السبت، 25 أبريل 2015

وقوف على أنقاض "13 نيسان"... وأوقافه الذُرّية

(المستقبل، نوافذ، 26/4/2015)
  بين وقت وآخر يركب المتنقل في سيارة أجرة عمومية الى جنب سواق "عمومي" (بدوره)، ويلاحظ بعد ثوانٍ من ركوبه وجه السواق الساهم والمنقبض. وتسنح فرصة الحديث أو الكلام، على غير توقع ولا تمهيد. فينظر الرجل الساهم والغائر العينين الى بناء مشرف على الطريق، يدل حَجَره المرصوص والمقصَّب وزجاج نوافذه الواسعة والمظللة على ثراء ونعمة، ويسرُّ لنفسه، من غير مقدمة، ويكاد الصوت لا يسمع:" كان لازم هالبناية تتهدم وما تتعمر". فيسأل الراكب جاره الذي لم يَخْتره وجعله كلامه طرفاً في محادثة لم يردها، ولم يتوقعها: "بتعرف حدا فيها؟". فلا يعير الرجل الثلاثيني أو الاربعيني الجالس وراء المقود، والمتجهم العينين السوداوين والقسمات والخَلِق القميص، الراكب السائل نظرة أو التفاتة، ويقول من غير انقطاع:" ليش لازم الواحد يعرف، كلهم مثل بعضهن، كلهن حراميي ومصاصين دم". وقبل أن يعد الراكب جواباً او سؤالاً أو كلاماً يداري به دهشته وخوفه من الهاوية التي فتحتها نقمة المحدث الباردة والقاطعة، ختم الرجل تأمله: "الحرب كانت أحسن. ما حدا كان يجوع".
حرب غير منكرة




  والحرب الحسنة التي يقصدها السواق، ويراها كافية من جوع ومقتصة من فرق مكانة وطبقة لا يطاق، هي "الحرب" التي مضى قبل أيام على ابتدائها أو انفجارها أربعون سنة تامة، وأحسب ان الشوفير الناقم دخلها وهو في العاشرة من العمر. وبعض الذين احتفلوا بمضي الاعوام الاربعين، أو تذكروا استهلالها المتعارَف والمكرس، شهدوا الاستهلال أو روي لهم، استعجلوا الاحتفال أو التذكر، وطووا هذا أو ذاك. وبعض من كتبوا أو تكلموا (على شاشة صغيرة) في 13 نيسان (1975) العتيد، بدوا أقرب الى التخفف من ثقل الحادثة، وقيامها معلماً على تاريخ لاحق كانت فاتحته أو أرهصت به، منهم الى استعادتها، والتأريخ لها، والتفكير فيها أو تدبرها. وذهب بعضهم (معظمهم؟) الى ان الحادثة المفترضة معلماً او مفترقاً فاصلاً لم تنصَّب على هذه الصفة إلا اصطلاحاً وتعسفاً. فهي، على زعمهم، لم تفتتح زمناً أو حالاً- فـ"الحرب" كانت على قدم وساق، قائمة وقاعدة-، ولم تستبق ختام زمن أو حال- فهي لا تزال مقيمة ومزمنة. وعلى هذا، فليس ثمة ما ينتطح فيه عنزان. وإذا أصرا على الانتطاح أو التناطح فليس ثمة ما... ويمر هذا لا إلى غاية أو نهاية. وفي ميزان الامد الطويل يبطل احتساب النتائج، وليس بين الاحياء من يسعه الشهادة على صواب التوقع أو خطئه، على ما نبه كِيْنز، صاحب الاقتصاديات الاشهر.

 فهل مضت "الحرب" – والمفرد الغريب كناية مغرضة عن كثرة مهملة- وانصرمت وتبددت ولم تخلف أثراً لا في حساب الزمن ووقائعه وحوادثه؟ ولا في حساب المشاعر والاحاسيس والافكار والصور، وما نسميه حياة ونعني به، إذا وسعنا إيجاب معنى، خضماً متلاطماً ولا تسبر قيعانه من الاحتمالات الهاربة والمتجددة؟ وهل انسلت، من غير ان ننتبه او ندري، من خيطان ثوب قديم ومهترئ، فتقطعت نتفاً وذرات وتخفت بين طيات "أثواب" أخرى لا تشبه الثوب القديم ولا تتشارك وإياه معالم تُتعرَّف؟ ولا يقصد بمضي "الحرب" أو تبددها غيبتها عن الحساب والتدبر السياسيين الراهنين، ولا انكماش ظلها عن حوادث الحاضر المديد والمترجح بين دفتي عقد من السنين. فهذا ظاهر. وهو لا يقتصر على 13 نيسان أو "حرب السنتين"، الى "حرب" 1982 التي أجلت المنظمات الفلسطينية المسلحة و"حركتها الوطنية"، وولدت الجماعة الخمينية المسلحة. فسؤال بعض المحاربين القدامى، من الكتّاب على وجه التخصيص، عن رأيهم اليوم في خوضهم حرب البارحة، وانخراطهم المحموم فيها، (وجواب شطر منهم، معظمهم؟ أنهم لا ينكرون حربهم هذه ويرون انخراطهم سائغاً)، هذا السؤال بدوره فقد مسوغه والداعي إليه، ولا يلتفت أحد إليه منذ أعوام طويلة. وهو شأن بوسطة عين الرمان، كفت الصحف عن إثبات صورتها، ما خلا بعض الصحف الاجنبية.

 والقول ان "الحرب" لم تمضِ، وأن معاصريها، على أنحاء المُعاصرة وأوجهها، يحملون ندوبها وأنقاضها الكثيرة، ليس جواباً شافياً (كيف الحكم في الجواب الشافي، والسؤال وصاحبه على هذا الابهام؟). فالحادثة الفاصلة، شأن التقاليد والتراث، وشأن المواضي، ليست شيئاً قائماً في نفسه وبنفسه. فلا تدوم وتبقى وتفعل، على مقادير متفاوتة، إلا من طريق معانيها، وملابسة هذه المعاني توجهات الناس في حاضرهم (حواضرهم)، وعلاقاتهم وأواصرهم ومنازعاتهم. ومن اليسير علينا، نحن المتخلفين والمتحدرين من هذه المواضي، وصل الخيوط التي تربطنا بحوادث ترقى تدريجاً الى 13 نيسان (1975). فالهجرات والأسفار والمَقاتل والمصارع والأتراح والخسائر والولادات والفرص واللقاءات والرجعات، وكلها وغيرها خيوط تعقد بين المصائر والمآلات وبين عللها وأسبابها. والفجوات بين هذه وبين تلك تملأها المصادفات وحرية الاختيار والآراء التي يراها أصحابها إذا لم يكونوا مكرهين على رأي لا يرونه أو على عمل يضطرون إليه.

ذراري اليوم



 ولكنه وصْل، إذا أراده مريد وتكلف مشقته، لا يصل اهل مجتمع بمواضيهم المشتركة أو المفردة وصلاً حياً يتداولونه، ويديرون عليه بعض حواضرهم وعلاقاتهم ومسالكهم الى آتيهم. فبعض من يحاولون الوصْل، ويعلنون محاولتهم أو محاولاتهم، يقولون اليوم أنهم لا يذكرون كيف انقلبوا من عشية "الحرب" الى غداتها، ولم يبق في ذاكراتهم ما يسعفهم على تعقب أثر أو اقتفائه وقراءته. وبعض آخر يحمل أعقاب "الحرب" وذراريها على أوائلها، ويرى حوادث اليوم ترديداً لحوادث بارحات تردد المرسوم الماضية. فكتبت وداد حلواني (رئيسة لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان، وهي ملهمة حملة "حقنا نعرف" وقبلها حملة "تنذكر وما تنعاد" وبعدها حملة "40 الحرب"- فهي على هذا نصب ذاكرة "الحرب" الحي)، كتبت تقول:" أما اليوم، وبعد مرور 15 سنة (...) صار الوطن أرضاً خصبة لتفريخ الحروب، لتأييدها وخندقتها، لتعليقها على حروب الآخرين، تتغذى منها وتغذيها، كأننا أمام تجسيد مذهل لقانون الأوعية المتواصلة...". وتخلص الى ان "المطلوب أصبح أكثر من وقفة رمزية في 13 نيسان. صار المطلوب جردة وطن (...) جردة لما حصل خلال 40 سنة...".

 وفي كلتا الحالين، حال من تبددت "حربه" هباءً يعصى الرسم والجمع والاستدلال وحال من يراها متناسلة في ذراري لا تحصى ولا تنقطع، تتصور "الحرب" في صورة (طارئ) دخيل وغريب حل بنا على رغم منا وكراهة، وقلب أحوالنا رأساً على عقب، ولم يخلف ما نستدل به على إطافته ونزوله وأثره. والحق أن تناول الحروب المتطاولة والمتعرجة التي تنقلنا بواسطتها ومن طريقها بين أظهر أنواع المعضلات والازمات والمنازعات، الوطنية والمحلية والاجتماعية والثقافية والدولية والحقوقية والعسكرية والعصبية والانفعالية واللغوية...، لم يكن يوماً في متناولنا أو متناول مجتمع جماعاتنا، ولم نسعَ يوماً في جعله في متناولنا. وإذا صدق الزعم أن معرفة الافعال الانسانية أيسر على أصحابها وفاعليها من معرفة حوادث الطبيعة المستقلة عن الفاعلين، وجب الاستدراك على القول، والتنبيه الى  ان افعال الناس المشتركة تكاد تكون ولا فاعل لها أو فاعلين معروفين، يعرفون أنفسهم وما فعلوا ويعرفهم غيرهم.

 والذين تبنوا "13 نيسان" ونسبوه، ونسبوا آله (ذريته) الى أبوتهم وأمومتهم، وفاخروا بذريتهم هذه، كثر. وساندت التبني وأيدته كوكبة من الشارات البهية والمعاني السامية. فوعد أصحابُ اليوم العتيد وعداً قاطعاً وملزماً، إلهياً قبل ابتذال الصفة الحسنى والمصونة، بتبديد الغبن، أو بالمساواة الحقيقية و"الاجتماعية"  غير الشكلية والقانونية وحسب. وتوحدوا على مداواة الخوف من طريق إحقاق الحق وإلغاء التفاوت والظلم. وقدموا وطنية صافية- عروبية منفتحة، وحضارية وفلسطينية ديموقراطية قالوا، أممية سمحاء سبق أن حضنت شعوب القوقاز المسلمة برفق، على مذهبية عصبية ودموية فائتة وضيقة. وأوكلوا الى الشعب، المسلح والقوي، وجماهيره المنظمة واليقظة، خوض حروب جميلة تحرر الشعب، وهو يخوضها من تلقائه سيداً متآخياً ومميزاً ببديهته وقريحته العدو من الصديق، من رهاب العدو الكولونيالي والامبريالي والصهيوني.

 فيستعيد صورته عن نفسه، وهويته على الوجه التاريخي الاصيل، والشرعي من بعد، وليس على الوجه المستعار والمزيف، الكفري من بعد. ومضت الوعود والعهود الهاذية والمتعاظمة على نفخها في الشارات والمعاني. واختلطت بالثارات للأرض المغتصبة، والدم المسفوح (والحسيني من بعد) ظلماً، وبانجاز عودة المشردين والمعذبين واللاجئين، المستضعفين من بعد، الى الفردوس المفقود أو الضائع الواحد والموحد. وانتصب البطل (-الشعب) المهدي أو الخراساني من بعد، فوق الجماهير الغفل، وخرج منها خروج الزهرة من الكم، وصرع الكولونيالي الامبريالي، السفياني والاعور الدجال. فلا فقر ولا استلاب ولا تخلف بعد اليوم، ولا عملاء ولا زبائن أو مشايخ نفط ولا كومبرادور.

 فهل صدَّق "الناس" – على المعنى القرآني، أي ملأ القبائل- الوعود والعهود هذه؟ وقد يكون السؤال الوجيه، على خلاف سؤال لا حجة على صدق جوابه، هو التالي: بماذا ملأ "الناس" الوعود والعهود هذه؟ وما هي الاعيان، أو المادة العينية والحسية الملموسة على قول "الجبهة الديموقراطية" يومذاك، التي أدخلوها تحت الشارات والاعلام، وحملوا هذه عليها؟ ويسع من يهمه الجواب جمع بعض القرائن، وتناولها بتعليل أو تأويل لا يقتصر على الرجم. فما أن رفعت "المقاومة"، وهذا اسم ثابت على مر السلالات والسلطنات القاهرة، شارة الحرب المديدة والزاحفة حتى أعربت جماهيرها ومنظماتها عن المادة العينية والحسية الملموسة التي تحسبها مناسبة أو مطابقةً معنى العهد أو التاريخ الجديد والموعود. فإذا بها، المادة العينية، قريبة من نبؤة شوفير السيارة العمومية: "كان لازم هالبلد (وليس البناية) يتهدم وما يتعمر، ليش لازم الواحد يعرف، كلهم مثل بعضهن، كلهن حراميي ومصاصين دم، الحرب (دايماً) أحسن، ما حد بيجوع (فيها)".

 وليس كلام شاهد اليوم استرجاعاً متعسفاً واعتباطياً. ففي أثناء حدوث الحوادث، ووقوع الوقائع، هالت الحوادث والوقائع بعض المعاصرين. فلم تمض اسابيع قليلة على اليوم العتيد، وقبل رفع المتاريس وحفر الخنادق واستقرار الخطوط أو الجبهات، حتى عمت بعض أحياء المدينة (بيروت) وأسواقها المتفجرات، وقطعت بعض الحواجز طرقات الوصل العريضة، واعتلى قناصة بعض السطوح العالية والمشرفة على طرقات الاحياء الداخلية. وحالت دوريات مسلحة مسائية مرتجلة الطرقات والمداخل والمخارج، ودققت في الاوراق الثبوتية، ووضع بعضُها شارات مُعْلَمة على أبواب مبانٍ يقيم بها سكان "مختلطون" (من طوائف دينية غير الطوائف الغالبة في الحي أو الشارع أو المنطقة، على ما أخذ القول يدرج).



الجائزة الكبرى



 وهذه المقدمات مهدت الطريق الى بيت القصيد أو صلب الأمر. فاجتاح اهل الضعف، وعوام الجماعات العصبية وشبانها ("صبيتها"، على قول منظر مكتهل وناضج)، الاحياء والشوارع، و"أطروها" بالحواجز والخنادق والمكاتب والدوريات والقنص، وفتشوا الدور والبيوت، وأنزلوا السكان المشبوهين من غير الملة وأحرجوهم على رجاء إخراجهم الذي لم يتأخر، وأوقفوا الجواسيس المحتملين، وصادروهم على وسائل الاتصال وعلى غيرها، وتحرشوا بالبنات... وهذه الافعال توسعت شيئاً فشيئاً: فاجتازت الفرق الصغيرة والمحلية حدود حاراتها وشوارعها، وانتصبت لتطهير الحارات والشوارع المجاورة والبعيدة. فأغارت على بعضها، وتحللت في غاراتها من قيود الجوار وبعض الإلفة ومن الحياء الذي يصاحبهما. فاحتلت مباني كاملة، وأجلت عنها سكانها الميسورين والاقل يسراً أو يساراً، ونهبت أثاث المنازل، وأجهزة المكاتب والآلات، وسلع المحال.

 وتخطت أجزاءَ الاحياء المتوسطة بين حارات الاهل وبين شريط الساحل والمرفأ والأسواق، حيث الجائزة الكبرى الى المخازن والمصارف. وخطف كثيرون في الاثناء، وأطلقوا بعد وساطة وصفقة، أو قتلوا ثأراً. وأحاطت بأحياء الأهل أحزمة وفسحات أخليت للقتال. والقنص، قبل أن يخلفه القصف بالهواوين وبالمضادات والغراد والكاتيوشا، هو سلاح القتال الاثير. وتبادلت المناطق المهجرين. فتولى المسلحون إسكانها في الشقق المصادرة. واستدعى الاسكان التوسع في المصادرة. واقتضت "الهجرات" العريضة مصادرات نظيرها عرضاً، فنشأ الجناح (على الجهة الجنوبية الغربية من ساحل بيروت، وهي منطقة "البلاجات")، على سبيل المثل، عن هذه المصادرات، ويعزوها رواة شهود عيان الى بعض كبراء حركة التحرير الوطني العروبي والقومي والاممي.

 ودارت "السياسة" في الاثناء على دوام هذه الحال، والمضي على تقويض "تجدد الاجتماع" و"الاندماج الاجتماعي" (في مصطلح الاجتماعيات الهابيرماسية، وليس في المصطلح الحزبي الشيوعي والعالمثالثي الذي سوغ التقويض باسم الثورة على "الدولة" ونظام السيطرة والقمع والاستغلال والتبعية). وحلت هسترة الجسم الاجتماعي والسياسي محل إواليات السلطة والمفاوضة والوساطة والتحكيم والتمثيل والمساومة. فهذه كلها بدت تزويراً لعلاقات قوة متفاوتة وعارية، وإرجاء لحسم مباشر وباليد: فالسطو والسرقة والمصادرة والترهيب والطرد والقتل حق أو حقوق لا تحتاج الى وساطة هيئات أو مؤسسات او قواعد وقوانين. وكل توسيط هو قناع ميزان مائل لا تقوِّمه إلا الحرب الكلية والمطلقة، وعدالتها القاطعة.

 ولكن أحداً لم يقل هذه المقالة التي عصيت القول، وتعصاه اليوم في سوريا والعراق واليمن وبعض لبنان وليبيا و"الدولة" المزعومة، وفي إيران. و"الجماهير" التي تصدرت مصالحها وأهواؤها وثقافتها مسارح الاجتماع (المتنازع) المشتركة، تولت ومنظماتها وقياداتها ونخبها السلطة، وأنفذت أحكامها في أنحاء مسارح الاجتماع كلها. وتكشفت المقالات والبرامج السياسية، المرحلية والاستراتيجية، ومصطلحاتها الوطنية والديموقراطية والاصلاحية والشعبية والوحدوية، عن رغبات لا قاع لبؤسها وتفاهتها وعماها ومباشرتها وأنانيتها وسذاجتها. فهجم أهل الضعف والعوام وسواقط الجماعات ونخبها، تتقدمهم قيادات ومشيخات من الوكلاء وأشباه الوجهاء المحدثين وأنصافهم، على مرافق الاجتماع، وقسَّموها غنيمة فيما بينهم ونفَّلوها، واقتتلوا على تقسيمها ونهبها وخزنها وتوريثها. وتواطأت "طبقات وسطى" متعلمة مفترضة، على الهجوم والنهب والقسمة. ولم يرعها أن 370 ألفاً من فئاتها "العليا"، تعليماً وتأهيلاً، والشابة هربوا الى الخارج، في 1975-1979، ومعظمهم يحمل سمة هجرة دائمة. وهؤلاء كانوا بؤرة نزيف لم ينقطع، حمله العوام وسواقط الجماعات وبعض نخبها على رحيل طابور خامس تخلص الشعب الصميم والمصابر والمرابط في الثغور منه، ومن مفاسده وغربته.

 وما كان لبنية الاقتتال والتناثر أو التشظي التحتية التي رعتها حركات التحرير الفلسطينية في المرتبة الاولى، ووقعت هي من بعد ضحيتها، أن تتعهد تجديد لحمة سياسية واجتماعية وطنية أو أن تؤازر انبعاثها، على افتراض ان ثمة من يجد في نفسه القوة على التجديد والعزيمة عليه. فما تصدع وانهار وهوى في الاعوام القليلة التي أعقبت 13 نيسان 1975، وآذن على أنحاء كثيرة بالشقوق والتصدعات العربية المتناسلة والمتعاظمة، يتصل من طرق كثيرة بنواة السعي "العربي" المتثاقل والمتعثر في اطراح العلاقات العصبية والريعية السائدة والساحقة، وفي إنشاء أبنية عامة ومشتركة محلها. وهذا ما سبق لميشيل عفلق أن سماه، في التماعة حدس فريدة، مسألة "تقدمية العروبة" ("إن معركة عروبة لبنان هي معركة تقدمية العروبة"، على قوله في عبارة نضالية وعسكرية غالبة مذ ذاك).

 وهلل أهل الضعف وعوام الجماعات وسواقطها ونخبها للتصدع والانهيار، ولانتصار بنية الاقتتال والتناثر التحتية وثباتها. فالأبنية العامة والمشتركة، الوظيفية (الانتاجية والاقتصادية والادارية) والرمزية (الاعتقادية والثقافية والتواصلية)، عبء ثقيل على كاهل جماعات تنزع بكليتها وجماعها، اي برسوم اجتماعها وأبنيته، الى الانكفاء على هوياتها والاعتيال من ريوع مكاناتها وولاياتها وحروبها. وحملَ الجماعات إقرارُها بعجزها عن تجديد اللحمة أو استئنافها، وتسلميها بالأمر، الى توكيل من يتولى الامر بالوسائل المتاحة. وتولى الامر، بالوكالة والنيابة من يملك تحريك 30 ألف جندي، وألف دبابة، وآلاف المدافع الى لبنان "المشترك" مذذاك (الفلسطيني - اللبناني  ثم السوري- اللبناني فالايراني – اللبناني أخيراً وليس آخراً)، من غير حساب من رعية السلطان الصاغرة.


 وعلى خلاف تراث عامي لبناني دؤوب نجح في غضون قرنين وبعض القرن في قلب علاقات السيطرة العثمانية العقيمة وإصدار السلطة من تحتٍ مجتمِعٍ ومشترك، صادر الجماعات على السلطة والولاية جهازُ قوة خالصة، تربع في رأس جماعاته الوطنية المتناحرة المنقسمة، وتذرع بتناحرها وانقساماتها الى توحيدها الاداري والقومي قسراً ومن خارج. وها هي تنتضي تناحرها وانقساماتها سلاحاً مدمراً تُعمله في تقطيع "دولتها" ونفسها (أنفسها)، بعد أن رعت في بلاد "13 نيسان" مسخاً على شاكلتها، وعلى شاكلة الحال التي اسهمت في صناعتها. ولكن المسخ يفوقها قوة تدمير ومراوغة، هو المولود من ذرية هذا "اليوم"، ومن ذراريه المتقطعة والمهجَّرة وثاراتها وشهواتها المرسلة. وما يقوله السواق الساهم والمرير يقوله المسخ بملء الفم: "مجتمع الحرب" قَدَر جميل لا راد له الى فَرَج إمام الزمان وقيام الساعة.    

السبت، 11 أبريل 2015

السياسات الوطنية والعربية والدولية ترقص في أعراس دامية كثيرة: كيف بناء الاستراتيجيات في خضم شرق أوسط متهافت؟

12/4/2015

أصاب اجتماع مواقف سياسة أميركية في المرتبة الأولى، وأوروبية من بعد، في وقت قصير، هلعاً في أوساط عربية، سياسية وإعلامية متداخلة. فمنذ أيلول إلى نيسان (2015)، عاقبت سياسة أوباما جون كيري بين 1) قصر تدخلها العسكري في سوريا على حماية كوباني (عين العرب) الكردية من السقوط بيد «الدولة الاسلامية»، وتجنب الاشتباك مع قوات بشار الاسد في شمال شرق البلد؛ و2) مضيّها في الوسط والشمال العراقيين على حماية مواقع البيشمركة الغربية على الحدود بين الانبار ونينوى وسنجار وبين كردستان، وعلى إنجادها حملة استعادة تكريت المتعثرة بصدارة «الحشد الشعبي» الشيعي والحرسي الايراني و»بمظلومية» العشائر السنية الاهلية؛ و3) سكوتها عن استيلاء الحوثيين المتواطئين مع الرئيس السابق علي عبدالله صالح على صنعاء بالخديعة، ثم بالقوة «الثورية» والعسكرية، أو مغمغتها الكلام ودعوتها الاطراف إلى استئناف الحوار، قبل إجلائها خبراء سلاح الطائرات من غير طيارين من قاعدة العند في وسط اليمن حين توجه الحلف الحوثي الصالحي إلى محافظات الغرب والوسط والجنوب؛ و4) اجتهادها الديبلوماسي الملحوظ في مفاوضة الفريق الايراني على بنود اتفاق نووي «تاريخي» يقر بحيازة النظام المذهبي والبوليسي الخميني مؤهلات تقنية وصناعية تخول تعريفه بقوة العتبة (النووية)، ويسعى (الاتفاق) في تقييد النظام أو تثبيته عند هذه العتبة.

فلما اندلعت عمليات «عاصفة الحزم»، وأبدت الولايات المتحدة رغبتها في المشاركة من خلف، اختلطت عناصر هذه السياسة، ودخل بعضها بعضها الآخر. وبدا أن باراك أوباما يرقص في ثلاثة أعراس وليس في عرسين وحسب. فهو دان اقتصار رد بشار الأسد على باكورة حركة أهل الضعف السوريين، على القمع والاعتقال والخطف والاغتيال، وأسهم في إقرار بيان جنيف، ودعوته إلى مرحلة انتقالية تتولى فيها الحكم الفعلي هيئة مشتركة من النظام والمعارضة، فتمهد لإخراج طاقم الأسد الأمني والعسكري من السلطة، وتحفظ تماسك هذه وأجهزتها، وتحول بينها وبين الانهيار، وتطمئن الشطر العلوي من السكان و»القيادة» إلى بعض الحصانة من تصفية الحساب، في آن واحد. ولكنه رضي، في صيف 2013، وبعد ارتكاب قيادة النظام جريمة الغوطة الشرقية، بمراقبة البرنامج الكيميائي الاسدي، وتعاون شعبة الصناعة الكيميائية مع موظفي الامم المتحدة. وفي الاثناء، أي في غضون 2012 وأوائل 2013، أشرف الجيش السوري على الانهيار، وخسر عشرات الآلاف من الجنود والضباط الذين أبوا الانقياد إلى أوامر القتل وقنص الأهالي والفرز المذهبي، من غير أن ينشأ في المقابل قطب سياسي وعسكري متماسك. فيرد (القطب الجديد) على تفكك القوات المسلحة الوطنية المعنوي والمادي والاخلاقي وعلى عنفها وتمييزها الأهليَّيْن والجهازييْن الاخرقين، بمثال يخالف تقاليد هذه القوات وولوغها الطويل في طاعة عمياء وخرساء.

والحق أن نكوص الحركة العامية السورية عن بلورة مثال سياسي وعسكري ومعنوي رادع، ولا يحاكي البنية العصبية والبيروقراطية القمعية التي أرستها الانقلابات الناصرية والبعثية العلوية طوال نصف قرن سوري مظلم، هو ثمرة عوامل وتيارات ثقيلة أخذت بخناق المعارضات الكثيرة والمتفرقة، «الشعبية» والاهلية التحتية وكذلك «النخبوية» المنبرية المنظمة والمجربة على حد سواء. فالخلافات والفروق ذرت وتشعبت فلم يبق موضوع لم تصبه الخلافات والفروق هذه: من تعريف هوية الحركة العامة (إسلامية أو عروبية أو سورية) ومقاصدها وغاياتها (مدنية وطنية أو شرعية دينية) إلى برنامجها (مرحلي واصلاحي حوكمي أو بنيوي وسياسي شامل) ونهجها (سلمي أو عنيف وصدامي) وصداقاتها وأحلافها (الداخلية والاقليمية والخارجية). وعجزت الحركات المحلية والمتناثرة عن ايجاب معايير القيادة، على معنى مؤهلات الحكومة، من الدالة إلى التحكيم إلى التأليف والحسم. وهذه المعايير، وهي أقرب إلى الفن منها إلى التقنية، لا تخترع ولا ترتجل فجأة، ويقتضي نضوجها سنوات طويلة من التجريب والتعميم وصوغ ثقافة مشتركة تصبغ بصبغتها وجوه التدبير والانفعالات.

ولم يمهل القمع الساحق والمتحدر من عقود من الاستبداد والاذعان الحركة الوليدة. فتفرقت مئات الفرق والجماعات، وتناثرت شراذم وفتاتاً. وضوت أخلاطاً متشابهة من العصبيات والاهواء والمصالح والاحلاف والولاءات والامزجة. وغلبت عليها العداوات، وعداوتها الاولى للأجنبي الغربي أو الاميركي والاوروبي، بعد عداوتها للنصيري الرافضي الصفوي، فوق القرابات. وتصدرت الفرق والجماعات السورية، المعارضة والمتحاربة، أشرسها وأقربها إلى تجسيد نقيض النظام ونظيره وصنوه الشبيه، أي الجماعة التي ولدت الجماعتين التوأمين والمتقاتلين، «النصرة» و»الدولة الاسلامية» («داعش« سابقاً). وكان على الرئيس الاميركي، القائد الأعلى للقوات المسلحة، أن يحسم، في خضم هذا الوضع المبهم المعاني، أمرَ عملية عسكرية تؤدي حتماً، بحسب رئيس هيئة أركان جيوشه، إلى تهافت بنيان «الدولة» الاسدية المترنحة والمتصدعة، من غير ان يسع «قطب» المعارضات وشراذمها المتناحرة والمتقاتلة الخلافةَ على بنيان الدولة، والاضطلاع بالانتقال إلى كيان غير متشظ. ويُلاحظ من غير شك أن «الدولة» الاسدية المفترضة لم تحل دون اشتداد عود الدولة الاسلامية في العراق والشام، في غضون السنة الفاصلة بين جريمة «القيادة» في الغوطة وبين إعلان البغدادي المزعوم خلافته الموصلية، وإطاحة الخليفة «الراشد» الاول والجديد حدود الدولتين الوطنيتين. ولم تحل، كذلك، دون سطو الفصيل «الجهادي» الارهابي والمسلح على مرافق نفط ومواصلات وجمرك وتجارة وصناعة وتهريب في الدولتين الوطنيتين الجارتين، ولا دون عموم القتل والاقتتال والسلب والدمار والتهجير مسارح «الدولة» الرسمية ولا مسارح «الدولة« الاسلامية. واستوت «الدولتان» في توحشهما وانقلابهما أرض سيبة أو سباء.

فيجوز أن يخلص المرء إلى ان خشية أوباما، ومعه ديمبسي رئيس أركانه وجون كيري وزير خارجيته وهاغل وزير دفاعه يومها، من انهيار «الدولة» السورية الرسمية تحت وقع الضربة المزمعة، وإمساكه عنها جراء احتسابه مآلها المروع، لم يكونا (الخشية والامساك) ملائمين. وهما لم يحميا «الدولة» الرسمية من التصدع، ولا رعيا السوريين وكيانهم من السباء، ولا حملا «القيادة» الكيماوية على المفاوضة مفاوضة جادة على «الانتقال» إلى دولة «عادية». ولكن هل يُخلص من هذا إلى ان الضربة الاميركية، لو حصلت وصدعت الاسد ونظامه، لكانت وقعت برداً وسلاماً على «سوريا»، وألفت بين الجماعات المتقاتلة، ونصبت المعارضة المدنية والديموقراطية في سدة دولة متآخية الجماعات؟ أو هل يخلص من هذا، بعبارة خالية من المجازات، إلى ان انهيار الاسد لكان ابتدأ مرحلة انتقالية منضبطة على معيار مدني وسياسي وطني معقول؟

والظاهر أن الامساك الاوباموي أخطأ الحساب، فلا هو حَصَر الاقتتال والعنف، ولا حملت القيادةُ العصبية (ولا الجهاز الحرسي الخميني ولا قيصر عموم روسيا) الامتناعَ من إسقاطها على دعوة إلى تقليص القتل المستشري والسعي في لجم سلطان شرس وتمدينه بعض الشيء- وغذت عودة جون كيري إلى الكلام اليائس على «مفاوضة بشار الاسد «في نهاية المطاف»، بعد اعتبار دي مستورا أن الاسد «جزء من الحل (على طريق تجاوز العنف وإنهائه)»- وأراد طرفا الحل المفترض ألا يسمعا الجزء الثاني من الجملة الطوباوية في الاحوال كلها-، غذت العودةُ الافتراضية شكوكاً هوجاء في غايات أوباما الاميركية ونهجه وكلبيته. وتبددت الوقائع السورية والاقليمية والعربية، والتباساتُها التي لا تحصى، ولم يبقَ من الاعوام الاربعة المنصرمة إلا أوباما ذو الوجهين (اختصاراً وكناية) والجلدين واللونين واللسانين... فهو رقص في العرس (الدامي) السوري دورين أو دبكتين: واحدة مع «دولة» الاسد وثانية مع المعارضات التي استثنى منها «الدولة» و»النصرة»، وهما يكادان يختصران ما بقي من «الثورة« أو الخروج على السلطان الارهابي.

ويصدق هذا على سياسة الرجل، ودولته، في المسارح الاخرى، ولو على وجوه مختلفة. فهو غادر العراق لما رفض نوري المالكي - ومن ورائه هذه المرة المرجعية والفِرق «المهدية» أصولاً وفروعاً وآية «فيلق القدس»، والملجأ السوري الذي يأوي إليه عزت الدوري ونقباء النقشبندية - إحصان الجنود الاميركيين من الملاحقة القضائية العراقية واستثناءهم من القانون العام. فجمعَ تحت راية الكرامة والاستقلال الوطنيين الفرق الشيعية المتناحرة. وتخفف هو، أوباما، من أثقال حملة عسكرية برية باهظة التكلفة، على الوجوه كلها، أرادها سلفه حرباً، بل «صليبية» في سبيل «حرية لا متناهية». وانقلبت احتلالاً غريباً وعجيباً: فهذا الاحتلال حرر العراقيين، أو الشطر الاعظم منهم، من استرقاق صدام حسين وعشيرته وحزبه و»دولته» لهم؛ ودان له بالاستيلاء على السلطة، وقهر «العدو» السني قهراً لا دولة من بعده، الفريقُ الذي انحاز جزء منه إلى محاربته جنباً إلى جنب «المقاومة» القاعدية والبعثية ورفع لواء إجلائه بالقوة والمتفجرات المصنعة محلياً عن العراق «المحتل». فبقي من هذا، و»هذا» لا يزال سائق المنازعات العراقية الداخلية وملابساتها الاقليمية في كنف المرجعية والمهدية والحرسية، بقي الاجفالُ الشديد والمتحفظ من العمليات البرية على مسرح حرب خُلْوٍ من دولة وطنية تضبط ملاحمه وإحنه وحزازاته على مصالح تقبل التعريف.

فلا سبيل إلى صوغ «عقيدة» منهجية في السياسة الخارجية (الاوسطية)، على قول أوباما في أوائل الاسبوع المنصرم، بهذه الحال إلا بالتعويل على تعريف المصلحة الوطنية (القومية) الاميركية تعريفاً ضيقاً ومنزلياً، واستبعاد «القيم»، على قول هنري كيسينجير، وزير الخارجية إبان الانسحاب في فيتنام والاعتراف بالصين القارية والشيوعية (وتقويض كمبوديا ورعاية بينوشيه والانسحاب من «بريتون - وودز»...)، لائماً ومندداً. وعلى هذا، قدّمت السياسةُ الاوباومية محاربةَ «الدولة الاسلامية» وإرهابها المتفشي والباهر على إسقاط «الدولة» الأسدية، وإرهابها «المقتصر» على بعض الاراضي الوطنية وبعض الارض اللبنانية. وهذا التعريف ظالم وأناني ومجحف و»لاإنساني» على ما وصفه سوريون وغير سوريين كثر. وهو قد يلد فوضى اقليمية عميمة فوق ما يلد ضبطاً دولياً. ولكنه، رغم ذلك، يستقوي بمعيار يلجم التمادي مع جموح العنف إلى الاقاصي المرسلة. وإذا جاز العيب على الرئيس الاميركي قوله أنه لا يرى مسوغ تقديم نجدة الضحايا السوريين على ضحايا حروب الكونغو الاهلية والاقليمية ( وسقط منهم في 1998-2003 نحو 3 ملايين ضحية، 145 ألفاً من المقاتلين، ومذ ذاك لم ينفكوا عن التعاظم)، لا مناص من الاقرار بـ»عقلانية» مقالته المكيافيلية. وتقضي هذه بحكمٍ أو رأي في مادة لا يحصر التباسها واختلاطها، بينما موارد الدولة المدعوة إلى التحكيم والتدخل والانقاذ المفترض محصورة وفي الامكان إحصاؤها.

وفي أحوال العراق وسوريا ولبنان وإيران (النووية والاقليمية)، وعلى قدر أقل في مصر وليبيا وتونس من قبل وفي اليمن اليوم، وعلى رغم التشابه غير المحكم الذي يصبغ السياسات الاميركية، يُرجح أوباما كفةَ «الدول» ، القريبة من الفشل والمروق أو الموشكة على الوقوع فيهما، على كفة الحركات الاهلية المعارضة والموشكة على الوقوع في أحضان الحروب الاهلية والميممة شطر الارهاب «الجهادي» عن قصد وتصميم. فبعض التحفظ عن الانخراط في إدانة أنظمة بوليسية ومتسلطة إدانة رأسية، قد تقود إلى عمليات عسكرية، قد يكون مصدره هذا الترجيح، والمقارنة بين هذه «الدول» وبين الحركات الاهلية المتمادية في عنفها، والخالية الوفاض من عوامل ضبط العنف. فـ»الدول»، ولو كانت على مثال إيران الخمينية وانقيادها الأعمى والمدمر إلى المثال الامبراطوري والسلطاني، تتمتع بحدٍ أدنى من التماسك «يؤهلها» إلى الحصار والقصاص والحساب والعزل، وإلى الضربة المركزية القاضية في نهاية المطاف. وبعض الميل إلى المنظمات الإخوانية، والأدق القول: بعض التردد في إدانتها ابتداءً ومبدئياً، وربما إلى الجماعات الاهلية الحرسية مثل «حزب الله» لبنان و»أنصار الله» اليمن و»الدعوة» العراقية، وهي نشأت قبيل الوصاية والقيادة الايرانيتين، مرده كذلك إلى تماسكها المركزي وقابليتها للمفاوضة العملية والارتداع. ويدعو هذا إلى التقليل من «سذاجة» ميل أوباما إلى الشيعة أو ثقته «فيهم» على ما حسب معلقون غربيون.

ولا يصنع باراك أوباما، حين يزجي بعض المديح (لـ) علي خامنئي، وإجازتِه موافقةَ الوفد الايراني المفاوضة على «معايير» اتفاق نووي، إلا الاقرارَ ببعض بنود «عقيدته». وهذا شأنه حين يدعو الحكومات العربية إلى «تعزيز الحياة السياسية في بلدانها» ومجتمعاتها، وإلى محاربة «الانتهاكات الفظيعة لحقوق الانسان (وقتال) الاسد وأفاعيله». وتترتب مواد «العقيدة» على تشخيص مضمر يحمل الأبنية السياسية والاجتماعية العربية، والشرق أوسطية من غير شك، التبعات الاولى عن مصائرها إلى الحروب الاهلية والمذهبية، وإلى الارهاب وصنوفه (وفيه الارهاب الأهلي والاجتماعي الحرسي الذي مهد الطريق إلى الارهاب «الجهادي»)، والحروب الاقليمية و»الفتوحات» بواسطة العصابات و»القبائل»). ويحجم أوباما عن اجتياز العتبة التي اجتازها جورج بوش الابن، لفظياً وكلامياً حين دعا إلى «بناء» «شرق أوسط كبير»، وعملياً حين بادر إلى ابتداء طريقه ببغداد ومنها. فغزا عراق صدام حسين، وكسر صندوق الشرور الذي حسب قراقوشات المنطقة أنهم أغلقوه على الحروب الاهلية، وصنوف الارهاب والعداوات الوطنية والاقليمية والتاريخية والثورات المجهضة.


و»الحل» الآخر كان ترك صدام حسين مستوياً على عرش العراق، ومعه السادة النجب الآخرون، وذراريهم وحواشيهم وموظفوهم «إلى الأبد». هل قال أحدهم: إنها حال موقوفة لا يقطع فيها برأي من رأيين مخالفين وقاتلين؟ ويقال أن من جملة ما غلط فيه أبو بكر البغدادي (ابراهيم عواد ابراهيم بوبدري بن عرموش من عشيرة البوعباس من سامراء)، أو أبو حمزة المهاجر، جزمَه في 2012 بأن «المهدي سيظهر في أقل من عام... ما دعاه إلى القول بأننا سنملك الارض كاملة في أرض الرافدين في غضون ثلاثة أشهر، فأصدر أمراً بالنزول في الساحات وعدم الانسحاب لمدة أسبوع...» (عن قاضي «تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين» وقاضي «الدولة الاسلامية في العراق»، المعتصم بالله أبي سليمان العتيبي)