الأحد، 30 أغسطس 2015

حروب الجماعات والعصابات السورية... من غير «شرطة» جامعة



المستقبل (نوافذ) 30/8/2015
تتوالى الحوادث السورية الفاجعة - المعينة والمفردة تارة مثل قصف السوق بدوما ثم قصف المقبرة، والمجتمعة والمتصلة تارة اخرى مثل بلوغ عدد الغارات الجوية التي شنها الطيران الحربي الرسمي في الاشهر العشرة المنصرمة، الى منتصف آب، أكثر من 33 ألف غارة (تولت المروحيات 18038 منها والطائرات الحربية 15337) - من غير ان تبلور مخرجاً سياسياً من الحروب المتفشية والمتناسلة بعضها من بعض. وإذا كانت اعمال أو افعال «النظام» الحربية او الديبلوماسية (المفاوضة على خروج المقاتلين من الزبداني) أو الاجرائية والادارية (اشتراط موافقة الجهات الامنية على العمليات العقارية وسياسة التجنيس) تدعو من غير لبس الى الادانة والتنديد، لم يخل عمل أو فعل تقدم عليه معارضة من المعارضات العسكرية الميدانية الكثيرة من مطعن أو عيب يقوض إيجابيةَ مقاومةِ النظام العصبي الامني والريعي الذي يتصدره الاسد الثاني، والقيام عليه. والاجماع المضمر في صفوف جماعات المعارضات المسلحة على إدانة عصابة «الدولة الاسلامية» المزعومة ووحشيتها لا يمهد الى ميثاق واحد أو «شرطة» واحدة، على قول الحركة الدستورية الايرانية مطلع القرن السابق. فلم يملك المتحدث المتخفي باسم «النصرة»، أبو محمد الجولاني نفسَه من الامساك عن إدانة «إخوته» في الاسلام والايمان على قوله، جماعة «الدولة» في معرض الترويج لـ»اعتداله» وترشيح جماعته للانخراط في جبهة متضافرة. ولم يفلح نحو 3 آلاف قتيل من الجماعتين سقطوا في اواخر 2013 وأوائل 2014، في اقتتالهما على الرقة وشرق حلب، في حسم ما بينهما من تداعٍ وانعطاف وعلائق.

والرأي في الجماعات المسلحة المعارضة التي تقاتل «داعش»، وقد تبلي في قتالها، وتعلن من وجه آخر معارضتها السياسية وربما المسلحة (على قدر أقل) للنظام البوليسي، لا يحمل هذا الرأي صاحبه على الانحياز الى هذه الجماعات، ولا على توسم الميثاقية المأمولة في قتالها وفي نهجها الاهلي والسياسي. والجماعات الكردية السورية هي المقصودة أولاً بهذه الملاحظة. فمهادنة هذه الجماعات، ولو على نحو سلبي، الاسدَ الكيماوي في دير الزور على الخصوص، على رغم مبادرة رأس العصبية المراوغ الى هذه المهادنة واستجابتها هي، آذنت بالسياسة السكانية القومية أو الاتنية التي أعقبت تقدم وحدات حماية الشعب الكردي في تل أبيض بعد كوباني، في اوائل 2015. وتستعيد مثل هذه السياسة، «التطهيرية» على مقادير متفاوتة، الانقسامات العشائرية والقبلية والمذهبية التي تفرّق الاهالي وتعصِّبهم أحزاباً وكتلاً، في شمال الوسط والشمال العراقيين قبل حملة «الدولة» على الموصل وبعدها.

واضطرت قيادة «الائتلاف» السوري، غداة انشاء جيش الفتح، وعموده الفقري «النصرة»، واستيلائه على معظم ادلب وحصاره جسر الشغور والاستيلاء عليها ومحاذاته الجبل والساحل العلويين، الى انكار قصف طيران التحالف قوات «النصرة» في أعزاز وبنش وجوارهما. ولم تلبث «النصرة» إياها أن هجمت على بقية مسلحي المعارضة «المستقلة» والمؤتلفة الذين دربتهم البعثة العسكرية والامنية الاميركية الى تركيا، وجردتهم من سلاحهم وأسرت بعضهم وقتلت 4 منهم (هم عشرهم تقريباً). وإحصاء امثال هذه المفارقات في سوريا وميادينها العسكرية والسياسية لا ينتهي الى غاية أو نهاية. فاللبننة- الاثيرة على قلوب الامنيين والكتاب و»المفكرين» السوريين، في عهد «رجال موت» حافظ ورفعت الاسد - تبدو قاصرة عن الالمام بالمنازعات السورية، وعَزَف عنها جمهور المعلقين. وهي اثنينية حيث الكثرة مسترسلة. وأما البلقنة فهي من موروثات عصور زاهية نجحت في ارجاء انفجار حرب عالمية أكيدة ووشيكة طوال قرن كامل من الزمن. واستخلصت من السلطنة أوطاناً ومجتمعات وقفت على ابواب أوروبا. ووسع الرجل المريض، العثماني، في الاثناء، أن ينازع غير مستعجل احتضاره أو سكرات هذا الاحتضار. وهذا، أي استخلاص الاوطان والمجتمعات من «سلطانات» مُقْوية ومتداعية، ما لا قِبَل به لا للسلطانات ولا لولاياتها السورية ومواليها المحليين.

فـ»الحرب» السورية المتشظية والمتناثرة حروباً أهلية ومحلية واجتماعية وايديولوجية واقليمية ودولية كثيرة لم يرسُ الاشتباك أو القتال فيها يوماً على ميزان جامع يحشد حزباً في وجه حزب، على رغم شهوة النظام العصبي الامني والريعي الى الانتصاب قطباً مقاوماً وقومياً وحدوياً ووطنياً علمانياً وشعبياً، في وجه قطب تكفيري عميل، وخليجي أعرابي ظلامي ودموي. وعلى رغم يقين القطب الاصولي بنهوضه نداً اسلامياً صادقاً يقاتل ردة تفوق شراستها ردة القبائل على الرسول غداة وفاته، تعددت المعارضات المدنية ثم المسلحة، على رغم ضعف روابط النسب بين المجموعتين، وتفرقت وتشرذمت على مثال غير معهود ولا مألوف. فكان تفرقها ردَّ جوابٍ مريضاً وهاذياً على خواء الوحدة «القومية» الاسمية التي رفعها نظام «العصابة» علماً على «دولته» القاهرة وسياساته القمعية والريعية. وسرى في الجماعات المقاتلة والمتكاثرة كالفطر، على عدد المشارب والولاءات المباشرة وجهات التمويل وموارده التي تصدر عنها، اقتناع حاد بأن كل ما يشبه النظام الامني والعصبي الاهلي والريعي ومزاعمه- في العروبة والقومية الواحدة والممانعة وحماية الاقليات والعلمانية والاستقرار والامن والدولة... - هو شر وكذب ويجب مخالفته.

وآثار النظام الباعثة على الشرذمة والانانيات المتخبطة لم تقتصر على المزاعم والدعاوى والافكار فتعدتها الى أبنية الروابط والمصالح. فعريت العلاقات الاجتماعية والانسانية من دواعي الاشتراك والثقة، ومن إعلان الخلافات ومناقشتها والتحكيم فيها. فالاحزاب شكلية والانتخابات مسرح دمى قيدتها المادة الثامنة السابقة من الدستور أم لم تقيدها، وجمعيات رجال الاعمال والنقابات أطر تتوسل بها القيادة العمودية الى المراقبة والامتحان والافساد وبذر الشقاق، والادارات الرسمية تتستر على مراكز قوى فعلية تتولى التعيين والعزل والوساطة المدفوعة تحت عباءة «الحلقة الضيقة». وعلى هذا، افتقرت التعريفات الجزئية والهويات الوسيطة، المذهبية والمحلية والقرابية والقومية والاجتماعية والمهنية... والفردية النفسية، الى قوامها ومسوغها. وعُلِّق السوريون، شأن العراقيين والليبيين وشطور من اللبنانيين على نحو آخر، في فراغ تعريف جامع ومانع، متحصل من نفي التعريفات الملموسة والحسية والحيوية المقيّدة التي تقدم إحصاء بعضها، وقُمعت «الانساب» والروابط كلها. وخص بأعنف القمع أقرب «الانساب» الى عقد آصرة أو عروة قوية وتلقائية بين الناس أو الاهل، وأبعدها من الاستمالة والشراء والتعويض (أي من الاصطناع والنسب الصناعي أو «الوهمي»).

فكان الاسلام- في صيغ الاسلام الاهلي فالسياسي، والاسلام «المقاتل» قبل الجهادي والاصولي، والاسلام الصوفي، و»الاسلام الاجتماعي على ما سمي الاسلام التعليمي والمسجدي والخيري والارشادي شبه الرسمي- وسوريا هي ما هي، صنو «العروبة السياسية» أو «الحزب -الدولة» التي اشتركت في فبركتها الاحزاب القومية واليسارية، والحركات الاستقلالية الاهلية الحزبية والعسكرية، وتوجتها حركات «الكفاح المسلح» ومنظماته الوطنية. وهذا الاسلام هو صنو «العروبة السياسية»، ونازعها الى تجريد الافراد والجماعات من اعلاقهم الجزئية والحيوية الوسيطة، المتحدرة اليهم من مجتمعاتهم، وهو ندها وخصمها. ونزعت علاقة الاثنين، في صيغهما المتفرقة والمختلفة، الى الحرب الاهلية، على ما رأى مراقبون ومؤرخون في احوال مصر عشية الانقلاب العسكري «القيصري» في صيف 1952. فالانقسام الاخواني والوفدي، وغلبة التيارين على شطرين عريضين من المصريين، تقدم على انقسام ملكي وجمهوري ظاهر، وحال دون انفجار الحرب الاهلية من غير اطفاء عواملها الكامنة والمزمنة. والحق ان «الحزب - الدولة» في العراق الصدامي وسوريا الاسدية وفي ليبيا القذافية على نحو فرعي، دعا الاسلام السياسي والاصولي الى تجاوز الندية والخصومة المركبتين نحو حروب الاهل والجماعات العامة.

فاستيلاء «الحزب - الدولة» العام، ومرونة صيغته المترجحة بين الضبط الديني الشرعي وبين الضبط البوليسي والاداري، واستحواذه على موارد القوة والمعاش وعلى المناصب ومباني الاجتماع، وتولي مركزه وحده التوزيع والحظوة، وتحجيره المجتمع افراداً وجماعات على انقسام أهلي متوتر- هذه كلها مجتمعة تحمل السياسة والاجتماع معاً على الاحتكام الى حروب عددها على عدد النزاعات المعروفة والخفية والناشئة. وهي حروب غير متكافئة ولا متناظرة، ولا يسع «المعارضة»، الكلية وغير المؤتلفة من افراد وآحاد، جبه سلطان «الحزب- الدولة» أو «العصابة- الدولة» ببؤرة مركزية تقوم، بإزائه وتنازعه المشروعية. فلا يدعوها داعٍ ملح الى خوض حرب وطنية تنزع الى التأليف بين الجماعات والكتل الجزئية، على مراتبها، في اطار متماسك. وعلى الضد من هذا، تدعوها دواعٍ كثيرة وحيوية الى ابتداء حروب أهلية منفصلة تردد، بدورها، أصداء عداوات الكتل بعضها لبعض. وعلى مثال قضاء القرون الوسطى الحربي، لا يُتوقع ان تنطق الحروب الاهلية بالحق، ولا أن يحتكم المتخاصمون الى معايير أو موازين متعارفة. فالمتخاصمون إما ان ينتصروا، ودليلهم على عدالة قضيتهم هو إبادتهم عدوهم، وإما أن يُسحقوا، وهذا دليل على بهتان قضيتهم.
 

السبت، 8 أغسطس 2015

نفايات وطواعين وحروب أهلية وطوافانات مهدوية

(المستقبل، 9/8/2015) 


 هذه المرة، لم يضرب عمال التنظيفات، وهم الزبالون في اللغة السائرة والمتداولة، ولم يغرقوا المدن التي تتولى مجالسها البلدية جمع النفايات او الزبالة من الطرق والمستوعبات بنفايات سكانها المتراكمة التي يقايض العمال المضربون، حين يضربون، تحميلها المستمر بزيادة أجر أو بتثبيت أو بمنحة دراسية. وهذا كله غير ذي موضوع اليوم. فعمال التنظيفات، تهذيباً، كفوا مكرهين عن الالتحاق ببلدية بيروت الممتازة، وصاحبُ عملهم شركة مناقِصة على دفتر شروط وتكلفة. وهم ليسوا، ما عدا "كوادرهم"، محليين وطنيين، أي لبنانيين، منذ بدايات الانماء والاعمار وأواخر الحروب الملبننة. ومعظمهم يد عاملة مهاجرة من بلدانها الأسيوية والشرق أوسطية القريبة والافريقية المجاورة. وهؤلاء يعز عليهم، الى حد الامتناع، التظلم وطلب التثبيت والضمانات الاجتماعية والحقوق المكتسبة.
 فما يغرق المدن بالنفايات، أو من يغرقها، ليسوا إلا أهلها أو من أنابوهم عنهم وندبوهم الى تدبير شؤونهم العامة. وهذه تتولى الحسبة، على قول المسلمين قديماً، أو تتولى "البوليس"، على قول الفرنجة حديثاً (منذ 4 قرون أو ربما أكثر)، تصريفها وتسييرها. فالاهل الذين ارتضوا الى اليوم إيواء كتل النفايات التي "ينتجها" سكان المدن، وفي صدارتها المدينة الكبيرة او العظيمة، أو يطّرحونها ويخرجونها فضلات من استهلاكهم المتعاظم والمتنوع، يرجعون في رضاهم المتعب ويعودون عنه. وبعد نحو ربع القرن على استقبالهم النفايات في ضواحي بلداتهم أو مدنهم الصغيرة في المحافظات القريبة، وذيول النفايات القبيحة والمضرة، ثاروا على "تخصيصهم" بهذه الهبة، وأقفلوا الطرق المفضية الى المكبات وجبالها المتعالية، أو الى المطامر وبطونها المنتفخة والمضطربة. فاضطر السكان، الشطر المدني أو المديني منهم، الى اختبار ما لم يسبق ان اختبروه: احتمال أثقال فضلاتهم وبقاياهم التي يتخففون منها ويُلقونها الى من يلمونها ويجمعونها وينقلونها الى حيث لا يعلم السكان ولا يرون ولا يتنفسون.
 وفي اعقاب ربع القرن تقريباً، أو أقل بقليل، على التزام شركة خاصة ومناقِصة جمع النفايات ورميها بعيداً من دوائر السكن، وهذا أعفى البلديات وناخبيها من هذه التبعة، نسي السكان والاهالي عهداً سابقاً أناخت فيه النفايات بكلكلها الثقيل والساحق على صدر بيروت، والمدن الاخرى، وأنفاس أهلها أو المقيمين بها. والعهد السابق هذا هو أعوام الحروب الميمونة، دفاعاً عن عروبة لبنان (وليس وجهه العربي وحسب) وفي سبيل استتمام الوطن الناقص ووحدته الوطنية الجامعة وديموقراطيته المسلحة. فيومها، ابتكرت عبقرية الشعب المقاوم، وحليف "البندقية الفلسطينية" الصامدة وسوق تصريف الهبات القذافية والصدامية والاسدية، حلاً حاسماً لمعضلة النفايات: رمتها في بحر "منطقة الفنادق" الفخمة والغربية، فأغلقت الفنادق ومنطقتها، ونفت معظم الاهالي المسيحيين المقيمين بجوارها القريب وكل اليهود من بيوتهم وأحيائهم، وأعدت لإيواء المهجرين من ضواحي بيروت الشرقية. وفَتحت ساحات القتال الحر والاقتتال امام المقاتلين المحترفين للفداء، ووهبتهم مكباً خفياً ومستتراً لجثث بعض من لا يليق بمقابر المؤمنين دفنهم أو قبرهم فيها.
 وارتفعت جبال النفايات قبل أن تمهدها شركة سوليدير، غداة 15 عاماً على نتوئها وتسويتها سهلاً. وألحقت بالمعمور نحو 4.5 كلم2 من اليابسة استخلصتها، بعد معالجة دقيقة، من البحر الملوث ومن أرض مائعة وعقيمة. وعوَّض المالكون القدامى والشركة الجديدة المهجرين، وأخلوا "المحلة" وجوارها ممن اضطروا الى اللجوء اليها، وأقاموا بها نصف جيلٍ أو قرنٍ من الناس حوله بعضهم استثماراً مجزياً بمعونة حركة أهلية صدرت عن التهجير والمهجرين وعن سياساتهم المضمرة والمعلنة. وقبل ذلك ترك هذا الشطر من خليج مار جاورجيوس، على ما كانت تعرفه الخرائط المدرسية، نهباً لطوفان البقايا والقذارات والجيف والنتن، وما يتقيأه الاهل ويطرحونه ويهيلون عليه عتمات القبور وظلام النسيان، من غير أنصاب ولا شواهد هذه المرة.
 واتفقت هذه الاعوام، وقتاً وزمناً، ثم ابتداء سكان لبنان وبيروت على الاخص عصراً جديداً مع "السلم" السوري، والانماء والإعمار، وعودة شطر من المهجرين المهاجرين الى مواطنهم الاولى – (اتفقت) مع فورة استهلاك اكثر أو اشد حداثة أعقب اقتصاد السلع المعمرة (البرادات والغسالات و"الغاز" والسيارات بعد الراديوات والساعت وقبل أجهزة التلفزيون...)، ونهض على رمي الادوات الآلية وأوعيتها حال استعمالها تقريباً. فنجم عن هذا، وعن هجرة متفاقمة، أهلية وسياسية واجتماعية الى بيروت، واتصال الضواحي بالمدنية الكبيرة والتصاقها بها والتغلغل فيها قبل السيطرة العسكرية والامنية والسياسية عليها، تعاظمُ "نفي" السكان ما يفضل عنهم، ويتخلف عن استهلاكهم ويرمونه في مستوعبات مختلطة تجمعه وتقبره حيث لا عين رأت، ولا قلب توجَّع.
 وعلى شاكلة امور كثيرة أخرى، مثل استهلاك الكهرباء والماء أو المواصلات والمحروقات والسكن في المدينة الكبيرة وخارجها، صوّر "السلم" السوري، الامني والردعي، ومن ورائه "الرعاية" العربية، المرافق العامة هذه- وسماها الانتداب الاوروبي "مصالح مشتركة" و"احتكارات" ورهن بها تسديد السلطنة جبل ديونها- في صورة منحة أو هبة سنية تنزل على الناس لقاء لزومهم السكينة والسلم الاهليين. فلا تغير سُلَّم الاستهلاك احتُسب ولُحظ، ولا احتسب تعاظم العدد والكم طرداً مع انقلاب نوع السلع و"تحديثه". ولما خرج اللبنانيون من الحروب المتعاقبة والمركبة فرقاً وشيعاً فوق ما كانوا عدداً، وأعمق فروقاً، وأشد اختلالاً وتفاوتاً، وناطوا وحدتهم ومشتركهم بـ"قوة" وصاية متحكمة تشكو من أمراضهم فوق ما يشكون هم، صدعوا بتحكيم الوصاية الفاتحة، على اشكال التحكيم وصوره. ونزَّهوا البت في مشكلاتهم المعقدة والمتراكمة من انقسامات المجالس المنتخبة والمنتدبة، وبطئها وترددها ومنازعاتها.
 وماشوا ترويج قوة الاحتلال والتسلط لنوع الإدارة الذي تعرفه، وألفته وحسبته الدواء الشافي للانقسامات والخلافات، وهو (اي نوع الادارة) الجمع بين النفخ في الفروق القائمة وتغذيتها وتثبيتها، وبين "حلول" ظاهرة التقنية تعفي الناس من النظر في المسائل وتحمل تبعاتهم عنها وعن مآلاتها. ففي "المسألة الكهربائية"، على سبيل المثل، أغضوا فرحين ومكرهين معاً وعلى مقادير متفاوتة، عن استهلاك شطر من اللبنانيين حصصاً من التيار والتوزيع خلسة وعلى رؤوس الاشهاد، في ظروف تجمع المهانة والقلة الى الوصمة والتمييز السالب والمنتَقِص. وفي "المسألة السكنية"، اضطر من يسمون قدامى المالكين، اصحاب العقارات المؤجرة قبل إهلال الحروب المباركة وفي أثناء العقد ونصف العقد بعده، والمستأجرون الى المساكنة على كراهية وإكراه متبادلين. وترتب على هذه المساكنة تردي أحوال الابنية الى حد الانهيار، وتردي احوال معظم اصحابها الى حد الادقاع. وترتب استئنافُ الايجارات في الابنية الجديدة على اساس دخول وعوائد بعيدة من الدخول والعوائد المتوسطة، ومن متناول اصحابها. وأعملت جماعات محظية وبائسة "قانونها" العقاري الاهلي والخاص في بناء عشوائي إلتهم سريعاً الاحتياط المائي، وممرات الهواء الجاري، وهوامش المساحات الفاصلة بين المباني، وضوابط سلامة السكن والملاحة الجوية.
 وهذه، وغيرها على شاكلتها، من علامات "نظام" جديد تضافر على صنعه اختلالُ موازين الاجتماع السياسي اللبناني التقليدي، وعصفُ النزعات العصبية والعامية المحلية والعربية الاقليمية بهذه الموازين واستبدالها، في لبنان وجواره القريب والابعد، بالاستيلاء العصبي والبيروقراطي العسكري على "دولة" أمنية وإدارية تتربع في خواء اجتماعي فاغر. وأسرع سياسيون ومعلقون ودعاة كثر الى حمل "مسألة النفايات" على "النظام" اللبناني- وعلى "بنيته" الطائفية التي صاغتها الحركة "الوطنية" المحلية مثالها وشخصتها في شراكة عميقة مع المنظمات الفلسطينية المسلحة، وأجهزة الامن والاستخبارات السورية، وقبضايات الاحياء البيروتية والطرابلسية والصيداوية وصاغها مثقفوهم العروبيون- حين يُظهر فحصٌ سريع صدور المسألة عن عوامل أقحمت معظمَها على الاجتماع اللبناني الانظمةُ المتفجرة اليوم تحت وطأة خوائها السياسي – الاجتماعي، واختلال موازين جماعاتها وأجهزة دولها، وفساد طواقم حكمها وموالي هذه الطواقم، وتخففها من المراقبة ومعايير الاداء على حدها الادنى.
 ولا ريب في ان رؤيوية هذه الانظمة الأخروية والكارثية، أو اختبارَها الزمن تحت شارة "الابوكاليبس"، على قول ستاتوس أحد المدونين، ولواء ملاك التاريخ على ما تداعى آخر، وامتلاء الارض جوراً عشية امتلائها عدلاً، وحاجتَها الى التماسك تحت حوافر وسنابك حرب أهلية وكونية- تتفق وفكرة الطوفان التي يمثل عليها تراكمُ الزبالة، وعمومُها الطرق والحارات، وسدها المنافذ على الانتقال السيَّار وعلى الصدور والزلاعيم والعيون، وقطعها الاتصالات الهاتفية، وتشديدها الحصار على الناس في بيوتهم الموصدة النوافذ والابواب، وتسللها الى بطن الارض وتلويثها المياه، ونشرها الغازات المسرطنة... فهذه الحال، الحميمة الصلة بالحياة في "عهد" الطواعين والحروب الاهلية المتمادية (واستعارة وباء الطاعون للكناية عن الحرب الاهلية من الاستعارات السائرة والمطروقة)، وظلها أو قبضتها، تنم بالشبه الشديد بين تسلط الوباء وحصاره وبين سلاطة الاستبداد الاهلي وحروبه. وقد يُراد الكلام على الواحد فيصيب الآخر ويجري عليه.

الاثنين، 3 أغسطس 2015

مقالة محمد خليل حكايمة/أبوبكر ناجي القاعدي العزامي في "إدارة التوحش" (2): تقديم العلل الشرعية على العلل الكونية باب على ذاتية لا قيد على عنفها



المستقبل 26/7/2015
يغلب التوحش على الدول والمجتمعات كلها، مسلمها وكافرها، حين تضعف "الدولة"، وهي "شيء وجودي واحد... جامع للبشر جميعاً بغض النظر عن دينه وقيمه"، وتنقص قوتها عن قوة كانت تسوسها قبل الضعف. ويبدو هذا "قانوناً" عاماً لا استثناء منه. وهو، أي التوحش، جزاء سقوط الخلافة العلمانية، وأفول دولة الاسلام، وتقسيمها الى "مناطق وقطاعات" أو "دول ودويلات" تتسلط عليها القوات العسكرية أو من تنصبهم هذه القوات حكاماً، ويلحقها به أحد القطبين الدوليين بموجب "سايكس- بيكو" الذي يتصور تارة في صورة عهد ما بعد الحرب العالمية الاولى، وتارة أخرى يلبس حلة العلاقات الدولية القطبية في حقبة ما بعد الثانية. وفي عهد "سايكس –بيكو" هذا يُقحم على الدول والبلدان التي خسرت خلافتها وإسلامها، ورجعت الى حال أشبه بالردة التي أعقبت وفاة نبي الاسلام ونجمت عنها أول حرب أهلية عاصفة في زمن الدين الجديد، (يقحم عليها) ما ليس من دينها وقيمها، وتفقد دولها ما يجعمها بشعوبها ورعاياها، وهو اسلامها. فيغزو التوحش، في غيبة الدين واطراحه، هذه الدول ويفككها ويعصف بمشروعيتها، ويُسْلم حكمها الى القوة العارية. ولا سبيل الى الخروج من التوحش إلا انتهاج منهاج السلفية الجهادية الرباني، والدَّيْن لها بالطاعة. ومنهاج السلفية هو الحرب الاهلية، والحرب على الكفار، "اليهود والصليبيين"، معاً ومن غير تفريق (عطفاً على مقال الكاتب في "المستقبل – نوافذ"، 12/7/2015، وقبله في 10/5/2015، في حجي بكر، العقيد الاستخباري العراقي سمير عبد محمد الخليفاوي).
الخلافة والعلمانية و"نقدهما"
 فمخالفةُ أنظمةِ الحكم الجديدة، والمتفرعة عن نظام القطبين الدوليين وقيمهما الاجتماعية والاقتصادية وقبلها وبعدها الدينية، "عقيدةَ المجتمعات"، وهي في هذا المعرض إسلامها: خلافةً وشرعاً وداراً وسلماً وحرباً، هذه المخالفة تؤدي حكماً الى انحسار دين الاسلام ودولته، وانفكاك المسلمين من رابطتهم فيما بينهم وتحللها، ومن رابطتهم بمصدرهم ومَعين رشدهم وهدايتهم وقوتهم وغلبتهم وسلطانهم من غير تجزئة ولا تفريق. ويستبق الحكايمة /أبوبكر ناجي، وحزبه معه، تعليل "سقوط الخلافة" بعوامل متنوعة كثيرة لا تُحصر في إلغاء اللقب والمنصب والشارة بعد ضمورها وموتها عملاً وفعلاً بنحو قرن ونصف قرن من السنين شهدت انقلاب العالم من هيئة سلطانية الى هيئة ديموقراطية، وعرّفت عوامل الاجتماع والدولة والقوة تعريفاً جديداً، فردياً وتعاقدياً وانتاجياً، لا يفي به إقرار "الدولة" على "شيء وجودي واحد"- يستبق صاحبنا التعليل التاريخي هذا بالمساواة بين الغاء لقب الخلافة الرسمي وبين انحسار دين الاسلام ودولته وغيبتهما أو تغييبهما، على قول إيراني وإمامي وخميني سائر، قسراً وعنوة.
 ولا يشك صاحب المقالة، مقتفياً أثر معظم الاسلاميين قبله من نهضويين أو إحيائيين خالفين أو مناضلين انقلابيين، في مسؤولية الاجانب أي الكفار ("سايكس- بيكو" أو القطبين) عن التقويض والتغييب المزدوج، وتبعتهم عنهما. واختصار الاشارة الى "سقوط الخلافة"، والاقتصار عليها، قرينة على رفض المناقشة في احتمال عوامل داخلية قد تدعو الى "الاصلاح" او الى "التجديد"، والابتداع وهاويته. و"شيوخ" الاسلام المهديون، قديماً وحديثاً، ومراجع تقليد أبوبكر ناجي على ما لا يقول، يستثني منهم الرجل من يسمون نهضويين مثل "الصوفي" جمال الدين الافغاني، أو "الارجائي" المتكلم محمد عبده، أو "العلماني" حسن البنا. وهي النعوت التي قد يطلقها على من لا يسميهم أو سمى منهم "الاخوان" ونعته بالعلمانية، على ما مر. وإذا كان محمد بن عبد الوهاب آخر الشيوخ القدماء المعتمدين فربما لحملته "بالسيف" على ردة وكفر صريحين في الارض الحرام نفسها، أو بجوارها القريب، ولقربه الظاهر من شروط الدعوة الاولى ويسر مقارنته بالمثال الذي يتوق أصحاب السلفية الجهادية الى التشبه به. وحال ابن عبد الوهاب النجدي تشبه انتصاب ابن تيمية للفتوى غداة اجتياح المغول "جنوب آسيا".
 وما يأنف صاحب "إدارة التوحش" من القيام به، أي النقد والتأريخ الداخليين والمحايثين، حين يتعلق الامر بالاسلام ودولته المفترضة، يضطلع به ويسعى فيه من غير تردد حين يدعوه داعي الجهاد والادارة الى نقد القطبين وسياستهما الاسلامية. فلا توسط في التنديد بانقطاع المسلمين المرتدين من دينهم وعنه، وهو رابطتهم بخالقهم وبأنفسهم، ماضياً وحاضراً. وعلة الفرق بين الطريقتين أو الموقفين واضحة. فنقد الخلافة العثمانية قد يعود بصاحبه الى دعاوى الاصلاح والتجديد والابتداع العلمانية ويحمل عليها حملاً، على نحو ما قاد السلفَ غير الصالح اليها والى أمثالها. وأما نقد العلمانية الكافرة والمرتدة فيحرر نفوس المسلمين الصادقين، و"(المستقيلين) من العمل العسكري" (ص9)، من الضعف الذي يسوغ الاستقالة. ويتوسل ذلك، أي التحرير من الضعف الداعي الى الاستقالة، بتوهين العدو، وتصويره هو في صورة الضعيف المتهالك والموشك على نزعه الاخير، على خلاف ما يبدو عليه ظاهراً من قوة وتماسك وشكيمة.
أقنعة القوة: "الموت لها"
وعلى مثال الروايات البطولية وقصصها الشعبي، وهي بدورها نسجت على منوال القصص النبوي، على المجاهد السلفي المعاصر اجتياز بلاد الوهم، وطي أقاليمه، ونزع أقنعته. وأول الاقنعة أو الاوهام هو توهم الثبات والاستقرار في "الدول والدويلات" التي تساقطت من الخلافة، وفي حكوماتها العسكرية العاجزة عن القيام بنفسها وبأودها من تلقاء نفسها. وحملُها دولاً وحكومات على العسكرية والتبعية "للنظام العالمي وقطبيه"، وعلى الوحش أولاً وآخراً، يُقصد به تبديد وهم ضرورتها، وجريها على سنن كونية أو "قدرية"، على ما مر في المقالة الاولى. فهي "بالفطرة البشرية"، وحال انحسار سلطان الخلافة والاسلام عنها، مناطق وقطاعات متداعية لا يرجى لها إلا إدارة اضطرابها وتضعضها وانهيارها كل يوم.
 وثاني الاقنعة أو الاوهام هو توهم قوة القطب الراعي الدولة "المحافظة على الشكل" العتيد والمتخلفة عن الخلافة، والمتساقطة من دوحتها أو شجرتها العظيمة، شرقياً كان هذا القطب أم غربياً، وتوهم "مركزيته". وفي الحال هذه يتطاول الوهم أو القناع الى القوة العسكرية الجبارة، أي الى جبروتها المزعوم، والى الهالة الاعلامية التي يغلف "كذبها" الجبروت العسكري. ويرد الكاتب والمنظر الجهادي على ما كتبه لتوه في صدر مقالته، وهو تعريف التوحش بضعف قوة الدولة الخالفة على السلطة المنصرفة، إذا ما قيست بقوة الدولة الآفلة والوارثة السلطنة أو الخلافة العثمانية. فربما تراءى للكاتب السلفي الجهادي أن الرد على مقالته في ضعف الدولة الخالفة، دولة "سايكس- بيكو" أو الدولة الدائرة في فلك "النظام العالمي" وقطبيه، وقصورها عن مكافأة قوة "الخلافة"، يسير. وهو أن الدولة الخالفة ليست قوية بنفسها ربما، ولكنها قوية أو مستقوية بجبروت النظام العالمي وقطبيه. فها هو يرد على فكرة الاستقواء بالسند.
 ويحتج الحكايمة بالنقض على توهم الجبروت في القطبين. والحق أن ركن النقض، وتمزيق القناع، سبق المناقشة أو المطارحة بأعوام. وهو يعود الى مقارعة الاتحاد السوفياتي في عهد الاستنقاع البريجنيفي ( 1964-1984)، ثم الهيكلة الغروتشوفية (1986-1991)، غداة عهدين قصيرين تولاهما مريضان هما جنرال الاستخبارات اندروبوف وموظف الجهاز تشيرنيينكو وداما نيفاً وسنة. وانتهت المقارعة بهزيمة القطب "الجبار" الآخر بأفغانستان على يد ما سمي "الجهاد الافغاني". والحكايمة، من طريق عبدالله عزام وأيمن الظواهري وأسامة بن لادن، جزء منه. ويقيس، في مقالته، هزيمة الجبار الاول المأمولة والمرجوة على الهزيمة الناجزة والسابقة. فيفترض أن على الولايات المتحدة – شأنها عشية الحملة العسكرية الضخمة على العراق في 2003 وغداة هذه الحملة، وشأنها كذلك في صيف 1990 وتصديها، والتحالف الدولي العريض، لعدوان صدام حسين على الكويت وتهديده المضمر جوار الامارة الثمين- أن تنقل قواتها من "المركز" الى الاطراف، والسيطرة على "مساحات الاراضي"، المصرية أو اليمنية، وفرض سلطانها عليها.
 فيجزم بأن قوة أميركا أو روسيا "لا تستطيع" فرض سلطانها على أراضي البلدين ودولتيهما، لأن المركز بعيد، ونقل القوات مسافات طويلة عسير وباهظ، ولأن "المساحات" شاسعة. فإذا تضافرت على الاستحالة، أو "عدم الاستطاعة" عوامل أخرى مثل رفض "تلك البلاد (الخضوع) بمحض إرادتها"، أو هزال "قوة (الـ)أنظمة (الـ) محلية من الوكلاء"، ثبت أن الجبارين "نمران من ورق"، على قول ماوتسي تونغ الصيني، أحد مرشدي الحكايمة / أبوبكر ناجي وأدلائه العسكريين والسياسيين غير المنكرين ولو من غير تسمية. وهو يتوسل بتحليل الاستحالة العملية وتفنيدها الى نزع القناع عن زعم الجبروت الحصين والطاغي، والى التنبيه، من طريق جانبي، على تولي "هالة اعلاميين كاذبة" التستر على ضعف شوكة القطب الاميركي ووشك هزيمته في العراق وافغانستان بعد هزيمة القطب السوفياتي المدوية في بعض بلاد دار الاسلام عن أيدي "مجاهدي" السلفية.
 ويتنقل الكاتب المنظر بين وجهين من أوجه الحرب العالمية التي يشنها "الاسلام" على "نظام سايكس- بيكو"، ولا شك في ان البادئ الظالم بها هو هذا النظام أو بقيته الباقية: الوجه الاول عملي عسكري وتجريبي، ويتناول تصفحه عوامل جغرافية وعسكرية وسياسية "محايدة" أو حسابية؛ والوجه الآخر يتطاول الى عوامل معنوية وعصية على الاحصاء والكيل مثل التصديق والهمة والارادة، وتحتسب عزائم المقاتلين وخططهم ومقاصدهم وغيرها من العوامل غير الحسابية. ودائرة الوهم الثالثة هذه، او دائرة "الصورة" على أعرض معانيها الايديولوجية المحدثة، هي ذريعة صاحب المقالة الى إعمال الاسلام أو الدين في "استعادة" وظائف الصورة وتقنياتها الصناعية والعامية (الديموقراطية) وتوجيه شفرتها الى مبتكري هذه الوظائف والتقنيات، وردها الى نحرهم حرفياً ومن غير مجاز ولا استعارة. فيطعن على الهالة الاعلامية "كذبها، أي نسبتها الى القوة العسكرية الاميركية ما ليس فيها، وحمل هذه القوة على ما هو من صفات الله. فيصورها الاعلام في صورة قوة "لا تقهر وتحيط بالكون وكأنها تحوز قوة خالق الخلق". فما يهتدي به الجهادي السلفي والمقاتل في تبديده السحر، أو الهالة، أو "الايديولوجية" التي يحيط بها العدو نفسه أو صورته، ومصالحه، وقوته أو سلطانه، هو التوحيد، وقصر الولاية والقوة و"الحاكمية" على ما أنزل الواحد به وحده من سلطان اسلامي، آلةً عسكرية أم شرعاً أم نظمَ حكم وإدارة.
"الفناء" المخيم

 وترتسم في ثنايا نقد أوهام القوة والجبروت التي يسعى النظام العالمي في التقنع بها، معالم الطريق التي على الجهادي السلفي، وهو وحده المسلم الصادق، الاستدلال بها على المنهاج القويم، وإجادة إدارة التوحش المفضية الى التمكين ودولة الاسلام. فيترتب على أكلاف السيطرة القطبية الشاملة والعامة، الباهظة، وعلى أثمان المحافظة على توسعها ودوامها وحمايتها من المتمردين عليها وعلى وكلائها، "سقوطها" المحتوم. وهذا السقوط يقرّ به الكاتب الاميركي بول كينيدي، صاحب "صعود الامبراطوريات وانهيارها" (1987)، على ما يسعد القول الاسلاميين كلهم، على اختلاف مللهم ونحلهم، أي إثبات "العدو" مقالاتهم في أنفسهم. (ووكالة الاستخبارات المركزية الاميركية أحصت كتاب بول كينيدي في كتب مكتبة اسامة بن لادن أخيراً). ويخلص الحكايمة / أبوبكر ناجي من ربط المؤرخ الاميركي أفول الامبراطوريات في التاريخ الحديث- من الامبراطوريتين البرتغالية والاسبانية غداة اكتشاف العالم الجديد الى الامبراطورية السوفياتية عشية خطة رونالد ريغان (1981-1989) تجديد سباق تسلح لا يعف عن الفضاء و(عشية) "الثورة الرقمية"- بتعاظم حاجتها الى الانفاق العسكري، واضطرارها الى قبض صرف شطر راجح من الموارد عن تلبية احتياجات الابحاث والتطوير والانتاجية والتعليم والصحة والأبنية التحتية والبيئة، (يخلص من تعاظم الانفاق العسكري وتقليص الانفاق الاجتماعي والعلمي) الى وشك سقوط الامبراطورية الاميركية.
 وهو يؤول القصور عن تلبية الدولة والحكام الحاجات المولودة من نظام الرعاية أو العناية الذي عمَّ الادارات الغربية الليبرالية والديموقراطية بين الحربين العالميتين، وغداة الحرب الثانية خصوصاً، خللاً أو عيباً أصاب ويصيب القوة الجبارة "(الـ) مدعومة كذلك بتماسك مجتمعها في بلد المركز... وشرائحه". ويزاود أوروبياً وسوسيولوجياً على بول كينيدي، ويبالغ في حمل موارد القوة العسكرية والسياسية على العوامل الاجتماعية، فيقرر أن "لا قيمة للقوة العسكرية الجبارة (الاسلحة والتقنية والمقاتلين) بدون تماسك المجتمع وتماسك مؤسساته وشرائحه" (ص11). ويرجع من هذا، ومن أوروبيته وسوسيولوجيته المغفلتين إغفالاً تاماً حين يتعلق الامر بمجتمعات الخلافة وأنظمتها، الى تعليل أليف يتناول عوامل "الفناء الحضاري": الفساد العقدي والانهيار الخلقي والمظالم الاجتماعية والترف والانانية وتقديم الملذات وحب الدنيا على كل القيم إلخ.
 ويلاحظ القارئ أن موضوعاً أليفاً على المقالات الاسلامية التقليدية، من مثل القرية الهالكة التي أُمر مترفوها بالفسق الى تناول ابن خلدون دور اختطاط المدن في إضعاف عصبية الدولة، يعالجه المنظر السلفي الجهادي من غير إلماح الى تراثه الاسلامي. ولا يبدو الاحجام سهواً أو نسياناً. فاجتماعيات الانظمة الاجتماعية والسياسية، أي تعليل الابنية الاجتماعية والادارية من طريق علاقة الجماعات بعضها ببعض والنزاع على الموارد والفوائض ومراجع التحكيم وغيرها، ينبغي أن تقتصر على الانظمة غير الاسلامية، وعلى سياسياتها واقتصادياتها، فلا تتعداها الى نظائرها المحلية المفترضة. وما يُرجى من هذه الاجتماعيات هو ثمرتها العملية أو "الجهادية" (محل النضالية). فما تصفه اجتماعيات الامبراطوريات والدول الجبارة هو مكامن الضعف والسقوط فيها. وهذه المكامن، من الجهة التي ينظر منها الجهاديون الى الدول الجبارة، هي عوامل "نشطة أو خاملة" يسع الجهاديين، إذا أحسنوا الادارة، توظيفها في إسقاط الدول والامبراطوريات، و"المساعدة" على اسقاطها.
 ويمزج أو يخلط صاحب مقالة "إدارة التوحش" السنن النبوية، أو العلل الشرعية على اصطلاح بعض أهل الفقه، بالسنن الكونية، أو العلل الطبيعية والعقلية، على ما مر وتقدم. فيسأل من غير شك ولا استفهام بعد كلامه في عوامل "الفناء الحضاري" النشطة والخاملة وفي المساعدة على تنشيطها: "فما بالنا إذا كان هذا العامل المساعد هو قدر الله؟" ويقضي ""قدر الله"، على هذا، بتكثير بؤر القيام على الدولة الجبارة الباقية، وباختيار أبعدها مسافة من المركز، وأوسعها مساحة، وأكثرها سكاناً، وأضعفها حكومة وقياماً مستقلاً بالتحكيم في خلافاتها الداخلية، وأشدها ميلاً الى الاسلام والجهاد أو أطوعها الى الحمل عليهما (والحق أن الكاتب يقف مقالته على المسلمين وبلادهم). ويبدو الجهادي، وهو ينظر الى ميزان القوى والموارد الاستراتيجي، "مواطناً" أو محارباً ومقاتلاً عالمياً بامتياز. ولم تكن "جبهة" بن لادن وأيمن الظواهري في 1998، عشية الهجوم الدامي على سفارتي الولايات المتحدة في نيروبي ودار السلام، "عالمية" لفظاً ودعوى وحسب. فالعالم، والعالمية اشتقاقاً، هو بحر السمك السلفي الجهادي، وليس تتمة نافلة أو زائدة. والتقلب، فكراً وجسداً وسفراً وتنظيماً وتهريباً وسلاحاً الخ، بين أظهر العالم، والسعي في مناكبه وسبله وشعابه، صار بعضاً من مزاج السلفي الجهادي وجبلَّته وسكنه. والابحار على متون مراكبه وأمواجه لم يبقَ كناية الكترونية أو رقمية إعلامية وتواصلية فتعداها الى السَّرح (ومنها المسرح أو المرسح) و"الرعي" على المنحدرات والسفوح والقمم.
 وتنفخ العالمية المسرحية حماسة واعتداداً ملحميين في نفوس المقاتلين والمنخرطين في صفوف المنظمات الجهادية و"دولها" أو إماراتها. ولا ريب في انها من دواعي الانخراط القوية في جبهات الحرب والموت والاقتتال حال تفتح أكمامها، وظهور ميادينها. فإذا امتزجت العالمية المسرحية هذه بإرادوية الدعوة والاستجابة أو التلبية، نَصَّب المزيجُ (أو المزاج) المتطوعَ المستجيب مقاتلاً فذاً وفرداً، وخصه بـ"قدر" بطولي ساواه بأقدار الفاتحين الاوائل والمتأخرين، وأبلغه من غير عسر المكانة التي سعت الاحزاب الوطنية والقومية العروبية واليسارية والاقليمية والاسلامية السياسية، الدعوية و"البورجوازية الصغيرة"، في بلوغها وإبلاغها محازبيها ومناضليها، وخاب سعيها خيبة مريرة. ووافقت العالمية، على صورتها القتالية والتنظيمية، أهواء المقاتلين الشبان والناشئين في رعاية "آباء" أسطوريين قتل معظمهم أو استشهد وسلاحه بيده، على نحو ما وافقت سيولة العولمة، وانخراط مرافقها المالية والتجارية والصناعية والمهنية في شبكات متصلة ومتقاطعة ترد أواخرها على أوائلها من غير انقطاع ولا غربة.
العالمية والذاتية
 فالسلفي الجهادي، على مذهب الحكايمة/أبوبكر ناجي، بطل عالمي ومعاصر، ومرابط في الثغور الامامية والخلفية من ديار الاسلام العريضة، ومتسلل "فدائي" ومهاجر الى دار الحرب المعقده، ورائح وغادٍ بين الدارين، ومنتصب لصنع التاريخ في مواضع الصنع المناسبة، وجامع لعلل الاجتماع على وجهيها النقلي والعقلي. وتخالف هذه الحداثة، المدركة والمتعمدة، الصورة البائدة التي يتصور فيها السلفي الجهادي. وعلى نحو ما تعمد البلاشفة الروس، وهم نشأوا وشبوا في كنف دولة ومجتمع "آسيويين" على قول لينين في الدولة والمجتمع الروسيين، مقارعة الجهاز الأمني والبوليس المركزي، القيصري، بجهاز تنظيمي سياسي ونضالي يكافئه، يبادر السلفيون الجهاديون والاسلاميون اليوم الى مقارعة الجهاز العسكري والامني الاميركي العالمي بنظيره، أو بما يحسبونه نظيراً.
 وينبغي ألا تحجب اللغة "الاسلامية"، ومصطلحها العقدي والتاريخي، القرابة العميقة بين الحركتين، ولا الفرق بينهما. فتسويغ نشوء الحركة السلفية المقاتلة بإخفاق حركات مقاومة النظام العالمي الاخرى، والتنديد الجهادي بمماشاة حركات المعارضة الوطنية والسياسية النظام القطبي وتنصلها من الخلافة ومن الشرع وتسليمها "للهالة الاعلامية"، يقودان السلفية الجهادية الى انتهاج سياسة "نكاية" و"نزع مهابة" خالصة أو إرهابية. فعلى شاكلة أهل الحركات الذين يرون أنفسهم مخيرين بين التسليم لمنطق القوي المتغلب والانخراط فيه، وبين الاستقالة من المنازعة والقعود، يخرج السلفيون الجهاديون من التخيير الضيق وقيده من "فوق". أي من طريق نهج انقلابي يقدم تحطيمَ العدو، ودولته ومجتمعه، وتمهيد الارض التي أرسى فيها أركان بنائه، على استطلاع مسالك داخلية تؤدي الى "إصلاحه" أو الى إرساء ميزان قوى يتيح للضعيف المفاوضة على توزيع أدوار ومكانات جديد ومختلف.
 وسياسة النكاية، وهي باب على إدارة التوحش التي تفضي "إذا نجحت" الى مرحلة التمكين والخلافة أو الدولة، تقوم على ذاتية خالصة، أو إرادوية متعسفة تتقنع بموضوعية "كونية" أو سننية" طبيعية مصطنعة ومقحمة. ولعلها من ثمرات حداثة بل حداثوية منقطعة من عواملها البطيئة والمتماسكة. وهي، من غير شك، وليدة استعجال عملي وآني تدعو اليه الرغبات المحمومة التي تعمي عن احتساب "السنن" و"دارها"، على قول الرجل البليغ. فالكاتب المنظِّر، حين يتطرق الى الفرق بين القوة العسكرية "القطبية"، السوفياتية في هذا السياق، وبين قوة "الجهاديين" والمقاتلين الاسلاميين، يحسم المسألة أو المشكلة من طريق مختصر ويسير. فيضع "إحياء العقيدة والجهاد في قلوب الشعوب المسلمة" في كفة نظير كفة "أقوى ترسانة حربية وأشرس جيش". وهو يعزو "استخدام المعدات"، أو التقنيات الصناعية وإعمالها في الصناعات العسكرية، الى "ضعف بنية (العدو) البشرية القتالية" (ص76).
 وهو يساوي التجهيز التقني العسكري بـ"الهالة الاعلامية الكاذبة"، وتعويضها الضعف البشري القتالي المزعوم. وكان الشيوعيون الصينيون، في قيادة ماوتسي تونغ، خلصوا من ضعف الحركة السياسية المعارضة، الاجتماعية والوطنية، التي يطمعون في قيادتها، في الميزان الأمني والعسكري، الى إرساء "الحرب الشعبية الطويلة الامد" على أولوية الدفاع على الهجوم، وتجنب الاشتباك والانسحاب الى داخل بعيد من المتناول. وأرسوا حربهم على زمن سياسي مديد. فلما أرادوا، في وقت ثان، استئناف مثالهم على صعيد دولي ("حصار الارياف المدن") قامت التقنية الصناعية والذرية جداراً بينهم وبين استئنافهم. وقسرتهم "السنن" على خوض غمار التقنية، واحتسابها في سياساتهم.
 وحين يتناول الكاتب الاختبار الافغاني، وهو محك نظريته او يحسبه محكها ومصدِّقها المتين والوثيق، يقارن بين أيام كان المهندس حبيب الرحمن "الشهيد"، أمين عام الحركة الاسلامية التي أعلنت الحرب على داود، الرئيس الافغاني "السوفياتي"، يضطر فيها الى رسم الكلاشنكوف على الورق "في أعماق الغرف الظلماء" بهذه الأيام "التي يلعب فيها الاطفال بالقاذف الصاروخي [آر.بي.جي] الذي يحطم الدبابة" (ص118). ويزن المعجزة في ميزان الانقلاب من يوم لم يبق فيه غير 30 مجاهداً، دلالة على قلة الجهاديين وعزلتهم، الى يوم بلغ فيه عدد من قتلوا "مليون ونصف شهيد". وهو يحسب أن لعب الاطفال بالقاذف الصاروخي، وسقوط (أو "ارتقاء" في لغة الحروب السورية) 1.5 مليون قتيل من "الأعاجيب" الناجمة عن هبوب "رياح الإيمان". فلا يبالي بأي أرض، أو مجتمع أو جماعات هبت رياح الايمان هذه. وكأن هبوبها بأرض قبائل الباشتون، وهم القوم الذي تولى السلطة في أفغانستان داخل حدود رسمها اللورد كيرزون منذ أواخر القرن التاسع عشر، قبل انتقالها الى ارض الطاجيك والاوزبك والهزارة شرقاً وشمالاً وغرباً، عَرَض سطحي. فالسنن الوطنية أو القومية دعوى "نصرانية" أو "علمانية" (ص86) على زعمه.
 وهاتان دعويان، تقنية عسكرية وأهلية قومية، يرى الحكايمة /أبوبكر ناجي أنهما تخرجان اصحابهما من الاسلام الى الكفر. فهما تلجمان، إذا اعتبر العاقل بهما، عنفاً وانقساماً محمومين يراهما داعية إدارة التوحش من شرائط النصر المؤزر.