الجمعة، 26 ديسمبر 2008

رمي منتظر الزيدي الرئيس الأميركي بنعليه يتقلب بين أمواج المجازات والتظاهرات والاحتفالات قبل الانطفاء ... مشهد الرجم التلفزيوني والكوني حفل تتويج معكوس

الحياة - 24/12/08
بين رمي صحافي محطة «البغدادية» العراقية منتظر الزيدي الرئيس الأميركي بحذاءيه، على مرأى من جمهور العالم المتلفز والواحد، وبين الإعلام المرئي والصوري في صيغته المشهدية و «الحية»، علاقة جوهرية وحميمة، فالإعلام المرئي الفوتوغرافي التلفزيوني يصوّب آلات تصويره وعدساته صوب موضوعه أو غرضه الذي «ينقله»، على ما يقال تيمناً بحياده وموضوعيته ومديحاً لهما. وهذا ما يصنعه حقاً. ولكن عينه اليقظة على الدوام، وتغلغله في ثنايا الأحوال والمواقع والأوقات، وصلته المباشرة وهو بأقاصي الأرض بمركز عالمي يقوم في وسط شبكة أخطبوطية، هذه كلها تنصّبه شاهداً «حقيقياً» على الواقعة «الحقيقية»، الظاهرة والعارية. وحمل هذا صناعة الإعلام المرئي، وهو مرئي على شاشات التلفزيون (على أنواعه) وشاشات الإنترنت وشاشات أجهزة الهاتف المحمول جميعاً، حملها على انتخاب الحادثة الحارة والحية. وحمل هذا، من وجه آخر، الحوادث والوقائع نفسها، أي صانعي الحوادث وفاعليها، على انتخاب الصورة التلفزيونية مناسبة ومعرضاً. فيتعمد صانعو الحوادث، ومعدوها ومبيتوها، انتهاز الفرص المتلفزة، وسوقها العامرة والقائمة، فيرمون في السوق بضاعتهم وسلعتهم. وهم يرجون تهافت الزبائن والمشترين والمقاولين على «شراء» الصورة «التاريخية»، على ما وصف عدد لا يحصى من المراقبين والمناضلين والصحافيين («المرئيين» أولاً) صور الحادثة البغدادية.
السلعةفالصور هذه تحقق مثال صناعة الإعلام المرئي التلفزيوني (والكابلي والانترنتي). وسلعته المفضلة هي «الإعلام في وقت حقيقي»، على قول أرباب الصناعة هذه وصياديها ومقاتليها. و «الإعلام في الوقت الحقيقي» يتخطى الإعلام على معناه الواقعي القديم، أو النقلي، الى صناعة الحادثة نفسها. فما أن تأنس الصناعة هذه الى رواج الصورة المحتمل، وتعاظم وقعها، حتى تجدد بثها ما لا يحصى من المرات. فبث موقع غوغل رمي الحذاءين (من طريق «يوتيوب») في أكثر من 70 شريطاً، زارها في أثناء 24 ساعة 600 ألف زائر. وبث موقع فرنسي لتبادل الصور 50 شريطاً لجزء الواقعة (والواقعة، على ما نسي، هي مؤتمر نوري المالكي وجورج بوش الصحافي)، شاهده 200 ألف زائر. فاستوى رمي الحذاءين الحادثة «التاريخية»، على معنى الذائعة والمشهورة، التي استواها، أو «لقطة العصر»، على قول أحد قاطني حي الكرادة بوسط بغداد، أبو حسين (84 سنة). وعلى هذا، فالتاريخي هو «اللقطة» أو الصورة المدوية، على ما لم تفت المعادلة الشيخ البغدادي المسن، على رغم سنّه. فهو «ابن التلفزيون»، على ما يصف الرئيس الفرنسي «الشاب»، ساركوزي، نفسه مفاخراً. وتحكي العبارة، «ابن تلفزيون»، عبارة سبقتها هي «ابن دعاية»، على ما وصف مصمم حملة الرئيس الفرنسي الأسبق الرئاسية نفسه عشرين عاماً قبل ساركوزي. والحق أن جيش الصحافيين العرب، والمسلمين، الذين تباروا في تناول الواقعة - الصورة، وبهرتهم «حقيقتها»، إيجاباً وسلباً، امتلاء وفراغاً، إنما حداهم على التهافت عليها «إعلاميتها» أو «صحافيتها». فالصحافيون، وكثر غيرهم من الشهود، يتهافتون على سلعة هي بنت حرفتهم وصناعتهم. وهذه السلعة، الصورة، صورة عظيمة أو مكبرة عن مثال المهنة والصناعة، وعن الحال التي انتهت إليها عن يد «الجسم» الإعلامي.فهم يرون أنفسهم في مرآة الصحافي العراقي وصوره «لحظة» رميه حذاءيه. وهم ليسوا زملاء الرجل وحسب. وهو لم يرم، حين رمى وعلق على رميته، زميلاً، أي على صفته صحافياً. فبادرته «تختصر»، على ما يحسب الإعلاميون المرئيون وغير المرئيين القول، في حركة وشتيمة وعبارة، أوضاعاً وأحوالاً معقدة ومتشابكة. فجاءت الرمية، في المحفل الذي جاءت فيه، على مثال العمل الصحافي «الأعلى»، أي اختصار الأوضاع والأحوال والآراء، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، وإيجازها في «لقطة» أو لحظة فاقعة، جامعة مانعة (إيجاباً أو سلباً، على ما تقدم)، و «عالمية»، على قول أحدهم. فإعلاميو الصحافة المكتوبة، شأن المصورين وراء العدسات ومُعْمِلي محركات البحث وباثي الصور الرقمية ومتلقيها، يطاردون بدورهم البادرة أو الحادثة التي يعود إليهم الإشارة الى «تكثيفها» المفحم والساطع بالعوامل الكثيرة والمتشابكة، والعصية على الفهم. وهم يعتقدون، شأن صناعيي الدعاية والتحريض السياسي والديني، حقيقة التكثيف «الرمزي» هذا، ويؤمنون بأداء الواقعة الرمزية، وصورتها المتلفزة والرقمية والورقية، (عن) الوقائع الكثيرة والمتشابكة، وعبارتها (أو تعبيرها) عن الوقائع.ومثال «العمل» الصحافي، مراسلة أو ملاحظة وتعليقاً وتحليلاً، هو الركض شطر الحادثة المكثفة والرمزية، وإثباتها، والتزاحم على استنطاقها المعاني الغزيرة التي لا يشكون في انطوائها عليها واستبطانها. وعلى الكتابة الصحافية، على رغم الوقت الذي يفترض أن تتمتع به، والمسافة أو البعد الذي يمكّنها من بعض الإحاطة بالحادثة والحوادث التي تحفّها، وتضعها موضعها من جملة الحوادث، تسعى الكتابة هذه في محاكاة صناعة الإعلام المرئي، وتتبنى فهمها للحوادث السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والشخصية، ولمعاني الحوادث هذه ومضامينها.والخبر، أي الجزء الذي اشتهر منه، ذاع على وقتين أو مرحلتين. وغلب، في المرحلة الأولى، تعليق الصحافي العراقي اللفظي أو الكلامي، أو ربما تساوى، تقريباً، رمي الحذاء بنعت الرئيس الأميركي بـ «الكلب»، وبتحميله المسؤولية عن ضحايا الحرب العراقية، أي الغزو والرد عليه والتذرع به إرهاباً واقتتالاً ومقاومة (وهذه حصتها حصة القريب الفقير واليتيم). ولم تنقض 24 ساعة، أو بعض اليوم، على الحادثة وصورها، وفي الأثناء تلقفتها صناعة السلع الإعلامية، حتى اختصرت الصورة وحدها الواقعة. ونُسيت الشتيمة المدوية، وصيغة الإدانة. وسقط، في اليوم التالي، شطر من تعليل الأهل، الأشقاء الثلاثة والشقيقة، حركة شقيقهم، ودعوتهم الى النظر في مساواة شقيقهم «الاحتلال العسكري الأميركي» بـ «الاحتلال المعنوي الإيراني». وطوي التنويه بيساريته وشيوعيته الغيفارية، أي المجددة المحدثة والسينمائية النجمية. وبقي من هذا مقارعة داود بزوجي الحذاء الجبار غوليات (أو جوليات)، وكناية داود، المنتظر، عن الاقدام المؤيد بالحظ والرضا، وكناية بوش عن السطوة والسلطان الضعيفين الدنيئين والزائلين بإذنه تعالى.وغداة ذيوع الصورة، على حالها هذه من العراء السلعي والمعنوي معاً، تنافس المعلقون على أصنافهم، على أداء معناها، ومكافأة المعنى إيجازاً وجمعاً ومنعاً وإفحاماً ورمزاً أو ترميزاً. فذهب صحافيون كتاب الى نعت الحذاء بالمعادن الثمينة، وهي معقل قديم من معاقل الرمز الخالص. فنعتوه بـ «الماسي» و «الذهبي». وفي حسبانهم أن الكائنات مرتبة على مراتب، وعلى معادن وجواهر (خسيسة ونفيسة) وأحساب، يتربع الماس والذهب في أعلاها وأشرف مراتبها. وذهب آخرون الى حمله على مراتب القوة العسكرية والمسلحة. فهو «حذاء دمار شامل»، على شاكلة السلاح الذي يسعى الحكم الإيراني الخميني في امتلاكه بوجه الولايات المتحدة والعراق وبلدان الخليج والشرق الأوسط، وسعى صدام حسين من قبل في امتلاكه بوجه إيران البهلوية وأميركا («حليفه») وبلدان المشرق، خليجاً و «هلالاً»، المتحفظة من «مهابته» و «نشامته». وهو، الحذاء، «مذنب كوني» يسبح في الفضاء، ويسبق أسلحة الدمار الشامل الى الفضاء الخارجي، ويؤذن بعسكرته، ويتوج الهذيان النووي «الإيراني» بهذيان كوني: فالحق في تخصيب الأورانيوم، وفي النهضة العلمية، ينبغي ألا ينفك من الحقوق المتممة مثل الحق في إنشاء مركبات فضائية تخزن فيها صواريخ نووية الرؤوس وتعبر الكواكب.
الحضرةوليس هذا تفكيراً سحرياً كله. فأصحاب هذا الرأي أو هذه العقيدة، لا يفترضون فاعل التحويل وصانعه روحاً أو جناً أو حِنّاً. ولا يخلون فجوة أو فراغاً في سلسلة الأسباب، وإن لم تكن هذه كلها مادية أو طبيعية، ولا بين العلة والمعلول. فقال إمام صلاة ومسجد أبو حنيفة النعمان، وهو مسجد أهل السنّة الأعظم في الأعظمية، في خطبة الجمعة، وأقسم: «والله ما رماه»، يريد أن منتظر الزيدي لم يرم الحذاء الذي قال فيه محامي الصحافي مقالته، «ولكن الله رمى». فلا يتهيب الشيخ عثمان رحيم محمد، وهذا اسم الإمام، التضمين بالآية 17 من سورة الأنفال، وربما بالآية الرابعة من سورة الفيل, وبآيات أخر من سور الأنفال والأعراف ويونس والنمل وآل عمران. ويشفع للشيخ العراقي البغدادي ربما تأويله الرمية «موقفاً بطولياً أمام الباطل». وهذا تأويل زمني دنيوي وقومي. وهو يحمل البطولة على القدوة العملية والأخلاقية. فيقول: «كان حرياً بنا نحن، ومنذ الأمس، أن نقف ذلك الموقف». ولكن الزمنية الدنيوية حين تُشبك بالبطولة، وبوجدان الأمة أو الشعب الجمعي، تجر مادحيها، ودعاة الاقتداء بها، الى معين البطولة المفترض، ونسب الأبطال الأول، على ما يرويه الإغريق والرومان، وترويه ملاحمهم. فالبطولة ليست شأن الأبطال وحدهم، ولا من صنع أيديهم وإرادتهم، وإنما هي من العلامات على «إرادة» تتخطى البطل، وتتعالى عنه. والبطل هو «من يستسلم الى قدره»، ويقبل عليه لأنه يحدس فيه قصداً عظيماً، ويقول لقدره المتصور في صورة السيوف: «خذيني».ولم تمتنع الرمية، ولا امتنع صاحبها، كاره «الاحتلال المعنوي الإيراني» كرهه «الاحتلال المادي الأميركي»، من التأويل الإيراني العاشورائي. فاقترح آية الله أحمد جنتي أحد خطباء الجمعة بطهران وأحد أعيان النظام الخميني، اقترح، على ما تقول وكالات الأخبار جادة، «جمع أجزاء حذاء (منتظر الزيدي)، ووضعه في المتحف العراقي، وانطلاق العراقيين والإيرانيين في انتفاضة أحذية على الولايات المتحدة». وفي الأثناء، كان الحذاءان (التركيان) مزقهما رجال أمن عراقيون وأميركيون شر تمزيق، خشية حشوهما بالمتفجرات على شاكلة رجل «القاعدة» وراكب طائرة على خط نيويورك - لندن في 2002، على ما زعم بعض الناطقين الرسميين العراقيين. فجمع أجزاء الحذاء قريب من النفخ في رميم العظام وبعثها. والوضع في المتحف تأبيد وتخليد على قدر المستطاع التاريخي. وما كان مجازاً بدوياً وأردنياً، «الوشم على خد الزمن»، تترجمه «الآية» الإيرانية تحفة في مبنى رسمي. ويقدر خطيب الجمعة الطهراني أن مبناه وجامع تحفه «باق الى ألف عام»، على شاكلة الرايخ الثالث الهتلري أو رجاء عبدالله بن علي (العباسي) السفاح في خطبة الولاية. و «انتفاضة الأحذية»، على لسان الركن الخميني، موكب من المواكب التي أولاها المرشد الأول هز أركان السلطان، و «قبر» الخانات والخاقانات والسلاطين. فهي المثال الصوري والإجرائي الذي تقع عليه الثورات «الإسلامية» وقوع العاشق على شكله أو نصفه المتمم، على زعم عرفاني أصيل.وعلى هذا ليس منتظر الزيدي، ولا الآلة التي رجم بها خاقان البرين والبحرين، وتمثال الجور والباطل والظلم، الشاب البغدادي العراقي والعربي المسلم والغيفاري، الى آخر أبواب تعريفه الظاهر. وبالأحرى هو لم يبق هذا. ولا يستوفي الظاهر تعريفه المشترك، البطولي والجهادي، منذ رميته، وسطوعها على الشاشات وصفحات الصحف والمنابر. فشأن الأبطال والأبدال والأولياء وأهل الكرامات، يتحدر «ذو الحذاء» (أو «ذو الخف») من الأمة ووجدانها وروحها وتاريخها المجيد مباشرة. وهو حلقة في سلسلة «الحجج على الخلق». وخليل الدليمي، رئيس هيئة الدفاع عن صدام حسين والمبادر (خطابة ولفظاً) الى دعوة هيئة من 200 محام، عراقيين وعرباً وأوروبيين وأميركيين، الى الدفاع عن مراسل «البغدادية»، تعرف في صاحب الرمية على «امتداد» «للرئيس العراقي الراحل»، على نحو ما هيئة الدفاع الجديدة هي امتداد لهيئة الدفاع السابقة.وتنافس إسلاميو الإسلام السياسي، الإخواني و «الجهادي»، على الاحتفاء بـ «ذي الخف». فتظاهروا حيث قدروا، بالنجف ومدينة الصدر ببغداد ونعلين وبعلين الفلسطينيتين (في الضفة الغربية) ولاهور وكراتشي وإسلام أباد وبيشاور. وتظاهر أنصار حقوق الصحافة وحرية الرأي والقول بلندن وأونتاريو وعواصم أوروبية وغربية أخرى. ووصفت التظاهرات الأولى صاحب الرمية بـ «المجاهد» و «البطل». واقتصر تضامن الدول التي هلل بعض قادتها وأجنحتها السياسية ونقاباتها المهنية للفعل، على بيانات وتصريحات. فمنحت جمعية «واعتصموا» الليبية، وترئسها بنت معمر القذافي (وشقيقة هنيبعل ضارب الخادمة)، صاحبنا جائزة «الشجاعة». وندد 70 نائباً مصرياً، هم معظم الـ77 نائباً اخوانياً، بـ «تعذيب» الزيدي المفترض، ودعوا منظمات حقوق الإنسان الإقليمية والدولية، تلك التي تولت التمهيد بدوربان (الجنوب أفريقية) في أيلول (سبتمبر) 2001 الى غزوتي نيويورك وواشنطن المظفرتين، الى التضامن والحماية. وأفتى التجمع الإعلامي الفلسطيني بغزة في «خطوة الزيدي» بأنها «تعبير عن روح الأمة الرافضة للهيمنة الأميركية»، على شاكلة اعتقالات غزة واغتيالاتها ومقاومتها. وصفقت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، رائدة خطف الطائرات المدنية الى «هانوي» الأردنية، لـ «مدى رفض الشعب العراقي للاحتلال الأميركي الغاشم». وأنكرت نقابة الصحافيين التونسيين «تعنيف الزميل أمام وسائل الإعلام وعلى مرأى من الرئيس بوش»، وهي ربما تؤثر التعنيف وراء وسائل الإعلام، وفي الخفاء عن الرئيس، أياً كان هذا. ومدح هوغو تشافيز «الرجل الشجاع»، بينما كان يوقّع شيكاً الى قادة مهربي «فارك» الكولومبية وخاطفيها، ويسدد ثمن خدمات «فيلق القدس» الحرسي الإيراني الاستخباراتية. وموكب الأقنعة الحذر يطول.وحذر القادة وأولادهم، والصحافيين واتحاداتهم، والجبهات وبياناتها، والنواب وبرقياتهم، مفهوم ومعذور. فرمية المراسل العراقي تشترك في معنيين أو طبيعتين مختلفتين ومتقابلتين. فهي رمية الضعيف ورجمه وكلمة حقه، من وجه، وهي انتهاك «حضرة» السلطان والخاقانية والشاهنشاهية «العظمى»، من وجه آخر. وعلى هذا، فالانتهاك إنما عظمته وبطولته وقدسه على قدر عظمة «الحضرة» المفترضة. والإقرار بعظمة السلطان الجائر والظالم، ولو في معرض الحط منه، وإنزاله من مرتبته العلوية الى حضيض النعل، وهو قرين الأرض والوحل والتراب والغبار، هذا الإقرار يحرج المنتهك وأصحابه وأنصاره. فينصبون بإزاء السلطان «العظيم» ضداً أو نقيضاً يصدر عنه المنتهك، ويتكلم باسمه، ويقاتل بسيفه (وصورته)، هو الأمة أو الشعب أو الضحايا. ويروي أهل المراسل التلفزيوني أنه كان يحمّل جورج بوش المسؤولية عن «خمسة ملايين قتيل عراقي». وهو رمى الرئيس الأميركي، ونعته بالكلب، بالوكالة أو النيابة عن أمة القتلى والضحايا وشعبهم. ومن انتصروا لصحافي الكرادة البغدادية الشاب، وهللوا وصفقوا، يحسبون أنهم ينتصرون لهذه الأمة، ويصدرون عنها، وعن «حضرتها» الغائبة، على قول محمود درويش المفترض شعرياً وحقيقياً نافذاً.فالمشهد المتلفز حفل تتويج مقلوب رأساً على عقب: لباس القدمين محل تاج الرأس، والتلقيب بالحيوان النجس محل المخاطبة بالتنزيه عن الدناءة، وتحميل ثقل الموتى الضعفاء عوض الاستبشار بالنسل والحرث، واللعان على خلاف قوس النصر. ولم يخفَ هذا المتحفظين من طريق البيانات والاتحادات. فهم يشتركون مع «لويس السادس عشر» الأميركي والمعاصر في السلطان و «عظمته» و «حضرته». واتخاذهم «أمة الشهداء» سنداً لا يعصمهم من السلطان الذي يحبونه «عظيماً» ولا قيد عليه. وتظاهر من تظاهر انتصاراً لحرمة حسن نصرالله، وإنكاراً للإساءة التلفزيونية إليه، هو من هذا قبيل. وإهدار روح الله خميني دم سلمان رشدي، في 1989، لم يقتصر على التذرع بمهند، الشخصية الروائية، وكان ثأراً من تصوير خميني نفسه في الرواية. وعلى الضد من هذا، لم يفهم الرئيس الأميركي سر الهوى بالحذاء. فقال: «إنه مجرد حذاء». فهو، والغرب معه، طوى قبل قرنين، ومع مقتل لويس السادس عشر كلاماً وورقاً، على قول جاك رانسيير الفرنسي، «قدس» الجسد الخاقاني، وجعل محالاً التمثيل على الأمة، الناخبة والمنحلة أفراداً وصاحبة «الحقوق»، بجسد جامع وصوفي موصول بالغائب، يبجل ويهان معاً، ويمثل على الأمة سلباً أو إيجاباً.

الاثنين، 22 ديسمبر 2008

هندية "العجايبية" وآلة التوحيد والدمج تكشّف إلهامها وفرادتها عن آلة تفريق ودمار مكبوتة لا تزال فاعلة

المستقبل،21/12/2008
استخفت الحماسة مراتب الكنيسة المارونية كلها ("نوافذ"، 14/12/2008). وفي ضوء فحص ميخائيل فاضل كتب البطريرك إلى روما
يطلب تثبيت الرهبنة الجديدة وإقرارها على قانونها ورئيستها. وتناقل الجمهور مقتطفات من فحص فاضل وكتاب البطريرك، وقرئت المقتطفات هذه في الكنائس، ومنها كنيسة حلب. ودعا البطريرك المؤمنين من رعيتها الى الإسهام في تمويل الرهبنة والدير لقاء غفارين كاملة. فشاعت كما لم تشع من قبل أخبار "قداسة" الأم هندية. وتناقل العامة من طائفتها وملتها، ومن غير طائفتها وملتها، الكرامات ("الأعاجيب") التي خصت بها. فبـ"بـركتها" ولدت العاقر ولداً بعد عقد من العقم، وشفي مرضى، ومشى مقعدون، وأبصر كليلو بصر أو عميان، وانطبعت جراحات المسيح على مؤمنين "غشم" (أي بسطاء أو سذج)، وتدفقت عيون ماء في أراض يابسة...
فخشي كهنة من غير كنيسة، بعضهم موارنة، أثر اعتقاد ولاية هندية في تدين العامة، ولم يأمنوا أيلولته ربما الى التشكك في المراتب والهيئات المستقرة، وانحرافه عن الإرشاد الكهنوتي اليومي والعادي. فما كان من أحد خوارنة حلب الموارنة، الخوري نعمة الله شراباتي، إلا ان كتب الى روما محذراً من إسباغ البراءة الرسولية على رهبنة قلب يسوع. ونبه الى ان البراءة هذه تعني إقراراً فعلياً بـ "أعاجيب" الراهبة، وتطويباً لها وهي على قيد الحياة، على خلاف مذهب الكنيسة المقرر والمتشدد في الأمر. وعمد الخوري الحلبي الى سرد سيرة هندية، ولا سيما طفولتها، على خلاف السيرة الشائعة: فروى انها كانت على خصام مع أخواتها، ومالت الى زينة البنات وبهرجتهن، وخالطت احتفالات "ماجنة" في البساتين. وإلى هذا كله وُزعت على المؤمنين تمائم تحوي خرقاً، تعود الى هندية، وشَعراً ودماً. ودعي المؤمنون، بحسب الخوري نفسه، الى زيارة دير هندية جماعا ت وحفاة، وركعوا عند قدميها، ولثموا يديها وأطراف ثوبها. وسماها أنصارها "مجد لبنان"، تيمناً بـ "نشيد الأناشيد".
وأقنع اليسوعيون رهبان دير بكركي الأوائل بشكوى هندية وسلكها، والادعاء عليها باغتصاب الدير وأخذه لقاء تعويض بخس. فرد حبر روما على تقاطر الشكاوى هذه وتواطئها بإدانة هندية ورهبنتها، في الشهر الأول من 1752، بعد نحو سنتين على رسامة الأم الرئيسة، وحكم بإلغاء الرهبنة، وبعودة أصحاب دير بكركي إليه، وإتلاف كل ما كتب وطبع في المسألة منذ ابتدائها. وأدى حكم البابا بنوا الرابع عشر الى قيام معظم الموارنة على السلطة البابوية والكنيسة "الغربية"، وإلى تعصب الجماعة المارونية، عامة وأعيان وكنيسة، عصبية واحدة واجتماعها على الانتصار لـ "قدسيتها".
فالإدانة البابوية نسبت كرامات الراهبة الى شيء أشبه بالسحر. واشتم بعض الرعية منها تلويحاً بمحكمة تفتيش. فثارت ثائرة أهل الجبل لكرامة طائفتهم، المتهمة في إيمانها وصدقه واستقامته. ورموا جمعية اليسوعيين بإذكاء التهمة والنعرة. وانضم بطريرك الأرمن الكاثوليك، يعقوب بطرس، وكان كرسيه بكسروان، الى الموارنة، وندد، بدوره، بالحكم البابوي. فجمع نازع وطني، يسميه الأوروبيون "غاليكانياً"، يناهض النازع المركزي المتشدد ("الأولترامونتيني")، جمع بين كنائس محلية متحدة بالكنيسة الكاثوليكية، وقابلة أحكامها التنظيمية والاعتقادية. ولكن تقاليد هذه الكنائس القديمة والعريقة تمنعها من الميل ميلاً غير متحفظ مع التدبير الجامع والمسكوني إذا ترتب عليه التنكر لهذه التقاليد أو لبعضها.
وأسفر مجمع ضيق عقد في خريف 1752 بروما للنظر في قضية هندية، والرد على الرسائل والكتب الكثيرة التي رفعت الى الكرسي الرسولي جواباً عن حكمه، عن إيفاد موفد من الأخوة الأصغرين بالقدس هو الأخ ديزيديريو دي كازاباسكيانا، ملم بأحوال الكنائس الشرقية وعليم بالبلاد وأهلها. فهو سبق له ان حمل "الباليوم"، أو التثبيت الى البطريرك عواد، وقضى في الخلاف بين البطريرك وبين بعض أساقفته، وترأس الأخوية التي ينتسب إليها طوال خمسة أعوام.
فألفى الأخ "الأمَّ" موضوع تقرب ورجاء وشفاعة منتشرة في كسروان وفي جنوبه المتني والشوفي. ولاحظ المبعوث البابوي ان النساء المارونيات والدرزيات (من أسر أمراء آل شهاب)، ينتظرن الكرامات عن يد العابدة وحبيسة دير بكركي، ومن طريق دمها. فالدم الذي دأبت رفيقتا هندية المقربتان والأثيرتان، كاترينا وماريا ("الرومية" أي الملكية)، على جمعه ايام الجمعة، وهو يوم الجلجلة، تحول الى مادة كرامات الأم، وإلى رابطتها بالمرضى من قاصديها والمتبركين بها. ونعى عليها خصومها، وهم لا يقلون عصبية عن أنصارها ومريديها، وضعها دمها على المذبح وعرضه للعبادة، ومبالغتها في طلب دور الهدى والأضاحي. وكان دم المرأة في الذخائر يشفي العيون، على قول مريديها، على نحو ما يشفيها لمس الراهبة بأصابعها. وبدا ان أنوثة المرأة هندية، وتوجه عبادتها وعمادة سلكها الى القلب الأقدس وعليه، يستجيبان نازعاً محلياً عميقاً الى تأنيث التدين وطبعه بطابع الرحمة والمودة والإلفة. فالنساء هن مصدر الحاجّات. وحاجاتهن نسائية: الحليب للأثداء الجافة، وألوان الصحة والحياة لوجنات الأولاد القاتمة "كالباذنجان"، واشتهاء الأكل لأطفال مصابين بالأُباء. وكانت قاصدات هندية يضطرهن السفر الى قضاء الليل في الدير. فعمدت رئيسة الدير الى سد حاجاتهن من طريق مباركة "زوادتهن" وتكثيرها.
وفي ختام مهمته، في ايلول (سبتمبر) 1753، أعلن القاصد الأخ ديزيديريو جواز تقديم النذور الى دير بكركي والتصدق بواسطته. وأعقبت تبرئةُ الدير، ورئيسته وراهباته، من تهمة السحر حكماً بابوياً قضى بإخراج الرئيسة وسلكها من دير بكركي. ولكن إجماع البطريرك والشيخين الخازنين والأمير الشهابي على خلاف الحكم البابوي اقر الأم على ديرها، بعد أن برأ القاصد ساحتها من الدعاوى الدينية الخطيرة. فاستوت هندية، وديرها وكراماتها وولايتها، عَلَماً على طائفتها وعلى مكانة هذه الطائفة ونفوذها الروحي. وانتصرت الطائفة، عامة وكنيسة، على الهيئة الكنسية الرومانية، وحملتها على الإقرار بولاية هندية، وبصحة اعتقاد العامة والمراتب الكنسية المارونية المحلية هذه الولاية والكرامات المترتبة عليها. ورضخت الكنيسة الكاثوليكية، الجامعة والمسكونية (أي المتعالية عن المعتقدات والشعائر البلدية و "القومية" الموروثة عن ماض منفصل)، لاعتقاد ماروني لَحَمَ العامة بالكنيسة، وأجمع الموارنة، أو كادوا يجمعون على تعرّف هندية، ورهبنتها وعبادتها وكراماتها، آية على اصطفاء علوي إلهي خصوا بها.

قوة القلب والتلبيس
والحق ان هذا التخصيص، أي اعتقاده، كان سبيل الموارنة وطريقهم الى الدخول في الكنيسة الجامعة والاندماج فيها. فمن وجه أول، أقرت الكنيسة الرومانية عمادة القلب الأقدس، ولم تقطع في قانون الرهبنة على النحو الذي صاغته عليه هندية ("كانت روما... تمنح الغفارين والبركات لدير بكركي ولرهبنته التي تعتبرها مؤسسة تأسيساً قانونياً"، في السنوات 1753 – 1768، على قول ميشال حايك). ومن وجه ثان سعت الكنيسة المارونية في إدخال هندية ورهبنتها ورؤاها وكراماتها، تحت القانون الكنسي العام، الرسالي والروماني، وفي تصحيح اعتقاد الموارنة ولاية رئيسة دير بكركي بحسب معايير الكنيسة "الإصلاحية". فرسم البطريرك يوسف اسطفان، في حزيران (يونيو) 1768، يوماً يُعيّد فيه قلب يسوع (يوم الجمعة الثانية بعد عيد الجسد)، ويعمل فيه من باب الوصية، ويلزم بالصوم في الأيام الأربعة التي تسبقه، ويُسمح فيه بترك الإمساك عن أكل اللحم والبياض... (وأبطلَ مجمع روما، في تموز/ يوليو 1773، العيد، وتابعه مجمع ميفوق، في تموز 1780، على إبطاله).
وما انتهى إليه الأخ المقدسي ديزيديريو، على رغم إقراره المتحفظ "أحوال" هندية، لم يكن إلا مادة أولى تناولتها بالفحص، والنقد هيئة من الكاردينال انطونيو اندريا غاثي والأخ (الاصغرين كذلك) إيزيدور مانشيني، تحت نظر البابا نفسه. وكان البابا تولى، في 1745، الفحص عن قداسة راهبة ألمانية، كريسِّنْس (من) كاوفبيرين، وحكم فيها بالبطلان. فالتقليد الكنسي الكاثوليكي، منذ الربع الأخير من القرن السابع عشر، نحا نحواً عقلانياً، متشدداً، وبدا متحفظاً عن علامات القداسة عموماً. وخص العلامات النسائية بأشد التحفظ. وصدر الاثنان، الكاردينال والأخ، عن التقليد المتشدد هذا، لا سيما ان المتربع في السدة البابوية هو أحد أنصاره والآخذين به عملاً وفعلاً.
فرد الاثنان مزاعم الأم في الرؤى والانخطاف والتجلي. وذهبا الى ان صفة رؤاها و "أحوالها" الجسمانية المفرطة دليل على قوة التخييل والحس، على خلاف المعيار العقلي الذي تزن به الكنيسة صدق الرؤى. وحكما بـ "ولدنة" ما تراه في اثناء انخطافها. وقاسا وجه الأم، في أثناء "أحوالها"، على ما سبق لأحد الكرادلة ان قاله في وجوه المتصوفات وصاحبات الولاية الصادقات. فإذا بوجه الأم المارونية، المائل الى الاحمرار وإلى الجمال في اثناء الانخطاف، يخالف ما أثبته الكاردينال جيوفاني بونا في "قانونه" من صفرة وميل الى القبح. ولم تدعُ لجنة الخبيرين الى إبطال جمعية الأم هندي، بل تركاها معلقة. فمنح الكرسي البابوي الجمعية البركات. ووصف بعض الكرادلة إنشاءها بالقانوني.
وسعى الكرسي الرسولي في "علاج" هندية وما نسبه التحقيق الى "غرورها" و "أوهامها" واعتدادها الشديد بولايتها. فأوحى باستبدال المطران جرمانوس صقر، معلم تعريف هندية وكاتبها ومعتقد ولايتها وناشر كتاباتها ومدبر ديرها، غامزاً من تصديقه وتسليمه، شأنه والحق يقال شأن كل "الرجال" الذين كان لهم مكانة في جوارها. وسمّى الحبر الأعظم الأخ كارلو اينوتشينزو دي كونيو، في أوائل 1755، معلَماً ومرشداً لعله يجعل من الروح ملهماً للأم، ويبدد ما يُلبّسه الشيطان عليها وعلى أخواتها والرعية المارونية.
وقبيل مجيء كارلو اينّوشينزو صاحب تعريف هندية الجديد، في صوم 1755، أرادت هندية امتحان ولايتها، وقطع تشككها هي في هذه الولاية. ومرّ من قبل شاهدٌ على طلب المرأة الخلاص من "المدمرة"، على ما سمتهان وهي الاسم الذي تسمي به ابتلاءها بالإرادة. فترجو "خالقها" ان يعطيها "العطية... بلا قبول اختيار(ها) المعتوق" (و "الاختيار المعتوق" نظير إرادة المريد بإرادة من غير جبر)، وأن تريد هي بإرادة الخالق وليس بإرادة المخلوق، على قول بعض متصوفي الإسلام. فقالت "للذي يخاطبها": "أريد من فضل محبتك المقدسة ان تعطيني هذه العلامات الحسية: تطبع خمس جراحاتك المقدسة بالراهبة التي لم يكن أغشم منها في ديرنا هذا ولم تكن ذي فضيلة ظاهرة ولم تعرف الأمور الروحية لأُصدّق وليركن شكي هذا بما تقوله لي". وتنقل صاحبة الرؤى عن مرشدها قوله وهو يكلمها: "طلبت علامات طبع الجراحات في الأخت ونظرتيها بعينيكي".
وظهرت "العلامات" على الأخت مباركة (بينيديتا)، قبيل قدوم المرشد الجديد. وكانت الأخت مباركة يومها، أثيرة الأم هندية، وتنام في حجرتها. فجاء ظهور الجراحات رداً مسكتاً على تململ أخوات الجمعية، وإنكار بعضهن تعسف الرئيسة ومساعِدتِها، الأخت كاترين. وأطلقت الجراحات يد الأم الرئيسة في جمعيتها، وفي ديرها، وقطعت تشككها في "الذي يظهر لها" وحسمته. وفحص الموفد البابوي، مرشد هندية الجديد، جراحات مباركة، ومعه طبيب، في 28 تموز (يوليو) 1755. وأمرها بفك رباطاتها، فرأى جراحاً "صغيرة" يميل لونها الى الزهري. وأراد تغطيتها بالشمع ليتحقق اصلها ومصدرها، فإذا ذاب الشمع استُدل بذوبانه على أصل طبيعي وإذا لم يذب استدل على أصل "معجز". ولكن الأخت كاترينا، مساعدة الأم الرئيسة، تذرعت بفقدان الشمع من الدير. ونصح المطران جرمانوس صقر المحقق بترك فحصه تداركاً "للشائعات". فامتثل الموفد للنصيحة، ولم يطلب اعتراف الأخت مباركة، صاحبة "العلامات".
وفي أعقاب سبعة عشر عاماً قالت الأخت وردة بدران، إحدى اخوات دير بكركي وراهباته وشقيقة نسيمة بدران التي ماتت قتلاً وعذاباً في أحد أقبية الدير، انها خمّنت في "أعجوبة" الأخت مباركة حيلة وافتعالاً. وروت ان شقيقتها نسيمة رأت مباركة تدوس نوعاً من الشوك المدمي، وأنها هي، وردة، رأت آلة معدنية جارحة تخبئها مباركة تحت ثوبها وتُسيل دمها بها أيام الجُمَع. وسعت هندية في التملص من إرشاد اينوشينزوا وتعريفه (سماعه اعترافها). فزعمت انها لا تفهم عربيته، وأنها تستحي من قول أسرارها وعذاباتها و "تجاربها" على مسمعه، وهو ليس محل ثقتها. ولما اقترح عليها الاعتراف بخطايا حُلّت منها، لعل هذا يسرّي عنها ثقل الاعتراف بما هو أشد وطأة، أجابت أنها لم ترتكب يوماً ما يصح نعته بالخطيئة أو حمله على عصيان المسيح. فنبهها الموفد الرسولي الى "الكبرياء" التي ينم بها زعمها. ولكن "الشخص" مخاطبها في رؤاها، سألها، في معرض الإثبات الغاضب، هل قال "ان يطاعوا الكهنة ضد إرادتـ(ـه) المقدسة ومحبتـ(ـه) الفاعلة". فلما كان الجواب بالنفي، بديهة، لم تطع موفد المجمع المقدس، وحملته على ترك إرشادها وتعريفها يأساً. وحمت هندية عجيمي، من طريق سربلة المرشد الأجنبي، أسرارها الصوفية والدنيوية على حد سواء.
وعلى هذا، بقيت وقائع دير بكركي، وأقبيته وحجراته وسخرستيته ومطبخه وممتلكاته، طي الخفاء إلى حين قدوم مبعوث أو قاصد روماني، من مجمع نشر الإيمان المقدس، في أوائل 1774، هو بييترو دي (أودو أو ده) موريتا. وكان سبقه قاصد آخر، في أواخر 1772 هو فاليريانو دي براتو. وناط الحبر الأعظم الجديد، كليمان اوكليمانتي الرابع عشر (انتخب في منتصف 1769)، بقاصده، الى التحقيق في قضية رهبنة أو جمعية الأم هندية، ناط التحكيمَ في الخلافات الكنسية والمنازعات الأهلية والسياسية المارونية المستفحلة والمتصلة. والبابا الجديد، على خلاف سلفه، كليمان الثالث عشر، جهر تحفظه عن عبادة القلب الأقدس. وتحفظه هذا هو مرآة تحفظ عن تدين "قلبي" وشعبي عامي، يقدم التصديق والانخطاف و "العجائب" على التسليك والتوسك الكنسيين. وخالف الخلف السلف في هذا. فكليمان الثالث عشر كان نصير تدين قلبي وعامي، سعت الكنيسة منذ عقود في ضبطه، رداً على الإصلاح البروتستانتي، من وجه، وتداركاً لذيول استرسال سابق مع منازع "وثنية" تحسب الكنيسة المسكونية والجامعة انها تثوي في التدين الشعبي والقومي المحلي، من وجه آخر.

مَعْقد المنازعات

ولم تنفك قضية هندية ولا تخلصت من المنازعات الكنسية والسلكية والأهلية التي أنشبت في البلاد والأهل. فنزاع الحلبيين، وهم الرهبان (والراهبات) الموارنة القادمون من حلب وجوارها، والبلديين، وهم اللبنانيون من اهل الجبل، بلغ ذروة احتداده، ودخل الفصل الأخير والطويل (1755 – 1768) الذي كان انشقاق الجناحين، واستقلالهما الواحد عن الآخر، ختامه المرير. ويلابس النزاعُ الكنسي والسلكي هذا منازعات الجماعات الأهلية و "الوطنية" (نسبة الى الموطن) والثقافية. فالمنظمات الرهبانية أو الهيئات لا تبرأ من نفوذ الأسر ومصالحها وعصبيتها. وآية ذلك، على سبيل المثال، أن 6 مطارنة من 15 مطراناً في ولايتي البطريرك يوسف اسطفان الطويلة (1766 – 1793) كانوا من بلدة البطريرك، غوسطا. وتتصل الهيئات الكنسية بنفوذ الأسر المحلية من طريق الأديرة، والكراسي (كراسي المطرانيات)، والحظوة عند "الحكام". وكان أهالي حلب، حيث يختلط معتقدو المعتقد الماروني بمعتقدي المعتقد الملكي (الرومي الكاثوليكي)، من مصادر الرهبان، وأعيان الكنيسة ومناصبها، البارزة والقوية.
ولم يحل المعتقد المشترك دون الاستظهار بالأواصر الأهلية العصبية والاستقواء بها في المنافسة على المراتب، والتشيع والتعصب. وسبق مجمع غوسطا (1768)، وهو تولى إعلان انفصال الحلبيين والبلديين الجبليين رهبنتين، احتداد المنازعة بين الموارنة والملكيين. واتصلت المنازعتان الواحدة بالأخرى من طرق شتى. وعشية المجمع هذا، في 1766، رفع يوسف اسطفان الى السدة البطريركية. وعرف عن اسطفان مشايعته هندية (الحلبية)، ونصرته رهبنتها. وهو أنكر، في مجمع بيروت (1762) وفي ولاية سلفه، طوبيا الخازن، سيامة هذا مخايل فاضل مطراناً على بيروت. وميخائيل فاضل أحد اشد المنكرين على هندية "غرورها"، على ما كان يقول فيها خصومها، و "عجايبها" وكراماتها، بعد اعتقاد وتصديق. وما كاد يوسف اسطفان يتسنم الكرسي البطريركي حتى ألحق ديري مار جرجس (بساحل علما، مسقط كاترينا، أقرب الناس الى هندية وذراعها المميتة، على زعم بعض الشهود، وأخوات أخريات من رهبنة القلب الأقدس)، وسيدة البزاز (بحارة صخر)، بدير بكركي، "كرسي" الأم الحلبية ومعقلها – قبل انتقال الكرسي البطريركي إليه، واستقرار به في 1823.
وفي أواخر عُشر 1750، تجددت خلافات الشهابيين المزمنة على الخلافة. فنازع أخوا الأمير ملحم، أحمد ومنصور، ابنه، يوسف. وتلابس المنازعات الأميرية المنازعات العصبية، الجنبلاطية واليزبكية، وهي منها بمنزلة قممها المتقلبة والمترجحة. وفي 1764، حاز يوسف ملحم شهاب ناحيتي جبيل والبترون، وألحقتا بحكمه. فأضعفت إدارة الحاكم الشهابي المباشرة الناحية الكسروانية، والأخرى المحاذية، المقاطعجية "الوطنيين" والمحليين. وبرزت قوة جديدة في الأثناء، هي قوة المدبرين، وهؤلاء هم أهل مشورة الأمراء، ومنظمو "إدارتهم" الأميرية، الزراعية والمالية، وجبايتهم، والساعون في عقلنة هذه. ويسعفهم على هذا إلمام ببعض طرائق "الفرنج" وبلغتهم (أو لغاتهم، أي الفرنسية والإيطالية)، ومخالطة هؤلاء، ومباشرة بعض تجاراتهم. والمدبر القوي، والمسموع الكلمة، في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، هو سعد الخوري الجبيلي. وآلت القنصلية الفرنسية إليه، وهي دامت قرناً تاماً في آل الخازن، "أشراف" كسروان، قبله. فلما انتخب يوسف اسطفان، في الأثناء، بطريركاً، نازعه المطارنة سلطاته وصلاحياته. فرسموا كهنة وخوارنة من غير علمه، وقضوا ببطلان زيجات وانحلالها "إكراماً" لأخصائهم وذوي النفوذ واليد في أبرشياتهم، من غير احتكام الى الإجراءات المعقدة التي يُفترض الاحتكام إليها في الأحوال السائرة.
فاجتمعت المنازعات الكثيرة هذه، وهي تتحدر من مصادر وسياقات متباينة، في معمعة معقدة، اصطف (تصاف، في لغة الحرب) فيها صفان وحلفان: واحد ضوى يوسف اسطفان والرهبان الحلبيين وأنصار رهبنة القلب الأقدس، وضوى الثاني بعض أقوياء المطارنة، والرهبان البلديين، ومن ورائهم الأمير يوسف شهاب والمدبر سعد الخوري. وعلى خلاف الحال في 1750- 1752، سنيّ تربّع هندية في كرسي رهبنتها وإجماع موارنة بلاد الشام الشمالية وفلسطين ومصر على اعتقاد ولايتها، وتبرئة ميخائيل فاضل ساحتها – ألْفت المعمعة العامة هندية بعضاً من "حزب" وغرضية وطرفاً فيهما، ولم تبق مناط اتحاد "وطني" وأهلي وكنسي، ماروني. واختلطت المنازع والمصالح والميول الاعتقادية والسلكية والمذهبية والعائلية والشخصية والسياسية بعضها ببعض على نحو عَسُر معه "بناء مثال" متماسك يجري الناس المعنيون على هديه، من وجه أول، ويجري عليه تعليل المؤرخ والدارس، وتجري عليه الجماعة التي ورثت هذا الفصل من تاريخها وينبغي ان تتدبره، من وجه ثان وثالث، على ما لاحظ هيبيرجيه، المؤرخ الجامع الذي تهتدي الملاحظات هذه بهدي كتابه.
وكان إخفاق وساطة القاصد الحبري، في أواخر 1772، بين "الأحزاب" الجبلية (من البترون شمالاً الى الشوف وصيدا جنوباً، من غير إغفال الدائرة "الإقليمية" والعثمانية الأوسع)، وقضية هندية بمنزلة النواة من المنازعات هذه، كان الإخفاق هذا مقدمة تداعي الحوادث المأسوية التي أماطت الستر عن "خبايا" صاحبة "سر الاتحاد"، وعن مترتبات النهج الاتحادي والحدسي الذاتي الذي غلب عليها وعلى اصحابها (وصواحبها) وأنصارها (ونصيراتها). فغداة وصول فاليريانو دي براتو، القاصد، هربت راهبتان "هنديتان" من دير ساحل علما، أحد أديرة راهبات القلب الأقدس الى أهلهما. وكانتا هربتا من دير بكركي، وجوار الأم وحاشيتها، الى دير ساحل علما. ومع خبر الهرب المزدوج هذا فشت بعض أخبار الديرين، وتناقلت الأسماع والألسن نتفاً تشي بفظائع وغرائب مروعة. ولم يبق أثر معروف وثابت من أخبار الراهبتين الهاربتين. فهما لم تدونا "اعترافاتهما" في تقرير. ولم يتح للقاصد المستعجل، على ما يبدو، لقاء من كان ليفيد من لقائه. فوساطته مقيدة بوقت ومهمة. ولم يحتسب في الوقت والعمل تعقيد الأزمة، ولا كثرة مواردها ومصادرها، وعمق آثارها. وقدوم القاصد من دواعي انفجار الأزمة على النحو الذي انفجرت عليه. فإعلان انتداب الكرسي الرسولي مبعوثاً محايداً، من غير الضالعين في المنازعة او الخائضين في المعمعة، نيط به التحري عن وقائع منحرفة عن معايير القبول والاستقامة، والفحص عنها، يدعو ضحايا الانحراف، إذا وجدوا وأنصارهم وأهلهم وأنسباءهم، الى جهر الوقائع وتقصيها وتحقيقها.
والحق ان هرب الأختين، على غرار قدوم القاصد دي براتو، كانا نذيراً بالفصل الآتي الطويل والختامي، وتمهيداً له. فلم يكد القاصد دي براتو يترك الجبل عائداً، وينزل خَلَفُه دي موريتا بيروت فالجبل القريب، حتى هربت راهبتان أخريان، ثم ثالثة، من دير بكركي، هن ماري مكرزل (من بيت شباب) وتيريز الخازن (من درعون) واسبيرانس أو رجاء الشنايعي (من غوسطا). ولجأت ماري وتيريز الى دير عينطورة. فجازاهما البطريرك اسطفان، وهو نصير هندية ومعتقد قداستها من قبل (1770) بعد شفائها إياه من علة في اللسان، وإحدى أخواته من راهبات القلب الأقدس، جازاهما حرماً كنسياً. فحمل الحرم في حق "بنت" الخازن" وهي من جب أولاد الحصن ومقاطعجيتها، أهلها وعصبيتها على الطلب الى البطريرك، وهو المقيم بديرة الأهل هؤلاء وبعض موارده من جراياتهم وجبايتهم، العودة عن حرمه. فأقامت بنت الخازن و "اختهم"، على المعنى القرابي العربي، بدير مار يوسف الحرف بدرعون. وكان استجواب دي موريتا ماري مكرزل، ثم كتابتها شهادتها أو إملاؤها، وما شاع من اخبار دير بكركي والأديرة الثلاثة التي ألحقت به عن لسان الهاربات وأهاليهم، المقدمة التي آلت الى سقوط صاحبة الرهبنة سقوطاً مدوياً (1779).

الرسوم الخفية

وجاء في إجابات ماري مكرزل، ثم في مذكرتها، ان دير بكركي في عهد هندية نهب لانقسام حاد باعد راهبات الجبل البلديات و "اللبنانيات" من الراهبات الحلبيات. وعلى رغم قرب كاترين، مساعدة هندية وروحها الملعونة على قول بعضهم، وحظوتها عند "الأم"، فالحلبيات هن المقدمات والأثيرات. وحين ظهر التململ على الأخوات، وأشاعت بعضهن في قراباتهن أخبار التمييز والشواذ، وصادف هذا انتصاف أعوام العشر السادس (1750)، أدّبت هندية، ونواة جهاز من النساء والرجال تحلقوا حولها، المتحفظات تأديباً بوليسياً قاسياً. فالبلديات على مقربة من أهلهن، ولم تنقطع أواصرهن بهم، وعلى خلاف الحلبيات عموماً. ولبس الثوب ضرب من الاستثمار المعنوي والأهلي، ويتصل بمرافق المنافسة الاجتماعية على مراتب الرهبنة. وعلى هذا، حملت هندية، وجهازها، التحفظ والإنكار، على سعي محلي وبلدي في إضعاف قبضتها "المقدسة" على المرفق الكنسي الذي تسوسه. فأعدت للمتحفظات حجرة بطرف الدير غطت جدرانها بالفلين والخشب لتحول بين الأصوات وبين التردد في الخارج، وجعلتها سجناً. وأمرت بحبس الراهبات المتذمرات والعاصيات في الحجرة المظلمة والموصدة النوافذ والباب، أسابيع وشهوراً، وبتركهن الى الجوع والعطش والبق وروائح الغائط والبول، وضربهن وترويعهن فوق ذلك. وكانت هذه الدائرة الأولى من دوائر جهنم. والدائرة الثانية هي الأقبية تحت الدير. وهذه أشبه بالمطامير أو القبور المظلمة، بمنأى من اصداء الحياة ولو الخافتة التي قد تتناهى الى أسماع المسجونات. وقتلت الراهبات اللائي قتلن في سياقة منازعة هندية على جمعيتها الرهبانية، ومحاولتها الحجز حجزاً صفيقاً بين داخل منكفئ، تسوسه وحدها، وتضطلع وحدها بالأمر والنهي فيه، وبين خارج هو كيدٌ وشرٌّ وكفر كله، ولا تهاون في درئه ورد كيده الى نحره.
وما أفشته الراهبات المتحفظات والمتذمرات، ثم الهاربات، هو تربع هندية في سدة سلطان "شرقي" وبعيد من النسك والإمساك. فالصبية النحيلة والرقيقة الوجه والجسم، على ما وصفت من قبل، تظهرها لوحة صورت في أوائل السبعينات امرأة غليظة القسمات، منتفخة الوجه والجذع. فهي، على روايات "بنات" مكرزل والخازن والشنايعي، خلَّت نفسها الى أكل الطيور والفراخ، وأمرت بصنع خبزها من الحنطة وحدها، واشتهت من الأشربة العصير والنبيذ والعرق. وتركت حجرة الطعام المشتركة، واحتجبت عن المؤاكلة. وعللت الأمر بخشية السم، ودس "الأعداء"، وفيهم الشيطان نفسه، السم لها في الطعام. وفي حجرتها الخاصة، وهي أوصدتها في وجوه من ليسوا ولسن خواصها وحاشيتها، لبست الحرير، ونامت على فراش ناعم ذهبت المخيلات الى حشوه بريش النعام. ونسبت الى نفسها القوة ("الحدسية") على إماطة اللثام عن السرائر والطوايا ومكنونات النفوس والأجساد والخطايا. ومن المكنونات والخطايا الحَمْلُ خلسة والإجهاض. فهي ظنت الظنون في اللاتي حدست فيهن, أو رأت منهن التشكك والإحجام والتمرد. فادعت عليهن الحبل والسرقة والتدليس ومؤامرة بعضهم بعضاً عليها. وكانت الأخت كاترين، "أخت روحها" ومساعدتها وحاجبتها، طبيبة الدير أو وكيلة طبابة الراهبات. واشتهرت كاترين بخبرتها في صناعة السموم وتركيبها. فاجتمع لها من العملين والوظيفتين، الطبابة ومراقبة الطعام، الى حجابة الأم الرئيسة، نفوذ مفتش في محاكم التفتيش أو وزير تفويض.
ولم تقتصد في إعمال النفوذ هذا، على وجوه الإعمال كلها. وذهب نقولا عجيمي، شقيق الأم الرئيسة ومرشد اعتراف الراهبات بعد إزاحة ارسانيوس دياب (1761)، في 1775، الى ان كاترين كانت الآمرة الناهية، على حين حرصت هندية نفسها، في اعترافات 1778، على تبرئة ساحة المدبرة المتسلطة. فضيقت المرأتان الخناق على أخوات القلب الأقدس. وأوحتا الى الراهبات ان مصدر أخبارهما عن خطايا الراهبات هو المعرّفون انفسهم. فصد الزعم هذا الراهبات عن الإسرار بوقائع الأديرة وحوادثها الى أصحاب الاعتراف، وأوصد باباً من الأبواب المحتملة على قول الوقائع، والإقرار بها، وتراويها، أي على إثباتها وقائع وحوادث، ويشترك "مجتمع" في العودة إليها على هذه الصفة. فلما بدا ان الراهب ارسانيوس دياب يصيخ السمع الى الراهبات، وإلى نقلهن ما يرين ويعلمن من فظائع الاحتجاز، أقيل من عمله. وخلفه نقولا عجيمي. ومال هذا بدوره الى حمل أخبار المعترفات على محمل الجد، ودعاهن الى رواية ما يعرفن وما ينتهي إليهن علمه. فغضبت عليه الأم الرئيسة ومساعدتها ووكيلتها غضباً شديداً. فخاف، هو الأخ الشقيق، على حياته من القتل بالسم، على ما قال الى دي موريتا. وكان نقولا راهباً يسوعياً. وناوأ اليسوعيون، وجمعيتهم، "مذهب" هندية في الاتحاد، وفي تدبير رهبنتها. فمالت الى خصومهم ومنافسيهم، الكبوشيين. وفي 1773، أي حين خرجت محنة راهبات سلك هندية الى العلن، قضى الكرسي الرسولي البابوي بحل جمعية اليسوعيين، في ختام نزاع كنسي كثير الأوجه. فخسر نقولا عضيمي، فيمن خسروا، السند والملاذ، وبدا له انه فريسة سهلة بيد الراهبتين الشرستين.
وحجزت هندية ومدبرتها بين راهبات سلكها وبين أنفسهن، وبينهن وبين الوقائع والحقائق، من طريق أشد تعقيداً بكثير من الطرق البوليسية والرقابية والعملية المعروفة، على شاكلة الإيحاء إليهن بأن المعرّفين هم عيونها وأرصادها. فعمدت الى حمل "خطاياهن" عنهن، والقيام بها محل "الخاطيات". وسبيلها الى هذا هو المرض. فكانت تمرض حقيقة وفعلاً، وتصيبها الحمى، ويغمى عليها، وتتقيأ، ويشحب وجهها، وتغور عيناها. فإذا عادتها الأخوات، سألها أمين سرها ومعرفها، المطران جرمانوس صقر، حاسراً وجاثياً، عن سر مرضها، قالت انها تحمل خطايا الراهبات المكتومة في نفسها وجسدها، وأنها لن تفتأ مريضة الى ان تعترف الأخوات بخطاياهن. ولم تنتظر الاعتراف الذي تطلبه. فكانت تستبقه، وتعلن على الملأ "خطايا" الراهبات. فإذا امتثلت الخاطيات المفترضات، واعترفن الى معرفهن بـ "اعتراف" هندية، أي بتهمة هندية إياهن، شفيت "الأم" من الأعراض التي ألمّت بها، وأبلت منها. وأرست هندية الحال هذه، أو "الأحوال"، على معتقد.

العُظام "الهندي"

فزعمت انها لم تخطِ يوماً ولم تكذب، فهي في حل من الاعتراف والمناولة. واتحادها بـ "الشخص" أقوى من القربان المقدس. وإذا انتهكت القانون الكنسي لم يوجب انتهاك الظاهر محاسبتها. فسرُّ اتحادها يرفعها فوق القانون، وفوق القاصدين الرسوليين، وطاعتهم. وما خلا مسائل الإيمان، فلا طاعة عليها لبابا رومية، ورأس الكنيسة. وهي تطيع البطريرك، رأس الكنيسة المحلية، في سائر المسائل (ويومها كان البطريرك يوسف اسطفان طوع يمينها، على ما مر). وتعاظم عُظامها مع اشتداد المنازعات السلكية الداخلية، وانفجار الأزمات والخلافات المتصلة بتجاذبات الكنيستين المسكونية والشرقية الوطنية ومشاحنات العصبيات والأسر والأهالي والأفراد. فألمحت الى ان الأناجيل تشير من طرف خفي الى سر اتحادها، وإلى جلوسها، يوم الدينونة، مع الابن الجالس الى يمين الآب. ونسبت نفسها الى قبيلة يهوذا، وفيها نسب داود، صاحب "المزامير"، ومن صلب داود يخرج مسيح اليهود و "مهديهم" المنتظر. وأعلت الى "نشيد الأناشيد"، ولم تقتصر على الأناجيل، "البشارة" بها، وعلامة "مجيئها". فأوَّلت: "ما أجمل خطواتك بالحذاء يا بنت الأمير" (7، 2 – وهي، منقولة عن الترجمة الفرنسية، "قدماك جميلتان في صندليهما يا بنت الأمير") على قصدها هي. وانتهى بها الهذيان الى إقحام نفسها في سر الثالوث.
وأنشأ أنطون جاماتي، الحلبي، أحد رهبان الدير، مصدقاً المزاعم "اللاهوتية" هذه، أخوية سماها "عبيد الأم هندية". وخاطبها، هو وجرمانوس دياب ويوسف دياب (المطران) والمطران الآخر أرسانيوس عبد الأحد، بـ "سيدتنا"، وبـ "المجد لإكليلك وتاجك". وخاطبها المطران اثناز الشنايعي بالقول: "أومن بالذي فيك". وتُقدمها المخاطبةُ هذه على مريم. فـ "الذي فيها" مدى العمر، وربما "بعده"، على حين ان مريم اقتصر حملها على الأشهر التسعة الطبيعية. فهي إلى أبد الآبدين "عروسة المسيح هندية". وحُفظت "ذخائرها"، ثيابها الخلقة ودمها (في أوانٍ) وشعرها، ودعي المؤمنون الى التبرك بها. وجُمعت الى "ذخائر" مدبرها، ونظير كاترين في الرجال، المطران جرمانوس صقر. ولعل القرينة على ان الضرب هذا من الاعتقاد العجائبي عرضٌ من أعراض حمى جماعية وظرفية هو سريانه في الجماعة المارونية الجبلية. فذاعت في اهالي الجبل أخبار رؤى قيل ان رئيسة دير الحصن بغوسطا، بلد البطريرك يوسف اسطفان، تراها، و "يظهر" لها فيها الطفل يسوع. وعلى شاكلة كتابة المطران جرمانوس صقر رؤى الأم هندية، وقلب يسوع هو ميسم رهبنتها، عمد المطران إرميا نجيم الى كتابة رؤى رئيسة دير الحصن. وكان المطران استأذن البطريرك في كتابته، فأذن له. ولم يغب لا عن المطران ولا عن رئيسه الكنسي دور "الرائية" الجديدة في منافسة هندية على الدالة والمكانة، وفي التقليل من سطوتها. وظهرت "علامات" على "رائية" ثالثة هي الأخت تيودورا بدير الحراش، حيث كرسي المطران ميخائيل فاضل، أحد أشد خصوم البطريرك اسطفان وأقوى أنصار الكرسي البابوي.
وقبل ان يخلص قاصد الكرسي، دي موريتا، الى إبطال الإجازات التي منحتها الأم رئيسة رهبنة القلب الأقدس الى نفسها في الامتناع من الزفر في أيام الصوم والغفارين والاعتراف، ويوصي بتشتيت راهبات الرهبنة في الأديار المتفرقة وبإعداد بكركي مقراً بطريركياً، استمع الى شهادة وردة بدران وروايتها مقتل اختها، نسيمة، ولفظها انفاسها في 19 تموز 1777. فبعد إثارة الراهبات على الأختين وتهمتهما بملابسة الشيطان، على معاني الملابسة كلها، سُلّطن عليهما. فأصلينهما طوال ساعات في اليوم الصراخ والشتائم. وخلعن عنهما ثوبيهما، وانتزعن صليبيهما، وحظرن على الأختين التلفظ باسم يسوع. وأوكل الى أحد الرهبان، الأب الياس بركانا، وعاونه اغناطيوس جاماتي وحنا كيلون، ضرب الأختين ضرباً قاسياً وفظاً. فكسر بعض أضلع نسيمة، ولم يملك نفسه فحطم جمجمتها. وتركت الأخت نسيمة بدران تلفظ انفاسها من غير ان يمد أحدهم، أو إحداهن، يد المؤاساة لها. ولم يُستجب طلبها "اللوازم" من فعل الندامة وقبول المشحة، هي "الساحرة" وصديقة الشيطان، وأهيل عليها التراب من غير مراسم. ويوم قتلت نسيمة سممت الأخت روفينا بعدها بقليل. وماتت أخت ثالثة هي خادمة القلب، على ما كانت تسمى، في يوم الشؤم هذا. ويرجح ان الراهبة الثالثة توفيت في ختام مرض سابق "اختار" اليوم المشهود ليطوي ايام التعس التي قسمت لخادمة القلب. وقسرت وردة بدران على القول ان الشيطان خنق أختها. وحين علم أنطون بدران، والد الأختين، أن إحدى بنتيه توفيت، وسّط الأمير يوسف شهاب في إخراج وردة من بكركي بالقوة، فلجأت الى دير حراش، حيث المطران ميخائيل فاضل.
ولم تنته قضية هندية فصولاً. فاشتبكت خيوطها وخيوط الأحوال "اللبنانية" الأخرى، ومنازعات الأسر والعائلات والنواحي والولاة والمطارنة والدول، وتخللت النظر في القضية، وبتها، انقلابات وتبدل أحلاف وحملات وانعقاد مجامع. ورفعت القضية الى الكرادلة بروما. فنظر مجمع فيها، في حزيران 1779. فطاولت أحكامه البطريرك، والمطارنة، والأديرة (وضع الآباء البلديون يدهم على ثلاثة أديار "حلبية")، والآباء العامين، وشعائر الكنيسة المارونية وبعض أنظمتها (مثل إحلال عيد الحبل بلا دنس محل عيد القلب الأقدس، وإلغاء إلزام أيام الصوم الثلاثة عشية عيد القلب الأقدس)، من غير إمساك عن البيض واللحم. وبعثت أحكام روما، ومطاولتها رسوماً وأبنية محلية عميقة الجذور، جبهة مارونية أهلية لحمتها إنكار سلطان روما، وتصرفها في رسم المطارنة وتنصيبهم، والحرص على "الحرية الإكليركية" وعلى "السنن القديمة" والتقاليد. وصدعت روما في 1785، فرضيت بعودة يوسف اسطفان الى كرسيه. وانتقلت الوكالة القنصلية الفرنسية، في 1786، الى غندور سعد الخوري غداة وفاة والده في سجنه الدمشقي. وعقد البطريرك والمطران ميخائيل فاضل صلحاً، فخلف فاضل اسطفان على الكرسي البطريركي في 1793.
وتنقلت هندية بين الأديرة، طريدة الضغينة والانتقام، "محجوراً عليها"، على قول عبدالله حشيمة، صاحب "القديسة هندية". وفي 1782 أقرت الى المطران مخايل الخازن، النائب البطريركي في أثناء نفي اسطفان، بأن اتحادها إنما كان بالشيطان. وأذيع "إقرار هندية" في الرعايا، على حين سعت الكنيسة في مصادرة كتاباتها أو أماليها وتعقبها". وتوفيت في شباط 1798، وحيدة ومرذولة وإنما مع قبول "اللوازم". ونامت كتاباتها فوق القرن، إلى ان نشر الأب بولس عبود تقارير فاتيكانية، في ثلاثة مجلدات، "الأصول المحجوبة" (1909)، و "المجالي التاريخية" (1910) و "بصائر الزمان" (1911). ولكن تراثها العميق الجذور لم ينفك حياً الى اليوم.

الأربعاء، 17 ديسمبر 2008

استواء هندية رئيسة وأماً صورة فاعليةٍ مارونية مترجحة بين منهج السلك والأهل


الحلقة الثانية
المستقبل، 14،12/2008


لم يعدم بلوغ هندية العشرين من غير زواج، وإقامتها في بيت أهلها من غير انتقال الى الدير، الى "فرادة ذاتها في تجاربها" (فهي تقول: "... أرى ذاتي فريدة في تجاربي... بل كان البعض يقولون... ما رأينا قط أحد سلك قبلك هكذا") – لم يعدم هذا كله، مع شيوع صيتها وسعي الناس الى التقرب منها، إحراج أهلها، وإحراجها هي في دارها. وفي غضون العقد الخامس من القرن الثامن عشر توفيت هيلانة حوّا، والدة هندية، بالطاعون، وأصاب العجز والدها. فلم يبق لها ما تعتاش به بعد أن تواطأ والدها مع أخواتها وأهلها على حرمانها من سهمها في إرث الأسرة. وتنافس اليسوعيون والخوارنة الموارنة على العابدة الذائعة الصيت. فأراد خوارنة طائفتها إما رواحها الى دير لبناني، في كسروان، حيث يقوم زملاؤهم وإخوانهم على إرشادها وجني ريع مكانتها، وإما تولي واحد منهم إرشادها و "تعريفها".
فاستحصل "البادري انطون" من الأب العام للجمعية، في 1743، إجازة تنسب هندية الى الجمعية "أختاً"، آملاً في إلزامها بهذه الرابطة. وتوسل بملكيين محليين من زملائه الى استحالتها. فلم تكلمهم، وحملتهم على طائفتهم الرومية الكاثوليكية وخلافهم مع طائفتها المارونية. وفي خريف 1737، في أعقاب سبع سنين على طلب عابدات ملكيات من حلب الالتحاق بدير البشارة في زوق مكايل، على الساحل الكسرواني، أُذن لهن بالسفر الى الدير اللبناني واستجيب طلبهن. وكان اليسوعيون يسعون في جمع بنات من الطوائف الكاثوليكية المتفرقة في سلك رهبنة مشتركة من غير احتساب الحزازات التي قد تنشأ عن "تعايش" الطوائف المختلفة هذه ومساكنتها بعضها بعضاً. وكان على اليسوعيين، وهم على بعض الخصومة مع الآباء الشويريين، الملكيين، احتساب رغبة الشيخ موسى الخازن، مقاطعجي الناحية الكسروانية هذه وكبير عشيرته، في قبول بعض بناته في دير يمهره بعض أراضيه، فيحفظ هذه الأراضي على ذريته وقفاً ويحبسها عليهم.

العلانية

وأدت الحزازات بين اليسوعيين والشويريين الى انقسام الراهبات الحلبيات حزبين وجماعتين. وفي 1739 اضطرت الراهبات اللواتي ملن الى الشويريين، الى ترك دير زوق مكايل والرواح الى الخنشارة، غير بعيد من دير مار يوحنا، بالشوير. واحتكم المتخاصمون الى روما. فقضى البابا بينوا (بينيديكتوس) الرابع عشر، في 1743، بحق "الملة الرومية الملكية" في دير البشارة، وبتولي رهبنة القديس باسيل الشويرية الإرشاد الروحي والإدارة الزمنية. وفي 1746 كرر الحبر الروماني حكمه السابق ودعا اليسوعيين الى رفع اليد عن الدير، وعن راهباته. أما الراهبات اللاتي بقين في دير زوق مكايل، واخترن إرشاد اليسوعيين وسلك راهبات فرانسوا دو سال، فانتقلن الى دير حراش القريب، حيث أقمن من غير رسامة الى 1752.
فلا عجب إذا عظمت مكانة هندية عجمي في سياق تراكم الخسائر والانتكاسات على جمعية اليسوعيين، شرقاً وغرباً. واتفق ابتداء تدوين انطونيو فانتوري الدلائل على قداسة البنت الحلبية العابدة والمتنسكة، في 1743، مع ذرّ الخلاف بين الراهبات الشويريات الباسيليات والراهبات "اليسوعيات" (من طريق سلك فرانسوا دو سال) قرنه، وإدلاء البابا بحكمه الأول وإدانته الحزب اليسوعي. فناط اليسوعيون، وأنطونيو فانتوري وكيلهم على العابدة الحلبية، آمالهم بمآثر العابدة. وعقدوا العزم على نقلها الى كسروان، حيث يسعها ان تخرج الى العلانية بعيداً من القيود العثمانية. وفي وقت قريب، في 1745، استبق اليسوعيون حكم البابا في قضية دير زوق مكايل، فعزموا على إنشاء دير راهبات بعينطورا الكسروانية، غير بعيد من دير رهبانهم الرجال. وكانت وردة الخازن، بنت الشيخ موسى الخازن، استأذنت في بنائه.
وفي صيف 1746 رضيت هندية ترك حلب الى كسروان، وأذن رئيس جمعية اليسوعيين لأنطونيو فانتوري بمرافقتها الى جبل اللبناني، والاستمرار على تعليمها وإرشادها من غير قسرها على لبس الثوب، وتعليق البت في مسألة "عطيتها"، أو تأسيسها رهبنة منذورة للقلب الأقدس. وفي الأحوال كلها تولت رئاسة الدير الجديد وردة الخازن، وعرفت باسم روزاليا انتشيلاّ، وهي شقيقة صاحبي الدير شروان وجفال الخازن، ابني الشيخ موسى.
وفي الأيام الأولى من تشرين الأول (اكتوبر) 1746 تركت هندية عجيمي، في صحبة امرأة رومية وأرملة أرمنية، حلب الى طرابلس. وسافرت النساء الثلاث مع قافلة يقودها المكارية. وحطت القافلة رحالها بطرابلس. ومن طرابلس اتجهت هندية ورفيقتاها وجهة عينطورا. ووصلتها في اليوم الثاني عشر من الشهر نفسه، والحمى تأكلها. وكانت بلاد كسروان يومها تعد عشرة آلاف نفس ينزلون ثلاثين قرية. وغلب الموارنة على كسروان وانفردوا بها منذ أوائل القرن الثامن عشر. وكان سند غلبتهم هذه تكاثرهم وإنجابهم، واضطلاعهم بزراعة التوت، واتجارهم بخيوط الحرير، واجتذاب أموال ابناء طائفتهم بحلب وغيرها واستثمارها في الجبل ومرفقه الزراعي و "الصناعي" والتجاري استثماراً مجزياً.
ولم يكن ليتأتى لهذه العوامل ان تثمر قوة اجتماعية متصلة ومستمرة لولا استنادها الى أمرين متضافرين ومتكاتفين هما ظهور نوازع فردية تنيط بالأفراد والأشخاص وليس بالجماعة الإقدام على أفعال قد لا تقرها الجماعة، من وجه، وتبلور هيئة اجتماعية ترعى منهجة الأفعال الفردية في الحقل الديني، ابتداء، وتحض على هذه المنهجة في مضامير أخرى، من وجه آخر. ولا ريب في دين الجماعة المارونية اللبنانية (والحلبية والدمشقية والساحلية) والجماعة الملكية (الرومية الكاثوليكية) الى الكنيسة وروابطها السياسية الأوروبية، وإلى العلاقات التجارية الأوروبية، بظهور النوازع الفردية وبمنهجتها ورعايتها في هيئة اجتماعية مشتركة ورائدة.
وأتاحت حال جبل لبنان، شوفاً ومتناً وكسروان، في عهد الإمارة الشهابية وقبلها، بإزاء السلطنة العثمانية، أي أتاح تولي تدبيره السياسي والعسكري والمالي بالواسطة المحلية والأهلية، حماية النواة الجديدة والمختلفة. وحال دون معسها قبل ان تؤتي ثمارها وتراكم هذه الثمار. فجمع "اللبنانيون"، قبل قرنين ربما من استواء لبنان هيئة سياسية وحقوقية مستقلة، موارد فرص كثيرة، محلية وطنية و "دولية"، ودمجوها في فرصة واحدة. وهذا لا يبعدنا من هندية. فهي كانت على وجه من الوجوه صورة من صور هذا الجمع المحتمل، وسارت على حد شفرته وأرهصت بأزماته واضطراباته وإنجازاته.
ومن علامات الفاعلية الاجتماعية والسياسية المارونية الجديدة "صعود" آل الخازن في كسروان (وصيدا) والمدبرين من آل باز في الشوف، على ما أرخ ايليا حريق قبل نيف وثلاثة عقود واقتفى أثره دومينيك شوفالييه. فأهدى آل الخازن، وهم اصحاب عينطورا وزوق مكايل، اليسوعيين أرضاً، في منتصف القرن السابع عشر، ودعوهم الى بناء معقلهم بها، واستقووا بهم وبدالتهم الفرنسية. وبعد قرن من الهدية الأولى، أتبعوها بالهدية الثانية الى الرهبنة النسائية. ومنذ الثلث الأول من القرن السابع عشر (في 1634 على وجه الدقة) أنشأ شيخ آل الخازن مرفأ لزنة الحرير وتحميله وإبحاره بزوق مكايل. وبعد ربع قرن كان أبو نوفل الخازن نائباً لقنصل فرنسا، مع امتيازات نيابة القنصلية، ببيروت، قبل ان يرقى القنصلية نفسها في 1666. وفي 1671 حصل أبو نوفل من السلطان العثماني على إقطاع كسروان له ولأولاده وأعقابه.

الانقطاع والفعل

وقايض الأعيان الموارنة تعاظم نفوذهم وإعمارهم الأرض جنوباً، أديرة وأوقاف كانت بمنزلة مهور الأديرة. وفي 1736، قبيل قدوم هندية، بلغ عدد الأديرة المزدوجة (أو المختلطة المصلى والمطبخ)، للرهبان والراهبات، عشرة، ويأوي إليها مئة وستة وثلاثون راهباً وراهبة. ولم ينفع إنكار الكنيسة الرومانية الأمر، ولم يؤد إنكارها الى "إصلاحه" قبل عام 1824. فالازدواج كان ذريعة الى تقليص أعباء الدير، وإلى تقوية رقابة الأهل على النساء من طريق الرجال عموماً، والرهبان والأقارب خصوصاً. ولكن لقاء هذا ضعفت الحياة النسكية والسلكية، وتلاشت الحدود بين مراحل الرهبنة ومراتبها، وزادها العدد القليل ضعفاً على ضعف.
فكان إنشاءُ الرهبنة اللبنانية (الحلبية) بمبادرة من جبرائيل حوّا، عم والدة هندية، وأمثاله من أولاد تجار حلب المتعلمين والتواقين الى تدين أشبه بالتدين الكنسي الكاثوليكي (الإصلاحي)، كان رد جواب على غلبة الأهل على حياة الرهبنة والانقطاع. فنص قانون الرهبنة الجديدة، الى تدوين قانون مكتوب، على ترئيس رئيس عام عليها، ينتخبه الرهبان مباشرة مرة كل ثلاثة أعوام. وجمعت بين الانقطاع عن العالم وبين الفعل فيه، على المثال المتحدر من مجمع ترانت ومن المجمع اللبناني (1736) والوجهة التي سعى يوسف السمعاني في إرسائها. فكان قانونها تأليفاً بين تقليدين متباينين. وأنكر عليها هذا التأليفَ الكنيستان المارونية المحلية والرومانية الجامعة. ولكن تأليفها هذا كان يحتسب، على قدر من الدقة، النازع الفردي والمديني الناشئ، ونظيره النازع المنهجي الصارم، من غير ان يطرح دوامَ فعل التقاليد الأهلية البلدية والجمعية. وليست هندية عجيمي بغريبة عن مثل هذا التأليف كذلك. وهي جمعته بدورها بين الغلو في التجريب الصوفي الفردي وبين سطوة المرتبة والرئاسة وسلطانهما الساحق. وكان قانون رهبتها إحدى آيات إلهامها على زعمها.
ولم تكد هندية تقر في الجبل حتى تنازعها نازعان قويان. فأراد اليسوعيون ضمها الى حزبهم طوعاً أو كرهاً، "بالمحبة أو بالقسر". وألحوا عليها في لبس ثوب الراهبات النازلات دير عينطورا. أما "الشخص الذي كان يظهر (لها)" فقال لها "على القانون والرهبنة وعلى استحقاقات قلبه الأقدس"، وعلى ما سماه، مكلماً إياها، "الموهبة التي أريد ان أعطيك إياها (فـ)توضح استحقاقات سر تجسدي، واتحاد لاهوتي بناسوتي، وعظمة نفوذ الاستحقاقات من ناسوتي ومن جراحاتي الغير متناهية بفاعليتها كما أشاء".
ولما أمر الأب العام للجمعية، أنطوان غينار، انطونيو فانتوري مرشد العابدة نزيلة عينطورا، حملها على الانضمام الى راهبات الدير الذي يتولاه اليسوعيون حمّلت هندية معرّفها ومرشدها التبعة عن عصيان "الشخص" صاحب "عطيتها". فامتنع الراهب اليسوعي من احتمال التبعة، ورد بتوكيل أمره وأمر هندية الى حالتهما. وهذا الرد هو بمنزلة التنصل. فطلبت هندية الانتقال الى دير حراش، كرسي المطران جرمانوس صقر الحلبي – وهو سامه طوبيا الخازن مطراناً وقصد بسيامته تقوية معارضته البطريرك سمعان عواد من طريق استمالة الحلبيين، أو الجناح المديني من الرهبنة الجديدة، بإزاء البلديين (أو "أولاد الجبال") -. وإلى جرمانوس صقر كان يقيم بدير جماعة الراهبات الملكية والحلبيات اللائي تركن دير زوق مكايل قبل أقل من عقد من السنين، على ما مر.
وفي ختام أسبوع كان تركه الأب العام للعابدة المتنازعة، فإما تحزم أمرها وتلبس الثوب عن يد جمعيته أو تطرد من دير عينطورا، ويُغلق بوجهها بابا دير حراش ودير مار الياس الراس، أنفذ الأب العام وعيده. وكان مضى ثمانية أشهر على قدومها لبنان، حيث لا تعرف أحداً تلجأ إليه، وما تنتابها الحمى بين الوقت والوقت وتهزها. فأخرجت من عينطورا وهي على هذه الحال من الضعف والتقطع. ومر بها مصادفة "البادري انطون"، معلم اعترافها. فألجأها، شفقة، الى حظيرة المعهد اليسوعي، ثم عاد وعهد بها الى أرملة وابنها ينزلان بيتاً بين عينطورا وحراش. وتوسط الراهب اليسوعي لدى المطران صقر لعله يستقبل العابدة الطريدة والوحيدة. فلم يشأ صقر استعداء الجمعية القوية. وهو كان ألجأ الى ديره "الروميات" الحلبيات اللواتي لم يردن الذهاب الى الشوير وآثرن إرشاد الآباء الموارنة. وقبلت روميات دير حراش استقبال مواطنتهن الحلبية والمارونية. فحلت عليهن ضيفة متنقلة بين حجراتهن طوال سنة كاملة.
وحمل عنادها جرمانوس صقر، رئيس الدير، على قبول تولي اعترافها، وهو كان تردد في قبول لجوئها الى ديره. ولم ينجح غينار، الأب العام اليسوعي المشرقي، في إعادتها الى جمعيته ولو من باب الإرشاد والاعتراف. ولم يلبث المطران صقر ان اقتفى أثر فانتوري. فأيقن أن "رعيته" من أهل الولاية والقداسة، واستأنف من ابتدأه سلفه اليسوعي الإيطالي من تدوين "سيرة هندية" ووقائعها وأخبارها. وأرادت جمعية اليسوعيين الاستدراك على خروج هندية من عهدتها الى عهدة المطران الماروني، فعجلت رسامة أخي هندية، نقولا، راهباً. وأوفدت الراهب الجديد والفتي الى جوار اخته، في 1749، لعله يفلح فيما أخفق فيه فانتوري وغينار.
وكان المطران صقر دعا هندية الى مفاتحة رئيسة الراهبات الملكيات، مضيفاتها، بأمرها وأمر "أحوالها" ومشاهداتها. ففعلت على مضض. واستمالت بعضهن، ومن اللائي استمالتهن الرئيسة نفسها. وتعصبت للعابدة المريضة والطريدة راهبات جئن من بجة، من بلاد جبيل، وعلما، من ساحل كسروان. وسيكون لبعضهن، مثل كاترين العلماوية، أثر عميق في جنوح هندية، وذلك ربما على قدر تأثير هندية فيهن. فهذه، وهي في الثلاثين من العمر، اجتمع لها اختبار عقد كامل من المران والفحص الذاتيين والمنهجيين، على مثال "تمارين" اغناطيوس (اللوليولاوي – من لويولا). ولا ريب في أن "بنات" بجة وعلما الريفيات، وجلهن مولودات لآباء خوارنة، بهرتهن الحلبية المتمرسة بالرؤى و "الانخطاف"، والمصلوبة على منازعات نفسها المقيمة ومراجعاتها. فزادتها استمالة مرشدها الجديد وانبهار زميلاتها بها يقيناً بدعوتها الى إنشاء رهبنة موقوفة على قلب يسوع.
ولما فاتحت هندية مرشدها الجديد، المطران جرمانوس صقر بوعد "العطية"، أي بإنشائها رهبنة جديدة تحمل اسم القلب الأقدس، رد رئيس دير حراش بأن الجبل فقير، ولا يقوى على إعالة دير راهبات جديد ولا على مهر "بنات" ينذرن أنفسهن الى رهبنة جديدة. ولكنه سرعان ما تخلى عن تحفظه الأول، وكتب قانون الرهبنة، على النحو الذي أملته عليه هندية "الملهمة". وتحول معلم الاعتراف الى كاتب أمالي الوافدة الغريبة. وبلغ به شغفه بالأمر مبلغاً حيّر بعض المؤرخين فيما يعود الى صاحبة الإملاء أو يعود الى الكاتب (وليس ميشال حايك من المتحيرين: "فهي هي ربة الكلمة تطلقها على السامعين من حولها فيعجبون... حتى وثقوا جميعاً بأن كلامها يمليه عليها الحق الأزلي"). وأذاع البطريرك سمعان عواد قانون الرهبنة في أول آب (أغسطس) 1751.
ورسم قانون الجمعية أن يتولى تدبير الأخوية الروحي أسقف يستقر في دير بكركي، حيث استقرت "الأم" هندية من بعد، ويكون بمنزلة رئيس عام على جميع الأديار، من غير ان تنقض رئاسته "ولاية مطارنة الأبرشيات" التي تقوم فيها الأديار. ورد الأب مانشيني، مبعوث الفاتيكان و "عينه" على قضية الراهبة، مادة القانون هذه بذريعة ان الرسم ينقض حقوق المطارنة في الولاية المباشرة على أديار أبرشياتهم. ورد الرسم الذي يجيز دوام رئاسة رئيسة الجمعية مدى حياتها، أو يوجب هذا الدوام، بقوله ان هذا "الاستمرار" قد ينقلب "مصدراً للبغض والجور والاستبداد". وينسب المبعوث الفاتيكاني، وهو أحد سراة العصبية الكنسية على المرأة وجنسها، الآفات الخلقية هذه (البغض...) الى "طباع النساء"، وكأنها في الرجال أضعف منها في النساء. ويرفض الأب مانشيني تقييد اختيار المطران مرشد الراهبات بـ "رضى الراهبات". فللمطران وحده الكلمة الفصل في المرشد، رضيت الراهبات أم لم يرضين. ويذكر الرقيب الفاحص بأن الكنيسة لم ترسم "عيداً خاصاً لقلب يسوع"، وينفي علمه بما اذا كان الكرسي الرسولي "أثبت طلبة قلب يسوع التي يتلوها راهبات بكركي". ويجهل "ما قوام العيد الذي يحتفلن به من باب الوصية". ولمّا لم "تحدد (الكنيسة) ما اذا كان القلب هو المبدأ الحسي لجميع الفضائل والشواعر"، فلا ريب في إشكال غاية رهبنة بكركي، أي رهبنة الأم هندية عجيمي، وهي (أي الغاية) "التعبد الدائم لقلب يسوع".

الإلهام والغلو

وتنحو هذه الرسوم، على ما هو ظاهر، نحو تغليب الأم الرئيسة على الجمعية ولاً، وعلى الهيئات الكنسية والمراتب الكهنوتية، غلبة قاطعة لا راد لها ولا قيد عليها. وتبتدئ هندية، وهي ترسي سلكها على ركن غير مسبوق ولم يمهد له تقليد كنسي معروف ومتبع (العيد الخاص، قوامه، محل القلب من اللاهوت "اليسوعي"، الغاية من هذا الضرب المخصوص من التعبد)، تبتدئ طريقة لا مثال لها ولا معيار يُحتكم إليه في شؤونها وشجونها. ولعل إدراكها الأمر إدراكاً حاداً حملها على طلب التحلل من الرقابة "القانونية" على عمل رهبنتها، من وجه أول، وعلى اعتقادها وإيمانها، من وجه آخر. فهي فيما تقول وتعمل وتريد إنما تصدر، على زعمها، عن "شخص" تراه وتسمعه وحدها. وهي، أي ما ترويه، واسطة هذا الشخص الوحيدة والفريدة.
وإذا روت هندية عن الشخص ("إن كنت أنت سيدنا يسوع المسيح") فإنما تروي عمن تطلب إليه ان يعطيها نعمة "بإيمان حي". والإيمان الحي، على حسبها، هو خلاف الاختبار وخضوع الإرادة. وتسأل من ينظر إليها ويكلمها سؤال المنكر: "لماذا تطلب مني ان اقتبل (النعمة) باختياري وخضوع إرادتي". وتخلص الى الاشتراط على "السيد": "إن كان هذه العطية من الله ليعطيني (ليعطني) إياها بلا قبول اختياري المعتوق" أو إرادتها الحرة. فما تنكره المتعبدة الملهمة، والغالية في إجراء ما ترى وتسمع وحدها مجرى الإلهام، هو امتحان التجسد، وعقدته البشرية والإنسية: "وأريد (العطية أو النعمة) مختصة لنفسي وليس لجسدي بها حس". فيقول لها "الذي (تخاطبه)": "لم تحسي بمفاعيل الحس الروحي (...) إلا في الصعوبات فقط والضيقات المتراكمة (...) لأن ما لـ (جسدك الترابي) وميله تخصيص يناسب حسه الهيولي المادي إلا بالصعوبة فقط". ومحاورتُها الذي تخاطبه، وتلاوته عليها "حقيقة" المرتبة الإنسية، أي قيام الروح بالجسد (سَكَنُ النفس اللحم والعظم على قول المتنبي) واستحالة قيامها بغيره ومن دونه، تردان (المحاورة والتلاوة) هندية الى التراث الذي تصدر عنه، وإلى المنازعة التي تنزل منه منزلة المبنى والأساس.
وتحاكي بعض قوانين الرهبنة، وزعمت هندية أنها أُلهمتها منذ حداثتها بحلب، الأمر الإلهي. فيذهب القانون 17 الى ان المسيح "لا يدين المطيع إطاعة عمياء على ما عمله بأمر الطاعة". وهذا حض على الطاعة العمياء واطراح لها من الدِّين والدَّين جميعاً، ومن الثواب والعقاب. ويخلص القانون نفسه الى قلب "نظام" هندية: "كما ان الأخت المطيعة تخضع بالطاعة للجميع هكذا يُخضع الله لها جميع الأشياء". فلا يملك الرقيب الرسولي نفسه من القول (أي الكتابة): "ما هذه الوقاحة؟". فبولس الرسول، في رسالته الى العبرانيين، يقصر الأمر على الرب وحده، "فهو وحده كل شيء أُخضع له". وعلى هذا الأصل تتفرع فروع من مثل ان تدعى الرئيسة بصيغة الجمع "يا أمنا"، وليس بصيغة المفرد، والتماس الراهبات غفارين كاملة في 93 يوماً من السنة لأنفسهن ومرتين في السنة لكل زائر كنائسهن (ويرد هذا الرقيب الكنسي بقوله انها "طلبات جسيمة").
وكان، في الأثناء، دير صغير ببكركي يعود وقفه الى ولدي خطار الخازن، اسعد وخازن، ينتقل من سلك رهبان يقيمون به، ويرعون كنيسته، الى المطران جرمانوس صقر، مدبر الأخوية الجديدة، بإقرار البطريرك وبعض المطارنة. وفي الخامس والعشرين من آذار (مارس) 1750 اتشحت هندية وبعض صواحبها بالثوب الرهباني وأبرزن النذور الثلاثة، وأنشأت جماعتها. وعدت هذه خمساً وعشرين أختاً، نظير سبع عشرة بدير عينطورا وتسع وأربعين بدير حراش. وبين حبيسات دير بكركي ثلاث بنات مشايخ من آل الخازن، إحداهن هي تيريزة بنت الشيخ نوفل الخازن، قنصل فرنسا ببيروت.
وآذن إنشاء الرهبنة، والتصديق عليها، بذيوع صيت هندية عجيمي ورؤاها وعبادتها وكراماتها (أو "أعاجيبها"). فشد هذا إليها، وإلى الكنيسة المارونية من ورائها، موارنة بلاد الشام الشمالية وفلسطين ومصر، وجمعهم تحت لواء كنيستهم وهم قلما يجتمعون. فقوى اجتماعهم كنيستهم وجماعتهم بإزاء خصومهم وإخوتهم في الكثلكة الجامعة، "الروم" الملكيين واللاتين، وبإزاء المسيحيين من الطوائف غير الكاثوليكية، وبإزاء غير المسيحيين. فـ "ولاية" هندية لم يقتصر اعتقادها على قرى كسروان وجوارها القريب، بل تعدى الجوار هذا الى دوائر بعيدة.
وكان الآباء الكبوشيون، مدبرو دير الشوير، أول من ثارت حفيظتهم على "الولية" الجديدة. فندد رئيسهم العام، غبريل دوكانتان، بما يشاع من "أعاجيب" من كل نوع وضرب تجترحها قديسة مزعومة تسمى هندية، وهو اسم عمادتها (وهذا تعريض جارح، فليس الاسم بين اسماء العمادة طبعاً وهي موقوفة على القديسات المطوبات)، ويشرف عليها اسقف رفع الى رتبة الأسقفية في زمن الخروج عن الكنيسة (وهذا تعريض بالبطريرك طوبيا الخازن الذي سام جرمانوس صقر مطراناً). وينكر الراهب الكبوشي على هندية استقبالها الزوار مستلقية في كرسيها، وتركها زوارها، من مسيحيين "وترك ودروز"، يلثمون طرف ثوبها، وزعمها شفاءهم بوضع اليد على مرضاهم، وتوسلها بفصد دمها ثلاثين مرة وبنزفها دماً على قدر الدم الذي سال (على قولها) من جراحات المسيح.
ولقي رمي هندية بتهمة الشعوذة "الشرقية" ومماشاة شعائرها، على الضد من العقلنة الكنسية "الإصلاحية" واليسوعية، قبولاً لدى اليسوعيين الفرنسيين وأهل التدين المعتل والمهذب الذي أخذ يشيع في القرن الثامن عشر في أعقاب فورة القرن السابع وقدّيسات هذه الفورة. ولكن اليسوعيين الإيطاليين، ومنهم انطونيو فانتوري صاحب اعتراف هندية السابق ورائي رؤاها، خالفوا زملاءهم الفرنسيين في ولاية العابدة المارونية، واعتقدوها. فطارد الفرنسيون زميلهم الإيطالي وسعوا في القبض عليه، وناشدوا قنصل فرنسا بصيدا مساعدتهم على ذلك. وأمر الأب العام الراهب الهارب والمتخفي بالسفر الى الحاضرة الكاثوليكية طوعاً لقاء العفو عنه.
فلم يملك البطريرك الماروني، سمعان عواد، تبديداً للغط الذي أثاره الكبوشيون واليسوعيون، إلا تكليف الأب ميخائيل فاضل، أحد طلاب المعهد الماروني "اللامعين"، التحقيق في ما يقال في هندية، وفي شبهاتها. ولم يكن مضى على انتقال هندية الى دير بكركي غير شهرين. وبعد شهر، في أول تموز (يوليو) 1750، كتب ميخائيل فاضل كتاباً الى البطريرك يدرج فيه رهبنة قلب يسوع في مقاصد العناية، ويجعل من هندية وسلكها وسيلة من وسائل نهوض الكنيسة المارونية الشرقية الى دور مسكوني وجامع.
ولم يفت المعاصرين، على نحو ما لم يفت الخالفين مثل القس بولس عبود (1909 و1910 و1911) والأب بولس فهد (1972) – وكلهم كتبوا في الراهبة هندية عجمي – أن إدراج هندية في سياقة العناية يعهد الى الكنيسة المارونية، وإلى المسيحية الشرقية عموماً، بصدارة "وطنية". ويدعوها تالياً الى الاضطلاع بهذه الصدارة على وجوهها كلها، ومنها الوجه السياسي.
وعلى هذا كانت "حركة" هندية الدينية، من قداستها وولايتها الى رهبنتها وعبادتها، باعثاً على بلورة وطنية مستقلة بإزاء الجماعات المسيحية المحلية المتفرقة، وبإزاء التدين الكنسي الكاثوليكي. ولا عجب إذا كان "الاتحاد"، أي الصدور عن معين ملهم أول، سبيل هذه الحركة الى العلانية والعبارة. فالاتحاد من غير واسطة مرئية أو معروفة، أي من غير قيد ورقيب خارجيين وتقليديين، هو المدخل الى إنشاء وإيجاب غير مشروطين. ومن طريقه تستوي الجماعة المتفرقة والمختلفة فاعلاً وصاحب تاريخ. ومن طريقه كذلك يتعالى الفرد، امرأة أو رجلاً، على أوضاعه المقيدة.

السبت، 13 ديسمبر 2008

وجه عمر حرقوص الأعزل والعاري... مسرحاً من مسارح الحرب على "اليهودي

المستقبل، 7/12/2008
يروي "القوميون السوريون"، أو "القوميون – الاجتماعيون" (والعبارة المركبة نقل حرفي عن اسم الحزب النازي الأول: "ناسيونال – سوسياليست"، وكان بعض الكتّاب العرب بين الحربين ينقلون "سوسياليست" بـ "اجتماعي" قبل الاستقرار على اشتراكي)، يروون ضربهم عمر حرقوص الساعة الثالثة والنصف تقريباً بعد ظهر الخميس في 27 تشرين الثاني، "عند تقاطع شارع عبدالعزيز – الويمبي" – وهم يسمون المفترق هذا "ساحة الشهيد خالد علوان"، وحدهم – يروون فعلتهم على نحو يدعو السامع القارئ والمشاهد الى النظر والانتباه. فواقعة انهيال جماعة ، أو زمرة، أو "متحد" في مصطلحهم "العلمي" المتحدر من زعيمهم وفاديهم ومخلصهم، على مراسل صحافي تلفزيوني بالضرب، ليست واقعة، ولا حادثة، بل هي "إشكال". والأرجح انهم يعنون مشكلة، على ترجمة عربية – عربية شائعة تعود، على أغلب الظن، الى اليسار "الفلسفي" وإشاعته مصطلحه في أواخر الستينات ومطلع السبعينات الخالية. والمشكلة هي الخلاف الناجم عن احتمال حال من الأحوال رأيين أو موقفين وحلين. وبيان الجماعة المتحزبة يرد "الإشكال" الى "مشادة شخصية". وتعليل "الإشكال" هذا ينحرف به من كونه سبباً معقولاً، ويعود الى الحال أو الظرف "الموضوعي"، الى نتيجة مترتبة على قصد وإرادة وحساب.

سكوت وروايات

وعلى هذا، فالمشادة الشخصية "افتعلها الصحافي حرقوص". وتعريف عمر حرقوص، الصحافي فعلاً وحقيقة، بمهنته اولاً، وبشهرته أو اسم عائلته ثانياً دون اسمه الشخصي أو الأول، غريب بعض الشيء. فالمهنة باب أو تعريف مشترك وعام يتعدى المرء الفرد، أي عمر، في حالنا أو حال حادثة الضرب. فالمشادة، إذا كانت شخصية فعلاً وحقيقة، فالأصح ان تقع على المرء الفرد أو المفرد. وهو، مرة أخرى، عمر. فكأن في الاسم هذا مسّاً، مذهبياً وطائفياً ربما، أرادت الإذاعة "القومية" تجنبه، وتفادي إيحاءاته و "تردداته"، على قول صحافي شائع. و "الصحافي حرقوص" – المعرَّف بعمومية مهنته وجمعية اسم عائلته – مفتعل شخصي. وما افتعله قصد به، متعمداً، "قومياً". والقومي عمومٌ كله، وجمع أو متحد من غير بقية فردية أو شخصية أو ذاتية، على ما يحسب "القوميون – الاجتماعيون" ويريدون.
و "القومي"، أو مفرد المتحد القومي، لا اسم له ولا هوية خارج نسبه. فهو "أحد القوميين". وأما كيف "نتجت"، على قول البيان، "مشادة شخصية" من لقاء عمومين، واحدٍ مهني عائلي وآخر قومي خالص يتعالى عن المهنة والعائلة والمذهب والموضع، فمسألة تتركها الإذاعة القومية للبيب وفهمه وتكهنه. ويمضي البيان على روايته المعللة، والخالية من العلل على قدر خلوها من الوقائع. فيحمل "الخناقة" الشخصية على "خلفية". وهذه هي ذريعة الخلاف، في لغة العامة الدارجة والسائرة وغير المهنية ولا المتفاصحة. و "الخلفية" هي الفصل الأول المفترض من حادثة الضرب، والداعي الى الانهيال به على "الصحافي حرقوص". فهذا، على الرواية المتعالية، "(حاول) تصوير القومي ضد رغبته". والبيان الإذاعي والإعلامي لا يقول: أراد التصوير، ولا باشره، ولا بادر إليه، على رغم أنف القومي (لا سمح الله، فالقومي، تعريفاً، لا يرغم، وهو "وقفة عز فقط"). فالخلفية الداعية الى "التفجيم"، على قول مدير أخبار "أخبار المستقبل" حسين الوجه، هي "محاولة" تصوير. والمحاولة لا تعصى الصد والامتناع بواسطة غير الضرب القاسي والمبرح.
وعلى خلاف رواية عمر حرقوص، ورواية حسين الوجه، ورواية ثالثة مصدرها مركز "سكايز" (للدفاع عن الحريات الإعلامية والثقافية في الشرق الأوسط)، يغفل البيان الإذاعي والإعلامي، العمدي والقومي، الداعي الى "لقاء" الصحافي والقومي بهذا الموضع، وهذه الساعة، وإلى مواجهتهما الواحد الآخر. فلماذا يطلب عمر حرقوص تصوير أدونيس نصر، "الإعلامي"، بحسب بيان تال أذاعته "عمدة الإذاعة والإعلام في الحزب السوري القومي"؟ وماذا دعا عمر حرقوص، وفريق تصوير "أخبار المستقبل"، الى قصد مفترق شارع الحمرا – شارع عمر عبدالعزيز، حيث كان يقوم مقهى الويمبي من قبل؟ وماذا كان يفعل ادونيس نصر، وربما علي حسن رضا ومنذر الحريري، "المسؤول القومي في منفذية بيروت"، القومية بدورها على الأرجح؟ وما عيَّنه هو، دون غيره من الخلائق، وانتخبه موضوعاً أو غرضاً للتصوير واصطفاه؟
ويسكت "الإعلام" القومي عن اجزاء الحادثة، وحلقاتها، وتماسك الحلقات هذه بعضها ببعض. وتملأ الروايات الثلاث السكوت القومي عن سياق الحادثة، وهو تولي عمال بلدية بيروت إزالة كتابات وشعارات حزبية، قومية، وندب الجماعة الحزبية نفسها الى حراسة الكتابات هذه بالقوة. وتغمط "الإذاعة" القومية الشطر الأوضح والأعظم من الحادثة، أي فعل "المشادة" في طرف واحد من طرفيها هو عمر حرقوص، دون "الإعلامي" و "الصحافي" ("العامل" القومي في مجلة "البناء" القومية) المفترض ادونيس نصر. والأثر هذا ليس رواية ولا خبراً عن غائب أو غيبة، على قول "المعصومين"، بل هو شهود ماثل أو شاهد. والشاهد عرضته شاشات محطات التلفزيون على العيون والأنظار الشاخصة منذ مساء الخميس. فيُرى وجه عمر حرقوص ورقبته على النحو الذي خلفهما عليه "الإشكال"، أي انهيال ادونيس نصر (وبعض الرفقاء؟) بالضرب عليهما، وإعماله جهاز تلفون عمر الخليوي فيهما.
والأثر، وهو آثار: انتفاخ الشفة العليا ورضوض الذقن والأنف والخدين ورضوض عظام الرقبة ووجع الرأس (على قول عمر وقول زوجته)، الأثر الذي خلفه "الإشكال" و "المشادة" و "الخلفية" فادح وفاضح. وجمعه الأمرين والصفتين يذيع من غير شبهة ارتكابه عن أيد كثيرة، وليس عن يدي الإعلامي والصحافي والباني (العامل في "البناء") الأستاذ القومي أدونيس نصر، وحده. فدفع "محاولة تصوير القومي ضد رغبته" لا يقتضي فوق جهر الرغبة المخالفة، أو حجب الوجه، أو الاستدارة، أو التلويح بسوء العاقبة في شر الأحوال. وأثر الضرب انفرد به عمر حرقوص، وخص به وحده، على قول أبي نؤاس. ولا يستقيم في طبائع الطبيعة العضوية والمادية، ولو "مدرحية" (أي مادية وروحية، في رطانة القوم القومية)، ان ينفرد واحد من المتعاركين بأثر "العراك"، على قول بيان العميد جمال فاخوري القومي، الدامي، بينما يلوذ المتعارك الآخر بصفته العصبية والعصبوية، ويبرأ من أضعف أثر مادي، دامٍ، في خلقته وجسمه.

القوة والهشاشة

وقد يعزى، قد يعزو القوميون أثر الضرب الفادح والقاسي في وجه عمر حرقوص الى قوة رفيقهم وأحدهم، أدونيس نصر، الجسدية والضربية، أو الإشكالية والمشادية. وهم قد يعزونه، وهذا أقرب الى "منهجهم"، على قول أحد نوابهم المثقفين، وإلى عقيدتهم المدرحية والتفاعلية، قد يعزونه الى هشاشة وجه عمر حرقوص، وضعف "قوته في نفسه". فالحياة، على قول زعيمهم وقائد انقلابهم الأول، هي "للأقوياء في نفوسهم". وأظنّه زاد: "فقط"، على جاري إنشاء القوم وصكهم شعاراتهم. فإذا اجتمعت قوة الإعلامي فالصحافي ادونيس نصر، وهذه القوة غير معتادة ولا شائعة في أفراد الجسم الصحافي غير العقائدي وغير المقاوم، الى هشاشة وجه عمر حرقوص الإنسانية، عُقل أثر الضرب القومي في وجه الصحافي التلفزيوني والمستقبلي الأعزل والمزمع ان "يفل"، على ما طلب القومي "القوي في نفسه (القومية)"، وبعضلاته وجمعه وعدده.
وتشاء المصادفة الغريبة أن يذيع الرهط القومي الذي حشدته قيادة الحزب لحراسة كتاباته وشعاراته واسم "الساحة" المزعوم والعصبي ("الشهيد خالد علوان")، في الناس المتجمهرين حول الفريق التلفزيوني، وحول رهط الضربة والطَّعَنة، أن من يضربونه هو "يهودي". ويذهب عمر حرقوص الى تعليل "الوصمة" بأن الذين ضربوه، ورموه أرضاً، أخذوا "يصرخون أمام المارة، لئلا يتدخلوا، قائلين: هذا يهودي". وأحسب ان عمر يؤول "صراخ" المعتدين أو صريخهم الحربي تأويلاً ضعيفاً. فقد يكون غرض الصريخ، على بعض التوسع، دعوة الى الضلوع في السحل الجماهيري المتحد والقومي الاجتماعي. فاليهودي، في ملة القوميين السوريين، هو من يحل ضربه ورميه أرضاً، وفي الختام، وربما في أول الأمر واستهلاله، يحل قتله لا لعلة أو سبب غير يهوديته، أو كونه يهودياً من غير صفة أو فعل، على ما ذهب إليه تراث "قومي – اشتراكي" أفضى إلى معتقلات القتل الجماهيري. ومن هذه صفته ينبغي تركه لحاله، وترك السؤال عما يدعو الى ضربه و "تفجيمه"، وجزاء ماذا يضرب ويقتل. فيحل قتل (نفس) اليهودي "بغير نفس ولا فساد في الأرض". وهذا تعريف العصبية الخالصة، والأعرابية المحض. وكان زعيم القوم زعم في تأريخه صدر الإسلام ان "بلاد الشام" حضّرت الفاتحين البدو الخارجين من جزيرة العرب الى الهلال الخصيب، وخلعت عنهم جلد البداوة والأعرابية، ومدنتهم بالمدنية السورية السياسية. وبرهانه على زعمه "الحِلم" الأموي الذي مدحه هنري لامنس، الفرنسي اليسوعي، مديحاً يستأهله، وثنّى سعادة على مديحه واقتبسه.
وها "أبناء الحياة"، على ما يقولون في انفسهم متواضعين، يستأنفون أعرابية أجدادهم ويبعثونها من غير زيادة "سورية" ولا نقصان "بدوي". وهم حين يصفون عمر حرقوص، ووجهه الأعزل والعاري، على قول اليهودي ايمانويل ليفيناس، باليهودي، ويريدون صرف الناس (وربما قوى الأمن إذا وجدت؟) عن حمايته من القتل، إنما يريدون تكرار ما فعله مثالهم، خالد علوان، حين أطلق النار على جنود إسرائيليين جلسوا الى طاولات مقهى "الويمبي" غافلين عن أنهم جنود احتلال عنوة. ولكن حمل عمر حرقوص، أو "الصحافي حرقوص"، على جندي إسرائيلي، أو على يهودي يحل قتله، يدعو الى تعليل قتل خالد علوان الإسرائيليَّ الذي قتله، عند المفترق نفسه قبل نيف و26 سنة، على غير معنى "المقاومة الوطنية" الذي يدعيه أهل عصبيته اليوم. فإذا كان مسوغ "تفجيم" الوجه الأعزل اليوم هو يهوديته، نظير قتل الجندي الإسرائيلي المحتل بالأمس، وفي المكان عينه، فمعنى هذا أن قتل الإسرائيلي يومذاك كان فعلاً عصبياً، الداعي إليه عصبية عنصرية وقومية على السامية، ولم يكن فعلاً سياسياً تصدق نسبته الى "مقاومة وطنية" وليدة.
وشروح الخطباء القوميين السوريين على الواقعة الدامية من بعد، والكلام الى الآن مقصور عليها، تؤيد التعليل هذا. وروى أحد الخطباء، وهو نائب رئيس "القومي – الاجتماعي"، الواقعة وسياقتها، بأحد نوادي صور (في 29 تشرين الثاني) على النحو التالي: "بعضهم في لبنان يعز عليه أو يستنفره ان يرى في احد شوارع بيروت ما يدل على مقاوم أو مقاومة. هناك جهات كانت تعمل على نزع لوحة الشهيد علوان. فحضر عمال البلدية يتقدمهم بعض العاملين في الصحافة وحصل تلاسن مع احد أنصار الحزب الذي ضرب هذا الصحافي". فقطبا الحادثة، وهي جزء من "الحشو والتضخيم والحشد بشتى صنوف الاستفزازات والتوصيفات القبيحة لنبش الأحقاد وإثارة النعرات من دون أي اعتبار لأوضاع البلاد" (بيان العميد الإذاعي والإعلامي القومي)، هما "المقاومة" وأعداؤها، أو عدوها الواحد ولو تلون بألوان كثيرة. و "المقاومة" واحدة في أحوالها وأطوارها كلها. ولا يتطاول عليها، وعلى أحد جنودها ومقاتليها، إلا عدوها، أو خادم عدوها، عاملاً بلدياً كان أو عاملاً صحافياً، تقدم العاملُ الصحافي العاملَ البلدي أم تأخر عنه. فهذا تمويه على القصد، وهو إطفاء نور "المقاومة".
و "المقاومة" هي سلاحها، بديهة. والسلاح لا يتعين: فهو الكلمة واللطمة والرصاصة والبندقية والصاروخ والشاشة والمقاتل والحزبي والقتيل واللوحة والاسم والصورة والاحتفال. وهي فوق هذا الولاء والطاعة والطأطأة والعصبية. ويكرر ناظر الإذاعة والإعلام القوميين بالنبطية القومية الرأي المعروف في السلاح هذا، فيقول: "إن كل ما جرى ويجري من افتعال أزمات داخلية ومحاولة تلوين الصراعات الدولية والإقليمية في لبنان بألوان مذهبية وطائفية، هدفه سلاح المقاومة"، أي السلاح الخميني والأسدي. و "سلاح المقاومة"، وطواقم خدمته، وأجهزة الخدمة وفروعها، تضطلع بمهمة واحدة هي تأبيد "عام 2006"، أي عام انقلاب الجهاز الحرسي "الإسلامي" ("المقاومة الإسلامية" الشيعية والحزب اللهية)، العسكري والأهلي، حاكماً متعسفاً في أحوال لبنان واللبنانيين العامة. ويتولى الحاكم المتعسف الحراسة على إبقاء لبنان "مجتمع حرب" قومياً ومذهبياً، ومسرحاً احتياطياً وفرعياً تستدرج إليه السياستان الحرسية الخمينية والبعثية الأسدية القوات الإسرائيلية، وقوات دولية متفرقة، الى قتال عبثي وغير متكافئ. فتستميلان من طريقه أفئدة الشارع العربي، وصور "الجزيرة"، وتحفزان "عساكر طيبة" في جنبات ديار يعرب ودار "الإسلام". وتسهم السياستان، من الأندلس، غرباً وشمالاً، الى المحيط الهندي، شرقاً وجنوباً، وبينهما الساحة العراقية، في حرب الخندقين والفسطاطين، أو حرب الولاء والبراء.
ووجه عمر حرقوص الأعزل والعاري ساحة من ساحات الحرب الكونية، أو الكينونية، على قول روح الله خميني في الولاية المعصومة، هذه. وهو مسرح من مسارح الصراع العظيم الذي تملأ حوادثه ووقائعه الصغيرة مخيلة الإسلاميين والقوميين العظامية والمحمومة. وتزحف الحوادث هذه من بلدات الجنوب وقراه، حيث تحرق سيارات مناصري أحمد الأسعد، وأحياء المخيمات الفلسطينية الداخلية وملاجئها (وهي ملاجئ في ملاجئ، على مثال غيفاري رفعه ريجيس دوبريه الى مرتبة "النظرية")، الى الشمال العكاري والطرابلسي، حيث ينفخ "حرس الحدود" في قتال الأهل والعصابات. وبين طرفي المسرح ما لا يُحصى من المسارح البلدية والعصبية والشارعية والطالبية. والحق ان القوميين – الاجتماعيين "السوريين" في لبنان يتمتعون بالسابقة، بالسابقية التاريخية على المتحدات الحزبية الأخرى التي يتولون عنها، اليوم، مهمات توكل الى (ذوي) المدي و (حملة) السكاكين الثانوية، على قول فرنسي لئيم.
فمقدمو النهضة، وطلائع الصراع التاريخي من عهد سرجون الأكادي، وأبناء الحياة وأدونيس وعشتروت، وباعثو الأمة الواحدة بين طوروس وزغرس، دأبهم منذ ستة عقود، تنقص سنة واحدة، نسج شبكات ضئيلة يتوسطها حملة المسدسات والسكاكين، واليوم الضرابة بأجهزة الخلوي حين تقع من أيدي أصحابها. وتتولى الشبكات هذه حراسة المراكز، ثم جباية التعويضات بالدولار الأميركي عن حراستها، ثم تفجير زجاجها حين تسنح الفرصة. وتتولى حراسة الأعلام والأعيان والأنصاب والأزلام واللوحات عندما لا تتعقب الصحافيين وتترصدهم، وتستطلع تنقلاتهم، وحين لا "تصفي" "إشكالات" داخلية خلفت أجداثاً على البطحاء بين الحمرا، على الدوام، وبين الساحل الجنوبي وبعض الجبل. وهؤلاء "جزء لا يتجزأ من قوة لبنان ولا يمكن التفريط بهذه القوة مهما تكن الأسباب والذرائع"، على قول الناظر القومي، الإذاعي والإعلامي النبطاني. وهذه "القوة" هي التي أدبت وجه عمر حرقوص الأعزل والعاري.




الاثنين، 17 نوفمبر 2008

انقلاب الأم هندية من مرتبة القداسة الى درك الشعوذة والجريمة... "سابقة" مارونية لبنانية لم تنقطع الى يومنا؟

في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، بين عام 1750م و1779، هزت الكنيسة المارونية والرعايا الموارنة في جبل لبنان والشوف وساحل كسروان وصيدا وطرابلس ودمشق وحلب، وفي روما (من طريق بعض طلبة المدرسة الشرقية)، أزمة حادة كانت السبب فيها الراهبة الأم هندية (حنة) عجيمي، الحلبية المولد والنشأة. وهندية عجيمي هي صاحبة رهبنةً قلب يسوع ومؤسستها، ثم رئيسة دير بكركي، أحد الأديرة الجديدة والزاهرة في عهدها، قبل ان يؤول أمره الى الكرسي البطريركي، ويتخذه البطريرك مقراً شتوياً. و "أمومة" الراهبة هندية رهبنة موقوفة على القلب الأقدس رتبة استحقتها الراهبة المارونية، وأسندتها الى تصوفها ورؤاها، وإلى منزلة من الابن نسبتها الى نفسها، وإلهام فاض عنه إليها، على قولها.
وما كان ابتداؤه رهبنة جديدة، وديراً زاهراً، ومكانة أثيرة من الكنيسة المحلية وأساقفتها، وتوافدَ مؤمنين كثر، وصيتً قداسة، وطلبَ "معجزات" وكرامات وبركات، واعتقاد هذه، انتهى الى تهمة بقتل ثلاث راهبات من أخوات الرهبنة بعد تعذيبهن عذاباً فظيعاً. وتكشَّفَ عن تعسف وقسر قاسيين، وأماط الستر عن أساليب في حكم الرهبنة واستدراج التصديق والتسليم بالكرامات تخالف معايير الرعاية والإدارة الكنيستين الرومانيتين غداة الرد على الإصلاح البروتستانتي. ولما لابست "حركة" هندية عجيمي، وهي جملة أعمالها وعباداتها وكتاباتها (أو "أماليها" – ما أملته على كاتبها أو كتابها)، من إنشاء رهبنة قلب يسوع ثم أخوية القلب الأقدس الى تدبير الدير واستجابة رجاء المؤمنين، لما لابست أحوال الموارنة الكنسية والسياسية والاجتماعية والثقافية ملابسة قوية وحميمة، ترددت أصداء الأزمة في كل وجوه الجماعة المارونية وعلاقاتها، داخلاً وخارجاً.

القضية
فإنزال الأم هندية، من مرتبة القداسة، وهي على قيد الحياة، الى مرتبة النبذ والازدراء خلّف في الجماعة المارونية، وهي يومذاك في طور الانتقال الى مباشرة دور متعاظم في إمارة الجبل الصغير، أصداء أليمة ومحبطة لا يزال بعضها يتردد في نفوس موارنة مؤمنين الى اليوم. وأصابت الأصداء هذه رابطة الكنيسة المحلية، المتحدة بحاضرة الكثلكة وعاصمتها، بالكنيسة الجامعة، في صميمها وقلبها. فالموفدون البابويون هم الذين تولوا تحقيق ما نُسب الى الأم هندية من تهم، وهم من انتهوا الى إدانتها، وإدانة البطريرك يوسف أسطفان وبعض وكلائه وأساقفته. وقامت رابطة الكنيسة المارونية بالكنيسة الكاثوليكية مقام الركن من تجدد الكنيسة المحلية، ومن استجماعها عوامل قيامها بدورها الجديد هيئة تتصدر اجتماع الموارنة، وتربط بين أجزائهم ومراتبهم وبلادهم، وتؤلف منهم جماعة وطنية مستقلة في كنف السلطنة العثمانية.
ولكن نواة "قضية" الأم هندية هي هندية عجيمي نفسها، والراهبات اللواتي حطْنها، وكن "أخواتها" و "بناتها"، ثم صار بعضهن شريكاتها في تثبيت قداستها، وبعضهن الآخر ضحايا هذه القداسة، وضحايا شريكاتها المقربات وشركائها الذين لا يقلون قرباً. فهندية عجيمي عَلَم على حياة اختبرت بعض أقاصي المشاعر والانفعالات، أو المواقف والمقامات التي ترجحت بينها التجارب والأحوال الإنسانية في مستهل العصر الحديث. والمرأة التي عمّرت وناهزت الثمانين (1720 الى 1798) ارتقت معارج التصوف الى ذراها، وسلكت مسالك الرؤيا والعبارة الى ابعدها وأغربها، وانتشت بسلطان التصديق، وانحطت الى درك الشعوذة، وناءت بالشك والمرض والوحدة، وسبقت معاصراتها الى ما لم يدر بخاطرهن من قيام بالنفس ونكصت الى صور وانفعالات بدائية ومدمرة. فكأن "الروح" الذي سكنها، وأمتلأت منه بركة وأعطيات، تركها. فخلف تركه أنقاضاً خاوية ومتصدعة. وحلت محل المرأة الملهمة والمنعمة على معتقدي ولايتها آيات الخصوبة والحياة والصحة امرأة أخرى متسلطة ومراوغة، قادتها ضغينتها، وقادها حرصها على تثمير صيتها، وتثبيت سلطانها على من حاطها، الى قهر وعنف مميتين.
وقد يكون من غريب الأمور، وهو حتماً من أقواها دعوة الى النظر، إغفال الكتابات التاريخية والأدبية والفلسفية اللبنانية قضية هندية، والإشاحة عنها الى أقل منها شأناً وأفقر معنى. وعلى جاري سنة مألوفة تولى كاتب ومؤرخ أوروبي، هو الفرنسي برنار ايبرجيهن، استاذ التاريخ في جامعة تولوز إحياء هذا التاريخ، رواية وتأويلاً، في ضوء محاضر الفاتيكان، ورسائل المبعوثين والموفدين، ووثائق الكنيسة المحلية (في كتابه: "هندية/ متصوفة ومجرمة"، عن دار أوبييه، 2001). ويعود بعث كتابات هندية، أو أماليها، الى ميشال الحايك، في "المشرق" اليسوعية، قبل خمس وثلاثين سنة تامة (في 1965 و1966)، وإلى بطرس فهد في 1972 ("أقوال الراهبة هندية عجيمي الحلبية وترجمة حياتها"). واقتصرت الرواية القصصية على عبدالله حشيمة في "القديسة هندية". (من غير تاريخ).

من حلب الى كسروان
ولدت هندية في اليوم الأخير من شهر تموز (يوليو) عام 1720، في حارة باب النصر بحلب. ورزق والداها، شكر الله عجيمي وهيلينا حوا، عشرة أولاد، لم يبق منهم على قيد الحياة إلا أربعة، ثلاث بنات هن ماريا وهندية ومارغريتا، وولد ذكر، نقولا، وحده من الذكور لم تطله المنية، وكان شفيعه القديس نقولا (من مدينة) بارني. أما الآخرون، فخمسة منهم هم انطون وحنا والياس وقدسية وأنطون (المثنى) وافتهم منيتهم ولما يبلغوا العام ونصف العام. وبلغت سوزانا عامها التاسع.
وكانت ولادة هندية في يوم عيد القديس اغناطيوس. فاستبشر اليسوعيون "الحلبيون"، ومنشئ جمعيتهم اغناطيوس (من بلدة) لويولا، بالمولودة خيراً. وغمست بماء العمادة في 6 آب (اغسطس)، عيد تجلي العذراء بحسب تقويم الكنيسة المارونية. وكان صاحب عمادتها الخوري سركيس الجمْري، أحد طلاب المعهد الماروني بروما، وزميل توما حوا، ابن أخي مطران قبرص جبرائيل حوا، وجبرائيل هذا هو عم هيلينا حوا، والدة هندية عجيمي، وأحد منشئي الرهبنة المارونية اللبنانية في العقد الأخير من القرن السابع عشر (في 1693)، ورئيسها الأول. وبقي اسم هندية، على رغم عمادتها باسم حَنِّة (وهو نظير آن الأوروبي)، من اسماء القديسات على خلاف هندية، عالقاً بها.
وعلى مثال القداسة النسوية المعروف ظهرت "علامات" السعي في الولاية على بنت عجيمي الصغيرة باكراً. فالبنات المنذورات للولاية، وقبلها للرهبنة، يحزمن أمرهن قبل الثامنة. فعليهن، مذ ذاك،ان ينقطعن من حال البنات و "إعدادهن" للزواج والإنجاب. فيخالفن حال صحبهن وأترابهن من سنهن، ويمتنعن وهن بعد "جوار" من استجابة تربية الأسرة لهن التربية المناسبة.
ولم يكن الانقطاع من الدنيا، أو من العالم، الى حياة الأديرة متاحاً لنساء حلب المسيحيات في ذلك الوقت. فمن أرادت الرهبنة كان عليها الإقامة في بيت أهلها، والبقاء فيه، واعتزال الأهل، والانتحاء ناحية على حدة من حياة البيت المشتركة والمختلطة. والحجرة في الدار تقوم مقام صومعة العبادة، ومقام "معمل" تعمل فيه الراهبة، وتكسب معاشها من عمل يديها. وتتردد الحبيسة الى الكنيسة ثلاث مرات أو أربع في الأسبوع، و "تتناول" مرة في الأسبوعين وفي الأعياد. وبعضهن كن يعتنين بالمرضى في بيوتهن، وبعضهن الآخر يعلمن الأطفال والبنات القراءة.
وفي العقود الأخيرة من القرن السابع عشر اجتمعت في حلب نحو خمس عشرة الى عشرين "راهبة" كاثوليكية انتسبن الى الرهبنة الكبوشية. وأرادت فتيات مارونيات من حلب الحذو حذو الكاثوليكيات الكبوشيات. ولكن المطران لم يجز لهن الالتحاق بزميلاتهن، وآثر ان يتوجهن الى لبنان. فلم يمتثلن، واطرحن لباس النساء، ولبسن لباس زميلاتهن. ولما تولت زوجة أحد التجار الموارنة الحلبيين تعليم البنات المارونيات الراغبات في الرهبنة، وهي كانت، أي الزوجة، انتسبت الى رهبنة القديس فرنسوا، فشت الخلافات بين الآباء الكبوشيين وبين الأساقفة الشرقيين، ومدارها على تولي ضمائر الراهبات، وعلى جواز امتناعهن من الزواج من غير ان ينضبطن بنظام حياة الدير. وانفرط عقد الراهبات الكبوشيات بحلب في السنوات الأخيرة من القرن السابع عشر بعد أن اشترطن على الكبوشيين ان يترك إليهن انتخاب "الأم" الرئيسة من غير قيد الأعوام الثلاثة التي اشترطها الكبوشيون.
وجددت بنات ملكيات، كاثوليكيات، حوالى العام 1730 بحلب صنيع البنات اللائي سبقنهن قبل ثلاثة عقود. وتولى آباء يسوعيون، هذه المرة، الإشراف على جماعتهن. ولم يطل الأمر بهن فأعلن على الملأ إرادتهن إنشاء دير لهن في كسروان، على ما صرحت "متقدمتهن" أو رئيستهن ماريا القاري. ولكنهن لم يسعهن مغادرة حلب الى كسروان إلا في 1737، وكانت هندية عجيمي بلغت السابعة عشرة. ومعظمهن كانت تقدمت بهن السن، وتبتلن منذ سنين، وهن أخواتُ رهبانٍ أو خوارنةٍ أو بنات خوارنة. وما أنجزنه، قبل إنشاء الدير، لم يكن قليلاً. فتبتلن، ومجتمعهن لا عهد له بالعزوبية، ولا يقرها. واجتمعن من طوائف مسيحية متفرقة، ملكيات ومارونيات، جماعة واحدة. وخلطن الشعائر الشرقية بطرائق عبادة مصدرها أوروبي. وخلفن وراءهن عالم أهلهن وعصبياتهم ومنازعاتهم الى حيث ينبغي أن يكنّ بمنأوى منها، ولم تلبث هذه أن لحقت بهن وأدركتهن.
ولعل تربية هندية عجيمي قرينة على ترجح بنية الأسرة الحلبية المارونية بين حدي العشيرة المغلقة – أو العائلة المؤلفة من "شيخ" كبير ومن أولاده وأحفاده، فتتشابك رابطة الأخوة برابطة بني العمومة وربما الخؤولة – وحد الأسرة النواتية والمحدثة، المقتصرة على الوالدين وأولادهما، والمشرعة على الخارج وبواعثه ودواعيه. فكان أهل هندية، في اثناء انقطاعها في حجرة البيت، يستقبلون مرشدها الروحي، انطونيو فانتوري، مرة في الأسبوع. ولم يكن مثل هذا الاستقبال استثناء بين عائلات موارنة حلب والجماعة المارونية الحلبية. فهذه الجماعة، ويقدر انها كانت تعد نحو ثلاثة آلاف نفس في مدينة تعد بدورها نحو ستين ألفاً، خرجت من الفقر والحاجة في اثناء النصف الثاني من القرن السابع عشر، الى بعض البحبوحة، من طريق علاقاتها بـ "الفرنج".
وكانت هذه العلاقات سبباً في انتشار التعليم في صفوف أولاد الطائفة وكثرة بناتها، وفي سفر بعضهم في تجارة أو وساطة و "سفارة"، غرباً (شمالاً) وشرقاً (جنوباً). فكان معظم مسيحيي حلب يتناولون طعامهم على طاولات، ويجلسون إليها على كراسٍ، ويؤاكِلون نساءهم وبناتهم. فسبقوا بقرن ونصف القرن ما لم يسع رفاعة رافع الطهطاوي المصري مشاهدته ووصفه إلا في "تلخيصه باريز" ورحلته إليها في 1830- 1831. وأقلع الرجال عن اعتزال النساء في المجلس والمأكل. وتركت النساء الحلف بالله، طلباً للتصديق، إلى عبارة "صدقني"، على ما نقل زائر كرملي.
واختار أهل هندية معرّفاً، يتولى اعترافهم بخطاياهم ويحلِّهم منها، كاهناً من آباء بيت المقدس وليس من الخوارنة الموارنة. وتولت أم هندية، هيلينا حوا على ما مر، تربية بنتها، ديناً ودنيا. فكانت تصطحبها الى المدرسة، وهي طفلة، وإلى الكنيسة. وتلقت البنت الصغيرة عن أمها آداب الجلوس والنظر والكلام والسمع، إلى آداب النظافة والطعام. فنهتها عن النظر الفضولي والثرثرة المسترسلة، ودعتها الى تجنب مواقف الكبر والمباهاة بالنفس أو الكلام بصوت مرتفع يخالطه الضحك، أو التثاؤب والتمطي والنوم على الجنب... ولقنت الوالدة بنتها عن ظهر قلب صلاة "أبانا" وصلاة "يا قديسة مريم" وهي في الثالثة والنصف. ولكن، الأم على رغم ورعها وتلقينها بنتها معاني التقوى وحملها على "كره الخطيئة" وتجنبها، حملتها، من وجه آخر، على اتباع العادات والسنن الاجتماعية السائرة ومماشاتها.

إرهاب الطهارة

ولم تقتصر التقوى على هندية. فشاركها فيها شقيقها نقولا، المولود بعد أخته بست سنين. والأغلب على الظن ان هندية كانت قدوته ومثاله. وتوسم معرِّف الولد، الأب أنطونيو فانتوري اليسوعي، فيه نازعاً الى "القداسة"، فأرسله الى أباتي الجمعية و "جنرالها"، فرنسوا دو ريسّ (ريتز)، وله من العمر خمس عشرة عاماً، وأوصى بقبوله فيها طالباً. وكان نقولا عجيمي، الراهب اليسوعي بعد دراسته بروما، عضد أخته وسندها، وهو اعتقد قداستها قبل ان يرجع في اعتقاده ويقر بانحرافها عن طريق الكنيسة.
وعلى خلاف تعلق نقولا وهندية واحدهما بالآخر، تناصبت ماريا، بكر الشقيقات وشقيقهن، وهندية التحفظ وربما العداء. فكانت الغيرة قاسمهما المشترك. ولما بلغت هندية الرابعة أو الخامسة من العمر، وبدأت علامات تعبدها في الظهور، عمدت ماريا الى اضطهادها وسبها وضربها بالعصا أو بالقبقاب. فإذا انفردت بها في البيت، وغاب الأهل، طردتها. وحين كبرت البنتان، وبلغت هندية الثالثة عشرة، نافست اختها البكر على إعجاب الأهل والزائرين بجمالها وهندامها، وأدلت بعقد ذهبي طوقت به رقبتها. وتقول هندية، على ما نقل عنها معرِّفها في أعقاب سنين طويلة، ان العقد الجميل الذي باهت به أختها انفرط ثلاث مرات، وكادت تتدحرج على السلم المفضي من سطح الدار الى البيت وهي تنزله، بعد مشهد المباهاة والمفاخرة. وهذا على زعمها قرينة على لوم ملاكها الحارس إياها. و "تنبأت" هندية لأختها بزواج عظيم يعقبه فقر وقهر. وصدق توقع هندية. وينبغي ان يُحمل هذا دليلاً على تفوق هندية، والطريق التي اختارتها، طريق البتولية والرهبنة، على الطريق التقليدية التي سلّمت بها بكر الشقيقات.
وتقر هندية، في إجابتها اسئلة المحقق والمستنطق الفاتيكاني الأب ديزيديريو الذي تحرى أحوالها، بأنها خالفت والديها وأوامرهما مرتين. الأولى حين أمرتها امها بأن تأوي الى فراش أبيها، "على عادة تلك البلاد" في البنات الصغيرات اللاتي لم يبلغن السبع سنين، فلم تمتثل. ولم ينفع إلحاح امها. والثانية لما أمرت والدتها خادمة بمرافقة هندية الى المدرسة، فرفضت هذه مرافقة الخادمة. ما دعا الجدة، جدة هندية لأمها، الى صحبة حفيدتها. والمخالفة الأولى تستجيب سعي الإكليروس الكاثوليكي، منذ القرن السادس عشر، في نقض سنّة شائعة يومها (ولا تزال شائعة في جماعات كثيرة) تبيح نوم الأولاد في فراش الوالدين والأهل عموماً (مثل الأخوة المتزوجين والأعمام والعمات...). وعاد مجمع ترانت "الإصلاحي" وختامه في 1564 – وهو كان رد الكنيسة الكاثوليكية على الإصلاح البروتستانتي، الى النهي عن إيواء الأولاد في فراش أهلهم. والحق ان رابطة هندية بأبيها شكر الله عجيمي بقيت غامضة. وبقيت حال الوالد في بيته، وهو المقيم على انتظار ولد ذكر يخلفه الى حين ولادة نقولا، غامضة كذلك.
وتروي هندية في "سر الاتحاد" (وهو "كتابها" في تجربتها الصوفية) انها كانت، وهي بعد طفلة لا تتكلم، تنظر الى السماء فترى "شخصاً ولكن ليس كما (ترى) الأنام البشريين، ويظهر عالياً (عنها)". فكانت تعتبره وتحبه "لأجل عظمته وهيبته، ولأجل اتصافات جماله وبهائه" (في المخطوطة المنشورة بعناية ميشال الحايك: "بهايه"). وروت لأمها رؤياها فقالت: "يا أمي أنا أنظر شخصاً أحبه كثيراً وأخاف منه لما يحكي معي (...) ما كان يدعني أن أسلك كما تسلك الأولاد، لا أزال خايفة ليلاً يأتي إلي ويراني أسلك كالأولاد". وتروي: "لما أمي تنظرني أحياناً ذليلة حزينة تسألني عن سبب حزني والذلية التي تراني بها تظن السبب من حوادث خارجة، فأجيبها أنا: لا بل الذي أحبه، لست أنت تعرفينه، فلم أنظره قط معكم بل دايماً أراه وحده".
وقد يصح تأريخ الرؤيا هذه، إذا قورنت بإقرارها الى المحقق والمستنطق في 1753، بسنتها الثامنة.
وعلى هذا قد تكون الرؤيا أعقبت، وقتاً، مخالفتها أمر أمها بالمأوى الى فراش أبيها. وفي هذه السن أصابتها رهبة جهنم "بنوع لا يفهم" (على قولها في "كشف الأسرار الخفية مما رأته في الخزانة السرية"). ومصدر الرهبة العظيمة ليس النار وعذاباتها على قدر ما هو الحكم في الخاطئات والعاصيات بالإقامة في جهنم مع الرجال. فـ "الخطيئة" العظيمة هي الجسد الجنسي أو المجنس، وآيته الذكورة والرجولة. وروت أنها، وهي في الثامنة أو التاسعة، حالت دون ولوج رجل حجرتها بمؤازرة ملاكها الحارس ومساندته. وكانت مذ ذاك تمتنع من مجرد رؤيا رجل ولو كان والدها نفسه. وتحاشت دخول حجرات البيت إذا اجتمع فيها رجال ونساء وأخذها "حزن وغم وقلق مزعج مما (تسمعه) مما يضاد الطهارة من الحوادث الخارجة"، على قولها على لسان "الذي يخاطبها" وتشك "إذا كان" المسيح أو الشيطان.

التطهر

وأنفت نفسها الطعام في الوقت نفسه. فلم ترض منه إلا الخبز والزعتر. واقتصر تناولها النبيذ على مرتين، ولولا إلحاح أمها لم تشرب هذا السائل المتصل بالرجولة. وأكثرت من "ضروب التزهد وأساليب قمع الجسد وقهره" (على قول الأب بولس مسعد، أحد من كتبوا في الراهبة المحيِّرة). "فأخذت تجمع الحصى والأشواك وتضعها في فراشها، راقدة عليها الليالي الطوال، مسرورة بالأوجاع الشديدة التي كانت تعانيها (...) بل كانت تضع في صدرها شوكاً حاد الأطراف تحمله يوماً كاملاً الى ان يسيل من أعضائها دم غزير...". وآذنت هذه الرياضة القاسية برغبة هندية المبكرة في حبس نفسها على يسوع المسيح ووقفها عليه. وأمكنتها رؤاها، ومخاطبتها الشخص الذي "تنظره"، ومخاطبته إياها، من الخروج على آداب المجتمع المسيحي الحلبي، والاستقواء عليه، وعلى معلّم اعترافها نفسه. فاختطت لنفسها، وهي بنت لم تبلغ العشرين بعد ولم تخرج من حارتها الضيقة في المدينة المشرقية النائية، نهجاً شائكاً وصعباً، وخاضت دونه محناً قاسية.
في عام 1737 ذكرت مصادر مكتوبة متواطئة، إقامة الراهب اليسوعي أنطوني فانتوري (أو فنتوري، على تهجئة "سر الاتحاد") بحلب. وكان الراهب وصل البلاد السورية قبل أربعة أعوام، وهو في الثانية والثلاثين. وفي 1739 أفضت إليه "النظارة" على ضمير هندية. وكان معلم اعترافها قبله يسوعي آخر هو جياتشينتو تريفا. ومدح رئيس فانتوري القادم بتحصيله فهم البلاد وأحوالها على خلاف سلفه. وكانت هندية ابتدأت الاعتراف في السابعة من غير حل او مناولة. ولم تتناول إلا في الثامنة. وكانت مناولتها الأولى عن يد كاهن ماروني، ثم عن يد فرنسيسكاني مقدسي، كانت مناولة أمها عن يده. وفي الخامسة عشرة تولى الاعتراف والحل راهب يسوعي، وحل محله حين ترك حلب زميله تريفا، في 1738.
ولم يأذن هذا التقلب لهندية بالكشف عن رؤاها الى معلمي اعترافها، ولا أسرت إليهم برياضتها الجسدية الدامية، وهي لم تجرؤ على وصف "اعطية" الشخص الذي يظهر لها، وهذه الأعطية هي ظهور الشخص ظهوراً يحيل التخيل إلى إدراك قوي الوطأة، إلا بعد إلحاح الشخص عليها في القول. فكان رأي فانتوري ان هذه الرؤى "شيطانية". وزادها شيطانية في اعتبار الراهب اليسوعي ان الشخص أجرى على لسان هندية "نبوءة" بمحنة يُمتحنها اليسوعيون وجمعيتهم، وكانت الجمعية في منازعة مع بعض دوائر الكرسي البابوي أسفرت عن إجراء قاس في حق الجمعية القوية نجم عنه كسر شوكتها بعض الوقت.
وعلى رغم معاندة الأب فانتوري التسليم السريع برواية هندية وأخبارها، وتشككه في مصدر هذه الرؤى، انتهى الى التسليم بصدقها، في 1742، وإلى الإقرار بـ "كراماتها" التي يسميها، شأن معرَّفته، "أعاجيب". فابتدأ مذ ذاك، وكان انقضى ثلاثة أعوام على قيامه منها مقام معلم الاعتراف، تدوين وقائع عبادتها ونسكها وآلامها وعلامات قداستها. فروى، فيما روى، ان هندية علمت بتعليمه اعترافها وهي في الحادية عشرة من العمر، وكان هو طالباً في مدرسة اللاهوت بروما، ولا علم له ببعثات جمعية اليسوعيين الى المشرق.
ولم تلبث "نبؤات" الحلبية (ولم تكن رسمت راهبة بعد) وحدسها في أفكار الناس، ان رفعت مكانتها من صاحب اعترافها وقوَّت دالتها عليه. فإذا به يدين لها، في شباط (فبراير) 1745، غداة مقتل الأب اليسوعي رومان بدمشق، بطمأنينته الى قداسة زميله القتيل، ويقينه برفعه الى جوار الملأ الأعلى، وذلك تصديقاً بقول هندية. وصدَّق الراهب اليسوعي الأخبار التي أخذ مسيحيو حلب وبعض مسلميها يتناقلون روايتها في أحوال بنت العجيمي الحبيسة وأفعالها. فدوَّن في مدونته ومذكرته ان عمةً لهندية أخفقت في سلق عدس قاس، فما كان من بنت شكر الله إلا أن "سمَّت" على العدس الممتنع اسم الجسد القدوس فلان، فضعف وقَبِل السلق.
وباشر فانتوري تأديب هندية بآداب عبادة منهجية غايتها التمثل بقداسة القديسات المطوبات واللاتي لا يتطاول الشك الكنسي الى قداستهن. والتمثل هذا يقدم المنهاج الصارم على الفطرة وإلهامها وطفرتها. فكانت تقضّي الساعات الطوال في فحص "ما يرد عليها" (على قول الصوفية) من أفكار ومشاعر وصور وكلمات، إما وحدها أو مع صاحب اعترافها، أو تخشع في الكنيسة من منتصف الليل الى الغداة ظهراً. فتعلمت الانتقال من المناجاة بألفاظ وقول الى المناجاة من غير ألفاظ ولا قول، ومن هذه الى الاتحاد الذاتي والقلبي. وأتم هذا التأديبَ بتعليمها القراءة.
فلما كثرت علامات اصطفاء بنت عجيمي، وتواترت أخبار كراماتها وعبادتها، خرجت عن مرتبة العابدات المعروفات بحلب وجمعيتهن الكبوشية السالفة. وهي زعمت انها لم تكن بلغت الخامسة عندما سمعت "هاتفاً" في قلبها يندبها الى إنشاء رهبنة "عن قلب (يسوع)"، وهذه هي "العطية التي أسرتها منذ حداثتـ(ـها)"، الى "حين شاء (الذي تنظره) ان يوضح ماهيتها". فلما بلغت السابعة عشرة أو الثامنة عشرة ظهر لها المسيح، وكان مرشدها "البادري انطون"، على ما تسمي الأب اليسوعي، وأمرها بـ "تأسيس" رهبنة "تتمجد بمحبة قلبه" "وتكون عروسته ويفردها بالتخصيص لجسده المقدس". وحاول اليسوعي ثنيها عن تسمية ما تقول انها وعدت بها "رهبنة"، والاقتصار على "الأخوية". فلم يفلح إلا بعض الوقت. فإنشاء رهبنة على مثال الرهبنات الدومينيكية أو اليسوعية أو الفرنسيسكانية إنما هو وقف على آباء أولياء ثبتت ولايتهم، وأقرتهم الكنيسة ومراتبها عليها. والبنت الحلبية، على رغم كراماتها وصدق عبادتها لا تزال مبتدئة.
وقد لا يكون من المصادفة ان "ترث" بنت هيلانة حوا عن عم أمها، جبرائيل حوا، فكرة إنشاء رهبنة. فعم الأم، على ما مر، هو أحد الذين نهضوا الى تأسيس الرهبنة اللبنانية، وكان رئيسها الأول. وعزم على إنشاء فرع نسائي لها. فندب عبدالله قرألي، في 1699، الى السفر الى حلب والتحري عن المارونيات الحلبيات الراغبات في الانقطاع الى العبادة، وجمع الهبات للقيام بأودهن. ولما كانت آثار الديون التي رتبها خلاف جبرائيل حوا مع الطائفة المارونية، وسجنه وفك سراحه لقاء "بقشيش" باهظ، كانت ترهق كاهل ابن اخيه وبعض أولاد أقربائه، استقبلت الطائفة المارونية كلام العابدة الشابة على الرهبنة ونيتها إنشاء جماعة جديدة، استقبالاً متحفظاً وحذراً. وفي عام 1748 وقع وجهاء موارنة حلب مذكرة ("عرضحال") تندد بالرهبنة اللبنانية وتشكو عسر حال الطائفة في المدينة السهلية والتجارية بعد يسر. والسبب في الشكوى والتنديد ما ترتبه الرهبنة على أهالي الرهبان والراهبات من أعباء ثقيلة أولاً، ثم ما تبعثه من حذر وشكوك لدى الولاة وفي صفوف الأهالي المسلمين، ثانياً.


الثلاثاء، 11 نوفمبر 2008

انتخاب باراك أوباما اثنان... واحد شاركت فيه "جمهورية العالم" وآخر اقترع فيه الأميركيون

الحياة- 10/11/2008
يتفق انتخاب باراك أوباما الى الرئاسة الأميركية وانقلاب العالم أو جنوحه من حال الى حال. والاتفاق ليس مصادفة بل هو مرآة عوامل متضافرة يشترك فيها وجها الاتفاق. فالرئيس الأميركي الرابع والأربعون، ذو السبعة وأربعين عاماً، جمع انتخابه رئيساً تحولين أو انعطافين: الأول داخلي، وهو انعطاف من مجتمع لم يطوِ ذيول تفرقة عرقية تنكرها أصوله ومبادئه الدستورية والثقافية، الى مجتمع ينتخب، من غير تردد بفرق بلغ 6 في المئة من أصوات 64 في المئة من الناخبين رجلاً أسود، أفريقياً أميركياً، مولَّداً، رئيساً على دولة لا يبلغ "اخوته في العرق" فيها 10 في المئة من السكان. والثاني خارجي وعالمي، وهو ما اصطلح على تسميته بصعود الدول الناشئة والأسواق الجديدة، في إطار عولمة شاملة ربطت بين أرجاء الأرض بروابط التجارة والإنتاج والتقنية والصور على نحو وثيق وقوي.

المرآة والأصداء
و "الصعود" هذا لا تحصى القرائن عليه. ففي غضون أقل من عقد، أوله العام 2000، كانت بورصات الولايات المتحدة تتبادل نحو نصف قيمة الأسواق المالية العالمية كلها، ونزل النصف الى الثلث في أوائل 2008. والانحسار الأميركي، النسبي (على المعنى الحرفي)، يندرج في انحسار "غربي". فالبلدان الغنية، وهي على التقريب "مجموعة السبع"، كان حجم اقتصاداتها 70 في المئة من الناتج الإجمالي العالمي قبل ثمانية أعوام. ويتقلص الحجم هذا تدريجاً فيقل عن نصف الناتج في العقدين المقبلين، وعن ثلثه في منتصف القرن، على قول أحد أساتذة الشؤون المالية في جامعة أميركية مرموقة. فيتراءى للمراقب أن "صعود" الأفريقي الأميركي، وتربعه في رئاسة الولايات المتحدة الأميركية، القوة العظمى ولو نسبياً أكثر فأكثر، إنما هو صدى "صعود" الشطر الآسيوي الأفريقي والأميركي الجنوبي الى سدة الكوكب الاقتصادية والسياسية.
وهذا الاتفاق، إذا صدقت الملاحظة، يفترض رابطاً بين الولايات المتحدة الأميركية وبين العالم يجعل من الأولى مرآة الثاني، وحجرة أصدائه. ويبدو هذا الرابط، على هذه الصفة، غريباً بعض الشيء. ففي الأعوام الأخيرة، وليس حدها 15 أيلول (سبتمبر) 2008، يوم انفجار الأزمة المالية وإعلانها على الملأ، بدا أن كراهية أميركا هي أكثر "الأديان" أو المعتقدات رسوخاً وشيوعاً ويسراً. فلا يتلفظ بالاسم حتى تكر سبحة الكوارث المادية والمعنوية: العراق، أفغانستان، فلسطين، أبو غريب، غوانتانامو، التلوث (كيوتو)، الانتشار الذري، المشتقات المالية... وغيرها على شاكلتها. ولا يقتصر هذا على الشرق الأوسط، الضيق أو الأكبر.
وعلى رغم هذا، ففي ختام "سنوات بوش"، المتصوِّرة في صورة قرون وسطى معاصرة وآفلة، تشد الانتخابات الرئاسية الأميركية، وهي الأطول قياساً على مثيلاتها منذ قرن على زعم بعض المؤرخين الأميركيين، طوال 11 شهراً متصلة أنظار الناس في جهات العالم الأربع. ولابست الأشهر هذه حوادث جسيمة، من التيبيت الى الألعاب الأولمبية ببكين، ومن خلافة ميدفيديف بوتين الى العدوان على جورجيا، ومن أزمة الرهون العقارية الى سقوط "ليمان براذرز" وتبدد بضعة تريليونات من الدولارات في انهيارات لم تهدأ بعد. فبدا العالم، عالمنا الأرضي، "جمهورية" واحدة، على قول صحيفة أميركية، تخوض انتخابات مشتركة. فتلاحظ محطة "صوت أميركا"، وهي تذيع برامج بـ45 لغة وتتوجه الى جمهور يعد 134 مليوناً، اهتماماً غير مسبوق. ويتصدر المرشح الأفريقي الأميركي الاهتمام غير منازع. فيقترع له، في استطلاعات الرأي، 70 في المئة من "الناخبين" الألمان، و75 في المئة من "الناخبين" الصينيين. ويكتب أحد محرري "نيوزويك": "تبنت آسيا أوباما ولداً من أولادها بذريعة نشأته الأولى أندونيسيا، ونسبته أفريقيا إليها وحملته على والده الكيني، والشرق الأوسط رأى فيه صورة اسم والده (حسين)".
ويبدو هذا دليلاً لا لبس فيه على مكانة الولايات المتحدة قطباً دولياً مركزياً، وعلى دوام هذه المكانة الى اليوم، على رغم النكسات والخيبات. فـ "أميركا" هي الداء والعلة، ويترتب على انحرافها عن نهجها وتقاليدها تخبط العالم في الأزمات. وهي الدواء والعلاج. ويعوِّل أناس لا يحصون، في أرجاء الأرض، على ربان المركب الكبير الجديد ليعود بـ "الأمة العظيمة" و "الاستثنائية"، والعالم معها، الى جادة الرشد القويمة والسديدة. فكأن من ينتدبون "شيخ" (سناتور) إيلينوي، الخلاسي والمهجن، الى تقويم السياسات الأميركية وترشيدها، بالعودة الى "القيم الأميركية" نفسها واستئنافها ("الناس الذين واصلوا العقيدة الأميركية"، على ترجمة الوكالات الفقرة هذه من خطبة أوباما في 4 – 5 تشرين الثاني/ نوفمبر) ليسوا الناخبين الأميركيين وحدهم، أو "نحن، الشعب" على قول استهلال وثيقة مؤتمر فيلادلفيا الدستوري (1787)، بل هم ناخبو العالم (السياسي) المعولم. وهو عالم كان للأميركيين فيه، بخيره وشره، السهم الكبير. فالقرن المنصرم، على تأريخ الرئيس الرابع والأربعين وتقويمه وعلى تأريخ كثرٍ غيره، "قرن أميركي".
ففي الأعوام المئة وستة من عمر آن نيكسون كوبر – الناخبة المعمرة السوداء التي أدلت بصوتها بأتلانتا بضغط على شاشة، وخصها أوباما بربع خطبته الأخيرة - وسع النساء الأميركيات والسود الملونين الأميركيين الاقتراع أسوة بمواطنيهم، ونهضت النساء و "تكلمن وأدلين بأصواتهن في صناديق الاقتراع" أسوة بالرجال، وسارت السيارات على الطرف ومخرت الطائرات الفضاء، وحين انتشر الركود في الأرض (1929 – 1936) قهر "الشعب" الخوف بـ "عقد جديد" ("نيو ديل") "ومرافق عمل جديدة، وشعور متجدد بالغاية الجامعة"، وحارب "الشعب" هذا الطغيان النازي حين غزا العالم. وقاتل بأوروبا وآسيا "في سبيل إنقاذ الديموقراطية"، وخاض معركة الحقوق المدنية في الداخل وانتصر فيها، "ومشى رجل على سطح القمر، وانهار جدار برلين، واتصل العالم بعضه ببعض بواسطة علومنا وخيالنا". وهذه الفصول والحلقات من تاريخ الأميركيين، يرويها الرئيس الجديد على مثال حكاية عائلية متصلة.

الاستثناء العرقي
وهذه الحكاية لا تنفرد بها "أميركا"، وليست حكراً عليها، ولا يرويها باراك أوباما على هذا النحو. ولكن الشطر الراجح منها (و "الراجح" لتفادي "الأعظم" الخطابية) هو من صنع أميركي حقاً. فالمساواة، على ما لاحظ "فقيه" "الثورة الديموقراطية" ألكسيس دوتوكفيل في 1835، ركن الحقوق السياسية ومقدمتها، هي عقيدة أمة المهاجرين أولاً. وحركة الحقوق المدنية، مقدمة حقوق الإنسان وركنها الفعلي، معينها التاريخي والعملي أميركي. والحركات النسوية تكاد تكون حركات "بلدية"، وعاميات مدينية أميركية. والعقد الروزفلتي لا يزال مثال "اقتصاد السوق الاجتماعي". ومن الحرب الثانية الى انهيار الشيوعية السوفياتية، اضطلعت الولايات المتحدة الأميركية بالدور الأول في مصائر البشرية الاقتصادية والسياسية والثقافية والعلمية والتقنية ("علومنا وخيالنا"، على قول الخطيب مكنياً ومستحياً).
ولا ريب في أن هذا كله، أي العالم الحديث والمعاصر وأركانه، هو ثمرة "الأنوار" (الأوروبية) وذريتها. وشعار حملة المرشح الطويلة والمتماسكة، على رغم استطالتها وجبهتيها الكلينتونية ثم الماكينية، ولازمة الخطبة الأولى بعد الفوز، "في مقدورنا (صنع تاريخنا)"، نازع "الأنوار" العميق الى الاضطلاع بتبعات الإنشاء التاريخي، وتقديم الآتي على الموروث والتقليد والمألوف، والإعداد له والتوجه عليه. والتاريخ الأميركي، المنقطع تكويناً من تراث "النظام القديم" الأوروبي، ومن مراتبه وطبقاته وإلزاماته وقيوده ومحافظته وأهوائه، وسعه إعمال روح "الأنوار"، وإنجاز ثورته المساواة الديموقراطية، من غير القيام على "النظام القديم"، أو الانقلاب عليه انقلاباً دامياً خلف في الأبنية السياسية والاجتماعية، المولودة من الانقلاب، منازعات وضغائن وثارات لم تندمل إلا بعد عقود طويلة. والاستثناء العرقي لا يكذب الحل هذه. فهو، على رغم الفرق والتفاوت اللذين نصبهما في قلب المجتمع الأميركي، أرسى الهوية الأميركية السياسية المشتركة، "البيضاء"، على نقيض اجتماعي وطبيعي تماسكت به، وفي مواجهته، ونهض هو قرينة مزمنة على نقصانها و "تناقضها".
فكان الاستثناء العرقي محركاً تاريخياً لم يكف، الى اليوم، عن دعوة المجتمع الأميركي الى تلبية نداء الدمج والاستيعاب والتمثل الذي يقوم من بنيان المجتمع هذا وتجدده مقام الدورة الدموية من الحياة العضوية. فأمة "الخليط"، خليط الأعراق والطبقات والأمم واللغات، تأتلف من مصادر متفرقة ومختلفة، على شرط أن تتجرد المصادر هذه من فروقها الظاهرة والصلبة، وترضى الاقتصار على المواطنة والهوية الدستوريتين والعلنيتين. وما يعصى الاقتصار هذا، شأن المصدر الأفريقي، والمصدر "الإسباني" الهندي على قدر أقل، يحمله التقليد الأميركي على الانتهاك، ويخرجه من الشراكة الدستورية والوطنية، من الضم والدمج وتوسيع "الحدود". ولكن التقليد نفسه يبقي المصدر الأفريقي، والمصادر "المارقة" الأخرى، على تخوم الجماعة الوطنية، وداعياً مقيماً الى الضم والدمج في صلبها، معاً وجميعاً.
ويلاحظ دارس الاجتماعيات الأميركية، أورلاندو باترسون، أن فوز أوباما بالرئاسة يتوج ظهور طبقة وسطى عريضة من السود الأميركيين، وانخراط هؤلاء في القوات المسلحة. وانتخاب سود الى منصب العمدة في المدن الكبيرة (لوس انجيليس وشيكاغو ونيويورك وأتلانتا...)، وآخرين الى منصب حاكم ولاية (فرجينيا وماساشوسيتس)، واضطلاعهم بدور "رائع" في الحياة الثقافية. وهذا الفصل من تاريخ الأميركيين الملونين، ومن تاريخ الشعب الأميركي كله، يلي فصل "ثورة الحقوق المدنية". وقوض الفصل المدني "نظام جيم كرو"، على ما يسميه الأميركيون، أي النظام الذي حل محل نظام الرق، وأرسى التمييز والإقصاء على ركن قانوني وعرفي لا يتستر على معاييره وقيمه. ويلاحظ باترسون أن الإقرار بالسود جزءاً لا يتجزأ من الجسم السياسي الأميركي لم يؤدِّ بعد لا الى ثبات الطبقة الوسطى السوداء في موقعها وتماسكها فيه – فهي أفقر أضعافاً من نظيرتها البيضاء وأضعف حصانة من التردي والانهيار الاجتماعيين -، ولا أدى الى الاشتراك في الحياة الخاصة ("فالسود هم أكثر الجماعات تزاوجاً فيما بينهم"، والأسود "العادي" لا أصدقاء له من البيض ولا أصحاب، ويترتب على هذا خسارة السود "الشبكات الاجتماعية الحيوية وقسطاً كبيراً من رأس المال الثقافي المتأتي من الاختلاط القريب").
وخص المرشح أوباما هذا الوجه من سيرته، ومن السيرة الأميركية "الفريدة"، بخطبة، في 18 آذار (مارس) ببنسلفانيا، هي من ذرى حملته "الشعرية"، على قول توني موريسون، الروائية الأميركية السوداء ونوبل الآداب. فقال إن فوزه في بعض أكثر الولايات سكاناً بيضاً، أو "بياضاً" على قوله ساخراً ربما، لا يعني أن العرق ليس مشكلة في الحملة، أو ان الحملة الانتخابية العريضة والواسعة لم تتعثر بمشكلة العرق. ولاحظ أن بعض المعلقين رأوا في الالتفاف حوله مسعى من "ليبراليين ساذجين" لمصالحة الأعراق بثمن قليل، رمزي أو أدبي، لا يرتب على أصحابه البيض تكلفة باهظة كتلك التي ينبغي بذلها أو تسديدها لقاء مساواة اقتصادية واجتماعية تامة.
ولا يغفل المرشح، وهو كان يكافح يومها على جبهة المؤتمرات الديموقراطية، رأي قس كنيسته، جيريميا رايت، في "فساد" أميركا الفطري، وفي عنصريْها التي تعصى الطبابة والشفاء. وهو يرد على المَطْعَنيْن والنقدين رداً معقداً، ومتلوياً بعض الشيء، لعله مرآة المسألة نفسها. فيذهب الى أن حاجة أميركا الملحة، اليوم، تدعوها الى الوحدة والتضامن على جبه حربين، وعلى معالجة التهديد الإرهابي، والنهوض باقتصاد متآكل، وإخراج النظام الصحي من أزمته المزمنة،والتصدي لتغير المناخ، الخ. وهذه حجة تقليدية لا تخلو من ديماغوجية في متناول من شاء. وهي تقدم المصلحة العامة والمشتركة، أو دائرة العلانية، حيث يُقر للسود بالمساواة إقراراً متعاظماً، على تمييز "أعمق" ومتغلغل في ثنايا الأنفس. فيقول الخطيب أن جدته البيضاء، لأمه، وهي حضنته، هو ابن الرجل الأسود الأفريقي الكيني، وربته، وارتضت لأجله تضحيات لا تحصى، وأحبته فوق الناس كلهم، هذه الجدة، وحالها هذه، أسرّت الى حفيدها يوماً ان الخوف ينتابها حين تمر برجل أسود في الطريق. ولم تتورع، في أحيان كثيرة، عن ترديد أحكام منمقة في السود وطبائعهم، عرقية وقومية، وجبلّتهم. وهذه المرأة لا يسع باراك أوباما إنكارها أو التنصل منها، فهي جزء منه على نحو ما الجماعة السوداء ("الأمة"، المؤتلفة من النسب الأبوي وأهل الأم الأخوال، على ما كان ماسينيون يردد) والسمراء جزء منه.
ولا ينفي هذا رسوخ التمييز في تاريخ اجتماعي يتناوله المرشح تفصيلاً، ويتعقب إرثه، وينسب إليه جراح "المهانات والشكوك والخوف" غير الملتئمة، وإزمان "ماض لا يمضي ولا ينقضي"، على قول وليم فوكنر، الروائي الأميركي "الأكبر" ربما (وأوباما ينقل عنه قوله هذا في خطبته). ويترجح الخطيب بين معالجة اجتماعية ومؤسسية عامة، تقتضي تعاقب أجيال من الناس، وتمسكهم بإرادة معالجة التمييز وظلمه، وبين دعوة السود الى التخلص من "تواطئهم على أنفسهم ودوام حالهم"، والى ترك الغضب العقيم، الحقيقي والقوي، ونسج الأحلاف في سبيل إنجاز التغيير الذي يحتاج السود إليه. ويعرج المرشح على حال شطر من البيض الفقراء الذين يصيبهم ما أصاب ويصيب السود من ظلم وإحباط، وخشية من المستقبل و "تبدد الأحلام"، ومن ضغينة على "التمييز الإيجابي" الذي يفيد منه بعض السود والملونين. فيطلب الى السود التنبه الى مغزى رفض بعض فقراء البيض دولة الرعاية، وانتفاع السود منها فوق انتفاع البيض الذين يمولونها.
وينتهي الخطيب الى نتيجتين غير حاسمتين: فينيط بترشحه الى الرئاسة الأميركية، وفوزه المرجو طبعاً، خطو خطوة على طريق لأم جراح التمييز الحميمة (ويقول أن ولاية سوداء واحدة لا تستوفي المهمة والعم)، من وجه أول. وينيط، من وجه آخر، يقينه بتخطي المعضلة، بإيمانه بالخالق وإيمانه بالشعب الأميركي، على المثال التنويري والتاريخي الدنيوي والعملي الذي يهيمن على التدين الأميركي، ويصبغه بصبغته. والإيمان المزدوج هذا هو بمنزلة إقرار ببقاء جزء من المشكلة عصياً على الإرادة والعزيمة المعلنتين، وتسليم بعوامل ليس في مقدور التصميم والرغبة وحدهما تطويعها وسوقها، على رغم شعار الحملة، ولازمة خطبها وأناشيدها وبعض أغانيها. فجهر اليقين بالقوة على الفعل، وإسناد القوة هذه الى مضاء الشعب المتكاتف والمتآزر والى هيئاته السياسية وتقاليدها، لا ينفكان من تعويل على الوقت، ومراكمته الإجراءات المتصلة، ودمله الجراح الأليمة، واستيلاده المشاعر المواتية.

التباس سندريلا
ولا ريب في أن مثال السياسة الذي ابتدعه باراك أوباما، وجسده واحتذى عليه معاً وفي آن، مثال يجمع البساطة الى التركيب، ويُعمِل موارد التقليد الأميركي الحقوقي والقضائي. والحق أن سبر معاني الشغف العالمي بحملة أوباما، وبالمرشح وسيرته وخطابته، سبراً دقيقاً، بعيد من المتناول. ولا يبعد أن يضطلع مثال السياسة الإرادي (وليس الإرادوي وعلى الضد منه)، والبصير بالمعوقات والعقد العسيرة والعصية، والداعي الى إجماع موضعي وطوعي وجزئي قبل الإقدام على إجراءات لا يحملها المتعاقدون على منطق "ما يربحه المتعاقد أي الخصم هو خسارة لي وما أربحه أنا هو خسارة يمنى بها هو"، والمعول على الوقت، لا يبعد أن يضطلع مثال السياسة هذا بدور راجح في تأليب جمهور "جمهورية العالم"، وجمعه على الإعجاب بالأسود الأميركي ومباشرته السياسة، وركضه في مضمارها وسبقه فيه. وقد يصح حمل الإعجاب والتأييد هذين على إكبار مثال سياسة ليبرالي وديموقراطي، وإكبار بصيغته الأميركية التي مر وصفها، ونشدانها نفي القسر والتعسف والعمودية من المنازعة السياسية والعامة. هذا إذا صدق أن الإعجاب هو تأييد، وأنه يتخطى الانبهار بحكاية سندريلا أو بـ "حكاية نجاح" اليتيم في العثور على نسب ملكي صريح. فالمثال ملتبس.
وهو قد يحمل على كناية عن بلوغ الفقير والضعيف والمنبوذ سدة السلطان العظيم بالرفق واللين والحيلة، فيمثِّل على حال العالم، وانقلابه من غلبة الغربي والأبيض الى غلبة الملون والمستضعف. وهذا تأويل صراعي على منطق موازين القوة. وهو قد يحمل على نموذج يتيح معالجة الشطط والمظالم والانحراف من طريق المنازعة السياسية والعامة، المنضبطة على قواعد صارمة تقر للمتنازعين كلهم بالحق في الخلاف والعلانية والحماية. وعلى هذا، ينهض الرئيس الأميركي المنتخب نقيضاً أو ضداً للزعماء السياسيين و "الرؤساء" من أمثال محمود أحمدي نجاد (أو خامنئي من ورائه وفوقه) وفلاديمير بوتين وهوغو تشافيز أو إيفو موراليس (البوليفي)، بعد تنحية جوزيف كابيلا وبشار الأسد وموغابي وقديروف وأمثالهم عن المقارنة.
وعلى خلاف التباس دلالة الإعجاب العالمي، واحتماله معنيين مختلفين، تبدو دلالة الاقتراع الأميركي واضحة ولا لبس فيها، تقريباً. فالستون مليون ناخب أميركي الذين أيدوا باراك أوباما – وهم 52 في المئة من المقترعين، وهؤلاء نحو 64 – 65 في المئة من جملة الناخبين – تقاسمهم المرشحان، هم الشطر الغالب من 130 – 135 مليون ناخب أميركي، قسمة عادلة. ففي باب الجنس اختار 49 في المئة من الناخبين الذكور المرشح أوباما، واختار 48 في المئة المرشح ماكين. وعلى حين اقترع 56 في المئة من النساء الناخبة للمرشح الديموقراطي، اقتصر اقتراعهن لخصمه على 43 في المئة. ويتعدى الفرق، وهو 13 نقطة، في الباب هذا الفرق العام، وهو 5 – 6 نقاط (52/ 46 – 47 في المئة) على نحو "غير عادل" أو مجحف. وتنقلب الآية في باب اللون أو العرق. فاقترع 55 في المئة من الناخبين البيض لماكين، وأيد 43 في المئة منافسه الأسود. وتميل الكفة ميلاً صارخاً في بابي الناخبين السود والإسبانيين: فلم يقترع غير 4 في المئة من السود للجمهوري الأبيض، نظير 95 في المئة للديموقراطي الأسود. وبلغ عدد المقترعين الإسبانيين للمرشح ماكين نصف عدد من اقترعوا منهم لمنافسه الملون (66 في المئة). و "الاختلال" الأخير هذا يجري عليه اقتراع من سنهم 18 الى 29 سنة: فهؤلاء انتخب 66 في المئة منهم المرشح "الشاب"، واقتصر من قدموا عليه منافسه على 32 في المئة. فكان الناخبون البيض أعدل فئات الناخبين انتخاباً (في ميزان الأعراق والألوان). واشتط الناخبون السود في ميلهم.
وقد يقيد دلالة الشطط العرقية اشتطاط الشباب، وميلهم الحاد الى مرشح دون آخر. ويقيدها، على قدر أقل، ترجيح النساء كفة أوباما. وتستوي النسبتان، في باب فئة الناخبين البالغين 30 الى 44 سنة، على متوسط الفرق العام: 52 في المئة اقترعوا لأوباما نظير 46 في المئة لخصمه. ويعدل ناخبو فئة 45 – 64 سنة، فيقسمون أصواتهم بين المرشحين قسمة سواء: 49 في المئة لكليهما. ولا يبالغ ناخبو فئة 65 سنة وما يزيد، فيقدم 53 في المئة منهم المرشح المسن (73 سنة) على الفتي (45 في المئة من أصوات الفئة). ويبعث باب المداخيل الاختلال: فمن ينقص دخلهم السنوي عن 50 ألف دولار، وحصة الملونين والنساء والشباب منهم كبيرة، اقترع 60 في المئة منهم لداعية إصلاح الرعاية الصحية عاجلاً. وتقدم أوباما ماكين في باب هؤلاء 22 نقطة مئوية. ولم يرجح ذوو المداخيل المتوسطة (50 الى 100 ألف دولار) والعالية (100 ألف وما يزيد) كفة ماكين، صاحب المنازل السبعة والثلاث عشرة سيارة، على كفة من لم يفرغ بعد من تسديد قرض دراسته في بعض أعلى الجامعات الأميركية مرتبة. فاقترعوا 49/49 و49/50 في المئة.
ووسع المرشح الديموقراطي انتزاع ولايات إلى صفه كانت معاقل جمهورية. فاستمال ولاية نيفادا (5 مندوبين) في الغرب، وكولورادو (9 مندوبين) ومكسيك الجديدة (5 مندوبين) في الجنوب المحافظ و "الرجعي". وأقامت تكساس، وحدها من الولايات الكبيرة (34 مندوباً)، على عهدها الجمهوري الثابت. وكسب انديانا (11 مندوباً) من جديد، والولاية كانت اقترعت لكلينتون قبل أن تقترع مرتين لبوش الابن. والى انديانا كسب معقلين من معاقل الجمهوريين لم يفلح كلينتون في شدهما الى ولاياته هما فرجينيا (13 مندوباً) وكارولاينا الشمالية (15 مندوباً)، وتوج أوباما موجته بصيد ثمين صد كلينتون كذلك هو فلوريدا (27 مندوباً)، ند تكساس تقريباً.
ولكن المرشح الشمالي، وشيخ ولاية إيلينوي، قصَّر عن الفوز بولايات الجنوب الأربع، ميسوري وأركنساو ولويزيانا (وهاتان فاز فيهما شيوخ ديموقراطيون) وجورجيا، الى الشرق، وبولايتي الوسط، كنتاكي وتينيسي. وهي ولايات فاز بها كلينتون الديموقراطي. وكانت وراء زعم راج، وبعث على التشكيك في حظوظ أوباما بالفوز. فذهب المراقبون الى أن المرشح الديموقراطي الأوفر حظاً هو القادم من الجنوب، والقادر على كسب ولايات الجنوب الى صفه. والبرهان القاطع هو آخر رئيسين ديموقراطيين منذ 1968، كارتر وبيل كلينتون، جاءا من الجنوب. ولكن ما قصر عنه الرئيس المنتخب عوضه بعض الشيء بالفوز في كارولاينا الشمالية وفلوريدا، على ما مر للتو. والفوز بـ56 مقعداً في مجلس الشيوخ (من 100)، وبمقعدين من المقاعد الأربعة المعلقة، يقرب الديموقراطيين، وبعضهم مترجح الرأي والاقتراع، من الفوز بغالبية تطلق يدهم في هيئتي التشريع والرقابة.
والمقارنات هذه تنم بصدور النتائج الانتخابية المثلثة، الرئاسية والمشيخية والنيابية، عن تماسك انتخابي قوي، وليس عن طفرة مزاجية أو ظرفية. فشيخ إيلينوي رفع بناءه على بنية ديموقراطية حزبية عريقة، بعثها وجددها وزاد عليها مسحته الملونة والعمرية والاجتماعية. فما يسميه بعضهم "ثورة أوباما" هو، حقيقة وفعلاً، ثورة أميركية تبلورت من تحت، وثمرة حركة انتشرت في أرجاء الجسم الأميركي على مقادير متفاوتة من غير شك، ولكنها لا تخرج على التناسب والتوازن العامين إلا في حال العرق.