السبت، 14 ديسمبر 2013

على هامش المناقشات الدستورية العربية الجارية...الشعب السياسي والأمة الأهلية

المستقبل، 15/12/2013

  في المحافل واللجان التي أوكلت إليها الحركات الديموقراطية العربية، في ابتداء أمرها ومقاصدها، صوغ دساتير الدول الجديدة والمولودة من هذه الحركات، ظهرت علامات الاضطراب والتردد الاولى لما ألحت الجماعات السياسية والدينية وبعض هيئات الدولة والمجتمع والطبقات الاجتماعية والعرقية، أي ممثلو هذه وتلك، في تدوين ما ينص على فروقها وامتيازاتها وأدوارها الموروثة في متن مواد دستورية، صريحة أو مضمرة، تُفترض عامة. وبعض هذه المواد خرج عن دائرة التكليف الموجبة، وهي تشد المشرعين الى الشعب السياسي الذي يقترحون عليه شرعة حكمه نفسه بنفسه، الى دوائر بعضها عريض عرض "الأمة الاسلامية"، وبعضها الآخر ضيق وعلى مقاس طائفة دينية أو مهنية من الجماعات الوطنية المتفرقة. فبدا "الشعب"، التونسي أو المصري أو الليبي أو السوري، في مرآة الدساتير أو الاعلانات الدستورية أو الارادات والفرمانات "الدستورية" التي نشرت على الملأ أو انعقدت عليها المناقشات الجارية وبعضها لا يزال جارياً، بدا ركاماً من الموروثات والمكانات والمصالح والمنازع المتنافرة أو المتحاجزة والمستقلة بديرتها وربعها ومضربها. فلا يُفهم كيف تنشأ إرادة عامة أو عمومية عن نصوص تنص أولاً وآخراً على الخصوصيات، وتدير الظهر الى سبل إجراء المشتركات وإعمالها بعد استيلادها وبلورتها (عطفاً على مقالتي في المناقشات التي سبقت إعلان الدستور المصري المجهض في أوائل حكم محمد مرسي، "نوافذ - المستقبل"، 9/12/2012).
الغالبية الغالبة والعقد الدستوري
 ولعل مصدر الالتباسات الاول والراجح هو ما ينبغي أن يُفهم بـ"الشعب"، على المعنى القانوني الاساسي أو الدستوري الجامع، وعلى خلاف ركام الجماعات الفعلية، المتحدرة من الروابط الاهلية والعصبية والمولودة من القرابات ومن المصالح الجزئية. فتحسب جماعة "الاخوان المسملين" المصرية أن "ما استقرت عليه القيم والمبادئ الديموقراطية تنادي بأن تعكس الدساتير والقوانين توجهات وعقائد وأفكار الغالبية مع وجوب احترام حقوق الاقلية، إذ تؤمن غالبية الشعب المصري بضرورة ووجوب تطبيق الشريعة وتهيئة المجتمع بتقنينها. ولكن لجنة الخمسين (التي أوكلت إليها الحكومة الانتقالية المصرية اقتراح دستور جديد لمصر) ما زالت تصر أن تقهر الاقلية إرادة الغالبية وتعلوها" (صحف 30 تشرين الثاني 2013). فالشعب، على هذا المفهوم، يسبق الدستور وقتاً أو زمناً، ويسبقه مادة وبنياناً وعللاً. وليس على الدستور إلا اقرار الجماعات المتناقضة والمتقابلة على معتقداتها وهوياتها و"ثقافاتها"، وعلى جوارها بعضاً بعضاً، سواسية كأسنان المشط، من وجه، ثم تغليب الأغلبية (وهذا تحصيل حاصل) على القلة المغلوبة، من وجه آخر لا يناقض الاول بسحر ساحر. وحين تسنى للجماعة الاخوانية أن تتولى صوغ مسودة دستور، والحكم بموجبه بعد إقرار قلة غالبة إياه، انقسم المصريون على أنفسهم، وشارفوا الحرب الاهلية. وانقلبت الدولة التي يتربع الاخوانيون في سدتها هيئة أهلية تحاول بسط سيطرتها وغلبتها على عموم المصريين (وهم أقاموا على عموميتهم وقتاً قليلاً) من طريق القوة والامر الواقع والمراوغة. فـ"التوجهات والعقائد والافكار" تنتج أهالي و"شعوباً"، أو هي تصدر عن أهالٍ وشعوب. وأما الشعب السياسي، وهو ركن الدستور وثمرته معاً، فيولد من (ومع) دستور ينص على شرعة تعاقده وتشاركه القانونَ الواحد. فروابط الشعب السياسي إنما تنشأ، مبدئياً على ما يقال أو مثالياً، عن فعل التعاقد نفسه، على رغم سبق المتعاقدين، حقيقة وفعلاً وزمناً، عقدهم وميثاقهم. وحسبان الدستور مدونة تدلي الواحدة من الجماعات المتفرقة فيها بدلوها، وتقر بمرتبتها، الغالبة أو المغلوبة او المتوسطة على سلم الغلبة، فيقود الى نظام سلطنة أو امبراطورية، أو الى "دولة" على معنى تعاقب الادوار بين العصبيات وتداولها "الامر".
 ولعل إيجاب أو إثبات الشعب وقانونه معاً، من طريق "صنيع روحي بمنأى من ترجمته الى مصطلح السلطة أو نقله (الى هذا المصطلح)" لا يستقيم إلا إذا مهدت الطريق إليه "حال ذهنية لاواعية متبلورة في ثنايا سياقة تاريخية، ولا غنى عنها لكي يولد شعب وينخرط في كيان سياسي من صنف لم يسع الامبراطوريات معرفته" (برونو كارسينتي: "موسى وفكرة الشعب/الحقيقة التاريخية بحسب فرويد"، باريس، دار لوسيرف، 2012). والسؤال عما يقوم به شعب، أو يتقوم ويتماسك، عاصر السؤال عن شروط العقد الاجتماعي الذي ينشأ عنه الاجتماع السياسي الحديث، عشية الثورتين الاميركية والفرنسية. فيلاحظ الفرنسي جان – جاك روسو، صاحب "العقد الاجتماعي"، أن ثمة رابطة وثيقة بين دوام شعب وبقائه على مر الزمن وبين محافظته على قوانينه وأعرافه وسننه و"عروته الاجتماعية الاولى". وفي الاثناء، قد يطرأ تغير عظيم على الشعب هذا، فيدخل غرباء وأجانب صفوفه، ولا يبقى واحد منه يصدق القول فيه إنه يتحدر من أصلاب "أعراقه" الاولى، وتسوده ممالك مستبدة، ويتفرق أيدي سبأ- على قول ناعم قياساً على تفرق الشعوب في عصرنا وتناثرها وهجراتها- ولا ينفك من ينسبون أنفسهم اليه هذا الشعب. والتعريف القانوني والمعياري يخالف التعريف "الثقافي" أو التاريخي بواسطة الرسوم، اي السمات والخصائص المتوارثة مثل صور القرابة والاقامة والتبادل والحرب والمراتب والشعائر. وعلى خلاف هذه وإغفالها، تُحمل القوانين ونصوصها على مشرِّعين، بأسمائهم وأعيانهم، ولا تلابس الوجود الحسي أو المادي للأقوام والجماعات أو تحل فيه. والكلام على صنيع أو عمل "روحي"، على حدة من تمثيل عيني مرتبي، يقصد به وجوب معنوي ومعياري يتعالى عن التقرير والوصف، ويُلزم بأفكار وأفعال لا تماشي الانفعالات والمشاعر والاهواء والحاجات. ويستوي القوم أو الامة شعباً حين يوكل المشرِّع القانون، وهو على هذا "شريعة" أو طريق، والعملَ به أو إعماله الى الشعب، على شرط المساواة بين آحاده وأفراده. فالرابطة أو العروة وثيقة إذا أوكل العمل بموجباتها ومقتضياتها الى الشعب نفسه، وألزم هو نفسَه العمل هذا، وإذا استوى العاملون سواسية في أداء ما ارتضوا ندب أنفسهم الى توليه والقيام به.
 ويقحم روسو في "أصول الحق السياسي"، وهذا وسم "العقد الاجتماعي" الفرعي، على العقد والمتعاقدين اسماءَ رجال عظام أو "أنفس عظيمة" وكبيرة ينيط بها إرساء البنيان السياسي على أركانه. و"الانفس العظيمة" هذه، ومنها موسى المصري – العبري وليكورغ وصولون اليونانيان ونوما الروماني ومحمد (بن عبد الله) العربي، لا يستقيم استواء الجماعة شعباً سياسياً إلا بها. وغرابة الامر مردها الى ان هذه "الانفس" من خارج العقد والمداولة "الاولى"، وليست من معدن "الديانة المدنية" التي تتوج العقد وتختمه. فهي، ومعها "الديانة الدينية" التي تنسب اليها، شرط خارجي وضروري للعقد. فلا ينعقد هذا أو يسري وينفذ إلا من طريق "نفس عظيمة" تتمتع بدالة، أو سلطة نافذة ناجمة عن المهابة (وليس عن القوة أو المرتبة)، وتستجاب دعوتها الى القانون أو الشريعة. والمشرعون المحدثون هم، على زعم صاحب "العقد الاجتماعي"، "صناع قوانين" وليسوا مشرِّعين أو شارعين (جمع شارع أو صاحب شرع)، على المعنى الذي يصدق على من تقدمت أسماؤهم للتو. ويضطلع المشرعون الحقيقيون أو التاريخيون بتخطي الهوة بين العقد- جواباً فلسفياً عن مسألة الحق السياسي أو نشأة اجتماعه غير العصبي وغير الأهلي أو "الثقافي"- وبين الايجاب التاريخي والفعلي للشعب الذي يتولى الرابطة أو العروة التي تشد أفراده بعضهم الى بعض وأجزاءه. وتخطي الهوة، أو العبور بين ضفتيها، ليس جَسْرها أو تجسيرها ولا بالأحرى ردمها- فهي باقية ومقيمة، ولا سبيل الى المطابقة الزمنية بين استواء الشعب شعباً سياسياً وبين انعقاد عقده الاجتماعي، وهو (أي العقد) صورة رابطته السياسية وبيانها وآيتها. فالشارع يتولى الانشاء، على معنى التأديب بآداب القانون الذي يدعو إليه وعلى معنى التعليم. فإذا حصل هذا، وسع المتعاقدين التعاقد، وخرجوا من رابطة تحدرت اليهم، ولا يد لهم لا في إنشائها ولا في تعهد دوامها وتجديدها، الى رابطة يستأنفون إنشاءها بأنفسهم سواسية، ومن تلقائهم، وينيطون باختيارهم هذا دوام اجتماعهم ورابطتهم.
إعجاز العمومية
 ومهمة أو وظيفة المشرِّع، الموجب والمعلم والمؤدِّب، "محورية"، على قول كارسينتي شارحاً روسو. فهو يتولى الوصلة بين ارادة الجسم السياسي المتماسك وبين إدراكه أو فهمه. وذلك أن الآحاد، أو افراد الجسم المجتمع، على بصيرة بما يطّرحون ولا يريدون، وأما الجسم العمومي، أو المؤتلف من الآحاد، فيريد أمراً لا يراه. وفي عبارة أخرى دلالة على المعنى الواحد، يفتقر العمومي الى بصيرة ولكنه يتمتع بإرادة، ويفتقر الآحاد الخصوصيون الى ارادة ولكنهم يتمتعون بفهم وبصيرة. وهذا الفرق أو الفوت (التفاوت) هو ما ينهض الشارع بلأمه. فيجمع البصيرة أو البصائر المبثوثة في الآحاد، ويرتقي بها الى رتبة الشعب المؤتلف منهم، فيريدون (الآحاد أو الافراد) معاً وجميعاً "مصلحة مشتركة" هي مصلحتهم في أن يكونوا جسماً واحداً، ورغبتهم في أن يكونوا هذا الجسم. وتولي رجل فرد هذا العمل المركب، أو الدور، هو من قبيل "الاعجاز". ويجافي الدور، والعمل المناط به، نازع الحداثة الى تجريد الواحد الفذ أو الشخص أو الفرد من الاضطلاع بمهمة سياسية حيوية أو "رحمية"، ومن ارتقائه جراء ذلك مرتبة فوق مرتبة العامة أو العموم، وانفراده بها على خلاف العموم وعلى مقابلتهم. ويعلق روسو على قول منشئ الحق السياسي في العصور الحديثة، هوغو غروتيوس أو دي غروت (1583 – 1645م) صاحب "حق (قانون) الحرب والسلم" (1625)، أن في وسع الشعب نصب ملكٍ عليه، فيقول: إن الشعب على هذا شعب قبل أن ينصب الملك، والنصب أو التنصيب فعل أو عمل مدني ويفترض مداولة عمومية؛ فقبل تفحص العمل الذي ينتخب بموجبه الشعب ملكاً يستحسن تفحص العمل الذي يستوي بموجبه الشعب شعباً، فهذا العمل هو ركن المجتمع حقيقةً وفعلاً.
 فمن طريق الفعل تباشر الجماعة صنعتها السياسية وتحققها. والشعب شعب - "يكون شعباً في ترجمة مهلينة تخصص الرابطة أو "أداة" الكون والحمل والنسبة بلفظة خاصة- نظير فعله على صيغته هذه، ومقدار هذا الفعل. وهذه مطابقة يقتضي فهمها فهماً قويماً حمل "العمل" أو "الفعل" على معنى فقهي قضائي: المبادرة الى ما يترتب عليه اقتضاء، أو يرتب مقتضى بموجبه، مثل "رفع" الدعوى أو طلب معاينة أداة العدوان أو نتيجته أو تسمية الشاهد أو الشهود في الاثبات والرد... وعلى هذا، فالشعب "ذات" حقوقية، والعقد يبرم هذه الحال ويقرها. وعلى المثال نفسه، وعلى نحو ما ان التقاضي لا ينشئ القضاء بل هو "يحركه" ويُعمله، لا ينشئ العقد مجتمعاً سياسياً بل هو ينشئ إنشاء سياسياً مجتمعاً قائماً. والشعب هو اسم الانشاء هذا او الصيرورة هذه. وشرعة اجتماعه هي دستوره أو قانونه الاساسي، على غير معنى الدستور الصوري او الشكلي: فالشرعة هي "دستور الدولة (أو الاجتماع السياسي) الحقيقي"، قانون متصل حي ومتجدد، يبعث حياة متجددة في أوصال النظام الحقوقي والقضائي. فهي، الشرعة، ما يضمره النظام الحقوقي ويصدر عنه معاً، والمعين الذي تجلوه القوانين ومدوناتها مواد وبنوداً.
 ويتنازع عمل المشرَّع نازعان او زمنان: زمن مديد وبطيء لا ابتداء له ولا استهلال، يتعهد استواء الموازين والمعايير على شاكلة أعراف وسوابق يقيس عليها المتأخرون ويجتهدون، ويترسمون خطى "دليل" في شعاب أخلاقية متشابكة؛ وزمن آخر يكتسب في أثنائه الناس الدلالات التي استولدها الدليل (من) الاعراف والسوابق وصاغها في صيغة شرائع أو قوانين، فترفع شأن القانون "القانوني"، إذا جازت العبارة، ليتربع في سدة نظام معياري يتوج القانون و"يختمه"، على معنى الختام المهدوي والخلاصي للأزمنة، ويودعه السرائر والقلوب. والمشرِّع ، والحال هذه، هو حارس الوديعة والقائم على تناقلها، وتوارثها وتواترها، من جيل الى جيل في عتمة الطوايا والضمائر. ودالة المشرع هي من طينة هذا الدور وعلى شاكلته: فهو، أي المشرَّع، يحاكي، ظاهراً، بدايةً واستهلالاً، ويعمل خفية في مادة تاريخية سابقة ظهوره وعلانيته، وتضطلع السياسة الجديدة بتدبيرها ومعالجتها، أقرت بالأمر أم سكتت عنه. ويتيح الازدواج الزمني، واثنينية الظاهر والخفي، يتيح الامران للشعب التوسل بالأعمال والافعال و"الحركات" الى العبارة عن إرادته وأفكاره ورغباته. وليس جواب المشرِّع، في مرآة القوانين التي يخرجها من الاعراف والسنن ويستولدها وفي رعايته فشو أعراف وسنن جديدة وتناقلها، ليس جوابه هذا عن سؤال هوية الشعب: "من أنا؟" أو "من أكون؟"، بل عن سؤال موضوعه هو نظام التوليد القانوني المتماسك والصحيح (الحاكم في الدستور ونصوصه). فهذا النظام هو هوية الشعب و"أناه المشتركة"، وهو البيان عما يريده الشعب بواسطة القوانين التي يستنها و"يفعلها". والهوية سياسية، على هذا المعنى، وهي تعريفه من طريق فعله أو عمله القانوني والاجرائي، على ما تقدم.
الشعب والمجتمع
 والانشاء الدستوري، المدرَك والواعي، إنما هو إنشاء سياسي ثانٍ أو مستأنف. وهو سبق الإنشاء العرفي والسنني (أو السني!) الذي لا ابتداء له والشعب مادته. والانشاء الثاني أو المستأنف يتولى "تسييس الثقافة"، على قول كارسينتي، ويترجح بين العرف السائر وبين الشريعة، ويخلط الاثنين واحدهما بالآخر ويحملهما على سند واحد ومشترك. وعليه، فالشارع هو صانع ثقافة (آداب) سياسية، أو هو صانع سياسة في حلة آداب عملية تقر في السرائر والطويات، وتستبطنها هذه من غير ان تدرك الامر أو تعيه. وإذا كان لمجتمع من المجتمعات (على معنى القوم) أعرافه وسننه الخاصة، فالشعب يدخل في مِلك أعرافه وسننه من طريق قانونه أو شرعه. والشعب لا يوجب نفسه شعباً إذا هو لبس لباس آداب اجتماعه أو ثقافته "القومية"، ونسب نفسه إليها، وأحلها محل تصديه السياسي للتشريع والتقنين. فـ"الثقافة السياسية" تقتضي فك السياسة من الاعراف والسنن، أو فك الشعب من المجتمع وتمييزه منه. والفك والتمييز لا يستقيمان فعلاً وحقيقة إذا هما لم يحفظا أو يرعيا رابطاً ينبغي ألا ينقطع أو ينصرم بين القطبين تحت طائلة الفصام. والجمع المتنازع بين الوجهين يحول دون المطابقة التي يحسب "ديموقراطيون" ظرفيون وانتهازيون انها جوهر الديموقراطية الدستورية. والمجتمعات المدنية، من غير عقد يتعاقد عليه آحادها ويعقد بينهم، تتماسك بواسطة تقاليدها وعاداتها ومصالحها وحاجاتها، وهو ما يتخطاه دستورها، إذا قيض لها ان تصوغ دستوراً، على المعنى القانوني والسياسي. ولا ينبغي للدستور، على هذا المعنى، أن يُغفل المادة الاجتماعية الموروثة أو يتجاهلها حرصاً منه على إيجاب الاجتماع المدني والسياسي معاً إيجاباً جديداً وتاماً (على مثال "الدستور" الستاليني والسوفياتي وعلى مثال يتستر "الدستور" الخميني الايراني عليه).
وعلى خلاف تهمة يلصقها الذي يعرِّفون الشعب بتقاليده ورسومه "الثقافية" (وهم "إسلاميونا")، بخصومهم "الليبراليين"، فينسبون إليهم إرادة فصم العرى التي ينبغي أن تشد الدستور، أو شارة الشعب السياسي وعلمه، الى المجتمع وأعرافه وسننه وتراثه، ينم خللُ العقد الدستوري، وترجحُه الزمني وازدواجه وتعريفه بفعله، بإرادة "تأريخ اجتماعي" لا عهد للمجتمعات بها قبل التاريخ الحديث (على ما يلاحظ صاحبنا معلقاً على روسو وشارحاً). والقرينة على "التأريخ" هي الاقرار بأثر وفرق يخلفه دوام فعل الديني في السياسي الدستوري، وذلك من طريق المشرِّع وصورته. والمشرِّع، أو دوره، ليس احتيالاً على منطق الإنشاء، وعلى استحالة تصور "العقد" على شاكلة مداولة واحتجاج ينتهيان الى اقتراع يرسي الاجتماع السياسي على ركن إرادة عمومية صريحة. فهو كناية عن "الروح الاجتماعي". ويمتنع هذا من المثول على نحو أو وجه حجة معللة ومقنعة تحمل الفكر على الانقياد لها. وطريقه الى الاقناع هي رؤيا تستميل النفس بواسطة بيان خطابي. ولعل خطابة المشرِّع الحديث هي آخر معجزة يقر أهل الحداثة بصدقها أو حقيقتها، على شرط جليها في عبارة بليغة وجديدة، سامية المعاني، ينطق بها امرؤ من لحم ودم (وعلى سبيل المقانة والتمثيل القريبين والعربيين، لا بأس بالتذكير بالخيبة التي شعر بها مصريون كثر حين قرأوا دستورهم في ديباجة 2012 "الركيكة"، على قول بعضهم. ورئاسة محمد البلتاجي اللجنة التي تولت المناقشة والاقرار، وشروحه على النص وأسباب اختيار بعض صيغه، زادت الطين بلة وقرنت الركاكة بالمراوغة والدناءة؛ والدور الذي يضطلع به صاحب حزب النهضة التونسي، راشد غنوشي، في المناقشات التونسية، وهو من أعمل في كتابه "المرجع" الحذف والتحوير وسكت عن ذلك، لا يسبغ على مشاركة جماعته علواً ورفعة).
 ولكن المشرِّع، وهو العليم بمعتقدات القوم وأهوائهم (بأنسابهم وأخبار أيامهم وآثارهم، على قول عربي في بعض اعيان الصحابة)، لا يستوي مشرِّعاً إذا هو أقر الناس على معتقداتهم، وأقر هذه على حقيقتها. فالعلم، في هذا المعرض، لا ينفع إلا إذا أخرج المعتقدات من معانيها السائرة والمألوفة، ونفخ فيها معاني "سياسية" لا عهد للقوم بها، ولا يعقل قبوله إياها إذا هي لم تكن أفعالاً وأعمالاً فوق ما هي أفكار وأحكام مدركة ومعلنة. فالمشرِّع ليس مرآة "روح الجماعة"، أو صورة "عبقريتها" ولسانها، على قول تناقله مثقفو عقود الثلث الثاني من القرن العشرين العربي عن محمود عباس العقاد المصري (وآخرين سابقين نسج على منوالهم). وهو أقرب الى "الغريب" عنها منه الى صاحب النسب الصليبة والقح والصريح فيها. والقول ان الاسلام ولد أو نشأ غريباً هو استعارة لحال بينها وبين حال المشرِّع بعض الشبه. والغربة علامة على انشاء القوم أو الجماعة الانشاء الذي يخوله (أو يخولها) الاستواء بموقع الشعب المريد، أو صاحب الارادة العمومية، وإعمال هذه الارادة في أحواله وشؤونه على النحو العملي، أو الإعمالي الذي تقدم التنويه به.
 ويقتضي الاضطلاع بموقع المشرِّع أو معبِّر القوم والجماعة (والحق أن القوم أقوام والجماعة جماعات، أي كثرة وخليط) من ضفة الحال القومية أو الثقافية الى ضفة الحال السياسية، علاقة مزدوجة بالتقاليد الموروثة والمستقرة. فلا يتماسك مجتمع إلا إذا ثبت الافراد، عملاً وفكراً، على تكرار مقالات ورسوم متعارَفة، لا يسألونها عن عللها ومسوغاتها. وليس في وسع شعب (سياسي) دخول دائرة السياسة الحديثة، وإيجاب نفسه فاعلاً، إلا إذا سبق الدخول أو مهد الطريق إليه ميراثُ التكرار والتقليد من وجه أول، وتجديده الميراث بواسطة الفعل فيه وعلى شاكلة الفعل، من وجه آخر. وعلى هذا، لا يصدق ثبات "شعب" أو قوم على هوية تقليدية واحدة "دليلاً" على دوامه أو على حقيقة صفة الامة التي ينسبها الى نفسه، وتعلن بعض "طلائعه" الناهضة (أو النهضوية أو الاحيائية او الانبعاثية) التمثيل عليها وعلى حيويتها وعودتها الى التاريخ المعاصر بعد انحطاك أو سبات. فاقتصار دليل "الامة" ودوامها وانبعاثها، على مداومتها على سننها وآثارها ليس من السياسة، على معنى الشعب السياسي، في شيء. فهو يطرح من الدلالة ميزانها، أي عامل الاستئناف الذي يتسلل الى التقاليد والسنن والآثار خفية، ويجدد معانيها المضمرة فعلاً وعملاً. فما لم يزدوج الشعب هويةً متوارثة، ثابتة في رسومها وتقاليدها، وإنشاء جديداً ومستأنفاً يسري في الافراد ويجمعهم على "روح اجتماعي" ويلحم بينهم سواسية – بدد "حقيقته التاريخية"، على قول كارسينتي شارحاً فرويد، واحتفظ بحقيقة مادية صورية تبعث على الاختلاب والافتتان، وعلى إقامة الشعائر والمراسم، والنفخ الملحمي والبطولي في الرميم.        

الأربعاء، 4 ديسمبر 2013

الهجوم الارهابي على سفارة ايران ببيروت ... الرد الاعلامي – "السياسي" وحدّاه الجهنميان

 المستقبل 24/11/2013

   لم تكد المتفجرتان تنفجران، في التاسعة وأربعين دقيقة صباح الثلاثاء في 19 تشرين الثاني، بالرجلين الانتحاريين الهاجمين على سفارة إيران (الجمهورية الاسلامية بإيران)، وتقتلان سبعة قتلى ("شهداء" قيل على تردد، ففيهم ربما الانتحاريان وفيهم مهاجرون من سريلانكا وغيرها ربما ومعظمهم مسيحيون) لم يلبثوا أن بلغوا 11 و14 فـ20 و23 ثم استقروا على 26 ضحية، حتى فتحت أبواب جحيم كلامي لا تقل نيرانه لهباً، وتعمدَ قتل وحرق وأذى من الجحيم الذي لف السفارة العتيدة وجوارها، ودمر وصدع الحجر والمعدن والرؤوس والاجساد. ففي غضون دقائق قليلة ذاع الخبر المقيت والفظيع، وتدافعت محطات التلفزيون الكثيرة، وبجوار مبنى السفارة مقرا تلفزيونين منها ("الميادين" و"العالم")، وتسابق مراسلوها الى بلوغ ميدان الحادثة وتصويره وهو على حاله الخام الحربية وغير المصنوعة: بؤر نيران مشتعلة وشرهة، وأسلاك واغصان متهدلة ومترهلة، ورماد أسود ومتجهم، وزجاج مفتت ومتناثر، وبشر هامدون ومتفحمون لوناً وسكوناً أخرس، وواجهات أبنية بكماء وفاغرة الافواه والعيون الكثيرة. ويلف هذا، على تفرقه وبعثرته اللذين أنزلهما به العصف المدمر والحارق وصنعه غيابُ البشر وجلاؤهم عنه قسراً وعنوة، خلاء وفراغ موحشان. وتظلل ميدان الحرب، المقفر إلا من آثار الاهواء المحمومة، الصورةُ الطالعة من سراديب "النفس" والارض والمحفوظات العربية: الحي الذي تركه أهله وحضوره ومن سكنوا اليه وحلّوه طللاً متهدماً. فعاثت به الأرياح المتلاطمة، ومحت معالمه وحدوده وساحاته وطرقه وما ينم بمعنى ووجه وقصد، وخلفت الخرابَ العاري وتجريده العمران أو أقل قليله من لائحة قسماته الانسية والمتعارَفة. ويصنع السيمتكس والتي إن تي، وغاز السارين وغاز الخردل (في البشر)، ما يصنعه التسونامي وتداعي اليورانيوم والبلوتونيوم المخصبين و"المحررين" في دوائر الطبيعة المعمورة أو الغمر. ويصنع الاجتماع البربري أو المتبربر، على قول بعض الباحثين في تسلط العسكر المستولي على مجتمعات عزلاء تنهبها الحروب الاهلية، في البشر وحواضرهم المكتظة بالسكن والمصانع ما تصنعه اعاصير الطبيعة والاسلحة الذرية والكيماوية والجرثومية، وترمي بهم في أرض يباب، مقفرة وموحشة شأن تلك التي ضربتها الاعاصير والاسلحة غير التقليدية والحروب الاهلية المتطاولة.

 ولم تقتصر آلات التصوير وعدساتها النهمة والفاضحة على المشاهد، وعلى مسحها وذرعها على وجوهها وجهاتها ودقائقها المدماة، فأرفقتها بكلام نفاذ، عليم وخبير ومستكشف وبصير بما وراء حجب الدمار والموت. فاستدعت الشاشات، الى المذيعين والمراسلين والمصورين الميدانيين، فريق الخبراء والمعلقين والمذيلين وأصحاب الحواشي، والمفسرين والشارحين والمؤولين والعرافين. وفي غضون دقائق قليلة، وقبل ان يحصى الضحايا ويعرّفوا وتوصف الجريمة وكيفية إجرائها (وانتحارييها المتعاقبين)، وقبل ساعات من نسبتها الى احد فروع "القاعدة" أو الى العدو الصهيوني (السفير الايراني في لبنان والسيدة أفخم)، أطّرَ "أولياء الدم" الكلام الجائز والصادق والمأذون بحدين: حد يحصره في تناول الحادثة في نفسها، فلا قبل لها ولا بعد، وحد آخر يلزم الكلام بحملها على "الحرب" السورية التي تشنها "الصحراء"، على قول صحافي روائي مكنياً، على عمران الهلال الخصيب واصلاحييه ومقاومته وحضنه "العراقي والسوري واللبناني" وسنده الايراني.
 وترتب على الحد الاول نسيان طرابلس ومسجديها، التقوى والسلام، وضحاياها وقتلاها الخمسين، ومئات جرحاها، والمشتبهين في جريمتها المعروفين المشهورين منهم والمتخفين والمستترين و"الابطال" في الاثناء الى اليوم. ونسي "الجوار" السوري القريب وحوادثه القريبة والبعيدة، المقترنة في الاشهر الاخيرة كلها، سياسةً وقتالاً وقتلاً وتهجيراً وتشريداً وتجويعاً ونفياً، بـ"انتصارات" الجيش العربي السوري و"تحريره" البلدات والمدن والقرى والمخيمات والقواعد وعضده الحرسي ("مئات الكتائب" على قول نائب شوروي) والحزب اللهي (- لبنان) والعباسي (- العراق) والاستخباري الروسي. فتناول الهجوم الانتحاري والارهابي على السفارة الايرانية ببيروت من باب الحروب السورية، الاهلية الداخلية والاقليمية الدولية، وحلقاتها السياسية والاهلية والمذهبية والارهابية والمالية والتسليحية، هو على زعم "أصحاب الدم" المفترضين تبرير وقح للجريمة و"تغطية" يُتِمّان أو يكملان ما سبق من "دعم لوجستي ومالي". والسؤال عن علاقة مفترضة بين حلقات "الحوار" الدامي والقاتل، وهذا يدعو الى وضع المتحاربين والمتقاتلين على بعض المساواة والتضايف (الاضافة الى مضاف اليه لا ينفك من مضاف)، يوصم "أخلاقياً وسياسياً" بسوء القصد والنية، على قول احد من اقاموا بالشاشات طيلة يوم الثلاثاء.
 ويقود تناول الحادثة في نفسها وعزلها، وإخراجها من قرابة قد تشدها الى حوادث أخرى مثلها قام بها قتلة انتهى التحقيق الى معرفتهم أو هم يقودون أعمال القتل والحرب جهاراً نهاراً الى اختصار المتهمين والمشبوهين والمظنونين سراً او علانية، على رغم تباين مراتب التهمة والمسؤولية، في قاتل واحد. فتناقل "أولياء الدم" المفترضون، من أعلاهم رتبة ومأذونية ومقاماً وتكليفاً الى القائلة في نفسها "رغم انني امرأة"، اسم المسؤول المباشر والمادي عن القتل وشهرته وصفته ونعته. وقلبوا الاسم والشهرة والصفة والنعت كياناً سياسياً، وجماعات مذهبية ووطنية، ودولاً وأجزاء دول. وإذا كان التحقيق القضائي الجنائي العادي يميز درجات الضلوع في الجريمة، من مرحلة التخطيط الى الاشتراك الفعلي المباشر أو المساعد وبينهما العلم بنية الارتكاب والاسهام في تحصيل بعض وسائلها ثم اخفاء آثار الجريمة، ويعاقب أو يدين بحسب الدرجة، فـ"التحقيق" التلفزيوني الحار او المباشر يستثقل مثل هذه القيود، وينسبها الى "ثقافة" غربية مراوغة، شأن فكرة القانون أو الحق.
 فالظواهري، وعصاباته وقتلته ومُداه الاولى والثانية، ونواب كتلة "المستقبل" النيابية واحداً واحداً وواحدة، وبينهما خليط من الملوك والامراء والدعاة والموظفين الامنيين والاثرياء، سواء بسواء ولا فرق بين واحدهم وآخرهم. فمسؤولية الواحد عن الجريمة، منذ الدقيقة الاولى لارتكابها، هي مسؤولية الآحاد الآخرين من غير نقصان ولا زيادة. فلا تتردد المحطات، ولا الصحف من بعدها، وتدعو العابرين والعابرات الى التصريح بآرائهم أو رأيهم في الجريمة ووقائعها الماثلة. فلا يخطئ أحدهم، أو إحداهن، فهم الدعوة الكريمة. فالسؤال هو عمن وراء الجريمة المواربة ويتستر بها تستر العارية الخاطئة بورقة التين الاسطورية، أو تستر الملك الظالم بخوف رعيته وطاطأتها الرؤوس حين يخرج عارياً في موكبه. فيجمع من يسألون ويُسألن على قول " ما صرخ (به) مواطن يقطن في الطبقة الثانية من أحد المباني المجاورة للسفارة (الايرانية) منادياً (مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية صقر صقر): يا مدعي عام، يا قاضي مبسوط هيك. هيدا كلو من ورا السنيورة ووراك وورا السعودية. يا قاضي هول دمن برقبتك وبرقبة الحريري"، على ما روت صحيفة "أولياء الدم" المحلية. وتقف صبية حامت حول المراسل بعض الوقت فدعاها الى الكلام، وحدقت في آلة التصوير، ومهدت لكلامها بالقول إنها تريد أن توجه رسالة، وتأمل في أن يسمع من تخاطبه رسالتها، وهو بندر بن سلطان الذي تحمله المسؤولية شخصياً عن الحادثة. وهي طريقة في الخطابة والمخاطبة ليس عسيراً تعرف مثالها التعليمي والتربوي الذي تنسج عليه هي و"الأخوات" و"الاخوة".
 والحد الثاني للكلام التلفزيوني المتدفق هو، على خلاف الاول ظاهراً، الحد "الجيوبوليتيكي" أو "الجيوسياسي" والاستراتيجي، على ما يحب المعلقون والمحللون والخبراء الدعاة من ضيوف المحطات المزمنين القول والتذكير  عند تناول الحوادث المتفجرة، مجازاً أو حقيقة، حشر عدد كبير من الحوادث القريبة، الثانوية أو البارزة، وجمعها في دلالة واحدة تقوم من هذه الحوادث مقام البؤرة والقطب. وعلى حين يستبعد المحللون الدعاة إدراج الهجوم الارهابي في سلسلة متصلة ومتواردة من حوادث ارهابية أخرى اصاب بعضها الخصوم أو المخالفين، السياسيين والمذهبين، لا يترددون في إدراجه في سلاسلهم وسياقاتهم هم. وتصل سلاسلهم وسياقاتهم بين "الانتصارات" العظيمة والحاسمة والثابتة التي يحرزونها على الجبهة السورية شكلاً، والاقليمية والكونية حقيقة وفعلاً. وتصل، من وجه آخر ملازم الوجه الاول، الانهيارات العظيمة التي تنزلها بالعدو المطاط والاخطبوطي قوى "المقاومة" المظفرة والموعودة. وهذه كذلك ميادين جولات وصولات تبدأ بـ"تحرير" القصير ولا تنتهي بـ"استعادة" السفيرة وقارة ومقتل قادة في "كتائب التوحيد" و"لواء الاسلام" والجيش السوري الحر.
 و"الانتصارات" على الجبهة الايرانية، وهي إيرانية – أميركية هذه المرة ومن غير تردد ولا لعثمة، لا تحصى بدورها ولا يسبر عمقها "الإلهي". وأعظمها المفاوضة على المسألة النووية. وهي ثمرة انتصار حسن روحاني، حليف رؤوس "الفتنة" الموارب، على مرشحي محور الباسدران - خامنئي مجتمعين بأصوات انصار المعارضة، وذلك في خاتمة مطاف حصار قاسٍ على مصدر عوائد دولة ايران الاول وشبه الوحيد، أي النفط، وعلى أدواتها المالية  والمصرفية. وأدى الحصار الجاد والمشترك، الى الحصار الطوعي الذي تولته الولايات المتحدة ووكالاتها منفردة واستدرجت اليه بعض الحلفاء المترددين، الى تقليص مبيعات النفط الايرانية الى النصف. وبعضها استحال تسديد اثمانه جراء الحجر على التحويلات، وبعض آخر سددت أثمانه بعملات محلية ودولية أو مقايضة بسلع. ونجم عن الحصار المالي والمصرفي اختناق التجارة المحلية، وإفلاس بعض مرافقها وكساد بعض آخر، وتردي سعر صرف العملة وغلاء الاسعار، وانكماش سوق العمل ونضوب الاستثمارات. فكان انتخاب حسن روحاني، ووعده الانتخابي الاول هو "الانفتاح على العالم" وإعادة النظر في سياسة محمود أحمدي نجاد المتهورة، وهو جدد التزوير الحرسي – الخامنئي انتخابه الى ولاية ثانية، ثأر الاصلاحيين وأنصارهم من الحلف العسكري والحوزوي والاوليغارشي المحلي.
 وليس معنى هذا، على خلاف ما يحسب بعض أنصار الأجنحة المشققة والغالية في السلطة الايرانية، أن فريق روحاني يفاوض "راكعاً" و"ذليلاً". والحق أن مأتى حرجه ليس ضعف الكفة الايرانية في ميزان القوة العسكرية أولاً وحسب، ولا اضطراب الانتصارات الحرسية في العراق وفلسطين ولبنان وسوريا والبحرين، وإنما السبب في الحرج هو تشقق الحلف الحاكم، وتنازع قواه ومصالحه الاجتماعية، والصفاقة الحالكة التي تستر صراعاته وخلافاته وحالت (على سبيل المثل) دون اضطلاع رجل قوي وحاسم مثل رفسنجاني بما أوكل الى رجل رهين أحلاف معقدة وظرفية القيام به. ولا يزال ربيع 2009 يلقي بظله "الثقيل" على سياسات إيران، ويشكك في مشروعية هذه السياسات وطواقمها المزدوجة على منوال محمد جواد ظريف/ عباس عراقجي، وعلى مثال يتصدره حسن روحاني وجمهوره/ خامنئي وحرسه وباسيجه وبيروقراطيته وأصحاب ريوعه في الدولة والمؤسسات الوقفية...
والوقوف ببعض التطويل على مسألة المفاوضة، ووجهها الداخلي، يريد التنبيه على صنف الجيوسياسية، الذي يزاوله المندوبون الى التحليل الدعوي والبازاري في أجهزة الاعلام والخطابة والتحريض، وفي اجهزة الحرب في نهاية المطاف. فهم يخلصون، على نحو ما صنعوا في مقالاتهم وثرثرتهم في الهجوم الارهابي صبيحة الثلاثاء، الى ان المرونة غير البطولية التي أبداها الوفد الأميركي في لقاء جنيف الثاني، واعترضها التذكير الفرنسي باجتماع آلما آتا في شباط 2013 وبنود بيانه (فتح كل المراكز الايرانية أمام التفتيش، وضع البرنامج النووي كله في عهدة الوكالة الدولية، إلغاء تشغيل محطة آراك بالماء الثقيل، تحويل اليورانيوم المخصب الى وقود...) – يخلصون من المرونة هذه الى "عزلة قاتلة" تصيب أو أصابت في مقتل السعودية وتركيا وفرنسا و"اسرائيل" والجماعات الارهابية "الجهادية" (السنية وحدها) والسلطة الفلسطينية برام الله و"المستقبل" و"14 آذار" في لبنان و"كتائب عبدالله عزام" معاً وجميعاً في وقت واحد، وسلم بعض السلامة منها وليد جنبلاط وحاسة شمه الحديد الى بعض الوقت ربما، في انتظار مقالته الاسبوعية الآتية في "الانباء".

 فالسياسات العسكرية و"الاعلامية" "الجيوبوليتيكية"، وهي ركن من أركان الأنظمة الخمينية الحرسية والاسدية والحركات الفرعية التي ولدتها ورعتها و"الشخصيات" المتألقة التي جلتها، تفترض أولاً وآخراً إلغاء دواخل الدول والمجتمعات. فهذه الدواخل تلابسها، من دوانيها الى اقاصيها، تعقيدات مزعجة ومربكة على خلاف النورانية، في لغة القوم ومصطلحهم، التي لا تنفك "الجيوبوليتيكا" من المثول في بهائها. فإذا أوجبت هذه "فهم" المعمعة السورية – "سوريا الاسد" المفتاحية والاستراتيجية، واللاعب الكيسينجري، والمستقرة، والمقاومة والمتطاولة العهد فوق ولاية معاوية بن سفيان على قول الهولندي الكاتب، والنافذة الرأي والسطوة في الشاردة والواردة- على رسم القومية "الاجتماعية" العربية- الجماعات التكفيرية، زالت الغشاوة والشبهات عن العيون والافهام. وتبدد الاستبداد والحكم العرفي، والمجازر الخفية والمعروفة، واحتكار "العصابة"، وشراء الجماعات والشرائح بفتات الريوع، وعيش الكفاف، وتحجر أهالي المناطق والمذاهب على عصبياتهم، وانهيار الارياف، والهجرات، والعشوائيات، والعشائر، والاكراد، والمخيمات الفلسطينية، والجوار المتناحر القريب والبعيد، والقنوط والخواء - تبددت هذه كلها وتبدد هؤلاء كلهم وذَرَتها (وذرتهم) رياح صرصر هي من بشائر حمل الازمنة بوليدها الزكي ووشك وضعه لا محالة. وفي القياس على هذا، هجوم انتحاري على سفارة إيران من هنا، أو نظام الاسد من هناك (على قول محلل مأذون)... تفاصيل صغيرة.