الأحد، 22 يونيو 2014

سفاح الارهاب و"الدول" الملية... وَلَد غزوة الانبار

المستقبل، 22/6/2014
 ألهبت غزوة "الدولة الاسلامية في العراق والشام" شمالَ الغرب العراقي، واستيلاؤها في يوم وليلة على مدن عواصم مفترضة مثل الموصل والحويجة وسامراء وتكريت، وهي كانت ترابط في ضواحي الفلوجة والرمادي وبعض أحيائهما الداخلية منذ أشهر على كيلومترات قليلة من بغداد- ألهبت المخيلات والاهواء البلدانية (الجغرافية) الاستراتيجية الهاجعة أو اليقظة. وبعثت أحلاماً ورؤى عريضة عرض المدى والوطن العربيين. فوسع حلف المخيلات والاهواء والاحلام والرؤى التحرر من سايكس- بيكو، وأثقال الرجلين والامبراطوريتين البغيضة التي أناخت على التاريخ، وقيدت اضطرابه ومده وجزره وحصرتها في قمقم بلدان – دول قطرية مزعومة. فأرغم العربي السوري (أو السوري العربي) على القول "سوريا"، وقصر مدلول قوله على 194 ألف كلم هزيلة، وإسقاط الأمداء الواسعة المتصلة من طوروس شمالاً الى زغروس شرقاً والبحر غرباً وما قدر الله جنوباً، الى الكويت وسوق الشيوخ إذا شئتم، أو حائل أو تبوك، والى العقبة غرباً وما بعد سوريا الجنوبية الى سيناء كلها، بين خليج العقبة وبين البحر الاحمر.
 وفي الغزوة الخاطفة والمنصورة تبددت الحدود المصطنعة التي رسمها الاستعمار، وثبتها أعوان الاستعمار وما بَعده، وحصنها العملاء، وعقلنها الاستشراق. فإذا بجرابلس ومنبج والباب، والرقة والحسكة والبوكمال طبعاً، أقرب الى الموصل والحويجة والفلوجة والرمادي من حبل الوريد، قبل قطعه بالسيف فوق النطع إذا لم يداهم الوقت. وعلى رغم تولي العصابات الارهابية والتكفيرية هذا العمل التاريخي المجيد، وسعها الانصراف اليه آمنة مطمئنة الى خطوطها الخلفية في سوريا الضيقة وما بعد الاستعمار. وبينما أصليت أحياء شرق حلب، في الاثناء، القصف الذي يليق بشقاقها وخروجها على "الشرعية"، اضطرت بعض قرى الرقة، في ريفها المقيت ومهد مقاتليها الذين عدوا عنوة على المدن المعتدلة والمجربة وجروها والنظامَ الى الاقتتال والدمار، الى انتظار قصف سلاح الجو "الشرعي" قرابة الاسبوع الكامل (يوم الاحد الواقع في 15 حزيران ثم الثلاثاء في 17 منه)، وبعد إخلاء مسلحي "الدولة الاسلامية" القرى الثلاث المحظوظة.
قَصص واستراتيجيا
 فدبت الحياة الموارة في شرايين المشرق العربي اليابسة، واستيقظ التاريخ الأصيل والعربي في المدى (المضطَرَب) الذي كانت تجوبه الأحلاف القبْلية العربية الكبيرة والرخوة (وهي انقلبت "متحدات" في المناسبة) مثل الدليم وعنزة والعكيدات وزبع وشمَّر والروَلة، وتحاصر مدنه الهزيلة، وتجبيها على سبيل "الخوة"، أي المؤاخاة القسرية التي يفرضها القوي الجائع على الضعيف الممتلئ البطن، والمسلح على الأعزل الصاغر والمحتاج الى الدخالة والحصانة من القتل والنهب. والمشرق العربي هذا، وهو حضن القبائل والمدن المسيحية القديمة مثل انطاكية وحران، هو كذلك مسرح المخيلة البلدانية الاستراتيجية وميدان القَصص البطولي الشعبي والمَلَكي العربي والأعجمي: من "سيرة عنترة" و"فيروز شاه" الى مدونة "الظاهر بيبرس"، ومن "الاميرة ذات الهمة" الى "سيف بن ذي يزن"، ومن "تغريبة بني هلال" الى "سيرة الزير بو ليلى المهلهل". إلى غزوتين تاريخيتين ومؤرختين: واحدة بلغت النجف ودمرتها في 1857 وأخرى اجتازت امارة شرق الاردن في 1928. فأهل هذه الملاحم وأبطالها "الصناديد" و"بحر" رجالها (المالكي نوري أو جواد) إما خرجوا من شبه جزيرة العرب ويمموا شمالاً وغرباً الى مغارب افريقيا التي حسبوها مغارب الارض، أو خرجوا من الشرق الأسيوي والقوقازي والتتري وساحوا غرباً وجنوباً، وانتهوا على الدوام الى انشاء سلطنات عظيمة لحموا اجزاءها قسراً بالمصاهرة والتزويج والولاء وموت الامراء من غير أعقاب. وفي الحالين، بنوا أركان "عالم غيبي... كما لم يسبق في التاريخ منذ نهاية الحروب الصليبية"، على ما يكتب حسين جمو ("الحياة"، 15 حزيران) قارناً حوادث اليوم بالحرب الاوروبية الثلاثينية في القرن السابع عشر، وبنشوء أوروبا الدول – الامم الوطنية وخلافتها البطيئة الامبراطوريات وبطانتها الكنسية الرومانية والمسكونية في اعقاب معاهدة فيستفاليا.
 وما ولدته ليلة من ليالي (صحراء) النقب (إيدوميا التوراتية)، على زعم مالارميه، حمله المعلقون المحترفون في الصحف الاقليمية والدولية على مولود نبوي تام الخلق، وينطوي منذ خلقه، وإلقاء الروح في نطفته، على مصائره كلها، من ألفها الى يائها. وهي بعض من مصائر الأكوان والمجتمعات التاريخية والعمران. فتباروا في اختطاط دولة "الدولة"، وهي عصائب قتلة ومقتولين، وحدودها وأقاليمها وجوارها القريب والبعيد وحروبها الآتية وفتوحاتها وهزائمها. فشهوة أصحاب البلدانيات الاستراتيجية، وعلى وجه الخصوص إذا كانت مادتها المشتهاة هذه النواخي، مشارق الارض ومغاربها، "نهمة لا تشبع" على قول ابن منظور في شهوة العلم.
 وألبست هذه الشهوة حلة القصص الملحمي وقطعه الشبيهة بقطع "المكانو"، أو بالمدونات الرقمية، لا قيد على جوارها وعلى تذييلها بملاحم جديدة. فبعد تفكيك سايكس – بيكو والتوازن الاستراتيجي والصراع على الشرق الاوسط البائس، وكلها انتهت الى خيبات دامية، توج أهل الهزائم ملاحمهم بلعبة الخمس البحرات الاستراتيجية الكبرى. ورأوا انفسهم أصحاب كلمة سر محورية تفتح أقفال خطوط انابيب النفط والغاز كلها: المنحدرة من المشارق الاسيوية الهندية والاسكندرية، أذربيجان وحوض قزوين وحوض البحر الاسود، والمشتاقة الى السفر غرباً من طريق المتوسط وإيجه والادرياتيكي، بالغاً ما بلغ ثمن الرحلة وعوائده التي ربحها سلطان الجبل وعموم السوريا. وحين حطت الرؤية الاستراتيجية رحالها خلطت قمة حلب بقاعدة درعا البلد، و"بستان هشام" بمراكز "سيرياتل". وانقلبت المنافسة على طرق الانابيب ومحطات التخزين والعوائد "الهائلة" الى "مكاسرة على حافية الهاوية"، على قول خبراء وأصحاب مكاتب تحليل واستشارات يتقاضون ثمن أتعابهم على الهواء، وتتخاطفهم المحطات الفضائية الباحثة عن روايات تليق بحدس المستثمرين البدوي وإعلامهم الأثيري والسواتلي.
 ولكن الهذيان "الجيوسياسي"، أو بعضه، لا يفتأ يعرب عن بعض الحقائق. وهذه الحقائق لا تتعلق بالوقائع. وحقيقتها هي الأحلام والرؤى والاماني والرغبات التي تنضح بها نفوس أصحاب الخطط الاستراتيجية العظيمة التي تقدم الإلماع الى بعضها المشرقي، وهي الاصداء التي ترددها الوقائع والحوادث المشهودة في نفوسهم وعلى ألسنتهم. فعشية الهجوم على الموصل واكتساح نينوى وصلاح الدين وشمال الانبار، أسر بشار حافظ الاسد، مستودع سر أبيه وروحِه، الى "صحافي" من أهل المجالس والأمانات، أن الغلو في "فبركات صور طائفية" يسأل عنها صور الاعلام، وأبرزها صور "هجمة التكفيريين والارهابيين على المعتدلين من أهل السنة وأهل الصوفية العريقة" ("الاخبار" الصادرة ببيروت، 11 حزيران). ويعقب هذا الكلام المرمز- وهو يفيد بأن ثمة أهلي سنة: أهلاً يحاورهم "الدفاع الشعبي" أو العلوي و"المسيحي" بعد حصارهم سنتين وآخر "وهابياً" لا يحاوَر- على "إشارات تغيير" ترسلها "أميركا والغرب، بعد ان "صار الارهابي في عقر دارهم: ثمة أميركي فجر نفسه على الاراضي السورية، وثمة فرنسي من اصل مغاربي قتل يهوداً في كنيس في بروكسل".
 ويكاد يكون تقرير الوقائع المفترض مفتاحاً يفتح شفرة تعاطي الرئيس السوري المثلث الولايات (مع) الحوادث وتأويله لها: لا تغير أميركا وأوروبا سياستها العدوانية بالسليقة والفطرة في شأن سوريا و"خيار المقاومة" الواحد إلا إذا مسّها مس "القاعدة" وإرهابها؛ وغداة سقوط 230 الف قتيل واعتقال 258260 معتقلاً وفقد 99440 مفقوداً (عن "مركز دراسات الجمهورية الديموقراطية") "ثمة" أميركي مسلم واحد، عداً ونقداً، قتل نفسه في عقر دار سوريا، ولكن الرئيس المثلث يرى انه في عقر "دارهم"، و"ثمة" فرنسي واحد عائد من سوريا، حيث لم يبق ثمة يهود، قتل يهوديين اثنين يلمح إعلام الاخوانيين الى انهما عميلا "الموساد" شأن رهائن الخليل، ببروكسيل. وهذه قرائن مروعة ومخيفة جداً على "المركزية الغربية": قتيلان اسلاميان يقومان عدل أو نظير أو كفء الآلاف المؤلفة من "المحليين الوطنيين"، على ما كانت دوائر الاول الاستعمارية والاستشراقية تسميهم. ولكنه ثمن لا غنى عنه في سبيل صيرورة الارهاب في "عقر دارهم"، وحملهم على ان "يبدأوا يرسلون إشارات تغيير" في عبارة الرجل الفصيحة. ويستشرف الرئيس "الجديد" مدة ولاية ثالثة (7 سنين قحط،على عددها في رؤيا فرعون التي فسرها يوسف بن اسرائيل)، وربما رابعة، يستثمر فيها بدء الاشارات، ويحولها ذهباً استخبارياً صافياً، ومساعدات وهبات اقتصادية، وأحلافاً إقليمية متوسطية، ودعوات الى استعراضات عسكرية...
أمداء مشرقية
 وعلى وقع الغزوة التكفيرية وفتوحها الخاطفة – على مثال إسراء معكوس، ومن غير تشبيه او تمثيل- قامت مقارنات بلدانية استراتيجية وقصصية ملكية - شعبية محورها "اسد سوريا الكبرى" (على قول جان لاكوتور الفرنسي في 1976، وهو قول أغاظ ياسر عرفات فوق العقد من السنين)، من جهة، ونوري المالكي المسكين والضئيل، من جهة أخرى. فذهب صحافي آخر، ليس من قماشة الاول التقنية ولكن من قماشة نظرية أعلى كعباً قد تستلهم مهدي عامل الشيوعي الماركسي، الى انه "بينما تخوض الدولة السورية معارك طاحنة ضد التمرد الارهابي (لعله يقصد قصف مكاتب الرقة التي أخلتها "الدولة" غداة اسبوع على الغزوة [الكاتب]) في ما قبل المدى الداعشي، تقوم الدولة العراقية المفككة المستندة الى عصبية شيعية بلا مشروع باتباع استراتيجية استقطاع قبائلي سني ضد (داعش)، ولكنها تخسر في المنافسة لكونها لا تقترح مشروعاً وطنياً وانما استتباعاً لفروع قبلية على الطريقة الاميركية في انشاء ما عرف بـ(الصحوات)..." ("الاخبار" نفسها بقلم ناهض حتر). واطار المقالة زلازل ايديولوجية وقومية وقبائلية ودولية وبلدانية واجتماعية في الامداء المشرقية العريضة.
 وتخلص المقارنة الى خفة كفة المالكي في الميزان وحط (طبش) كفة الاسد، على ما مر للتو. وغداة أسبوع تقريباً على المقارنة هذه، يستأنف المعلق في الصحيفة ما سبق ان خلص إليه:" داخل العشائر (العراقية) نفسها انقسامات تنذر بتفتيت التمرد الذي أعطته داعش صورتها الاجرامية، بل وسرعان ما جرت الترتيبات لإقامة قوة عسكرية من شمر للسيطرة على حدود اليعربية ضد داعش وسواهم من المتمردين، وكما هو معروف، لدى دمشق نفوذ تقليدي وسط القبائل اهتز وقتاً، لكن التطورات الايجابية، داخل سوريا، تسترده، وسيكون ذلك أساسياً في أي حل للأزمة العراقية" ("الاخبار" 17 حزيران، وفي الاثناء نبه بعضهم البلداني الى سقوط حلف شمَّر من لائحة قبائله ومتحداته، وقد ينبه الى الرولة في تعليق حاسم آت).
 وقد يكون هذا "سر" الاسد الثاني بعد الاول، وعلة "هدوئه الاسطوري" ودقة تحليله الاستراتيجي، على الدوام. فهو، رجل الدولة الواحدة الفولاذي، يعول على نفوذه في صفوف عشائر تترجح ولاءاتها الكثيرة، المتزامنة والمتعاقبة، بين أجهزة دول ومنظمات ومصادر تمويل. والحق أن بين العشائر وبين المنظمات الجهادية، الارهابية وغير الارهابية، نزاع حاد وعصي على الحسم: فغالباً ما تتهم المنظمات "الجهادية" العشائر وشيوخها بالهوى العصبي والميل الى "القوة" المركزية الوطنية أو المحتلة، وتعالج الهوى والميل، بالاغتيالات. وتنزع المنظمات المقاتلة الى "توحيد" الشطور العشائرية بالقوة واللين؛ على ما حصل أخيراً في درعا نفسها. وانقلاب الكتائب السورية المقاتلة من "الجيش الحر"، وغيره من التشكيلات "المعتدلة" الى كتائب اسلامية، ليس مرده الى المساعدات، على اصنافها، وحدها، وبعضه يعود الى غلبة المنزع العصبي المفتِّت على جنود "جيش عقائدي" قتل فيهم مَلَكة الرأي والحكم السياسيين والفرديين.
ومَشَت "الدولة الاسلامية" المزعومة، وقبلها "جبهة النصرة" التي أطلقت اجهزة الرئيس المثلث قادتها من سجونها الخاصة، في الشمال الشرقي وأطرافه المركبة سكاناً والمتنازعة، بين تركيا المتذبذبة وبين العراق المتناحر والممزق. وطيلة سنة ونصف السنة، وسع أجهزة "الجمهورية العربية السورية" رشوة عشائر شرق حلب، أو شيوخها، بالسيارات ورزم أوراق المئة دولار، وحالت بينها وبين الانضمام المتعثر الى المعارضة و"حركاتها". ووقعت معركة حلب، في صيف 2012، حين قصَّرت الرشوة عن المدد والدوام، ونافستها رشى أخرى مصدرها مواطن بعض الاحلاف الاصلية في حائل والجزيرة العراقية، وانهار ولاء القوات المسلحة، وانفجر الخلاف التركي الاسدي على نحو يصعب رأبه. والى القوم العشائري، توسلت سياسة أجهزة "الدولة" السورية بكرد غرب كردستان السوري. وهم أو معظمهم أنصار "العمال الكردستاني" الاوجلاني الذي آواه الجهاز الاسدي بدمشق، وعلى الاخص في البقاع اللبناني قبل ان يضطر الى إخلائه بالحسنى على قول صالح مسلم، وتركه طريدة بيد الامن التركي والموساد الاسرائيلي، غداة اتفاق أضنة في 1998 وإذعان الحكم العربي السوري الى بنودها المهينة (قياساً على عروبة الجهاز الحاكم الهوامية والخطابية). وعادت الاجهزة فاستردت "بعض" الكردستاني غداة القطيعة التركية. ونزلت قوات الجيش "العربي" واستخباراته للكرد "الغربيين" عن سيطرة مرقعة ومتناثرة على بعض المواقع في بلادهم. وأحجمت المعارضات السورية، السياسية والعسكرية، عن استمالة الكرد، والاقرار لهم بحقوق اتحادية، شخصية وادارية، ووطنية سياسية، برهنت التجارب والاختبارات على ضرورتها. فأقام الكرد، حيث سرح "الدولة الاسلامية" و"النصرة" وغلبة القوم العشائري، والحوار التركي والعراقي، على ترجيح بين هذه الجماعات والقوى.
صيف 2013
 وأبلت "الدولة" المزعومة في قتال الجماعات التي تناوئ أجهزة النظام أو تتحفظ عنها، من غير أن تطلق يدها في التمكين (في رطانة "الجهاديين"). وهي اتفق تألقها المفاجئ في صيف 2013، سنة بعد تألق "النصرة" وبعد مباشرة "حسم" استعادة حلب، مع انتشار عدوى الانهيارات العسكرية، واشتداد عود "النصرة" والتمهيد لـ"حرب" القلمون الحزب اللهية والعباسية، وظهور حاجة أردوغان "الغازي" الى مهادنة "الكردستاني" إبان ذر الخلاف مع حليفه "الامام" عبدالله غولن والخشية (الأسدية) من تقارب أنقرة والكردستاني. وفي صيف 2013، نجح الهروب الكبير، الهوليوودي، من أبوغريب، سجن المالكي الحصين والحصيف.  وقضت الحصافة المالكية بسجن 1200-1300 من اشرس ارهابيي "القاعدة في بلاد ما بين النهرين" (و"دولتها الاسلامية") وحليفها البعثي، عزت الدوري والنقشبندية المتصوفة على الطريقة البكتاشية وجيش الانكشارية في ذروة قوته، في سجن واحد. وهذا دعوة صريحة الى الهرب الواحد والمجتمع. وأدى تضافر هذه العوامل والحوادث، من غير الزعم ان "يدا خفية" واحدة ضفرتها الى بعض في هذا الوقت، الى بروز الطيف الارهابي "الجهادي"، واحتمال خلافته الارهاب الاستراتيجي النظامي، حقيقة لا يمارى في جوازها الواقعي. وهذه الحقيقة، وهي من انجاز سياسة متعمدة انتهجها بشار الاسد وناضل في سبيلها وفرضها على بعض مخالفيه في الحلقة الضيقة حوله، قادت الجنرال ديمبسي، قائد الاركان الاميركي، الى اشارته على الرئيس اوباما المتردد في الشطر الثاني من صيف 2013، في اعقاب قصف بشار الكيمائي الغوطة الشرقية، بترك قصف المرافق السورية لأن تحطيمها يعني حتماً انهيار "الدولة" الاسدية في الشام وأيلولة الخلافة، على المقدار نفسه من الحتم، الى الجماعات الارهابية و"الجهادية" المتألقة.
 وكان نوري المالكي يكابد، منذ أواخر 2011 – وانسحاب القوات الاميركية، وتغلغل النفوذ الايراني في أوصال الدولة والمجتمع العراقيين، وهذا ما يكنى عنه اختصاراً باسم قاسم سليماني وفيلق القدس- مشكلة معقدة، قياساً على "عالم" السياسة  الذي يتقلب هذا الصنف من السياسيين العرب والمسلمين بين أظهره. فهو تقدم على أقرانه الشيعة في 2006 جزاء قبوله نهجاً اميركياً قضى بالتخلص من "المتطرفين" الشيعة، وأنصار طهران وحرسها وباسيجها، بالقوة و"الصولة"، على لفظة اختارها المالكي شعاراً لحملته على "جيش المهدي". ونظير هذا الصنيع، على المقلب السني، استقطبت القوات الاميركية "الصحوات" على "جيوش الفاروق"، وقصمت بها ظهر الخلايلة الزرقاوي وحلفائه البعثيين والنقشبندية الذين كانت الاراضي السورية في أيام العز الاسدية ملاذهم وخطوطهم الخلفية.
 وعلى الوجهين، قصَّر المالكي ولم يحرز زعامة أو رئاسة شيعية غير مدافعة، على نحو ما لم يحرز زعامة "عراقوية"، على ما كان يقال في الضباط غير العروبيين حتى 1963 ومقتل عبد الكريم قاسم على السنة و"أبناء العشائر"، وبالأحرى الكرد. وهو اتقى، بالتنصل من هؤلاء والتضييق عليهم، تهمة تملقهم، والسير في معاملتهم على خطى الاميركيين. فاحتاج الى تأليب السنة عليه في سبيل توحيد الشيعة وراءه. ولم يكن السنة، سياسيين و"أبناء عشائر" ومشايخ عشائر ومشايخ معممين أو علماء وجماعات "جهادية"، متماسكين منذ انخراطهم السياسي في 2009. وغلبت المهادنة على سياسييهم وجمهورهم وناشطيهم، على ما لا يرغب المالكي. وعندما بادر الجمهور السني في الرمادي والحويجة، مطلع 2013، الى التجمهر والاعتصام السلميين، وطالب بالوظائف والتعويض عن نتائج الانشقاق عن "الجهاديين" والعفو عن شطر من الاهل سبق تورطه في الارهاب، وبحصة من عوائد الدولة وريوعها وتوزيعها الاستثمارات والمناصب والعمولات السخية، انتهز المالكي الفرصة. وأراد شق الجمهور، فـ"صال" على شطر منه في الحويجة، وأوقع مئات القتلى في صفوفه، وطارد قياداته السياسية الاهلية والدينية، وحمل بعضها على الهرب وسجن بعضاً آخر، وأبقى في الاعتقال بعضاً ثالثاً، وصادر الوزراء السنة والشيعة من غير انصاره على صلاحياتهم. فرمى عمداً في احضان "الجهاديين" جزءاً من الجمهور السني. وبدا هؤلاء، "الجهاديون"، "ملاذ أبناء العشائر والمحامين عنهم وعن "أعراضهم"، على ما تسرع الجماعات الاسلامية أو جماعات المسلمين الى القول في كل مرة يجنح الخلاف الى التفاقم. ومن استمالهم من هذا الجمهور ماطلهم ما وعدهم به، وأثار الشبهات حولهم وعرَّض بهم، وجعلهم عبرة لسواهم من الذين قد يتبعونهم الى موالاة الرجل.
الحاجز المائع
 فتجدد خلط السنة عموماً، و"أبناء العشائر" على الاخص، بالجماعات "الجهادية" المسلحة والمنظمة، والوثيقة الصلة بالمتبرعين والدعاة والجماعات المناوئة للدول والمتطوعين الاسلاميين أجهزة الاستخبارات التي كانت عوناً لها حين كانت تقاتل الاميركيين والشيعة معاً (وهي أقامت على ارهاب هؤلاء بعد جلاء الاولين). والاجهزة السورية تتصدر المساندين والمُلجئين لقاء "عمولة" سياسية وعسكرية وفي بعض الاحيان مادية. وكان عسيراً على عموم أهل السنة في العراق أن يرفعوا حاجزاً صفيقاً بينهم ، أو بين سوادهم وجمهورهم وبين جماعات منهم، اسلامية محلية واسلامية أجنبية وعراقية قومية وبعثية، اضطلعت بالشطر الاكبر من قتال الاميركيين وحلفائهم، وكان لها الدور الاول في تكبيدهم الخسائر التي قادتهم الى الانسحاب. وحين انسلخ الجمهور، وتبعه السياسيون، من مساندة ارهاب "إخوانهم" وتنصلوا من مواطأتهم- وهؤلاء، على شاكلة الخلايلة الزرقاوي، أثخنوا فيهم وفي أهلهم مقدار ما أثخنوا في عدوهم الاهلي "الصفوي" و"الرافضي"- وأتاحوا بعض الاستقرار للعراق، ومهدوا الطريق الى الجلاء الاميركي، لم يبادر الجمهور الشيعي الى مصالحة وطنية عامة، ولم يقطع الطريق على تغلغل الارهاب في الجمهور السني. وانقسم طاقمهم على نفسه. فبقيت نوايا مقتدى الصدر وعزائمه التوحيدية أسيرة أهواء عامية وثأرية مذهبية عجز الصدر عن كبحها بعد أن غذاها، وعوَّل عليها. وانكفأ المجلس الاعلى الى دور ملحق بطهران، بعد أن خسر في أعوام قليلة جيلين من قياداته المجربة. واعتصمت المرجعية بالنصح المتعالي والمشورة اللفظية، وبعض المراجع أشد غلواً مذهبياً وحرفياً من كثرة المقلدين. وفتوى الجهاد الكفائي، في انتظار الجهاد العيني، قرينة ربما على فشو ولاية الفقيه في عروق عصبية متخشبة.
 فخلت الساحة للحليفين الاقليمين المتكاتفين والمنقسمين في شأن العراق وعليه، سوريا وإيران. ونفوذ السلطتين والطاقمين في البلد الذي يجر أثقال عقود من التسلط البعثي والحروب الداخلية والخارجية ينهض على ركائز مختلفة ومتضاربة، وينزع الى غايات يصعب التوفيق بينها. فطهران الخمينية تحمل العراق على شطرين متضادين: شطر شيعي خالص وتابع ومنتزع من دائرته التاريخية والجغرافية و"محرر" منها، وشطر سني مناوئ ومتسلط على الشطر "الصديق" والمنقاد (والشطر الكردي شوكة في الحلق قد لا تقتلع أبداً). وتعزو طهران الخلاف الداخلي الى منازعة اقليمية، وهي ترى حلَّها في بسط سيطرتها العسكرية الساحقة، على ما يحسب حرسيوها وآياتها على اقاليم الغرب العربي، ويصدع بها الشمال التركي والشرق الأسيوي ومعسكرات ما كان استكباراً ظالماً. وسوريا "العروبة" جزء من الغرب ومن التغريبة الملحمية. ونفوذها في المحافظات السنية مصدره البعيد عروبة عرقية وبلدانية (جغرافية) صحراوية، ومصدره القريب إيواؤها مقاومة الاحتلال الاميركي لذي مكَّن الامر لسيطرة الشيعة على بغداد، وحماية بعض الجماعات المقاتلة وتيسير معاملاتها المالية وانتقال المتطوعين العرب والاجانب الى ألويتها.
 ويدخل هذا في سياسة جمع الاوراق التي تنتهجها "العصابة" في سياستها الاقليمية. فالنفوذ المكتسب في الجماعات والمنظمات و"الشخصيات"، في ظروف الحرب والفوضى وانقلاب الجبهات والتجارات المتفرقة، سُلّم الضباط والقيادات الى الاستعمالات المزدوجة والمثلثة، والى تحول الادوار ولبوس أصحاب الاقنعة غير المتوقعة. وعلى هذا فلا شك في حيازة الاجهزة الاسدية نفوذاً قوياً في قيادات "الدولة الاسلامية" على جبهتي الحدود العراقية – السورية، من مقاتلين "جهاديين" ومساجين سابقين محررين وضباط صداميين. ونفوذ الاجهزة في المجالس العسكرية، العشائرية و"الجهادية" المختلطة، وفي متصوفة النقشبندية العرب والكرد، لا يرقى اليه شك. ويبدو انهيار القوات العراقية في نينوى (الموصل) وصلاح الدين (تكريت)، وتسليم الضباط والرتباء الامر والسلاح الى المهاجمين، أثراً من آثار هذا النفوذ وأوجهه وأقنعته الكثيرة. فلماذا يقاتل الضباط والرتباء "إخوة" لهم، قربتهم اليهم العصبيات القديمة الغالبة والمغلوبة، وسياسة الادارة المتسلطة الجديدة، والمظلومية الواقعة عليهم، والاعتصامات المغدورة...؟ وهذا لا يجهله الغزاة، وتعلمه أجهزة الاسد المثلث بعلم عميق، واختبره الجيش العراقي و"ثوار العشائر" أو "أبناؤها" طيلة نصف السنة المنصرم في ضواحي الفلوجة والرمادي. وكلهم يعرف أن كرد العراق لن يتخطوا حدود كردستان الى ما وراء الارض المتنازعة، ولن يقاتلوا عن طاقم حاكم ينكر عليهم حقوقاً سياسية واقليمية وعوائد يرونها ثمناً زهيداً لما ألحقه فيهم العراق العربي والموحد من كوارث وآلام.
وعليه، جاز افتراض ان الغزوة الانبارية تؤجج الخلافات في اوساط المعارضات السورية، وقد تقوّي "الدولة الاسلامية" موقتاً قبل أن تستنفد قواها وقوى من يقاتلها. وفي الاحوال كلها، تدمغ الغزوة الجماعة "الجهادية" المتصدرة على بعض جبهات سوريا الطرفية والداخلية بدمغة الارهاب الاقليمي، وتحقق "نبوءة" بشار الاسد وتوقعه تفشي "التكفيريين الوهابيين" في المشرق العربي كله، وطلبه "تغيير" معاملته. وتحقق من وجه آخر، تهمة جمهور سنة العراق وسياسييهم بمواطأة "الجهاديين" والمؤامرة على وحدة العراق وسلطته المشروعة والمنتخبة لتوها وجيشه "الغالي". وتجدد وصمهم بالولاء "الاميركي"، وتمحو دورهم في إجلاء الاحتلال، واطفاء الاضطراب الاهلي. وتمنح سياسة نوري المالكي، في صيغتها الحرسية السليمانية، مسوغاً داهماً، وتحلق حوله معظم خصومه الشيعة وجمهورهم الذهبي المتطرف، وتفض عنه الجمهور السني الذي تحتضنه اجهزة "العصابة"، ويفزع بعضه الى رعاية اقليمية قريبة وموصوفة. وتدعو القوى الدولية الغربية الى النصيحة بالصبر على المالكي، على رغم تعنته وانفراده. فتجني سياسة جمع الاوراق "السورية" موقعاً عراقياً تفاوض منه دول الجوار المعنية، وفيها ايران نفسها، القوى الدولية. وتجني طهران الحرسية تعاظم احتياج الوزير الاول والنافذ الى بركتها، وتطويعها خصومه ومنافسيه والمتحفظين عنه، لقاء انقياده الى خصوماتها الاقليمية والدولية الكثيرة والمتجددة. فإذا لم ينفجر هكذا عراق- وما قد يحول دون انفجاره تجديد نظام اقليمي ودولي تنخرط في تعريفه القوى الدولية كلها، الناشئة والعريقة والعائدة، ويحول دون تداعيات ثقيلة على دوائر الجوار الواسعة- استقرت وحدته الركيكة على صيغة ائتلافية ضعيفة تقوي سيطرة الاطراف الراعية على الاقاليم الثلاثة واقوامها وشعوبها، وتبعد احتمال دولة متماسكة على حوض النفط الاعظم وعقدة الحدود بين عوالم "اضداد":  الفرس والعرب، الفرس والترك، الترك والعرب، المشرق العربي المتوسطي وشبه جزيرة العرب، السنة والشيعة، المشيخات والانظمة "العامية"، دائرة سكن كثيف ودائرة سكن مبعثرة، وشعوب وقبائل لا تميل الى التعارف مقدار ميلها الى التقاتل.


الأحد، 1 يونيو 2014

حكاية ضغائن سيّارة





المستقبل الاحد 1/6/2014

لم يبدُ سائق سيارة التويوتا لاريس العمومية السوداء حين تمهل، مستجيباً طلبي إليه التوقف ليسمع اسم الوجهة التي أقصدها ويرى إذا كانت من مقاصده المزمعة أم لا، نابياً أو مختلفاً عن العاملين مثله في مهنة السواقة اللجبة ببيروت. فهو مثل معظمهم يرمق راكب سيارة الأجرة الجديد قبل ان يستقر هذا بمقعده، ويغلق الباب وراءه إيذاناً بانطلاق المركبة والآلية ورضا السائق والمسافر بشروط السفر، بنظرة تتفاوت حدة تفحصها الغريب من غير تخليها في الأحوال كلها عن الاستقبال المتفحص. وبينما يلزم معظم السواقين «الشباب»، وهم من لم يبلغوا الثلاثين أو بلغوها لتوهم، الصمت في أثناء «صعود» الراكب واستقراره وغلقه باب السيارة، فيقيمون على غيابهم ساهمين او يقصرون النظر والاستعانة على صدوع قليل ومهذب، يمعن المسنون والشيوخ النظر.

وقد لا يتكتمون على ضيقهم ببطء الوافد، أو على فضولهم الذي حفزته ملاحظة عليه أو يتمون المحادثة التي كان وقوفه على ناحية الطريق ابتداءها. ومذاهب هذه البدايات شتى. فقد تقود الى مباسطة في الحديث، او الى صمت ثقيل أو خفيف، والى مزاح ينقطع او يتصل.

وسائق سيارة التويوتا في ظهر 17 ايار المنصرم، وكان يوم سبت، أشيب الشعر وغزيره، يشبه على ما لاحظت من بعد الأخضر الابراهيمي، الوسيط الدولي والعربي السابق في المعمعة السورية المتمادية والمستقيل من وساطته عشية اليوم العتيد. وهو مثله، أو مثلما كان قبل أن ينوء بالوساطات الأهلية الكثيرة التي حملها وزعم ان عسرها لا يثني «صبره» عن احتمالها ولا «يستنفده«، وعلى خلاف الديبلوماسي الجزائري والدولي الدمث والمطمئن، بادر صاحبي الى الاحتجاج على سؤالي إياه عن رسم سيره الى الروشة وقصده اياها من غير التواء كثير. وهو اجاب سؤالي عن قصد الروشة بطلب اجرة محلين او راكبين. فقال، وهو يمج سيجارة بين السبابة والوسطى ويكاد يلتصق بالمقود ويحاول تمييز الراكب المحتمل ممن لا رجاء منه «منروح ع الدعبول (موقف سيارات) ومنه الى بداية قريطم ونشك على نصر الروشة.. بعدو نصر؟ ليش في طريق غيرها؟«.

فانتبهت الى ان مسافرة سبقتني الى الجلوس على المقعد الخلفي، وانتحت زاوية وراء السائق، وأدركت وجودها من غير تقريره او تخصيصه بنظرة او قول. وأردت القول ان نصراً، الاسم ومرجع المطعم الذي كان بهذا الموقع، مضى وحلت محله اسماء وشارات أخرى. وقلت هذا من غير ان يقطع قولي احتجاجه او يحرفه عن غايته. وهممت بالقول ان خطة سيره ليست الوحيدة الجائزة من الموضع الذي نحن فيه، وهو شارع الجزائر بمحلة كركول الدروز، على ما تُعرف على رغم نعي رأس اعيان القوم بالمحلة. ولم أتم ما هممت به لما احتسبت التواءه وتعقيده في معرض لا يحتمل لا هذا ولا ذاك. فسكت على بعض مضض. وكان السائق انعطف الى الطريق العريضة المفضية الى «كاراج دعبول»، وقبل ان يبلغه طلبت المسافرة الخلفية بنبرة لا تخلو من إلحاح، النزول «على اليمين«. وكررت الطلب والالحاح بينما الرجل يسوق يسارا والجهة اليمنى من الطريق تتسابق عليها سيارات كثيرة وتزدحم فيها. فدارى لجلجة في حلقه لم يقو على اخراجها، وهو محشور بين قيادة السيارة الى اليمين وبين استعجال المسافرة الملحة والآمرة النزول حيث تريد.

وغادرت المرأة الفتية (صوتا) السيارة من غير شكر. ورجع هو في رغبته ربما في الثأر من نبرتها والكلام فيها وعليها. فاستأنف سيره، وانعطف الى اليسار صوب فردان، محطته قبل قريطم، وهو على بعض حنقه المنحسر، وعلى التصاقه بالمقود ونظرة المتحفز. وحين أدار رأسه إلى جهتي، رأيت صفحة وجهه أو معظمها وعينيه الملونتين اليقظتين والمحتقنتين دماً، وتكشف فمه عن شفتين رقيقتين وعن اسنان برتها السنون والتبغ والحوامض، وابتدأ قوله المعاد ان لا طريق اخرى إلى الروشة غير التي يسلكها، أبصر على الرصيف القريب امرأة عليها او على وقوفها المنتظر مخايل راكبة جائزة. فمال صوبها بمقوده وجسمه وسألها: «لوين؟«. فأجابت المرأة الثابتة في لباس اشبه بالعباءة فوق ثوب اسود حول قبته تطريز قليل بخيط اخضر من غير ان تلتفت أو تحول عن عبارة وجهها الأسمر الداكن والعريض الخدين والمترفع على خشية، «ع خلدة». فاستعاد الرجل كل ما مال به لتوه. وتجدد بحثه المتحفز عن ركاب في طي مشاة.

ولم تظهر عليه الخيبة. فهو ربما حدس في سمت المرأة القريب من بداوة لا تخفى على الجوالين ومتصفحي الوجوه والوقفات والمشيات من أمثاله. وعقب على جواب المرأة، وتلفظها باسم مقصدها البعيد بل النائي، وفوق الأمرين عقب على الوجه العاتب واليائس أو المرير بعض الشيء. فقال: «ليش شايفي حالها» من غير صيغة السؤال، وعيناه تجوبان يمين الطريق والأرصفة. وحين مرور المركبة بمبنى الكونكورد ثم بمقهى ليناز، وأمنت دخولها مسرباً من مسارب الطرق، اخرجت من كيس البلاستيك الذي أودعته بعض أشيائي صحيفة فرنسية يومية حملتها معي تداركاً لتأخر الصاحب الذي أنا ذاهب لملاقاته في المقهى. وتصفحتُ عناوين الصفحة الأولى، والخبر عن مهرجان كان السينمائي يتوسطها. ولم تفتني وأنا في حالي هذه ملاحظة السائق على المرأة «الشايفي حالها»، على خلاف قوي من شعوري. وأردت إعلان مخالفتي وابلاغها إليه، وهو افتأت علي حين زعم ضمناً ان سؤالي عن رسم طريقه الى الروشة من غير مسوغ، ولا ينم الا بجهلي أو شكوكي النافلة. وأراد، على ما حدست ولو لم يفعل، إحراج المرأة أو الصبية التي كانت قبلي في السيارة، واضطرت الى مخاطبته بنبرة آمرة ليصدع بطلبها النزول إلى يمين الطريق وعلى مقربة من كاراج الدعبول.

فقلت غير راغب حقيقة في المناقضة، جاهراً مخالفتي، وأنا أهم بقلب الصفحة الأولى من الصحيفة: «وين شايفة حالها؟ المسكينة عم تعتذر وهيي مستحيي». فردد في ما يشبه سره، وهو ساهم وفاتر اليقظة والانتباه الى سرح بصره، «مستحيي.. مستحيي». وخرج من خفوته وفتوره، بينما أنا اقلب صفحات الصحيفة وألقى عليها نظرة تعرف، وقال: «هاي جرايد برا، شو في أخبار عن بلادي؟». فقلت حائراً ومتملصاً: «هول بيهتمو بالسينما». وهو وقعت عيناه على صورة نيكول كيدمان، غرايس كيلي في فيلمها بكان، في صدر الصفحة الأولى. فعلق: «إي! هني همّن السينما». ولم يكد يصمت، أو يعلق كلامه بعضاً من ثانية، وظننت برهة خاطفة انني تخلصت من المحادثة واطمأن هو الى يقينه بتفاهة برا وجرايده، حتى أتم جملته التي خلتها تامة: «.... ونحنا بتعتيرنا». وحسبت ان قراءة الصحيفة الفرنسية اليومية تقضي علي برفع ظلم التهمة التي يسوقها السائق الظالم والمفتئت للصحيفة، بعد سوقه التهم الي وللراكبة الأخرى وللمرأة القاصدة خلدة. فأجبت أنهم يهتمون بغير السينما.

وكنت بلغت في تصفحي الصفحة الثالثة، وتتناول مقالتها الأولى والعريضة عرض الصفحة كلها، القصف المدفعي وآثاره في المدن السورية. وفي وسط المقالة صورة لمبنى مستشفى (مشفى) الشفاء في حلب وهو متداع ومشطوف الواجهة من اعلاها الى طبقتها الارضية، وعلى جهتيه وفي مقابلته هياكل ابنية خاوية جردها الحريق من لحمها، مما بدا لحماً بعد جرده وذوائه، وفقئت عيونها، وأخرجت أحشاؤها وبددت في عراء السماء والأرض معاً، ورحلت عنها ابوابها ونوافذها وسقوفها، وبقيت هياكل الأبنية واقفة على جهتي طريق ضيقة ومليئة بالركام والانقاض، معلقة بين أفق أخرس وواجم وبين عتمة متكتلة ومتكورة على نفسها في مطلع الصورة الفوتوغرافية وابتدائها. «هيدا مقال عن حلب، هيدا مستشفى حلب». وكانت السيارة دخلت محلة الصنوبرة، بازاء مبنى ضخم ينسب ملكه الى بهاء الحريري، وشارفت كورنيش قريطم. ووسع السائق اثبات الصورة، وهو على خلاف الابراهيمي من غير نظارات، وتمييز المستشفى، أو هذا ما خلته. وعلق على ما رأى، أو على ما أخبرته انا به، وقال: «وعم يقولو انو الاسد دمر المستشفى». وهذه المهمة كذلك لم يسأل.

فرأيت نفسي مرتبكاً ومتورطاً، ولم أرد ذلك. فأنا أردت تبرئة ذمة الصحيفة، وقومها، من خفة الاهتمام بالسينما وحدها، واغفالها «تعتيرنا»، على قوله. ولم أشأ التحكيم في المسؤولية عن الموت المخيم على شارع يقع فيه المسمى مستشفى الشفاء، والمنقلب اضعف من نعش واقل حيلة من قبر. وتلعثمت على عتبة جواب لم افكر فيه، وقادني اليه انفعال عكسي وآلي. فقلت، متستراً بما خلته حياداً أو تقريراً: «هيئتو القصف من فوق، من الجو، بالطيران، واللي عندو طيران هوي...» طبعاً وبداهة.. «الاسد«، لو لم يسبقني الرجل، من غير أن يغادر قعوده المتحفز تصفحه المشاة على الناصية المستقيمة والمديدة، ويعلل قوله، ويسنده الى احتجاج عريض: «لما هولي بيقتلو بسيارات انتحاريي بشو بدو يقاتلن؟ بخراطيم مي؟ ـ يا محلى الكحل بعيونكن؟ المجرمين..«. قطعت قوله على جاري عادة او قاعدة في المناقشة تنص على وجوب الاستحواذ على الكلام، وقطع دابر الجواب في الأحوال كلها. وحين فعلت هذا لم افكر في ما يحسن بي أن أفعل أو ما عليّ أن أفعل. فكلامه الحاضر والمتأهب من غير تردد على «الانتحاريي» و»المجرمين» و»حق» صاحبهم في القتل والدمار بالطيران، وقصف المستشفيات، ومحق المدن وجعلها خرائب محروقة بالكبريت والحامض، أصابني بهلع كاد أن يكون عصبياً.

ولم أفطن لحظتذاك الى أن مكلمي بهذا الكلام يداري، بدوره هلعاً ليس أقل ثقلاً من هلعي. فأنا تراءى لي حين قال ما قال أنني خسرت الضحايا الذين لم أعرفهم، أولئك الذين عرّفتهم الأخبار والصور والأغاني والأناشيد والأشرطة على اليوتيوب والمقالات وبعض الأحاديث القليلة مع سوريين في سهرات هاربة تنتهي بمواعيد لا يلتزمها أحد، اذا سأل الواحد أصحاب انعقادها عن اسم من أسماء الساهرين اجيب بجهل الأصحاب بمصائر هذا الساهر أو ذاك. وهؤلاء الضحايا ائتلفت قسماتهم المرئية والمعنوية من وجوه قتلى مسجّين في أكفان هي، في أكثر الأحوال، ثيابهم العادية، وربما كُللت الوجوه والرؤوس بغطاء رأس أسود أو أبيض، فأقر الوجه النائم والساكن على سكينة ومهابة منورتين وملائكيتين. وبعض الضحايا هم ترديد صدى أناس قلائل عرفتهم في زمن سابق، خرجوا من السجون وهم يقولون مشافهة وفي رسائلهم: «أحوالنا على العموم بخير وعسى أن تكونوا بخير»، ولا يزالون يكتبون أنهم بخير «على العموم» بعد أن تهدمت منازلهم، وهجروا منها، وسافر من قدر من الاولاد على السفر، وتفرق الأصدقاء... هؤلاء وغيرهم مثلهم هم «انتحاريي» صاحبي العارض، و»المجرمين» القتلة، الذين يحل قتلهم وقصف مستشفياتهم وبيوتهم وشوارع مدنهم فتبقى منها أجسام المباني العظمية وسقوفها وأبوابها ونوافذها الضريرة، وحطامها المترمد، وذاكرتها الهاذية والرتيبة.

والخسارة الجسيمة والمباشرة، الناجمة عن حمل الحوادث السورية على «انتحاريي» و»مجرمين» وعلى «حق» عام في التدمير، غير مقيد، جواباً عن فعلة هؤلاء، تودي بما هو أعظم من صورة الضحايا ومن شواهد وشهود على عمومية وحقيقة رغبات سورية في الرشد والاحترام والمساواة. والأعظم هو اختباري أنا فلان الفلاني، واختبارنا (نحن اللبنانيين)، حوالى 30 سنة احتلالاً مهيناً، ومسرحياً مضحكاً، يفوق أي احتلال آخر قبحاً ومسخرة وقرفاً. فالانكار على السوريين حقيقة أو رجاحة ما دعاهم، أو دعا من أسرعوا منهم وربما وسعهم أن يكونوا الكثرة لو نزل الحاكم على حقوق المواطنية وامتلكوا الشجاعة النادرة يومها، إلى القيام على جماعة حاكمة سلطانها على الناس قدر لا راد له ولا مفاوضة على إطلاقه؛ هذا الانكار يضمر أو يعلن رأياً في اختبار اللبنانيين الاحتلال السوري الأسود.

ومفاد هذا الرأي أننا لم نختبر طيلة 3 عقود مديدة، هي نصف أعمار معظم من لا يزال على قيد الحياة أو أكثر، شيئاً كريهاً وممضاً غير غارات إسرائيلية قاتلة، وعدوان واحتلال يهوديين، وتهجير «طائفي» مسيحي، وفصل احتلال أميركي هزمناه (هزموه)... وما عدا هذا هو بعض متفرعات هذا وحواشيه. أو هو قيام على أنانية المارونية السياسية وغبنها وغبائها وصليبيتها الأصيلة، وانتصار للأخوة الفلسطينيين المظلومين وللعروبة البيضاء. وهذا رأي ينفي أحوالاً ووقائع كثيرة ليس أقلها شأناً اندماج الهوية الذاتية والأصيلة المفترضة، العثمانية الإسلامية، أو العروبية الدموية والإمبراطورية، في نظم سياسية واجتماعية و»ثقافية» عقيمة وقاهرة تفترض معاصرة عوالم ودوائر وعلاقات (دولاً ومواصلات وعلوماً وإنتاجاً وسلعاً وتوزيعاً وأسواقاً..) لم تعد قائمة منذ زمن «سحيق«. واندماج الهويات أي الهوية الواحدة الأصلية في نظم اجتماع وسياسة سلطانية، هاصرة وخاوية لم يبق شأناً عارضاً، وهو ليس شأناً شاذاً ولا خصوصياً. إلا أن ما جعله حاجزاً تاريخياً صاداً ومدمراً، ومقبرة إرادات، هو رفض الجمهور، جماعات ونخباً، فك الهويات من النظم السلطانية ومراتبها ومثالات توحيدها السياسية والاجتماعية القاصمة، أولاً، ثم استغراق الجمهور في حمل الهويات على هوام صوفي وسحري يغشى الجماعات ويحلها، كلاً وفرداً فرداً، في أجسام مرصوصة وملكية تداوي «مرض« الحياة وتدفع الموت بالموت. ورفض فك الهويات من النظم السلطانية والاستغراق في هوامها الصوفي والسحري يمحوان إمكان أو جواز إنشاء صور مركبة وربما مؤتلفة أو جامعة عن تواريخنا ولتواريخنا. فتتسع بعض هذه الصور لاختبار اللبنانيين النير السوري الأسدي، ولاستعادة العقود السود والمريرة على صورة قريبة من تلك التي خبرها لبنانيون كثر: إذلالاً وتذريراً وتمويهاً وكذباً وفظاظة وسرقة وإفقاراً وإرهاباً وشراء ويأساً واحتقاراً للنفس. وهذا كله تحت نظر محتل غاصب مزهو ومتشفٍ وخائف.

وأنا لم أثقل على سائق السيارة المستعجل، مثلي، بمثل هذه الآراء. ولا وسعني، والسيارة دخلت كورنيش قريطم وخلفت الصنوبرة إلى يمينها، تعقب الآراء. ولكن الشعور بالخسارة على جهتيها، السورية واللبنانية، جراء تلخيص السائق الصورة الفوتوغرافية على النحو الذي لخصها عليه، وخزني وخزاً حاداً وأوجعني، وطعن طعناً جارحاً في تذكري الثلاثين سنة «السورية»، وفي فهمي لها ولنفسي في أثنائها وتليتها، إلى اليوم.

ولم يغفل صاحبي، الكريه إذ ذاك كراهة لا تطاق، عن وقع قولته عليّ، وربما عن فظاعتها وهولها، وهو على يقين ثابت وقوي بصدقها. فأنا حاولت الرد بالقول إن هذا الدمار لا يقوى على إلحاقه إلا من لا يحصر ثأره بالإرهابيين، ويشمل به «الشعب السوري». ولا شك في أن محادثي لاحظ ارتباك جوابي، وضعف مناسبته الحال، و»دفاعيته». فانتقل إلى مرحلة ثانية وتالية من القول تقوم بتعليل المرحلة الأولى: «هني بيعرفو اللي عم يقولو إنن عم يقاتلو الأسد شو بيصير إذا راح الأسد؟...».

ـ «أكثر مما صار؟ مش هوي اللي عمل اللي عملو؟».

ـ «إنتو ما بتعرفو المجرمين شو بدن يعملو... بلشو بسوريا، وبس يخلصو من سوريا مكملين ع هون، ع لبنين، واللي مفكر حالو زامط غلطان...».

بدأ بإخراجي من المخاطَبين المتهمين بمشايعة «الإرهابيي« و»المجرمين»، ونسبني إلى أصحاب مقالة، «اللي عم يقولو». وصاحب الإخراج بعضُ اللين في القول، وميل إلى التعليم والشرح، وتعليل بالجهل وبالغفلة. وزاد التصاقه بالمقود، وفتر تعقبه الرصيف من غير أن ينقطع، وخيّم ما يشبه نذر ضجر على وجهه وجلوسه.

ـ «بتعرف فتح الإسلام؟ كيف فبركوهن وكيف فلتوهن ع طرابلس وع مخيم نهر البارد؟ هيك عم يعملو بسو...».

ـ «هول مش عِبرا. إنتو ما بتعرفو، أني بِعرف، إنن بس يخلصو من سوريا، وبعدما خلصو من العراق واليمن، جايين لهون، تينـ.... نسوانّا ويدبحو رجالنا وولادنا ويحرقو بيوتنا...».

ـ «وين شايف إنن قادرين... هلي عملو بالضاحية والسفارة...».

ـ «معو حق حزب الله يآتل بسوريا، ولولا إنو قتلن هونيك كانوا نسوان الكل نتا.... إنتو ما بتعرفو، مبلشين بالعراق وبعدين على سوريا، وبس يخلصو جايي الدور هون على نسوانّا...».

ينبغي أن أقر بأنني لم أنتبه يوماً إلى مسألة «نسوانّا» هذه، وعلى النحو الذي يرعب السائق. وعندما توالت السيارات المفخخة في بير العبد والرويس والحي «الإيراني» وحارة حريك وغيرها، برزت مسألة «حياتنا» أو «دمنا»، والخوف مما يتهددهما. وها هو الرجل العادي يمحض بشار الأسد و»الحزب»، على ما يقولون من غير حاجة إلى الإيضاح، الحق في «الدمار الشامل» والماحق بذريعة طوفان وشيك يودي بالنساء وبحيائهن. وهو لا ينكر، شأن علمانِّي أو ملحد كافر، على «الانتحاريي» و»المجرمين» الجهاديين معاملتهم النساء، وفرضهم عليهن الحجاب أو البرقع، وإعمالهم في قصاصهن الحدود أو الجلد والرجم والقطع والتعذيب. فهذا مما يفعله أصحابه حيث هم الحكام والأسياد. وهو، الحليق الوجه ولابس الثياب الملونة والفاتحة والطلق اللسان في التسمية بأسماء مباشرة و»زفرة»، لا يبدو متمسكاً بـ»خط« بعض أصحابه الواجمين والمتقبضين وغائري العينين والمنجذبين إلى أخبار وتعليقات إذاعة النور أو إلى الأدعية والمجالس المسجلة. وهو رغم الفرق بين تماسكه وتوازنه، وهو يقول ما يقوله، وبين الهول المادي والمعنوي الذي ينم به قوله ويلهج به وكأنه حكاية الطوفان الجديد، فهو لم يبدُ ممثلاً أو مصطنعاً المشاعر والانفعالات التي يوحي بها قوله.

وهو لم يحتج بالإرهاب السياسي والديني، على معنى الفرض بالقوة والإرغام أو على معنى إيذاء الناس الآمنين أو المدنيين؛ ولم يحتج علناً بحرب المذاهب. وهو ربما حسبني من خارج المذهبين ومن خارج «الدين كله»؛ ولم يلوح بفظاعة الحرب وبآثارها العاصفة والمزلزلة في الناس وحياتهم وسكنهم. فقصد بقوله المتدفق، والمنطلق بقوة ذاتية مصدرها صوره وأخيلته وفجاجة ألفاظه، ثغرة في منطق محاوره أو مساجله لا علاج لهما. فهو أدخل المطارحة، والقول مثله، في لجة متلاطمة أشبه بغزوات المغول والتتار. وهذه أقوى وقعاً، وأفظع فعلاً من الغازات السامة وغارات النابالم وغيرها من الأسلحة البعيدة والعمومية. فللسبي وللقتل المتعمد بسلاح جارح يسفح دم القتيل، وينتظر الإجهاز عليه، ويُشهده على الاستيلاء على منزله ونسائه وأولاده، وينتزع منه قيامه من بيته ونسله مقام المصدر والرأس. لهذه في نفوس «أهلنا»، وفي رواياتهم وأخبارهم، أصداء لا يقاس هجومها العاصف بصور تتناول الشعب والدولة والجماعات عموماً. فانتهاك «نسوانّا» يغشّي على البصائر والصدور والأفهام، ويصيب الواحد، وهو ابن رجل وامرأة، في صلب كيانه وتعريفه وهويته، أي في لحمه ودمه وعظمه ومنيه ونسبه. فلا تفريق بين الواحد الفرد وبين جماعته، أو بينه وبين معايير دخوله في جماعته واستواء الجماعة واحدة ومتماسكة تعرّف آحادها بروابطهم، وتعرّف دنياهم بهم.

وحين بلغ صاحبي هذا الموضع من احتجاجه، وكنا وصلنا المنعطف الذي يلي سور الكوليج بروتستانت وبريد شوران ومنه نستقبل مطعم نصر الذي توالت الأسماء عليه ومقصدي، جردني من «حججي» كلها. مرت بخاطري سريعاً مقارنة بين «معالجة» بشار الأسد أزمة نظامه ومعالجة النظام الإيراني أزمته في 2009، ونويت استعمالها في العيب على الأول. ولكنني استبعدتها، فهي طويلة، والوقت يدهم، وهي مراوغة. وقوله في النساء، وفي علمه وجهل الجاهلين وأنا منهم، جرد المقارنة من أي قوة كيانية أو دموية نافذة.

ـ «هيئتك كتير بتعرف... أنا بعرف أنا بعرف وإنتو ما بتعرفو، وشو الفايدي من يللي بتعرفو؟ عم بتقول إنو الجماعة خلّصو من اليمن والعراق، وجايين من سوريا لهون...».

قلتها كما قال هو ما قاله في نسائه، جملة واحدة متصلة، وأنا أعلمه أنني «نازل هون»، وهو اضطرته الإشارة الحمراء إلى الوقوف في صف السيارات الصادعة بأمر الإشارة. وشددت اللسان المعدني (الستانليس) الفضي اللصيق بالمتكأ الجلدي، إليّ، ففتحت الباب، وتركت مقعدي الدافئ، وأنا أتم تصغيري بمعرفته ومعرفة أصحابه، وضعف جدواها. وأغلقت الباب ورائي من غير صفقه. واستدرت ملتمساً طريقاً إلى الرصيف في مقابلتي. وكانت السيارات تتحفز لانتقال ضوء الإشارة إلى الأخضر. فسمعت الرجل يقول وهو يقلع: «ما تحلمو برئيس، لا اليوم ولا بكرا».