الاثنين، 27 أكتوبر 2008

حمل التبرج الأنثوي على تصد للذكر وإثارة متعمدة يسوغان رداً تأديبياً وعنيفاً... في مناقشة أميركية

في استقصاء رأي وتقويم اميركي يعود الى 1992، وطاول 1769 طبيب أمراض عصبية، سئل الأطباء عن تقديرهم رأي الرجال (الذكور) في النساء (الإناث) اللواتي يرتدين لباساً كاشفاً أو مثيراً، وعن اضطلاع اللباس، أي رأي الرجال فيه وفي إيحاءاته، بدور محرض على ارتكاب جرائم جنسية. وفي عبارة أخرى مباشرة، سئل اطباء الأمراض العصبية عن دور ارتداء بعض النساء ثياباً مثيرة في ارتكاب بعض الرجال جرائم جنسية موصوفة. فأجاب 63 في المئة بأن الزينة النسائية المثيرة التي تحمل الرجال على تأويلها، أي يؤولونها على معنى دعوة الى الانتباه الجنسي، عامل يعظم حظوظ ارتكاب الجرم في نساء هذه حالهن. وقال 21 في المئة من الأطباء أنهم لا يرون هذا الرأي. وذهب 81 في المئة منهم الى ان أحد الأسباب في اغتصاب فتاة قاصر، أو في تحرش جنسي عدواني بها، هو لا شك إلفة أفعالها وحركاتها، على معنى العري أو الثياب الموحية. ولم ينكر التعليل هذا غير 17 في المئة من اطباء الجمهور.
ونسبة الآراء والأحكام هذه الى أطباء أمراض عصبية، خالط معظمهم جانحين أو مجرمين جنسيين في عيادات السجون أو في عيادات خاصة وفي المحاكم وعالجوهم على أنحاء متفرقة، لا تقوّي الآراء، والأحكام هذه، ولا تسندها الى "علم". فالأطباء هؤلاء إنما هم مرآة رأي عام منقسم، وينطقون، شأن أبعاض الرأي هذا وأجزائه، عن هوى أو عن تخمين. فالرأي المحافظ او التقليدي، في الولايات المتحدة الأميركية وفي البلدان العربية والآسيوية على حد سواء، لا يشك في ان النساء يسألن عن رغبات الرجال فيهن، ويتحملن التبعة، عن إثارة لباسهن، أو "عرض" أجسادهن ومزجها العري بالكسوة وإيقاع حركاتها وسكناتها، الرجالَ المشاهدين. فالنساء هن، على أضعف تقدير، شريكات الرجال في سيطرة هؤلاء على المشاعر التي تثيرها فيهم كسوة المرأة.
ويتفق النقد النسوي والرأي التقليدي ويتواضعان من طريق ملتوية. فالنقد النسوي يعزو اللباس المثير، وإيحاءاته و "دعواته" الجنسية المفترضة، إلى مماشاة المرأة المثيرة رأي الرجل الذكر في مشهد الأنوثة ومسرحها. فهي ترضى الانقلاب "شيئاً"، والاقتصار على ما يتوقعه الرجل الذكر منها، ويدعوها إليه، ويرسي عليه سيطرته. فيشيِّء ما تقع عليه السيطرة، ويذعن لها ويمتثل. وليس العنف، والحال هذه، إلا ثمرة إقرار المرأة بسلطان الذكر على الأنثى، والوجه البارز والجارح لاصطباغ السلطان الذكري، الجنسي، واصطباغ كل سلطان في نهاية المطاف بصبغة إيروسية. فاستجابة التشييء، أي الانقلاب شيئاً وموضوع فرجة وعرض النفس على النظر وفحصه ومتعته وميزانه، هذه الاستجابة هي دعوة مضمرة أو معلنة الى التمادي في إعمال الرغبة والإرادة. فالنساء، على هذا، يسألن عن تلبيتهن الرغبة الذكورية في التسلط، على رغم ذهاب النقد النسوي الى ان التفاوت في أحوال الذكور والإناث ليس "ابن" الطبيعة، ولا توقيفها الفطري والجِبِلّي، وإنما هو مصنوع ومجلوب، والعودة عنه جائزة على نحو ما جازت صناعته وجاز إحداثه.
ويفترض الرأي التقليدي ان المرأة المثيرة، إذا هي شهرت الإثارة وأعملتها من طريق التبرج واللباس والحركة على أنواعها، لم تعدم توقع أثر تبرجها ولباسها وحركاتها في الرجال. وتعمدها تأثير الأثر هذا هو بمنزلة دعوة الرجال إليه، والتعويل على الأثر، وقبوله. ويخلص الرأي المحافظ الى القول المتداول في مثل هذه الأحوال، حين يحدث ما يقول العقلاء وذوو البصيرة أنهم توقعوه وتخوفوا وقوعه، وهو ان المرأة كان لها ما أرادت، ووجدت ما سعت فيه، وجوزيت بما رغبت. فهي شبهت للرجال أنها حقيقة راغبة فيما تعلن "زينتها" كلها رغبتها فيه. فإذا صدّق الرجال العلانية، ولاقوا الدعوة، امتنعت المرأة، وأخلفت ما بدا موعداً مؤكداً وموثوقاً. والعنف الذكري، على الزعم التقليدي والمتداول، هو وليد خيبة الرجل من إخلاف المرأة موعدها، وإيقاعها بالرجل. فلو لم تعد، لما كان رجوعها في الوعد كذباً واستدراجاً وتشبيهاً و "لعباً" بالرجل. وعنفه لا يعدو الثأر لرجولة تعمدت المرأة إيقاظها، ودعتها الى الانتشار (على معنيي اللفظة)، ومننتها الإعمال. فإذا حان وقت التسديد، على ما يحسب الرجال، والرجولة ومسرحها لا ينفكان من الامتحان وساعته، ردت المرأة بأن هذا كان لعباً في لعب.
وينقم الرجال والنساء التقليديون والمحافظون على المرأة اللعوب، على ما تسمى، انتهاكها عمداً العقد البطرقي الأبوي "بين" الجنسين، وإنزاله النساء إحدى منزلتين: الزوجة الأم والعذراء، أو البغي. وليس من منزلة ثالثة. واللعب الذي تتصدى المرأة أو الأنثى اللعوب له، وتؤديه، يخرجها من المنزلتين، ويبوّئها مكانة على حدة ليست من القسمة المقيدة تلك. فيراها الرجال والنساء التقليديون، على هذه الشاكلة، مراوغةً، ومجانبةً الطريق القويم والعريض الى بُنيّات الطريق الثانوية والخفية. ويرونها أنانية، وخارجة على النظم المضمرة والدقيقة التي تحمي النساء عموماً من عنف الرجال، وتهورهم، وثورة رغباتهم وسورتها، وتحمي الرجال أنفسهم، من وجه آخر يلازم الأول، من تزاحم رغباتهم المدمر في النساء وعليهن. فتتولى النظم المضمرة ضبط "العرض" الأنثوي، على المعنى الاقتصادي، وتقصره على عرض خاص، من غير منافسة ولا سوق، تصرف المرأة بموجبه "نفسها"، جسدها ومتعتها ولعبها وغوايتها، إلا رجل واحد. ويقف الرجل رغبته وعنايته واسمه ونسبه على امرأتـ(ـه) وزوجه. وهذا وجه المرأة البكر والأم الزوجة. والوجه الآخر لضبط العرض الأنثوي، هو الإباحة، على مثال إباحة السلعة. وهذا وجه البغي.

مثال العقد

وينحو التناول المتقدم نحو الوصف او التشخيص الحقوقي والقانوني. فيحمل الإثارة النسائية والأنثوية الجنسية، وآلتها الثياب والزينة وتوسلهما بما يتعرض للنظر (والسمع والشم واللمس)، يحمل الإثارة هذه على صورة عقد ومترتبات عقد وشرائط عقد. ولا يضعف الإضمار التمثيل بالعقل على حال فالتة من كل عقال ظاهراً. والعقال القانوني هو مثال العقل، على معنى الربط والحل. ويتوسل دانكين كينيدي – أستاذ نظرية الحق العامة بمدرسة القانون بهارفرد الأميركية، وأحد وجوه مدرسة الدراسات القانونية النقدية، واستعارات مقدمة العجالة من كتابه "سكسي دريسينغ" عناصرها – بصورة العقد، ويعملها في فهم أحوال وأفعال وملابسات بعيدة، للنظرة الأولى، من العقودوموجباتها وقيودها ومفاوضتها. والحق ان البعد هذا ظاهري فوق ما هو حقيقي. والأدق القول، على منطق دانكين كينيدي ومدرسته النقدية، أن نأي الأفعال (وأصحابها) بنفسها عن مثال العقد العقلاني (ولا تنفك مشتقات العقل من الإلحاح)، وطلبها التحرر والانفكاك منه، هو، أو هما، احتيال على القانون.
فالعنف الذكري والجنسي، "رداً" على الإثارة واللعب، ينسب اصحابه لأنفسهم الانقياد لما لا يعقل، وهو "الطبع" وثورته ومماشاته سائقه وانفعاله. ويترتب على التعليل هذا او التعلل والتعلة، احتجاج قانوني على شاكلة العذر المُحِلِّ من المسؤولية والتبعة، أو "الأسباب المخففة" المسؤوليةَ هذه. فيقال ان المرأة هي البادئة والمبادرة، وهي المنتهكة والمتخطية "قاعدة" ارتداء الثياب والزينة المناسبة الحال والظرف، وهي الملوحة بدلالة الانتهاك والمستبقة مفاعيله، الخ. ويرد استاذ نظرية الحق العامة – وهو لا يتستر على حاله أو كينته ذكراً اميركياً أبيض وميسوراً، وغير مثلي (او غيري الميل الجنسي والإيروسي)، ومستمتعاً بالزينة الأنثوية ولعبها وإثارتها ومائلاً إليها، وقارئاً لوي – فردينان سيلين ورواته "رحلة الى أقاصي الليل"، ومعجباً بأعمال البوهاوس المعمارية – يرد كينيدي على الاحتجاج هذا بإخراجه من الإضمار والإلماح الى علانية المرافعة والمدافعة وجهرهما الصريح. ويسعفه في فعله هذا تعاظم نظر القضاء الأميركي في دعاوى التحرش، منذ منتصف الثمانينات. واضطلعت الحركة النسوية الأميركية، وهي سباقة ورائدة في المضمار الاجتماعي القضائي، بدور راجح في التحريض على مناهضة التفاوت الحقوقي، وإصلائه حرباً قانونية وقضائية، فردية وجماعية.
ولم تصنع الحركة النسوية غير استئناف تراث حقوقي وقضائي واجتهادي اميركي عريق، شأن حركة الحقوق المدنية من قبل ومن بعد، وشأن حركة المطالبة بالحق في الإجهاض، أو حركة التمييز الإيجابي. ويحسب كينيدي ان حمل خلاف، أي خلاف وفي أي مضمار، على مثال حقوقي وقانوني شأن العقد، يقرّب من وصف الوقائع وسياقاتها، ومن تقصي دواعي الفاعلين ومعايير احكامهم وآرائهم، على نحو لا يستوفيه تناول الحق تناولاً معيارياً خالصاً، وهو ما درج عليه ويدرج معظم أهل القانون والاجتهاد فيه. وقضايا العنف الجنسي في حق النساء، أو "ضدهن"، ومن بعدها قضايا التحرش في اثناء العمل وفي دوائره وأماكنه، قلبتها الحركة النسوية موضوع مناقشة ومداولة ومطالبة عامة ويومية. وعمل دانكين كينيدي التحليلي جزء من المناقشة هذه، وتمثيل على وجوه من منطقها وطريقتها وخلافاتها معاً.
فحمل مسألة العنف والتحرش الجنسيين والذكريين على خلاف يضمر مثال العقد، وإن لم يحتج احد من المتخاصمين او المتقاضين علناً للمثال هذا، يدعو إليه ويرجحه التعويل على ثمرته، أي على جلائه خطط التسويغ، وما تضمره وتتستر عليه في بعض الأوقات من أحكام تخالف نصوصاً قانونية واضحة، أو تجافي سنناً وأعرافاً غلبت منذ بعض الوقت على بيئات وأوساط اجتماعية واسعة. ويحتذي هذا التناول على نهج المقاضاة نفسه. فهو يفترض روايتين للخلاف وعلله وتداعي حلقاته. ويفترض، أولاً، مصلحتين متدافعتين تحدوان صاحبي الروايتين. ولا ينكر النهج هذا توسل المتخاصمين بحجج "ايديولوجية" تنحو نحو النمذجة والإطلاق والاستدراج، وتستبق حجج الخصم وتقارعها. فالرواية لا يرد عليها حسر اللثام عن رذائل الخصم، بل رواية نقيض تستقوي بمعايير هي خلاف معايير الخصم، وعلى الضد منها. ولا تأنف الرواية النقيض من التوسل بالخطابة وصورها.
فالرواية النقيض التي ترد على زعم تعمد المرأة المثيرة استدراج "الجمهور" الى استباحتها الجنسية، تروي، من جهتها، حكاية أو حكايات عن نساء مثيرات لم يتبرجن "تبرج الأنثى تصدت للذكر"، على قول ابن الرومي العتيق، ولم يلبسن لباساً يتعارف "الناس"، أو رأي عام "متوسط" ورجراج، وصفَه بالإثارة والإباحة. فالقول ان على النساء العاملات في المكاتب ان يتركن للبيت وفي البيت، الثياب التي تشف عن الملابس الداخلية، أو عن استدارات الجسد وتعرجاته، وتخلي بين بعض حركاته واضطراباته وبين الظهور، يرد عليه بأن من يثارون، وينسبون إثارتهم الى "موضوعية" ما يثيرهم وعمومه وحقيقته، مثل العري الظاهر أو الثياب الداخلية أو الحركة الباعثة على الاضطراب، لا يتناولون إلا ما يخصهم هم.
فثمة غيرهم، وهؤلاء قد لا يقلون عدداً عمن يهيج العري أو تخييله غريزتهم و "طبعهم"، يثيرهم ارتداء القميص اللصيق بالجسم (تي – شيرت). وآخرون يؤولون بنطلون الجينز "اقتراحاً" صريحاً بالمواقعة، على ما تذهب إليه بعض أشرطة الدعاية التجارية. وإذا نساء لبسن بذلات أو طواقم رجالية تامة، ولم ينسين الصدرية فوق القميص، رأى بعض الرجال إليهم آياتِ غواية وإغراء لا راد لها إلا بقضاء الوطر أو لبانات الجسد المعذب. وعلى وجه العموم، فالمرأة التي تلبس لباساً متحفظاً، أو محتشماً في "لغة" أخرى، إذا خالطت وسطاً أو موضعاً جرى رواده على ارتداء ثياب غواية وإيحاء، لا تأمن حسبان رجال كثر ان تحفظها هو علامة على هشاشتها الجنسية، أو أمارة خشيتها التعرض للرجال. وهذا مدعاة انتباه شديد إليها، وباعث لا يقاوم على محاصرتها و "مراودتها". ويعاقب قوادو بائعات الهوى عاملات الجنس اللواتي يعملن في إشرافهم وعهدتهم، ويلبسن ثياباً تقصر عن فضح "كنوزهن"، بالضرب، ويعنفنهن جزاء إمساكهن وحيائهن.
فالسبب في إثارة الرجال الذكور، إذا جاز الكلام على هذا النحو المباشر والمختزل، ليس جهر المرأة على الملأ علامة أو شارة يُؤوّلها الحضور على معنى الغواية والمراودة، وإنما السبب هو مزج أمرين: صبغ الجسد النسائي الأنثوي بصباغ جنسي متعسف (التعلل بما يشف أو بما يستر، باللصيق أو بالمهلهل، الخ)، وإرادة وطء الضحية، على قول العربية من غير مواربة. وإذا اجتمع الأمران جاز للذكر "المبصبص"، أي جوّز لنفسه، تأويل لباس المرأة، إغراء ودعوة، وأوّل إقدامه تلبية واستجابة توقَّع الشكر عليهما. فإذا امتنعت المرأة من إباحة نفسها أو جسدها، عاد للذكر المتسجيب، والملبي المناشدة، الحكم في الامتناع، والقضاء فيه. وهو يصدر في حكمه المزدوج، الحكم في معنى لباس المرأة والحكم في معنى امتناعها، عن حمل العنف الجنسي على نظام تأديبي ورادع، شأن السجن ووظائفه وأجهزته في أبنية القمع الجزائي والقضائي الأوروبية (والأبنية غير الأوروبية تؤدب وتردع من طريق المثل، إي القتل والبتر). ولا يعدو التعنيف الذكوري والجنسي "إصلاح" المرأة المتصدية للإثارة (و "إصلاحية الأحداث"، أي سجنهم، مشتقة من الإصلاح والتأديب). فتكرس إناطةُ الإصلاح المزعوم بالذكر المخدوع مرتبةَ الرجل، وعلوها، وحكمها، إن لم يكن حاكميتها في المباح والمنهي عنه. وتكرس تأخر مرتبة المرأة، وتنكر عليها رأيها في ما تفعل أو تحجم عن فعله، وتطعن في قبول الرأي هذا، أي في شهادتها على نفسها وعلى غيرها وذلك في معرض لا ينتقص من شهادتها فيه إلا أنوثتها.

حساب التكلفة/ العائد

والوجه النقدي والسجالي من المناقشة لا يستنفد علل من يدعون، إناثاً وذكوراً، إلى إباحة الثياب المثيرة. والدعوة الى الإباحة لا يسوغها دانكين كينيدي بالحجج النقدية التي تقدمت، وكشفت عن مضمرات "الذكورية" البطرقية والتمييزية المتعسفة والتأديبية "الإصلاحية". فهو يقترح وزن العنف التأديبي والإصلاحي في ميزان التكلفة والميزات (أو العائد)، ويخلص الى ان استئصال (على معنى الانتفاء) العنف في حق النساء المتبرجات والمثيرات يترتب عليه مربح يعود على اللواتي ينتهكن أعراف اللباس المتحفظ، وعلى اللواتي كن أقدمن على الانتهاك هذا حال تناقص العنف والتلويح به. وتصيب الخسارة الذين (وفيهم اللواتي) يعتقدون المعيار المحافظ والتقليدي، وينقادون له، على رغم إنكارهم نهج فرض المعيار، والقسر عليه بالعنف، ورغبتهم في ألا يتفشى لباس الثياب المثيرة. ويرحب بالانتفاء جماعة الثقافة الفرعية هذه، مرتديات اللباس والمحاميات عنهن. ولا يشك كينيدي في سرور الذين يثيرهم اللباس المثير، او يميلون إليه ويتمتعون به من غير أن يثيرهم، ويودون لو تفشو ثياب الغواية أكثر.
واحتساب المتعة في باب المربح والعائد يخرج المسألة من النطاق الأخلاقي والنقدي الذي يقصرها عليه الرأي المحافظ والرأي النسوي و "الجندري". والمتعة ليست جنسية أو حسية وحسب. فاللباس النسائي المثير جزء من عبارة النساء عن أنفسهن، وعلانية هذه العبارة، من غير ان يترتب على الملاحظة زعم بأن العبارة تطابق الطوية، أو أنها مرآتها الأمينة والصادقة. فهي قد تخالفها أو تبين منها. وحمل اللباس "الجنسي" على العبارة يستتبع، على جهة "الجمهور" والمشاهدين، التحري عن المعاني التي يؤديها اللباس، وتتعمدها، على هذا القدر أو ذاك، اللابسة "اللعوب".
وشأن صور العبارة الأخرى، تقصد صاحبةُ العبارة بها، أي بالعبارة، نفسها، وتمتحنها. فلا يستنفد التوجه على الذكور، قصد إثارتهم ودعوتهم، معنى العبارة التي يؤديها اللباس، وتؤديها الزينة مهما بالغت هذه في انتهاك معايير التحفظ والاعتدال. والمرأة المتبرجة، والبادية الإثارة والغواية، تتوسل بالتبرج واللباس المثيرين الى إعلان مقاومة المحافظة الجنسية والاستمتاع بالإعلان وبالمقاومة. وتتوسل بانتهاك رسوم المحافظة الى متعتها هي، وليس إلى الإثارة نفسها. ولا بأس إذا ظهرت رابطة بين المتعة الحسية والجنسية وبين متع المقاومة الإيديولوجية وانتهاك "النظام" السائد ومعاييره. وقد تغلب المتع هذه المتعة الجنسية التي صاحبت نشأة صنف من الثياب المثيرة والشائعة. فثقافة "البانك" الفرعية اقتبست أسلوب المثليات العاملات (البروليتاريات) والمسترجلات في اللباس، وأخذت عنهن الستر الجلدية والسلاسل المعدنية. وحين عمت الشارات هذه جمهوراً مختلفاً، أعمل الجمهور الجديد في معانيها، الجنسية والاجتماعية، تحويراً. فاستبقى بعضها في إطار مختلف، وجدد في بعضها الآخر. فما تبقى من المثلية الأنثوية، أو من البروليتارية، أو من الاسترجال، تبدد في دلالات ومعان أخرى كثيرة. وبقي ربما "معنى" المجابهة، والخروج على العرف، والانحياز الى المنبوذين والضعفاء.
فالرجال والنساء لا يكفون عن التخاطب، وعن "تناسخ السطور"، على قول شارع قديم، أي عن أداء المعاني والعبارة المفهومة، من زينتهم ولباسهم وقيافتهم. وهذه كلها، وغيرها مثلها، كنايات ومجازات عن الناس، رجالاً ونساء، وعن مقاصدهم ورغباتهم وطوياتهم. وفي هذا السبيل، يرتضي الناس (وهم ليسوا في حيرة من أمرهم) الانقلاب اشياء ترى على وجه الشيئية، أو موضوعات ثقافية، ويرتضون مسرحة انفسهم أو إخراجها إخراجاً مسرحياً. وهم يتوسلون الى هذا بالجمع بين أضداد أوامر المعايير الغالبة ونواهيها. وينقلون الحدود بين الأوامر والنواهي أو بين المستحب والمكروه، على أنحاء وصور كثيرة تترتب عليها نتائج لا يستهان بها تتطاول الى حيواتهم وتدبرها وروايتها. فلا يشك أستاذ نظرية الحق الأميركي في ان تقليص العنف في (حق) النساء، أو إبطال الرواية التقليدية الآيلة الى تسويغ العنف الجنسي بذريعة ان المرأة المتبرجة سعت الى الاعتداء عليها "بظلفها" (على نحو ما ارتمى "الأميركيان" على سيارات الانتحاريين وأحزمتهم، و "اليهود" على المنافحين عن دينهم وأرضهم...)، لا يشك كينيدي في إفضاء إبطال الرواية التأديبية الى تغير عميق في حياة ملايين النساء. وليس احتساب المتعة واللعب واعتبار المجابهة والانتهاك والقيام بالنفس، أضعف وجوه التغير هذا.

قضية النساء

ولكن صاحب "سكسي دريسينغ" لا يخلص من هذا، على خلاف "الحزب الجندري" (أو "الحزب التقليدي الموالي الجنس"، على ما يسميه)، الى وحدة القضية النسوية "التحررية" – من النظام البطرقي والسيطرة الذكورية، أو الذكرية. فالخلافات والانقسامات في صفوف النساء والرجال على مسائل مثل تأويل "نسب النساء بالمتعة" (أو علاقتهن النسبية و "الروائية" بالمتعة والإثارة الحسيتين والفكريتين معاً)، ومتّهن الى الاستعراض وفنونه وعباراته بأواصر قوية من غير ان تكون وقفاً عليهن، وعلى إجابة القسر والإكراه ومعالجتهما، واستنفاد الوظائف النفعية الرجال، الخلافات والانقسامات على هذه المسائل وغيرها كثيرة. فيرى (التيار) النسوي الطهراني المحدث والراديكالي ان ليونة المحظورات الجنسية الطارئة، الى صبغ الثقافة عموماً بصبغة ايروسية، اضرا بقضية النساء. فهما ينيطان علاقات الجنسين العشقية بالرضا والقبول (طوعاً)، إلا انهما يغفلان وقوع الرضا والقبول في معرض تفاوت عظيم في ميزان السلطة (أو السلطان أو الحجة).
والتفاوت هذا ينجم عن الإنشاء الاجتماعي للجنسانية، فينيط المتعة والغواية والإثارة بالمثال الجنساني الذكوري، وبسلطان الذكر وتمكنه. ويستهوي التربع في محل السلطان الرغبات ويستثيرها، ويدعوها الى غوايته والتصدي له، ومراودته. وعلى هذا، فمسرح الغواية النسائي، و "الشيئي" تالياً، إنما يتوجه على أصحاب المرتبة النافذة، ويميل مع رغبتهم في أداء فروض لذاتهم مغلفة بغلاف الاستدراج والدعوة والإقرار بعلو الرتبة. والجنسانية الغيرية هي أداة "الطبقة المسيطرة" الذكرية، وذريعتها الى "استعمار النساء الداخلي" أو النفسي. وليس اللباس المثير إلا عرضاً من أعراض رضا النساء استدراج رغبة الرجال فيهن، على شرط الرجال المفترض وهو تقديم النساء أنفسهن على صورة "الشيء" الساعي في تملك القوي، والمقيم شعائر التملك.
ويناقش دانكين كينيدي (التيار) النسوي الطهراني المحدث والراديكالي – ويدعو التيار النساء الى التخلي، عن لباس الثياب المثيرة ويسوغ دعوته بمقاومة الرسم الذي يوافق الرغبة السلطانية الذكرية، والتملص منه -، فينبه الى ان "الثقافة السائدة" ليست على التماسك الذي ينسبه إليه التيار النسوي هذا. ولا تتمتع، والحق يقال، بالسلطان الكلي والنافذ الذي تزعمه النسويات الطهرانيات والراديكاليات. ويسوق كينيدي الحجة "البراغماتية"، وهي تقوم من كتاب ريتشارد رورثي الفلسفي ("الفلسفة ومرآة الطبيعة") مقام الركن، فيقول اننا نحن الإنسيين أو الآدميين، لم يسعنا يوماً القيام بموضع "خارج" ما نحن عليه من ملابسة الثقافة وصورها ورسومها، والصدور عنها. فالزعم ان في وسع "السلطان الذكري" إنشاءنا، ورغباتنا وشهواتنا وعباراتنا وإرادتنا، إنشاء حراً ولا قيد عليه، يفترض جواز أو سبق علمنا بطبائع إنسية أولى، لم تصبها الثقافة (الذكرية أو الجندرية) بعكرها وانحرافها واستتباعها. فلا يخرج النقد الراديكالي النسوية عن سنة المذاهب الراديكالية الثقافية أو السياسية الأخرى، ويلبس مسوح "العودة الى اصول" اسطورية، وانتظار آت أنُف (مثل روض السيرة النبوية المحمدية) لا يجمعه شبه بماضي الغي والجور والاستلاب والفساد.
ويخالف اختبار الاختيار أو اختباراته الكثيرة، زعم العلم بـ "خارج" مثل هذا، أو طبيعة مثل هذه. فاختبار الاختيار ينم بالتماس المخارج والحلول من احتمالات قليلة العدد تدين بأجزاء كثيرة منها، وبمعظم عواملها، الى ثقافة وتقاليد قائمة وماثلة. فالإكراه والتقنع والتشبيه والعنف الجنسي أمور وحقائق لا تنكر، ولا مسوغ عملياً أو أخلاقياً لها. ولكن ما لا ينكر كذلك هو ملابستها اللذة والمدافعة، أو المقاومة، وتوسل هاتين بها، وتطفلهما عليها. واللذة والمدافعة، من وجه آخر، فلما تلابسان، أو هما تلابسان ابداً إصلاء النظام التأديبي و "الإصلاحي" التنديد المزمن على طريق إلغائه. ولعل هذا، أي التشابه والالتباس، قرينة على كثرة وجوه العبارة من طريق اللباس والزينة والتبرج. فمن طريق هذه تستجيب النساء دعوة الرجال ومتعتهم. ولكنهن ينكرن، من الطريق نفسها، الدعوة هذه، ويردنها على اصحابها.
فاللباس من أقوى الرسوم الاجتماعية عبارة، وأغناها وجوهاً. وإلى هذا، فهو لا يقتصر على مرآة ترى فيها ظلال "الداخل" الحميم والمستتر. فهو يُحدث في العالم الاجتماعي، عالم المعاني والدلالات، حوادث جديدة تستدرج أجوبة وردوداً وبدايات وانفعالات. وعلى هذا، لا تقتصر المتبرجة، أو لابسة الثياب المثيرة (على مراتب في الإثارة ودرجات)، لا تقتصر على عرض "نفسها" في مرآة ليرى الناس "نفسها" الخفية ظاهرة، ويروا معانيه من غير وسيط، فيسعهم "قراءة" المراودة، أو الدعوة الصريحة، أو الاستباق، الخ. فاللباس مرآة، من وجه، وهو، من وجه آخر لا ينفك من الأول، تعليق أو شرح أو تذييل على المرآة وصورها. والملاحظات التي تقدمت على كثرة اصناف اللباس المثير، أو على اقتباس "البانك" وأطوار درجته وشيوعه وترجماته، تمثيل على معاني التعليق أو الشرح أو التذييل، وعلى دعوتها الى "المفاوضة". والمفاوضة موضوعها هو المعاني المقصودة بالتعليق، أو المعاني غير المقصودة. وافتراض هذه مجرد افتراض يخرج من دائرة العنف. فالعنف يلازم الوضوح، والقراءة المبدئية، والعلم الجازم في "المسألة التبرجية"، وفي غيرها من المسائل الاستراتيجية.

الجمعة، 24 أكتوبر 2008

وباء المسلسلات على أنواعها يفشو في الشاشات : طمأنة الوجدان التاريخي على قيمه الحاراتية... والحداثة على سطحيتها وركاكتها

المستقبل - الاحد 12 تشرين الأول 2008

في ابتداء الجزء الثاني من مسلسل "باب الحارة"، السوري "التراثي" على ما يسميه بعضهم أو "الأصيل" على قول مخرجه بسام الملا، عمد كتّاب ومعلقون متفرقون الى مناقشة حلقات الجزء المبتدئة في ضوء حلقات الجزء الأول، في تشرين الأول 2006، وأوائل الجزء الثاني، في أيلول وتشرين الأول 2007. فكتب هوشنك أوسي ("الحياة"، 27 أيلول 2007 يصل "باب الحارة" الثاني بالأول: فالأول كان ابتداؤه مقتل حارس باب الحارة، أبو سمعو، جزاء تحريه عن سارق بيت أبو ابراهيم، وبلوغ تقصيه غايته. وكان مقتل أبو سمير الصالحاني خاتمة الجزء. فمجرى هذا بين قتلين أو موتين. وتتردد في الجزء الثاني أصداء مقتل أبو سمير الصالحاني. ويختمه مقتل زعيم الحارة. وغداة أسبوع على ملاحظة أوسي، يكتب ايلي عيدو (الصحيفة نفسها)، في 3 تشرين الأول 2007 ملاحظاً على "المجتمع" الذي يصوره "باب الحارة" في جزءيه، وتقوم منه حوادث القتل مقام العلامات أو المنعطفات الزمنية والدرامية الفارقة.فهو مجتمع يحكمه "الزعيم"، ويعاونه على حكمه وجهاء الحارة وتجارها وشيخها. وتستجيب العامة، "الناس"، حكم "الثالوث" وسطوته وسيطرته، فتقدم فروض الطاعة والخضوع. والسطوة والطاعة هاتان لا تقتصران على الحارة، أو على جمعها ومجتمعها "الخارجيين" والقائمين بنفسهما. فركن السطوة والطاعة "الأول"، إذا جاز في هذا المعرض ترتيب زمني (غير جائز على ما أزعم)، هو مراتب الأسرة الداخلية. فيها بالأبناء، وهم آباء أسر وأزواج، الوالد، وينصاعون لرأيه وأمره من غير تردد ولا مناقشة. والرجال، الذكور، آباء وأبناء وأولاداً، يعلون النساء، الإناث، جدات وأمهات وحفيدات، رتبة ودالة وكينونة.والذكور هم عمدة الحوادث، والمبادرون الى الفعل. والفعل هو المنافحة عن الحارة، أرضاً أو ديرة (أي حارة و "حدوداً") وأهلاً. والأهل هم الرجال. والرجال هم "كرامتهم". و "كرامة" رجال الحارة هي امتناع "أرض" الحارة، ما أقاموا بها، من دخول الأجنبي الغريب وانتهاكه ودوسه وعدوانه. وهي منعة النساء من رؤيتهن، والنظر إليهن، وإخراجهن من عصمة أزواجهن، واختلاطهن، وتزويجهن الأجانب في نهاية الأمر ووقوع الطامة. وتلخص أحكام السلطان والحكم والإدارة السياسية المسألة بقول موجز وجامع. فتشترط في ولي الأمر "الذب عن الحياض (جمع مجتمع الماء و "شيء" آخر) وصون البيضة (الفرادة والسلاح والأصل والوسط والساحة والجماعة والمجتمع والمستقر والحوزة).الصدق والحقيقة والأصالةوفي الحارة، على قول إيلي عبدو كذلك، يسابق الناس بعضهم بعضاً على مد يد العون، وتشد بينهم أواصر الإلفة والمحبة والأخوة (= الأخوة والتنسيق والتعاون؟). فهم واحد، أو يد واحدة، على العدو، والعدو "خارجي" على الدوام. ويعلل الكاتب رواج المسلسل المتلفز وولادة جزء رمضاني ثاني من الأول، بثبات "الجوهر" الاجتماعي والتاريخي المروي، والمعروض على الأعين والأفهام، على مر الزمن، واقتصار ما مضى وطوي على "الشكل". فيذهب الى ان "الحارة" لم تبق الحارة، بأعيانها المرئية والملموسة والمسموعة، أي بلباس أهلها وبيوتهم وأعمالهم وأسلحتهم ومركباتهم، أو باب حارتهم، على ما لاحظت سمر يزبك من بعد ("الحياة"، 11 كانون الثاني 2008). فالاحتلال الفرنسي، يومها "انتزع" الأبواب، وهي عنوان الحارات وآيات كياناتها المنفصلة والمستقلة، وفتح بين الحارات على غير وجه الفتح "بيننا وبين قومنا بالحق" (التنزيل). وهو (الاحتلال) أراد تثبيت الجماعات في أجسام سياسية منفصلة، على ما روى مسلسل سوري آخر، "أسمهان"، على نحو تفصيلي.ويعقب أحمد مغربي ("الحياة"، 18 تشرين الأول 2007) على رواج المسلسل، فينكر عليه، وعلى جمهوره، الميل الى "قيم نمطية أحادية"، والى "انسجام" ينفي الصراع الاجتماعي. ويعمى الانسجامُ والأحادية والإفراط في تصوير الماضي في صورة زاهية، تعمى هذه مجتمعة عن ملاحظة دبيب المعاصرة والحداثة في أحشاء المدينة. ففي ذروة صراع "الأبوات" الوطني أو القومي، على قول بعثي سوري، أي الأهلي والعصبي، كان "المجتمع" السوري (على معنى "الحياض") يستقبل من غير تألف ولا رضا الخلاف بين التقليد والتجديد في حلة قاطعة وغير معهودة. وكان يستقبل، على رغمه ومضطراً، آلات النقل السريعة والجماهيرية، من الترام الى السكة الحديد، وآلات الإضاءة، وأجهزة توزيع الماء على الأراضي والمنازل، وآلات الطباعة، والسلع المصنعة والرخيصة، وتدوين ملك الأرض، والانتداب الى مجلس إدارة الولاية وبلديتها.ويعود معظم هذه الى عقود قبل 1919 العتيد لا تقل عن ثمانية عقود. وتغفل وقائع المسلسل المروية، وحوادثه وصوره، عن الحوادث والوقائع هذه. فلا يقع أحمد مغربي على أثر لمدارس أو تدريس في مشاهد المسلسل الطويل وصوره. ولا يرى بنتاً من بنات "التكنولوجيا" (وفي لغة العصر كان يقال: "بنات الحديد")، أو فكرة من أفكار "الحداثة الفكرية". وأما النزاع "السياسي" فهو شقاق أهلي لا يقر بصفته أو سعته، ويقتصر على مروق خائن واحد، "من لا مكان ولا ناس" على قول الكاتب، وعلى "غوايته"، بحسب بيت شعر قديم يستشهده عباس النوري، أحد أبطال المسلسل البارزين والسابقين، ويرفعه علماً على "المشهد الثقافي العربي" المعاصر (في كلامه الى ابراهيم حاج عبدي، "الحياة"، 2 كانون الثاني 2008). ويرد مغربي، ضمناً، على مقالة المروق والخيانة، أي على من يزعمون ان الخلاف على "المقاومة" هو خيانة وحسب، بمقالة "السيد" حسن نصر الله، وإقراره بأن "لا إجماع على المقاومة". فإذا كان "السيد" يقول هذا، فما بال المسلسل لا يقر ولا يعترف؟ ولماذا يغفل عن الحال؟ يقول الكاتب في سره معجباً ومنكراً...ولا تتأخر الردود على التشكيك في أمانة "باب الحارة" للوقائع، فتواترت سريعاً. والأرجح ان التشكيك هذا لم يقتصر على "المثقفين"، على ما يسميهم أصحاب الردود، وعلى بعض الصحافيين والكتاب، فطاول مشاهدين وأجزاء من جمهورهم العريض. وعَرْضُ الجمهور، أو عدده الغفير، ليس نافلة من النوافل، ولا تفصيلاً زائداً وثانوياً. فالعدد العظيم أو الكبير حجة من حجج "أصحاب" المسلسل، أي صنّاعه، من المؤلف والمنتجين والمخرج والفنيين والممثلين والموزعين الى "آخر" متفرج سناً إن لم يكن حالاً. وهو قرينة على "صدق" المسلسل و "حقيقته" و "أصالته"، بحسب عبارة المخرج بسام الملا الى ابراهيم حاج عبدي، فإذا تناول التشكيك، على ما مر للتو، قصور الرواية والمشاهد عن نقل وقائع بارزة وفارقة، أو يخالها المشككون بارزة وفارقة، وتدوينها، وعن ترديد صداها واقتفائه، رد اهل المسلسل وأنصاره واحتجوا له بـ "جماهيريته".فإذا أقبل الناس على الرواية والصور و "الأبطال" إقبالهم المشهود ـ وهذا الإقبال قال فيه عزمي بشارة (المناضل العروبي الفلسطيني، وصديق حافظ الأسد وحسن نصر الله و "الجزيرة" معاً، وطريد اسرائيل): "باب الحارة استطاع ان يكهرب المشاهد من المحيط الى الخليج" (نقلاً عن عباس النوري نفسه) ـ فإقبالهم آية وجدانهم العميق، ومرآة ما يقبلون عليه، أي المسلسل. وهذا دور يدور. فالناس، أو جمهورهم، هم مستودع الصدق والحقيقة والأصالة. وهذا ما "يقوله" المسلسل، وما يفترض في المثقفين والكتّاب و "الفرد" على قول منار ديب ("الأخبار"، 13 ايلول 2008)، الإقرار والصدوع به. فشأن من "يخرج" على المسلسل هو شأن من يخرج على الناس، ومنهم، وهم ما هم: فيشبه الخارج أو الناقد أو الفرد، وهو لم يكن ولد يومها ولم يولد بعد، على القول المتقدم نفسه،"خائن" المسلسل المولود من عدمٍ ذكرٍ وأنثى معاً.فيحمل أدهم أسامة سكيك ("الحياة"، 22 تشرين الأول 2007) رواج المسلسل، في دوره الثاني بعد دوره الأول، على تصويره واستحضاره، ملء العين والأذن والفهم، "ما نفتقد إليه من نبل وشهامة في زمن عزا فيه". فعلى هذا، ليست رواية الحلقات الرمضانية الحولية (السنوية)، وصورها ومقالاتها أو حواراتها، مرآة وقائع وأحوال وحوادث راهنة أو ماضية ومنصرمة، ولا هي مرآة معانيها. وليس المتفرج عيناً، أو بصراً وفهماً يعقلان ويعللان ويؤلفان، ويترجحان بين الماضي وبين الحاضر. فيؤولان الواحد في ضوء الآخر، ويريان رأيهما وربما آراءهما الكثيرة في ثمرات هذه (العقل والتعليل والتأليف...). فالرواية والعين معاً تصدران عن "شهوات" سوية هي من طبائع النفس وجبلتها. فالحلقات التراثية والرمضانية السورية أو الدمشقية تمثِّل على طاعة الأبناء الآباء "على ما يشتهي الآباء اليوم"، على ما يكتب أدهم أسامة سكيكي. ويخاف الآباء على أبنائهم، ويحرصون عليهم وعلى عفتهم، "على ما يشتهي الأبناء". وتلم الأم الأسرة "على ما تشتهي الأسرة". و "الإناث" عفيفات "على ما يشتهي الشباب"، أي الذكور على الأرجح.وتتضافر "الشهوات" هذه ـ وينبغي حمل اللفظة على معناها في طبيعيات أرسطو: يشتهي الجسم مستقره حين يُرمى ويسقط بموضع ـ على استواء الكون الاجتماعي نظاماً، أو على نظام. والنظام وهيئته، وبديع نظمه، دليل الخلق والحكمة، وآية الخالق الحكيم. وهي، النظام والهيئة والنظم، ميزان الصدق والحقيقة والأصالة. وليس ميزانَها، على خلاف زعم بعض الكتّاب والمثقفين والأفراد، "كُتّاب" (صف الدرس البائد على شيخ يستحسن أعمى وطويل العصا) من هنا، وجريدة، "جورنال" على ما يحب "الأستاذ" الجورنالجي محمد حسنين هيكل القول، من هناك، ولمبة وموتور من هنالك. فإقبال الجمهور على الحارة وأهلها يجهر فقداً ونعياً وطعناً. وهذه، بدورها، تحيي قران أو وحدة ما تفرق وتشعث: فتبعث الرجولة في "ذكور من غير رجولة"، وتنفخ العدل والشجاعة والإقدام في حكام عروا منها (وهذا ما لا يجهره الكاتب، فيقول موارباً بعض الشيء: أبو شهاب حاكم عادل وشجاع ومقدام)، وأبو العز "يرفض ان تداس كرامته ويغار على عرضه وأهله".النكوص والإحياءوعلى هذا، يقترح المسلسل، شأن المنامات وأحلام اليقظة والأهومة، ما يسميه بعضهم نكوصاً أو ارتكاساً الى عالم اجتماعي وتاريخي، طفلي رحمي وسحري. فـ "تحقق" روايته، أي أخباره وقصصه، في صور تترجح بين النوم واليقظة، وفي ضوء يتوسط عتمة الليل والضوء المخنوق، "تحقق" العوم في نُوام يجمع الإدراك الى الغيبوبة. فيدعو الجمهور، وكتلته الذائبة والرخوة، الى التلاشي الداخلي، والاقتصار على مشاعر وأحاسيس وأفكار تتناولها النفس المنطوية على نفسها وطويتها من غير الخروج منهما. وقد تكون المشاعر والأحاسيس والأفكار هذه من صنف تخلفه "الحمامات" المتفرقة في السينما ("حمام الملاطيلي" و "السقامات") والتلفزيون ("حمام القيشاني") والعوامات القصصية ("ثرثرة فوق النيل"). ولكن الإقرار بالنكوص أو الارتكاس في شأن تاريخي واجتماعي عام ومعياري، وفي "مجتمع" (جماعات أهلية) لا يرضى بهوية لا ينتزعها من عدو وجودي وكياني استئصالي، متعذر بل ممتنع ومحال.فيُقلب الارتكاس إحياء وبعثاً وتجديداً، على منطق المنامات والرؤى المراوغ. ولا ريب في صدق ملاحظة سمر يزبك ("الحياة"، 11 كانون الثاني "(2008 اكتفاءَ الحارة بنفسها عن السلطة"، وتمتعها بـ "أمان الجزيرة"، حيث السيد والسجان واحد، وعودة عصر الحريم. ولكن صدق الملاحظة "التام" يفترض اقتصار المسلسل على الارتكاس، وقبوله وجمهوره حمل الماضي على الماضي، وفصل الحاضر والآتي منه. والحق ان "باب الحارة"، والأدب التلفزيوني "التراثي" والحديث جملة، يكذب الحمل والفصل هذين. فلا تحصى المقالات والمراسلات التي تحتفل بـ "القرية الشامية"، وهي مجمع المجسمات التي يصور المنتجون والمخرجون السوريون مسلسلاتهم "التراثية" و "التاريخية" فيه (في المجمع). فينوه وزير السياحة السوري بالمهن التقليدية، وقلعة صلاح الدين، والمسرح الروماني، وقصر العظم، وتجسيدها "الحي والواقعي" "لأنماط الحياة الشامية من عشرينات القرن الماضي"، على ما ينقل نور الدين الأعثر عن الوزير ("الحياة"، 18 آب 2008). ويجمع الموظف الرسمي السياح وأهل البلد في باب واحد، وغرض واحد هو "تعريفهم بالتراث الشعبي الدمشقي". والتقاء السائح وابن البلد على تناول "التراث الحي" على معنى مشترك قرينة على عموم المعنى، ودمجه بين دفتيه أصالة البلد ومعاصرة الغربي. (وتواردُ هذا مع "برنامج" محمد عابد الجابري تحقيق "المعاصرتين"، ومع استظهار قصاصين وشعراء عرب بنقل بعض قصصهم وأعمالهم الى لغات أوروبية واحتجاجهم به على مرتبتها، هذا التوارد غير خفي).فيعزو مخرج "الباب" المثلث، بسام الملا، ما يسميه متواضعاً "الاهتمام" الذي يبديه الجمهور، وهو يقول "المزاج الشعبي" مترفعاً، بمسلسلات مسلسله، الى "ملامسته قضايا سياسية واجتماعية لها علاقة بتوقيت العرض" (في 2006 و2007) وبـ "المزاج الشعبي" العتيد. ويلمح المخرج السوري من غير تورط الى ما يسميه "خبير" ومحلل سياسي سوري آخر، وسفير مرتقب (الى لبنان!) "المقاومات" العربية (والإسلامية، ولكن هذه يحسن السكوت عنها في كلام الجهر) التي تساندها دمشق الأسدية حين لا تنشئها أو تصنعها وتنفخ فيها حياة مريضة ومميتة. ويخرج المخرج من مغمغته الظرفية والسياسية الى التصريح حين يتناول ("يلامس"؟) الأعماق القيمية، فيقول بالفم الملآن: "العمل تجسيد لقيم بيئة أصيلة ونبيلة لامست وجدان (الشعب أو مزاجه) ببساطة وصدق".وعلى هذا، يقص الملاّ المخرج على مسمعه، على نفسه، وعلى مسمع الجمهور، حكاية لا رد ولا راد عليها، شأن حكايات أو فتاوى المجتهدين العلماء في بعض الملل والنِّحل، لأنه لا يرد "على الله"، والحكايات من "فيضه" وإلهامه. وتفترض المناقشة، وهي السبيل الى الرد، اختباراً أو تحقيقاً، على معنى الحمل على حقيقة الوقائع وصدقها. ويحتمل كلا الاختبار والتحقيق التكذيب. ويشترطان الاحتكام إلى خارج يقاس عليه. والحكاية الملاّوية لا خارج لها، ولا تقاس على غير، ولا يمتحنها غير. فهي تصدر عن أصالة ونبل ووجدان. وغير هذه أو خلافها وأضدادها هي دخالة (على الضد من أصالة) وخساسة وكذب أو افتعال واصطناع. والحق ان لا ضد لوجدان. فالوجدان جوهر وليس صفة، و "ضده"، وليس نقيضه، جوهر آخر. وحمل الجوهر الآخر على نقيض وليس على ضد هو باب على حرب وجودية لا نهاية لها، على شاكلة تلك التي يراها أحمدي نجاد في مناماته ويقظته، ويراها معه شركاؤه في مناماته. وتتوجه الحكاية هذه على نظيرها وقرينها وشبيهها، أي على (جمهور) أصيل ونبيل ووجداني، مثلها ومثل مصدرها. وقد لا يكون ثمة مسوغ لصدورها، أي خروجها من نفسها، و "فيضها" صوراً وأقوالاً وحوادث. والمسألة هذه، مسوغ الصدور، عويصة اعتياص تسويغ الخلق نفسه على ما تنبّه السهروردي والإشراقيون عموماً.الأمة جمهوراً تلفزيونياًومهما كان من أمر علل الخلق والإخراج والحكاية، فـ "العمل"، على قول بسام الملا متواضعاً، صدر حقاً عن وجدان اصيل ونبيل. والأعظم انه صدر عما لا مناقشة فيه وهو قيم الوجدان هذا. وهذه، القيم، لا خيرة فيها. فإما صدوع وامتثال وإما إنكار وشقاق، أي انحياز الى "وجدان" آخر. والوجدان والجماعة (الأمة) واحد. و "الوجدان الآخر" خلف في القول. ولا معنى له إلا السعي في محو الوجدان السوي والواحد، وقتله وموته، على ما ذهب إليه الأمير شكيب ارسلان في ثلاثينات القرن الماضي، وعلى ما لا ينفك يقول، صبيحة كل يوم أو ظهره، "المرجع" محمد حسين فضل الله من حارة (ما هذه المصادفة؟) حريك، بين ضاحيتي الغبيرة وبرج البراجنة. وما صدر عن وجدان أصيل ونبيل، هو وجدان الأمة ـ وهذه صارت جمهوراً تلفزيونياً ومصلياً على معنى لا يفترق كثيراً ـ تجزيه الأمة المتلفزة خيراً وإقبالاً وفرجة وتقليداً.فالمسلسل أو "العمل" ليس وسيطاً بين الأمة المتلفزة وبين وجدان الأمة، وقيمها الثابتة والعميقة، إلا ظاهراً وشكلاً وعَرَضاً. فهو وجدان الأمة متلفزاً. وهذا على شاكلة الاضطرار الى سلك العلماء الفقهاء في البلاغ عن رسالة هي مرآة الفطرة، أو الاحتياج الى الحزب و "اللادولة" في حكم الأمةِ نفسَها، او حكم الشعب نفسَه، وعلى شاكلة التوسل بمجلس الشعب والانتخابات الى تثبيت الحزب القائد في قيادة الشعب العميق بالمجتمع، بحسب المادة الثامنة من الدستور (السوري). والمنطق الشعبي الأمي والوجداني هو في قرارته، على ما يعلم أصحابه، منطق ديني البنية أو المبنى. والصدور عن غيب خفي، والتحدر من الغيب الخفي هذا، والقيام في الشاهد والظاهر قرينة على حقيقة الغيب المقيم على الخفاء والاحتجاب، هي رسم المبنى الديني وآيته. ولا يماري بسام الملا، على خطى ميشال عفلق، "ابي البعث" رضي أبناؤه أو أنكروا، وربما عزمي بشارة و "الجزيرة" القطرية وغيرهما من المفكرين، في هذا. فيقر بأن "بنية مجتمع دمشق الحقيقية هي انه مجتمع محافظ، وجزء كبير من تقاليد حياته له مرجعية دينية، وهذه حقيقة تاريخية ربما لا تعجب بعض المثقفين".وهذا جواب من نعوا على "باب الحارة" بعثه "الحرملك"، على قول هاني الروماني في برنامج تلفزيوني دمشقي (عن أحمد عمر، "الحياة"، 20071029)، أو "عصر الحريم"، على قول سمر يزبك وإيلي عبدو وموسى برهومة ("المستقبل"، 20071010)، وغيرهم كثير. ونسبة الطعن، أو الملاحظة المتحفظة والآسفة، الى "المثقفين" أو "بعضهم" تكرر تقليداً بروليتارياً وشعبياً، شيوعياً ونازياً معاً، وأصولياً خمينياً ونجادياً منذ بعض الوقت. ويخرج التقليد هذا "المثقفين" ـ وهم على أنحاء مختلفة ومعقدة "يهود" هذه الأمة ومنشأ الفُرقة والكلام و "التشيع" ـ من الأمة، ويلفظهم من مزاجها الأصيل والفكري. ولكن المخرج السعيد يرد على "بعض المثقفين" رداً ثانياً مراوغاً. فهم يعتدّون من التراث الشعبي، على ما ينبغي لهم، بعناصره "الاجتماعية" والمهنية والاقتصادية. فينوه الرجل بـ "التنظيمات الاجتماعية" التي لازمت الحارات الشامية، والمجتمعات المشرقية السلجوقية والمملوكية والعثمانية، وكانت من رسومها (الدخيلة)، ويمدح "مجلس اعضاواتها" التحكيمي و"القضائي"، وأصناف المهن وتعريفها شيخ الكار وكفاءته وجدارته. فما على "بعض المثقفين"المتحفظين إلا العودة عن تحفظهم. فهو، المخرج، لا ينكر العامل الاجتماعي، شأن المتحفظين تماماً. ولكنه يأتي بأحسن من تنظيماتهم الاجتماعية حين يسندها الى أعراف الشعب وتراثه واحتفالاته وأفراحه وأحزانه ورمضانه وحجه وحكواتيه، ولا ينسى حلاقه ومزينه القديم وحجامته وتوليه زفة العريس ليلة عرسه، على ما لاحظت بيسان البني (الحياة 2008717).ويرد عباس النوري نصلَ التحفظ عن عزوف "باب الحارة" التاريخي، وعن التاريخ ("غير معني بالتاريخ"، على قول منار ديب)، الى نحر المتحفظين. وينوه الممثل، وصاحب الدور البارز، أبو عصام، في "فريق" التمثيل و "روحه الجماعية" (موسى برهومة)، بالسابقة الأميركية التي احتذى عليها "باب الحارة" وهي مسلسل "دالاس" الأشهر في سبعينات القرن الماضي، وبانكباب الحكومة الإسرائيلية على دراسة الظاهرة (وهو تنويه قريب من مديح حسن نصر الله نفسه ومقاتليه وفنهم العسكري). وهذا، أي مضارعة العدو الأعظم من وجه وصنع ما يدعوه الى الدراسة ويستدرج انتباهه وينكيه من وجه آخر، ما يعجز عنه نقاد "الحارة" وبابها وأهلها. وإذا حمل بسام الملا المخرج الحكاية وحلقاتها على "مرجعية دينية" لا تزال مرجعاً قائماً وفاعلاً، فعباس النوري يحملها على مرجع قبلي، أو على "نظام القبيلة". والمرجعان كلّيان وشاملان وجامعان. فنظام القبيلة "يتحكم في مختلف تفاصيل حياتنا".فهو عمران وسياسة وجمال ومعتقد وثقافة وتاريخ ومشاعر وقيم ومراتب وسبل معاش. ولا ضير في الكلية، أو الكليانية القبلية هذه. فهي بيئة "ود وصفاء وسط علاقات تنطوي على الرحمة والصدق والاحترام المتبادل". وتسودها، على قول موسى برهومة راداً على التشكيك الذي خلفه المسلسل الثاني، "اجواء البساطة ورفعة القيم وحيوية الموروث الشامي القائم على التعاضد والنخوة والتآزر ومقاومة المحتل". وينصب الممثل الشامي وربيب حي القيمرية الذي خص "لياليه" بمسلسل نافس المسلسل الذي خرج منه أو أخرج، ينصب "الباب" بإزاء العولمة نفسها. فهذه "فككت جمالية العلاقات التي كانت سائدة"، وأخلاقيتها أو مناقبيتها من غير شك. و "باب الحارة" أحيا العلاقات "المفككة"، ونفخ الروح في صورها. فبعثت تسعى في نفوس الجمهور ومهجه وعقوله وإراداته. فـ "عودة الروح" هي المثال التاريخي والثقافي، العربي ـ الإسلامي، المزمن والمقيم. ويخطئ، على زعمي، من يحمل آراء النوري والملا ومروان قاووق (المؤلف) وبرهومة وعبدو وسكيك والبني وبادي وبشارة و "الجزيرة"، وعشرات غيرهم، على المبالغة والتبجح وحدهما. فالصحف والفضائيات تترى بـ "أخبار" المسلسل. وهذه باب إعلامي على حدة. فذهب مراسل صحيفة "لمستقبل" اللبنانية بغزة، على شهادة عشرات من أهلها المنكوبين، الى ان المسلسل أخرج أحاديث الأهل من السياسة، وخلافاتها ومشاداتها، ووضعها على حوادثه ووقائعه (1 تشرين الأول 2007). فكان جمع الأقارب ينفض، ويفرقهم الخلاف على "فتح" و"حماس". فخلفت المناقشة الهادئة التدافع والتنابذ. فلما اجتمع شمل حارة أبو النار وحارة أبو شهاب، وهما اجتمع شملهما على الاستعمار بديهة، بكى كثيرون "دموعاً غزيرة"، على وصف ميسرة شعبان ("المستقبل"، 15 تشرين الأول). فتوحيد "الفصيلين"، أو الحارتين والكيانين والغرضيتين والقبيلين على بعض لغات العرب، أعزهما، وقواهما على الاحتلال، ونصرهما عليه.حجرة الأصداءوفلسطين، او المعاني الفلسطينية، على نحو ما تحضر التخييل والصور والمقالات والخطابة العربية، حجرة أصداء عظيمة تترجم عن احاسيس الجمهور "العربي" وأحكامه وآرائه. فهي مصدر شطر راجح من المثالات الخطابية والمقالات السائرة. ومعظم هذه وضع عليها. فمن اليسير على الفلسطينيين الغزاويين، وربما على سواهم، أن "يترجموا" منازعاتهم، ويقرأوها في ضوء حرب الأهل في الحارتين. فالخلاف الفتحاوي ـ الحمساوي، على قول الفلسطينيين، يشق الأهل الواحد، أي الجسم القبلي. وهذه ليست حال اللبنانيين، ولا حال الأردنيين او المصريين او العراقيين او السوريين. فهؤلاء جميعاً يعانون آفة التركيب. واضطروا، منذ انحسار الاستعمار وظله وعلى رغم النفخ في "عودته" المفترضة وفي طيف الإمبريالية المخيم ودمجها في الصهيونية، الى الإقرار بالكثرة وسريانها في مجتمعاتهم. والأرجح ان الحال هذه تقيد بعض الشيء استقبال المسلسل. فمعظم الملاحظات في الصحف (اللبنانية) على رواج "الأبواب" مصدرها فلسطين.فتروي بديعة زيدان ("الحياة"، 30 نيسان 2008) ان الجزء الثاني من المسلسل دعا عشرات المحال التجارية والمطاعم والمكتبات الى اقتباس اسمائها من المسلسل وأسماء أبطاله، وعلى رأسهم ابو عصام وأبو شهاب والزعيم. وعشرات الفلسطينيين الآباء يسمون أولادهم معتز أو عصام. والسلع الغذائية المحلية تسمى بأسماء أهل الحارة وأبطالها ورجالها (من دون نسائها على ما يبدو). وتقدر الكاتبة أن معتز (يؤدي الدور وائل شرف) يحظى بإعجاب "جارف" في أوساط اليافعين والأطفال. ويتربع عباس النوري (أبو عصام) في الصدارة، لا تختلف عليه "فئة" من "فئات الشعب الفلسطيني". ويقاسم "العكيد" (العقيد) أبو شهاب (سامر المصري) النوري بعض الصدارة هذه. وأخرج ايمن نحاس، الفلسطيني، مسرحية باسم "باب الحارة" ("الحياة"، 2008129). ودعاه الى هذا أثر المسلسل في "حياة الناس الاجتماعية والأعراس والمناسبات". فهم "أحبوا الأشياء القديمة التي راحت منا وأضعناها". فما كان من نحاس، ومن فريق الممثلين معه، إلا ان "أدخلوا" أبطال المسلسل الى "عالم" الفلسطينيين. فاعتقل الجيش الإسرائيلي أبو عصام ومعتز وأبو شهاب، وحررهم الشبان الفلسطينيون. وتحرروا معهم من غير شك في اثناء الوقت الذي تدومه المسرحية المنقولة عن مسرح عن "وقائع" ممسرحة.ويؤوِّل الجمهور خارج فلسطين "باب الحارة"، ومشاهده وأبطاله، على أهوائه وأحواله. فأطفال سوريا، اليوم، يهتفون: "أنا الزعيم، أنا ابو النار، أنا أبو شهاب، أنا العكيد"، ويؤدون مشهد سحب الخناجر والسكاكين بعضهم في وجه بعض، على ما يروي هوشنك أوسي ("الحياة"، 27 ايلول 2007 فهم أولاد الحارة. والحارة تثوي في قرارتهم، وهم جبلوا منها، على ما لا ينفك يخبر أصحاب المسلسل وبعض مشاهديه المتحمسين. وأما الخناجر والسكاكين في الوجوه فبعض من سنن القبيلة و "مشهدها الثقافي" والسياسي، كانت "مرجعية" المشهد العتيد دينية أم قومية، أم دينية ـ قومية (وهذه أجمع وأشمل). وعبارة "لَضَرَب بعضكم وجوه بعض بالسيوف" من العبارات المتواترة في كتب الآثار والأخبار معاً.وأما اللبنانيون فأخذوا من المسلسل اسماً لحمام، "حمام باب الحارة" في ضاحية بيروت الجنوبية (عبدالله ذبيان، "الحياة"، 18 كانون الثاني 2008). وسموا "خيمة أبو شهاب" مطعماً أو صالة في أحد فنادق وسط بيروت الفخمة (كلوديا مرشليان، "دليل" صحيفة "النهار"، 26 ايلول 2008). فعلقت سيوف عربية و "طبنجات" وأسلحة قديمة على جدران الحمام. وصُمدت خيزرانة القبضاي معتز في مكان بارز. ونصب ميزان عربة خضار قديم عند منعطف. وألبس الخدم لباساً عربياً، ودعي المستحمون الى لبسه. وعتق الخشب، ودليت ثريات قديمة من الأسقف. فإحياء رسوم الماضي في الحاضر، ورجوع اهل الحاضر الى الماضي، ينبغي ان يكونا تامين ومتفقين على مثال اتفاق الوجدان أو 7-7-المزاج7-7- الشعبي في الوقتين، وفي الأوقات كلها، وأن يطاولا "أدق التفاصيل"، على ما مر.ويتحدر "باب الحارة" من تقليد تلفزيوني وقصصي حكائي "قديم" يرقى الى فوق العقد ونصف العقد (1992 فكانت "ايام شامية" الحبة الأولى من السبحة السورية، "الدرامية". وبلغ عدد المسلسلات اقل من 60 بقليل، في 2006، سنة المسلسل الأولى. ومني الإنتاج السوري بـ "نكسة" في 2007 (خليل صويلح، "الأخبار"، 29/12/2007، فنقص عدد المسلسلات الى 36. وفي الأعوام هذه تناولت صناعة الصور موضوعات "تاريخية"، قديمة وحديثة ومعاصرة على حد واحد. فسبق "عنترة بن شداد"، وقتاً، "خالد بن الوليد". ومهد "صقر قريش"، الفصل الأول من الملحمة الأندلسية، للفصول التالي من مداولة الدول بين الناس: "ربيع قرطبة" فـ "ملوك الطوائف" فالفصل الأخير، "سقوط غرناطة". وتتناول المسلسلات، في طريقها الى التاريخ المعاصر، "محمد علي" الأرناؤوطي الألباني وخديوي مصر الأول وباني "نهضتها" و "باعث الوحدة العربية". في اوائل القرن الأسبق، على ما يحسب ويقول كثر. ويختم "الملك فاروق"، المصري، الفصول الخديوية هذه.وتحظى الأخبار الفلسطينية بشطر وافر من المشاغل الدرامية، آيته "التغريبة الفلسطينية" و "اجتياح" وغيرهما. وأدى عباس النوري في المسلسلات هذه أدواراً استمالت إليه الجمهور الفلسطيني وألسنته الجهورية، على ما تقدم، واستمالته الى فلسطين وقضيتها وأهلها، على مثال الدور الذي يدور. وتعرج المسلسلات "التراثية" السورية، في طريقها الى الأخبار الفلسطينية المعاصرة، على فصول سورية، محلية وبلدانية. فيتناول "أيام ساروجة" ريف القرن التاسع عشر السوري، ويروي حوادثه. ويخص "الحوت" صيادي الساحل في عشرينات القرن الماضي بالعناية. ويقص "ليس سراباً" اخبار الحب بين سوريين وسوريات من مذاهب وأقوام على شاكلة "الموزاييك" السوري (منار ديب، "الأخبار"، 30 كانون الثاني 2008). ويمر "صراع على الرمال" بالبدو، و "كوم الحجر" بحلب. ويدور "أسمهان" على المغنية، الأميرة الدرزية والشامية المهاجرة الى القاهرة، وعلى بعض الحوادث الانتدابية. ويتنقل "مطر الربيع"، و "يوم ممطر آخر"، بين دمشق والجزيرة (الشامية) في خمسينات القرن العشرين. ويمدح معلقون صحافيون "هجرة القلوب الى القلوب" و "خان الحرير" و "الثريا" و"رسائل الحب والحرب" و "ظل امرأة" وغيرها. ويذم بعضهم "حمام القيشاني" و "الخوافي" و "أيام شامية".وهذا غيض من فيض، ومن الفيض هذا المسلسلات المصرية الكثيرة والمتجددة، والمسلسلات التركية. وهذه يتصدرها "نور"، الأشهر وذو الـ170 حلقة. وهو واحد من 18 مسلسلاً تركياً تستضيفها تلفزيونات شمال افريقيا وإيران ومصر والإمارات وسوريا والعراق والأردن ولبنان ("السفير" 15 ايلول 2008). وتزعم رولا عبد الله ("المستقبل"، 7 آب 2008) أن صوت "نور" يعلو صوت المعركة وطائرات الاستطلاع الإسرائيلية في سماء فلسطين، ويجمع شتات العائلات مساء الى المائدة، ويصرف حراس ليل بيروت (!) في إجازة. وأحصى احد محركات البحث على الشبكة، على ما قرأت سمر يزبك، 312 ألف كرة تناولت المسلسل التركي الذائع الصيت" (الحياة"، 22 حزيران 2008). فشخصت الكاتبة "حقبة تركية" تلفزيونية، في أعقاب "الحقبة المكسيكية". واستفتت بيسان البني بدمشق مشاهدين رأيهم في "نور". ("الحياة"، حزيران 19 حزيران 2008) فجاءت آراؤهم فردية أو شخصية و"عاطفية" خالصة.فاحتسبت السيدة الأربعينية لمهند رده بعض الحب الى "قلوب متحجرة" كثيرة، تأمل ان يكون منها قلب من تود ان يُبعث الحب فيه. وترى المراهقة الفتية مهند "جميلاً جداً كالخيال"، وهي تخزن صورة في "موبايلها". وتدعو أزياءُ نور، أو "ستايلها"، صديقة الصبية الى الفرجة، والإقامة عليها. ويقبل المراهق الفتى مسروراً باجتماع العائلة، أولاً، ومتمتعاً بمشهد "الأجساد (النسائية) المثيرة"، ثانياً. وتنتظر الفتاة الصغيرة، ابنة والدين منفصلين، أطوار بنت في المسلسل مثلها، انفصل والداها، فتقارن بين حالها وحال مثيلتها وقرينتها. وتراوت الصحف ووكالات الأنباء خبر المرأة الجزائرية التي طلقها زوجها جزاء جهرها رغبتها في قضاء "ليلة" مع كيفانش تاتلينوغ، على نحو ما تناقلت زيادة عدد السياح العرب الخليجيين الى تركيا، والقصر الأسطنبولي الذي تنزله عائلة مهند، من 41 ألفاً الى 100 ألف، من 2007 الى 2008. ولم يفت صاحب "الاتجاه المعاكس"، على "الجزيرة"، الدكتور فيصل القاسم، خطر المسلسل ومكانته. فخصه بحلقة من البرنامج الجدلي والفكري "الإشكالي" والذائع الصيت.اختلاط الهوىوعلى خلاف الآراء السياسية أو الاجتماعية او الثقافية الجماعية، أي الأهلية والقومية، في "باب الحارة" ومعتزه وأبو عصامه وأبو شهابه وأبو ناره، وتقتصر الآراء، وخصوصاً المشاعر، على الحاضر، وعلى النفس. ويعج المسلسل التركي بالآلات المعاصرة. ويتناول مسائل اجتماعية كثيرة ومتفرقة انتُقد المسلسل العربي السوري على سكوته عنها وإغفالها. فمكانة المرأة هي في القلب من حوادث "نور": في الأسرة النواتية فالأوسع، وفي قلب الزوج وفراشه وماله وميراثه وماضيه. ولعل مكانتها هذه، والمسائل "الشرعية" التي تكتنفها، هي السبب في حملة فقهية توجهت على "نور" ولم تنل منه. والتفاوت الاجتماعي ماثل، ولو على صورة الفرق بين السادة وبين الخدم. والعصابات تسرح وتمرح. والصحافة والموضة وقوانين الأحوال الشخصية والجريمة موضوعات تتخلل حوادث كثيرة، وأحاديث أكثر. فهل معنى الإقبال على "نور"، أو على "سنوات الضياع" و "إكليل الورد" التركيين كذلك، أن الجمهور "العربي"، أو شطراً منه غير قليل، ينأى بنفسه عن "تراثية" الحارات، واجتماعها التقليدي، وذاكرتها ومحافظتها؟ أم هو قرينة على انقسام الجمهور العتيد قبيلين وحزبين، واحداً يميل الى المحافظة "الستاتيكية" وآخر ينزع الى المعاصرة "الديناميكية"، على ما رأى جاك بيرك قبل نصف قرن؟ أم ان الجمهور ـ وهو جماهير لا تعلم الصحافة على وجه الدقة على أي مقادير وأهواء تتجمهر وتتكأكأ ـ يجمع على شاشته الواحدة رَكْبي حبه، أو ركائبه أنّى توجهت، على قول الشيخ الأكبر (ابن عربي)؟ فلا يدفع الركب الشرقي الركب الغربي، في حلته التركية، بل يؤلف بينهما في ركب شرقي ـ غربي مختلط اختلاط ثقافات العامة وثقافات الخاصة الطليعية وما بعد الحداثوية؟ويستأنف هذا، على وجوهه الثلاثة، سيرة وسنناً ثقافية وسياسية واجتماعية لم يطوها القرن المنصرم، ولا طوتها المجتمعات العربية (­الإسلامية) وجماعاتها وأجهزة الحكم فيها. ففي أوائل القرن العشرين، وأواخر سابقه، عمد القصاصون العرب الى التواريخ العربية ـ الإسلامية والأخبار، فرووها في حلة قصصية و "عامية" لا يزال جرجي زيدان علماً عليها. وعلى شاكلة المسلسلات التلفزيونية التاريخية، وحلقاتها ومادتها ونفسانياتها (أو بسيكولوجيتها) وتشخيصها وحكايات عشقها وعواطفها، قص زيدان ـ وقبله وبعده عدد غفير من الحكواتية تصدرهم لبنانيون مسيحيون ليس كرم ملحم كرم، أو أحد آل الأشقر من بيت شباب ـ عين عار، أقلهم شأناً وجزالة عربية ـ حلقات الفتوح العربية منذ اجتياز خط تبوك الى ضواحي شبه جزيرة العرب القريبة والغسانية، فالمغرب الأقصى والأندلس، فأرجاء آسيا الوسطى (فرغانة)، في عهود الأسر الحاكمة وأجنادها ومقاتليها ووزرائها. فصاغ زيدان منشئ "الهلال" قبل نحو نيف وقرن، مادة "تاريخ التمدن الإسلامي"، وسم كتابه التاريخي "العلمي" أو الخبري، في حلة بطولية وشخصية. فأخرج من إغفال التاريخ والتمدن والدين أفراداً سماهم، ووسمهم مياسم وسمات وميولاً ورغبات وأحزاناً ولواعج حمّلهم وحملها حوادث التاريخ المعروفة والكبيرة.وهو جرى في فعله هذا على مثال أصحاب المقالات النهضوية التاريخية. فحمل الهوية التاريخية القومية (والدينية) المعاصرة على جماع الحوادث الماضية وجملتها. وحسب ان قوة تعريف الهوية، اليوم، هي ثمرة من ثمرات سعتها وعرضها، وثمرة امتلاء الوجدان او الوعي بها ومنها. وخلفت وزارات "المعارف"، على ما سميت وزارات التعليم والتربية الى وقت غير بعيد، وبرامج تدريس التاريخ التي أقرتها، جرجي زيدان ورهطه على ملء الهوية القومية ـ الدينية، المفترضة واحدة وجامعة وثابتة، بأخبار الفتوح والبطولات والانتصارات والخيل والسيوف والخطب. ويخلف التلفزيون، بعد السينما، التدريس والقصص على تدبّر التاريخ، وتدبيره وصوغه وتقريبه. ودعت الخلافة التلفزيونية، على ما يقتضي الوسيط الإعلامي وتقتضي بنيته، القص والحكاية، في عصر الوطنيات والمحليات الملزم على رغم الآفاق القومية ـ الدينية المترامية، دعتهما الى الإلمام بخصوصيات كانت منكرة الى أمس قريب، ولا تزال منكرة إذا تجاوزت القص والحكاية الى السياسة وعمومها. ويتولى القص والحكاية التلفزيونيان إرساء مشروعية "المزاج الشعبي"، التلفزيوني العربي، وإرساء مشاعره وأخلاقيته الخطابية ومقاومته العصابية وإنكاره التاريخ والعولمة، على ركن مكين هو ركن الصورة وما يتبعها. فيمدح التلفزيون نفسه على تناوله التاريخ والاجتماع والناس، ويمدحه الجمهور على تناول هذه، ويجزيه فرجة ومشاهدة كثيفتين. ويجمع ابطال الماضي إلى أبطال الحاضر حين لا يلد أبطالَ الحاضر، على شاكلة ولادته مسلحي الفقه والحرب الصاروخية.وقد تنبه المسلسلات الحاراتية التراثية على وجه بارز من التواريخ العربية الحديثة، وثوراتها وانتفاضاتها ومقاوماتها، هو نباتها في تربة أهلية اولاً، وفي أحيان كثيرة آخراً، وعسر شيوعها في أرض مختلطة ومركبة مديدة نطلق عليها صفة الوطنية تشبهاً بالمثالات التي نحسب اننا نعرفها. فالثورات التي نؤرخ بها الاستقلالات الحديثة، وبناء أجهزة الإدارة والحكم، والإسهام في الصراعات السياسية الكبيرة، الإقليمية والدولية ـ من الثورة العربية الأولى (جبل العرب أو جبل الدروز) فالثورة العربية الكبرى (الفلسطينية في النصف الثاني من الثلاثينات) فالثورة العربية السورية، فحركة التحرير الوطني الجزائرية، فالحركات الناصرية الكثيرة، فالحركات الفلسطينية، الى الحركة الشيعية المسلحة في لبنان وحركة المقاومة الإسلامية بغزة ـ هذه الثورات والحركات والمقاومات والانتفاضات معاقلها أهلية وحاراتية أولاً، ومشاربها ومنازعها وحروبها أهلية وحاراتية كذلك. والحارة، على معنى الأهل وحلفهم وعصبيتهم، هي مصدر قوة الحركات هذه قبل انهيارها وتصدعها العاجلين أو الآجلين، ثم تجددها وانبعاثها بموضع آخر.وعلى الترتيب هذا، لا تعدو الحداثة، على وجوهها كلها تقريباً، كونها عَرَضاً طارئاً لا يغير شيئاً حقيقياً في "المرجعيات"، على قول بسام الملا وغيره، أو "الثوابت"، او الهوية، كيفما صيغت هذه كلها. وتتقلب أشياء الحداثة بين ظهراني الهوية، أو تتقلب الهوية بين أظهر الحداثة، من غير حرج ولا منازعة ولا مشادة. والتقلب المزدوج هذا مسرحه الأسرة أو العائلة، أصولها وفروعها، ومداره على المشروعية النَّسَبية، على رغم الصيغة الفردية وآلات العمران. وانكفاء النفس العميقة وقيمها على نفسها، أو على حارتها الحميمة حيث هي جماعة وتراث، يعلق العالم في الفراغ "النفسي"، على نحو ما يحمي النفس من امتحان العوالم وحوادثها وتواريخها، ومن محنتها الممضة والأليمة.

الثلاثاء، 7 أكتوبر 2008

عزوف الكسندر سولجنتسين عن الرواية إلى القصّة والتقصّي...

المستقبل - الاحد 31 /8/ 2008 -
تحمل الصحافة اليومية، وأخبارها المتدافعة بالمناكب والأيدي، كتبتها وعمالها، أو مخبريها ومعلقيها، على التناول السريع أو اليومي. فإذا توفي رجل مثل سولجنتسين، على ما "فعل" الرجل قبل نحو الشهر، استبْقت "معالجة" الخبر، ولو في ملحق ثقافي وأسبوعي، من موضوعه، أي من حياة الكاتب والداعية التاريخي وليس السياسي وحسب، استبقت الأصداء القديمة التي بعثتها حوادث قديمة كذلك لابست حركات الكاتب وسكناته، وحفت أعماله الأدبية والسياسية. واستبقاء الأصداء القديمة قلما ينفخ حياة في أعمال وأقوال ضجت بالدعوة إلى الحياة، وتدين بدوام وقعها إلى قوة دعوتها هذه، وإلى استجابة الدعوة على هذا القدر أو ذاك. وربما لا ينبغي لمعالجة صحافية وظرفية، ولو موثقة، أن تطمع في بعث معنى سولجنتسين، أو معانيه، لمن لم يحضروا هذه المعاني، أو بعضها، إبان تكوينها وتصويرها وتخلقها ـ وهذه كلها تتعدى المقصد ـ، أو لم ينتبهوا اليها يوم تكونت وتصورت وتخلقت. ولكن الاقتصار على الأحكام المنمطة والواهنة التي إما عاصرت أعمال الكاتب، أو ثأرت منه، من أثره المفترض والبغيض في حوادث تالية، لا يعدو ترديد صدى الأصداء.والاقتصار هذا كاذب. فهو يكذب مرة أولى حين يتناسى جدة الكاتب يوم خرجت أعماله إلى النور، واستدرجت القراء إلى الاعجاب، أو خيَّبتهم، أو حيرتهم، أو تركتهم من غير رأي. وهو يكذب مرة ثانية حين يغفل الخلاف الذي فجرته أعمال سولجنتسين، ومدته تباعاً بمادة متجددة، واستأنفته عملاً بعد عمل، في ضوء حوادث التاريخ الكبيرة، و"الحوادث" الأدبية التي أعقبت أعماله، ومتت اليها بهذا السبب أو ذاك. ولا يغفل هذا أعمالاً لم تمت بسبب إلى أعمال سولجنتسين، ولا تشبهها. ولعل روايات ميلان كونديرا أوسعها شهرة. ولكنها لا تنفك، من طرف خفي، "تومي"، على ما كان بعض أدبائنا يقولون، إلى بعض "مخلوقات" الكاتب الروسي. فيقع قارئ "جناح (مرضى) السرطان" على فيرا كورنيلييفنا غانغارت، الطبيبة التي قتل صاحبها على الجبهة في أوائل الحرب (الروسية ـ الألمانية)، قبل أن يجرح، أو ينقل إلى المستشفى، أو يؤذن في "مأذونية"، فتركها "هي نجمته، تضيء وتضيء من غير انقطاع، ويُسفح نورها عبثاً". وبين فيرا هذه، وأخريات مثل آسيا، وبين بعض نساء الروائي التشيكي وجوه شبه حال اختلاف فني الكاتبين، وانتسابهما إلى تراثين قصصين وأدبيين متباينين دون ظهورها."خَصْورات" آيزينشتاينوالاقتصار على الأحكام المنمطة والكسلى يكذب مرة ثالثة حين يوهم بحمل أعمال سولجنتسين على "فن الرواية"، ومعاييره المفترضة، فيبخسها قيمتها، أي حقها من القراءة المتجددة والمستأنفة، بذريعة طغيان أصداء "سياسة" سولجنتسين على أدبه وفنه، وتقديم المعاصرين همومهم، وهموم الكاتب السياسية والنضالية، على "أدبية" أدب القاص الروسي، على قول أحد مواطنيه، "الشكلاني" شلوفسكي. ويلوح الكذب من غير يناع حين ينصرف بعض المتذرعين بضعف "فن" الكاتب الراحل عن أدبه وقصصه فيقصرون مناقشتهم أو احتجاجهم على سياسته.وكان الكسندر سولجنتسين استبق في عمله القصصي الأول، "يوم (من أيام) دينيسوفيتش"، المناقشة هذه. ففي أثناء تناول فطور الغداء يجلس اثنان من علية المعتقلين، وهم أصحاب السابقة الثورية المجيدة التي تخولهم التمتع بالمآكل الشهية والتبغ والأحذية والألبسة والأغطية الدافئة، سيزار (أو قيصر) والمعتقل سين ـ 123. ويدير سيزار ظهره إلى شوخوف، ويدخن غليونه، ووجهه إلى المعتقل الآخر، الشيخ المسن والكبير الجسم المدان بعشرين عاماً أشغالاً شاقة. فيقول سيزار إلى رفيق طاولته وطعامه أن الموضوعية تقضي بالإقرار للسينمائي الشيوعي سيرغي آيزينشتاين بالعبقرية. وهو يقول هذا برفق، ساعياً في استمالة صاحبه. ويحتج لرأيه بمشهد من فيلم آيزينشتاين "إيفان الرهيب": "ورقص حرس القيصر وأقنعتهم على وجوههم؟ ومشهد الكاتدرائية؟". فيجيب المعتقل سين ـ 123 مغضباً: "خَصْورات!". "فثمة إفراط في الفن يحول بين هذا وبين أن يكون فناً. فهو بهار وقنب في مثابة خبز يومي. وإلى هذا، وفوق هذا، فكرة سياسية تبعث على القرف والاشمئزاز: تسويغ طغيان فرد واحد. فكأنك تبصق على ذاكرة ثلاثة أجيال من المثقفين الروس!". فيسأله محاوره: فعلى أي نحو كان على السينمائي إلباس موضوعه من غير أن يحملهم (هم الأغنياء عن التعريف أي حرس الحزب "الثقافيون") على مراقبته وحبسه؟ فلا يكاد سين ـ 123 يسمع "إلباس موضوعه"، وسيزار يعني اللباس أو الزي الحربي بترك الرقباء يغضون عن العمل الفني، حتى ينتفض، ويطعن في صدق الكلام على عبقرية السينمائي حين يقصد المتكلم حسن تخلصه ومحاباته وصدوعه بأمر صدر اليه وأطاعه. وفي أثناء المحاورة يأكل سين ـ 123 يخنته "بحلق لا مبالٍ"، على ما يكتب سولجنتسين. فالحصة من الطعام قليلة ولا تغني عن الجوع. وعندما يفرغ من تنديد بطاعة آيزينشتاين أمر الطاغية الفرد، يقطع الراوي الغفل، وهو شوخوف نفسه أو "محله" القصصي، سرد المحاورة "الرفيعة"، على قول إيفان دينيسوفيتش في سره. فيتنحنح شوخوف متردداً ومنبهاً سيزار إلى حمله اليه صحن الطعام الذي يوزعه مطبخ المعتقل على المعتقلين. فيستدير سيزار، ويمد يده، ويتناول الصحن من يد شوخوف من غير أن ينظر اليه.وعلى نحو ما كتب القاص للتو أن شوخوف تنحنح، متهيباً قطع المحاورة الرفيعة، ومتعمداً في آن تنبيه سيزار إلى حمله حصته من الطعام اليه، فجمع داعيين متباينين ومتدافعين في (وجهي) فعل متصل، من غير صبغه بصبغة نفسية، يروي القاص أن سيزار استدار، ومد يده، وتناول الصحن من غير أن ينظر إلى شوخوف، ويختم: "فكأن الطعام جاء وحده على جناح طير". فيلحق الختامُ المروي على لسان أو قلم القاص، بشوخوف، تقديراً، على قول أهل النحو. ويدخل، على هذا، في باب أفكاره أو تداعياته وظنونه، من غير أن ينسبها إلى نفسه، أو ينسبها اليه القاص الغفل صراحة وعلناً. ويبقي الاشتباه القص بمقام وسط بين زعم السرد الخالص و"الموضوعي" وبين التأويل المقحم على السرد من غير أن يدري القارئ مصدره أو صاحبه.والمقام الوسطي هذا هو مقام شوخوف. و"اليوم" الذي يدور القص عليه هو يومه، على وسم الكتاب. ولكن شوخوف، إيفان دينيسوفيتش، ليس صاحب اليوم، وليس شاهده الممتاز أو بؤرته، أو مرآته وجامع معانيه، على ما نرى من بعد. فالمعتقل الروسي أو السوفياتي الشيوعي لا يقر لمعتقليه ومسجونيه بالمحل الذي توليه الشهادة للشاهد، أو يليه الشاهد من الشهادة، وتليه البؤرة من الخيوط المنعقدة عندها. وهم، المعتقلون، لا ينسبون إلى أنفسهم المحل هذا، ولا يحلونه حلول أصحابه وشاغليه. ويسخر إيفان في موضعين من الكتاب بالركن الذي ينهض عليه المعتقل السوفياتي. فهو يولي المعتقلين مهمة أولى هي بمنزلة المقدمة الضرورية من الاعتقال السياسي، أي بناء السور الذي يمنع المعتقلين من الهرب، بأيديهم، قبل أي عمل آخر. فهم السجانون، ليس على معنى مجازي خالص، وهم المسجونون. والسجن صنع أيديهم، على معنى مادي واجرائي، ولكنهم مادته. وحالهم هذه، لا تبعثهم على الانقياد انقياد المادة، على رغم ارادة "صاحب" المعتقل قسرهم على الانقياد من غير بقية ارادة، أو بقية رغبة، في كيانهم.الأقدار والمصائرفيقع قص سولجنتسين، ومقامه الوسطي، على حال "الزيك"، أو المعتقل المرقم والمحمول على رقم في جملة أرقام. وهو يقص قصصاً، ولا يروي رواية، على خلاف ميلان كونديرا التشيكي. فالمعتقل، وبالأحرى "أرخبيل" المعتقلات وعناقيد حباتها وجزرها المنتشرة في أرجاء العالم السوفياتي، الكولخوز (في "بيت ماتريونا")، ومصح الاستشفاء (في "جناح السرطان" أو مرضاه)، تشترك في كونها أقداراً ومصائر "لازمة" لا يختارها المعتقلون أوالكولخوزيون أو المرضى. وهي، المعتقل والكولخوز وجناح المصح، ملتقى آهليها على رغمهم. وهم لا يلتقون فيها، ويحلونها، إلا مكرهين، تكرههم على الالتقاء، والعيش معاً، والعمل، والتباغض، والتناصر، والشفقة، والمحاورة، ارادة "الطاغية الفرد" المستبدة بهم.وهذه الإرادة لا تجمعهم، مرضى يعانون المرض العضال، أو مزارعين في مزرعة جماعية، أو معتقلين تولت أجهزة الحزب القائد صيدهم­ على معايير مفهومة ومعقولة. فهم حيث هم ليس من تلقاء أنفسهم، ولا جراء حوادث العالم التي اختاروا، على مقدار أو آخر، الانخراط، أو الخوض فيها، سعياً في بلوغ غاية قدروها وأخطأوا تقديرها عموماً أو أصابوا غاية أخرى لم يقدروها. فوسعهم، في الأحوال هذه كلها، تعقب خط بياني يأتلف، على اضطراب وتعرج وتقديم وتأخير، من شذرات، أوقات وناس وأحوال وحوادث وإرادات ورغبات ودواع وحواجز ولهجات، وتنعقد منه رواية، بلزاكية أو فلوبيرية أو بروستيةأو كافكاوية أو فوكنرية، وربما سرفانتيسية وديدروية قبلها جميعاً. وما وسعهم هو، حقيقة، ما وسع الروائي كتابته.والمعتقل السوفياتي، شأن المعتقل النازي في مرآة تقصي القاص الإيطالي ومعاصر سولجنتسين تقريباً، بريمو ليفي (صاحب "أيكون هذا بشراً")، قد يتيح الحياة، على قول كوزيومين، أحد "شيوخ" المعتقل ـ على رغم بلوغ عدد ضحاياه رقماً فلكياً (أحصى سولجنتسين في "الأرخبيل" ثلاثين مليوناً، ورد المؤرخون الرقم إلى النصف) ـ، ولكنه لا يتيح الرواية، على معانيها وصورها التي تقدمت. وصدع سولجنتسين بالأمر. فجمع بموضع واحد من لا يد لهم في الاجتماع والحوار والتخلص، وصدروا عن حيوات وسير وتراجم ليس فيها ما يدعوا أصحابها، اضطراراً أو من داخل، إلى بلوغ ما ليس محجة، ولم يكن محجتهم ولا قبلتهم ولا مقصدهم. وأثر هذا في الرواية عميق وراجح، فهي تترجح بين أفعال يقصد بها أصحابها مقاصد يسعون فيها، وبين مترتبات وذيول تنشا عنها معانٍ ودلالات ومسالك لم يردها أحد.وانتفاء المعاني والدلالات والمسالك (الروائية) من القصد والإرادة لا يوقعها في التشعث، ولا في التخبط. فتنضبط، من طرف خفي، على رسوم قد يتعرفها القارئ أو قد تخفى عليه. ولكنها، في الحالين، تقود القراءة، وتوقّعها على نحو توقيع المراحل والمنعطفات سيرة المرء الواحد في المجتمعات "الجمهورية" والفردية، على ما يصفها جون بوكوك شارحاً ماكيا فيلي ودعاة إرساء النظم السياسية على المنازعة والانقسام. فالأفراد المنقسمون والمتنازعون قد تبطن سيرهم المكتوبة والمروية رسماً متماسكاً لا يصدر تماسكه عن ارادة، ولا يثوي في قصد، ولا ضامن له، ولا يسبق الحوادث، ولا مُسكة له من نفسه أو من غيره، وهو أقرب إلى ظل منه إلى شيء. والرواية هي شكل أو صورة التماسك التقريبيي المعلق هذا. وهي ما تجنبه وتفاداه صاحب "إيفان دينيسوفيتش"، وتحفظ عن انتهاج بعض كبار الكتاب الروس، شأن ليون تولستوي في "أنّا كارينينا"، طريقه. ولم يصدر، في تجنبه وفي تحفظه معاً، عن خصوصية ثقافية روسية، أو أرثوذكسية وسلافية، مقدار صدوره عن "علم" أدبي وتاريخي بأحوال الروس و"روسياهم"، على مثال قوله "روسيانا" في إحدى مقالاته.وهذا ما لا "علم" به لأرباع "روائيين" عرب يحسبون أن الرواية في متناولهم، ورهن مشيئتهم الفنية والكتابية، وأن "الملحمة" أو "المأساة" الفلسطينية أو اللبنانية تروى على شاكلة رواية ألان روب غرييه المفترضة "دراما" الغيرة، أو رواية صمويل بيكيت تعرّف مولوا النوامي مواضع من المدينة، فيتكبون من المضحكات ما يندى له جبين القارئ المتعرض للشموس وهجيرها وهجراتها).وحين تبلغ القصعة يد سيزار، الغافل عن شوخوف وعن يده، على ما قد يكون شوخوف انتبه بطرف انتباه، يستأنف سيزار حديثه والمعتقل القديم والمعروف برقمه. فيقول القولة المعهودة والمتواترة في "الفن"، وهي يقولها الذواقة المتدربون في أنحاء الأرض ويرددونها: "المسألة في الفن ليست (ماذا) بل (كيف)"، ليس المضمون بل الشكل. والذين نعوا، من بعد، على الكسندر سولجنتسين، ضعف فنه على زعمهم، عزوا أصداء أعماله المدوية إلى "ماذا" أعماله، أو مضمونها السياسي. والحق أن النعي هذا طريف. فالناعون على الكاتب دَينه بوقع أعماله إلى مضمونها السياسي والاجتماعي، دون شكلها الفني، هم من "التقدميين" و"الماركسيين"، على أنحاء متفرقة من التقدمية والماركسية. وطعنُهم عليه تقديمه المضمون على الشكل عرضٌ من أعراض حداثتهم المستدركة، وأوبتهم المتأخرة والغالية إلى الإقرار باستقلال 7-7-المستويات7-7-، المستوى السياسي والمستوى الفني، عن القاعدة الاقتصادية. فيرد ين ـ 123 "قافزاً في الهواء، وخابطاً بحدِّ يده الطاولة، طع طع": "لا، لا! ليذهب (ماذا) ك إلى الجحيم إذا لم يوقظ فيَّ شعوراً صادقاً وصريحاً واحداً!". وعندما يستدير شوخوف، ويخرج من المقصف مستطلعاً حال الطقس، تنقطع المناقشة، أو ينقطع نقلها.انقلابات القصوالمحاورة أو المناقشة هذه تُداوِل رأيين مختلفين في رجل، آيزينشتاين، وعمل، "إيفان الرهيب"، أثارا جدالاً عريضاً في روسيا السوفياتية. ولا يخلص القارئ من المطارحة إلى رأي. ولكنه يلاحظ أن صاحب "الكيف"، أي سيزار مدخن الغليون ومقصد البريد المثقل بالحاجيات الفاخرة والمنعم على شوخوف، يتربع في سدة عالية يشرف منها على المناقشة وعلى شوخوف معاً. فهو سيِّد، على معنى السيادة السياسية والاجتماعية والثقافية. وإعجابه برقصة الأقنعة التي يؤديها حرس القيصر، أو بمشهد تتويج إيفان (وفي وسع متعقب الأسماء أن يلاحظ توارد الإيفانين: القيصر الرهيب، "موضوع" آيزينشتاين العبقري والمراوغ والمقنع، والمعتقل البسيط والطيب، "موضوع" سولجنتسين الحرفي والصريح والسافر)، إنما هو إعجاب السيد لحظة تمتعه بخدمة "الخادم"، وتبدد الخادم وخدمته في صورة جناح الطير. وحين قد يتراءى للقارئ أن الكاتب يميل إلى "ماذا" سين ـ 123، ويقدم الشعور الصادق والصريح على فن التقنع وشعائر التتويج، يروي المطارحة على نحو شعائري، ومن طريق سمع المعتقل البسيط ونظره وخدمته السيد. فتقيد حكاية المطارحة الشعائرية، وإظهارُها الانقسام الذي يتخللها ولا تنفك منه، مضمون القول. وتحمل المضمونَ على شكل الشعيرة وصورتها. وهذا انقلاب يشبه انقلابات القص في قصة ديدرو "جاك القدري" (القائل بالجبر). ولا يلمح سولجنتسين إلى "فنه"، ولا يدلّ به. ولا يبعد أن يصح فيه نعي سين ـ 123 على آيزينشتاين الغلو في الفن غلواً يؤدي إلى انتفاء الفن أو نفيه. وهذا انقلاب آخر يدعو الكاتب قارئه إلى إغفاله، والمرور به مرور الكرام، بعد إثباته.فالقصة أو الحكاية ليست الرواية، على المعنى الذي تقدم، من غير أن ينجم عن هذا فقر موارد أو ضعف أودٍ وحيلة. ويرضخ سولجنتسين، في "إيفان..."، رضوخاً يكاد يكون مدرسياً لموجبات القصة أو الحكاية، أو لفروضها وأصولها الشكلية. فيقيد قصه بيوم المعتقل، وبحدوده المكانية، وبسكانه، ومدبريه، ودستور علاقات السكان بالمدبرين، وعلاقات المعتقل كله بإدارة المعتقلات و "دولتها"، وصاحب الدولة، وتاريخها القريب. واقتطاعه الشطر هذا يبدو، من وجه، تمثيلاً اختبارياً على "النظام" السوفياتي، وعلى ارخائه بثقله، وإناخته على روسيا والروس والشعوب القريبة التي ضمها النظام اللينيني ـ الستاليني، باسم "المسألة الوطنية" أو"القومية"، إلى سلطانه. ولكن التمثيل الاختباري، أو ما قد يتصور في هذه الصورة للوهلة الأولى، يصدع بهيئات النظام، ورسومه ومسالكه، شكلاً وصورة. فإذا باشر القص من داخل، وتناول حوادث المعتقل اليومية وهو على ظاهره الأول رضوخاً وصدوعاً، أعمل في قصه وتناوله ما يُعمله المعتقلون في هيئة المعتقل وأنظمته ورسومه ومسالكه من "فنون" المنازعة والمقاومة والتخريب والمساومة والانقياد معاً. و"شعب" المعتقلات الذي قسره السلطان السوفياتي على طاعته، والانقياد اليه، غصباً وعنوة، "ملأ" المعتقلات، على رغم وطأة السلطان و"نظامه" ومدبريه وآلاته، بحوادث وعلائق وأقوالٍ ومشاعر ومواطآت وشراكات ومنازعات تنتهك شرائع السلطان ودستوره (على معنى أصول القواعد والقوانين) في نظمه وهيئاته، والمعتقل منها بمنزلة القلب والمثال والجوهرة.وملأ سولجنتسين، على نحو قريب من هذا، حكايته، وملأ الأقدار والمصائر المرسومة المترتبة على فن الحكاية أو القصة، بحركات الخروج والانتقاض على الحكاية وأقدارها المفترضة. فيقتفي القص القرائن الكثيرة على الخروج والانتفاض والمساومة، من غير غنائية، ولا ملحمية، ولا قصد معانٍ جامعة. فالغنائية والملحمية والمعاني الجامعة هي من مزاعم السلطان السوفياتي، وطبائع الاستبداد عموماً. ولعل بعض ما اختص به السلطان السوفياتي هو حمل الاعتقال الجماهيري، واستهلاك البشر استهلاكاً نهماً في المعتقلات، على الهيئة العادية و "القانونية"، وسلكها في هيئات الحكم و"الدولة"، على ما احتج سولجنتسين طويلاً في "أرخبيل الفولاغ"، وملمحاً في "إيفان دينيسوفيتش". ودعا السلطان السوفياتي أدباءه وفنانيه، وجهاز دعاوته الضخم، إلى مديح انجازاته ونُصبه مديحاً غنائياً وملحمياً، أو "سمفونياً".ولعل ما ينكره سين ـ 123 على آيزينشتانين حين يصف آياته الفنية، على ما يراها سيزار، بـ "الخصورات"، أو الحركات الإيمائية المفرطة في العبارة والدلالة، هو محاكاته الفنية مزاعم السلطان الكبيرة والجسيمة. فـ "اختار"، من غير عَزو ما صنعه إلى ارادة وتسيد متمكنين، رداً على الأنصاب السلطانية عبارةً مراوغة هي القصة أو الحكاية. وتحاكي مراوغة سولجنتسين مراوغة "الشعب" الذي يأهل قصصه والمعتقلات. فالمراوغة، في الحالين، لا تحتاج لغير بث الخلاف والمنازعة والفرق في أركان البنيان الشامخ والمكين. ولا يقتضي هذا غير إخراج الحوادث اليومية من الانضباط على توالد الاستدلال بعضه من بعض، تاريخاً وفناً و "جمالاً".

أدب يرطن برطانة صفوة تصطفي نفسها ويردد أصداءهاخروج من المخاطبة ومبانيها الى نفس مجردة من اللغة

المستقبل - الاحد 14/9/2008 -
قرن على تقصي رفاعة رافع الطهطاوي "مناهج الألباب المصرية الى مباهج العلوم العصرية"، ذهب كاتب مصري الى أن مبعوث محمد علي باشا الى "باريز" و"إبريزها"، ولم يكن الكتّاب يقولون "نكهتها" على ما يقول ذواقة العصر وكتبته، سبق كتّاب العربية وبلادها الى مفهوم الوطن والوطنية الحديث. ويترتب على المفهوم، وحداثته، إرساء رابطة "أهل" الوطن أو وطنيتهم على اشتراكهم في تاريخ وأرض ودولة. فينفون أنفسهم من رابطة العصبية القومية، على معنى الدم والقرابة والنسب، وهي رابطة قد تضيق فتقسم الوطن أوطاناً كثيرة متقاتلة، وقد تتسع فتضم جماعات في الداخل الى أخرى في الخارج، وتؤلب الحلف على الداخل والخارج. ويخرج "أهل" الوطن من رابطة العصبية الدينية على وجهها السياسي والسلطاني. والرابطة هذه تنسب أصحابها الى جماعات أضيق من الجماعة الوطنية أو أوسع. ويترتب عليها ما يترتب على رابطة العصبية القومية أو الأهلية من انقسامات وأحلاف واقتتال.ومن يقرأ "مناهج الألباب" يقع من غير شك على عشرات الصفحات في الوطن والوطنية. وتتناول صفحات كثيرة مصر، بالاسم. ولكن ما يقع عليه القارئ المتأخر، زمناً ووقتاً، هو جوار الكلمتين أو اللفظتين كلمات وألفاظاً مشتقة من "وطن": الموطن والمواطن والتوطن والأوطان والتوطين والاستيطان، الى مرادفات مثل المرابع والمظان والمسارح والدار والديار... ويجمع شيخ طهطا ومتعلمها الكلمات هذه في سياقة متصلة، ويتنقل بين الكلمات والمعاني، ويخلطها بعضها ببعض. فتشتبه على القارئ المعاني، وتضيع معالم تمييز المعنى من المعنى. فيذهب به الظن الى أن الطهطاوي لم يبتكر ربما معنى الوطنية المحدث والجديد، في غرة الثلث الثالث من القرن التاسع عشر، بل ابتكر المقالة الأدبية العربية "الحديثة" على مثالها المعروف والسائر مذ ذاك. ودأب المقالة هذه تضييع حدود المعاني، وإخراجها من سياقات متماسكة الى مزيج ذائب ورجراج قوامه "نفس" الكاتب ومشاعره و"أفكاره"، على معنى أحكامه. فلا يرتب الكاتب مقالاته على نظام المعقولات والمفهومات، ولا على نظام المواد، بل على أهواء النفس، وأصداء الكلمات والألفاظ فيها.فإذا أراد سليم باسيلا ("النهار" اللبنانية، في 28 آب 2008) إشراك قرائه في إعجابه بشعر مارون زخور، "الأستاذ الرئيس"، في امرأة كتب الشاعر القاضي فيها شعراً، جعل الكاتب الذواقة والمعجب مختارات شعرية ونقدية وإخبارية فرنسية، في لغتها، بإزاء منتخبات يستلها، على قول أحد أصحابنا، من شعر مارون زخور. ومعيار إعجاب سليم باسيلا بشعر مارون زخور، في ضوء مقابلاته ومقارناته وتنظيره (أو وضعه الشيء نظير صاحبه ومكافئه)، واضح وجلي، وهو انقياده للتقريب من المعاني المختارة الفرنسية، ومؤاتاته التقريب هذا. ويذهب باسيلا، في بعض مقارناته، الى القضاء بتفوق شعر صاحبه وممدوحه على المثال الأجنبي وميزانه. وهو يوجب القرب، أو المضاهاة والمكافأة، أو التفوق والسبق، على هدي مَلَكته الحاكمة في ميزانه، ولا يهتدي بما قد يقتسمه والقارئ، ويتشاطره وإياه.الأولمب وعبقروملكته هي هو، أي ما يحب ويهوى. ويدعوه توحيده ملكته وذائقته بنفسه الى سوق شواهده في اللغة التي عرفها بها، وتذوقها وأكبرها. فلا ينقل منها الى العربية إلا ما غلب عليه النثر، والمعنى الذهني، وربما النظير القاموسي. فتحرس العبارة، في اللغة الأم، بكارة الذائقة، ومكنون المعنى، وطويته المستترة. وهذا شأن من يحسب ان النقل من لغة الى لغة، أو من لغة أم الى لغة أم، انتهاك وفظاظة لا يليقان بالشعر و"أناقته"، على قول باسيلا. وهو شأن غريب قياساً على ما فيه الكاتب، وعلى حاله. فهو يمدح ويعجب مقارناً ومقابلاً. ولكنه يشترط ان يبقى القرينان كل على ضفته، فيستوي الأولى على قمة أولمبه، ويهيم الثاني في وادي عبقره. وبينهما صاحبنا وكاتبنا، يقر بأذنٍ الأولَ على بديع قوله، ويجزي الثاني، بأذنه الأخرى، على قوله، مديحاً، ويطمئنه الى حسن قوله وشعره.ولعل خطابه "الأستاذ الرئيس" افتتاحاً، وفي الانتقال بين فقرات الرسالة، وختامَه بالسلام على مخاطبه، قرينة على اشتمال الكلام، وهو المباح على صفحة صحيفة ذائعة الصيت، على الكاتب المادح والشاعر الممدوح. والاثنان غنيان عن النقل. فهما يسمعان بأذنين وبعاقلة واحدة، على قول بعض المتكلمين. وأما القراء فنافلون، أو مسلِّمون بإعجاب الكاتب المعجب، ومشاطروه رأيه وقضاءه من غير شك ولا مسألة. وهم، على هذا الوجه كذلك، نافلون. وشأنهم شأن الخلق في الحديث القدسي: قصاراهم ان يُعرف الكاتب، وأن يعرفوه، وهو المستغني بنفسه عنهم، وعن قراءتهم وفهمهم ومعرفتهم.ولكن الترفع الظاهر عن الترجمة يبيّت، من حيث لا يريد باسيلا على الأرجح، استطراقاً يقرن أجزاء الكلام التي يصبها الكاتب في آنيته، بعضها ببعض. فهو يبسط نثراً ما يقدّر القارئ ان مارون زخور قاله شعراً، ويجعله باسيلا نظير قول لأراغون في إلسا (ويغفل الكاتب المحامي عن ان "جامع" الشاعر الفرنسي في صاحبته الروسية الفرنسية، "مجنون إلسا"، نقلت مئات صفحاته، وآلاف مجازاته وتوقيعاته، الى عربية قد يليق بالناقد الذواقة القول فيها برأي، منكراً أو مستحسناً. وهو يلمح الى رينه شار، وبعض مجاميعه الشعرية نقل الى العربية منذ عقدين، من طريق ناقد أدبي فرنسي، فيقتطف منه حكماً عاماً في إيجاز شار الملهم، وهذا قول أشبه بـ"الطورطة"، على قول عامية المصريين، "في الكريما"، على قول الفرنسيين هذه المرة، كناية عن "أدب" صالون السيدة فردوران، محجة السيد سليم باسيلا منذ زمن سحيق، أو أدب السيد هوميه، الصيدلاني الذي يحسب باسيلا حانوته مجلى شمس تبريز).ويكتب أراغون (وهذا من محفوظات طلاب السنة الثانوية الثانية): "عيناك عميقتان، فإذا مِلْت عليهما لأستقي رأيت الشموس تَرِدهما مترائية". ونظير "المعيار" هذا، يكتب باسيلا ناثراً، على ما نخمن ونحسب، "شعراً" ينتهي إلينا في صورة النثر: "المرأة التي ذهبت إليها في قصائدك، ذهابك الى كلمة أقبلت عليها فكأنما تقبل عليك، فتنفرد بك، وتنفرد بها، وتطرب لها، وتلبث على طرب معها، وتنظر عبرها، من آنة الى آنة، الى نجمة تُناقِلها وتناقلك بعضاً من ألوان هواك، وأفنانه...". وإلى أي رأي ذهب الواحد في قول أراغون ـ وقد يعلم الناقد المحامي، ومستشهد جيلبير سيغو في فرنسواز ساغان، ودوبوا ـ دوفير في سيمون دو بوفورا، وجان روسلو في رينه شار، من غير دعوة واحد أو واحدة الى الشهادة ولا وكيل له، قد يعلم ان كاتباً فرنسياً "كبيراً" هو جان ـ فرنسوا ريفيل، أسقط أراغون، مادح ستالين، من "مختارات" من الشعر الفرنسي، ونفاه منها ـ فقد يجد عسراً في تقريب قوله هذا من "شعر" صاحبه، في صورته المنثورة أو النثرية.وليس مرد العسر الى فرق "القيمتين" الجماليتين و"المستويين" وحده. وهو فرق يدعو الى تسويغ المقارنة والموازنة، على التقليل. واختار الناقد المحامي والمنشئ (مدبج الإنشاء) ترك التسويغ المعلن الى الإطناب في المديح والتقريب، وإلى الحمل على الصدوع والرضوخ استحياء، ومن غير سؤال. ومرد العسر، على ما أرى، الى فرق بين معيارين ("شعريين") لا يشتركان في شيء. فـ"الكلمة" التي يقبل عليها الشاعر "فكأنها تقبل عليـ(ه)" ترد الى ميزان يرجح فيه توارد القائل وقوله، على معنى امحاء الصنعة، والمناسبة بين صاحب القول وبين قوله أو مقالته مناسبة رحمية ومقدّرة قبل ولادة الشاعر، ومحاولته الشعر. وجواز قراءة القول على وجهين، وجه الشاعر و"كلمته" ووجه الكلمة نفسها، متناظرين، فكأنهما وجه واحد، الجواز هذا أسطوري و"إلهي" على المعنى المبتذل الذي شاع عن وسطاء ومدبرين ووكلاء مجسمين ومشبهين، ينفخون في المزمار، ويتألفون العامة والأفاعي، على ما وصفهم المسعودي، صاحب "مروج الذهب". والجوازات والمعاني هذه خلّفها الشعر والشعراء وراءهم في ثقافات كثيرة، منذ عقود تعد بالعشرات، أي منذ غادرت الآلهة الأنصاب والصور والكلمات، وتركتها خاوية على عروشها، وتركت العالمَ فقيراً معدماً وأبكم.وهذا خلاف "عالم" سليم باسيلا "محدِّثاً" عن مارون زخور وراوياً ومنشداً. فإلى المناسبة بين الشاعر وبين الكلمة، وبينه وبين المرأة، يقر "العالم" هذا المرأة والكلمة على آصرتهما بالنجمة، وبألوان الهوى و"أفنانه". ويتوج "الطرب"، واللَّبث عليه، قرار الأشياء على أواصرها ومنازلها. والشاعر والمرأة والنجمة والهوى والألوان والطلب واللبث، كلها من ورق مقوى، ومجسمات يعلقها الأولاد على أشجار الأعياد المصنوعة من بلاستيك. فالافتعال هذا لا يمت الى "الحياة" الشعرية، على أي وجه تصورت أو حملت، برابط أو سبب. ومناجاة الأنجم والليل بالهوى، كانت بعضاً من غناء أسمهان وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، ومن أحلام مراهقة بدوية. وعلى هذا فهي قد توقظ في جمهور شب قبل قرن على مراهقة مثل هذه، ولا تزال عميقة الجذور في اللغة ومعانيها وصورها، فتشبِّه على صاحبها أو أصحابها (فهم على الدوام جمهور وجماعة) تعويض الزمن وتبديده، والرسوخ في الكون والواحد. والإقامة على تناول العالم والآلهة واللغة على وجه الامتلاء بالنعمة، والحط بالنعمة الى علة طرب، غفلة وسهو في معرض كهانة ورؤيا.تأليف المختلفوتحمل الغفلة الكاتب الغافل على مساواة أو مكافأة العينين، البئرين، النبعين، الماءين ـ والعينان، من طريق حلقات الاشتقاق هذه، وليس التداعي وحده، هما سُلَّم الى المصدر المتجدد، والولادة من العتمة، واتصال دوائر الليل والأرض والحمل بدوائر النهار والسماء والمرآة ـ، بـ"مليحة القسمات"، تلك التي "في قدها طول، وفي صوتها غنة، وفي مشيتها مرح (...) شديدة الخفر، طويلة الصمت (...) وكأنك من وفرة حسنها لا تراها". فيسأل القارئ، بعد نقل تقريبي الى العربية، وسمع تقريبي الى القول: بمَ تشترك المرأتان؟ ويشترك الشاعران والقولان؟ فالمرأة التي يمدحها سليم باسيلا، شارحاً ربما على مارون زخور، قد يجدها القارئ، أو يجد أخواتها ومثيلاتها في كتب الأخبار العربية العباسية أو الأندلسية، وفي رسائل القيان والجواري والحرائر. وقد يعثر، اليوم، عليها أو على أخواتها، في صور باب "المجتمع"، و"المجتمع" هذا يبدل اسمه بـ"لايف ستايل" من غير ان ينتبه "الأديب" ذو اللغتين الى التبديل. وليست هذه حال "رفيقة أيام" أراغون (وما دام المحامي الأديب يتسع وقته لقراءة "الأزمنة الأدبية الكبرى" فقد استجمع شجاعتي وأنصحه بتصفح كتاب أندريه تيريون "ثوريون من غير ثورة"، وفي بعض فصوله يروي السوريالي السابق مشاهد من لقاءات أراغون وإلسا تريوليه الأولى، فلعله يرجع من حسبانه ان رفيقة أراغون تشبه رفيقة صاحبه وممدوحه، أو من ظنه ان الشعر يقص "الحياة" أو الواقع، على قول نقاد شيوعيين ماضين على تحرياتهم).وتكر المقارنات بين صاحبة زخور المفترضة وبين "نساء" ينتخبهن الأديب المحامي من أخبار مشاهير الفرنسيين والفرنسيات، و"بيبولهم" و"بيبولهن"، ويحمل مقالة صاحبه (في صاحبته) على مقالات الفرنسيين والفرنسيات، ويجعل الواحدة نظير الأخرى. وعلى مثال الفرق بين صاحبة أراغون الشعرية وبين صاحبة مارون زخور، وهو فرق ينسب المرأتين الى قبيلتين أو شعبين أولين لم تجمعهما يوماً ديرة أو يجمعهما حلف أو صهر، يقرِّب الكاتب البعيد ويزعم التأليف بين المختلف والمتنافر عنوة وقسرا. فيحسب، ويريدنا ان نحسب أن المرأة التي تكتب "لستُ غير غبار"، و"لا أسعد بالحب، ولا بزواله"، تقول ما تقوله امرأة "دعني أرحل": "لا قمر يميل بي، ولا مطر يبلل شعري الطويل... أنا بقايا ما كنت". ويغفل عن ان امرأة صاحبه نرجسية مدللة، تعتب على الزمن صنيعه بالفتوة والشباب، وتنسب الى صاحبها استنفادها: "ماذا صنعت بي،... لم يعد في فستاني زهرة لم تقطفها، ولا عطر إلا تشممته..."، على ما تفعل نساء "نسويات" يطلبن الى أزواجهن تعويضهم استهلاكهن في العمل والبيت والحمل والأمومة، واستنفادهن فيها. والمرأة هذه خلو من منازعة لا تقر على قرار، ولا تسكن الى جناح. فهي من معدن معنوي غير معدن تشبيهات سعيد عقل ونزار قباني والأخوين رحباني ومحمود درويش وكناياتهم وتورياتهم.فما يدعو الكاتب الى عقد مقارنة تنتفي شرائطها، وإقحام الشبه على ما لا شبه فيه ولا قرابة؟ والحق انه كيفما قلَّب قارئ الوجهين، الوجه العربي لغة والوجه الفرنسي لغة ورواية، وهما طرفا المقارنة المفترضان لم يقع على وجوه شبه تتصل بالشعر وبأنحاء القول. فالتشبيهات، على الوجه العربي، حسية ومادية، على قول النقد المدرسي. والصورة، على الوجه الفرنسي، معنوية ومضاعفة. والتشبيه، على الوجه العربي، مطابق ومشبع ولازم. والمجاز، على الوجه الفرنسي، مركب ومرسل ومتعد. والمنازعة، في الشواهد الفرنسية، تتطاول الى النفس. وتحمل النفس على استقبال مالا قوة لها على التسليم به، ففاجعتها بحالها هذه هي خلق جديد لها، على حين يقتصر القول العربي على تقرير واقعة هي من طبائع الأشياء. ولا يزيد القول عليها غير صفة أو طبع، ولا "يخلقها خلقاً جديداً"، على قول غاستون باشلار في تمييز الصورة (الشعرية) من التشبيه أو التمثيل.وتقرير الواقعة، أو زيادة الصفة والطبع، يقصّر عن إرساء "المخلوقات" الشعرية على بعد مزدوج أو مثنى تشرف منه على الكون إشراف النفس المتفكرة أو المتخيلة أو الراغبة على موضوعاتها. فالشموس المترائية في عينيها العميقتين، وفي بئري استقاء العاشق، إنما تلدها رغبة العاشق في قاع لا يبلغ، المرأة مستودعهما (الرغبة والقاع) ومعينهما. فاستقاء العاشق وترائي الشموس يصدران عن اصل يُخمَّن واحداً، يترتب على عدوى العاشق الشموسَ، وهي خلاف الماء ضوءاً وعلواً، وانقلاب الترائي استقاء ولقاء. فتتوالد الصور والمعاني، و"تنفجر وتتلألأ"، على قول باشلار كذلك، وتتردد اصداؤها وولائدها لا إلى غاية. وهذه الحال، (وتمثيل أراغون عليها ضعيف) مردها الى محل الشاعر من اللغة، وتسليمه لها، ورضاه التعويل على ما لا يعلمه، لا هو ولا "ثقافته" التي يشترك فيها وجمهوره، من "مقاصدها"، وانقلابها من المجهول الغريب الى المفهوم غير الأليف. ولعل الأمرين، التثنية والتسليم للغة، هما سمتان بارزتان من سمات الحداثة الشعرية. ومن طريقهما خرج الشعر من ملك المجازات والكنايات أو الصور وسلطانها، الى بناء وإنشاء لغويين، على غير مثال.والحق ان الحداثة هذه لا تقتصر على الشعر. فهي إيذان عام بالانفكاك من المباني والمثالات السابقة والمفترضة مضمرة ومحفوظة، ومن استيداعها معانيَ الأفعال والحوادث والكائنات ورسومها. ويقتضي هذا من النثر ان يستوي فناً بدوره، وأن ينشئ أغراضه، ويبلغها من طريق اللغة. ويقتضي من الفعل السياسي والاجتماعي والاقتصادي، على أنحاء مختلفة، مثله، أي إنشاء الأغراض والمعاني والغايات من طريق الفعل، وعلى غير مثال. وعندما نكتب، نحن أهالي العربية، أو اهالي اللغة والمعاني، ننحي اللغة جانباً ونطرحها، ونطير في فضاء النفس، وأخيلتها ومشاعرها وصورها، ونحسب النفس هذه مجردة من اللغة. ونحسب ان بلوغ قمم النفس العالية، وذراها الشاهقة، لا يقتضي لغة، ولا عبارة، ولا شكلاً، ويقتصر أمره (أمر البلوغ) على الاسترسال مع منازع النفس الحارة والمحمومة. ولا تحتكم منازع النفس هذه الى غير هيهيتها، أو مساواتها بنفسها (فإذا هي= هي من غير بقية). فيقول سليم باسيلا في صاحبه: "يبقى من قصائدك أنك انت صاحبها".عَلَم ومسحةوإذا كان الأديب "التقليدي" تمثيلاً يسيراً وسهلاً على اطراح اللغة والعبارة، وعلى التسليم للنفس الخالصة وبدائهها المفترضة، وحمل التهويم في فضائها على ذرى الشعر، فالمحدثون، أو معلقو "أعمالهم" وأنسابهم على الحداثة، ليسوا أقل اطراحاً (للغة) وتسليماً (للنفس الخالصة) وحملاً (للتهويم على ذرى الشعر). فيكتب روائي مفترض، يحسب "رواياته" ومقالاته وسياسته وصداقاته (وهي جزء راجح منه ومن محله "الثقافي") طليعة الحداثة، ويقر له أصحاب ورفاق وزملاء كثر بصدق حسبانه، يكتب في رثاء صديقة رحلت وتأبينها وتحيتها: "... كان بيتها ملتقى الأصدقاء اللبنانيين والسوريين والمصريين، الذين جمعتهم أسئلة البداية، وسط الحرب الأهلية اللبنانية ومآسيها" (الياس خوري، ملحق "النهار"، 31 آب 0082)، وأنقل علامات الوقف على ما هي في الأصل).و "أسئلة البداية"، في المعرض هذا، شارة أو عَلَم اصطلاحي يوجبه الكاتب على حدة من قارئه، ويلزم القارئ بالإقرار به، وبامتيازه وشرفه، من غير إفشاء مكنونه وسره. فهو، من هذا الوجه، أشبه بالأخبار الفرنسية التي يُدل بها سليم باسيلا على القراء. فمن وسعه أن يقرأها، وانحاز الى تأويل الكاتب لها وإعماله إياها، دخل في الفرقة أو الشيعة الباسيلية، ومُسح بمسحة الصفوة، وتكشفت له الأسرار، وهتكت الحجب. فتنقل بين أحضان أراغون و"رفيقة أيامه" وبانجمان كوسنتان ورينيه شار وفرنسواز ساغان ودي شاريير، الى آخر حبات العنقود. وما يقوله سليم باسيلا من طرف ساذج، وينثره، ويترك للقارئ جمعه أو الرفرفة المنتشية في أثيره المسحور، على ما لا يشك باسيلا في شواهده وعصيِّه من الوديان المتباعدة، ويجمعه الياس خوري، ويختصره في "وسام" يعلقه "على الوجه"، على قول زميله الروائي والصحافي سليم نصار.و"أسئلة البداية" هذه، أو الوسام على وجوه "الأصدقاء"، والأرجح ان الجناح الفلسطيني منهم أُغفل أو أنه مستبطن في الأجنحة الأخرى الظاهرة (اللبناني والسوري والمصري)، هذه الأسئلة لا تلبث ان تبعث من طريق المضاف إليها (البداية). فالصديقة المرثية "شقيقة صغرى للجميع"، و"طفلة حائرة". وهي كبرت، "لكنها بقيت صغيرة". وبقيت تدور في دائرة "وعد بشي يبحث عن بداياته". و"البداية" الملحة هذه لا يخرج الموسوم بها، والممسوح، من دائرتها المسحورة. والمرثية لم تبلغ بعد سطرها العاشر في زاوية ضيقة من زوايا الصفحة. وتواتر "البداية"، لفظاً ومعنى، من غير بسط ما تكنه اللفظة وتشتمل عليه، إمعان في الإعلام، أي في إثبات صفة العَلَم والشارة والمُعلَم، وفي الاقتصار عليه. فـ"البداية"، و"أسئلتها" بالأحرى، غنية عن البسط، والخروج من النفس الى علانية مشهودة قد يتناولها كلام ومحاورة ومداولة. وينتهي تداعي الجمل هذا الى إقرار بجهل "سر هذه المرأة". فتطوى "البداية" في "سر" مزدوج، هو السر الخالص، وسر المرأة.وإفضاء "البداية" الى "السر" المجهول لا يؤذن بختام التعمية وحُجُبها. فيمر الكاتب من هذا (السر) وتلك (البداية) الى "داخل" المرأة، وسريرتها (وهذه من السر أو السر منها). فهي "حملت في داخلها" ما هو أبعد من السر وأعمق، حملت "حلم اليسار اللبناني". ويدق الأمران، المضاف والمضاف إليه، على التصور، أو هما يدقان على من لم يشاطروا "أهل أسئلة البداية" اسئلتهم وبدايتهم. ولا سبيل لهم الى مشاطرة خصوا بها لعلة لا "يدريها" أحد. وقد لا يدرونها هم، أهل الخاصة والنخبة. ولكنهم هم، الصفوة المختارة، لا يبالون. فهم من معدن الأسئلة والوعود والبدايات والأسرار والسرائر والأحلام. وغيرهم من مادة إنسية عقلانية ولغوية أدنى هي مادة الظاهر والعلن والأجوبة والحوادث. وإذا عَرَض لبعضهم ان يتناول "الذاتي والعائلي"، على ما فعلت السينمائية الصديقة في بعض أفلامها (ووسم الفيلم، "حروبنا الطائشة"، ينضح النرجسية المتعالية التي تُلحق حوادث الناس الجسيمة والمميتة في أوقات وأحوال نفسية تخلف في قلوب القوم ما على الجمهور والعامة الحدس به من بعيد وإكباره وتعظيمه) فهي لم "تتوقف عند(هما). فهما ذريعتها ووسيلتها الى "الحلم". وإذا "تجسد" الحلم، وهذا تواضع يسوغه ربما عسر تناول السينما ما ليس بجسد، فسرعان ما لفه "حجاب الموت"، وتوجته "هالة الشهادة" المنبعثة من "(حمل) آلام فقراء باب التبانة وغضبهم وثورتهم المجهضة".مرتبة الكهانةوعلى هذا، يدخل الياس خوري، كاتب المرثية، الألفاظ المنتقاة والمُعْلَمة في دائرة تتردد اصداء الألفاظ فيها، ويرد الصدى الى صدى من غير اضطرار إلى الإعراب عن معنى قد يتعقبه القارئ لنفسه (لنفس المعنى)، ويسأله الدلالة على حادثة او واقعة أو أثر حياة او علاقة بما ليس لفظاً آخر يردد بدوره صدى يمر لا الى غاية. فالكلام لا يقصد الدلالة والعبارة، ولا الإشراك فيهما وتداولهما. وقصاراه رفع نصب يعلوه صاحب الكلام المأذون او يحله ويتجسد فيه. ورصف "اسئلة البداية" و"الوعد الباحث عن بداياته" و"الموعد مع البداية" و"الحلم" و"حجاب الموت"، الخ، وسلكها في سلك متصل، يمهدان المحل العالي الذي يريد الكاتب صدور كلامه عنه، والاستواء فيه. فصدور الكلام، مرثاة أو مقالة "سياسية" أو تأملاً أدبياً أو "رواية"، عن جوار البدايات والنهايات وحجب الموت وآلام الفقراء و"مغامرة الهجرة والإبداع الى تخوم مجهولة وغامضة الملامح" والعودة من غير عودة و"التدثر بالموت" و"ملاك العتمة" ـ صدور الكلام عن هذه كلها، مرة واحدة وفي كل مرة (مقال خوري الآخر في عدد ملحق الصحيفة نفسه، "السأم اللبناني")، يرفعه الى مرتبة العرافة والكهانة و"الشعر" و"الثقافة". ويرفع صاحبه أو كاتبه الى مجاور سدرة المنتهى واللوح المحفوظ وقوائم العرش وبرزخ البرازخ ويدخله في الصفوة.والكلام على هذا النحو رطانة بلغة الصفوة. فأهل الرطانة، من طريق الكلام هذا ورصفه وسلكه واستعادته، يتعارفون، ويجددون اشتراكهم في إيجاب مصطلحهم، ويحصون أنفسهم، واحداً واحداً (وواحدة...)، و"ينادون" بعضهم بعضاً (على شاكلة المناداة المدرسية على الحضور)، ويرصّون مرتبتهم، ويحصنونها من عدوى الهجنة، وينتسبون أو يشهرون أنسابهم وقراباتهم، وينسبون أنفسهم وغيرهم. فلا تختلط الأنساب والهويات والأفعال والمعاني والمراتب. فالنسب الصريح هو رأس (مال) عظيم، ولا يجوز التفريط به، ولو أدى الحرص على حفظه، وعلى صراحته القح، الى الهيهية. فالمرثية هذه، شأن مراث أخرى في أصدقاء ورفاق وزملاء آخرين، أو شأن مقالات في موضوعات قريبة أو بعيدة، تبدي وتعيد في عدد قليل من الألفاظ، وعدد أقل من المعاني، ولا تخرج عن هذا ولا تزيد فيه.فالهيهية مآل لا مناص منه. فيرتج القول على سليم باسيلا، وهو يحلق في فضائه، فيتلعثم مفوهاً: "... نتجول فيها معك، بين جميل وجميل، ونجتلي، ونجتني حسنها، حسناً، بعد حسن، بعد حسن". وتسلمه اللعثمة الى أخرى أشد منها: "... فكأنك تنضر كغصن، وتزهر مع الزهر كالزهر، وتمرح مع النسائم والطير كالطير، وتزدان مع الروض كالروض". وعلى مثال قريب يميزه من باسيلا مصطلحه، يكتب خوري: "كانت ابنة طرابلس تتصرف في وصفها الشقيقة الصغرى للجميع (...) كبرت رندة لكنها بقيت صغيرة (...) ظلت على موعد مع البداية (...) الفتاة بقيت صغيرة...". وهذا باب من أبواب قوله. والأبواب الأخرى: البداية، الأسئلة، الحلم، الموت، "جيلنا"، تنسج على المنوال هذا. والفرق بين هيهية باسيلا التقليدية والأدبية والهاوية وبين هيهية خوري الثقافية والجماعية والمحترفة هو ولادة هذه، الخورية، من جسم بيروقراطي جامع ومنظم وعريض. ويضطلع الجسم البيروقراطي هذا بأعباء كثيرة ومتفرقة، ترتبت وتترتب على تقسيم عمل واسع ودقيق.ولا يدعو الضلوع في جسم بيروقراطي مركب الى عبارة ومعانٍ أقوى تركيباً أو أشد تعقيداً. وليست جمهرة "الأعلام"، أي مشاهير الناس الذين يدعون الى كفالة المقالة وصدقها، غير قرينة على احتياج المقالة، في الحالين، الى بهرجة وزينة تثبتانها في روع القارئ أو السامع. والفرق بين الجمهرة الباسيلية وبين الجمهرة الخورية لا يتطاول الى الدور والوظيفة. فكلتاهما تتولى الإبهار والفتنة و"التنويم"،على ما يريد صاحبا الجمهرتين ويقصدان. ويتوسط الكاتب، صاحب الجمهرة، في الحالين، الكوكبة البديعة من الأسماء الباهرة. فهو واسطة عقدها، وروايته أو سيرته هي جامعها وناظمها. فما قد لا ينضبط على قاسم مشترك من خليل عكاوي وميشال سورا (والثاني "درس" الأول وعصبيته المدينية أو الخطية، وقتله أصحاب صاحبه "القساة")، أو من "(مكولسي) اليسار اللبناني الجديد" وريجيس دوبريه، وقد يستحق هو التأمل والألم والأسئلة والاجتهاد في الجواب والاقتصاد في الانفعال والبديع اللفظيين ـ يمحوه موقف النفس المتضخمة والمتورمة، وسعيها في إذابة ما تتناوله في لجتها اللفظية الرقيقة.وهذه النفس، شأن "نفس" رفاعة الطهطاوي و"الأنفس" النهضوية "العربية" على وجه العموم، لا تستقبل من العالم شيئاً، ولا توجب فيه شيئاً، ولا يمتحنها من العالم شيء. وعلى خلاف الحداثة (الشعرية وغيرها) وقطبيها: الذاتي الذي ينصب النفس مبتدعة وموجبة و"العالمي" الكوني الذي يفيض عنها ويلابسها ويستدخلها، لا تقترح النفس الإنشائية واللفظية هذه على العالم غير جمع المتفرقات والشذرات في هواها بنفسها، على مثال جمع الأخبار وتبويبها على موضوعات وأبواب. وما يجمعه هوى النفس، وهي على هذه الحال من الفقر والتكرار والتعسف، يقتصر على الاصطلاح والإعلام (حالها العلامة) والافتعال. ولا يعدو الكلام الكبير، وهو ينتخب الألفاظ الثقيلة ويقحم اصحابه في "ألعاب" عظيمة، لا يعدو تخييل التمارين الكشفية المبتدئة وتشبيهها الحياة في انتظار الحياة وجدها ولعبها.

وراء الأعلام والألوية والصور والأنصاب العصيّة على الرفع والتجريد

المستقبل - 28/9/2008-
على مفترق طرق يبلغ عددها خمساً، ما عدا السهو والخطأ على ما يرغب الواحد في القول، بعضها يجيء من حي السريان ووطى المصيطبة، وبعضها الآخر من "جهة" برج أبي حيدر أي من سليم علي سلام أو جادته التي تبدد اسمها في اسمه، ويروح بعض ثالث الى مار الياس، ويمر بعضه (وهو بعض بعض على هذا) بفرن الحطب، ويدخل بعض آخر حي اللجا من غير واسطة، وييمم ذراعٌ شطر مسجد المصيطبة، وبجواره دارة صائب سلام القديمة ـ وتطل على المفترق وطرقه الكثيرة القادمة والغادية مبان عالية، تبدو للمشاة أو للمار في سيارة عابرة، شاهقة، ويقوي البدو هذا، أو الانطباع، تصدي المباني للشمس، وحجبها الضوء عن منتصف الطرقات وبقايا الأرصفة وطبقات المباني الدنيا والمتوسطة، فتتعالى طبقات المباني وينزل الظل ثقيلاً وسميكاً على الأرض المستوية والمرائب المعتمة والفاغرة الأفواه والعميقة البطون والأحشاء، ولولا انبعاث الضوء من أفق الشمال لحسب المار أو راكب السيارة ان المفترق هذا على حدة من أوقات البلاد هذه ـ على المفترق هذا، أو في القلب منه، بنى "الشباب" جدار بركة أو دشمة واطئ، يعلو نحو المتر عن الطريق واستوائها، وملأوا البركة تراباً ورملاً وبحصاً، وغطوا التراب والرمل والبحص بنبات ممتد ومعرّش، قاني الاخضرار، وشكوا في الوسط وتداً معدنياً طويلاً كان في حياة ماضية قسطلاً أو "حية"، وأسندوا الى الوتد وعلقوا عليه معاً صورة فوتوغرافية عريضة، ربما 60ـ75 سنتم، مبروزة (على القراءتين، بفتح الميم مثل العروس، وبضمها مثل عمل النجار)، يُرى فيها أستاذ، هو "الأستاذ"، واللفظة لغة.الصورة التخموالأستاذ يملأ الصورة والبرزة والبرواز، قبل ان يملأ العين والنظر وبعد أن يملأهما. فهو يرفل في المشهد على رغم الضوء القليل، والظل الكثيف المتخلف عن المباني العالية مثل أسوار الحصن العظيم الجاثم في قلب واد. والصورة ليست قريبة، أو ضخمة، على قول المصورين. وتكاد تكون "أميركية"، على قولهم كذلك. فيُرى الوجه الباسم والشاخص، من غير جهد ولا افتعال، الى عين العدسة، أي الى الناظر الى الصورة الفوتوغرافية، وترى الابتسامة العريضة المنفرجة عن طاقم اسنان تامة الرسم. ويعلو الرأس جسماً منتصباً لا اعوجاج فيه ولا التواء، لابساً بذلة زرقاء، سماوية الزرقة، تنحسر عن قميص بيضاء مخططة أو مقلمة، من غير ابتذال طبعاً، تتوسطها كرافات لا تنزل أو تتدلى من القبة المطهرة الى الحزام الجلدي، بل تشع في وسط الصدر على نحو إشعاع الابتسامة والأسنان والفم في الوجه. والكرافات زرقاء كذلك. وتبين زرقتها من "اللهجة" السماوية الى نبرة ملكية.والأستاذ واقف، ويداه في جيبه، وذراعاه ينزلان وئيداً على جهتي الصدر المعتز والمنشرح، ويستقبل العدسة، ومن ورائها العالم. وقبل ان "يقطع" إطار الصورة معظم الجزء السفلي من الجسم المستقيم استقامة الرمح، على قول النساء من البنتجبيليات في وصف الشبان والعرسان وأبناء الأعيان، تهب الصورةُ الجلية العينَ حزاماً جلدياً يلف الخصر فكأنه من الجسم وبنيته ورسومه. وينعقد الحزام الجلدي تحت الكرافات. ويظهر معدن رأس الحزام ناتئاً ومنضداً، مستطيلاً وأنيقاً. وفوق الصورة الكبيرة والمبروزة، وراء زجاج "أشف من المغرب"، على قول نزار قباني في نظارتي والده المتوفى، يسهر "الشباب" من غير شك على الحؤول دون استقرار الغبار عليه، صورة مظلمة ومختلطة، تكاد تكون سوداء، يتعرف فيها أو عليها الناظر عمامةَ السيد موسى الصدر المائلة، ووجهه، برفق الى كتفه، من غير ان يترك الوجه التحديق في الناظر إليه. وجعلت الصورة الصغيرة والمكفهرة فوق الصورة العريضة والمتلالئة، وعلقت على الوتد المعدني بخيط غليظ، ربما كان من حديد.وتحف الدشمة الرملية، وهي في وسط المفترق، والصورتان في وسطها، أعلام أفواج المقاومة اللبنانية ("امل") الخضراء، المشبعة الخضرة. وفي وسطها كتبت لفظة "أمل" بأحرف مستديرة يحوط بعضها بعضاً، ويشتبك بعضها ببعض. وتتقوقع اللفظة في دائرة يشوبها لونان، أبيض وأحمر، مظلمان على شاكلة ظلمة الخضرة. فكأن اللونين هذين طليا بأخضر أشد إعتاماً من الأسود وأمرّ ظلمة. وقد يحصي المار بالمفترق أربعة أعلام أو خمسة، أو أكثر قليلاً. ولكنه يحسب ان غابة من الأعلام، يفوق عددها عدد الأشجار الزاحفة التي رآها ماكبث فيما رأى، تكسو المفترق والساحة الضيقة، ويغصّ بها الاثنان، وتزيد المكان قتاماً على قتام. فإذا اجتاز المفترق وساحته، وسلك الطريق المفضية الى المسجد، استعاد الضوء بعض سطوته وانفراجه، واتسع المكان ورحب بعض الرحابة. ورجع المار الى عالم معتاد، خلو من إرهاق الظلال وإلحاحها.ويقوم المفترق هذا على الطرف الجنوبي الشرقي من حي اللجا، بحسب تسمية درزية قديمة كانت تطلق على بلاد حوران، أو المصيطبة، بحسب اسم بيروتي أقل تدقيقاً وأعم. ويتوسط دائرة سكن مختلطة الطوائف والمذاهب، غلب عليها أهل بيروت السنّة طويلاً، ما أقامت الدائرة على اختلاطها. وكان اللجا مقصد مهاجرين من قرى عاملية جنوبية من جوار النبطية ومن الزهراني، منذ ثلاثينات القرن الماضي. فينزلون مستأجرين على أهل محليين وفقراء من غير عوز، اصحاب منازل على حدة، هي حجرات مستطيلة يأوي إليها المستأجرون حين يريدون النوم، ويخلونها حال فراغهم منها، فيدخلها وينام على فُرُشها من كانوا يعملون في اثناء "الوردية" المنقضية، أو الفصل من ساعات العمل. وغلب المهاجرون على "المقيمين"، على قسمة سارية في الشوف وعاليه، في الخمسينات والستينات. وكان للمقيمين سهم راجح في غلبة المهاجرين المتقاطرين. فهم ارتضوا ترك ممتلكاتهم، وبيعها من مستأجريهم لقاء ثمن مجز، و"الهجرة" الى حيث هم الكثرة الغالبة، والشقق الحديثة، والمرتبة التي تليق بهم وبأولادهم الذين درسوا في المدارس، وبعضهم في الجامعات، ويعملون في المكاتب أو في التجارة. وخلفوا وراءهم ضعفاءهم نهباً لضغينتين، واحدة على أهلهم وميسوريهم الذين تخلوا عنهم، وأخرى على جيرانهم المتكاثرين والمحدثي اليسر، قياساً على عسرهم السابق.وفي اثناء سنوات القلاقل والرماد الكالحة والمرة، ملأ المهاجرون والمهجّرون اللجا القديم، وهدم مهاجروهم الى الخليج وافريقيا ما بقي من غرفه السابقة التي تقاسمت أحواشه البائدة والغابرة. فحلت المباني "الحديثة" والعالية والضيقة، والمتآكلة منذ بنائها ورفعها، محل البيوت والمنازل الواطئة وبقيت الطرق القديمة، المتعرجة والمستكينة لتكالب البيوت وأصحابها على كل سنتيمتر مربعة، على حالها من الضيق، وشبهها بطرق الضيعة والحارات. وآوى الأهلُ "المتمدينون" ـ وكثرتهم لم تقلع عن حجها الأسبوعي الى مساقطها، أو بلادها وبلاد أهلها الأولى، وزيارتها في أثناء الليل والعودة صباح اليوم التالي أو ظهره في أرتال مزدحمة من السيارات الخَلِقة أو الفارهة، وخَلَلَ غيمة عظيمة من البنزين والمازوت المحترقين ـ، آوى الأهلُ الأهلَ الهاربين من حروب بلدات الجنوب وجبهات المدن ومن الهجمات والغزوات وحملات التأديب والاغتيالات وثورات العداوات والعصبيات الجديدة والهاجعة.وفي الأثناء، في السبعينات والثمانينات، كان نشأ جيل جديد من الفتيان والشبان، كثير العدد، حصل تعليماً مضطرباً ورجراجاً، وشب على جوار وأهل منكفئين ومتجانسين توليا المثاقفة المدينية والسياسية، وعلى سوق "عمل" تترجح بين السفر الى جاليات الأهل المغتربين وبين استنقاع العمل الرخيص والمستقطع، والبطالة، والتكسب من حمل السلاح والمرابطة على حدود القرى وأجزاء الأحياء الداخلية و"بوابات" الطرق المتخيلة، والمخيمات الفلسطينية المتمردة، والموت قنصاً أو قصفاً أو ظُلماً" (على ما سمى الخمينيون اللبنانيون الأوائل القتل بنيران الأهل الصديقة). فبنى الجيل "الجديد" حقا، ومناط حلم انطون سعادة السوري القومي الاجتماعي عن جدارة، اجتماعه الأهلي وهويته على الخراب "الجميل" (أدونيس) هذا. ورسوم المكان، أو المنازل والإقامة والتجوال والانقطاع والاتصال، وجه اساس من وجوه إعمال الهويات وتداولها وبنائها ومنازعاتها وأحلافها.مسالك الاستيلاءواللجا (الشيعي) عيّنة من الرسوم هذه وتمثيل عليها. والمفترق ـ الساحة الذي تقدم وصفه هو احد الرسوم الشائعة في مجمعات سكن أو مربعات (أرباع المدن العربية ـ الإسلامية قبل التوسع الأجنبي الغربي) انتشرت في بيروت، وتغلغلت فيها، مع انتصاف سبعينات القرن العشرين. واندلعت الغزوات الأخيرة (موقتاً) في يومي 7 و8 أيار الميمونين، وربما الإلهيين قريباً، من محلة قصقص وأرض جلول ومقبرة الشهداء ـ جامع الخاشقجي جنوباً وشرقاً، إلى الحمرا ورأس بيروت وعين المريسة شمالاً وغرباً، وبين هذه وتلك رأس النبع والبسطتين وزقاق البلاد ـ كركول الدروز خطاً أول، وكورنيش المزرعة وبربور وسليم علي سلام ورمل الزيدانية ورمل الظريف والوتوات والصنايع وكليمنصو ـ جوستينيان خطاً ثانياً، والرملة البيضاء­ كورنيش المزرعة وعين التينة وساقية الجنزير والصنوبرة ـ قريطم خطاً ثالثاً ـ اندلعت الغزوات هذه على جبهات ومحاور نشأت عن هجرة الشيعة الى بيروت، ونزولهم بين أظهر أهلها، وعن رسوم الهجرة والنزول وملابساتهما وسياقاتهما.فانطلقت الهجمات (الوطنية وغير المذهبية) من النوى الأهلية الصلبة المتجانسة، والمأمونة الولاء والامتثال. فخرج المسلحون من "أمل" وهي غالبة في معظم المربعات والدشم الأهلية هذه، على خلاف الحال في معظم أرباع الضاحية القريبة، إلى أطراف مربعاتهم المتاخمة السكن السني أو المختلط (الدرزي والمسيحي والشيعي طبعاً الى الكثرة السنية)، والقريبة أو اللصيقة. وكانت أسطح المباني العالية، داخل مربعاتهم ونواهم، وأسطح المباني العالية على تخوم أحياء السكن "العدوة"، مواقع مراقبة وردع (إذا دعت الحاجة وهي لم تدع). فنشر عليها القناصة، وأصحاب المناظير بأشعة تحت الحمرا. وزعم المهاجمون ان الإجراء هذا رد على نشر فيلق المشاة الثالث والفرقة المدرعة الثانية عشرة في جيوش "المستقبل" (وحليفها "حزب القوات اللبنانية") قناصتهما بأعالي برج المر. وترابط في حديقة البرج وعلى مفترق طريق الصنائع وطريق ميناء الحصن سرية من الجيش يعرف بعض الأصحاب جنوداً منها يتقاضون رواتبهم من حرس مجلس النواب ولا يعملون إلا في "المناسبات".وتقدم المهاجمون، ببنادقهم الرشاشة ومضادات الدروع وقليل من أسلحة المضاد (السلاح الجو) والرشاشات الثقيلة والهواوين "الصغيرة"، داخل ديرات العدو المديني والأهلي، أو على طرق المواصلات الفاصلة بين الديرات والأحياء. ومهدوا لتقدمهم بنيران وقائية واستباقية رادعة، وهم على يقين من ان العدو السياسي، الأهلي والمذهبي على ما يرونه ويصورونه وعلى ما يصنعونه ويتمّون صناعته، هذا العدو غير مسلح. وهو لا يعقل ان يتسلح، ويستعمل سلاحه في مدينة إعمارُها هو إنجازه الأول، والشطر الراجح من تعريفه هويته السياسية والاجتماعية والأهلية. فلا يسوغ في ملة العدو واعتقاده تعريض عمارة هذه المدينة للهدم والتحريق والخندقة. ونقل خروج الجماعات المسلحة من أرباعها وحاراتها ودشمها السكنية، وتقدمها في ديرات العدو، من بؤرها وشرانقها ومعازلها الى قلب المدينة وشوارعها ومحاورها.فالعدد الكبير، وكثرة الروافد وتجددها، والتفاوت الاجتماعي الداخلي، لم تعصم الكتلة السكانية والمذهبية المتراصة من تحويل احياء سكنها جيوباً وحارات وحصوناً. فعلى أهالي بعض طرقات رأس النبع (الشيعة) الخروج من جيوب سكنهم ليبلغوا شارع محمد الحوت العام، أو ليبلغوا بالأحرى جادة بشارة الخوري العريضة، وشريان الوصل بين ساحة الحرية (الشهداء+ البرج) وبين قصقص وشاتيلا والغبيري من بعد. وعلى الأهالي هؤلاء والمسلحين، ان يخلّفوا وراءهم الخندق الغميق والباشورة والبسطة التحتا لينخرطوا في الأجزاء العامة والمشتركة، أي غرب زقاق البلاط والبطريركية ومار الياس والاستقلال ورمل الظريف. وإذا خلفوا وراءهم برج ابي حيدر وسعهم ان يقطعوا جادة سليم علي سلام، وإذا خلفوا اللجا قطعوا مار الياس، وإذا خلفوا الوتوات قطعوا ميشال شيحا (المفضي الى برج المر وإلى جسر فؤاد شهاب)، وإذا خلفوا بربور، ووراءه النويري وبرج أبي حيدر، قطعوا المزرعة الداخلية من جهة أو كورنيش المزرعة (صائب سلام) من جهة أخرى. ويستقبلون كورنيش المنارة حين يخرجون من شرنقتهم في وسط عين المريسة. وحيث افتقدوا البؤر والجيوب الأهلية العريضة، وهم يفتقدونها من ميناء الحصن ومار الياس وجزء من المزرعة والطريق الجديدة شرقاً الى البحر، غرباً، ما خلا بعض الجيوب القليلة، أعملوا رأس حربة "قومياً سورياً"، معظم مقاتليه الهواة من الكورة والشمال. وسمع بعضهم، وهو من عكار، يحمل على موظفين امنيين كانوا يقومون على حراسة مرافق محلية، وينعي عليهم عكاريتهم، على ما جاء في تحقيق نشره موقع "لبنان الآن".فالمسلحون، وأهاليهم وجماعتهم المذهبية العريضة، على رغم إقامتهم ببيروت منذ عشرات السنين، وبعضهم يتحدر من أجداد وآباء نزلوا خططها وحاراتها قبل 80 سنة أو 50 أو 30، هم (المسلحون والأهالي) ابناء انكفاء لم يبرأوا منه، وزاده العدد والتراص والتعصب عزلة على عزلة. فيتصور لهم دخولهم المدينة المختلطة المدنية والعامة، جماعات مرصوصة مسلحة أو متظاهرة، في صورة الزحف والفتح والاستيلاء. والحق ان التخييم في ساحة رياض الصلح (والشطر الجنوبي من ساحة الحرية استلحاقاً واستطراداً) كان قرينة فاضحة على ثقافة الحرب التي تعمر مخيلة هؤلاء وصدورهم وأفهامهم. وتسمية التخييم والنزول بأرض حرب واستيلاء اعتصاماً أو إضراباً، تزوير صارخ. ففي الاعتصام او الاضراب يتولى "أهل البيت"، أي العاملون في المرفق ومستعملوه والقائمون به، توقيف العمل أو الاستعمال أو التدبير. فكان ينبغي ان يقوم اصحاب المكاتب والمتاجر والعاملون باعتراض العمل والحؤول دون دوامه واستمراره.وأما التخييم، أو الإناخة العسكرية والحربية، فلا تتستر على مجيئها من خارج، وحلولها عنوة وغصباً بالأرض الغريبة. و"المعتصمون" المزعومون، وهم يشبهون أنفسهم بتظاهرات الطلاب "الجالسين" في جامعاتهم أو ترك العمال تشغيل آلاتهم الى صحن المصنع، خرجوا من جيوب سكنهم ودشمهم ومربعاتهم الأهلية، على جانبي جادة سليم علي سلام، أو من معاقلهم ومضاربهم في ظواهر المدينة، ودخلوا الساحات عنوة، وأوقفوا أعمال العاملين وأصحاب المصالح بالقوة و"الأمر الواقع". فآذن ذلك بعسكرتهم الأهلية و"البعلبكية"، أي العشائرية، على قول أحد اصحابنا. ووصلوا الساحات المحتلة والمصادرة بمضاربهم وديراتهم الداخلية. وأخرجوا هذه وتلك من دائرة بيروت، ونطاقها الاجتماعي والعمراني. وانتزعوها منهما، أو عولوا على انتزاع الساحات المحتلة والمصادرة من دائرة بيروت ونطاقها، على نحو ما انتزعوا مضاربهم وديراتهم من المدينة العامة والمشتركة (ولو أنها عامة ومشتركة على هذا القدر أو ذاك من العموم والاشتراك).الحرب والجسم المرصوصوهذه العلاقة بالمكان ورسومه هي كناية عن مفهوم هذا الضرب من الجماعات عن السلطة، ومباشرتها لها. فهي تحل "الدولة" وتنزلها على المثال نفسه، مثال الاستيلاء والحيازة المادية والتامة. ويترتب على المثال هذا حمل الجماعات الأخرى، على رغم اختلاطها واشتراكها في حيز عام متقاسم، على العداوة والأجنبية والهجنة، وحمل "بلادها" على غنيمة، وعلى دار حرب وغزو واستيلاء. فالحدود غير المرئية بين جيوب الجماعة المذهبية والمتوطنة وبين أحياء الجماعات الأخرى، المختلطة، أو النازعة الى "الصراحة"، تقلبها الجماعة المذهبية المتوطنة جبهات ناتئة الرسم. والصور والدشم والأعلام، المرفرفة والمرسومة على الجدران، والأنصاب أو المجسمات، هي ترسيم للحدود والتخوم الأهلية السياسية والأمنية والعسكرية. والبركة الرملية التي مر وصفها، والصورة المبروزة والصورة الورقية والأعلام والمعلقات المستطيلة والطويلة المتدلية على الجدران القريبة (معلقات البيعة)، أشبه بالمسالح بين الولايات. وهي ضرب من موقع جمرك ومن موقع مراقبة أمني.وقد تقتصر المسالح على لافتة معلقة على رأس طريق أو شارع، أو أوله. ففي مساء 6 أيار، قبل يوم من حملة المودة والموادعة على بيروت المختلطة والمدنية، كنت في سيارة تنزل نزلة البطريركية، وعلى جانبها الى اليمين مدرسة الحريري الثانية وعلى الجانب الآخر الى اليسار، ليسيه عبدالقادر. وكان نحو 10 الى 15 رجلاً يتجمهرون عند اول الطريق المؤدية الى رمل الظريف، وينتشرون حوله. وللوهلة الأولى، لم يظهر جلياً ما يجمعهم ويجمهرهم، ما عدا شبههم القوي بعضهم ببعض: فكلهم قصيرو القامة وغليظو الرؤوس والرقاب والأكتاف والصدور والبطون والمؤخرات والأفخاذ والأقدام، ويلبسون لباساً يكاد يكون زياً هو قميص خاكي قصير الكمين وواسع على "جينز" بالٍ وباهت الزرقة. فلا يشك الناظر إليهم أنهم "وحدة" أو جماعة، من غير ان يُعلم علام يجتمعون ويتوحدون.وعندما استداروا، ومشوا على خلاف الوجه الذي كانوا يقصدونه، انتبهتُ الى الموضع الذي يغادره آخر واحد او اثنين من جمعهم، فإذا به لافتة خط عليها "من انتصارنا لن ينالوا" (فهم لا يحيدون عن ابتكاراتهم اللغوية والإنشائية) بين صورة لرأس زعيم "أمل" وصورة لرأس حبيبه وصديقه زعيم الجيش الخميني. وقفلت الكوكبة من المناضلين، بعد ان رفعت اللافتة ونصبت الراية في أرض العدو، عائدة الى مضربها. وكان عرض القوة المسالم بمنزلة التكشير عن الأنياب. فلما اطمأنت الى هيبتها، أخلت مكاناً يقع خارج "بلادها"، ولا ترى غضاضة في الاستيلاء والتسيد الرمزيين عليه، على نحو ما لن يردعها رادع عن مهاجمته في اليوم التالي بالسلاح، أو عن حراسة انتصارها الحاسم والقاطع عليه، وعلى أهله، بواسطة شبان مسلحين ومتحلقين على أمتار قليلة من محطة محروقات قريبة. وفي صباح 8 أيار، كنت أمر بقرب المسلحين المتحلقين، قاصداً عملي من طريق من الطرق المواربة التي قسر احتلال المسلحين المذهبيين المدينة المواطنين عليها. فلما تجاوزت مسلحاً كان ينتقل من جهة من الطريق الى أخرى، سمعته يقول: "بيروت خط أحمر، ها!"، فهو يجهر ما تكني عنه اللافتة القريبة: إرادة الاستيلاء والاستعلاء والوطء.فنشر المستولون الفاتحون راياتهم على الطرق والمفترقات، وعلقوا اللافتات في مدائحهم و"صريخهم" (أو شعارهم، والشعار هو الصريخ، أي صيحة الحرب)، وكأنها أقواس نصر، يمر تحتها المارة ويطأطئون الرؤوس. وركزوا الرايات، على ما كان يقال في خطابة الحرب، عالية، تشرف على الناس المنقلبين رعايا يرعاهم (من الرعي) أهل السيف، وأهل "العلم" المخزون في صحائف الصدور. وفضيلة الرعية هي الطاعة والانقياد والإذعان، على قول "سوري" مشهور. وتنشر الرايات في بلاد الفتوح والاستيلاء، وتترك هناك، حيث قد لا يراها أو ينتبه إليها، وحتماً لا يواليها أحد. فترى الى اليوم، بعد انقضاء ثلاثة أشهر ونصف الشهر على "فتح" 7 أيار، أعلام "القوميين السوريين" السوداء وزوبعتهم السلتية والنازية القانية منكسة وخَلِقة على أعمدة الكهرباء. ويفترض أصحاب الأعلام هذه، شأن أوليائهم وأصحاب سلاحهم وقيادهم، أن أعلامهم تعلن على رؤوس الأشهاد انتصارهم، وسيادتهم وتوليهم الرئاسة على اهل الحمرا وجوارها وفروعها. وأهل الحمرا، ومستعملوها (على وجوه الاستعمال المتفرقة من عمل وإقامة وامتلاك ومعاملة)، براء من هؤلاء، مستولي نهار وليلة.وعندما استولت القوات السورية على بيروت، أو شهرت استيلاءها، كان من أول الشارات التي استحدثتها، من طرف واحد، لصقها صورة حافظ الأسد على أعمدة مطار بيروت الدولي الداخلية على مرأى من المسافرين. وبقي الرئيس السوري يحدق في المسافرين، ويدعوهم الى السفر من غير عودة، الى حين هدم رفيق الحريري المطار القديم، وجدد بناءه. فكانت الصورة بمنزلة الضم الى "الشعب الواحد"، وإلغاء الدولة الثانية. وحين حسب الحزب الخميني المسلح انه في طريقه الى الاستيلاء والتمكن، غداة "تحريره" الجنوب، ونقل السيادة عليه الى وكلاء الباسدران و"القوات الخاصة" ("قوات الموت" على ما كانت تسمي نفسها)، نصب أنصاباً مصورة لأئمته وأولياء أمره من حكام ايران وأسياد شعوبها وساساتهم. ويبدو ان مفاوضات اليوم على نزع الصور ورفعها ترتطم بالأنصاب المصورة هذا، وبإصرار الخمينيين والصدريين (محازبي "أمل") على إخراج المطار (الدولي) من دائرة المفاوضة والمبادلة. وكان زعيم "أمل"، وصاحب الرقم القياسي في الصور المرفوعة، على رغم تواضعه وحيائه ورغبته المحمومة في تدمير الصور منذ "مشادة الصور" البيزنطية في القرن الثامن الميلادي، استعجل نزع الصور والأعلام. ويندب المستولون مواليهم وأنصارهم الى التمتع في "الحق في الصورة". فمنذ 7 ـ 8 أيار وصور "المهندس فؤاد مخزومي" ولافتاته الخيرية والانتخابية، مرفوعة أو معلقة على ما لا يحصى من الجسور والجدران والشجر وعواميد الإنارة والعيدان. وهذا الريع يدين به المهندس ورجل الأعمال السخي، وصاحب المال غير السياسي، على ما يرى ربما سليم الحص وجميل السيد (من وراء القضبان)، يدين به الى مشيه في ركاب أهل القوة المستولين.والأعلام واللافتات والصور والشعارات تصنع سيادة، وتندب الى ولاية الأمور، في مرآة ذهنية سحرية ترتب عالم أصحابها ودنياهم على مراتب: ففوق يعني العلو والسمو والشرف، وتحت يعني الدنو والضعف والمهانة، والكثرة الظاهرة تعني القوة والسلطان، والقلة الظاهرة تعني الامتثال والالتحاق، والكلام الكثير والجازم والصلف يعني الحقيقة والشجاعة والنفاذ، والكلام العامي والموازن بين الأمور والمتواضع يعني التعثر، إلخ. فلا يشك اصحاب الأعلام والسلاح ان راياتهم الكثيرة هي عنوان سلطانهم وسيطرتهم ورجولتهم، وعنوان "دولتهم" تالياً، وأما تربع الدولة في إرادات المواطنين المعلنة، وصدور الأمة عن استفتاء المواطنين، فـ "فكرة" غريبة عن أذهان أهل الحارات والمعازل والجيوب و"الأحزاب". فهم يصدرون عن اجسام عصبية وأهلية مرصوصة، تعلوها رؤوسها ورئاساتها "الطبيعية" والملهمة. وأما الاقتراع، وتقسيم السلطات وتعاونها، واستقلال المجتمع عن الدولة، واختصاص السلطة والقانون والمعرفة بمعاييرها، والمساواة بين المواطنين، فتؤدي الى تفكك الجماعات أفراداً، وإلى تقييد السلطة، وتَقلّب الناخبين بين غالبيات وقلات تطيح الثوابت والرؤوس وتجددها. فتتصدع المراتب، ولا يستقر فوق ولا تحت، ويجرد ما كان قدساً ثابتاً من قدسه، ويبطل التوكيل... وهذه تشبه مقدمات خروج الدجال والأعور الديموقراطيين والليبراليين.وعلى هذا فالسحر المنبعث من الأجسام المرصوصة في دشم اجتماعية إسمنتية، يبدو مأمون العاقبة قياساً على ما يترتب على الأخذ بالهيئات السياسية والاجتماعية المحدثة، والقائمة على التمثيل والمساواة والمنازعة والجواز والإرادات الحرة. ويصل الاعتبار هذا، وهو اعتبار مدرك ومعلن وتدور عليه كتابات فقهية جليلة وأخرى تاريخية واجتماعية فكرية أقل جلالاً وقوة وتفويضاً، يصل ما قد يبدو فولكلوراً بلدياً، و"حكي قرايا" بعيداً من السرايا الشاهانية والثوروية السرية والسردابية، بالسياسات الكبيرة، والتغيرات العسكرية والاستراتيجية الكونية، على قول اعيان المذهب وحلفائهم (فحطَّ الرأي هذا على لسان عمر كرامي، الأفندي الطرابلسي، فقال، وهو القائد الميداني المجرب، إن "حرب تموز" غيرت المقاييس والمعايير العالمية، وهو حدّث عن ثقاة معصومين).فالأجسام المرصوصة، أو الدشم الاجتماعية والمذهبية المحلية، المسورة بالأعلام والصور واللافتات، والممتلئة تعصباً وإيماناً (ايمان الأعراب القرآني) واحتشاداً وسلاحاً وبطالة، هذه الأجسام جزء متين، وركن من أركان كتلة اقليمية عريضة. وتضوي الكتلة هذه "دولاً"، تقر لها العلاقات الدولية بهذه الصفة، ولا يسع "المجتمع الدولي" نفيها منه على رغم معرفته بمروقها ونهوض سلطانها على الاستيلاء في الداخل والخارج. فتتوسل بصفتها ذريعة الى مد نفوذها، والتسلل الى ثنايا الجماعات في الدول الوطنية الأخرى، والمفاوضة على مصائرها مع ذوي الإرادات "الطيبة"، والناشدين أدواراً وأوزاناً لدولهم وأحزابهم وأنفسهم. ولكن يد الدول المنتحلة الصفة هذه، أي عصبياتها المستولية، كانت لتكون قصيرة ومكفوفة لولا الحارات والجيوب المنتشرة في البلاد كلها، ولولا انكفائها و"كبكبتها"، على ما كان أصحاب النظر يقولون في قتال الخوارج. فالحارات والجيوب "المتكبكبة" تتولى الغارات على الجبهات والمحاور المبثوثة في البلاد والجماعات والأحزاب والنقابات والإدارات والهيئات والأسلاك والعائلات وبني العمومة وبني الخؤولة والطبقات الاجتماعية. والرد عليها يورط الراد، دولة كان أو سلكاً أو، ويورده مورد العدوان على "الشعب". فالدشمة تنقلب الى "الأمة" من غير نصب، وتتصل بالجيوب الأخرى، وتنشئ "محوراً" سمة سياسته، الى تخريب الدول والمجتمعات، المطاولة. فوقت المحور يدوم طويلاً، على قول ديغول.