يقصها الأب، وترويها الأمّان على طريقتين مختلفتين. فيخرج أبو سيمون ألبوم صوره قبيل زواجه، وفي اثناء شهر عسله وبعد ولادة الاولاد، ويُري ابنه فصول الحياة التي تفتقت عنه في بعض أوقاتها. و»يرد» سيمون التحية بتصوير والده في غيبوبة غسيل الكليتين وأسر خراطيم الغسيل وآلاته، وبعث الشاحنة الاولى المتقاعدة اليوم حيية ومتواضعة في مرأب المرفأ واحواضه. وبين قصة أبو سيمون ووقائعها «البطولية» والساخرة، المفضية، من طريق ورق تظهير الصور ومواقف أهل الصور وملاحمهم المترعة بالطعام والحيل والطاعة، الى أسفار وأيام ومواقع وولادات وخسائر، وبين قصة أو قصص الابن المصورة والنابضة بدم وقلب ملحميين من صنف آخر، خيط أو آصرة قد تكون وثيقة. فالعالم الذي يضعه الابن في متناول المشاهدين وأبصارهم وليد لم يتخفف بعد من أعلاقه، حبل السرة وكتل الدم والمخاط...

ـ لحظة... إيطالية

بين أشرطة «دفاتر لبنانية» كلها «طيِّب خلص يلا « (رانيا عطية ودانيال غارسيا) وحده لا يزعم التوثيق أو الوثائقية، من وجه، وينتهج نهجه أو نهجها، من وجه آخر. وهو لا يعلن لا هذا ولا ذاك. ولكن التصوير المتصل والدقيق، اليومي والخبري، لمواضع الحياة اليومية ومسارحها، البلدية العكارية، والحرص على نقل رتابتها وسكونها وترتيبها وتكرارها (المباني والطرق...) ولهجة كلام أهلها، التصوير والحرص هذان ينزعان من غير شك الى الوثيقة والاقتصار عليها أو على طريقتها في الوصف. ولا تشذ «درامية» بعض الحوادث، مثل سفر الام وتركها البيت لابنها وحده أو المشادة على التلفون بين الام وابنها أو زيارة الصديق العامل في الخليج أو استخدام المرأة الاسيوية...، عن السوية التوثيقية، الوصفية والخبرية.

ولا يلبث التوثيق أن ينقلب، على غفلة من المشاهد أو شبه غفلة منه، الى «نقيضه» (ما هو نقيض التوثيق يا ترى؟ التبديد؟ التقطيع؟ والاثنان ليسا خلاف الحفظ ولا الجمع...). فتستقر الطريق المبللة والخالية، والجدران الحائلة في الخارج والكاوتشوكية الطلاء والداكنة في الداخل، والظل الثقيل في محل الحلويات المقفر من الهواء والممتلئ بحنق صاحبه، وجسمُ الشاب ورأسه العتيدان والصفيقان، تستقر هذه وغيرها مثلها على استجلاء معانٍ يتستر عليها التوثيق ووصفه الظاهر. فتكني مواربة عن جوار طرابلسي راسخ، وتماشي تكراره ورسوخه المريرين والأخرسين.

وحين يبدو أن الامور والاحوال انتهت الى مستقرها، واستوت على مثالها الجوهري، ينعطف «طيِّب يلا خلص» إلى فسحة طراوة. فالشاب سبق أن روى لصديقه الخليجي أن رسائل ضائعة تبلغ هاتفه، وتلمح الى رغبة صاحبتها في لقائه. ويرجح أن المصدر امرأة هوى على وجه من الوجوه. ويلتقي الاثنان يجران حرجاً وخجلاً تنوء بهما الجبال بضاحية طرابلس البحرية، على جانب كورنيش صحراوي طويل، قاحل ومتجهم كيوم ضياع. وحين يرى الاثنان خيبتهما العميقة والمشتركة الواحد في جسم الآخر، يرى واحدهما الآخر على حقيقته، الآن، المولودة لتوها من دهشة خالصة وبداهة حضور «بكر» (فيرلين) على رغم الثقل العكاري والطرابلسي. فترتسم لحظة «ايطالية» في قلب الزمن الصفيق. أيكون انتباه الممثلين الى ادائهما ولعبهما خارج دوريهما؟ على شاكلة الام (يامو) الممثلة وولادتها على هذه الحال في شريط نيحاوي...

ـ حلف العدسة والشاشة

وجه أم أحمد غصين لا يكف عن الاقتراب من عيني المتفرج، وحدّة قسمات الوجه المادية، والمرهقة على رغم الفتوة، تهجم على بصر المشاهدة ودرايتها وتنتهكها. وحلف العدسة والشاشة يحتال على ليِّ الواقع، فلا يشفع للصورة المولودة من الحلف قربها من الحقيقة، حقيقة رغبة، على خلاف المعقول، في الاقتراب من الجسد، والذوبان فيه، في المادة، في الحكاية وتعرجاتها، في الصوت والكلمات، في المرئي وليس في متناول اللمس.

ـ العشق وليس التقصي

أحمد الصغير لا يحضره ابوه في ذاكرته إلا غائباً، أي في المراسلة المسجلة والمسموعة التي يتبادلها الشاب والشابة العاشقان المُعسِران والمتزوجان منذ وقت قريب، والمغالبان مضايقات الحرب والحياة. والزوجة الشابة والام وحيدة، تثرثر عاشقة على مسمع آلة تسجيل صامتة ولا تحور جواباً. ويزور غصين، ثلاثين سنة بعد التسجيل، الاشرطة، وينتخب منها، ويعود القهقرى، ويحقق، وينحدر مع الزمن ومضيه. وهو لا يفعل هذا متقصياً بل حبيباً عاشقاً يقرأ بعد وقت رسائل ملتهبة تقطعها زفرات معلقة، ويستعيد مذاق رغبة حبيبه ورغبته هو.

ومن لم يشته الكلمات الطرية التي تبادلها والداه أيام الحب الخفي الذي جمعهما قبل الحمل به؟ هل كان هذا الحب حاراً على شاكلته في الافلام؟ هل مدَّه البعد، ومدته الكتابة والغيبة وأخيلتهما بالهوى والجموح؟ هذا الهوى يُحمل على القدس والتدين... ولا تكذب قدسه مشاهد الام وهي ترتدي الثياب في عرينها، أو وهي تمشي أمام بيتها المتواضع في الضيعة الغفل والمقفرة.

ـ رسم خانق

هل في الوسع أداء المدينة في صور سينمائية على نحو أداء الصورة أو الرسم الوجه؟

لحظة الصورة في رسم الوجه تنحو جانباً، على حدة، وتتربع (في) تجليها وظهورها. وكان ديباردون يقول أن «الصورة الفوتوغرافية هي اللحظة، وأما السينما فهي الوقت». وربما ينبغي إفساح الوقت لظهور اللحظة واستوائها ، على شاكلة الغيوم المترحلة واللاهثة التي تنشئ لا محالة مملكة من الأمواج البيض تبعث ظلالها على الارض مشاعرنا في مرآتها.

في «القطاع صفر»، ينشأ المكان عن اطار التصوير أو حركة العدسة أو غفلة الصوت أو ضبط بؤرة الصورة المضطرب على الدوام. فيحضر رسمُ الكرانتينا خانقاً مثل ماضيها.

ـ عدوى الإسراء

فقرة أخرى تخلط، في «الحوض الخامس»، الإنس والإنسية بخلافهما وغيرهما بالمعدن هذه المرة. وهي كذلك باب على بيروت وعلى حوادث الشريط وأخباره. وتتناول الفقرة، الطويلة، شأن فقرة البقرات، نقل آلة تحميل الحاوية من ظهر المركب الى الرصيف أو الى ظهر الشاحنة. وتخوض صورها في أسلاك الذراع الضخمة التي تتولى الاحاطة بالحاوية ورفعها وتعليقها في الفضاء قبل حطها في مستقرها. والأسلاك يدخل بعضها في غياهب الذراع الوحيدة، مثلَ عين عملاق المغارة بوسط جبهته في القصص الملحمي الهوميري، ويصر صريراً مريراً ولاهثاً في دخوله النفق الغامض، وفي خروجه منه. ويملأ الصرير، شأن الخوار في الفقرة الاخرى، الصور الصافية التي تجلو الآلة الرافعة ونواحي المرفأ والأرجاء القريبة، ومن ورائها المدينة، من وراء زجاج حجرة قيادة الآلة. فتجمع الصور، وألوانها الزاهية والعميقة وبلورُها الشاف من بعض البعد عن رسوم الاشياء وأحجامها، فوضى احتكاك المعدن وحباله المنجدلة والمشدودة، ودورانها على بكراتها المرئية والخفية، المسننة والملساء، الى حركات النقل الهندسية والصريحة. وحين تعلق الرافعة الحاويةَ البنية في الفضاء، وتتوسط الحاوية أبنية المدينة البعيدة والقريبة، تبدو هذه لوهلة خاطفة بنية طارئة وزائرة بين الابنية الراسخة، أو مركبة فضائية حصينة في طريقها الى كوكب آخر ربما. ولا يبعد أن تسري عدوى الإسراء والرحلة في أبنية بيروت الراسخة كلها.

ـ مرفأ البر

ملحمية الصور في الفقرتين، البقرات والحاوية، مدخل الى حكايات «بطولية شعبية» أو «عامية»، على معنى البيكاريسك (ودون كيخوتيه مثاله المتأخر ومحاكاته الروائية). وفي الحكايات هذه، يسافر «البطل»، ويلتقي أقراناً على شاكلته وعلى خلاف شاكلته، وينزل منازل وفنادق، ويأكل ، ويروي قصصاً وتروى قصص على مسمعه، ويتقنع ويكذب ويُكذب عليه، ويقامر ويغامر، ويبؤ بالخسارة والربح، ويمرض، ويشفى، ويؤمر ويطيع، ويهرب... وهذا ومثله يملأ «وثائقي» سيمون هبر. و»الحوض الخامس» جزء من مرفأ على البحر، وحوادثه كلها برية. وهو رأس الطرق التي تروح كلها الى الداخل، سهله وهضابه وجباله، وتعود من الداخل إليه. فهل وسم قصص سندباد بري باسم بحري وسياسي «توثيق» من ضرب مجازي؟ أم هو كناية عن الحياة وحوادثها بالآلة، الشاحنة، التي كانت تعمل على خط المرفأ وحوضه؟ أم هو فرع على اصل يدل على الولادة، وعلى الموت، وعلى حكاية ما بينهما؟

ـ الصوت والصورة

القول في «أبي ما زال شيوعياً» يبحث عن صوره القليلة، وعن جوابه أو إجاباته في الصور، من غير إلحاح في الطلب أو إلحاف. فالوثائقي، هذه المرة، «ينشر» وثائق صوتية ومستندات وأرشيفاً مؤرخاً. وعلى هذا، فهو نظير الوثائق الفوتوغرافية التي يستعيدها شريط هادي زكاك، «مرسيدس»، وشريط وسام شرف «إيتس أُول إن ليبنانون». وبينما يخفق الشريطان الوثائقيان الصرفان في حبك سياق زمني داخلي، مشترك وذاتي، كثير المسارح وعلى بعض الترابط والتوارد، يدمج شريط أحمد غصين تسجيلات المرأة الشابة والام والزوجة ملابسات الرسائل الصوتية، الشخصية والعائلية المادية والجغرافية والظرفية والاتصالية، في «نص» متصل. ويجمع وجوه «النص» وعناصره، ويلمها في ضميمة واحدة، قصصية خبرية ومصورة واحدة، إقامةُ غصين على الفصل بين منزع القول، الحار والمباشر المشبع بأصداء معرفة حميمة، وبين منزع الصور المتحفظ والمقتصر على تصديق القول وتحقيقه.

ولكن فصل المنزعين لا يعلي منزعاً (القول) على الآخر. فتحول الصور القليلة والقديمة والمعاصرة فيديو أو تصويراً فوتوغرافياً قديماً وجديداً لا يختلف عن القديم ولا يَبين منه بين الصوت وبين تربعه وبسطه دالته على الشريط. فتؤرخ الصور، وضوؤها الخافت وتوقيعها انقضاء الوقت وانصرامه، فعلَ الصوت الامومي، وأطواره، و»تُنيص» زهوه وانتصاره، على ما يفعل التأريخ عموماً ربما. وفي المقابل، وهذه الموازنات هي في صلب سينما غصين، يصبغ الصوت بصباغه الفرح الحياة المتواضعة والقلقة التي يروي بعض وقائعها. فيلفُ ليلُ الشجر والزرع والأرض والاضواء القريبة والطريق حول البلدة بيتَ العائلة، موضوع شطر من المراسلة، ويحضن من غير أن يتولاه. وعلى خلاف «الخطب» التي تلحم بين فصول أشرطة شرف وزكاك ومشلاوي («القطاع صفر»)، وتفتعل رابطاً ووحدة، يحاول القول الامومي الحار صور «أبي ما زال شيوعياً» الحيية، ويدعوها الى محادثته وممازحته والتذييل على زهوه ورغبته.

ـ خليط

فقرة إخراج البقرات من حظيرتهن المحملة على باخرة الشحن الى المرفأ من طريق ضيقة وملتوية تحفها الحبال وجسر خشبي قصير معلق ومهدد، تنم (الفقرة) بـ»فظاعة» حيوانية وجسدية أو شحمانية لا تعف عن الانسية، وتضمن الحيوانيةُ جسدها الانسي (الانساني) أو الإنسية وجهها الحيواني. فحضور الحيوان على صورة كتلة جسد هائلة في قبضة آلة تفريغ هندسية قوامها الحواجز والمسالك، لا يخلص الحيوان، البقرات، ولا يحرره من بعض احوال الانسان والتأنس. فإذا بالخروج الحرج من حظيرة المركب الى حظيرة الشاحنة والرصيف محنة عسيرة يتضافر على تعظيم عسرها ضيق المخارج، والتواء الطرق، وإلحاح القسر والحشر. وتخوض الصور القريبة، الملابسة جلبة الخوار ودبيب الأظلاف على الخشب ونظرات البقرات القوية والمسلِّمة (فالمسلخ ليس بعيداً...)، غمارَ «الولادة»، وتخلط الرسو على رصيف الحوض الخامس بجوار الكرنتينا والمسلخ ومقر أركان «القوات اللبنانية»، والوصول وبلوغ القصد بإرهاص الموت والقتل والعذاب. والمدخل بيروت وبوابتُها من البحر، والوصلةُ بينها وبين المدى الذي تسبح على صفحته المنبسطة «يمامات بيض» (بول فاليري)، هو هذا الحوض على الصورة التي تطالعه بها البقرات العظيمة في طريقها الى الانجاب والاستنتاج (طلب النتاج أو التلقيح)، وإلى الذبح. وهو المدخل، أو أحد المداخل الى حوادث الفيلم وأخباره الآتية، ومن هذه الحوادث والاخبار رحلات أبو سيمون وشاحناته، وزواجه، وولادة ابنه على ما روى الوالد لسيمون هبر.
 http://www.almustaqbal.com/Nawafez.aspx?pageid=80957