الجمعة، 25 يونيو 2010

طريق الأعلام وجادتها العريضة الى الجمهور المضطرب الهوية... معبدة بالحرب والدم

المستقبل 20/6/2010
غداة العاصفة الديبلوماسية والإعلامية التي بعثتها مهاجمة قوات إسرائيلية سفينة تركية في المياه الدولية، قبالة ساحل غزة، وقتلها ناشطين أتراك كانوا على سطح المركب، سرت في الجماعات العربية المشرقية حمى هوى تركي، أردوغاني على وجه الخصوص، بلغت الألسنة والعقول والصدور والأيدي. فاستظل ناس الجماعات هذه العلم التركي الأحمر البسيط والجميل وهلاله بضعة أيام، كان أولها مساء الحادي والثلاثين يوماً اللائي خلون من أيار، على قول الإخباريين. ويلاحظ طلال أبو دية، وهو غزاوي يملك محل هدايا وتذكارات تتصدرها الأعلام في بعض الظروف، أن رجب طيب أردوغان جنى "شعبية فورية ضخمة" في "الأراضي الفلسطينية"، وهو يقصد غزة في المرتبة الأولى، حين رد على حادثة السفينة التركية، "مافي مرمرة"، ومقتل مواطنيه من ناشطي جمعية الحقوق والحريات الإنسانية الخيرية التركية، صاحبة حملة "غزة الحرة"، بحملة ديبلوماسية وإعلامية عريضة وصاخبة. ولم تقتصر الحملة على التنديد بعنف القوات الإسرائيلية، وتهمتها بتعمّد القتل وقصده، بل وضعت نصب العين "معاقبة إسرائيل"، على قول أبودية.
فالتصدي للاقتصاص من القتل المتعمد، على قول الأتراك، وإدانته والتمثيل على الإدانة الصريحة بعقوبة وتعويض ينزعان عن العمل استظهاره بالحق المشروع في الدفاع عن النفس، ويثبتان نسبته الى العدوان والانتهاك – هذه كلها استحقت شيوع هوى تركي أردوغاني في صفوف جماعات عربية تتقلب في دول متنازعة الهوية الوطنية، ومنقسمة على دولها ووطنيتها. ولا ريب في ان مبادرة القادة والحكام الأتراك، وهم من تربط دولتهم وبلدهم بالدولة العبرية والجيش الإسرائيلي علاقات قوية، الى صرم العلاقات هذه، ظاهراً، وتوسلهم في هذا السبيل بخطابة ونبرة قويتي الشبه بالخطابة والنبرة العربيتين، دعت الجمهور "العربي" الفلسطيني إلى مبايعة رأي أو هوى خاله الجمهور مشايعاً لرأيه هو في "الكيان الصهيوني"، وبطلانه جوهرياً، واستوائه على غصب خالص. فحيا الجمهور الخطابة والنبرة، أو ما سمعه منهما وما طاب له سماعه، وصفق لشبههما بخطابته ونبرته هو. وقرأ في الانقلاب التركي على الحليف العسكري والأطلسي و "الأميركي" القريب تبرؤاً وانفضاضاً لعلهما يؤذنان بضعف العدو ومهانته وانكساره، وفي نهاية المطاف بتقوضه وتقطع خيوط بيته المنسوجة من لعاب العنكبوت السوداء والقابعة في وسط حصن متداع، بحسب كناية من الكنايات الأثيرة.

تسديد الدَّين
فالجمهور، والحال هذه، يقضي ديناً عليه. فيقول أحد الغزاويين الى صحافي وكالة الصحافة الفرنسية (صحف 12 حزيران): "أهدروا (وهو يريد بذلوا) دمهم من أجلنا، ونحن مدينون لهم بالدماء هذه". ويقضي الجمهور دينه الى القتلى الأتراك، وإلى الدم التركي الذي امتزج بالدم العربي على قول الرئيس السوري في منتدى الأمن بأنقره قبل أيام قليلة، من طريق الامتنان والميل والإكبار والانتساب. والجمهور القريب الفلسطيني، والمفترض صاحب الهوى الأقوى، يرد دين الدم، وما يكني الدم عنه من طعن في حق الدفاع وصرم حلف وتقويض كيان، ولا يغفل عن رد ديون أخرى. فجمعية الحقوق والحريات الإنسانية الخيرية، "صاحبة" سفينة الأسطول الأولى، تنشط بغزة منذ استقلال "حماس" بالسيطرة على القطاع، وإناختها عليه بثقلها "الإسلامي" والأمني. وتولت نقل الغذاء، ما وسعها الأمر، إلى الغزاويين. وخططت لإعمار الرقعة الفلسطينية المنكوبة وجمع مواد البناء التي يحتاجها الإعمار المعلق (وهي حصلت خبرة في اثناء الزلزال الذي هز الساحل التركي في 1999، ومهدت مذذاك فيمن مهدوا لسطوع نجم حزب العدالة والتنمية، وفوزه في انتخابات 2002 واستقراره في الحكم).
وسبق لتركيا ان بنت مستشفيات في غزة، وأرسلت مساعدات. وفي 9 حزيران وزعت الجمعية ألعاباً على بعض أيتام غزة الذين فقدوا آباء وأمهات عن يد الجيش الإسرائيلي. ومصدر الألعاب، على الأرجح، هو سفن "أسطول الحرية" التي قادتها السلطات الإسرائيلية بالقوة، الى أشدود، ونقلت حمولتها الى غزة، وجمدت "حماس" توزيعها بعض الوقت، ثم رضخت لرغبة الجمعية التركية في إبلاغها غايتها فعلاً، أي أولاد الأطفال، دون الاقتصار على أثر الأسطول الدعاوي المدوي، ورمي حمولته من مأكل ومشرب وألعاب.
ويرد الجمهور الفلسطيني القريب، ومعه الجمهور العربي، الدين التركي برفع الأعلام حيث يُقيَّض رفعها، أي في الأمكنة وعلى الصواري كلها. ويلاحظ احد الغزاويين ان رد الجميل التركي الأردوغاني برفع العلم الأحمر وهلاله على مقهى، والمقهى في العهد الحمساوي "الإسلامي" والإخواني موبوء وقريب الى النجاسة، قد يبدو ملتوياً ونابياً. ولكن الغزاوي يقوّم الرأي هذا. فيصبغ المقهى بصبغة "السياسة". ويطهره من فساد "آلاته" المعروفة مثل ورق الشدة (الكوتشينة)، ونفث الدخان، وتبديد الوقت، و "مقالات" السوء و "أكل لحم" الغير، ويعتذر عن احتضان السياسة المقهى بالقول: "وجودنا كله مسيَّس". واستظلال العلم، أي علم، في الظروف كلها هو إعلان ولاء، ودخول في حماية اهل العلم، أو قومه وأرضه ودولته، وفي جوارهم وإجارتهم. فهم له، للمحتمي بهم والمستجير، "جار" على قول أحد أشراف قريش في "ابن عمه"، النبي القرشي، حين عز المجير. فتنشأ بين الجار ومواليه، أو مولاه، رابطة شديدة التعقيد ومن غير سوية، هي ميدان السياسة العربية بامتياز.
فالداخل في الولاء إنما هو الضعيف. ولكن الولاء ليس استضعافاً، والمستقوي على من يوالونه ليس أهلاً لولائهم، إلا ان يكون استقواؤه بهم على أعدائهم. وولاؤهم يدخلهم في القوم، وفي "أهل" رئيس القوم وشيخهم على وجه التخصيص. وهم ينتسبون الى القوم من طريق انتسابهم الى "الشيخ". ومن مزايا "الشيخ" قوته على إدخال ناس في "ذمة" قومه، على ما جاء في الأثر. وهي قوة أراد الإسلام قسمتها في ضعفاء المسلمين، على رغم أقويائهم. وفي المعرض هذا نفسه، رئيس القوم هو عَلَمهم، وهو جبلهم على قول الخنساء في رثاء صخر: "كأنه علم في رأسه نار". والولاء، ورابطته هي غير رابطة النسب والدم وولد الفراش، مداره على الدم والحرب. وحق المولى على مولاه حمايتُه، والانتصار له، ومنعه من (أي الحؤول بينه وبين) العدوان عليه. فينبغي ان تردع مهابة الولي وقوته اللتين أسبغهما على مولاه الضعيف، وألبسهما إياه، العدوَ القوي من العدوان أو العَدْو على الضعيف. وهذا، أي الردع، هو من تلقاء فضيلة الولاء، وإلزامها الولي الانتصار لمولاه، وحمايته. فكأن الاثنين (قوم) واحد، وعصبية واحدة، ودم واحد، وعلم واحد، وحمى واحد.

أمواج الأعلام
وعندما يؤرخ الغزاويون للأعلام التي رفعوا بعضها فيما مضى، ويرفعون بعضاً آخر اليوم، لا ينسون أنهم رفعوا العلم الفرنسي في 1996. فيومها زار الرئيس الفرنسي السابق، جاك شيراك، "الديغولي"، غزة. فكانت زيارته، ثلاثة أعوام تقريباً بعد أوسلو، و "السلطة" وليد يحبو ويعد الوعود، وياسر عرفات في أوج "ديغوليته"، كانت الزيارة ديْناً طوق به الرئيس الفرنسي الجديد عنق "فلسطين". فرد الفلسطينيون الوطنيون، و "الإسلاميون" على بعض التردد، الدين انتساباً رمزياً وجزئياً. وقضى بالرمزية والجزئية ان دماً لم يسفك، وحرباً لم يلوح بها. واقتصر الأمر، في هذا الباب، على ضيق الزائر الفرنسي، في القدس الشرقية، بمبالغة حرسه الإسرائيلي في "حمايته" من أيدي الفلسطينيين المقدسيين الممدودة لمصافحته. فخرج الزائر عن (بعض) طوره، وطلب تركه وشأنه ومضيفيه من غير مجاملة. وحين زار الرئيس الأميركي الأسبق، بيل كلينتون، غزة المحتلة في 1998، لوح الفلسطينيون بأعلام "الصديق الأميركي"، على ما كان ياسر عرفات يسرع الى القول. الأرجح ان الأعلام الأميركية لم تشخ في أيدي الأولاد، ولم يزد عمرها عن عمر الوردة المقطوفة، وذبلت بعد ساعات على مرور الزائر، رئيس الدولة.
فرعاية مفاوضة تؤدي، حتماً، الى صدوع بالنزول عن بقية أرض، وإلى حدود ضيقة تزداد ضيقاً، وسيادة منقوصة، واختبار لا يتستر على شكوك وظنون متكاثرة وتعصى الطمأنة، رعاية مفاوضة مثل هذه، بواشنطن أو واي بلانتايشن أو طابا، لا تنتج ولاء أو قرابة، ولا تُشعر بنسب. وفي 2006، على قول صانع الأعلام وبائعها طارق أبو دية، ابن طلال، حمل الغزاويون وفلسطينيون وعرب كثر الأعلام اللبنانية مع أعلام "حزب الله"، حسباناً منهم ان هذه تمت الى تلك برابطة وقرابة. وفي كانون الثاني 2006 "انتشرت الإعلام الفنزويلية في القطاع غداة قطع الرئيس الفينزويلي هوغو تشافيز علاقات بلده بإسرائيل "عقاباً لها على عدوانها الدامي"، على قول أبو دية، الوالد وابنه. وباع المتجر المتواضع "الآلاف من الأعلام التركية" لقاء 40 شيقل (10 دولارات) للعلم الواحد، ثم 30 شيقل (8 دولارات أو أقل بقليل) "تشجيعاً". ولا يخفى على صانع الأعلام، ومؤرخها الحكيم، ان الأعلام تمضي وتنقضي، شأن الأماني والحياة و "موج الموت"، على ما ترجم الشاعر اللبناني زميله الفرنسي الرومنطيقي، والحدثان السياسية الشريفة النسب. و "الاحتفاء الذي لقيه (ويلقاه) العلم التركي يشرف على نهايته". وهو يُسْلم مكانته ومحله الى "أعلام 32 دولة تتنافس على كأس كرة القدم العالمي"، ليس فيها ولا بينها، على الدولة التركية، بحسب تأويل المراقب والمؤرخ الغزاوي.
وربما نسي "مؤرخنا" أول علم غير فلسطيني انتشر في غزة انتشار النار في العشب اليابس. فهو يعود الى شتاء 1991، يوم قصف صدام حسين، العراقي أو "صاحب العراق"، ضاحية تل أبيب، عشية طلبه وقف إطلاق النار، ببضع عشرات من الصواريخ أخطأ معظمها المدينة وأهلها. فرفع الفلسطينيون علم الدولة العراقية و "شيخها" المهيب والمجيد. ودعا صدام حسين، من طريق موالٍ كثر، الفلسطينيين الى الإلقاء بأنفسهم على الإسرائيليين، وقتلهم والموت معهم. ووعد من يفعل هذا، ويستجيب الدعوة، بآلاف الدولارات عداً ونقداً، وأن تعذر تصوير متقاضي الهبة الكريمة المكرمين، وأهل الكرامة على المعنى الذي أوجبته واستحدثته حوادث لبنان القاتلة والمتلفزة، بالعدسة التلفزيونية الجزيرية والمنورة. فما تكني عنه الأعلام التركية الأردوغانية كناية، وما يستخرجه التأويل القاصر ولا يفلح في إحضاره، جَهَرَه صدام حسين بالفم الملآن. فلوح بحرق إسرائيل بـ "المثلث الكيماوي" سبعة أشهر قبل دخوله الكويت عنوة، ونشر أعلامه خفاقة على أرضها. ودل إيران خامنئي وأحمدي نجاد والباسيج والباسدران والجماعات الحرسية المسلحة هنا وهناك، على الطريقة الوحيدة الناجعة في معالجة العدو، وإجلائه عن الأرض المحتلة، ومن الهواء المحتل، والحياة المغتصبة والمنحولة و "السرطانية" التي يحيا بها، على ما أفتى الإمام المرشد الأول.
وعلى هذا، فطريق الأعلام المَلَكية والعريضة الى الجمهور المضطرب الهوية الوطنية هي طريق الحرب والدم، الموعودين إذا عصي إنجازهما، وطريق النسب والولاء المموهين والمشبهين الوحدة التامة. فيقول "الشيخ" والعلم التركي ان "العرب هم عيون الأتراك"، وهم "من لا طعم للعالم إلا بهم". يقول إن "تركيا وسوريا شيء واحد"، وأن "تركيا ولبنان، على المقياس نفسه، شيء واحد". وعلى مثال معروف في الأنساب العربية، والبدوية أو القبلية عموماً، يربط النسّابون حليفين يريدون توثيق روابطهما بنسب دموي واحد، ويرفعون النسب الى صلب أو مصدر عال وقديم أو بعيد زمناً. ويجلو النسب الواحد والقديم، والمنسي في الأثناء، "سر" الحاضر، وحلفه وأواصره ووشائجه. فإذا سفح أتراك دماءهم على ظهر مركب ييمم شطر غزة المحاصرة، وأهلها الجائعين وأولادهما اليتامى، فما ذلك إلا برهان ساطع على عظمة العرب والأتراك، وبينة باهرة على إرهاب إسرائيل. فيعطف الأتراك على العرب، والعرب على الأتراك، نسبٌ فلسطيني (وإسلامي) واحد. فقضية فلسطين، على قول الرئيس السوري في منتدى أمن الشرق الأوسط، هي قضية المنطقة والعالم الأولى. ومن مت إليها بنسب، من طريق خوض حرب غابرة أو إيواء قيادة أو تسليح فصيل أو تدريب ناشطين أو رعاية حليف أو تمويل قيادة أو جزء من قيادة واستدخالها... حظي بمكانة عالية، وعاد إليه ريع وقف ذري لا ينقطع، وحق نظارة على تصريف "الوقف الفلسطيني" ودقائقه وتفاصيله. وسند الحق في الريع وفي النظارة نسب صوفي ومعنوي أقوى بما لا يقاس من نسب الأصلاب والأرحام.

عَلَم من غير ذوبان
والمقارنة بين الهوى التركي المشبوب والمتخلف عن مأساة، أو مآسي غزة المتناسلة والمتعاظمة منذ استيلاء الحركة الإخوانية الفلسطينية عليها، وبين ضعف الانعطاف الذاوي في صف الجمهور العربي الى الحركة الديموقراطية الإيرانية، هذه المقارنة، وهي يدعو إليها اتفاق واقعة سفينة "مرمرة" وانقضاء سنة تامة على الانتخابات الإيرانية "المسروقة"، بليغة الدلالة على حال الجمهور العربي ومجتمعاته المتفرقة. فعلى خلاف تركيا الإسلامية "المعتدلة" والعثمانية، وعلى خلاف إيران الخمينية المقاتلة والثائرة، وأخيراً على خلاف فلسطين المضطربة والقلقة والمعلقة في أشتات تعصى الوصل والجمع، اقتصرت الحركة الخضراء بإيران على برنامج سياسي ودستوري أساسي وداخلي.
فالحركة الإيرانية ولدت لتوها من حوادثها نفسها، ومن تأويل اصحابها هذه الحوادث. وهي صدرت عن اجتماع اصحابها أو أفرادها على تأييد مرشحين "إصلاحيين" الى رئاسة الجمهورية. والمرشحون، أو المرشحان مهدي كروبي ومير حسين موسوي بعد انسحاب المرشح المحتمل محمد خاتمي، وأنصارهم فتحوا عيونهم أو أدركوا ما هم عليه، ومن يكونون، في سياقة الانتخابات وحوادثها. وفي هذه السياقة، وليس في حضن ماض نسبي وأسطوري يصرف الأنظار عن الوقائع والعقول والألسنة عن تدبرها وقولها، شدت الروابط بعض جمهور الناخبين الى بعضهم، وميزت بعضهم من بعض. وكان ذلك مشهوداً في التظاهرات والمهرجانات. وسمع الجمهور المتفرق أحزاباً وشيعاً وجماعات، في أثناء الحملة الانتخابية، آراء ومواقف متباينة ومختلفة. ولم يقتصر دوره على الاستماع والتدوين. فقارن وأحصى وفحص وامتحن، ودعاه هذا الى المناقشة والرد، وإلى التهاتف والمكاتبة الإلكترونية على أنواعها ووسائطها. وميز جمهور المعارضة نفسه من الكل العصبي والقومي المذهبي الذي ينتصب أهل القوة والسلطان علماً عليه، ويوجبون على عموم الإيرانيين الانضمام إليه والانخراط فيه، قرينة على إذعانهم لأهل القوة والسلطان. فاختاروا اللون الأخضر، وعصبه وأساوره ومناديله وقمصانه و "سقوفه"، شارة خاصة، وعلماً على رابطتهم السياسية الجديدة والوليدة.
وفوق هذا، وهو كثير، حملوا انفسهم، أي آراءهم وأحكامهم ورابطتهم وإراداتهم وتوقهم، على تاريخ اقتطعوه من حوادث الدولة الإيرانية "الإسلامية"، ومن تاريخ الأمة الإيرانية وشعوبها (على ما يقر ساسة إيران كلاماً). فمن التاريخ المقتطع ثورة 1978 – 1979. وعلى خلاف من استولوا على الثورة بالقوة والمكر وتجييش الأهواء والتدليس والحرب وانفردوا بالحكم، مدح اصحابُ الموجة الخضراء كثرة مصادر الثورة وتياراتها، واختلاط المصادر والتيارات وسعي اهلها في رعاية الكثرة وبلورة قواسمها المشتركة. واطرحوا من مديحهم، وعما يستتبع المديح من تقديم نهج على نهج، الأعوام الثمانية "السود" التي تذرع بها، وبحربها المديدة والفظيعة، مستولو 1979 – 1980 إلى إرساء أركان استيلائهم على هيئات حرب أهلية وخارجية، مثل "الحرس" و "الباسيج" وأجهزة الاستخبار والاغتيال والاصطفاء والاستبعاد. والأعوام الثمانية هذه – وفي اثنائها قتل نحو 600 ألف إيراني (الى نحو 400 ألف عراقي) على جبهات القتال، وقضى عشرات الآلاف اغتيالاً واختفاء وراء خطوط القتال في البلدين – مدحها محسن رضائي، أحد المرشحين الى الانتخابات الرئاسية في 2009 وأحد "آباء" الحرس الثوري، مديحاً حاراً، وجهر عجزه عن قول "عظمتها".
والحق ان معظم حكام ايران اليوم، وأهل القوة في أروقة السلطة والمناصب النافذة، هم اولاد "العظمة" المكتومة والخرساء التي لم يفق رضائي من غاشيتها بعد. ويشبه تعظيم غاشية أعوام القتل والموت و "سرفها"، على قول عبدالله بن عمر في مقاتل ابن الزبير بالكوفة، من غير حساب ولا قيد، تعظيم الفاشيين والنازيين الأوروبيين الأوائل الحرب العالمية الأولى و "أعاصير الفولاذ" (إرنست يونغير الألماني) التي عصفت بعشرات الملايين من الجنود والمدنيين، وقَتَلتهم وعطبتهم ودمرت عمرانهم. والحروب "العظيمة"، على هذه الشاكلة، غالباً ما تمزج الحرب "الوطنية" بالحرب الأهلية، وتربط بين المقاتلين برابطة حميمة وقوية. فتستمد هذه من الإلفة المتمادية بالموت، ومن يقين الناجين بالانتخاب والاصطفاء، اعتداداً وإيماناً راسخين يأسف من اختبرهما على خسارتهما، ويحن إليهما حنيناً موجعاً.
وعلى رغم تحدر مير حسين موسوي ومهدي كروبي ومحمد خاتمي، ومئات دعاة الحركة الخضراء البارزين، من الحرب القومية والأهلية التي ولدت "النظام الإسلامي" وأنجزته، نصب أنصار الحركة وصانعوها وناشطوها "أعوام خاتمي" مرجعاً ودليلاً، من غير تصنيم ولا تحجير. وجمعوا أوقاتاً ثلاثة – الثورة الدستورية (المشروطية) الإيرانية في 1906، وبدايات حركة 1978 – 1979 الكثيرة المصادرة، وإرهاصات ولايتي محمد خاتمي الليبرالية – في جملة زمنية وتاريخية متناغمة. وعلى خلاف العصبية الحرسية والباسيجية، بديهة، وكذلك على خلاف الأعلام الفلسطينية والفينزويلية والعراقية والحزب اللهية (و "اللبنانية") والحمساوية، والتركية اليوم، لا يقسر أخضر الحركة الإيرانية السياسية الدستورية الإيرانيين، ولا "الأشقاء"، على الذوبان في كتلة محمومة واحدة ومندمجة. وهو يدعوهم الى النظر في روابطهم المشتركة، وموقع أمتهم من تاريخها ومن عالم اليوم، ويحملهم على تدبر خلافاتهم وانقسامهم جماعات، وطرق معالجة الخلافات والانقسامات من غير عسف ولا عنف. وإذا كانت الأعلام العصبية والحربية أعلام هويات قلقة ومتكتلة، وتكتلها يداري قلقها، فالعَلَم السياسي والدستوري دعوة الى منازعة علنية واحتجاجية (من الاحتجاج والإدلاء بحجة) عمومية، لا تستأثر جماعة أو فئة أو مرتبة بإيجاب مضمونها أو معانيها سلفاً والبت فيها، من وجه، وتقتضي عموميتها، من وجه آخر، ألا يعود عائد المضمون أو الرأي الذي تنتهي إليه المنازعة على جماعة أو فئة مخصوصة بالنفع.
ومباشرة السياسة على النحو "الأخضر" هذا تقود الى ليبرالية فردية، وتفضي، شاء دعاتها وأنصارها النتائج المترتبة عليها أم لم يشاؤوا، الى تصديع الأجسام العصبية والمراتب والأسلاك والجماعات الأهلية المنفصلة. وحين يدعو مير حسين موسوي ومهدي كروبي انصار الحركة الخضراء السياسية والدستورية الى ترك التظاهر في الذكرى السنوية الأولى للانتخابات الرئاسية، وتفادي القتل والاغتيال في ساحة "الحرب" التي يشنها النظام الحرسي والباسيجي، وأعيانه، على المواطنين والناخبين الإيرانيين، إنما يقدِّم الرجلان القيم الفردية والليبرالية على نازع القيم العصبية الى الموت والحرب. والدعوة الأخرى الى "القتال" بـ "جيوش الإنترنت"، والاستعاضة بها عن كراديس اصحاب الهراوات الحديد، وراكبي الدراجات النارية، وقَتَلة الصبايا المتظاهرات غيلة، تعيّن مجال المواجهة الليبرالية وميدانها، أي الاحتجاج بالكلام والقول، وبسط الخلافات من طريقهما.
والاقتصار على أوقات تاريخية معاصرة وغير بطولية (على معنى لا يفترض الدم ولا الحرب ولا النسب المجيد الاسطوري، وعلى معنى قَبول العمومية والمساواة الإنسية، وفي "عرق" الإنسية، على قول فيكو)، واقتراح نهج سياسي ينهض على العلانية ويتناول الخلافات والانقسامات والمنازعات ومعالجتها من طريق التحكيم والمداولة، والتوسل بالحقوق الأساسية الى تقييد سلطان الحاكم المطلق والمتعسف – هذه الأسس مجتمعة لم تُحوِج الحركة الديموقراطية والدستورية الإيرانية الى السطو على أعلام الحرب والدم، ولا إلى استمطار الأيقونة الفلسطينية (أو النووية أو العثمانية...) الهوى المحموم والأخرس الذي يحجز به أهل السلطان ووكلاؤهم على عقول الأنصار وصدورهم وألسنتهم. وذهب متظاهرو الحركة الخضراء بإيران الى جهر إنكارهم عبادة الأيقونات وتصنيمها، فهتفوا: "لا غزة ولا لبنان، أولاً إيران". فهويتهم الوطنية السياسية لا تفتقر الى ركن مكين تنهض عليه، وتغرف منه قيمها ومعاييرها ومراجعها، وتستدل به الى مسالكها. وأولوية إيران او صدارتها، قياساً على سياسة تصدير الحرب والسلاح والمال وشراء الولاء والاقتتال و "المقاومة"، هي أولوية علاقات الإيرانيين بعضهم ببعض، وإرساء السياسة على شروط تعاقد داخلي أولاً.
والحق ان الأصول التي تنهض عليها "الحركة الخضراء" أو تفترضها، مثل انتخاب أوقات تاريخية معاصرة تراثاً، وطلب العمومية والمساواة، وإعلان الخلافات والانقسامات، وارتضاء التحكيم فيها، وتقييد السلطان المطلق بالحقوق الأساسية وبتقسيم السلطة – هذه الأصول توجبها الحركة الديموقراطية في أثناء مسيرها، وتدعو الى اختبارها. ويخالف هذا مخالفة حادة نهج "الأصوليين"، وإطلاقهم الأسطوري، أو أساطيرهم "التاريخية"، وردهم الحوادث والوقائع والروايات والأفراد الى "حادثة" واحدة رتيبة ومميتة، تصدر عن الموت وتؤدي الى الموت. وهذا على شاكلة أعلامهم، رايات وبشراً، بشراً يتكلمون بكلام الرايات الفقير والإيمائي والمكرر، ويخفقون بريح تهب عليهم من خارج، وقصاراهم التموج بها ومعها، وتشبيه هبوبها ودوام الهبوب لا إلى غاية أو وقت.
فهم يحسبون أن "هذا الأمر (الحكم) فينا (فيهم) الى ألف عام"، على قول السفاح العباسي الأول. والألف عام في ذهنه هي الدهر وأبده. و "الأمر الى ألف عام"، المولود من الدم المسفوح، ومن حروب أهلية تنفخ فيها ضغينة تتصبب عرقاً في كهوف وسراديب تلفزيونية موحشة، صقيع جليدي يجمد الكلمات والوجوه والحركات والسكنات والسياسات، ويصلبها على كرتون (مشهد) مقوى. فإذا نزع الجليد الى التمثيل على نفسه في فن، وأراد تصوير نفسه في لوحة، عمد الى رصاصة "عظيمة"، هي كناية عن صاروخ. ويشبه الصاروخ الذي يكني عن الرصاصة برج بابل وطبقاته الملتفة، على ما يرى في رسوم الكتب المدرسية القديمة وربما الجديدة. وأخرج الصقيعُ الجليدي، المتعمد الفن، الرصاصة – الصاروخ – برج بابل من حضن روابي الجنوب ("اللبناني") ووديانه القاحلة والملتفة إخراج بوتيشيلي الإيطالي افروديت العارية والمستحية، على خلاف الرصاصة، من قاع المياه المتلاطمة، ومن صدفة البحر العريضة. ويلف الرصاصة، وهي يناطح رأسها المدبب غيم السماء وسحابها، وشاحان يقومان مقام جدائل الشعر الطويل المنسدلة على الأجساد البضة والممتلئة في لوحة الرسام الإيطالي، ويلفان "خصر" الصاروخ، وينسفحان على قاعدته في قلب الأرض. والوشاحان هما... علمان متعانقان، ويعانقان بدورهما الرصاصة الشامخة، ويلفانها، ويحاكيان حركتها المفترضة من بطن الأرض الموّارة الى كبد السماء.

الأربعاء، 16 يونيو 2010

ديغولية تركية مفترضة... من غير حداثة وإصلاح وطنيين وديموقراطيين

الحياة، 16/6/2010
يخلص بعض المعلقين على الشؤون التركية من «المجرى الجديد» الذي تنتهجه السياسة الخارجية، الإقليمية والدولية، الأردوغانية، منذ الحملة على العراق في 2003، الى أن لحمة المجرى هي ما يسميه عمر تاسبينار «ديغولية تركية» («النهار» اللبنانية، في 13 حزيران/ يونيو). وتنهض الديغولية المفترضة، بداهة، على «الاضطلاع بدور مستقل» عن الغرب، من غير قطيعة، وعلى «إحياء القومية التركية (و) العظمة العثمانية». وقد يحمل الإحياء أصحابه على «تحدي الغرب أو استعمال الثقل (التركي) الاقتصادي والسياسي والاستراتيجي في منطقة (تركيا) الحيوية». ولا يبعد، على ما يرى الباحث في مؤسسة بروكينغز، أن تنأى تركيا بنفسها عن حلف شمال الأطلسي «كما فعل الرئيس الفرنسي... في ستينات القرن الماضي».

وعلى المثال الديغولي الساطع، يتوج السياسة التركية المستقلة، والباعثة المجد القومي والمتكئة على قاعدة اقليمية حيوية، خيار «قوة ردع تركية نووية». ويتماسك الخيار النووي بـ «تحسين ملحوظ للعلاقات بين تركيا وروسيا والصين والهند والبرازيل وإيران». وتجمع البلدانُ «الناشئة» هذه مدى الأسواق العريضة الى عمق «صداقات سياسية تعوض علاقات (تركيا) التقليدية مع الغرب». وأحد دواعي تركيا القوية الى التحفظ من الغرب، والى بناء شبكتها الإقليمية والدولية المستقلة، على ما يرى تاسينار، رعاية الغرب، الأوروبي والأميركي، المسألتين القوميتين العالقتين في تركيا، المسألة الكردية وتبعاتها السياسية والدستورية البنيوية الراهنة والملحة، والمسألة الأرمنية، وأثقالها المعنوية والمادية والاستراتيجية المستمرة.

ويقع القارئ في المجسم الذي يمثل على البناء الديغولي التركي على بعض المفاتيح الديغولية التاريخية مثل الاستقلال الوطني، والخروج من الأحلاف وقيود التزاماتها العامة، ومثل الأمة العظيمة التي تتحلق الأمم الساعية في الاستقلال حولها، والانفراد بالسيطرة على السلاح النووي، عنوان السيادة في عالمٍ الردعُ النووي أحد أركان بنيانه وأحد معايير احتساب موازينه البارزة. والحق أن مقارنة «الديغولية التركية» والأردوغانية المفترضة بالديغولية الفرنسية التاريخية تتعثر بفروق حادة تطعن في المقارنة، وتعطل الفرضية الديغولية من أساسها.

فعلى خلاف الأمة الفرنسية، وهي ربما الدولة - الأمة السياسية الأولى بأوروبا، تتنازع «الأمة» التركية نوازع قومية (اثنية وعرقية) ومذهبية ومحلية لم يسعف ماضي تركيا الامبراطوري والسلطاني، البعيد والقريب، «الدولة» التركية الفتية في السيطرة عليها، والتأليف بينها. فتركيا المعاصرة لا تزال بعيدة من «المألفة» الوطنية والسياسية التي تضطلع الدولة - الأزمة بتجسيدها، والتمثيل عليها، وإيجابها في الداخل والخارج. وعلاقات الجماعات القومية والمذهبية والمحلية بعضها ببعض، وبالسلطة المركزية، تشوبها صبغة «استعمارية» أو «شبه استعمارية». وهي تنهض على استتباع أهلي، وإنما بوسائل حديـــثة مـــدمرة وفظة تتيحها التقنيات العسكرية والمواصلات والاتصالات السريعة، ويتيحها تصرف بيروقراطية ضيقة بها من غير حسيب حقيقي. وليست معالجة المسألة الكردية، قبل 1983 - 1998 (اضطلاع «العمال الكردستاني» بدور غالب) وبعدها-، والمسألة اليونانية «الرومية» المتخلفة عن اجلاء الدولة التركية يونان الساحل التركي الغربي والشمالي قسراً في 1921 لقاء اجلاء بلدان البلقان أتراكها على النحو نفسه (وقضية قبرص اليوم من «بقايا» المسألة العالقة هذه)-، والمسألة الأرمنية التي لا تقتصر على علاقة الدولة بالجماعة الأرمنية الصغيرة بل تتعداها الى العلاقات بالدائرة «البيزنطية» وفتوحها «القديمة» - ليست معالجات هذه القضايا بالعنف والاستيلاء والإنكار والتستر، إلا قرائن على دوام الفساد السياسي الراسخ في أبنية السلطة والمجتمع أو الجماعات.

وعلى سبيل المقارنة «الديغولية»، يفترض انبعاث دور الأمة التركية العظيمة والمجيدة في حلة غير استعمارية ولا سلطانية أو امبراطورية، تخفف تركيا رجب طيب أردوغان من الإرث العثماني، ومن إعلائه الجماعة التركية القومية والمذهبية على الجماعات الأخرى. ففي سياق اختبارات فرنسا النووية الأولى، في 1961، وقبل خروجها من القيادة الأطلسية المندمجة في 1966 واعلانها استقلالها بقوتها النووية، وصوغها عقيدة ردع وطنية قوامها الرد بترسانتها كلها وليس تدريجاً على عدوان نووي (على خلاف الردع المرن أو المتدرج الذي صاغ عقيدته وزير الدفاع الأميركي روبرت ماكخارا في اطار اتساع الحرب الفيتنامية) - في ضوء السياق استعجلت السياسة الديغولية تصفية مستعمرات فرنسا الافريقية المتبقية، وخرجت في 1962 من الجزائر، وأقر الفرنسيون دستور الجمهورية الخامسة في 1962 في استفتاء عام طوى غلبة المجالس الوطنية (البرلمانات) المتقلبة والمشرذمة على السلطة التنفيذية. وخطا ديغول في 1962 خطواته المباشرة على طريق التقارب الفرنسي - الألماني، وأرساه على «محور» متين تحول شيئاً فشيئاً الى ركن أوروبا، على رغم تمسك ديغول المتشدد بالسيادات الوطنية، ونعيه على أوروبا السوق المشتركة، السداسية يومها، أطلسيتها وتأمركها وليبراليتها الاقتصادية، ونقضه على دخول بريطانيا «الأميركية» والمركنيلية أوروبا (التي لم تعمر) هذه.

وهذا كله، وغيره مثله، بعيد من بعث المواضي العظيمة وأوهامها، ومن الغفلة عن دواعي الحاضر وجديده، بعده من الارتجال والاستعجال والتلفيق. فهو ينم، في مجمله، بإحاطة معاصرة لم تبرأ من فوت بعض عناصرها وعواملها. وليس يخفى أن قلب السياسة الديغولية الحي والقوي هو تحديث الدولة الوطنية والديموقراطية من طريق اطراح «الزوائد» السلطانية والامبراطورية في الداخل والخارج. ومن هذه «الزوائد» تخبط الأحزاب السياسية الوطنية في شباك «الإقطاعات» المحلية الراسخة، وحماية الانتخابات النسبية الحصص والحصون المحلية هذه، ثم حضانتها حكومات ائتلافية، من غير سياسة ولا برامج ولا دوام. ومنها إحجام الدولة، أو الارادة الوطنية الجامعة، عن المبادرة الى سياسة إرادوية في مجالات حيوية مثل الصناعات الأساسية، والبحث العلمي والثقافي، والعلاقات الاجتماعية، والعلاقات الخارجية. واستلهمت هذه حساً تاريخياً جمع التقرب من روسيا (السوفياتية) والمانيا (المقسمة) معاً، والبلدان قطبا نزاع أوروبي مقيم، الى استظلال جوار الردع الأميركي، وخيمته الأوروبية والأطلسية الوارفة، من غير الدَّيْن للردع هذا بالأمن الفرنسي. واستثمرت السياسة الخارجية التورط الأميركي والأطلسي بفيتنام في جباية تعاطف عالم ثالثي، شفع به ورفده ودٌّ روسي ظاهر لم يحل بين الرئيس الجنرال وبين دعم انفصال الصين، واستقلالها عن الوصاية السوفياتية الثقيلة ونذرها المليئة بالوعيد والتهديد.

ويدخل رجب طيب أردوغان السياسات الدولية من أبواب ضيقة وصغيرة، قياساً على الأبواب التي دخل منها الرئيس الفرنسي التاريخي السياسات هذه. فهو لا يدخل المشرق العربي من باب فلسطين، بل من باب غزة. وغزة التي طرق بابها قبل عام ونصف العام ليست محطة الى فلسطين بل الى «حماس» أو شطر منها هو قيادة الخارج المترجحة والمترنحة بين دمشق وبين الدوحة، والى الحركات الإخوانية المشرقية التي قام منها حزب أردوغان، «العدالة والتنمية»، مقام خلافها أو نقيضها «العاقل». وقادت «ديغول التركي» المفترض الى غزة و «حماس» والحركات الإخوانية سياسة الاستدراج التي انتهجتها طهران أحمدي نجاد، أو طهران الحرسية والباسيجية، منذ 2004، واستئناف تخصيب اليورانيوم بعد تعليقه.

ونهضت سياسة الاستدراج على حساب استراتيجي إيراني شديد الخصوصية القومية والمذهبية ولا يقبل التقاسم أو الاشتراك. وهو يقضي بالنفاذ من الثغرة الإسرائيلية الى محاصرة السياسة الأميركية ومنظومتها الإقليمية، وابتزازها في دوائر المنظومة هذه وساحاتها. وتفترض سياسة الاستدراج والابتزاز ضعف الأدوات المحلية أو الأهلية، وإضعاف الأطر السياسية الوطنية التي تحضنها. ولا ريب في أن غزو العراق، في 2003، غداة الحملة على أفغانستان في 2001، في سياق انقلاب «القاعدة» من حركة أفغانية محلية الى «جبهة عالمية» تشن حرباً على «الصليبيين» (الغرب) و «اليهود» (اسرائيل «الغربية») على امتداد «العوالم» الإسلامية، قرَّب تركيا المتحفظة عن النتائج الكردية المتوقعة لسقوط صدام حسين، أولاً، من إيران التي باتت الولايات المتحدة، وقوات التحالف التي ساند معظمها صدام حسين، جارها القريب والحميم.

وعلى هذا، فإيران الحرسية والباسيجية، واسرائيل استطراداً واسترسالاً، هما اللتان تشنان عمليات حربية، وتشعلان بؤراً ملتهبة، وما على تركيا إلا الانخراط في ذيول العمليات واللهب. وتخالف السياسة المستدرجة هذه سياسة تركيا في تسعينات القرن الماضي، قبل فوز «العدالة والتنمية» بالحكم. فالتضييق على سورية الأسدية، رداً على تماديها في استعمال المقاتلين الأكراد والمقاتلين السريين الأرمن في الحرب السورية على تركيا، رمى الى لجم النزاعات الأهلية، والى فصل علاقات الدول عن العوامل الأهلية المضطربة. واليوم، تنقال السياسة التركية، أو هي تنذر بالانقياد الى تشابك الحروب الأهلية والإقليمية، والى مزج علاقات الدول والجماعات والأهلية. وقد يقودها الى الغرق في التشابك والمزج هذين تعامي طبقتها الحاكمة المختلطة، الجديدة و «القديمة»، عن «إلحاح» الإصلاح السياسي الداخلي، ومحله من الاضطلاع بدور استراتيجي.

الاثنين، 14 يونيو 2010

السياسة التركية بين المنطق السياسي والمنطق العصبي

الحياة، 10/6/2010

حين كان علي شيرازي، ممثل علي خامنئي في الحرس الثوري، يصرح الى وكالة «مهر» الإيرانية والمأذونة ان سلاح البحرية في الحرس جاهز «لحراسة قوافل السلام والحرية الى غزة»، ويشرط الحراسة والمواكبة المفضيتين الى حروب إقليمية ودولية بإصدار «الزعيم الأعلى» امراً في هذا المعنى، في الأثناء كان وزير الخارجية التركي، أحمد داود أوغلو، يطمئن «سي إن إن» الأميركية الى ان رجب طيب أردوغان لا ينوي الاشتراك في ركوب سفينة تقصد غزة. ومقارنة التصريحين أو القولين، وهما ليسا موقفين على معنى الإلزام السياسي، قرينة جزئية على الاشتطاط الذي قد تقود إليه مسرحة السياسة أو تلفزتها في عصر الإعلام الصوري والإلكتروني الرقمي وعصر النشاط السياسي الذي تتولاه منظمات غير حكومية.

فالناطق الحرسي لا يرى ما يوجب تقييد إطلاق الكلام على عواهنه، وإرخاء الزمام لتخييل محموم و «مهدوي» يتصور العالم في آلام مخاضه الأخيرة، قبيل فرج إمام الزمان وظهوره، وتدميره الممالك والأمم الظالمة والقديمة فلا يقتضي ندب الأسطول البحري الإيراني، وحاملات طائراته العظيمة في مواكبة غواصات «بترول» السوفياتية المستخرجة من الخردة البريجنيفية على عجل تلبية لاحتياجات هجومية ملحة، لا يقتضي إلاّ كلمة من نائب إمام الزمان العدل والمستوفي الشرائط. ولا ريب في ان الاحتفال الناري والكلامي الحرسي هو وليد رؤى محمود أحمدي نجاد المهدوية والمخاضية والتلفزيونية معاً. ولا ريب، كذلك، في مزاودة الناطق الحرسي ومسابقته «الفارس» التركي في مضمار الانتصار للعروس الفلسطينية والعربية، وخطب ودها وإغوائها. فإذا «نجح» الغريم التركي في استدراج «الأعور» أو «الدجال» الإسرائيلي الى قتل 9 أتراك على متن سفينة مدنية، يقتصر تسلح ركابها من دعاة السلام والحرية (على قول الضابط الحرسي) على قضبان حديد، بحسب بولنت يلدريم من «مؤسسة المساعدة الإنسانية» التركية – جاز تعويل المخيلات الهاذية على آلاف القتلى إذا أبحرت الأساطيل الإيرانية الحرسية من موانئ الخليج العتيد، ومخرت بحر العرب الى باب المندب، ودخلت البحر الأحمر واجتازت قناة السويس وانعطفت شرقاً الى ساحل غزة وحررته، وأجلت المحتلين عنه، ونقلتهم الى أوروبا. وإذا نجم عن مقتل 9 أتراك الهرج والحرج الديبلوماسيان الدوليان اللذان شغلا طوال أسبوع، وربما أسبوعين، شوارع الأمم وأروقة الهيئات والأحلاف وعناوين الإعلام، فينبغي توقع هرج وحرج يفوقان مئة مرة نظيرهما التركي إذا «اقتصر» عدد ضحايا العدوان على 900، وألف مرة إذا بلغ 9 آلاف...

والحق ان ما يقود الى الإسفاف المازح في معرض مأسوي، غير قدري تماماً، ليس الهراء الحرسي، المتخفف من أضعف معايير المسؤولية، وحده، فوزير الخارجية التركي، أستاذ الجغرافية السياسية السابق، أجاب بـ «لا» مغلظة ومثلثة السؤال عن مشاركة «الفاتح»، أو «الغازي» أو «السلطان» على ما يسمي بعض الأتراك رئيس حكومتهم منذ عودته المظفرة من موقعة دافوس في صيف 2006، في غزوة غزة السلمية الآتية، لكنه استدرك على جوابه القاطع، وضعف أمام إغراء الفكرة والصورة، ولم يشأ تبديدهما. فأقر بأن طيف إبحار الرجل على ظهر سفينة عظيمة، يحفه آلاف الأتراك من الطبقات الوسطى الجديدة، داعب خاطر «الزعيم (شبه) الأعلى» التركي. ولكن الحكومة التركية، أو على وجه الدقة الوزراء «في صفتـ(ـهم) حكومة تركية، لم يشجعوه». واستدرك الوزير على الاستدراك الأول، فقال: «إذا كانت هناك محاولة جديدة في إطار مدني، لا يمكننا الخوض في الأمر» منذ اليوم.

وعلى هذا، تترجح القيادة التركية بين منطق سياسي جاد وصارم، يحرص على التزام نهج قانوني دولي ويقصد إلى تحصيل نتائج فعلية وملموسة تؤدي الى مراجعة الحصار المضروب على غزة وتحمل مسؤوليات المراقبة، وبين منطق الشاشة التلفزيونية والخطابة المشهدية، وبابه المشروع على «الإيرانيات» و «الحرسيات» المنحولة والمرسلة. والتمرين هذا، أو الترجح، دقيق. ويفترض في صاحبه – وهو من همَّ اسماعيل هنية الحمساوي والغزاوي بتسميته بـ «الخليفة» وسمى دولته بـ «دولة الخلافة» – الجمع والتأليف والموازنة بين داعي الموقف الإنساني والقانوني والدولي وبين داعي الهوى والجنوح القوميين والأنانيين وتشبيهه. وأصداء الواقعة التركية، أي قيادة جمعية تركية سفن كسر الحصار المضروب على ساحل غزة، تحمل على التنازع والتجاذب. فالجمهور «الإنساني» والإسلامي والقومي يميل معظمه مع الدعوات المباشرة والحادة، والمناوئة للغرب، فوق ميله مع المواقف المقيدة بالتزامات واضحة ومشروطة، مفضية الى حلول ظرفية وجزئية. وسابقة صدام حسين قريبة. ويومها، أي عشية غزو العراق حسب متظاهرون عرب ومسلمون كثر ان رفعهم صور الطاغية العراقي هو عربون تضامنهم مع «العراقيين». وهو كان حاجزاً بين الطاغية وبين رضوخه للتخلي عن حكم أساء استخدامه، بمعزل من المزاعم الأميركية في حيازته عناصر سلاح نووي وجرثومي (لوّح هو به عمداً قبل سنوات قليلة).

ولا وجه للمقارنة بين رئيس الحكومة التركي وبين الطاغية العراقي، لا من قريب ولا من بعيد. ولم يحاول الطاغية يوماً التوفيق بين مصالح «قومية» مزعومة، على شاكلة «مرور طريق القدس بعبادان»، أو بطهران، وبين التزامات إنسانية ودولية وسياسية. ولا ينفي بطلان المقارنة حقيقة مشكلة التوفيق بين قيود المنطق السياسي وبين جموح المنطق العصبي. وتنبه السياسيون الأتراك، وفي مقدمهم أردوغان نفسه وإلى جنبه وزير خارجيته، الى مشكلة التوفيق هذه، فحال وقوع المأساة، ندد رئيس الحكومة التركية بانتهاك الهجوم الإسرائيلي على «ما في مرمرة»، ومقتل مدنيين عزل في الهجوم، القانون الدولي. وأنكر على حكومة نتانياهو، تخصيصاً، إدارتها ظهرها الى السلام، وتهديدها سلام المنطقة، وحجزها بين «الشعب الإسرائيلي وبين الاستقرار والطمأنينة»، و «فرضها العزلة على شعبها».

وبينما كان أردوغان لا يزال في تشيلي أو في طريقه الى بلده، عمدت أنقرة الى إجراءات ديبلوماسية وقانونية معهودة. فاستدعت سفيرها بتل أبيب، وألغت مناورات عسكرية مشتركة مع القوات الإسرائيلية، وقوات أخرى، كانت متوقعة ووشيكة. وصرح ألكر باشبوغ، قائد الأركان، أن الهجوم «خطير وغير مقبول»، فألحق الجيش، معقل التحفظ عن مجافاة اسرائيل بالحكومة. وطلبت هذه اجتماعاً عاجلاً لمجلس الأمن، وآخر لمجلس حلف الأطلسي ببروكسيل. وتعالت الإجراءات هذه، والصياغات التي رافقتها وتناولت تعليلها، فحملته على مصالح «الشعب الإسرائيلي» وتنكر الحكومة الإسرائيلية الحالية لها، تعالت عن الانسياق وراء هتافات متظاهري ساحة تقسيم اسطنبول: «الموت لإسرائيل» و «أيها الجنود الأتراك الى غزة» و«العين بالعين والسن بالسن». ولا ريب في ان الهتافات هذه كانت محظورة رسمياً، وكانت الحكومة التركية تزجر الهاتفين بها، على ما ذكر مراسل «العربية» باسطنبول. ولكن مقتل مواطنين أتراك غيلة، على متن مركب تركي غير مسلح، بعث مشاعر قومية وعصبية حادة لم تكن الحكومة تسوغ العبارة عنها، ولم تماشها إجراءاتها ولا أقوالها على رغم رفع الحجر عنها.

وفي الخطبة «الحزبية» والجماهيرية التي خطب بها نواب «العدالة والتنمية»، وبثها التلفزيون التركي مباشرة، توسل أردوغان بأشد العبارات قومية وسيادية. فندد بـ «المجزرة الدموية»، واختار وقع العبارة الطاغي والجرمي وترك عبارة «إرهاب الدولة»، القانونية والحقوقية. ونادى بـ «معاقبة إسرائيل»، ولم يذكر الهيئات التي يُحتكم إليها في طلب العقوبة وإجرائها. فقدم الوجه الأخلاقي والجنائي والديني على غيره من الوجوه.

وحذر من محاولة «اختبار صبر تركيا». ونحت الجملة نحو حمل الحادثة على مجابهة إسرائيلية – تركية خالصة، واطراح نصاب أو مرجع يحتكم إليه المتخاصمان أو المتحاربان، ويحكمانه في خصومتهما. والجملة هذه هي أقوى استجابة للنعرة العصبية التي غلبت ربما على بعض الأوساط التركية. ولوَّح، على خلاف كلام لاحق أدلى به وزير خارجيته الحذر، بالثأر للمدنيين القتلى، وطي صفحة العلاقات الإسرائيلية – التركية «المميزة».

ولكن الخطيب الغاضب عاد الى التلازم بين «قضية» تركيا وبين «فلسفة الأمم المتحدة»، ولم يفصل الأولى من الثانية. وقرن «مهاجمة السفن وقتل الأبرياء» على ما فعلت إسرائيل، بـ «التعامل مع الإرهابيين»، وهو جريمة الجرائم في نظرها. وهو يماشيها في الشأن هذا. ونوه بالصداقة التي ربطت بين تركيا (العثمانية) وبين اليهود، وشمل يهود تركيا بالموقف الشعبي من قتل الأتراك على متن السفينة، وتكلم باسمهم. وأرفق الإلحاح على الأمم المتحدة في اتباع القرارات بالتنفيذ، بانتقاد «العداء للسامية». وتوعد إسرائيل بثمن «باهظ» إذا هي شبهت تركيا بجهات أخرى، يقصد ألمانيا النازية وربما إيران النجادية. والوعيد دليل قوي على رغبة حزبه، وهو يقود تركيا الى الانخراط في أوروبا، في النأي ببلده من شبهات يعرف وقعها الأوروبي المدمر. وحض «الشعب الإسرائيلي» على محاسبة حكومته، و «إرهاب الدولة» الذي تنتهجه، على إضرارها به. وفي الأثناء، لم يكف أردوغان عن بسط رعايته على غزة، وإعلان حقوق هذه الرعاية إما باسم المجتمع الدولي أو باسم دالة تركيا و «صداقتها» الثمينة. ودعاه داعي «الصداقة» الى إسباغها على «حماس». فانتهك شطراً من السياسات العربية هو محط مصالح إقليمية ووطنية تترتب على انتهاكها ذيول متداعية.

وفي 2 حزيران (يونيو) أجمع مجلس النواب التركي على بيان لوّح بإعادة النظر في العلاقات السياسية والعسكرية والاقتصادية بين البلدين في إطار «الوسائل القانونية الوطنية والدولية المتوافرة لدى (تركيا) ضد إسرائيل». واشترط اعتذار الحكومة الإسرائيلية رسمياً عن الهجوم، وإحالة مرتكبيه على القضاء، وتسديد تعويضات عن الأضرار. وندب المجلس وفداً من النواب الى التحقيق في الهجوم، وطلب إليه التوجه الى إسرائيل. وفي الوقت نفسه لم ير أحمد داود أوغلو «سبباً يوجب ألا تعود علاقات (البلدين) الى سويتها الطبيعية حال رفع الحصار عن غزة والإفراج عن مواطنينا». وقال ان «الوقت حان ليحل الهدوء محل الغضب في الرد على إسرائيل. (و) ينبغي ان يتجنب الناس السلوك الانفعالي». وكان أردوغان رهن، في مهاتفته الرئيس الأميركي، «مكانة اسرائيل في الشرق الأوسط... بأعمالها في المستقبل».

وهذا، وغيره مثله، لا يؤذن على وجه اكيد أو مرجح بمصير العلاقات التركية – الإسرائيلية. وهي، في الأحوال كلها، رهن عوامل كثيرة في الأزمات الإقليمية والدولية الأخرى، ورهن تطور النظام السياسي التركي نفسه. فمحاولات الأتراك في قيادة حزب العدالة والتنمية منذ نحو العقد، أو أقل بقليل، إصلاح بنية سياسية سلطانية أو امبراطورية تقوم على مراتب الأقوام، ومخلفات منازعاتها العميقة، لا تزال تتعثر بالمراتب والمخلفات هذه. ولا ريب في ان انخراط الدولة التركية، والمجتمع التركي، في النطاق الإقليمي الأصلي، ودوائره المتشابكة، هو شرط بناء دور تركيا وهويتها الوطنية السياسية، على أسس فاعلة وثابتة.

وتدرك النخب التركية على الأرجح عمق مهاوي النطاق الإقليمي وسراباته المدمرة. ويقظة المهابة والدالة التركيتين قد لا تنفك من نعرة سلطانية يغذيها التمزق الداخلي، وتغذيه بدورها. والنعرة والتمزق هما بمنزلة الشياطين التي ينبغي للدولة الناشئة لجمها على شفير اختبار متجدد. فلا ينسى الوطنيون الأتراك ان تركيا ليست فوق الجميع، وأن الامبراطورية ليست رسالتها ولا وعدها، وأن مجتمع الدول مهمة غير ناجزة.

الأربعاء، 9 يونيو 2010

الجماعة الحوثية المقاتلة في صعدة (1)... ولادة لحمة طائفية وعامية مناضلة في ثنايا جمهورية مترجحة

المستقبل 23/5/2010
يذهب بعض مؤرخي (أو إخباريي) الجماعات اليمنية المعاصرين الى ان انقلاب ايلول 1962 العسكري و "الناصري" على نظام إمامة آل حميد الدين الزيدية الهادوية امتحن الزيديين اليمنيين كلاً وأفراداً، حكماً وعقيدة، جماعة أهلية على حدة من الجماعات اليمنية الأخرى وجماعة يمنية تشارك الجماعات الأخرى دولة واحدة، عامة ومشايخ على معنيي المشيخة القبلي والعلمي المذهبي - امتحنهم امتحاناً عسيراً. فقيام ضباط عاميين، من عامة القبائل، ومختلطين مذهباً، على حكم يستظهر بشروط الإمامة، نسباً وفقهاً ومعتقداً، وخلعهم الحكم المستقر منذ نحو ألف عام متصلة، هز أركان الولاء للسلطة، ورابطة الجماعات الداخلية وأواصر الجماعات بعضها ببعض وكلها بقمة السلطة والأسرة المتربعة بهذه القمة. والحق ان الانقلابيين لم ينقلبوا على "القمة" الحميدية وحدها، وعلى شيخها الإمام الناصر لدين الله أحمد بن يحيى بن حميد الدين وحده. وكان انقلابهم أو قيامهم على أسس الإمامة ومشروعيتها، وعلى الأبنية الاجتماعية التي نهضت عليها ورست الوقت الطويل الذي سبق أواخر 1962. ولعل أحد أقوى الأسس والأبنية الأساس أو البناء العلمائي. فهؤلاء "عشرات منهم" قتلوا و "صفوا"، على قول محمد عايش ("مأرب"، 4/11/2007)، واعتقل المئات، والباقون إما راقبتهم أجهزة الحكم الجديد الأمنية والبوليسية أو قيدتهم بإقامة جبرية وألزمتهم الاقتصار على دائرة جغرافية لا يتعدونها في رواحهم ومجيئهم.

المرتبتان ونشأة الطائفية

وعلماء الزيدية الممتحنون عليهم مبنى علاقة "مجتمع" الزيديين اليمنيين بالسلطة أو الإمامة، وهم عروة الجماعة الداخلية، والوصلة بينها وبين الحكم "المركزي". والزيدية، على نحو ما صاغها علماء معتقدها وآداب اجتماعها معاً، تجمع دوام مجتمعها وعروته الى ولايتها الحكم في البلاد التي ينزلها الزيديون وسيطرتهم على الحكم. ويستدل علماء الزيدية على قوة الجمع والربط هذه بالسابقتين العراقية والإيرانية: فترتب على انهيار الزيدية السياسي، أواخر خلافة بني العباس، اندثارها الملي، بما هي معتقد جماعة من الناس أو ملتهم. وأدى سقوط الزيدية الجيلية والديلمية السياسي بإيران الى انصرام المذهب. وهذا ناجم على الأرجح، عن "اقتصار" المذهب الزيدي على فقه المعاملات دون اركان الإيمان وميتافيزيقاه، على خلاف الإمامية الإثني عشرية. فلا اعتقاد وجوب الإمامة في المتحدرين حصراً من ولدي فاطمة بنت الرسول وابن عمه، الحسن بن علي والحسين بن علي، ولا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا الخروج على الإمام الظالم، أصول إيمانية "عميقة" أو غيبية. وهي، في الأحوال كلها، لا تسوغ تقية ولا كتماناً يدفع بهما المؤمن المريد غائلة سلطان يخالفه المعتقد والإيمان. وإلى هذا، فاعتقاد هذه الأصول ونظام الاجتماع الأهلي والسياسي الذي يأخذ أو يهتدي بها واحد. فإذا انحل هذا الاجتماع، وهو ينحل إذا خسر أصحابه إمامته أو رئاسته وسلطته، لم يبق ما يدفع به أهل الملة تفرقهم أو ما يقيمون به رابطتهم وعروتهم. فهم أهل ظاهر وعلانية، ولا يدعون علماً بباطن يتناقلونه، أو يتناقله علماؤهم، ويرسي إيمانهم وسلطانهم على معان يحفظونها وتحفظ مُسكتهم "على الدهر".
ولم تكن الزيدية، جماعة ومعتقداً، طائفية ما استقرت في رأس الحكم والسلطة، وما كفل "الأئمة" الحكام تماسك الجماعة، وضووا إليهم سلك العلماء، وقام هذا منهم مقام الرقيب الملاحظ المعنوي ومقام السند والمسوّغ معاً. فالسلك يتولى، مع الإمام وشرطته، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهو يتعهد الخروج على الحاكم الظالم، ويسلطه على الإمام سيفاً معنوياً مستقلاً يضارع به، نظرياً، رجحان كفة الأداة الحكومية والإدارية والعصبية (الإمامية) على كفة العلماء في ميزان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسلكه (سلكهما). والموازنة والرجحان نظريان حقيقة. فالسلك العلمي، على رغم استظهاره القوي بسلسلة الفقهاء "المجددين" – وهو اللقب الذي يلقب به كبير علماء وقته وعصره-، وبمدارسه وأوقافه ومكانة العلماء، وعلمهم المتصل بفقه علي بن زيد من غير عصمة ولا لدنية، ينزل مرتبة ثانية (وليس ثانوية) ومتضافرة من بنية الجماعة الزيدية. فكفة الإمام الحاكم ترجح كفة الشيخ المجدد في حال المنازعة، من غير ان يعني رجحانها إسكات الشيخ. وعلى هذا، وسع مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي (1911 – 2007)، باسم ولاية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إنكار إجازة الإمام أحمد بن يحيى بن حميد الدين بث الأغاني (الوطنية) الملحنة من إذاعة صنعاء. ولم يدعه إنكاره أو معارضته الى إخراج آخر حاكم يمني من آل حميد الدين من أئمة الزيدية أو الطعن عليه.
ولكن انهيار الإمامة السياسية، وانتصاب سلطة أو ولاية للحكم من غير سند يدمج عصب الجماعة وهيئتها ومراتبها في معتقدها المتوارث، نجم عنهما أمران متلازمان: الأول خسارة الجماعة يقينها بدوامها وبقائها، في ضوء التجربتين العراقية والإيرانية والمغربية (على قول بعضهم)، واختبارها جواز "موتها" أو اندثارها. والأمر الثاني هو انقلاب لحمتها طائفية، على معنى تقدم المعتقد، ورجاله وعلمائه عاملَ تماسك ولحمة على الإمامة السياسية والنسبية وتتويجها بنيان الجماعة المتضافر والعضوي. والأمر الأول، أي زعزعة اليقين بالدوام واستدخال احتمال الاندثار وجدانَ الجماعة، أدى – في الثلث الأول من القرن العشرين، حين أوّلت جماعات من المسلمين، ومثقفون إسلاميون، سيطرة القوى الغربية ("المسيحية") الكبرى على معظم العالم الإسلامي على وجه التدمير والتهديد بالإفناء المعنوي – أدت الى نشأة إسلام سياسي وحركي حمل "الغرب" والعالم المعاصر كله، على عدو ديني ووجودي تالياً. وحمل علاقة العالمين واحدهما بالآخر على حرب "عالمية" وخلاصية لا نهاية لها إلا بانتصار عالم على آخر، والتسلط عليه وإبادته، إذا قدر له ("والغرب" هو محل التهمة أولاً) ذلك. ويترتب على هذا "الرأي" نهج عام يجعل الحرب الشاملة والمعلنة على "الغرب" و "ادواته" المحلية أو الوطنية، أو "مجتمع الحرب" على قول خميني، نظاماً اجتماعياً وسياسياً وثقافياً أمثل، هو نظام "المقاومة"، على ما تزعم الجماعة الشيعية المسلحة بلبنان. وأداة هذه الحرب هي الجماعة الطائفية. وهي تفترض استقلال الجماعة بنفسها، وقطع روابطها بأبنية الدولة الوطنية، من وجه أول، وتخليص ما تنفرد به الجماعة الأهلية من الجماعات الأخرى، ومما تشترك فيه وإياها في إطار الدولة الوطنية، من وجه ثان. ويفترض قيام الجماعة الطائفية بنفسها انتصاب "دعاة" المذهب الجدد لسيادة أهل المذهب على أركان (قيادية) جديدة. فيتصدى للقيادة سلك مختلف من الدعاة، يجمع اصحابه الفتوة (سناً) والاجتهاد (في الأصول والمقاصد من خارج البنية الفقهية الاعتقادية) والعمل ("الجهاد") والقيادة الحزبية المركزية (على خلاف البنية الأهلية المرنة)، معاً.
وفي اثناء العقود الثلاثة التي أعقبت الانقلاب الجمهوري و "العامي" على الإمامة الحميدية، تقلب الزيديون، وجماعاتهم الإقليمية المتفرقة بصعدة والطائف ونجران الى "مهجر" صنعاء، بين مواقف وسياسات ومناهج مختلفة. وبرز تيار علمائي وفقهي، سلكي وفكري، تولى أمرين متضاربين ومتنازعين معاً: الأول هو الحؤول دون تهاوي سلك العلماء الزيديين، ومدارسهم وتعليمهم وتراثهم، وتصدعه تحت وطأة خروج رأس المذهب وبنيانه من قمة السلطة. وتعهد هذا الأمر، وناضل دونه كبير علماء الزيدية مجد الدين المؤيدي، تأليفاً وتدريساً ورعاية للشباب الزيدي المقبل على الدراسة ثم على القضاء والفتوى والتدريس، على مراتبها المتفرقة. وأيد "ثاني" علماء الزيدية، بدر الدين الحوثي، نهج المؤيدي هذا. فقام النهج، في شُعَبه المتضافرة، مقام لحمة الجماعة المؤتلفة، وهي المقصية من السلطة، والمتشرذمة شراذم وجماعات محلية وإقليمية. ووسع الجماعة الزيدية المنقسمة، والمتعرضة لتشعب الوظائف السياسية والاجتماعية داخلها، رص صفوفها والتحلق حول سلكها الطائفي والمذهبي. وافترض تحلقها هذا تمييز زيدية أهلية أو إقليمية، يسميها محمد عايش "مناطقية"، سياسية (على المعنى الأهلي)، من زيدية جامعة، اعتقادية ومذهبية. واقتصار الشرط أو الشق هذا على "المعارضة"، على معنى اعتزال العمل السياسي اليومي وترك الخوض في الخلافات بين كتل الحكم وأشياعها، أسهم في حفظ اللحمة المذهبية لقاء الإقرار بتفرقها الأهلي والسياسي، وفصل الهوية الجماعية من الجسم المتفرق. وكان هذا صدوعاً بنتائج الحرب الأهلية والقبلية والإقليمية التي عصفت باليمن غداة "الثورة السبتمبرية"، وامتثالاً لمترتبات خروج الجسم المذهبي المتماسك من اتحاده بالدولة الإمامية.

الخيبة الجمهورية

والأمر الثاني الذي تولاه التيار العلمائي الفقهي هو مراجعة اركان الاعتقاد التي دمجت، الى حين وقوع الانقلاب "الناصري"، لحمة الجماعة الزيدية في الإمامة ونظامها. فلم ينكر علماء الزيدية على الجمهورية حقها المبدئي في الحكم والولاية، ولم يبطلوا الحق هذا، على رغم عسر الرأي، ومناقضته اليقين التاريخي والاختباري بكفالة ولاية الحكم دوام المذهب، وبارتهان الدوام للإمامة السياسية والمرتبية. ورجع الزيديون، او معظم علمائهم، عن اعتقاد الإمامة "ضرورة" وأصلاً. واشترطوا على الحاكم، لقاء الإقرار به وبحكمه وإجراءاته، شرط "العدالة". وكان مجد الدين المؤيدي – غداة نحو 15 عاماً على الانقلاب العسكري والجمهوري، و8 أعوام على انسحاب القوات المصرية من اليمن، واستقرار الجمهورية رأساً ضعيفاً وثابتاً بصنعاء – بادر الى كتابة بيان بعضه في "الإمامة وشروطها". وأفتى بجواز استقامة "حكومة" لا يتولاها أو يتصدرها من هم من ذرية حسنية أو حسينية. ولعل فك الزيدية من شرط النسب الإمامي" "ثورة" اعتقادية باعدت الزيدية والزيديين من الإمامية الإثني عشرية، ومن منزعها الإيراني المهدوي، فوق البعد المذهبي والفقهي والتاريخي المزمن والحاد.
وصادف تقريباً، على معنى اتفاق الوقت من غير قطع في سببية الواقعة، صادف صدورُ البيان افتتاح احد شيوخ السلفية اليمنية، مقبل بن هادي الوادعي مدرسة دمّاج بمديرية وادعة القريبة من صعدة. وناظر الوادعي (منذ 1978 – 1979) في رسائله، وأبرزها "رياض الجنة في الرد على أعداء السنة" و "الطليعة في الرد على غلاة الشيعة"، على قول أحمد محمد الدغشي ("الحوثيون/ دراسة منهجية شاملة"، عن المورد للإعلام بقطر والدار العربية للعلوم ببيروت، 2010)، علماء الزيدية في العقيدة. وصادف، مرة أخرى، ابتداء الوادعي مناظرته ومطارحاته وردوده على الزيدية الهادوية انتصار روح الله خميني وتشيعه الإمامي والخلاصي والقومي بإيران.
وحين أعلن علي عبدالله صالح، مع دمج اليمن الجنوبي والاشتراكي في جمهورية يمنية واحدة في 1990، إجراءات سياسية وتنظيمية "تعددية"، على ما وصفت، خرج علماء الزيدية، وأولهم المؤيدي، من اعتكافهمم وتحفظهم. وأقبلوا على العمل السياسي والحزبي العلني. فعمدوا، أعياناً وشباناً ناشطين في صنعاء أولاً وفي بلاد الزيدية من بعدها، الى إنشاء حزب سياسي جماهيري وانتخابي، سموه حزب الحق. وأسس الحزب أو أعلن غداة التوحيد المستعجل، وجمعه شطرين فقيرين ومتباينين، كلاهما عاجز عن استيعاب الآخر وحكمه بالإقناع. وصادف التوحيد أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة، كانت حرب الخليج الثانية السبب فيها، أرجعت الى اليمن عشرات الآلاف من العاطلين عن العمل. وأيد العلامة المؤيدي المنزع هذا، وتصدر لائحة أوائل الداعين الى إنشاء الحزب. وحين أخرجت الفكرة الى العمل ترأس الشيخ هيئة الحزب العليا. وأرفق العلماء إنشاء الحزب وإعلانه بفتوى مشتركة، بلورت ما كان المؤيدي دعا إليه في منتصف السبعينات المنصرمة، وذهبت الى طي الإمامة ومثالها واشتراطها في الإمام نسباً الى الحسنين، وارتضت الديموقراطية "مذهباً" سياسياً، ونهج حكم، وسبيلاً الى الحكم.
وخاض الحزب الجديد أول انتخابات عامة، في 1993، ونصب عيني قيادته الفوز بمقاعد محافظة صعدة الستة. وزكى العلماء المرشحين. ونافس هؤلاء مرشحي حزب الرئيس اليمني، المؤتمر الشعبي العام. وفاز من مرشحي حزب الحق الستة اثنان، أحدهما حسين مجد الدين المؤيدي، نجل العلامة البارز. و "انتصار" الحزب الرئاسي في معقل الزيدية المتجددة والمنبعثة تحت لواء العلماء – عشية حرب انفصال الجنوب اليمني الأولى، وفي غمرة "هجوم" جهادي على اليمن بدأت طلائعه مع عودة "الأفغان" المحليين الى بلادهم وحملة اغتيالات قادة الجنوب – نهض (الانتصار) قرينة على تعرج السياسة الجمهورية والتوائها. فحزب الرئيس، المتربع بصنعاء منذ 1978 والمستقوي على القبائل وأعيانها بالجنوبيين المدنيين و "العلمانيين" المفترضين الى استقوائه الأول بالقوات المسلحة وأجهزة الأمن والإدارة، لم يتجاوز عدد نوابه 121 نائباً من 301 في انتخابات نيسان 1993، وفاز الحزب الاشتراكي الجنوبي بمقاعد الجنوب كلها (58 مقعداً)، وفاز إسلاميو "الإصلاح" بـ 62 مقعداً. فلا عجب إذا "اضطر" صالح الى الفوز في بلاد الأطراف المتنازعة بوسائل تتقنها الأجهزة المستولية منذ وقت طويل على السلطة المركزية. وتمزج الوسائل هذه الاستمالة والترغيب باستعراض القوة والتزوير. واتهم حزب الحق السلطات اليمنية بالتوسل بالأمرين، على ما هو متوقع.
وجاء وقعُ الترغيب والتزوير، جواباً عن انعطاف الجماعة الزيدية الطائفية إلى الإقرار بالجمهورية في سياقة تعبئة وأزمة اجتماعيتين عاميتين عميقتين فاقم عمقهما اشتراك الشباب فيهما اشتراكاً كثيفاً – جاء بالغ الضرر السياسي. فـ "الجمهورية" لم تف بوعدها، ولم تستجب توقع "الطائفة" المتغيرة والمنقلبة تدريجاً من غلبة بنية قبلية ومحلية متقطعة، من غير رأس إمامي جامع وتقليدي، الى كنف عروة أهلية وحزبية جامعة يتصدرها سلك العلماء، ويصل الشباب والمتعلمون و "العامة" بين أجزائها وأبعاضها المتفرقة. وحين دعا حزب الحق الى إقامة مخيم بصعدة، سماه مخيم الفتح، وناشد الشباب أولاً قصده، لبى 25 ألفاً دعوة الحزب ومناشدته. ولعل المخيم هذا، وتعبئته الشبابية والأهلية والعامية الجامعة، هو فاتحة نهج جماهيري وطائفي سارت عليه الحركة الحوثية من بعد، ومالت به صوب الإعداد العسكري والإيديولوجي الحاد. ولا ينكر المراقب اللبناني وجه شبه وقياس بين "الحركة" الزيدية وبين "الحركة" الصدرية قبل نحو 25- 30 عاماً. وقد لا يكون الترغيب والتزوير الجمهوريان، واصطناع حزب الرئيس نيابة عن صعدة غير دقيقة ولا مناسبة، الباعث على بلورة جسم أهلي، عامي وفتي ناشط وطائفي. ولكن الترغيب والتزوير والاصطناع اتفقت مع انقلاب الجماعة الزيدية، سياسة واجتماعاً وبنية سكان وحاجات، من حال الى حال. وحصل هذا في وقت سياسي واجتماعي، يمني وإقليمي دولي، راكم التطلعات والتحولات من غير طاقة على استجابتها ومعالجتها من طرق غير طرق المحاصصة، وتأليب الجماعة بعضها على بعض، وقمع الشطر "المتطرف"، وتحكيم الإدارة المحلية في المسائل المتنازعة. ولاحظ محمد عايش (في مقالته في "مأرب") وجهي المشكلة فكتب في الوجه الأول: لم تقتصر "صحوة" المدرسة الزيدية على صعدة وامتدت الى بلاد الزيدية التاريخية، "وهو ما بدا للنظام الحاكم في صنعاء امراً جد خطير" نجم عنه "تفريغ بطيء للعصبية القبلية التي يستند إليها (الحكم) في شرعيته لمصلحة عصبية أخرى هي العصبية المذهبية". ولاحظ على الحكم، في الوجه الثاني، سعيه في "تفادي هذا الخطر... في شكل تغذية رسمية لخلافات داخلية ما لبثت ان شطرت الحراك الزيدي في صعدة الى نصفين: مجد الدين المؤيدي... وبدر الدين الحوثي وجماعة الشباب المؤمن (و) أبنائه...".

قوة العصبيات الضعيفة

ولا ريب في اضطلاع سياسة الحكم ورأسه بدور راجح في انعطافات الجماعة (أو الجماعات) الزيدية وتحولاتها. والدور هذا، على وجه منه، دعت الحكم إليه أطوار الحركة الزيدية نفسها، ومنازعاتها ومواردها الداخلية وسعيها في معالجة مشكلاتها الطارئة. فـ "تفريغ" العصبية القبلية، وتبلور عصبية "مذهبية"، أو أهلية مشتركة وجامعة، هما طور جديد من أطوار دينامية مجتمعية عامة. وهي أصابت اليمن وتصيبه على نحو ما أصابت لبنان وتصيبه، على رغم بعد الشقة الاجتماعية والسياسية بين البلدين. ونجمت الدينامية المجتمعية هذه عن استيلاء نخب حديثة، مولودة من اجهزة الدولة وإدارتها ووظائفها، على مراكز الحكم والسلطة. والنخب المستولية هذه ابطلت الموازين العصبية السابقة، وعطلت تحكيمها في الخلافات والعوائد والحصص. وأحلت محل المعايير وقاعد التحكيم الباطلة معايير وقواعد أدت الى استيلاء قمم النخب على حصص كبيرة من "الدولة" وإلى توزيعها توزيعاً مجحفاً وبعيداً من التكافؤ والتناسب. و "حرر" الاستيلاء الجماعات التي كانت الدولة تأتلف منها ومن أحلافها ومنازعاتها، من مكانة طبقاتها الحاكمة أو النافذة، ودالتها الطاغية. وحملت الجماعات على توحيد منازعها و "حركاتها"، وتخطي حواجزها الداخلية، ودمج عامتها وعصبياتها الضعيفة في إطار أهلي مشترك يقوي العامة والعصبيات الضعيفة في وجه العصبيات الغالبة السابقة ("الطبقات القديمة")، وفي وجه الحكام الجدد ("الطبقات الجديدة" الإدارية) المستولين على موارد الدولة وأجهزتها، وعلى "حقوق" المركز المعنوية الرمزية والمادية، الوطنية. وورثت الجماعات هذه إرثاً تاريخياً فقهياً أعملته في أبنيتها السياسية والاجتماعية، وفي أحلافها واتصالها كما في عداواتها وحواجزها. وأوَّلت الجماعات إرثها على ضوء حدودها الجغرافية السياسية الجديدة، وتقطيع الحدود أوصالها القديمة، وضوء هجرات شبابها وحركات السكان، ووسائط الاتصال والإعلام، والحوادث السياسية الكبيرة مثل الثورات والحروب التي حفل الشرق الأوسط بها في العقود الأربعة الأخيرة.
فلم يكن مخيم الفتح بصعدة، وهو جمع 25 ألفاً معظمهم من الشبان، واقعة فريدة ومنقطعة، بل كان ابتداء حركة اجتماعية أهلية متعاظمة، عدداً ووظائف، لم تعتم ان نصبت نواة قيادية مركزية واحدة، ثم منقسمة. وإنشاء منظمة الشباب المؤمن بصعدة هو مرآة هذا الطور. واستجاب "الشباب المؤمن" إباحة الدستور الجمهوري التعدد السياسي والثقافي والتعليمي. فحشد من هم في سن الدراسة في مخيمات صيفية إعدادية أو تثقيفية. وأوكل الى مدرسين تدريس مقررات في مواد دينية، مثل الفقه والحديث والتفسير والكلام، وأخرى في مواد "دنيوية" أو عامة مثل الخطابة والمسرح والأناشيد والحوار. وأقبل الجمهور من صعدة، ثم من المحافظات والمدن. وينقل أحمد محمد الدغشي عن تقرير أعده مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (في تموز 2008) ان عدد "الطلاب" في المخيمات بلغ 15 ألفاً الى 18 ألفاً. وانتشرت 67 حلقة تدريس ومدرسة، لم تقتصر على صعدة وتخطتها الى 9 محافظات يمنية، وتخطت اليمن الى مهاجر الخليج مثل قطر، على قول نبيل الصوفي (مقالة في "الحياة"، 3/6/2007). وبلغت حصة صعدة من "المدارس" 24، وحصة عمران 6، وحجة 12، وصنعاء وذمار والمحوية 15، للمحافظة الواحدة 5 مدارس، الى مدرسة واحدة في كل من إب وتعز (بحسب إحصاء أحمد عايض، في إيجاز الدغشي).
وتولى منتدى الشباب المؤمن، وهو غير حزب الحق أو البنية السياسية الانتخابية التي خاضت الجماعة الزيدية الانتخابات النيابية في إطارها، في 1993، تدريس الشباب "العلم الشريف" وفنونه، و "إعداد الداعية الى الله ثقافياً وأخلاقياً وروحياً وسلوكياً بما يمكنه من نشر الوعي والفضيلة" (محمد يحيى سالم عزان، أمين عام "الشباب" الأسبق)، و "تعريف الطالب بإخوانه من الشباب وتمتين أواصر الأخوة الإيمانية". ويوازن الشق الدعوي المذهبي، ومعينه العلم الزيدي الهادوي، شق توحيدي يفترض مشتركاً يدعو الى "ترسيخ الوحدة بين المسلمين" وترك ما "يثير الخلاف ويمزق الأمة"، على قول عزان نفسه. ويبدو المنتدى حركة جماهيرية عريضة راعت، على نحو جلي، بروز كتلة الشباب ورجحان كفتها عدداً ودوراً، واحتسبت انتشارها الجغرافي في الوطن اليمني، وفي المهاجر القريبة، وتولت تجديد مثاقفتها المذهبية الطائفية، عماد هويتها المشتركة. وتنزع الأبواب الثلاثة، السن والانتشار والهوية، الى إحياء نضالي وسجالي قوي ومتماسك. فـ "الشباب المؤمن"، على بعض وجوهه، إنما يثبت لحمة "أهل" و "طائفة" يتهددها، من داخل، أفول دور الأهل الوالدين والأصلاب في تعليم أولادهم وتأهيلهم ونقل مقومات الهوية إليهم اولاً، وانتشار "الأولاد" في المحافظات والمهاجر ثانياً. وتَهدَّدَها، من خارج، إحياء آخر هو الإحياء السلفي القريب، والمستقر بصعدة منذ نيف وعقد من السنين.
ورفدت السلفية المقاتلة، ذات المنشأ الأفغاني، مع عودة المقاتلين العرب، وفيهم شطر يمني وحضرموتي راجح، الى ديارهم سلفية الدعاة والمدرسين المحليين. وتولى "الشبابُ المؤمن" إعداد دعاة من الشبان في مخيمات دراسية ورياضية مشتركة وطويلة (صيفية) رداً على ضعف اللحمة الداخلية، وتداركاً للضعف و "ذباً عن البيضة" الزيدية، على ما كان يقال في شرائط الخلافة، و "الجهاد" دونها. والتنويه بـ "ترسيخ الوحدة بين المسلمين"، على نقيض إثارة الخلاف وتمزيق الأمة، تنديد يكاد لا يكون مضمراً بالنواة الوادعية في قلب "كرسي" الزيدية الهادوية.
والمسألة هذه كانت بمنزلة القلب والركن من الخلاف الذي لم يلبث ان دب في "الشباب المؤمن"، وفرقه، ومكّن لجناحه الحوثي على أجنحة أخرى أضعف تماسكاً وتعصباً. وظهر الخلاف الى العلن حين تحفظ مجد الدين المؤيدي عن بعض مقرر التدريس في دورات المنتدى، وأنكر "مسخ" المقرر، بذريعة "الانفتاح والتجديد"، اصولاً زيدية عامة، وخروجه عنها. وكان تحفظ المرجع، أو أحد المرجعين (والثاني هو بدر الدين الحوثي)، سبباً في تعليق المنتدى إحدى دوراته الصيفية. والأرجح أن أول الخلاف وقع حين ألف احد مؤسسي منتدى الشباب المؤمن، علي احمد الرازحي وهو تتلمذ على الشيخين، رسالة مختصرة في العقيدة الزيدية كانت جزءاً من المقرر الإعدادي. ورأى العلماء، وهم المراجع، في الرسالة تراخياً ورجوعاً عن إثبات حقوق "أهل البيت". وتكني العبارة عن مسألة النسب واشتراطه في الإمامة. والمسألة مدار المناقشات الفقهية والسياسية العريضة والقديمة، والمتجددة مع انهيار الحكم الحميدي، ثم مع استقرار الجمهورية، واخيراً مع "ولاية الفقيه" الخمينية. وحقق تلميذان آخران، محمد عزان وعبدالكريم جدبان، والاثنان من دعاة "الشباب" الأوائل ونواة قيادة المنتدى، كتباً في العقيدة والتاريخ الزيدي. وعمد المحققان، شأن الرازحي قبلهما في رسالته، الى حذف بعض عبارات التنديد والجرح في حق المخالفين القدماء والمحدثين، وفيهم بعض أئمة الفقه الزيدي من غير الهادويين. ومسألة "سب الصحابة"، بحسب العبارة المتعارفة، باب خلاف على طريق "التأليف بين المذاهب" وتوحيد المسلمين، لم ينفك موصداً على رغم محاولات فتحه الحثيثة.

التباس "الانفتاح" و "الانكفاء"

وأراد اصحاب المنتدى الأوائل، يتقدمهم محمد عزان، توسيع دائرة المواد الإعدادية والتثقيفية، وتحديث بعضها وتنويعه، وتحريض الشباب على المناقشة والتطرق الى المسائل الخلافية من غير كبت، ولو اقتضى هذا تجديد النظر في مسائل تقليدية وأصولية مثل مسألة علم الأئمة وعصمتهم من الغلط، أو مسألة تأويل بعض آيات التنزيل في الصفات، أو مسألة التفسير والحاجة (أو انتفاء الحاجة) الى علم الكلام أو علم أصول الفقه فيه. وحمل هذا دعاة "الانفتاح" المفترضين الى السعي في تهذيب عبارات الخلاف المذهبي والسياسي، وتقليل شأن النسب في مسألة الولاية والإمامة. والحق ان الأمور والمواقف تختلط في المسائل هذه على نحو يعصى معه على المراقب تخليص الخيوط المتشابكة بعضها من بعض. ومن أحوال الاختلاط، على سبيل التمثيل، ان الشيخ المؤيدي وهو صاحب الدعوة "التاريخية" الى ترك شرط النسب الفاطمي على القائم بالإمامة، وإلى ضرب من الصلح مع الجمهورية، كان من طعن في رخاوة مقرر التدريس في مخيمات "الشباب المؤمن"، وطلب تعليق المخيمات الى حين استيفاء شرط الوضوح المذهبي والتشدد. وينتسب أنصار "الانفتاح" الى تدريس المؤيدي، وإلى "إمامته" العلمية وآرائه في المسألة. وينكر الأنصار هؤلاء على "خصومهم"، ولم يكن هؤلاء وهم ابناء الشيخ الآخر بدر الدين الحوثي خصوماً في النصف الأول من العقد العاشر، ينكرون عليهم انكفاءهم على هوية زيدية صلبة ومتشددة، وتمسكهم بالركن النسبي. ولاحظ، من ناحية أخرى، باحثون ومراقبون ان بيان علماء الزيدية – غداة التوحيد اليمني، في 1991، وهو ثبّت مذهب المؤيدي في منتصف السبعينات الى صفة الإمامة الاستدلالية وغير الضرورية – هذا البيان خلا من تواقيع كبار علماء صعدة، وفي مقدمهم المؤيدي والحوثي. وعد هذا قرينة على التباس وترجح لم يُخرج منهما إلا بعد وقت. ويزيد الالتباس إبهاماً وغموضاً أن على رأس من صاغوا البيان العتيد ووقعوه أحمم بن محمد الشامي، أمين عام حزب الحق، الحزب السياسي والانتخابي الزيدي، وراعيه ليس غير مجد الدين المؤيدي، وهو رئيس هيئته العليا، على ما مر، ومن زكى ترشح الستة الى الانتخابات في 1993. ويخلص أحمد محمد الدغشي في المسألة الى ان "إشكال غياب أي من رموز الزيدية في صعدة من البيان التاريخي للزيدية مثال تساؤل واستغراب، ومبعث فرضيات يصعب القطع بواحدة منها!" (ص 39- 40 من كتابه "الحوثيون...").
ولم تخل مناقشة الأصول والأركان هذه من ملابسات ظرفية وجزئية، ووقائع أرخت بظلها على المواقف المتباينة فالمتنازعة. فيُظن في رأي محمد عزان، أحد أوائل "الشباب المؤمن"، في الإمامة عموماً وفي موقعها من التعليل التاريخي والدور الذي اضطلعت به وقد تضطلع به، تقليلاً خفياً وموارباً بعض الشيء. ويحمل بعض المراقبين هذا الرأي على قصد يبيته محمد عزان وأصحابه "الشباب المؤمنون"، هو إضعاف "إمامة" مجد الدين المؤيدي نفسه، بحسب استدلال محمد عايش (في مقالته بـ "مأرب"). ولا يبدد الالتباس لا إجماع "الشباب المؤمن"، وفي قيادته الأولى محمد ابن بدرالدين الحوثي، على تأييد بيان 1991، ولا مشاركتهم في الانتخابات الأولى بعد التوحيد، ولا قولهم جميعاً، شباباً وعلماء، أن "الأمة غدت هي صاحبة الاختيار لحكامها اليوم، من غير تقيد بنسب ولا عرق" على ما جاء في البيان العتيد (ويماشي هذا قاعدة "ولاية الأمة على نفسها" من غير ولي فقيه، على قول الفقيه الإمامي الإثني عشري اللبناني الراحل محمد مهدي شمس الدين). ويتصل الأمر، على وجه مشتبه، بأنساب من يتصدون للكلام في المسائل المتنازعة. ففي مرحلة متأخرة من الخلاف احتج عزان والرازحي وجدبان على المؤيدي، وعزوا رأيه فيهم الى انهم الثلاثة ليسوا هاشميين، ورأيهم في النسب مرده الى عامية نسبهم. ونزع الرأي هذا الى التقليل من شأن الإمامة و "الأئمة" على أنواعهم أم لزم دائرة المسألة الفقهية وعناصرها – واستتباعها القول بعصمة الأئمة جماعة وليس أفراداً – فلا ريب في ان هذا الرأي رتب على صاحبه موقفاً من السياسة الجمهورية، ومن دولتها ورئاستها، يميل الى التأليف والمهادنة. فيروي محمد عزان ان رئيس الجمهورية ("رعاه الله" على قوله في صحيفة "26 سبتمبر" الحكومية) خصص للمنتدى "أربع مئة ألف ريال شهرياً". ويقر عزان بأن المخصص هذا ذهب الى جناحه، صاحب "النظرة الجديدة" والدعوة الى "(فتح) آفاق المنطقة، و (تجديد) فكرها". فهو رد على مجد الدين المؤيدي، وما قاله الشيخ الكبير والمسن فيه وفي أصحابه، ونعيه عليهم "طيشهم"، فقال: "إننا نريد ان نخرج صعدة من حالة العزلة القاتلة التي هي فيها، ونريد ان ننفتح على الآخرين، ونريد ان يعرف الناس ان في الدنيا غيرهم، وأنه يوجد مذاهب أخرى، وأنه يوجد ناس آخرون...".
وهذا الرأي متأخر زمناً، وهو يصح ربما في أحوال الثمانينات، وكان فائتاً في الوقت الذي قيل فيه (آذار 2007، في "26 سبتمبر"، عن أحمد محمد الدغشي) منذ أعوام طويلة، ويتناول بعض العلماء المسنين المحليين. فالحق ان ما كان تجديداً سياسياً واجتماعياً في أوائل العقد العاشر، مثل إنشاء حزب الحق وبيان العلماء الزيدية في الحكم والولاية ونشاط منتدى الشباب المؤمن والترشح الى الانتخابات، عصفت به حوادث العقد المتزاحمة والمتسارعة ومنازعاته، اليمنية والإقليمية الدولية. وتولى جيل خالف من الناشطين والمنظرين معاً التفكير فيه وصوغه في ضوء جلاء القوات السوفياتية عن أفغانستان، والحرب العراقية – الإيرانية، وإذكاء "حماس" الانتفاضة الأول بفلسطين، واندلاع العنف الإسلامي في الجزائر، وأطوار ولاية الفقيه الخمينية بإيران، وظهور أعراض التيار "الجهادي" والإرهاب الأولى، وجلاء القوات الإسرائيلية عن لبنان. وتوجت السياقة هذه، غداة 11 ايلول 2001 الحملتان الأميركيتان والأوروبيتان على أفغانستان في تشرين الثاني 2001 والعراق في آذار 2003. وزعزعت حربُ الجنوب والشمال، والمفاوضة الإقليمية على الحدود اليمنية، وجنوح جناح من التيار الإسلامي المحلي الى العنف والتشدد، وتضعضع التحالف الحاكم... زعزعت هذه أركان الدولة اليمنية الجديدة وروابط الجماعات الأهلية بالحكم.

الجماعة الحوثية المقاتلة في صعدة (2)...الفرقة الطائفية والاهلية حركة حديثة خرجت على الابنية التقليدية وأبطلتها

المستقبل6/6/2010

لعل حسين بدر الدين الحوثي – أحد الأخوة الأربعة، ومتصدر اخوته، وقائد الانعطاف بالشباب المؤمن الى حركة جهادية على صنعاء ودولتها، وفقيه هذا الانعطاف وقتيل "حرب صعدة" الأولى في 2004 – لعله مرآة انقلاب الجماعة الزيدية بصعدة من حال يعاصر معظمها الانقلاب الجمهوري وذيوله وتلابيبه المتأخرة، الى حال تعاصر ما دخل فيه اليمن، ومن ورائه جزيرة العرب وحوض الخليج شرقاً والقرن الإفريقي غرباً، وما صار إليه. فحسين الحوثي هو مبتدئ "الفرقة" الحوثية وصاحب استوائها فرقة وداعيتها الأول، وعبدالملك بدر الدين الحوثي، قائد الحروب الخمس التالية، الى آذار 2010، هو خالف أخيه على الفرقة و "السائر على خط (إمامه)". وقد يكون ابتداء الفرقة الحوثية وانشقاقها أو انعطافها خلاف فريقي "الشباب المؤمن" على سياسة المنتدى "التثقيفية"، أي على العقائد والإمامة. ومدار الخلاف، على ما مر، وهو على الترجح بين "الانفتاح" الجمهوري، والانخراط في حياة سياسية يمنية عامة ومشتركة، وبين "استهلاك الموضوع الثقافي والفكري والتركيز على القضايا التقليدية القديمة"، على قول محمد عزان. وفي القلب من القضايا مسألة الإمامة الزيدية واشتراط النسب، من غير إغفال ركن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والخروج على الحاكم الفاسد أو الظالم.

التأويل والصرخة
وبدا حسين الحوثي، في عين عزان، "تقليدياً"، على معنى محمول على مسألة النسب الإمامي ومشتق من المسألة. وقد يسوغ النعت توسل الحوثي الابن، شأن أبيه العلامة والمرجع، بالمصطلح الفقهي المتعارف والمألوف. ولكن النعت يغفل عن دور المصطلح الفقهي الجديد. فـ "التقليديون" المفترضون أو المزعومون جزء من قيادة شبابية وجماهيرية أهلية بعيدة من أطر التقليد السابقة ومراتبه ودوائره. وليس معنى التقليد الزيدي "الصعدوي"، في التسعينات وأوائل العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، هو معناه في مطارحات الشيخ أو السيد المؤيدي وأحمد بن محمد الشامي وبدر الدين الحوثي وغيرهم مثلهم. والانكفاء على "التقليد" في الظرف الجديد هو ثمرة نازع الى بناء قاعدة سياسية واجتماعية وجغرافية بصعدة تقوم مقام "قاعدة" حرب الشعب في المصطلح الماوي الصيني، و "البؤرة" في مصطلح الحرب غير النظامية الكاستروية الغيفارية، ومقام "المهجر" وملجأ المكفّرين والمفاصِلين المجاهدين في مصطلح الجهادية الجديدة. وليست المقارنة توحيداً ولا إنكاراً لما بين المصطلحات من فروق عميقة. فهي تنبه الى روابط الانكفاء الأهلي الظاهر، المحلي والمذهبي، بعوامل جديدة ومختلفة، وإلى "حداثة" الشكل السياسي والاجتماعي الناجم عن هذه الروابط. وتأريخ مراحل الاختلاف في صف "الشباب المؤمن"، ثم انفصال أفرقائه واستقلال بعضهم عن بعضهم الآخر، قرينة على ملابسة "التقليد" المزعوم معاني جديدة بعيدة من معانيه التقليدية.
فاقتصرت المرحلة الأولى (الى 1999 على وجه التقريب) على خلاف على التمثيل القيادي، وعلى بعض مضمون التدريس في الدورات التثقيفية الصيفية. واقتُرح "توسع في المراكز" (محمد عزان) علاجاً للخلاف. واتسعت شقة الخلاف في العام 2000 غداة عودة حسين الحوثي من السودان حيث حصل شهادة جامعية في "علوم الدين" (والسودان يومها، معقل حركة حسن الترابي واختباره وحزبه، "دولة إسلامية" يتولى ركن القوة فيها الجيش وكبار ضباطه الانقلابيون – وهو ملجأ أسامة بن لادن وكارلوس الفينزويلي المقاتل تحت لواء وديع حداد... والحق ان الكلام على دراسة حسين الحوثي في السودان عار من أضعف إشارة الى مشاربه ومنازعه في ذلك الوقت). فالتوجه على "المذهب السني"، والأصح على مجتمعات المسلمين السنة، بالنقد لم ينتهج النهج "التاريخي" المعروف، جامع "المثالب" من وجه والفضائل والمكارم من وجه آخر، ومعارض هذه بتلك ومقدم الفاضل على المفضول في أحسن الأحوال. وهذا ما كان علماء الزيدية لا يغالون فيه ولا يبالغون، على خلاف بعض الفرق الإمامية.
فنحا حسين الحوثي نحواً عملياً أساسياً حربياً) ومعاصراً، ونعى على "أهل السنة عامة" انهم "لا يخيفون اليهود"، على قوله في "دروس (5) من هدي القرآن الكريم". وهو حمل الكتاب على "صرخة في وجه المستكبرين"، ونصب حرب المستضعفين والمستكبرين مرجع الدين والاعتقاد والتأويل العام والأول، وحمل التدين او الإسلام على الحرب هذه. وعلى هذا، أخرج من إدانته "أهل السنة عامة" بعض أعلامهم، مثل محمد بن عبدالوهاب وابن تيمية والشيخ الزنداني من المعاصرين، ومن كان بينهم وبين الشيعة الإثني عشرية، بالعراق وجزيرة العرب، حروب وقتال وخلاف. وذريعته الى هذا أن هؤلاء "يخيفون اليهود". و "الخوف" الذي ينوه به المدرّس المتصدي للفتوى والتعليم والمحاضرة – وهو لم يدرس على علماء المذهب ولم يجزه هؤلاء – يوْقعه من يمدحهم به اليوم، وليس في القرن السابع للهجرة (والثالث عشر الميلادي) والحادي عشر (الثامن عشر الميلادي). وهم يتشاركون إيقاع الخوف في "اليهود"، وهؤلاء يكنون عن "المستكبرين" عموماً، مع إيران الخمينية. ويخلّص الحوثي الابن ايران الخمينية المقاتلة من التشيع الإثني عشري، ويفك التشيع الإثني عشري منها. ويستبقي من رابطة إيران بالتشيع نهوضها الى قتال "الاستكبار" باسم الإسلام وكتابه.
ويحمل حسين الحوثي مقالته ("صرخته") في التأويل والقتال، وهما واحد على ما يرى ويقول، على مذهب في قراءة الكتاب، وفي الدين كله من بعد. فيجرد قراءته الكتاب من غير شرط الإلمام باللغة العربية، لغة التنزيل، ويطّرح ما حرص العلماء الزيديون، منذ أولهم ومبتدئ الدعوة صاحب "الرسالة في الصفوة"، على الاعتناء به، وطلب ما يشبه الاختصاص به، وهو الفقه. ونسبوا الى إمامهم علماً بالفقه قدمه على أبي حنيفة، ابي الفقه الحنفي. ونسبوا إليه "كلاماً" في الصفات سبق إليه، على قولهم، المعتزلة. ومقالتهم في العدل قرينة على دعواهم. وعلى الضد من هذا الوجه من تراث الزيدية ذهب صاحب الفرقة الجديدة، وقارئ الكتاب ومؤوله من غير واسطة غير المعرفة بالعربية، الى ان علم أصول الفقه "فن يضرب القرآن ضربة قاضية، يضرب القرآن ضربة شديدة، يضرب فطرتك، يضرب توجهك نحو القرآن...". فيستعيد مباشر القراءة والفهم بنفسه و "فطرته" تقليداً عامياً وثورياً خارجياً تعود تظاهراته الأولى الى صدر تاريخ الإسلام، ثم الى بعض انتفاضات الحواضر العراقية في صدر الحكم العباسي. فحسين بدر الدين الحوثي درّس، في 2002 و2003. و "من هدي القرآن" (على مثال سيد قطب وتفسيره "من وحي القرآن"؟)، أن "القرآن... هو أعظم نعمة من الله علينا". ويقتضي الإقرار بهذا التخلية بينه وبين "عمله فينا" من غير وسيط أو "عوائق". فكل ما يحجز بين "النعمة" وبين "الفطرة" يحول دون "الاهتداء" و "الفهم". وهذان ليسا في الذهن اولاً، وطريقهما ليست طريق العلم أو العلوم، وإنما هما "فعل"، أو هما الفعل "الحي" الوحيد. فتوسيط علوم العلماء وحروفهم، ومناقشاتهم "التاريخية"، وهيئاتهم، يؤدي الى "قتل (القرآن)"، على قول الشارح الجديد والجسور والمحرض بكلمات وعبارات يعلم حق العلم وقعها العميق والثخين في نفوس من يحاضر فيهم. وقتل النعمة العظيمة، أو الأعظم، أدى لا محالة الى قتل النفس، "وأصبحنا أمة ميتة".

السلطان الظالم القريب
وإحياء الأمة امة واحدة لا يكون إلا من طريق إحياء فهمها القرآن فهماً فطرياً، واطراح ما يحول بين الفطرة المطبوعة وبين قبول النعمة الإلهية من غير وساطة. وهذه المقالة في الطريقة، أو في النهج، تفترض مضمونها ومعناها أو معانيها افتراضاً ملزماً. فيترتب عليها "تحكيم (القرآن) فيما اختلفت الأمة فيه"، على قول محمد بدر الدين الحوثي، أخي حسين وشارحه، وتوحيدها تالياً. والمحكِّمون أو المحكّمة الجدد يستبقون تداول الرأي وما قد يخلص إليه التداول. فيقولون ان "توحد الأمة لا يكون إلا على منهج علمي وهو الجهاد في سبيل الله ضد المستكبرين في الأرض..." (محمد الحوثي)، وهم اليهود و "امريكا" معهم. وبعث الدعوة، أو استئنافها على حقيقتها العملية الجهادية و "السياسية" الصادقة والراهنة، يبعث على قتال "المستكبرين" والمشركين، استكباراً واعتداداً، بالله. ودمج الحوثي الدعوة القرآنية والجهادية في "أصل" الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (الزيدي)، وأوّله أمراً بالخروج على "السلطان" الظالم ونهياً عن طاعته وإجراء أحكامه. والسلطان القريب، على التأويل القطعي والإجمالي هذا، هو "الأخوة" في "الشباب المؤمن"، والشركاء في المنتدى. وهم أنصار عزان وأصحابه. فغداة عودة حسين الحوثي من رحلته السودانية بنحو السنتين، أي في 2001، انفجر الخلاف، وطوى حسين صفحة المنتدى السابق، وأعلن استعادته، وحاصر المتمسكين به، وهاجم أنصاره، أنصار المنتدى "القديم". واستولوا على مراكز في خولان (7 من 9) وهمدان والحجة ومدان، وغيرها ربما. وكان سلاح الفتوى جزءاً من الشقاق والحصار. فذهب أهل الفرقة الحوثية الى إهدار دم بعض مخالفيهم، وطعنوا في اعتقادهم. و "الأخوة" السابقون حققوا انحيازهم الى السلطان الظالم، ومخالفتهم المؤمنين المجاهدين، فقبلوا مال صنعاء القليل الذي جزى "انتماءهم للداخل" و "لليمن" (على قول محمد غزان).
فالحرب الأهلية "العامة" بين الفرقة الحوثية، وهي انفصلت تدريجاً عن جسم الزيديين المشترك وجماعاتهم (على قدر ما بقي للزيديين جسم مشترك)، وبين "الجمهورية" الصنعانية والعسكرية القبلية، بدأت في صفوف اهل صعدة الزيديين، وفي صفوف شبانهم ونخبهم المنخرطين سابقاً في حزب الحق، ثم في منتدى الشباب المؤمن، والمتحلقين في مدارس علمائهم وحلقاتهم. ودعوة حسين الحوثي، ومشايعيه، الى "الجهاد" والخروج على "المستكبرين" القريبين الأهليين والبعيدين الإقليميين والدوليين وقتالهم، وتأويله الكتاب في ضوء الخروج الجهادي العام هذا، وتصديه للتدريس والاجتهاد والفتوى من غير إجازة إلا من نفسه – هذه كلها خطوات على طريق كبكبة الجماعة الحوثية وجمعها ورصها، والخروج بها الى قتال الأقربين، وهم "جمهوريو" صعدة وصنعاء الزيديون. فنازع هؤلاء الى كسر الطرق الإمامي التقليدي، على خطي سابقين "كبار" علماءً وأعياناً وعامة متعلمين، أنكره المعارضون الحوثيون باسم التقليد، في مرحلة أولى أو فصل أول. ولكن "تقليدهم" بعيد من التقليد التقليدي او الرجعي، على المعنى الحرفي، و "التاريخي".
فذريعة بعث الأصول الأولى هي خروج – على المعنى الأول، أي ابتداء جديد وانقطاع من نسب متصل وإيجاب نسب مستأنف "يتحدر" من الأصل على معنى قاطع: القرآن أو النعمة الإلهية الأعظم-. وهذا ما تردد روح الله خميني، سليل هيئة علمائية راسخة وتقليد إمامي وفارسي عريق، في القول به، وترجح بعض مريديه بين جهره وبين الكناية عنه. وحمل هذه المنازع، في مرحلتها الأولى، على "تقديس الموروث، والكف عن التحديث والانفتاح، وعد ذلك خطراً مفسداً لأتباع المذهب"، على ما يقول فيها احمد محمد الدغشي (ص 54 من كتابه)، يقف عند ظاهرها وحرفها، وهما ليسا من غير معنى. ولكن معنى التقديس والكف والعد هذه لا يدرك إلا من طريق تعيين من يتوجه عليهم النقد والسجال، وهم جناح "الشباب المؤمن" القريب من رئيس الجمهورية، والمستأنف تجديد العلامة مجد الدين المؤيدي وعلماء بيان 1991، الخ. الى تجديد ثوري أعمق وأبعد غوراً بكثير من المساومة الجمهورية والإمامية المضطربة والمقيدة بالتقاليد السياسية (شكل الحكم) والاجتماعية (المراتب القبلية) والثقافية (العقائد وتناقلها) المحلية.
وقاد التجديدُ الثوري حسين الحوثي، ومن بعده أخاه عبدالملك، الى إنشاء حركة جهادية وخلاصية، أهلية وانفصالية، ضعيفة الشبه بإرهاصات التجديد الزيدي على خطى المؤيدي وبدرالدين الحوثي (الأول). وهي أشبه بالجماعات التي خرجت من الجمعيات الإخوانية، وأنكرت على حركاتها الأم مهادنة "العدوين" القريب والبعيد، و (أشبه) بالحركات المحلية والوطنية المتفرعة عن الخمينية وبعض أجهزة دولتها مثل الحرس الثوري والكتل الوقفية الكبيرة ومراجع التقليد، على فرق ما بين هذه وتلك. ودار الإنشاء العملي هذا على ثلاث مسائل هي "حركة الشعار"، والأحكام في حق يهود صعدة، وإحياء بعض الشعائر الإمامية (عيد الغدير) بصعدة.

"حركة الشعار"
وما يسميه عبدالملك الحوثي، اليوم أي غداة الحرب السادسة التي لم تضع أوزارها في شتاء 2009 – 2010، "حركة الشعار"، محل الحركة الحوثية، هو صيغة مباشرة وأسبوعية، وقد تكون يومية، لبعض مشاعر الحج الى الأرض الحرام. وكان روح الله خميني دعا في ذروة الحرب العراقية والإيرانية – حين بدا ان قوات طهران توشك أن تمنى بهزيمة قاسية وباهظة بين يدي تحالف غربي وعربي إسلامي سني وأن الاستنهاض على الاستكبار لم يصدع التحالف هذا ولم يستمل العرب السنة الى ترجمة البراءة من الشيطان في الحج لعناً على اليهود وأميركا - ألحق خميني والحرس الثوري اللعان، والدعوة بالموت، بالصلاة. فلا يفصل اللعان من الحمد إلا الخروج من المسجد الى الطريق. فيهتف المتظاهرون بـ: "الله أكبر، الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام". والهتاف بـ "الشعار"، وهذا على نحو البراءة في صيغتها الخمينية التي لم تعمر وانتهت الى كارثة مقتل مئات الحجيج الإيرانيين في موسم 1987 في العام الأخير والمستميت من حرب العراق وإيران، هو مرآة إرادة استيلاء على "الإسلام" والمسلمين من طريق نصب طهران وطبقتها المعممة والحرسية الحاكمة محل الإسلام كله، وتوحيد المصالح المختلفة والمتنافرة في مصلحة واحدة يتولى الفصل فيها مدرس قم. وجمع خميني، في سنتين، صيغة البراءة وإعلان يوم القدس وفتوى إهدار دم سلمان رشدي، معاً. وأدخل في ولايته ووصايته توحيد المسلمين على محاربة الغرب، ومشايعته هو على قيادته السياسة الفلسطينية. ويصم الجهاز الخميني المتحفظين عن الاستيلاء والتوحيد القسريين بالخروج من "حزب الله" إلى "حزب الشيطان" الأميركي (الصليبي) واليهودي.
ويروي محمد أحمد الدغشي (ص109- 111) أن حسين الحوثي هتف بشعاره في 17/1/2002 بقاعة مدرسة الإمام الهادي بمران – صعدة، في حشد من الأنصار والمريدين. وقدم لهتافه، أو "صرختـ(ـه) في وجه المستكبرين"، بالسؤال: "إذا قلنا نحن مستعدون ان نعمل شيئاً فما هي الإجابة عن من يقول: ماذا نعمل؟". وأجاب: "أقول لكم أيها الأخوة: اصرخوا... شرف عظيم لو نطلقها نحن الآن في هذه القاعة، فتكون هذه المدرسة، وتكونون أنتم أول من صرخ هذه الصرخة... ليس في هذا المكان وحده... وستجدون من يصرخ معكم... وهو أضعف الإيمان أن نعمل هكذا في اجتماعاتنا، بعد صلاة الجمعة، وستعرفون انها صرخة مؤثرة، كيف سينطلق المنافقون هنا وهناك والمرجفون هناك وهناك، ليخوفونكم...". ويرفق الخطيب بادرته بشرح سرعان ما ينتبه قارئه الى محاكاته محاكاة دقيقة مزيجاً من خطابتي المعممين الإماميين الإثني عشريين، والخمينيين على نحوين مختلفين، محمد حسين فضل الله وحسن نصر الله. والشرح التعليمي يشبه درساً في الخطابة السياسية. فهو يقرب الى أفهام جمهوره، غداة بلوغ انتفاضة الأقصى ذروتها وشهرين على ابتداء الحملة الأميركية على طالبان كابول بأفغانستان، رداً على 11 أيلول 2001 و "غزوتي نيويورك وواشنطن"، كيف يسع الأنصار والمريدين الحوثيين، و "الحلفاء" المحليين مثل الشيخ الزنداني، تحويل الجهر بكلام مثل هذا، في أعقاب الصلاة، وبأماكن مثل المساجد الجامعة، في المدن الكبيرة وعلى مرأى من الإعلام الإقليمي والدولي ومسمع منه – فعلاً سياسياً مباشراً، وانخراطاً في جبهة عالمية عريضة وواحدة. ولا يتستر الخطيب على سياسة الاستدراج والاستعداء التي تضمرها "الصرخة". وهو يعوّل على استدراجها في سبيل تحويلها من كلام، والكلام "أضعف الإيمان"، الى فعل "مؤثر".
وواسطة التحويل الكيميائي المحتسَب أمران متصلان: الأول هو شيوع الشعار وفشوه في أماكن أخرى وفي من يتلقفونه ويرددونه ويحتذون على أصحابه الأوائل، وهم الحشد المنفعل بمدرسة الإمام الهادي بمران، والثاني هو استثارة شيوعه وترديده في الاجتماعات، وبعد صلاة الجمعة في المساجد الكبيرة، تخويف "المنافقين" و "المرجفين" أصحابَ الشعار. ومآل الأمرين، إذا وقعا وحصلا، إثارة نزاع أهلي يشق اليمنيين أو أهل صعدة على أضعف تقدير، ويقسمهم حزبين وعصبيتين: حزب الشعار وحزب "المنافقين" (على ما يرجو صاحبه الحوثي). ويزج الخطيب في الحزب هذا الحكم وأحلافه الوطنية والإقليمية والدولية من غير تمييز، ويصح زعمه ان القول (الشعار أو الصرخة) فعل (سياسي). ويغفل حسين بدر الدين الحوثي التنبيه على مترتبات انقلاب القول فعلاً وهي النزاع الأهلي، واحتمال إفضائه الى حرب أهلية بالسلاح. فهو يقصر تحريضه على التلويح بانتشار الشعار، وتوقع ارتفاعه علماً على حركة سياسية جماهيرية. ولكنه، من وجه آخر، يطمئن الجمهور الى ان الشعار لن يجر عليه "(الضرب) بالصاروخ". ويحتج لرأيه المطمئن بحجج تشبِّه على الجمهور وتدلس عليه: "هم لا يضربونك (بصاروخ)، كم يكلف الصاروخ؟... هم حكماء وليسوا بلداء...". ويشبه ضرب أهل صعدة، أو غيرهم من اهل اليمن المناوئين الولايات المتحدة (كناية عن ميلهم الى صدام حسين أو الى بن لادن أو الى سياسة طهران الإقليمية...)، بالصاروخ بضرب إيران بأسلحة نووية، مغضياً عن الفرق العظيم، وساعياً في الإقناع والتطمين الرخيصين و "التعليمين"، على خطى "أستاذيه" اللبنانيين.
ويخلص الخطيب المدرِّس من المقارنة الخطابية الى نصب مخاطبيه وجمهوره حاكماً في رد العدو الأميركي، وربما الإقليمي والوطني، على حركات المعارضة و "المقاومة" المتفرقة، وفيها أو منها "حركة الشعار" الحوثية نفسها، فالعدو، على ما يرى الخطيب الحوثي (الخميني في هذا المعرض)، لا يضرب من يقاومونه ويقومون عليه "إلا بعد ان (يرى) الناسَ من حول (نصير الشعار) قد أصبحوا مشتاقين ان يرو(ه) يُضرب". وعليه، فقوة أنصار الشعار مصدرها الأول هو تحلق "الناس" حولهم، وتألبهم إليهم. فما على "الناس" إلا الانضواء تحت لواء أصحاب الشعار، وترديده وراءهم، وجهر عزمهم على حمايتهم من "الضرب"، وترك الخوف منه. ومن الطريق اليسيرة هذه، وعلى شرط التمسك والاعتصام بها، يؤدي الجمهور المسلم ما عليه من دَيْن الى دِينه وأهله وإخوة إيمانه، ويعطِّل ولاء السلطات والدول وجماعات "النفاق" و "الإرجاف" للعدو ويرد كيدهم، ويحمي الجمهورُ الأمة ونفسه من "الضرب" المخوف.
وتقصد الحجة، وهي خط احتجاج، الى إبقاء مراحل "العمل" السياسي كلها، من ترديد الشعار الى توحيد الأمة حوله وردعها عدوها "الحكيم" وانتصارها عليه، في دائرة القول – الفعل الأول. وهي دائرة ذاتية وإرادية، أو هي دائرة العزائم، على قول فقهاء الشافعية (على الخصوص). وقصر السياسة الإحيائية على دائرة العزيمة والإرادة، في مرحلة الدعوة او التحريض الأولى، يتوسل به خطباء الخمينية الى غايات متماسكة. فهم يردون على الذين يتذرعون بالفرق الكبير بين كفتي القوة ووسائلها الى النصح بالتخلي عن "الصراع" ومقاومة "الغرب" المدجج بالسلاح. وهم يلقون بالتبعة عن الضعف والقعود على المخالفين من أنصار السلطات، ويقفون السياسة والعمل السياسي على لحمة "الأمة" وإجماعها وراءهم، وينكرون جواز الخلاف على المسائل الأخرى كلها. ويفتون بفقه حرب عام يعود إليهم وحدهم العلم به، والفتوى تالياً. فجواب "ضرب" العدو – إذا حصل وحين يحصل على رغم "الحكمة" المفترضة (وهي تنقلب حمقاً وذهولاً وغباء وارتباكاً، على قول الإيرانيين وراء محمود أحمدي نجاد والقيادات الحرسية)- هو الالتحام والإجماع المتعاظمان، ونفي الخلاف وتحريمه، والتسليم بفقه الحرب وبعلمه لـ "علمائه" المعصومين. فوراء هذا السور العظيم حقاً يسع الجماعة المتكبكبة وكردوسها المرصوص الاستدراج الى حروب لا تحصى فصولها ولا قتلاها، من غير ترتب تبعة على المستدرجين إليها.
وقد يكون هذا تعليل مديح عبدالملك الحوثي، خالف أخيه حسين على قيادة الحركة الحوثية المسلحة، "الشعار"، والتزامه فرضاً أو فريضة، والكلام المطنب في "فلسفة الشعار". وأدى التزام الشعار، ورفعه علماً على الحركة الحوثية في مساجد المدن اليمنية، الى سيرورة "تحقيق ذاتي" وآلي متوقعة، توقعها صاحب الشعار، وعوَّل عليها. فترديد "الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود"، بين مطلع "الله أكبر" وختام "النصر للإسلام"، أي حمل "قتل" أميركا واليهود على إله الإسلام وحربه، غداة 11 أيلول 2001، أثار قلق سفير الولايات المتحدة بصنعاء، وهو لا يزال يذكر بديهة مآل "الموت لأمريكا" في إيران الخمينية، البلد الذي يأتم حسين الحوثي بسياسة قيادته، على معنى روح نهج السياسة هذه، فوق ما يأتم بإماميته الإثني عشرية أو بجعفريته (وللإمامية هذه أنصار ومريدون في اليمن، وصعدة على التخصيص). وأثار الشعار الذي عمد أنصار حسين بدر الدين الحوثي إلى كتابته على جدران العاصمة اليمنية، قلق السلطات الوطنية وتحفظها. فهو ينيط "الإسلام"، والتوحيد، بـ "الجهاد" وبالحرب على "الغرب" الأميركي واليهودي. وهو يدين إدانة جادة، من غير تستر ولا تورية، روابط اليمن (أو أي بلد إسلامي آخر) الخارجية عموماً. فالشطر الأعظم من الروابط والعلاقات الخارجية على أنواعها، وجهه الى اميركا، على رغم استواء العالم "عالم ما بعد أميركا"، على قول ليال فِرْغسون وفريد زكريا في الفصل الديبلوماسي والعسكري والاقتصادي الدولي الذي كانت حرب العراق فاتحته. واليمن، شأن بلدان عربية خليجية أو افريقية قريبة، في قلب دائرة إقليمية متشابكة ومضطربة ومتنازعة، على باب طرق نفطية وبحرية قارية وحيوية. وبين "الدعاء" بالموت على اميركا والهتاف به وبين الإعداد لعمل عسكري قاتل (على ما حصل فعلاً في ميناء عدن حيث كانت البارجة "كول" راسية، قبل سنة وبعض السنة من إعلان الشعار وحركته) الفرق طفيف، والخطوة يسيرة وفي متناول متربصين كثر.
وحين ردت السفارة الأميركية المتوجسة على كتابات الجدران، وهتاف المساجد والاجتماعات، بإظهار الخشية، وطلبت معالجة التحريض العملي والمتفجر والقريب من النفاذ في المادة المشتعلة، أعلن حسين الحوثي، وأنصاره معه، ابتهاجهم بصدق توقعهم. وعلى مثال تحريضي ودعوي خميني مجرَّب، قارنوا بين خفة الاستفزاز الظاهرة (يُردد الشعار في نصف دقيقة بعد صلاة الجمعة أو ثلاث مرات في الأسبوع، ومن غير حشد تظاهرة، على قول "صاحب" الشعار متفاخراً)، وبين ثقل الرد الأميركي واليمني (الخشية من تحول الصراع بين اميركا والعالم دينياً، على قول السفير الأميركي، والكشف عن "حقيقة شعارات الأمريكان حول الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان"، بحسب الحوثي، واقتصاص صنعاء من بعض مرددي الشعار بالسجن ثلاث أعوام، على قوله كذلك).
ويترجح رأي الرجل بين التهوين الظاهر ومتصنع السذاجة من شأن كلمات قليلة تقال على عجل وبين تعظيم وقع الكلمات هذه، وانتظار ثمرات القمع المفرط والمحتسب الذي تستفز إليه، وينفخ بدوره في أشرعة "حركة الشعار" ويضوي إليها المتظلمين والخارجين على القمع "اليهودي".

التشيع السلطاني والمسلح

وفي فصول الحوادث اللاحقة والبارزة، مثل التمهيد لجولة الحرب الأولى بصعدة وحولها في 2004، روى صاحب الحركة الحوثية المسلحة أن الرئيس اليمني، علي عبدالله صالح، طلب إليه قبل انفجار الحرب بشهرين الإقلاع عن ترديد الشعار وتركه. وتباهى، على أثير إذاعة لندن العربية، بأنه لم يستجب، وأنكر على الرسالة الرئاسية "الوعد والوعيد". واحتج على صاحب الطلب بأن الشعار ليس ابن اليوم، ويعود (في منتصف 2004) الى أوائل 2002. ويتفق التأريخ مع بلوغ الانتفاضة الفلسطينية الثانية ذروتها الدامية، وتواتر عملياتها الانتحارية عشية مهاجمة أرييل شارون، رئيس الحكومة الإسرائيلية، أراضي السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، واحتلالها من جديد، ثم غداة الاحتلال. والاحتجاج بالقِدَم يريد إبطال تذرع الدولة بنتائج متراكمة ترتبت على القِدَم. فما لم تقمعه الدولة حال تظاهره، وخروجه الى العلن (وقمع "الله أكبر، الموت لليهود..." بينما العمليات الفلسطينية والاغتيالات الإسرائيلية تدمي مواضع لا تحصى من فلسطين وإسرائيل، لكان استقبل بإنكار يفوق الإنكار اللاحق بذريعة القِدَم)، يحمله حسين الحوثي، وقبله حمله دعاة آخرون مثله، على حق ثابت لا رجوع فيه. وقال عبدالملك الحوثي، أن "الشعار هو السبب المباشر في التداعيات اللاحقة"، ويعني الحرب الثانية. وسوغ الشعار بما كان أخوه سوغه به من نصرة المظلومين المسلمين، ورد الحرب عليهم، وقتال عدوهم، وجمع صفهم وتوحيده، والحؤول دون تسلل العدو "الصليبي" الى جماعتهم وآحادهم. ونسبه الى فرض إلهي وقرآني مباشر لا تسوغ معه طاعة الدولة. وأفتى والد الحوثيين، المرجع بدر الدين، بوجوب الشعار، وبمساواته الجهاد في الفرض. وخلص الى بسط ما أضمره ابنه: "فما خالف ذلك (أي من تعلل بشق الشعار صف المصلين) فهو المشاق، وصلاته فيها شك (و) عليه ان يترك الشقاق، ويرفع الشعار".
ومن طريق الشعار، و "حركته"، خرجت الفرقة الحوثية المسلحة، والجماعة الزيدية بصعدة، من الجمهورية اليمنية "الواحدة"، وانتحت ناحية جغرافية وسياسية أهلية وتعبوية اجتماعية على حدة منها، وزادت عاملاً جديداً ومبتكراً على عوامل تصدعها وتشرذمها. فحركة الشعار جمعت عامة الجماعة، على معنى عوامها وأهل الضعف منها، في كتلة مرصوصة، نواتها "طبقة" الشباب ومقدموها بعض شبان الأسر الشريفة. وهؤلاء تصدوا، من خارج المراتب، للفتوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والخروج على "الإمام" الظالم، المحلي والوطني والإقليمي والدولي معاً وجميعاً، بواسطة الشعار وتأويله الأصولي المذهبي، وبالسيف والبندقية والعبوة الناسفة والإعلام وشق صف الجيش الحكومي، وتعبئة الجوار المذهبي بالاستمالة والإكراه، وبالحرب نفسها. واضطلعت إرادة اصطناع الحركة، وولادة نفسها بنفسها ومن نفسها (من قيادتها وإرادة قيادتها ورغبتها)، بدور راجح في صناعتها. وليس معنى الاصطناع، أو الصناعة، الضرب صفحاً عن الوقائع وموجباتها، وغشيانها من غير سابق أواصر ووشائج بها، بل (معناه) التعويل الإرادي والمتعمد والمغامر على "إضمارات" الوقائع غير الظاهرة. ولعل هذا ما اكتسبه حسين الحوثي في رحلاته "الدراسية" التي حملته من اليمن الى السودان ولبنان وإيران (1994 – 1999)، وربما إلى أوروبا حيث يقيم على الأرجح احد إخوته، يحيى، ويتولى شطراً من الإعلام الحوثي. فهو استخرج من الخمينية نواة عملية سياسية حاسمة لا شك في ان "حركة الشعار" تمثيل مدرسي أو تعليمي عليها. فجمع الاعتقاد المحافظ والحرفي، أو "إيمان عجائز نيسابور" على قول الماتريدي، وعبأ الجماعة على الاعتقاد المتزمت (الزيدي) هذا، الى تأويل محدث، عملي وتحريضي، لا ضابط له من أصل أو قياس. ويكتب أحمد محمد الدغشي في هذا فيقول: "وسوغ (حسين الحوثي) إعجابه بإيران والخميني ونصر الله أو حزب الله بأنه متعلق بجانب الإرادة والحركة والقدرة على التغيير، وليس بمذهبهم العقدي والفقهي..." (ص80 من المصدر نفسه).
وبعد إنشاء حركة الشعار، أو في أثناء الفصول العملية الأخيرة من إنشائها، عشية انفجار الجولة الأولى من جولاتها المتسلسلة (في 2004)، عمد الحوثيون، وهم صاروا أهل الحل والربط بصعدة واستولوا على مقاليد الأمر هناك، الى طرد سبع أسر يهودية، تعد 45 شخصاً، من بيوتها بالحيد وغرير، بآل سالم من مديرية كتاف في المحافظة. والتهمة التي ألصقتها الفرقة الحوثية المسلحة والمتسلطة على الديرة الزيدية باليهود، وهم يهود الشعار "... الموت لليهود..."، هي "قيامهم بأعمال تخدم الصهيونية التي تسعى جاهدة لإفساد الناس وتجريدهم من مبادئهم وقيمهم وأخلاقهم وبث الرذيلة"، على ما كُتب في رسالة الطرد والترحيل التي أبلغها "أمراء" المحافظة الى رعاياهم المغضوب عليهم. وعلل أحد مساعدي عبدالملك الحوثي الإجراء بانتهاك يهوديين بلديين السنن القبلية والدينية، وبيعهما أفلاماً جنسية وإباحية من الأهالي، واتجارهما بالخمور. وزعم ان "الشباب المؤمن"، أي قيادة الفرقة المنظمة، اقتصروا على إنفاذ رأي اجمع عليه "مشايخ آل سالم وعقالها ووجهاؤها"، وإجماعهم هو "عين الصواب". والحزب المسلح، على هذا، ليس إلا ذراع الجماعة الأهلية "العائلية"، على قول لبناني. وغداة 2006، عمد الحزب الحوثي، متذرعاً بإقامة يهود آل سالم مجلس عزاء على نفس واحد منهم كان ترك اليمن الى إسرائيل، وانخرط في جيشها، وقاتل في صيف 2006 بلبنان وقتل هناك، الى القضاء في عموم اليهود، جماعة ومعتقداً، بـ "الفساد": "الإفساد هو دين اليهود". وعلى نحو ينحوه "نهج" حسين الحوثي الأصولي والمذهبي في التأويل والفهم، ينكر المتصدي للفتوى والفقه إحجام أهل السنة عن تصنيف اليهود والنصارى "درجة ثانية (وليس) كمشركين كما نصنفهم، يعتبرون أنهم فوق الكافرين". ويرى الشارح المفسّر ان إنزال "اهل الكتاب وضعية أحسن" يسوغ "أن أعيش في ظل الكفر الصريح". ويلوم "العَرَب" على شركتهم في "كل فساد جار من قبل اليهود في الدنيا كلها... حتى تمكن اليهود من أن يسيطروا في العالم ويفسدوا العالم، ثم يهيمنوا على المسلمين..." (ملزمة لا عذر للجميع امام الله، نقلاً عن الدغشي، ص 67). فيؤلف المفسّر بين "أصل" الحكم القرآني الإلهي في اليهود منذ الأزل وبين حكم الانتصار لإخوته المجاهدين في آخر حروبهم، في حكم واحد، أزلي وظرفي معاً، ويحمل التأليف هذا على الجماعة المقاتلة، الآن وهنا، وعلى كتلتها.
والاحتفال بعيد الغدير مدماك آخر رصّته الجماعة الحوثية المقاتلة في جدارها، وعولت عليه وتعول في إخراج زيود صعدة من الجماعة اليمنية الوطنية المترنحة، ومحاربتها بهم وبعصبيتهم. وجعل آل الحوثي، بدر الدين وأولاده، الاحتفال التقليدي والقديم، وكانت آيته "البَرَع" أو الرقص الشعبي والأهازيج والزغاريد والقصائد والرماية" (الدغشي، ص 102)، استعراضاً عسكرياً وسلطانياً حاشداً "مليونياً"، ومشهداً (على قول الإماميين الإثني عشريين في "إحياء" عاشوراء ومسيراتها) يمثّل على مهاجمة الجماعة المتكتلة "عدوها"، وانتصارها عليه. فتتقاطر الجموع العائلية والمسلحة من انحاء البلاد الزيدية الى جبل المخروق بالجمرات، الى الشمال الشرقي من صعدة، وتصوب على "صدر الجبل"، وترميه بالرصاص، وترديه. فيكني الجبل عن معاوية بن ابي سفيان الأموي، وعن سلطانه وملكه "العضود" (وبعض متكلمي فرق الشيعة، قبل استقرار الغلبة المتأخرة للتشيع الإيراني، شأن هشام بن الحكم، مثل على "عظمة" الخالق بالجبل). ورميه بالنار في احتفال عائلي، يحضره الأولاد ويشاركون فيه، يكني عن قتل صاحب السلطان، ويثأر لـ "موكب السبي" غداة العاشر من المحرم ومقتل حسين بن علي بن ابي طالب وبعض ولده. ويشترط عبدالملك في عهود الهدنة بينه وبين صنعاء النص الصريح على بند يقر لجماعته أو فرقته "حقاً مكفولاً"، على قوله، في "إقامة وممارسة شعائرنا ومناسباتنا الدينية التي يطلق عليها عيد الغدير أو يوم الغدير". ويقول في المشهد أنه "يقدم رؤية تحتاج إليها الأمة لمواجهة ولاية الغرب على ابناء العالم الإسلامي". وهذا على شاكلة ما ذهب إليه خميني في عاشوراء والحج، وعمل به اللبنانيون والعراقيون (الشيعة) غداة 1982 بلبنان و2003 بالعراق. وسبقهم إليه فدائيو خميني في شوارع طهران وخورمشهر وجزر مجنون بالأهوار. وتبعث إقامة الشعائر وإحياؤها على هذا النحو مسألة نسب الإمام، رأس النظام السياسي "الشرعي" بحسب الزيدية. فيرجع الحوثي الأصغر من الطعن في فكرة المهدي وأداء سهم الخمس الى "ابناء فاطمة" (وسلكهم العلمائي) و "جعفرة" الأخوات (على ما سمى حسين الحوثي نكاح المتعة متهكماً ومنكراً) ومن الاستخفاف بولاية الفقيه، يرجع من هذا الى مقالة نسبية و "تاريخية" تقليدية حادة. ويستأنف إرساء العصبية الزيدية على نواة صلبة هي صنو فكرة الميراث والاصطفاء المباشر وتعالي السلطان عن الرأي والمداولة والاقتسام والاقتراع. فتنطوي الفرقة الزيدية المقاتلة، و "المهاجرة" الى بلادها، على كتلتها ومجتمع حربها و "مقاومتها"، وتلد نفسها من نفسها بإزاء عدوها المميت، وبإزاء موتها هي في لجة انقلاب العالم على أركانه المتحدرة من الخلق ومن الواحد نفسه، وفي أرحام حروب متناسلة لا إلى غاية.

الثلاثاء، 1 يونيو 2010

المناورات العسكرية الإسرائيلية ومحلّ سورية «الصاروخية» منها

1/6/2010
صادفت (أو لم تصادف اتفاقاً) المناورات الإسرائيلية «الكبيرة» الذكرى العاشرة للجلاء الإسرائيلي عن معظم الأراضي اللبنانية التي احتلتها القوات الإسرائيلية غداة 1967 و1969 (بعض مزارع شبعا) ثم في 1978 (الشريط الى الليطاني). وسبقت المناورات العتيدة حملة ديبلوماسية وخطابية عريضة على تسلح الجماعة الشيعية المقاتلة في لبنان بصواريخ «سكود»، المتوسطة والدقيقة التصويب والمحملة برؤوس كيماوية، من طريق سورية وأراضيها، وسيطِ المصدر الإيراني. وتخللت الحملة وأعقبتها، الى اليوم، حركة زيارات جرارة الى المشرق عموماً، وإلى لبنان وفلسطين وإسرائيل وسورية خصوصاً. وكان سهم لبنان فيها، استقبالاً ومبادرة، راجحاً. وفي الأثناء، ألبت مناقشات مبادلة اليورانيوم الإيراني وقرار العقوبات الدولي في حق إيران ومؤتمر مراجعة معاهدة حظر الانتشار النووي والتوصية بإخلاء الشرق الأوسط من السلاح المدمر، المجتمع الدولي وأقطابه، في العواصم الإقليمية و «الحاضرة» الدولية والأممية على حد سواء.

والمناورات الإسرائيلية الطويلة (5 أيام) والشاملة (الجبهة المدنية) ركنها معالجة قصف صاروخي كثيف على أراضي الدولة العبرية وسكانها ومرافقها المدنية والعسكرية جميعاً. ومصادر القصف المتوقع هي جبهات الحدود الثلاثة المجاورة، لبنان وغزة وسورية، ومصدر بعيد، على نحو 2000 كلم يملك صواريخ بعيدة قياساً على المسافة هذه، هو إيران. واختبرت الدولة العبرية، في أوقات متفرقة القصف الصاروخي هذا من سورية (في 1973) ثم من لبنان (طوال التسعينات وفي 2006) ومن فلسطين (طوال العقد الأول المنصرم وذورته في 2008 – 2009)، على مقادير متفرقة. وحين تفترض المناورات قصفاً متزامناً ومترابطاً ومنسقاً من الجبهات الثلاث العريبة، فهي تبني أنموذجاً مركباً غير مسبوق. ففي اثناء «الحروب» السابقة عملت هذه الجبهات منفردة ومستقلة الواحدة عن الأخرى. وعلى هذا، فضم الجبهة الإيرانية الرابعة، النائية، إنما يستكمل الأنموذج التخطيطي على وجهه السياسي والإرادي فوق وجهه العملي والمختبر.

ويبدو ضم الجبهات هذه (الثلاث القريبة على وجه التخصيص) رزمة واحدة، رداً على بعض ما خلصت إليه القيادات العسكرية والسياسية الإسرائيلية من اختبارات هذه الجبهات في الأوقات المتفرقة الماضية. فدمجها في حرب واحدة، وتقدير غلبة القصف الصاروخي المنسق عليها، وإدخال الجبهة السورية (ودولتها) تحت رسم أو باب واحد من منظمتين أهليتين وغير نظاميتين، قد تكون قرينة على احتساب إطار واحد ومشترك للرد. وتوحيد إطار الرد يفترض استدراج الجبهات الثلاث، وهي استفادت في الاشتباكات السابقة من استقلالها، الى الاندماج في جبهة عسكرية متصلة على نحو ما هي جبهة سياسية واستراتيجية مترابطة. وقد لا تكون «هرجة» صواريخ «سكود» الديبلوماسية والإعلامية والخطابية بمنأى من توحيد إطار الرد، والاستدراج إليه، وتمهيد طريقه. وإطار الرد وإطار الردع هما، في هذا المعرض، إطار واحد. ويتولى إطار الردع استبعاد الرد.

ففي ضوء الاختبارات (المتطاولة) الثلاثة، على الجبهات الثلاث، نهضت «الدولة» السورية بأعباء تماسك الجبهتين الأخريين، سياسة وديبلوماسية وتسليحاً. وحين خاضت الدولة السورية الحرب، في 1973، مبادِرة ومختارة، وفي 1982 (على الأراضي اللبنانية) مضطرة، عادت صفة الدولة، أو الكيان السياسي، على الأداء الحربي النظامي الضعيف اصلاً بالضعف. واضطرت القيادة السورية إلى استجداء وقف النار، في المرحلة الثانية من الحرب. وخلصت، مذذاك، إلى ان حربها هذه هي آخر حرب تخوضها، على ما كرر أحد أعيان النظام يومذاك واستثنى لبنان ساحة حرب سورية – إسرائيلية فرعية ومواربة. وكان الإسهام السوري، السياسي والأمني، في إنشاء «المقاومة» الخمينية راجحاً. وهو وجه من وجوه الرد على القصور العسكري السوري الفادح، أي على «افتقار سورية الى خيار عسكري» على قول إسرائيلي مهين ولئيم. وتخطى الإسهام والدور الإيرانيان الحساب السوري الأول، قبل ان تتخطى الاستراتيجية الإيرانية، ومحوراها الإقليمي والنووي، طاقة القيادة السورية على التخطيط.

ومهما كان من شأن اعادة النظر السورية في خطة حربها، وتحولها من الأسلحة والقوات التقليدية (الطيران الحربي والمدرعات وقوات المشاة المحمولة) الى سلاح الصواريخ واقتنائها 70 ألف صاروخ على زعم إسرائيلي رائج، فالدولة السورية، واضطلاع الحكم بالمسؤولية عن الحرب ونتائجها المادية والبشرية، هي مكمن ضعف فادح في الاستراتيجية العسكرية السورية الى اليوم. ولا يحول التسلح الصاروخي، بالغاً ما بلغ تنوعه وتعقيده، دون إباحة الأراضي الوطنية والسكان والمرافق والقوات نفسها لتفوق سلاح الجو الإسرائيلي تفوقاً حاسماً وثقيلاً. وليس إرفاق أزمة «سكود»، حال ثورتها أو إثارتها، بتهديد الدولة السورية بـ «إعادتها الى العصر الحجري» إلا تلويحاً بموطن الضعف، وتذكيراً به.

والانفكاك من الدولة أو التحرر من مسؤولياتها الاضطرارية والقسرية، هو سلاح «المقاومة الإسلامية» الخمينية الأمضى. فالمنظمة الأهلية المذهبية، والعسكرية الأمنية، تخففت من المسؤولية السياسية والأخلاقية عن أمن اللبنانيين والدولة اللبنانية، من وجه، واستظلت، من وجه آخر، الحماية السياسية والأخلاقية التي تؤمنها الدولة (اللبنانية) لأراضيها وسكانها، ويقر لها المجتمع الدولي، وفيه إسرائيل، بحقها فيها. ووسع الجماعة الشيعية المسلحة الارتقاء الى هذه المكانة من طريق متعرجة. فجمعت معظم شيعة لبنان حولها طوقاً ودرعاً، وأعملت في الجمع والتطويق الأسلحة كلها. ورعت السياسة السورية سطو الجماعة المسلحة على طائفتها، وخاطت على مقاس السطو اجهزة «الدولة» وسياساتها وهيئاتها وسياسييها، أو معظمهم.

ففي مستطاع الجماعة الأهلية المسلحة «المقاوِمة» استدراج الخسائر الجسيمة والهائلة على «الشعب» من غير ان تتحمل هي المسؤولية، على خلاف النظام السوري «المقاوم»، عن الخسائر، ومن غير ان يضطلع «الجيش» (الدولة) بغير مسؤولية حماية «المقاومة» في وجه المجتمع الدولي ومنه. ويحمي المثلث الإيراني – السوري – الحزب اللهي (اللبناني)، على نحو الصورة الفوتوغرافية التي «غيرت وجه المنطقة» على قول «جنرال» الجنوب المعمم، المعادلة هذه بواسطة التلويح بالحرب الأهلية وطيفها المقيم والمزمن. والسلاح الصاروخي، الإيراني المصدر والشراء والسوري المعبر والجسر، هو التمثيل المادي والعسكري على المعادلة، وعلى جمعِها تنصل «الشعب والجيش والمقاومة»، بالتكافل والتضامن على الاستقالة، من المسؤولية عن شن الحرب أو الاستدراج إليها، وعن نتائجها وكلفتها.

والحلقة الفلسطينية هجينة. وتجمع من الحلقتين السورية واللبنانية، بعض سماتهما. فـ «حماس» دولة وحكم ونظام، وتتمتع فعلاً وحقيقة بمشروعية انتخابية وتمثيلية تستجيب معايير ارتضاها المجتمع الدولي. وهي، من ناحية ثانية، جماعة أهلية مسلحة ومستولية، وتسوس رعاياها بسياسة متسلطة وفئوية تكاد لا تغبطها عليها السياسة السورية الداخلية، وتود سياسة «المقاومة الإسلامية» الخمينية في لبنان مضاهاتها في الأوقات العادية وخارج أحكام الطوارئ التي تفرضها على رعيتها المنقادة، وعلى المواطنين من غير (الرعايا) قسراً.

وعلى هذا، وسع «حماس»، على شاكلة الجماعة الشيعية المسلحة في لبنان، استدراج الدولة العبرية الى «حرب»، أو عملية «تأديبية»، معلنة ومتوقعة، وخوض الحرب هذه على شاكلة الحزب الشيعي المسلح، أي في صفوف الأهالي وبين بيوتهم ومرافقهم واستدراج الرد العسكري المفرط عليهم، و «توحيدهم» على التنديد بإفراط الرد وعنفه وانتهاكه بعض المعايير الدولية. وعلى خلاف المثال السوري، لم تتهدد الخسائر الفادحة في الأرواح والأرزاق القبضة الأمنية والسياسية والاجتماعية الحماسية بالانهيار الجدي. وشفع ربما لـ «حماس» ضعف تجهيزها وتسليحها، على نحو ما شفعت لها مذهبيتها العربية الغالبة، وقربها من مصر، وانزواؤها الجغرافي وبؤس اهاليها وفقرهم، الى «أهليتها» المتحللة من المسؤولية السياسية.

وفي الأعوام السبعة المنصرمة منذ احتلال القوات الأميركية العراق، و «مشتقات» الاحتلال المتشابكة والمتداعية، وسع طهران، وظهيرها السوري الحميم، إنشاء نظام إقليمي فرعي وهجين يضم دولاً تحكمها طبقة مستولية على حافة الفشل والمروق، وجماعات أهلية مسلحة موالية للدول هذه وتتمتع بحماية دولها الوطنية وأنظمتها التي تعاديها وتستدخلها معاً، تحت طائلة تجديد الحرب الأهلية المجربة. ولا تتستر الأنظمة على مساندتها السياسية والدعاوية الجماعات الأهلية المسلحة، ولا على دورها في إنشائها وحضانتها وقيادتها. لكن النظام السوري يتورع عن تحمل المسؤولية العسكرية والأمنية المباشرة عن الجماعة التي شارك ايران الخمينية في إنشائها. وهذا على قدر تباهيه، «بشفافية» يمدحه عليها الخطيب الخميني، بالحضانة السياسية. ويحمي تمييز الانخراطين (السياسي والعسكري) واحدهما من الآخر، على رغم هشاشة التمييز، الأراضي السورية من الرد والردع العسكريين. ودعا تشكيك واشنطن في حقيقة التمييز وصدقِه الزعيمَ السوري، إبان أزمة «سكود»، الى نعي «نزاهة» واشنطن، على مثال دعاوي مجرب. وكرر طلبه الدليل المادي، وإنكار النتائج الملموسة والعينية. ويحمل النظام السوري والنظام الإيراني، وأذرعتهما، الدليل المادي على إقرار الجاني بالفعل، وإلا بطل الدليل.

وتكاد تثبت المناورات الإسرائيلية الأخيرة والطويلة، غداة قضية «سكود»، صحة ما اشتمه النظام السوري في ثنايا قضية الصواريخ من نوايا أو خطط عسكرية تبطل تمييز الانخراط السياسي والأمني، والانخراط السياسي، واحدهما من الآخر. ويترتب على إبطال التمييز زج الجبهة السورية الصاروخية في ميدان الحرب العسكرية، والتلويح بالإبطال عامل ردع قوياً. والرغبة السورية في «التوافق بين قوى المنطقة (و) إعادة رسم نظام لها»، على قول الزعيم السوري الى صحيفة إيطالية، يفهم على وجهين هما مرآة «طبيعة» النظام الذي يتزعمه ويقوده. فحمل الكلام الملتبس على القرب من المملكة العربية السعودية ومصر، وقبض اليد عن لبنان وتقييدها، يفسره على معنى تغليب منطق نظام الدول. ويُخرج سورية من الميدان العسكري الصاروخي، ويقصر دورها، في رعاية عربية، على عامل ردع شريطة بعض التحفظ. وحمله على الصورة الدمشقية ومثلثها، احمدي نجاد ونصر الله والأسد، يرده الى النظام الهجين الذي سابق الحرب الأميركية في العراق على حضانة الأزمات والانفجارات والانهيارات.