الأربعاء، 21 أبريل 2010

ربط واشنطن سطوة التطرف بتعثر الحلول الإقليمية تشمل تبعاته الدول المتنازعة كلها

الحياة، 21/4/2010

تلقى المواقف والتصريحات الأميركية التي تربط معالجة المسألة الفلسطينية (العربية) – الإسرائيلية بمصالح الولايات المتحدة الإقليمية والدولية، وبأثر المسألة في حظوظ السياسة الأميركية العسكرية من النجاح على مسارح مكافحة الجماعات الإرهابية - تلقى ترحيباً عربياً رسمياً وإعلامياً يكاد يكون عاماً لولا تحفظ إيراني تعلنه طهران و «وكالاتها» المحلية إعلاناً صاخباً. وتتوالى المواقف والتصريحات هذه فصولاً منذ تنبيه قائد القيادة الوسطى الجنرال ديفيد بترايوس في جلسة استماع بواشنطن، في 16 آذار (مارس)، الى ان دوام النزاع وتعثر حله، الى انخراط الولايات المتحدة في التوسط فيه وفي ميادين قتال شرق أوسطية وإسلامية قريبة، تعرض الجنود الأميركيين، وسياسة بلدهم الساعية في حلول سياسية وطنية، الى أخطار إضافية وعرقلة متمادية.

وفسر المراقبون على المعنى نفسه ما أعلنه الرئيس الأميركي مباشرة في مؤتمر الأمن النووي بواشنطن في 13 و14 نيسان (ابريل). فقال ان «المصلحة الحيوية» للولايات المتحدة تقضي بتقليص حدة النزاعات الإقليمية تمهيداً لحلها. وعلل مصلحة بلده بقوتها العسكرية الدولية، وبحشرها في النزاعات وإلزامها الانخراط فيها، مضطرة، حين انفجارها. «وهذا يؤدي الى ثمن باهظ نسدده دماً وموارد». وكررت وزيرة خارجية أوباما، هيلاري كلينتون، في الأسبوع نفسه، تسويغ الدعوة الى الحل، والإلحاح فيه، بالقول ان إرجاءه، والتسويف فيه، يقويان «دعاة الحقد والعنف، و (يعززان) قوة الرئيس الإيراني المعادي للسامية والمتطرفين» من أمثال «حماس» و «حزب الله». وكان ديفيد بترايوس نفسه يكرر، في 16 نيسان، ان «دوام النزاع العربي – الإسرائيلي يسهم في تكوين مناخ معاد في منطقة تخوض فيها القوات الأميركية حربين، بأفغانستان والعراق»، وأن التعثر على طريق السلام يغذي مساعي المتطرفين، ويسمم «المناخ» في المنطقة.

وإلى ربط المسؤولين الأميركيين المتواتر انخراط بلدهم في الحلول السياسية للنزاعات الإقليمية والمحلية الوطنية بمصالحهم الوطنية، ومسوغات هذه المصلحة وضروراتها، فهم يحرصون على رهن الحلول ونجاحها بـ «قرار» المتنازعين و «رغبتهم» في بلورة الحلول، والاضطلاع بتبعاتها. وشاهد أوباما من وزير خارجية جورج بوش الأب، وراعي خطوات مؤتمر مدريد الأولى، جيمس بيكر، يذهب الى ان الأميركيين لا يسعهم ان «يرغبوا في السلام فوق ما يرغب فيه» المتنازعون والمتقاتلون أنفسهم. وهو ما كررته وزيرة الخارجية في افتتاح مركز دانيال ابراهام للسلام في الشرق الأوسط، وصدّرت به خطبتها.

والحق ان عناصر سياسة أوباما وفريقه، اليوم، مستقاة، على هذا القدر أو ذاك، من «خطوط» سياسة الرئيس الأميركي الحادي والأربعين الموسومة بـ «الواقعية». ولا يقتصر الأمر على دعوة جورج بوش الأب في افتتاح مؤتمر مدريد في أواخر 1991، المتحاورين والمتفاوضين على الاضطلاع بالحوار والمفاوضة «مباشرة»، على قوله، والتخفف تدريجاً من الوسطاء، وأولهم الوسيط الأميركي. فهو حاول، في العام التالي، التخفف من التوسط في نزاعات البلقان عشية انفجار الاتحاد اليوغوسلافي. ونبه الى مواقف دولية متناقضة، بعضها دعا الولايات المتحدة الى الانخراط في النزاعات القومية والأهلية المتخلفة عن الحقبة السوفياتية، وبعضها الآخر نعى عليها التدخل والتوسط، واتهمها بالانحياز إلى أنصار التفتيت الوطني، أو التجزئة في مصطلح عربي، وإلى أداء دور «الشرطي» الدولي.

و «تخطى» بعض السياسيين العرب النازعين المتناقضين. فدعوا الى وساطة «نزيهة»، ولا يزالون يدعون إليها. وقوامها «الضغط على إسرائيل». ويتيح اشتراط النزاهة الجمع بين طلب الالتزام الأميركي، بذريعة دالتها على إسرائيل ومساندتها لها، ومهاجمة السياسة الأميركية المتغطرسة والمنحازة الى إسرائيل والحض على «مقاومتها»، من غير استبعاد السلاح الأعمال الإرهابية تحت ستارة حرب التحرر الوطني.

وينطوي الرأي هذا، وهو يصدر عن رأي عام في العلاقات الدولية، على التباس لا تسلم منه السياسة الأميركية نفسها وليس لها ان تسلم منه. فالمسؤوليات الدولية أو العالمية الأميركية حقيقة أو واقعة سياسية وعسكرية واقتصادية وتقنية (تكنولوجية) وثقافية ثقيلة تتولاها السياسات الأميركية المتعاقبة، على تنازع بين الاعتزال وبين الاضطلاع بتبعات «الاستثناء» الباهظة. ومؤتمر الأمن النووي الأخير بواشنطن قرينة قوية على مترتبات المكانة الأميركية، على نحو ما ان ضآلة «مؤتمر» طهران قرينة جيدة ومؤسفة في آن على عزلتها في عهد رئيسها الحرسي. وحين يقرر أوباما اضطرار بلده، القوة العسكرية الكبيرة، الى التدخل في النزاعات فهو يعزوه الى ان بلده «لا(يزال) دولة عسكرية قوية»، مهما كان رأي الأميركيين في تبعات قوة بلدهم العسكرية («بغض النظر عن رأينا»)، على قوله. وهذا رد صريح على دعاة العزلة ودعاة الاستثناء و «الرسالة المسلحة»، جميعاً. فهو يدعو الأولين الى تحمل المسؤولية عن الدور الأميركي العالمي والمتعاظم العولمة، وكان هؤلاء حملوا العولمة المسؤولية عن الإرهاب وهجماته و «كره أميركا». ويدعو الآخرين الى حماية المصالح الأميركية العالمية من غير التخلي عن معيار المصلحة الأميركية الوطنية، وعن التقيد بهذا المعيار في معاملة أقرب الأصدقاء والحلفاء، وإسرائيل في صدارتهم من غير شك.

وربما يهمل الترحيب العربي بعض الشيء دلالة الرابط الذي تقيمه السياسة الأميركية وتوجبه بين حماية مصالحها الوطنية وبين الإسهام في حل النزاع «العربي» – الإسرائيلي، ومضمون هذا الرابط. فهذا الرابط ينبغي حمله على عالمية القوة الأميركية، ومسؤولياتها ومصالحها المترتبة على مكانتها. وعلى هذا، فهو لا يُحمل لا على الصداقة الأميركية – الإسرائيلية، ولا على دور الولايات المتحدة في «إعالة» الدولة العبرية وضمان أمنها، ولا على عدالة القضية الفلسطينية – على حسبان الاعتبارات العربية وبعض الاعتبارات الإقليمية-، من غير إهمال هذه العوامل أو إغفالها. وسابقة جورج بوش الأب، ووزير خارجيته جيمس بيكر، في 1991، أي التلويح بتقييد ضمان القروض الأميركية الكبيرة الى اسرائيل اذا مضت على عرقلة الإعداد لمؤتمر مدريد، وهي السابقة التي يحلم «رأي عام» عربي بتكرارها، لم تخرج عن إطار الرابط ودلالته. وتوسطت الديبلوماسية الأميركية يومها وساطة قوية في مسألة ورطتها فيها سياسات إقليمية خرقاء، لم يكن التباس مصالحها بالمصالح الإسرائيلية في عدادها أو من بينها. وبعض الدعوات «العربية» الى وساطة «نزيهة» لم تحجم عن التوسل بـ «النزاهة» الأميركية الى الاستقواء بها، وبمفاوضة الأميركيين الى عقد صفقات على حساب الدول والقوى الصغيرة الجارة واقتسام النفوذ الإقليمي مع الدولة العبرية.

ويهمل الترحيب العربي كذلك اشتراط السياسة الأميركية على الجانب العربي، وهي تلوح بتقييد شطط الجانب الإسرائيلي ودعوته الى قبول مبدأ التسوية ثم تسويات جزئية، شروطاً غير يسيرة. وفي سابقة بوش الأب وبيكر، ينبغي التذكير ربما بأن القروض أو الائتمانات الكبيرة، نحو 10 بلايين دولار ، كان غرضها استقبال المهاجرين اليهود الروس وتوطينهم في مستوطنات، الضفة الغربية والقدس الشرقية. واشترت السياسة الإسرائيلية استيطان الوافدين الجدد لقاء انقيادها الى ما فيه مصلحتها، المشتركة مع المصلحة الأميركية. وهذا ثمن أضعف من الثمن المعنوي والسياسي المطلوب من بعض المفاوضين الفلسطينيين والعرب. ويتصدر الثمن المطلوب النزول عن «حق العودة». وتعلن بعض الأطراف العربية، وأولها سورية الأسدية، رفضها التقيد بمترتبات وساطة اميركية «نزيهة» تتضمن فيما تتضمن، وعلى خلاف «مكاسب» المفاوضة مع بيكر في 1991، انسحاب سياستها من فروعها الفلسطينية واللبنانية والعراقية.

ولا ريب في ان القواسم المشتركة، الأميركية والإسرائيلية، تتناول فك المسألة الفلسطينية، وفروعها العربية الباقية، من ارتهانها الإيراني و «الإسلامي» المتفاقم. فالسياسة الإيرانية جعلت المسألة الفلسطينية مطية أولى من مطايا أغراضها النووية والإقليمية والداخلية (تحصين طاقمها القيادي المضطرب). وهي نجحت في توسيط المسألة العربية الأولى، وإعمالها في إنشاء ولايات وأحزمة بعيدة تأتمر بأمرها، وتقوم مقام مسارح حرب بديلة أو فرعية تبادر طهران إليها، أو تسوغها وتتوسل بها الى إعلاء مكانتها قوةً إقليمية مقتدرة. وعلى رغم الفرق الكبير في الاستثمار في المسألة الفلسطينية، وفي الفلسطينيين، لم يقتصر التوسل والامتطاء على ايران الخمينية والحرسية وولاياتها، ولا على سورية الأسدية في عهديها ووكالاتها، بل تعدى «الدولتين» الى «قاعدة» بن لادن و «قواعد جهادها» و «دولها الإسلامية» المزعومة وجماعاتها المتقلبة والمتحولة في أواني «الجهاد» المستطرقة وخدماتها هنا وهناك، في العراق والأردن ولبنان.

وتجمع الكتل الثلاث، طهران وولاياتها ودمشق ووكالاتها و «القاعدة» وأذرعتها، على فرق ما بينها واختلاف مصالحها وسياساتها في بعض المسارح وتناقضها في بعضٍ آخر، تجمع على الأخذ بجدل «العدو الخارجي» و «العدو الداخلي»، بحسب تمييز وربط قاعديين يكثر أيمن الظواهري من استعمالهما على خطى «أمميات» ومنظمات «عالمية» سابقة وحالية. وترعى سياسات الكتل الثلاث، على مقادير متفاوتة، ربط الحرب «العالمية» على «الغرب الأميركي» و «المتصهين» بالخروج على أبنية الدولة الوطنية، بذريعة حلّ الدولة الوطنية وأجهزتها ووظائفها في تبعيتها للقوة العالمية العظمى، وفي طاقم الحكم «العميل». ويحمل النهج هذا القوى المتفرقة والمختلفة التي تنتهجه على إرساء العلاقات السياسية الداخلية («المنزلية») على الحرب الأهلية، وانتهاك سيادة الدول. والمزاودة على الانتهاك (ومن بعض فصول المزاودة الأخيرة تشهير العولقي، من «القاعدة»، بالجماعة المسلحة الشيعية في لبنان). وتتخفف العلاقات الإقليمية والخارجية من ضوابط العنف، وتسعى في الانتشار النووي والصاروخي، وفي استتباع مناطق نفوذ، وتغذي الحروب المحدودة وغير المتكافئة. وتعول في أفعالها وخططها ومقاصدها على تورط واشنطن، القوة العظمى، في المنازعات المحلية والإقليمية، وفي التحكيم الدولي.

فينشأ عن هذا نظام إقليمي هجين وموازٍ، من دول وأشباه دول ومنظمات أهلية معروفة ومعلنة وجماعات مسلحة سرية وغامضة الهوية، يحضن أنواعاً مركبة من «الكائنات» السياسية والأهلية والعسكرية والأمنية. وتتحدى هذه «الكائنات» النزعات الوطنية والإقليمية الساعية في بلورة أطر تقر بغير الحرب أداة سياسية، في الداخل الأهلي وفي الخارج الإقليمي والدولي. والنظام الهجين والموازي هذا يضيِّع المسؤوليات، ويهرب من المحاسبة، ويدمج النزاعات المختلفة بعضها في بعض، ويحول دون استقرار السياسات الوطنية الداخلية على تقاليد وأعراف تكبح جماح التعسف والتسلط، وتحضن نمو قوى اجتماعية متماسكة، وتمهد لعلاقات تجمع المنازعة الى التحكيم والتأليف.

والذريعة الفلسطينية التي ينوه أوباما ووزيرة خارجيته، بعد بترايوس قائد قيادته الوسطى، بضرورة نزع فتيلها والحؤول دون تسميمها بالعنف العلاقات الإقليمية، لم يقتصر إعمالها على طهران وطاقمها الحاكم، ولا على سورية ونظامها، أو «القاعدة» وأذرعتها. فهي نافذة فرص «إسلامية» عامة. ومنها دخل، أخيراً، قادة حزب العدالة والتنمية التركي، أو هم يحاولون الدخول منها. و «إشراقات» رجب طيب أردوغان «العربية» ليست بشير خير وفأل. فالحزب الإسلامي المعتدل لا يمتنع من إعمال «الموارد» الفلسطينية (والعربية والإسلامية تالياً) المتحصلة من وساطته المعلقة في المفاوضات السورية – الإسرائيلية غير المباشرة، ومن تنديده بحرب إسرائيل و «حماس» في غزة، وإحجامه عن الاضطلاع بتبعاته عن أحوال العراق، ولا يمتنع من توظيف الموارد هذه في سياسات داخلية وإقليمية حزبية ومشكلة. فهذه المكاسب ليست جزءاً من مثال سياسة إقليمية ينبغي أن تؤدي الى إحاطة تركيا بأصدقاء،وحسب. وإنماهي شطر راجح من برنامج سياسي داخلي يرمي الى إحلال غلبة حزبية واجتماعية مختلطة محل غلبة بيروقراطية متصلبة وشائخة،والى مقايضة القومية العسكرية التركية الآفلة بقومية «عثمانية» تحابي بعض بلدان الجوار وشعوبه، وتترك مخلفات المرحلة العثمانية – التركية (الأكراد والعلويون والأرثوذكس والعلمانيون في الداخل والأرمن وقبرص وقره باغ في الخارج) معلقة ومترجحة. ويستر الحزب المتردد المسائل الحاسمة هذه، وتركة التصدي لمعالجتها، بانتصاراته الفلسطينية والعربية، وينازع القاهرة على وساطتها الفلسطينية إمعاناً في إبراز ثقله المفترض.

والمقارنة بين أنقرة وطهران (ودمشق) عَرَضية وسطحية من غير شك، ولا تساوي بين أطرافها. وإهمال أردوغان مؤتمر «صديقه» النووي أحمدي نجاد أمارة صريحة على التزام الأول منطقاً سياسياً متعارَفاً على حدوده الدنيا. ويسوغ المقارنة موضع المسألة الفلسطينية، في صيغها السائرة، من استدراج سياسات مختلفة وتسعى في غايات متباينة وربما متعارضة، الى ركوب المركب الهجين، الأهلي والقومي والوطني والإقليمي والعالمي، المفضي الى مزج النزاعات، وتضييع المسؤوليات، والحض على استشراء عنف في الأحوال كلها. وأياً كان الموقف الأميركي، ورأي الإدارة «الشخصي» أو حتى السياسي في نزاع من النزاعات، فالمصلحة الوطنية الأميركية تدعو القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية والأمنية العالمية، الى رعاية أطر داخلية وإقليمية يعوَّل عليها في تقييد النزاعات، و «تصفيتها» من الهجنة والتداخل المعميين، وتحديد المسؤوليات، ولجم تناسل العنف ومسوغاته. وهذه مصلحة وطنية أميركية تلتقي ومصالح وطنية وإقليمية ودولية جامعة. وجزء من تبعات المصالح هذه، وهو جزء ثقيل، يقع على عاتق «العرب»، شعوباً ومجتمعات ودولاً. والاستقواء بـ «الرابط»، وقبله الاستقواء بـ «تقرير غولدستون» قبل نسيانه، لا يقيت من سياسة مسؤولة.

الحادثة الإرهابية برواية "بناية يعقوبيان...سيرة الفتى العامي طه محمد الشاذلي من غير ابتلاء ولا اختبار

المستقبل 18/4/2010
يدخل طه الشاذلي، ابن الشاذلي بواب عمارة يعقوبيان وأحد سكان "فوق سطحها المستقل تماماً عن بقية العمارة"، دائرة القص واقتفاء الخبر من باب سهره طوال الليل الى "الإيذان بصباح جديد" بينما لم ينفك "ضوء صغير شاحب... ينبعث من نافذة حجرة" البواب. ويتصل تقرير الواقعة الطبيعية والفلكية بتفسيرها وتعليلها. فيكتب علاء الأسواني تتمة الجملة: "... حيث كان ابنه الشاب طه قد قضى ليلته ساهراً...". والتتمة التالية: "... من فرط القلق" لا تتأخر، على شاكلة سابقتها، وتعقب على السهر الليلي الطويل، ودوران الليل والنهار، بتعليل نفسي. ويتوسط الإعلانَ عن القلق الداعي الى السهر الطويل، وتسويغه، انصراف الشاب الساهِر والقلِق الى الصلاة ثم الى تلاوة الأدعية، على السرير ولابساً جلباباً أبيض، في كتاب "الدعاء المستجاب"، وسؤالُه "ذا الجلال والإكرام" و "وجهه الكريم" الخير والحراسة والمغفرة والإقبال والضحك والرضا والرحمة في "هذا اليوم". وتختلط قراءة الأدعية بـ "أصوات وصياح وضحكات وسعال وأبواب تغلق وتفتح وروائح ماء ساخن وشاي وقهوة وفحم ومعسل" معاً.

تنزل الخارج

وصاحب القص ومقتفي الخبر – وهو من رأى الصباح الجديد ينفجر، على قول عربي بائد أو منصرم، ولاحظ الضوء الصغير الشاحب ينبعث من نافذة حجرة البواب، وانقضاء الليل على ابن البواب المسمى باسم نبي الإسلام ("كقولك يا محمد بلسان الحبشة" عن ابن عباس) من غير نوم، وسمعه يقرأ الدعاء في كتاب أدعية معروف وشائع بعد قيامه الى صلاة الفجر، وحدس القلق في نفس المصلي الساهر، ووصل القلق بـ "حيثيته"، وتناهت الأصوات الى سمعه والروائح الى خيشومه... – القاص والمخبر هذا لا يعلم قارئ الرواية كيف علم ما يخبر به، ومن أي وجه بلغه علمه أو علومه. فهو يقص من أنحاء كثيرة، وأوقات متصلة، معاً. فلا يعقل ان يكون فرداً قاراً بموضع أو محل، وملازماً "وجهة نظر" يلم منها بشطر من المرئيات والمسموعات والروائح، وسابراً دواخل طوية من الطوايا المطوية (تعريفاً) ووجدان من الوجدانات، أو مؤوِّلاً حركات وسكنات أو حادساً في بعض معاني ما يرى ويسمع ويشم ويحس. فلا ريب أنه كثير في واحد... وعلى هذا، فالقص ينزل أو يتنزل على القارئ من خارج غير متعين يلم بالأوقات والأحوال والأماكن والسرائر كلها، من خلف وقدام وفوق وتحت وبطن وظاهر. وكان جان – بول سارتر نعى، في باكورة مقالاته النقدية، على روائيين فرنسيين معروفين روايتهم ما يروون من خارج متعال ومفارق إلهي (حرفياً: "من وجهة نظر الله"، وهذا يتناقض)، على خلاف الروائيين الأميركيين المعاصرين، المنحازين الى موضع ووقت وعلم لا يتعدونها ولا يطّرحون قيودها ورسومها، على شاكلة جون دوس باسوس في ثلاثيته "يو إس إي" أو وليم فوكنر في "الضجيج والغضب" (أو ما اصطلح على ترجمته بهذا).
ويقدم راوي "عمارة يعقوبيان"، في صفحات القصة الأولى، لحادثة سهر طه الشاذلي طوال الليلة هذه، وعشية فحص كلية الشرطة أو "كشفها"، بالتأريخ للعمارة عموماً، ولسطحها على وجه الخصوص. والتأريخ، على طريقة الراوي، يبدأ من "الأول". والأول هو "فكرة" فكرها عميد الجالية الأرمنية بمصر، في 1934، هاغوب (هاجوب) يعقوبيان، وأوكل إنفاذها الى مكتب هندسي إيطالي. وفكرة المليونير الأرمني وَلَدت "تصميماً جميلاً" عن يد المكتب. وينتهي الى القارئ من الجمال الممتدح نسبةُ المبنى الى "الطراز الأوروبي الكلاسيكي الفخم". ويتداعى الوصف بالكلاسيكية الى "التماثيل الإغريقية"، وهو تداع لغوي أو لفظي، والى "الرخام الطبيعي". وينعطف الى "المصعد ماركة شندلر على أحدث طراز". واسم ماركة المصعد، والمصعد كله من عناصر المبنى الداخلية وغير المرئية، وغير المحتسبة تالياً في الجمال ولا الكلاسيكية ولا الاتحاف، أي الاسم الصناعي هو الواقعة المتعينة الوحيدة في صفة العمارة أو المبنى. وحين أنجز المبنى حلَّ به مستأجرون هم "صفوة المجتمع في تلك الأيام". وبنيت على السطح 50 غرفة حديدية خزن فيها المستأجرون المواد الغذائية" والثياب المغسول، وبيَّت فيها بعضهم الكلاب.
والفصل الثاني من تاريخ السطح، ومن تاريخ مصر كلها، ابتداؤه هو ثورة 1952. وغداتها هاجرت الصفوة. وهي من "اليهود والأجانب"، وليس فيها "وزراء وباشوات من كبار الإقطاعيين"، على حسب إحصاء الراوي المؤرخ قبل صفحة واحدة (ص20)، تشاركوا الإقامة مع "اثنين من مليونيرات اليهود" و "رجال صناعة أجانب" يليقون بتعريف ماوتسي تونغ البورجوازية الوطنية بـ "الكومبراردور"، أو اهل الوساطة والحاشية وخدمة رأسمالية الحواضر الغربية. وولاة الفصل الثوري، وأهل قوته، هم ضباط القوات المسلحة. "وكانت كل شقة تخلو بهجرة اصحابها يستولي عليها" ضابط من هؤلاء. واستجد استعمال جديد لغرف السطح صحب التجديد الطبقي والاجتماعي والسياسي الذي تولاه الضباط، من "ملازمين ونقباء" و "لواءات": "فصارت الغرف الحديدية مبيت السفرجية والطباخين والشغالات الصغيرة والمجلوبات من قراهن"، وكان الباشوات والأجانب واليهود يتورعون عن "(تصور) إمكانية نوم أي إنسان في غرفة ضيقة بهذا الشكل"، فكيف بإلزام "الإنسان" المبيت أو قسره عليه.
والفصل الثالث هو "الانفتاح". وحَمَلَ العهد الاجتماعي والسياسي الجديد "الأثرياء" على ترك "وسط البلد"، حيث العمارة، الى الضواحي الغنية والفخمة. وربما فات الراوي، العجول واللاهث، ان يقص على القارئ كيف انقلب الضباط من الرتب كلها، في غضون العقدين تقريباً، أثرياء يسمون بحالهم جديدة من غير تمهيد. فهم بقوا ضباطاً، على رأسهم اللواء الدكروري، زيادة في التعيين ولكي لا يحسب القارئ ان الكاتب يخبط على غير بينة (شأنه في "وصفه" العمارة الكلاسيكية والإغريقية والرخامية)، وأقاموا على حالهم الى السطر الذي سبق "حديث" الانفتاح. ومهما كان من امر الانقلاب الاجتماعي الخطير، وحصوله في غفلة من التأريخ والقص، فهو أدى الى انقطاع "الصلة شيئاً فشيئاً بين الغرف الحديدية وشقق العمارة". فأقام في الغرف على السطح "فقراء جدد" جاؤوا من الأرياف، وهم "يعملون في مكان ما في وسط البلد"، على قول الراوي المؤرخ والمدقق المحيط بأطوار السكن وموجات السكان ودوائر نزولهم وعملهم. ويتناول الراوي أحوال "الرجال جميعاً" من موجة اهل السطح الأخيرة، كفاحاً وإنهاكاً ومتعاً (ثلاثاً). ويثنّي بتناول أحوال "النساء جميعاً"، حباً للجنس وتهامساً بأخباره واستحماماً وتعطراً. ويجهر الراوي قصوره عن (نقل) تعبيرات وجه امرأة فوق السطح، صباح الجمعة، عندما ينزل زوجها لأداء الصلاة وتغتسل..."، فيوكل بالأمر، تواضعاً، "رساماً بارعاً". والروائي ليس إلا روائياً، ولا يتوقع منه تصوير "تعبيرات" وجه المرأة، ولا جسدها المنسي، ولا تصوير المعاني والخواطر والمشاعر التي تضطرب في وجدانها. فهذه مهمة "عالم نفساني" بارع.

الواحد... جميعاً

ويخرج الراوي من عموم التاريخ الاجتماعي، وتعاقب فصوله وحقباته العريضة المروية من خارج غفل وانتقائي، الى التدقيق في واحد من سكان السطح هو طه الشاذلي، على ما تقدم. وطه هذا، الساهر وقارئ الأدعية المستجابة والقَلِق، مرد سهره وقلقه الى بلوغه اليوم، وهو ابتدأه بالصلاة والدعاء، "الحاجز الأخير في سباق الأمل الطويل... بأن يكون ضابط شرطة". فهو أحد ابناء الجيل الثالث من "سكان" العمارة. وتناولُ القص واحداً فرداً، وليس جيلاً من الناس أو جزءاً من طبقة اجتماعية، لا يدعو الراوي الى تخصيص الموضع الذي يقص منه ويطل على "جزء" من المشهد او السياقة او الحوادث التي يأتلف القص منها. فالواحد الفرد، طه الشاذلي، يتناوله القص "جميعاً"، شأن كتلة الرجال وكتلة النساء في مجتمع سطح العمارة المستقل والمنفصل. والواحد الجميع كتلة لا تتميز أجزاؤها، ولا فرق بين الجزء والجزء الآخر منها. والمعنى الغالب على الكتلة، فرداً أو جمعاً، يغلب عليها كلها مرة واحدة، ويختصر أحوالها في حال متصلة يكني عنها الراوي بـ "سباق الأمل الطويل"، وعلته الغائية أو التمامية: التربع في مرتبة ضابط شرطة. وينصرف المتسابق الآمل الى غايته، وقبلة سعيه، لا يلوي على أمر أو شاغل آخر.
وهذه حاله "منذ الطفولة". والأرجح انها حاله قبل الطفولة، وقبل الولادة، وسبقه إليها والده، بواب العمارة، وكانت في بال الوالد "فكرة" أو "حلماً" قبل ان يعهد بها الولد، وهو ورثها عن والده، على خطى رسم اجتماعي غفل، الى المراحل المدرسية لتخط هذه "تصميمها الهندسي"، على شاكلة عمارة الثري الأرمني وهي تحبو وتدب وتشب وتبلغ تمامها الفخم والكلاسيكي والرخامي والشندلري. فطه الشاذلي يدخل "عمارة يعقوبيان" كتلة معنوية مجتمعة ومتصلة، تحركها قوة فيزيائية أو طبيعية ماثلة كلها، وتولد أطوارها بعضها من بعض ولادة "طبيعية" محكمة. وعلى مثال طه، طفولته هي "الطفولة"، وأمله هو "الأمل"، وحلمه هو "الحلم"، ودراسته هي "الاستذكار في الثانوية العامة حتى حصل على مجموع 89 في المئة بدون دروس خصوصية...". وكان سهره الطويل الى الصباح قبيل يوم الكشف الصورة المادية عن الاستذكار، والتمثيل الممتلئ عليه. وعلى المنوال هذا، انضم الفتى الى مركز شباب عابدين، و "صبر على تمرينات كمال الأجسام الشاقة"، وتودد الى ضباط الشرطة، و "تحمل رذالة سكان العمارة وغطرستهم"... يحدوه، في محنه ومقاماته ومراحل ابتلائه المتعاقبة تعاقب الفصول، الحلم إياه "وتحقيقه ايضاً". وهو، الشاب، آلة الحلم المسلط عليه، وعصاه الصماء. وتجتاز الآلة المراحل والمحن والمقامات مقيمة على "فكرتها" أو "حلمها" و "سباقها"، ونصب عينيها "مصير(ها) الى الأبد"، على ما يوجز الكاتب متنبئاً ومعتلياً من الزمن أو الدهر سناماً باسقاً، وشرفة تطل على الغيوب المطوية وراء الآفاق.
والحق ان الراوي أعد "بطله"، منذ المشهد الأول، الى مصير مرسوم ومقسوم، متصوِّر في نطفته القصصية، أو فكرته. وسياقة القص – إذا جازت العبارة، أو جاز الكلام على سياقة حين يوضع القص على أوقات ناجزة وقطع زمنية صبت في قوالب أنموذجية – تُحققُ الفكرة، وتُنزلها منازل الرسوم البيانية، وتُعاقِب بين المنازل والمراحل على مقادير ووجوه معلومة. ولا تغادر السياقة هذه، على معنى تحقيق الفكرة، الذهنيات ومجرداتها ومعادلاتها الحسابية والفيزيائية المستقيمة والجلية. ويملأ القص القوالب والمنازل والمراحل بمادة محسوسة تنحو نحو التعيين، أو الأعيان. ولكنها "أعيان على العموم" أو "أعيان عمومية"، على قول جورج بوليتزير في "معيوش" برغسون و "بدائه وجدان"(ـه).
وفي تمهيده وتسويغه القصصي خروجَ طه "الإسلامي" على الدولة والمجتمع المصريين، وهما دولة "الانفتاح" ومجتمعه على نحو ما يمثل عليهما الأستاذ فكري عبد الشهيد المحامي والحاج محمد عزام المقاول وكمال الفولي البرلماني والحزبي "القومي" (الحاكم) والأستاذ طلال السوري وبسيوني المصور وملاك خله الترزي الناشط وفوق هؤلاء جميعاً "الكبير" المحجوب - يضع الراوي الشابَ الطالب والمذاكر الطموح ومجتمع العمارة في شطريه على طرفي "تناقض" أو تقابل. وقسمة "أهل العمارة" قسمين، "بعضهم... يشجعه على الاستذكار" وآخرين "تزعجهم (فكرة ابن البواب المتفوق) على نحو ما"، بقيت من غير مفعول قصصي. فلا تخصيص ولا توسيط. وأقام القص على تكتيل الأدوار المفترضة كتلاً قَبَلية، على شاكلة قبائل الجمجمة وعظامها المتقابلة أو شاكلة الجماعات النسبية والقرابية التي يعرّفها اختلاف أرحامها وتفرقها. فيتناسل "الانزعاج" من "فكرة" تفوق ابن البواب "أفعالاً". وتترتب الأفعال على الفكرة الأولى ترتباً منطقياً: فحاول "الآخرون" إقناع والد طه، محمد، "بإلحاقه بالتعليم الصناعي بعد الإعدادية"، وكانوا "يسألون عليه أيام الامتحانات ويكلفونه بأعمال شاقة تستغرق وقتاً طويلاً...". ويفترض الراوي ان القارئ لم يفطن بعد الى غايات "سكان العمارة" وهو يصفها بـ "الدفينة". فيصرح، وهو لم يفعل غير التصريح، ويعزو السؤال والتكليف والأغراء بالبقشيش الى "رغبة دفينة خبيثة لتعطيله عن الاستذكار". وعلى شاكلة القَصَص البطولي الشعبي وأخباره "الحربية"، أو مثال قَصَص القُصّاص والوعاظ، يجمع طه "الأعمال" المرهقة والمصطنعة والمبدِّدة الى "التفاني" في الدرس والاستذكار. ويخرج الفتى منتصراً على "اولاد الكثيرين في العمارة".

فيزياء الطبائع

والواحد من "الكثيرين" ليس واحداً، على معنى الانفراد باسم وسيرة حال وقصد. فهو واحد على معنى إحصائي، وتمثيل على العينة. ويبقيه الراوي على سمته الغفل. وعلى هذا، فـ "الواحد... يلتقي بالآخر أمام المصعد فيسأله متهكماً... (فـ)يعلن الآخر بصراحة امتعاضه من هذا الموضوع...". ويتخفف الراوي من توسيط الواحد والآخر، ومن تخصيص لقائهما امام المصعد أو فيه. ويجمع الآحاد والآخرين في "هؤلاء السكان" جماعة أو جميعاً: "أخذوا يتحرشون بطه بعد ظهور النتيجة ويوبخونه على أهون سبب كان... يتعمدون إهانته... (يتثاقلون متعمدين) وهم داخلون الى العمارة حتى يهرع..." وهو على حاله "عندما يدخل الى فراشه آخر الليل يكون دائماً طاهراً متوضئاً بعد ان يصلي العشاء والشفع والوتر". ويتبدد، في الأثناء، "القسم" من اهل العمارة الذي دأب على "تشجيع" ابن البواب، وحضه على الاستذكار من طرق أبقاها الراوي طي الخفاء، أو عَلَماً على قصد قصصي يفترض التخصيص والتوسيط، ويواريه افتقار الراوي الى الإقبال على العالَم وعلى مسالكه الملتوية وأصحاب أدواره الكثر وأفعالهم.
فإذا نصب الراوي، وهو الخارج غير المتعين زمناً ولا موضعاً ولا مصالح أو ميولاً وهو المتناول الناس والحوادث كتلاً ومثالات، إذا نصب طه محمد الشاذلي تمثالاً وسطاً، حالماً منذ الطفولة بمثال الضابط "الناصري" أو السباعي (نسبة الى يوسف السباعي "الضابط"، على ما كان يوقع قصصه الأولى)، ومتسابقاً ومستذكراً وساهراً ومصلياً طاهراً وعفيفاً ومحباً بثينة السيد، جارة السطح ورفيقة الطفولة والمدرسة والصبا، وكاظماً الغيظ، ومترفعاً عن الإهانة – لم يبق ألا رمي المعدن الصافي هذا وبلّه في حمأة الاختبار وأتون الانفتاح والفساد و "الضلال" السياسي والاعتقادي. وحساب الراوي أو نهجه في القص ليس اختبارياً، على وجه الدقة. فـ "بروتوكول" الاختبار مغلق، ولا يحتمل نتاجاً غير ذاك المقدّر والمعلوم. واكتمال شرائط المثال، أو التمثال على ما مر، إنما هو المقدمة التي يريد القص ان يبني عليها أو يستنتجها حكماً في ضراوة "أهل" السلطة" و "أهل" المجتمع، أو "سكانهما". فلولا الضراوة هذه لما انتهى شاب من صنف الشاذلي الابن، دماثة واستقامة واعتدالاً، الى القتل والموت ثأراً من الإذلال الاجتماعي، والتحطيم النفسي الجسدي، والنفي من الإنسانية – في مجتمع يعرف الإنسانية بالكرامة المعنوية والرمزية وينزل "العيب" منزلة القتل. وموازنة الكفتين، كفة الفتى وكفة عوامل الإفساد والتضليل المسلطة عليه، يفترض فيها ان تقيس قياساً مجرداً وذهنياً، أي طبيعياً فيزيائياً، قوة عوامل الإفساد والتضليل.
وغلقُ "بروتوكول" الاختبار، وتحجير هذا على نتيجة واحدة، يحول دون حمل فصول الحوادث والوقائع التالية، والمفضية الى انخراط ابن العم الشاذلي في جماعة جهادية ثم الى مهاجمة الضابط الذي عذبه ورعى انتهاكه، على فصول ابتلاء، على معنى ديني أو أخلاقي. فتخرج قصة طه الشاذلي، وهو "رافد" بارز من روافد "نهر" الرواية المفترض، من الاختبار الروائي، واحتمالاته وجوازاته، على نحو ما تخرج من الابتلاء وإيحاءاته الخلاصية والإيمانية. وباب الخروج المزدوج هذا واحد، هو "بطولة" القَصَص الشعبي وملاحمه القتالية والأخلاقية. فالبطل المتوسط، والمتكتل كتلة معنوية متماسكة، يُلبسه الراوي صفات التمام والكمال البسيطة في معرض قص واقعي وطبيعي (على المعنى الأدبي الاصطلاحي) تقريباً له من مثال يجلو فصائل "الفارس" العامي الأخلاقية والدينية على تمامها وكمالها المتوقعين. ولا تخالف آداب السينما والتلفزيون والصحافة و "كتابتها"، ولا آداب السياسة المحلية، على وجهيها السلطاني والمعارض الخلاصي و "الخوارجي"، القصص الشعبي البطولي. فهي تشترك في نصبها خارجاً مفارقاً تلم منه بالحوادث والوقائع، وتُكتل الحوادث والوقائع وتحجرها انصاباً وأصناماً ومعاني ناجزة.
وليس انقلاب الفارس العامي مقاتلاً منتقماً انحرافاً عن مثال بطل القصص الشعبي، على وجهيه ومذهبيه. والحق ان الانقلاب هذا يستعير من "فكر" الرواية، على قول ناقد ومؤرخ أدبي معاصر، ومن "صورتها" المحدثة والبورجوازية الأوروبية والأميركية، رسمه. فهو يتعقب آثار دخول "البطل"، الصادر عن قيم الشرف والإقدام والعدالة وأحكام عملها الموجعة، "العالَم"، السفلي (تعريفاً) والمنفك من "سماء" القيم والصور. والتمثيل بـ "دون كيخوتيه" على الصدور والورود هذين، على خطى صاحب "نظرية الرواية"، جورج لوكاتش المجري، يكاد يكون مدرسياً. واشتباه معاني الحوادث والوقائع، والناس في ثنايا هذه وتلك وفي سياقتهما، هو ذريعة القص على وجه الرواية المحدثة، والباعث عليه. فالصدور عن قيم أو معان سامية وسابقة يقضي في من يصدرون عنها، حين مسارح السعي ولدت ناساً عاميين مختلفين وأحكاماً نثرية وذرائع تتماسك على منطق نفعي "تافه" – يقضي بعشي النظر واشتباه المعاني معاً. فلا يسع "البطل" المحدث والعامي، وهو ينتسب الى عالم دنيوي قوامه المنافع والأهواء في الأحوال كلها، الإقامة المزمنة، على غابر شأنه، (بـ)مقام البطولة الحربية والأخلاقية. وأوكل القصص البطولي الشعبي الى الشطار والزعار من العامة، على الضد من الأشراف نسباً وعملاً، التقلب بين أظهر العالم السفلي وأقنعته وحيله وتشبيهه. فثبَّت القصص، من هذه الطريق، انقسام الدنيا والناس طبقتين يحجز بينهما حاجز "عرقي" وكينوني، تتقاتلان قتال إفناء وإبادة، وقد تتداولان مرتبة "الأمر"، وهي مرتبة وجودية أو كينونية في عالم القصص وفي بعض الفقه السياسي الإمامي وفروعه المقاتلة والناطقة المعاصرة، على شاكلة مداولة الليل والنهار.

الحقيقة والتمثيل

وتجري "عمارة يعقوبيان" في تناولها سيرة الفتى طه محمد الشاذلي على رسمين: بطولي شريف وعامي وضيع، ملحمي القصد وإخباري النسيج وصحافيه أو تلفزيونيه (من باب متفرقات "البيبول" والمسلسلات). وتتوالى السيرة فصولاً. وفصلها الأول انفصال بثينة السيد، الجارة والرفيقة والحبيبة المرجوة والزوجة، وانحراف طريقها، على معاني الانحراف الكثيرة، عن طريق طه المستقيم. وانفصال بثينة ذريعة تشبيه تخلي الراوي، هنيهة سريعة ونادرة، عن موضعه الغفل من القص. فبعد لقاء طه ببثينة، وهو في طريقه الى كشفه "المصيري"، في مشهد "تعبيري" وتصويري تقليدي، يركب الشاب سيارة تاكسي. ويتأخر فكره أو خاطرته في "تغير" بثينة وفتور مشاعرها بإزائه وتحولها عنه، عن الواقعة نفسها. فيفترق الجاران والرفيقان، "تنسحب" هي وتمد يدها مصافحة "وتتحاشى النظر إلى عينيه (وتقول) بلهجة عادية رسمية: بالتوفيق إن شاء الله" (وكانت لتوها "هتفت بحرارة"، و "قالت بحنان صادق"، و "تطلعت إليه بعينيها العسليتين كالمندهشة")، "بعد ذلك فكر طه وهو جالس في التاكسي ان بثينة تغيرت ناحيته". وقد يحمل القارئ تفكر أو تفكير طه على تناول جانبي، على المعنى السينمائي والفوتوغرافي، لما يروي والعبارة عنه عبارة جزئية ومقيدة. فيكذِّب الراوي ظن القارئ تكذيباً قاطعاً. فالفكرة لم تكن فكرة، على معنى تقليب الرأي في أوجه جائزة، بل هي"حقيقة لا جدوى من تجاهلها". والحقيقة هذه ليست استدلالاً ولا استقراء، وهي لا توسِّط قرائن ولا تجمع وقائع، ولا تجر الى تحقيق ولا الى رواية تحتمل انقسام الرأي. فطه "يعرف (بثينة) جيداً وتكفيه نظرة واحدة لكي ينفذ الى أعماقها وهو يحفظ عن ظهر قلب كل أحوالها...". وانتهى العارف القلبي والحادس في الأحوال الى الحقيقة على صورة انقلاب من عدم الى وجود. وهي صورة الحادثة نفسها، أي حال بثينة. فالصبية "فجأة تغيرت... حدث ذلك عقب وفاة أبيها...".
وفي اليوم نفسه، وهو يوم الكشف، يتبدد "حلم" ابن البواب بالمرتبة والدور والمثال الاجتماعي والأخلاقي. ويوكل الراوي سرد واقعة الكشف الى ذاكرة الشاب المتحن. فيقول ان طه "يسترجع... احداث ذلك اليوم". وسبق الاسترجاع تمهيد قابل "الفيلم السينمائي"، والاستغراق فيه والانفعال به، بـ "الواقع" والعودة إليه، ونَقَضَ "السينما" أو صالة العرض بـ "الشارع المزدحم بالسيارات والمارة" ولفح "الهواء البارد". ويقص المسترجع في آخر النهار واقعة الامتحان في ضوء التقابل والنقض هذين، وعلى هدي تفريقه السينما من الواقع، وبلوغه مقام الحقيقة، والنفاذ الى الأعماق بنظرة واحدة، على ما فكر في تغير بثينة صباح يوم "الكشف" (وهو اسم صوفي على مسمى روحاني أو "مكي"). ويوجب مقام الحقيقة ان "كل ما حدث... مجرد فيلم، تمثيل في تمثيل...". وعلى هذا، لا تحول رواية الحادثة من جهة طه الشاذلي، وبحسب ما يرى، بينه و بين قص بعض أجزائها من جهة الفاحصين، "اللواء الرئيس" ومقدم الهيئة الفاحصة أو الكاشفة الثلاثية. فاللواء الرئيس علق على إجابة طه بالابتسام، و "هز رأسه في إيجاب صريح" دعا طه الى توقع أمره بالانصراف. و "لكن اللواء الرئيس حدق فجأة في الأوراق". والفجأة أو الفجاءة هذه من مقتضيات وقوع القدر وتنزله على المصائر العامية والضعيفة. ومهد التحديق الفجائي لكشف اللواء، هذه المرة، عن "حقيقة" طه، وهي "مهنة والد(ه)". وبددت حقيقة المهنة سينما الحلم. ونطقت الحقيقة بلسان بثينة و "علمها" الذي علمها إياه "الشغل"، وهي كانت موضوع علم طه بحقيقتها: "البلد دي مش بلدنا يا طه. دي بلد اللي معه فلوس".
ويمضي طه على تبديد "التمثيل" والأقنعة التي تحجب الحقيقة عن أعين الحالمين الواهمين، بينما تمضي "عمارة يعقوبيان" وفروعها وروافدها الأخرى، من جهتها أو جهاتها، على استعراض الحقيقة والتمثيل عليها، وعلى أعيانها الاجتماعية والسياسية والأمنية. فيكتب الممتحن الراسب الى "سيادة الرئيس" رسالة شكوى وتظلم يدعي فيها على "سيادة اللواء رئيس لجنة الاختبار بكلية الشرطة" بالسرقة. واحتج لدعواه بحديث نبوي صحيح. وشفع الدعوى بالانتساب الى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، سُلَّم "أولاد الكبراء" الى العمل الديبلوماسي. والصلاة في المسجد، حين رفع آذان الظهر، هي فارق "الطلاب الأغنياء (من) الفقراء"، والعصا التي تشق البحر كتلتين، واحدة من "خريجي مدارس اللغات وأصحاب السيارات الخاصة والملابس المستوردة والسجائر الأجنبية"، وهم قطب "أجمل البنات وأكثرهن أناقة"، والأخرى من "الطلاب الفقراء (المتلاصقين) كالفئران المذعورة". وذلك على قسمة تبويب وترتيب لا توسط فيها. ويقطع طه على "شكله" خالد عبدالرحيم. و "(يحبه) جداً ربما لأنه فقير مثله أو هو... أفقر منه"، وقطعاً "لأنه عميق التدين" و "(يستحضر) الله بمعنى الكلمة". ويقود خالد عبدالرحيم صديقه طه الشاذلي الى أصدقائه في المدينة الجامعية، وهم "ريفيون وطيبون ومتدينون وفقراء جميعاً". و "يفهم" طه من طريقهم ان "المجتمع في مصر مجتمع جاهلية لا مجتمع إسلام"، على قول سيد قطب الأشهر، وفتواه في التبديع والردة.
وتتداعى حلقات الدعوة والدعاة، وتسلم الحلقة طه الى تاليتها من غير التواء. ويقود خالد عبدالرحيم زميله وصديقه ومحبه الى الداعية الشيخ شاكر، إمام صلاة الجمعة في مسجد أنس بن مالك بميدان التحرير. وفي المسجد يسبح المريد الجديد في "جو اسطوري وصادق ونقي". ويدخل حلقة "المقربين" الى الشيخ. ويستبدل ملابسه الإفرنجية بالزي الإسلامي، ووجهه الحليق بلحية "أعفاها فمنحته مظهراً مهيباً وقوراً"، وشخصه القديم بشخص آخر جديد، و "روحه" القديمة بـ "روح جديدة قوية متوثبة". فتخفف من "التضاؤل والرهبة والانكسار أمام السكان". وأشركه الشيخ شاكر في تجارة الكتب الدينية، فلم يحتج مذ ذاك الى مداهنة أهل العمارة. و "طلق" بثينة و "طلقته": "دا انت حتى بقيت ملتح وملتزم وأنا بالبس قصير وعريان... شكلنا ما يلبقش على بعض". ويشركه شيخه في "مظاهرة كبرى في الجامعة" ويدعوه الى قراءة "ميثاق العمل الإسلامي". وفي التظاهرة "يستشهد" خالد حربي، ويعتقل مخبرون، "ثلاثة رجال ضخام"، الناشط الإسلامي. وينهش "كلب ضخم" في قسم التوقيف "في صدر (طه) وعنقه". وينهال الضباط عليه بـ "الضربات والركلات" قبل القارعة: "ألقوا به منكفئاً على الأرض وبدأت أكثر من يد... تنزع عنه ملابسه الداخلية... وثبتوا جسده بأيديهم وأقدامهم وامتدت يدان غليظتان فشدتا عضلتي إليته وفرقت بينهما وأحس بجسم صلب ينغرز في مؤخرته ويقطع أنسجته الداخلية...".
ويخرج طه من المعتقل الى لقاء الشيخ شاكر في "طبعة افرنجية"، كناية عن لباسه المتخفي والمتنكر، ويجاهر برغبته في الثأر من الذين "هتكوا عرضـ(ـه)"، والانتقام من الذين "قتلوه في المعتقل". والقتل هو التأنيث: "كانوا يسمونني فوزية... وكانوا كل يوم يضربونني حتى أقول امامهم: أنا امرأة واسمي فوزية". فلا يريد بعدها ان ينسى ولا ان "يعيش". و "فهم طه ان معارضة الشيخ (شاكر) له في البداية كانت حيلة لاختبار قوة عزمه". وفي الصحراء، وراء الجبال، يسافر طه وشيخه الى "مجموعة بيوت صغيرة مبنية بالطوب الأحمر (...) أشبه بشوارع المناطق العشوائية"، هي قاعدة الجهاد. وفي القاعدة، في إمرة الشيخ بلال، يتعلم طه "بإذن الله كيف يأخذ حقـ(ـه) وينتقم من الظالمين جميعاً". ولا يفصله عن مقتله المحتم إلا زواج هوليوودي برضوى، أرملة أحد "الشهداء" السابقين. ويتوسط سقوط طه الدامي مقتل حاتم المثلي بيد عبده الصعيدي، وزواج زكي الدسوقي، الدونجوان المتداعي، ببثينة السيد، العاشقة التائبة، في مطعم مكسيم "الملكي" السابق.
ولكن روافد القص الكثيرة والمتزامنة والمفترضة متضافرة، لا تلزم القارئ بشبكها، ولا تدعوه كتابتها التقريبية والرتيبة الى شبكها أو الى تعقب أصداء الرافد في الآخر. وعلى مثال سيرة طه محمد الشاذلي، في وسع من شاء إخراج السير الأخرى من مواضعها المتناثرة ودمجها في سير متصلة قائمة برأسها. وبعض الروابط بين السير، مثل "رابط" بثينة، تبقى ضعيفة، ولا تتطاول الى الحوادث، ولا الى الناس. والرابط المعلن – العمارة، وآصرتها المدينية والاجتماعية والزمنية، والوقت، جيل "الانفتاح" وأولاده (في اثناء حرب الخليج الثانية ورد صدام حسين عن الكويت) – لا يرتب تضافراً، ولا شبكاً، ولا اختياراً كتابياً. فيجمع الكاتب فنون القصص الشعبي، القديم الشفهي والجديد المصور ومتفرقاته، "الملحمة" والمشهد الكوميدي والمشهد العاطفي والدرامي والمشهد البورجوازي اليومي...، من غير حرج ولا ضيق ولا تركيب. ولعل هذا "أدب" الانفتاح، بدوره.

الخميس، 15 أبريل 2010

تآكل النظام الإقليمي العربي بلا تعريف للوحدات الوطنية

 الحياة 14/4/2010
استبق الأمين العام لجامعة الدول العربية، ووزير خارجية مصر سابقاً، عمرو موسى، انعقاد الجامعة في سرت الليبية، فحاضر في جمهور جامعة الروح القدس، المارونية اللبنانية، في ذكرى تأسيس الجامعة. وأراد الأمين العام المحاضرة، عشية القمة العتيدة، مطارحة عامة وجامعة تناولت قضايا المنظمة الإقليمية، شعوباً ودولاً و «عروبة» مشتركة، ومحلها من أطوار العالم الأوسع. ولم تسعف نتائج القمة ولا مناقشاتها المعلقة والمبتسرة الأمين العام على بلورة بعض مقترحاته وأفكاره التي أراد التمهيد لها في محاضرته اللبنانية. وجاءت النتائج والمناقشات على شاكلة علاقات الدول والشعوب و «العروبة» بعضها ببعض، وتغلَّب الإغفال على الإعلان، والالتباس على التوضيح والجلاء، والتهرب والتورية على صوغ الخلافات ومواجهتها.

وقد يقال إن هذه جميعاً من طينة الدول الوطنية التي تجمعها الجامعة، وطينة شعوبها وهويتها وسياساتها منذ نشأة الجامعة وإطارها الإقليمي المشترك قبل ستة عقود ونصف العقد. و «تقرير» الأمين العام التمهيدي، أو محاضرته، يتقلب في أحضان الالتباسات والترجحات التي يشكو «العمل العربي المشترك»، وهو اسم حالم على مسمى بائس، من إغفالها، والسكوت عنها. وربما أسهم طموح المحاضر الى صوغ «رؤية» مترابطة لمشكلات منظمته في بروز معضلاتها المستعصية. وركن «الرؤية» تعريف الجامعة ودورها ومحلها من العناصر والعوامل التي تأتلف منها. فهو يذهب، على خلاف الوقائع والاختبارات والامتحانات (أو المحن)، الى ان الجامعة هي «بيت العرب» و «مركز القرار الجماعي العربي». ويمزج التعريف الطموح والقصي والمغرق في التمني، بتعريف متواضع يقصر الجامعة على «منتدى مناقشات».

وشتان بين نحوي التعريفين ووجهيهما. ويعلل المحاضر فعل إيمانه بالمنظومة، و «ضرورة وجودها»، بعلة هي «ما تفرضه الضرورة على شعوب هذه المنطقة وحكوماتها في أن يكون لهم منظمة ترعى شؤونهم...». والعلة هذه غريبة على لسان رجل سياسة أو رجل دولة مفترض. فمناقشة دور جامعة الدول العربية، وتعريف هذا الدور، ليس موضوعها الضرورات التي تقتضي وجود جامعة إقليمية و «قومية»، بل إن موضوعها هو اضطلاع المنظمة الإقليمية العتيدة بالدور المفترض أو المقتضى «الضروري». فإذا استقوى أمينها العام على وصف دورها، أو تعريفها، بالضرورات الموضوعية، بقي عليه، أو على المنظمة وأبنيتها وطرائق عملها وأصحابها، القيام بموجبات الضرورات الموضوعية، والوفاء بإلتزاماتها. وتتردد في التعريف الوظيفي والهيكلي هذا أصداء زعم «قومي» يحمل السياسة، و «قرار(ها) الجماعي» و «المركزي»، على ثمرة طبيعية وتلقائية ناجمة عن طبائع وضرورات و «روح» و «جذور» (فيكتب: «والحفاظ على التراث، أي أن نظل عرباً» بإزاء «التحديث»، وهذا من أهومة الهوية العروبية وهواجسها وكوابيسها). فيحتج الزعم الطبيعي لدعوته العربية المعتمرة بإنجاز «الكيانات المتنافرة»، الأوروبية، «كيانات كبيرة». وهذا قرينة على الحط بالسياسة الى درك العصبية.

ويغفل أصحاب الزعم الطبيعي، أو بعضهم، عن مترتبات يسوغها هذا الزعم، ويجر إليها، وأولها تصدي بعض «أصحاب» الهوية الى التمثيل على «الطبائع» القومية وروحها وجذورها، واستجابة ضروراتها، فوق غيرهم من شركائهم في الهوية المشتركة و «الإطار العام للأمة»، على قول موسى (محامياًَ عن ضم الأكراد والأمازيغ وأهل جنوب السودان الى العرب). ولعل هذا التصدي - وتصنيفه الدول أو الأنظمة على مراتب من الأصالة والوطنية، وإدراك مصالح «النظام» العربي الحقيقية، والجدارة بقيادة سياسته - في صلب أزمة جامعة الدول العربية المزمنة، وأزمة العمل العربي المشترك والمفترض. فزعم قيادات دول أنها مؤتمنة، فوق غيرها، على قرار عربي جماعي ومركزي ركنه «قضية» كبرى، بمعزل عن المنازعات السياسية والاجتماعية والفكرية داخل الكيانات الوطنية وفي علاقات بعضها ببعض، هذا الزعم ينتقص من سيادة الدول المتفرقة، وينيط ببعضها، أي بقيادة بعضها، الوصاية على بعضها الآخر، أو على أجزاء أهلية و «قومية» من بعض هذه الدول.

ويكتمل الخلل ويبلغ تمامه، إذا جازت العبارة، مع إرساء قيادات حاكمة عربية مشروعية قيادتها، أو غلبتها الداخلية، على تصديها لأعباء القضية الكبرى، «القومية». فيُنكر على الفلسطينيين أو على اللبنانيين أو على الأردنيين أو على العراقيين أو على المصريين، بحسب الأوقات والظروف والأحوال، وبذريعة انقسامهم ومنازعاتهم، الحقُ في معالجة منازعاتهم من طريق قوانينهم الأساسية وهيئاتهم. ويُنكر الحق في المنازعة والخلاف على أهالي الكيانات، وأولها الكيانات المتصدرة و «المفتاحية». ويُفترض أن المنازعة والخلاف - ومتعلقاتهما من حريات رأي وقول واعتقاد وتجمع وامتلاك وأمان بضمانة الدولة ورعاية حقها العام وأمنها وقضائها، ومن حقوق متساوية في هذه كلها - تَطاولٌ على السيادة والقيادة، وعلى صدارة القضية الكبرى. فتستبقي القيادات «القومية» من عدة السياسة الظاهرة، و «الحديثة»، الانتخابات والهيئات التمثيلية واختصاصات السلطات والنصوص القانونية والدستورية، وتملؤها بمادة سلطانية وعصبية تقسم «الشعب» على مراتب النفوذ والحظوة والامتيازات والعوائد الفعلية والمستترة.

وعلى قدر ما يزوِّر هذا الضرب من السياسات العلاقات الداخلية، على وجوهها، ويموه التسلط والانفراد والإكراه، يصبغ العلاقات «الخارجية» الإقليمية، وهي علاقات دولية أو بين الدول، بصبغة تزوير عام ومخيم، ويحملها على لعبة أقنعة مسرحية تفضي غالباً الى ما أفضت إليه قمة سرت. وجامعة الدول العربية مظهر من مظاهر لعبة الأقنعة هذه. فهي تنهض على التباس الوطني بالقومي، والقومي بالوطني، التباساً غير معلن يحول دون تمييز المستويين واحدهما من الآخر، ويجعل تحديد المسؤوليات والالتزامات مستعصياً أو مستحيلاً. فمن وجه يقول الأمين العام أن الجامعة «تحترم السيادة الوطنية»، وإنها «جامعة للدول، وليس في ميثاقها ولا أنظمتها ما يمنحها سلطات فوق سلطات الدول الأعضاء». ويخلص الى أن نظامها هو «نظام تعاون تعاهدي». وهو يرد عن الجامعة تهمة لم يتهمها بها أحد، وهي التدخل في الشؤون الداخلية، ومصادرتها سلطة فوق سلطات الدول الوطنية... فما يؤخذ على الجامعة هو تقصيرها عن حماية الدول الوطنية العربية، الواحدة من الأخرى، وإلزام الدول كلها مناقشة علاقاتها الإقليمية المتبادلة على «مائدة» المنظمة الإقليمية، والسعي في نقل العلاقات البينية والمشتركة من ميدان موازين القوى الى ميدان معايير المصالح المتبادلة على أساس المساواة والندية والتعاقد الحر والإلزام من غير إكراه.

وما يحصيه المحاضر «الجامعي» من أزمات عربية انفجرت في الأعوام الأخيرة، من الحرب على الإرهاب وغزو العراق والحربين الإسرائيليتين - العربيتين (لبنان وغزة) وحروب اليمن والسودان والصومال الأهلية، يتعمد إغفال الشطر العربي من عوامل اندلاعها، ومن عوامل استمرارها ودوامها وتقلبها بين أطوار مختلفة. وهو حين توسط في بعض مراحل الأزمة اللبنانية غداة اغتيال رفيق الحريري، وحين تمخض الاغتيال عن ذيول محلية وإقليمية أبرزها حرب صيف 2006 وهجوم كتلة حلفاء سورية وإيران على الدولة والأهالي والهيئات، نبه الى «الطبقات الأربع» التي نجمت الأزمة عنها ويقتضي الحل معالجتها. والطبقة العربية والإقليمية في القلب منها. ويلمح، في محاضرته، من طرف إيمائي الى «انقسام قيادات» و «خلافات ثنائية»، والى «النظرية العدوانية» (صفة ينفيها عن «العروبة» و «اكتساح الكيانات الوطنية» المترتبة على النظرية المفترضة، و «العوارض العرقية والعنصرية»، و «التشرذم»، و «السلبية الكامنة»، و «تنازع الإرادات العربية»، و»الاسفين» الطائفي... والإلماح هذا يصدر في معرض نفي أو استدراك أو اشتراط. ولا يخص المحاضر المسائل التي يلمح إليها بمعالجة يقفها على هذه المسائل، ولا يصلها بالإنجازات المشتركة التي يعددها، ويمدحها، ويغضي عن حدودها وقيودها. فيرسم لوحة انطباعية من غير إطار متماسك وجامع يتيح وحده للمواطن ترتيب المسائل، وتقدير الأفعال ووجوه تأثيرها.

ويتحاشى المحاضر في لائحة مقترحات ترمي، على قوله، الى «خلق وتنظيم المصلحة العربية المشتركة التي تحقق التقدم والازدهار»، وتتقدم التقرير، تخصيص الدول الوطنية، كيانات وشعوباً وسيادة، والإقرار بها، ببند على حدة أو مادة برأسها. وتجنب المحاضر إفراد الدول الوطنية العربية ببند يثبت سيادتها واستقلالها الوطنيين والداخليين، ويوجب على الجامعة ودولها احترامهما، ويشترطهما مقدمة لكل عمل مشترك، يلقي ظلال الريبة والشك على جدية المقترحات السبعة، وعلى سابعها وآخرها على وجه التخصيص («ضرورة أن يكون بند الإصلاح والتحديث، وتكريس مسيرة الديموقراطية وحقوق الإنسان بنداً رئيساً على جدول أعمال كل عمل عربي مستقبلي»). فتشخيص المصالح المشتركة العامة، وإحصاء الصداقات والعداوات والتحفظات، وتسمية دول الجوار، والإشارة الى الأزمات، ليست ما يشكل في نظام إقليمي أو عليه، وليست ما يعترض قيامه وبلورته تدريجاً. وإنما تنشأ المشكلات من الخلافات المشروعة على تعريف العوامل والأدوار وقواعد العلاقات الناظمة. ومعاهدة فيستفاليا الأوروبية، في أواخر النصف الأول من القرن السادس عشر وفي أعقاب «حرب» الثلاثين عاماً المذهبية بين دول الكثلكة ودول الإصلاح، لا تزال المثال الذي تقتدي به الأنظمة الإقليمية الواقعية.

فالشرط الذي ينهض عليها نظام إقليمي فاعل، لا يتستر على نوايا ومبانٍ توسعية بوليسية وقاهرة، هو تعريف الوحدات السياسية التي يأتلف منها، ومن أدوارها وإسهامها، النظام المرجو. ونهض النظام الفيستفالي على تولي الدول و «الأنظمة» السياسية تدبير الشؤون الدينية الداخلية وحدها، على رغم اشتراك رعايا (قبل المواطنين) بعض هذه الدول بمعتقد واحد، أو انتماء بعض هذه الدول الى كنيسة، أو رابطة كنائس، واحدة. وإقامة «العروبة»، أو وكالتها الفلسطينية، مقام المعتقد الديني، ومذاهبه وملله - وهذا ما يبدو الأمين العام مقراً بها من غير خطابة غنائية - فتحت الأبواب على مصاريعها بوجه سياسات إقليمية زرعت وحصدت ولا تزال تزرع وتحصد حروباً أهلية وصدوعاً داخلية متناسلة. وجامعة الدول التي لا ترى بعض «دولها» غضاضة في دعوة جماعات أهلية وحزبية الى تمثيل «شعبها» في المحفل الرسمي، أو يستقبل رئيس دورتها من تتهمهم دولهم ومفوضو هذه الدول بالقتل والاغتيال الجماعيين وبإرهاب المدنيين، أو تندد بعض قيادات دولها بجماعات أهلية في الدولة الأخرى وتدعو الى تغيير أنظمة هذه الدول «برمتها» - مثل هذه الجامعة يتساءل المواطن عمن تجمع، وما تجمع، وعلامَ تجمع إذا جمعت.

الأربعاء، 7 أبريل 2010

الأنساب جهاز التذكر القومي العربي والمشرقي وآلة السياسة الامبراطورية والسلطانية

التوحيد والتضمين النَّسَبيان ذريعة الى طلب عبودية مستميتة
النهار 4/4/2010
كان إدمون رباط جاز الثمانين قليلاً أو كثيراً في 1989، غداة إذاعة وثيقة الوفاق الوطني في أعقاب أشهر من الحرب اللبنانية - السورية ومناقشات البرلمانيين اللبنانيين في منتجع مدينة الطائف السعودية، يوم استجاب رجائي إبداء رأيه في التعديلات الدستورية المترتبة على الوثيقة العتيدة. وحين أُدخلت مكتبه، وهو مكتبته، في مبنى بشارع بدارو، أو أحد الشوارع المتفرعة عنه، حسبت أني أغرق في ظل قريب من العتمة لولا تكذيب النهار الذي خلفته لتوي ورائي شبهةَ الظلام. والأرجح ان انقطاع الكهرباء، ودكنة الكتب الكثيرة المجلدة على الرفوف والرابضة على الطاولات الواطئة وعلى الطاولة الكبيرة في صدر الغرفة الأرضية وفي مقابلة النوافذ، وانزواء الرجل على مقعده المتحرك وراء الطاولة، هذه كلها تضافرت على تعتيم الغرفة. ولما هممت بالدخول، وتركتني المرأة التي استقبلتني عند باب المكتب، أوصتني وهي تتمتم خجلة وحيية ألا أطيل على الرجل المسن والمريض وألا أرهقه.
واضطررت، لخجلي وحيرتي، أن أبحث عن الرجل الذي جئت ألتمس رأيه، وقَبِل متلطفاً إبداءه على رغم المرض والعقود والحرب. ورُفع لي إدمون رباط، فجأة، على كرسيه، أبيض البشرة والرأس، مائلاً الرأس على الصدر، وعلى قميص ناصعة الزرقة ومكوية كياً مستوياً لا غضون فيه ولا تردد. ورحب الرجل بضيفه. وأراد ترحيبه صادراً عن أريحيته، وكرم استقباله ونفسه ورغبته في المنازعة الحية والجدال، وليس عن جسده المرهق والمكبل بالسنين والشلل النصفي والنطق المستعصي. وتحادثنا قبل تناول موضوع الزيارة العاجل. وأردتُ إخباره، وأنا لم تسبق لي معرفة به ولم أوسط أحداً بينه وبيني، كيف قدِّر لي أن أعرف بعض ما كتب في فتوته الباريسية، في عشرينات القرن العشرين، وأن أقرأ ما لم يقتصر على شهرته فقيهاً في الحق الدستوري، وشارحاً أحكام الدستور اللبناني في صيغه المتفرقة والمتعاقبة.
وبدا الانتباه على الوجه المتعب والأملس، وفي العينين الحائلتين، متحفزاً. وعرت القسمات ابتسامة خفية سرت بين الرجل وبين نفسه، وافتر بها الفم المتحفظ والمرتعش. وقلت له ان كتابه الأول هذا، ورسالة "اجتهاده" في القانون والسياسة، عرَّف القومية "فعل تذكر"، وعلى هذا فهو "مصدر" تعريف ميشال عفلق القومية العربية، تلية نحو عشرين عاماً، بالكلمات نفسها. والتعريف العفلقي هذا سارت به الركبان، على قول العرب معظمين شيوع الكلام وفشوه (من بعد) فشواً إذاعياً وتلفزيونياً ورقمياً جامعاً. ويرجح المصدر الرباطي، الحلبي السوري، المصدر الإيطالي الموسوليني والفاشي، على ما أحسب، على رغم تستر المدرّس الأرثوذكسي الدمشقي على مصدره "الوطني" أو البلدي، وطلبه لإلهامه أو حدسه نسباً افرنجياً عالياً و "مجيداً"، أو ظنه مجيداً. فلما قلت قولي هذا، ولم أقصد به المديح إلا موارباً، وعلى وجه دون وجه أو وجوه ليست من باب المديح ولا من قبيله، طفح الوجه الشاحب بحمرة خفيفة وتهلل غير متكتم على سرور الرجل. وبدا ناسياً "سبقه" الذي زففت إليه خبره وبشراه متأخراً 60 عاماً، وغير دار بخبر (تعريف) عفلق واقتفائه خطوه ومثاله. فسأل: هل قال هذا حقاً؟ أو لم ينتبه احد الى القرابة؟
ولم تثنِ الإشارة الى الفاشية الإيطالية والموسولينية، وإلى صبغها عشرينات القرن العشرين بصباغها المقيت والقبيح، فقيه الحق الدستوري والمؤرخ عن الاسترسال بعض الوقت مع سروره. وتناول الحديث اموراً أخرى ومسائل قريبة، منها أو فيها مسألة الوحدة القومية (العربية ضمناً). فقال إدمون رباط في أواخر صيف 1989 اللبناني – العربي، غداة نشر تقريري اللجنة الوزارية العربية الثلاثية في "حوادث" لبنان و "وساطة" الوزراء الثلاثة بين الرئيس السوري وقائد جيش بلده الأعلى في سوريا ولبنان يومها، وبين اللبنانيين- قال ان الوحدة لا تنفك من الضم والقسر والعنف، وهو على هذا لا يؤيدها، ويعارض السعي فيها ما لم تقبل عليها الشعوب من غير تحفظ ولا انقسام أو نزاع، على ما يستحيل فعلاً وحقيقة.
وكان هذا قبل عام من محاولة صدام حسين، التكريتي العراقي العفلقي، "توحيد" الكويت والعراق، أي دمج الكويت في العراق قسراً وبالإكراه. وحين غزت قوات صدام حسين الأراضي الكويتية، وبددت الكويتيين وشردتهم، هلل للتوحيد القسري والمدمر والغادر ناشطون عفلقيون في لبنان، كانوا في عداد قيادة بعثية "عراقية" قبل ان ينقلبوا "فلسطينيين" خوفاً من القوات السورية واستخباراتها، وينقلبوا من "فلسطين" الى "سورية الأسد" ورصدها واستطلاعها، ويقيموا على ولائهم الصدامي و "كوبونات" نفطه، على التوالي ومعاً. و "اعتذروا" للعنف والدمار اللذين لحقا بالكويت والكويتيين، ولم يعتذروا عنهما، واحتجوا لاعتذارهم، أي تسويغهم وصدوعهم، بشهادة إدمون رباط: الوحدة القومية تقتضي إعمال العنف. وأسقطوا، بديهة، تتمة ما قاله الشاهد المؤرخ والمنخرط في ثلاثينات القرن في الحركة الوطنية السورية، والمستقيل منها طوعاً حين اختار "الانضمام" الى دولة لبنان، وانتخبه وطناً، وتولاه دولة وسيادة و "نظاماً".

مبنيا التذكر والمتذكرين

وعلى هذا، جمع المحامي ورجل الحق والقانون والمؤرخ، والمهاجر من الداخلية السورية العربية الى لبنان الجبل والساحل، جمع بين قومية فعل التذكر وبين إنكار عنف التوحيد القومي. وأقول "جمع" تعويلاً على صدور قولين مختلفي المسالك والمترتبات عن رجل واحد في وقتين متباعدين. وهو حين احتفل بسبق مقالته مقالة صاحب حزب البعث العربي الأول في القومية (العربية) لم يعرب عن موضوع احتفاله أو باعثه على الاحتفال، ولم يقل انه مقيم على رأي رآه يوم كان شاباً وطالباً. وحين أنكر العنف القومي والتوحيدي، وانحاز الى الانفصال و "القطرية" الكيانية دفعاً للعنف اللازم عن التوحيد القومي، لم يرجع في رأيه القديم الذي لم يتعرفه، ولم يوله عنايته ولم يخصه باهتمامه، ولم يُسَرّ إلا بسبقه ميشال عفلق إليه من غير ان يعلم.
ومهما كان من أمر المحامي وفقيه الحق الدستوري الراحل في رأييه، فالحق ان تعاقبه وصاحب البعث العربي القومي على التذكر تعريفاً للقومية العربية (المشرقية) "مفعم" بالمعنى والكناية، على شاكلة ما يمت بسبب الى الطوية المطوية على ثناياها الحارة والحميمة. ويوكل الرجلان، على فرق ما بينهما وفرق ما صارا إليه، الى "فعل" واحد، نفسي و "وجودي" (من وجد على معنى شم وأحس وذاق، وهي أفعال ذاتية وجدانية ناجمة عن ازدواج النفس ذاتاً تَحِس وذاتاً محسوسة)، القيام بأحمال كيان جماعي وتاريخي، معنوي ومادي، على النحو الذي يتجلى عليه الكيان الراجح والثقيل هذا على مدى الأزمان وربما الدهر ("الرسالة الخالدة" في الخطابة العفلقية). فيتولى الكيان الضعيف والهش، وهو نفس المتذكر، المنقلبة ذاكرة أو تذكراً (وهما ليسا شيئاً واحداً)، إحياء الكيان الجماعي والتاريخي "الضخم"، على قول المتنبي في أبي "أمه" (جدته)، وبعثه وتجديد قوته.
والسحر الخارق الذي يضطلع به في هذا المعرض التذكرُ والمتذكرون، وهم ليسوا فرداً على رغم السند الوجداني النفسي، مرده الى مبنيي الذاكرين وما يتذكرون. فالمتذكر أو الذاكر (العربي) يخرجه تذكره اليوم من عزلته وانقطاعه، واقتصاره على نفسه وحاله وضعفه، ومن انشداده الى حاضر يُشبِّه حضورُه أو مثوله الحسي الممتلئ البداهةَ والمتانة والحقيقة.
وعلى هذا، فتذكر الذاكر القومي ليس هوى، على معنى الانفعال والتخلية بين النفس وبين التأثر بمؤثر من خارج. وليس حركة نفسية، نطاقها أو مسرحها النفس المنطوية على نفسها، تتلقاها هذه من داخل، وتغشى النفس على نحو ما يغشاها الحلم أو النعاس أو الأسى أو عض الندم، وعلى نحو ما يعصف بها قلق تجهل مصدره أو تهذي بما "يرد" عليها ولم تستمد "وروده"، على قول تصوف عامي. ويخرج الذاكر من العزلة والانقطاع والاقتصار على النفس والاستغراق في الحاضر الى رحاب الجماعة العظيمة أو الضخمة، وإلى رابطة الأمة القومية والوثيقة ثقة الأوتاد المتينة والرواسي الراسخة في الأرض (والأرض هذه، على هذه الصورة، تُشْكل على القومي العربي، "المقيم" في نسبه ودمه ولغته وفتوحه ودينه، بينما يستمدها القومي "السوري" والمشرقي التمثيل على الثبات والدوام والصدور عن "نظام" يتخطى الفرد الضعيف والآفل). والأمة لا تموت، ولا تزول، وتنهض بعد كبوة أو سبات أو زلة أو تخلٍ أو انحطاط أو خيانة. ولكنها تنبعث وتتجدد وتقوم من الأنقاض والرماد والرميم.
والذاكر القومي في متناوله هذا كله، أي الخروج من العزلة والضعف والانقطاع والحاضر، لأن ما يتذكره هو من "طبيعة" أو طينة أو "فضيلة" تسوغ فعل السحر هذا. وما يتذكره، ويسوغ فعل السحر، هو الأمة أو النسب القومي الجامع والفاعل. فموضوع التذكر، أي الأمة، ليس ما يتوجه عليه التذكر من خارج، أي من المتذكر المنفصل، بل هو نفسُ المتذكر وأخص خاصه، أو خصوصيته العميقة والباطنة، وقد استيقظت من "فترتها"، أي من انقطاع نبوتها وحركتها الناشطة وديناميتها المنشئة عالماً. وحالُ الأمة في التذكر القومي، وفي المتذكر، توجبها على هذا النحو "النظرية" القومية العربية والمشرقية، ويوجبها مرتكزها أو صاحبها ومصدرها "السوري"، وهو المتناثر أقواماً ومعتقدات وتواريخ وثقافات وطبقات وأقاليم وبلاداً وأهواءً متفرقة ومختلفة تعصى الائتلاف الطوعي والتلقائي من غير قسر وتسلط خارجيين.
وصاغت "النظرية" القومية العربية والمشرقية ما يتذكره الذاكرون (وهو الأمة) على مبنى يقوم من مبنى الذاكر أو المتذكر مقام المتمم والمضاف المستوفي التتمة والإضافة. فتنهض الأمة في المتذكر وذاكرته القومية كياناً جامعاً ومؤلِّفاً (على خلاف عزلته). وتسبق لحمته الكيانية انفراطها أفراداً وتذررها آحاداً (على خلاف الاقتصار على النفس والحال)، وتستبق جواز الانفراط وتحول دونه وتحصن المتذكر منه. وتجمع الأمة في الذاكر القومي وذاكرته الأوقات المتفرقة في التاريخ المديد على صورة تدمج المواضي والأزمان والأيام الآتية في حاضر واحد مجيد وقوي وماثل في جسد ومعنى هما جسد الأمير ومعناه اللذين لا ينفكان واحداً (على خلاف الانشداد الى الحاضر والاستغراق في لحظته الهشة والمترجحة). فينفك تذكر الذاكر القومي، من طريق الأمة التي يذكرها على صورتها هذه أو المبنى هذا، من الهوى والانفعال والحركة النفسية وغاشية الحلم والهذيان بما "يرد" على النفس. ويعتصم تذكره (وهو الأمة مرة أخرى) بالجماعة العظيمة أو الضخمة، وبرابطة الأمة القوية والوثيقة والراسخة في الأرض (أو/ أي في النسب واللغة والدم والفتوح والدين).

"الحياة" والسلطان الامبراطوري

وعلاقة الذاكر القومي العربي المشرقي بما يتذكر هي علاقة دورية (من الدور في المنطق) أو دائرية تامة. فيخرج هذا الذاكر، وهو على تفرقه وضعفه واستغراقه في الحاضر، من أحواله المحبطة والمهيضة هذه بواسطة ما يتذكر. ويخرج كيانُ الأمة الفاعل من النسيان والعطالة التاريخية من طريق هذا (الصنف من) التذكر ومن طريق مثال المتذكِّر أو الذاكر هذا. فينقلب الفرد جماعة، والواحد جميعاً، "متحداً"، في صيغة الاسم وليس الصفة، على حسبان انطون سعادة (الاجتماعي) الآلي أو الميكانيكي. وتحيا الجماعة في الواحد أو الآحاد بحياة تتعالى على (الحياة) العضوية. فالحياة العضوية حياة منفصلة ومتفرقة في أفراد أو وحدات متعضية، ومستقلة بإيظاف أو عمل وظائفها، وبرجوعها الى وسطها أو بيئتها وتفاعلها معه (أو معها). والحياة "القومية" على معناها في "النظرية" القومية العربية المشرقية وعلى محلها منها، تستعير من الصورة العضوية التكامل والاتصال والتداعي (الاستجابة) والبناء المرصوص، ولكنها تقحم عليها نفي الآحاد والأفراد والأجسام المتعضية المنفصلة، أو هي تدمج (هؤلاء وهذه) في شروط استوائهم الأولى، وتغلب الكل على الجزء، على منطق جميعي هو نواة المنطق الديني الكلي والمرتبي الصلبة، وهو نواة منطق السلطان الإمبراطوري والبنية الإمبراطورية.
ويتعدى التزام التذكر القومي العربي السلطانَ الامبراطوري الميلَ الى الصور التاريخية الامبراطورية المجيدة، والاعتزاز بقوتها وفتوحها وعلوها المفترض، قيماً وإنسانية وعلماً وسيفاً، على أصحاب السلطان الحاليين أو أسياد اليوم. والالتزام هذا لا يقتصر على الثأر من أسياد اليوم المفترضين، ومن ركاكة سيطرتهم وهمجيتها. فيقرأ السيد عمر كرامي – شقيق رشيد كرامي رئيس الوزراء الطرابلسي ووارث تاريخ المدينة "الشامية" و "السورية الساحلية" على قول والده عبدالحميد كرامي، ورئيس الوزراء غداة الفتح الأسدي في 1990 ثم في ولاية إميل لحود الممددة التي اغتيل في اثنائها رفيق الحريري – يقرأ الرجل في خطبة مكتوبة بين يديه، فيقول: "نحن الغالبون على مدى اكثر من 14 قرناً ولن تغلبنا بعد اليوم خديعة القرن العشرين، قرن أميركا المشؤوم. وأقول لكم، مخالفاً كل الأدبيات المكررة حول الاستعمار، بأننا نحن الاستعمار، ونحن المستعمرون الأصليون، ونحن من فتحنا الأقطار والأمصار ونشرنا العدالة وأقمنا بنيان الرقي الإنساني وطبقنا للمرة الأولى في تاريخ البشرية قاعدة: لا إكراه في الدين... كانت أوروبا التي تلقي علينا دروساً في الحضارة تتخبط في النازية والفاشية وتقود الكرة الأرضية الى حروب ضارية أنهاها الأميركي بقنبلته الذرية، مفخرة سلطان الدنيا ومخترع الديموقراطية..." (صحف 21 آذار اللبنانية).
والمنطق الامبراطوري السلطاني الغالب على ركن التذكر القومي العربي المشرقي وعلى جماعات المتذكرين، يتطاول الى بنيان الوحدات السياسية، وإلى علاقات الأجزاء بالكل، وبعضها ببعض. والمنطق والبنيان واحد. فصاحب السلطان في الامبراطورية، أو في السلطنة، هو جزء مادي من الامبراطورية، وبعضها، من وجه. وهو كل الامبراطورية، مكانة وسلطاناً ومعنى، من وجه آخر. والتمثيل العثماني على هذه الحال واضح. فالسلطان، رأس السلطنة وخاقانها، هو حقيقة وفعلاً "صاحب" الأناضول، أوسع اقاليم السلطنة، وجابي التزاماتها، وأمير محاربيها. وتجمع الجباية، شأن النفقات، في ديوان الخاص، العائد الى السلطان لا يشاركه فيه أحد. ولكن السلطان نفسه هو رأس السلطنة، وجامعها، ومستودع "وحدتها"، وعلة الوحدة وركنها. والجزء لا ينفك جزءاً، ولا يضم الأجزاء الأخرى إليه، ولا ينفي كياناتها ولا جماعاتها ولا دوائرها. فهو يتوجها، ويقرها على حالها، شطراً أقل ومرتبة أدنى. وعلى هذا، فهو الأول والأعلى والمقدَّم، وإليه يعود التمثيل على وحدة الكل، المعنوية والرمزية فوق المادية. فتترجح علاقات الجماعات الجزئية بعضها ببعض، ومنها الجماعة المقدّمة و "الأسرة الحاكمة"، بين المساواة وبين المرتبية الكينونية والحادة (ويمثل أحد دارسي المساواة والمرتبية على هذا باليدين، اليمنى واليسرى، فيقول أنهما متساويتان في حالهما المشتركة ولكن اليمن تتقدم اليسرى مرتبة ومكانة و...تيمناً).
وما سرى البنيان والمنطق الامبراطوريان وغلبا، حلا محل النسب، وجمعا الفرق والهوية الجزئية والمنفصلة (في الإطار الجامع) الى الوحدة والهوية المتصلة والجامعة. فلا ترى الجماعة الأدنى، أي إحدى الجماعات الدنيا، غضاضة في نزولها مكانتها المتأخرة ما حُملت هذه المكانة على التمثيل على الكل الامبراطوري والنسبي. والانتساب الى الكل الامبراطوري، يشبه الدم والصلب والاسم، ويجمع المتفرقين والمتباينين مرتبة وطبقة وشرفاً على سوية الإضافة الى الكل ووظائفه وأدواره، والتمثيل على الإضافة ولو على مقادير شديدة التفاوت. فيسع الجماعة الامبراطورية، أو من يتوهم من أفرادها الإقامة على نسب امبراطوري، القول: إننا من "القوم" الامبراطوري، على معنى نسب الولاء والالتحاق والاستتباع في آخر المطاف. فيكتب جورج خضر، الأسقف الأرثوذكسي اللبناني: "... أحسسنا في بدء المسيحية أننا قائمون في الامبراطورية الرومانية التي هي ذاتها بيزنطية. وسلكنا بعد الفتح الإسلامي على اننا ننتمي الى دار الإسلام في حكمها وليس في دينها. وهذا ما أوضحناه للأمويين لما أدرنا شؤونهم المالية وبنينا لهم أسطولاً في ميناء طرابلس وهم احترموا عقيدتنا وشعائرنا (...) الولايات العثمانية في بلاد الشام كانت تعرف موهبة الروم الأرثوذكس على مستوى الإدارة والمال" ("النهار"، 13 آذار 2010). وفي الأثناء يستدرك الكاتب: "هناك أقلوية معنوية. لا تجبروا عليها الطائفة الرابعة من البلد".

فعل الانتساب

والنسب، وهو أنساب على الدوام، هو جهاز التذكر القومي وآلته الحية والعضوية. ورسم التذكر القومي على رسم النسب والانتساب، إصعاداً وإعلاءً وإيغالاً الى ابتداء، واتصالاً به، ونفياً للفروق، وإثباتاً للمراتب والفروع، وضوياً للمتفرق والمتفرع في أصل وتحت اصل، وتعقباً لآثار الماضي في الحاضر والآتي، وحملاً للحاضر والآتي على الماضي الأبعد فالأبعد، وتنقلاً بين الأوقات رواحاً ومجيئاً وكأن بعضها يعاصر بعضاً أو كأن ما كان إيذان أكيد بعودته وانبعاثه وقرينة على دوام الحياة في ما يبدو رميماً. والمنتسب، شأن المتذكر القومي، فرد في صيغة جميع. ونسبه هو جسره الى جماعته، أو عشيرته، كلاً وجميعاً وأبعاضاً وأفراداً، وهو سلمه إليها وإليهم. ويُبعث النسب في فعل الانتساب. وهو (النسب) أولاً، وليس آخراً، فعل الانتساب هذا وشرطه الإجرائي، وإن لم يقتصر النسب على فعل الانتساب وإرادته وجهره.
ويحضر النسبُ فعلَ الانتساب على شاكلة حضور الأمة وتاريخها فعل التذكر القومي. فالنسب، شأن الأمة، ليس تقريرَه أو إيجابه المجرد من امتلائه بالقيمة والمثال. وهو دعوة حارة ومحمومة الى الجدارة بالتحدر منه، وإلى استقامة التحدر القح وصليبةً، ونفي الاختلاط والهجنة والتوليد. ويستيقظ النسب في المنتسب على نحو انبعاث الأمة وتجددها في "أبنائها". وتنسب الأفعال الكبيرة والمجيدة إليه. فهو مجترح الأفعال وصاحبها الحقيقي. والمثال القرآني والإلهي المشهور ينفي الفعل (الرمي بالنبال والإصابة) عن فاعله ظاهراً ويحمله على الله (الأنفال، 17). ومقام النسب الصريح، والتذكر العميق، من الفعل المجيد ومن تاريخ الأمة السياسي ("فتوحها") هو مقام إلهي حكماً. وليس يغيب المقام الإلهي عن خواطر مداحي الأفعال "العظيمة" العربية. فذهب من ينوب عن الحرس الثوري الإيراني، والحرس عربي في هذا المعرض ومشرقي فوق المشرقيين العروبيين الأقحاح، الى نعت حربيه على إسرائيل، شمالاً لبنانياً وجنوباً فلسطينياً، بـ "الإلهيتين". ولم يشك اردنيون إسلاميون في ان رامي حذاءي منتظر الزيدي على جورج بوش الابن، في آخر زيارة الى بغداد، لم يكن الصحافي نفسه، وهذا لم يكن إلا ذريعة الرماية أو محلها وآلتها. والأنبياء هم "المقول بهم" ما يوحى إليهم، على ترجمة يازجية للتوراة.
وقد يبدو التعليق أو الشرح هذا تذييلاً ميتافيزيقياً على أحوال ومقالات سائرة وعابرة. والحق ان تواتر الأحوال والمقالات هذه، وتربصها بالمنعطفات "الكبيرة" والحوادث "الصغيرة" جميعاً، واضطلاعها بدور يوهم بدوام الفاعلين والأفعال والمرامي والغايات والنتائج، هذه كلها تدعو الى تذييل يسأل عما يعيد الأحوال والمقالات على بدئها أو بداياتها، ويقيدها بقيد لا فكاك لها منه. وفي الحوادث "اللبنانية" أو ارتكاساتها العروبية و "الإسلامية" القريبة، شواهد على قوة القيد النسبي القومي، وعلى سلطان التذكر "البعثي".
وفيما يبدو سجالاً مع ما تقدم، أو رداً عليه، يصدِّر خطيب الجماعة الخمينية المسلحة في لبنان ما سمته الصحافة "وثيقة حزب الله الثانية" (صحف 2 كانون الأول 2009)، بإثبات "أولوية الفعل وأسبقية التضحية" على "تصورات ومواقف... وآمال وطموحات وهواجس" جماعة الخطيب وقومه وأهله. والاحتجاج بسبق الفعل التصور، وبقيام الفعل من التصور مقام السند والمصدق، يماشي، في وقت أول، ظناً مشتركاً وسائراً عممته ثقافة غربية تاريخية تحمل العلم، والتحقيق "العلمي" واليقين، على التجريب والاختبار. وهذه لازمة في خطابة القيادات الحرسية الخمينية. فهي تستدل استدلالاً قاطعاً، وتريده "ضرورياً" ودافعاً للشكوك، على رسوخ غاياتها ومقاصدها وإنجازاتها في أرض تاريخية صلبة ومنيعة. وينبغي ألا يتعاور الاحتمالُ الإنساني والمخلوق الحتم الإلهي الذي لا راد له. فبعد تمجيد "التحولات الواعدة" – وهي ليست أقل من "ارتقاء" الجماعة الشيعية المسلحة الى "قيمة عالمية وإنسانية يجري استلهام أنموذجها والبناء على إنجازاتها في تجارب وأدبيات كل الساعين الى الحرية والاستقلال في شتى أنحاء المعمورة"-، وبعد إثبات "عالمية... جبهة المواجهة للخطر الأميركي"، يقر الخطيب بأن المواجهة "هي معركة ذات مدى تاريخي (و) معركة أجيال"، تتولاها "شعوب حية ومتفاعلة، وقيادة حكيمة... تراهن على تراكم الإنجازات، وتصنع النصر تلو النصر". وتتربع في قمة "التحولات الواعدة" في الحزام الإيراني جنوب لبنان وفي ضواحي بيروت، نهاية تاريخ نقيض أو معكوسة، "(عمودية) عبر التاريخ"، و "(أفقية) بالامتداد الجغرافي والجيو – سياسي ايضاً". فيجمع البشر في النهاية الموعودة، جنساً وأرضاً، "مستقبل محكوم بعلاقات من الأخوة والتنوع والتكافل في آن، ويسوده السلام والوئام، تماماً كما رسمت معالمه حركة الأنبياء والمصلحين العظام عبر التاريخ، وكما هو في تطلعات وأشواق الروح الإنسانية الحقة والمتساوية".
ويبعث الخطيب التلفزيوني المفوه "الرسالة الخالدة" العفلقية، ويرسيها على إنسانية "بلا ضفاف". ويدمجها في "روح الحياة"، وهي صورة عن عين الحياة التي نهض فيروز شاه (بطل "شاهنامه" في صيغتها العربية الشعبية) الى أقاصي الأرض ووحد أقاليمها في سبيل لقائها. ويدمج أقاليم الأرض في امبراطورية أو سلطنة شاهنشاهية أو نبوية إمامية، لا فرق، واحدة. ويترتب على اضطلاع الخطيب، و "أمته" أو رهطه الأقربين، بإحداث "التحولات الواعدة"، وتفتيح أكمامها، ان يعود إليه ريع "القيمة العالمية والإنسانية" المضافة والعظيمة التي كان نتاجُها، وولائدها، على يديه وأيدي أصحابه ورفاقه المشهورين والسريين. ولبنان، في المعرض الكوني هذا، هو محل الفعل الواصل ختام الملحمة الشاهنشاهية والامبراطورية بمطلعها. وحين يريد الخطيب التلفزيوني والمسلح تعريف المحل بما يليق بدوره الموعود والباهر، يقع على حد نَسَبي ضيق و "صغير". فإذا به "وطننا ووطن الآباء والأجداد، كما هو وطن الأبناء والأحفاد وكل الأجيال الآتية". وهذا قريب من درس معجم اللغة أو كتاب القراءة.
والخطيب لا ينتسب الى تاريخ "وطنه"، بل ينسب الوطن المفترض الى أهله هو وأنسابهم السابقة واللاحقة. وينسب الوطن والأهل الى نفسه ورهطه و "تقديماته"، وهي "أغلى التضحيات وأعز الشهداء". وإذا أرخ، أي تذكر ونسب "وطنه"، لم يبعد تأريخه من بعض تذكر والديه اللبنانيي المولد. ونسب الى نفسه التأسيس الأخير الحقيقي الوحيد: "استعادة الوطن من خلال المقاومة المسلحة". فعلى الأصل المزعوم هذا ارتفع "تحرير الأرض والقرار السياسي من يد الاحتلال الإسرائيلي... واستعادة الدولة وبناء مؤسساتها الدستورية". وسطا على الأفكار اللبنانية، وصادر اللبنانيين، وهو يضمر المسيحيين ومتلبنني المسلمين، عليها. فـ "الأهم من ذلك كله إعادة تأسيس القيم الوطنية التي يبنى عليها الوطن: السيادة والكرامة الوطنيتان، ما أعطى لقيمة الحرية بعدها الحقيقي"، على خلاف بعدها البطريركي والبكركي والماروني "مجردَ شعار معلق". والشعار المعلق زائف، على أضعف تقدير مهذب، وكاذب، على تقدير آخر.
والنسب الامبراطوري، والانتساب الى أمومة "الحياة" أو أبوتها وإلى "روح الإنسانية"، يقودان الى جَبِّ التاريخ، وقصره على تذكر نرجسي متوحد، من غير حوادث ووقائع، ومن غير لبنانيين من خارج الأصلاب وعمود النسب. فلا تعقل حوادثُ ونشأةٌ عن غير "صناعة الموت (والشهادة)". ولا تزن في كفة هذه الصناعة أفعال غير نسبية، ولا قومية، مثل التعلم والإعداد المدرسي (في المدرسة الشرقية الفاتيكانية فوق هذا!)، وأخذ الطباعة والمطبعة عن أصحابها الأوائل و "الأغراب"، واستصلاح الأرض وحرثها وتمليكها الأسر والأفراد وإخراجها من يد السلطان، والخروج من معقل الأهل الأول و "الانسياح" في ديرات الجيران المتروكة مواتاً، ومثل تولي الأهالي في بلداتهم تسيير أمورهم وانتخاب من ينوب عنهم الى التدبير البلدي والمحلي موقتاً ومداورة (بدير القمر وزحلة أولاً)، وإرساء الروابط بين الجماعات على نسيج الأعمال المشتركة والمتشابكة وليس على الولاء المفترض لـ "أمير" متحدر من أشراف السلطنة، والإقرار بكثرة الجماعات والأفراد والمصالح والتواريخ وحقها في المنازعة والمداولة، والصدوع بكثرة الأنساب والذاكرات، ومثل الانتقال من لغة الى لغة، وتجديد اللغة المستأنفة وإحياء اللغة الآبدة، وغير هذا ومثله. ولولا التاريخ هذا لما انتهى إلى الخطيب الخميني المسلح فقه معاني الدولة والدستور والسيادة والحداثة والحرية والتنوع... وغيرها من المفهومات والمعاني التي يحملها، هو ورهطه و "حلفاؤه"، على وجوه غير الوجوه التي تبلورت عليها في سياقات تاريخ اللبنانيين. فالخطيب المسلح يخطب على صفة المواطن، في لغة "لبنانية"، ويعمل عمل (الجزء من) الرعية السلطانية المندوبة الى المغازي وفتوح البلدان والولايات.
والانقلاب من الرعية السلطانية الى المواطَنة، أو المواطنية، اختبار ثقيل، لا ريب في ان رعية آخر، مثل وليد جنبلاط، عانى منه ويعاني الأمرّين. فهو صاحب نسب وذاكرة. ويتقدم نسبه وذاكرته، القومية والشخصية معاً، مواطنته، ويحولان بينها وبين التبلور والحصحصة. فهو، على الدوام، محل دراما عائلية. وروايته هذه الدراما الى شاشة "الجزيرة" في 13 آذار مفعمة، مرة أخرى، بالتفاف الأنساب، وعودتها على بدئها ووراثتها، وتذكرها ونسيانها، وانقطاعها بالقتل والثارات والخصوصية، وانبعاثها من طريق الخوف والأوبة الى النفس والعمومية والتضحية.