الاثنين، 24 يناير 2011

دخول المجتمعات المشرقية عصر الدولة الوطنية والكيانات السياسية من باب «الثورة السلبية

المستقبل، 23/1/2011
استقرت الكيانات السياسية والإدارية و«الاجتماعية» (على معنى الجماعات الأهلية) العربية في المشرق، وخلفتها الدول المستقلة من دون تغيير إلى اليوم، على رغم تجاذب نشأتها، ثم استقرارها ودوامها وثباتها، موقفين متباينين وربما متناقضين (عطفاً على مقال الكاتب في «نوافذ المستقبل»، 9/1/2011). فمن وجه، بدت هذه الكيانات تقسيمات إدارية وبلدانية جغرافية وأهلية قريبة من تقسيمات الولايات العثمانية في طورها الأخير (1864 1871)، وهي رست على 27 ولاية تجمع الواحدة سناجق ومتصرفيات ومديريات وأقضية ونواحي يتصدرها وال وطاقم إداري استانبوليان). وكانت مجتمعات هذه الولايات تؤلف تأليفاً مضطرباً ومترجحاً بين جماعات أهلية وإقليمية تتمتع أو تقوم بإدارة بلادها وديراتها و«مجتمعها الخاص» (على قول سليمان ظاهر العاملي النبطاني فاللبناني)، وتقر البلاد والديرات على أهاليها وعاداتهم وتقاليدهم، وبين «قمم« ونخب، أعيان وموظفين وأعضاء مجالس عمومية منتخبين ووجهاء صف ثان...، تنخرط المجتمعات هذه من طريقهم في أطر «مجتمع» سياسي سلطاني رخو الترتيب ومائع المراتب. ونحا المجتمع السياسي السلطاني، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، نحو بعض التماسك والتشابك على قاعدة ائتلافية وكونفيديرالية مضمرة، بينما أقامت الجماعات الأهلية، القرابية والبلدية والمذهبية والقومية، على معظم أحوالها من التفرق والتباين والانكفاء.
فالوَصْلات والجسور والشبكات بين الجماعات ومجتمعاتها الخاصة وديراتها إنما معظم مصدرها «الدولة»، على المعنى العثماني التركي الذي يلحظ شطراً عريضاً في هذا المعنى للحوالة أو جهاز الجباية والأمن القسريين والمتعسفين. وما كان مصدرُه من الوصلات والجسور والشبكات «طبقات» الحكام، وأهلَ الرئاسات المحليين، كان ضعيفاً، ورهنَ الإدارة البيروقراطية والإرادات السلطانية والتعيينات والوكالات. وهو، إذا استقل عن البيروقراطية والإرادات احتذى على المثالات والسنن المعروفة والمعهودة. فالمجتمع السياسي العربي في كرسي السلطنة، في المجالس المنتخبة وفي الجمعيات على حد سواء، إنما جامعه ولحمته مصاهرات الأعيان، وقرابات أسرهم وعشائرهم. فاستوت «الدولة» والمجتمع السياسي الأهلي في تعاليهما عن الجماعات المحلية، وفي تصدرهما الجماعات وقيادتها وحكمها من غير علاقات تمثيل أو روابط مصلحة قوية. فالتمثيل، في هذه الأحوال، مال إلى صيغة هي أقرب إلى التجسيد، وإلى التمثيل على الجسم الأهلي والعصبي المنفصل، وعلى وحدته وكتلته بإزاء الوحدات («القبائل» القبيل على معنى المقابل النظير) الأخرى. وعليه، فالتمثيل لم يكن تمثيلاً مركباً يبطن ويعلن معاً انقسام الجماعات وفروقها الداخلية، وموازين مصالحها وقواها المتغيرة والمتقلبة. فهذا، أي التمثيل المنقسم والمركب، ليس شأن الرئاسات «العربية» أو مثالها الأنموذجي، المتخيل والفاعل في آن. وهو ليس شأن السلطنة، وأبنيتها السلطانية، كذلك. فهذه إنما تمثّل على مجتمع الأمة أو الملة، وعلى شملها الملتئم والمتصل، فوق الأقوام والحوادث ومن طريق حبل سرة هذه وأولئك، بالمبعث والدعوة والفتوح والسلطان في الأرض. فالسلطان في الأرض، ببرَّيْها وبحريها، أي التسلط عليها (وجبايتها) هو جزاء الإقامة على «العهد»، شعار نشرة الحزب الخميني المسلح (في لبنان) الأولى. والسلطنة الجامعة والمسكونية، على قول روماني فكنسي كاثوليكي، هي ظل الواحد المتربع على العرش في الملأ الأعلى، بحسب تصريح أول أئمة الفقه المسلمين، أبو حنيفة (صاحب فقه الحنفية، مذهب السلطنة المقدَّم منذ صوغ مدونة «قانوننامه» في عهد سليمان القانوني او «الرائع» على رأي الأوروبيين)..
[تعرف وإنكار
فجاءت الكيانات السياسية والإدارية والاجتماعية الأهلية الجديدة في صورة إقامة شطر راجح من القديم على قدمه وحاله. وأصاب التجديد، للوهلة الأولى، «الولاة» النافذين والمنتدبين إلى التدبير والحكم والسلطان وحدهم. وهم في الحالين، العثمانية والجديدة الخالفة، يسميهم وينصبهم من هم فوق الولاة والرئاسات والمناصب. والأولياء الجدد يصدرون في سياساتهم وتدبيرهم ورسومهم، وفي هيئاتهم وأشخاصهم وألسنتهم ومعتقداتهم، عن معانٍ ودواعٍ وغايات تخالف المعاني والدواعي والغايات التي يصدر عنها أهل مجتمعات السلطنة سابقاً، وتنقض معظمها. فبدت الكيانات الجديدة، في هذه المرآة، مقحمة وهجينة ومتعسفة. وهذا هو الوجه الآخر، أو الموقف المباين والمناقض للموقف الأول الذي حمل الكيانات الجديدة على الكيانات السابقة والمستقرة في ختام نحو قرن من الزمن («أوله» التقريبي بداية الإصلاحات في العقدين الثالث والرابع من القرن التاسع عشر، وآياتها إلغاء الانكشارية وتقييد إفتاء شيخ الإسلام وابتداء إلغاء التمييز الديني والقومي في ولايات السلطنة). فلم يتعرف «مسلمو» الولايات السابقة، والدول والكيانات الجديدة، على تدوير وتربيع وتقسيم وضم طاولت الأقاليم في حدودها الجديدة، لم يتعرفوا «الأوطان» الجديدة أوطانهم، ولا «الدول» دولهم.
والحق ان الإنكار هذا، او رفض التعرف، كان نظير الإقبال والانقياد (أو الوجه الأول) وضوحاً وبروزاً. وهذه عبارة مواربة أو ملتوية للقول ان الإنكار كان على قدر الإقبال والتسليم ميوعة ورخاوة. فالنخب السياسية الأهلية المتحدرة من السلطنة في مرحلتيها، الإصلاحية والمحافظة المنكمشة (مع عبدالحميد الثاني ثم مع الضباط الاتحاديين القوميين في العقدين الأولين من القرن العشرين)، أقامت في المجالس الاستشارية التي جلست فيها وانتدبت إليها، وفي الوظائف او الأعمال التي تولتها، وفي الرئاسات والمناصب التي آلت إليها من أنسابها وأحسابها، والجمعيات والمحافل التي ضوت إليها على أحلافها وائتلافاتها الرخوة وغير الملزمة إقامتها على خلافاتها وانقساماتها غير المقيِّدة. فلا الجمعيات (السرية) ولا المحافل والمنتديات والصحافة العلنية وسَّعت فعلاً دائرة المجتمع السياسي «الضيق»، على ما وصفه لونغريغ مؤرخ الانتدابات الأوروبية في سوريا ولبنان والعراق، ولا غيرت معايير انتخابه، وإعماله نفوذه، وعلاقات مراتبه وأجزائه بعضها ببعض. فبقي، في معظمه، مجتمع رئاسات وأعيان ومشيخات ووجاهات، يتصدر جماعاته الأهلية، ويمثل على هيئاتها وأجسامها المتخيلة، وعلى مقاماتها ومكاناتها المفترضة.
وخسارة العروة أو الرابطة الإسلامية التي تعهدتها السلطنة الخلافة، واستمدتها السنن والرسوم والاجتهاد، أيقن رعايا السلطنة العرب المشرقية مفاعيلها أولاً وعلى الخصوص من طريق وطأة المصالح والانقسامات المذهبية والدينية، وزخمها الجديد في إطار الكيان السياسي الضيق والملحق بدول الوصاية والانتداب الأوروبيين. فتقدمت الوطأة هذه، وتقدم إطارها، الخسارة المباشرة نفسها. والأرجح ان الإحساس بهذه اقتصر على رئاسات الأجسام المذهبية وسلكها ومناصب السلك هذا. وليس هذا تهويناً من أثر ما استشعره أهلون كثر خروجاً عن نظام حكومة، وهيئة اجتماع ومعيار معنى استقرت (النظام والهيئة والمعيار) في الأمة استقرار الطبائع في الخلق. ولكن ترك السلطنة الخلافة، وهي كانت سلطنة فوق ما كانت خلافة، وترك أبنيتها، السياسية والإدارية إلى أبنية وطنية وكيانية، فضلاً عن انه دام حوإلى قرن من الزمن أصاب فيه السلطنة المرض (على قول القيصر الروسي)، حصل تدريجاً وعلى مراحل أرهصت بالكيانات القادمة، ولوحت بالمنافع والمصالح والعوائد المترتبة على «الأندستري قولونيه»، على ما سمى رفاعة رافع الطهطاوي الإدارة الاستعمارية والسان سيمونية المتوقعة. وهي عوائد ومنافع مترتبة كذلك، على مرافئ الإدارة ومواصلاتها البرية المعبدة والحديد وتجاراتها ومرافق عملها وسيولتها النقدية وسلعها ومهاجرها ومدنها، ومتعها وحرياتها وقوتها. وجملة هذه هي ما سماه المعاصرون تقدماً وتمدناً ونهضة وإحياء وعصرية (في وسم كتاب رفاعة الطهطاوي الثاني «مناهج الألباب»، 1869).
وفي الأثناء، حدس بعض الساسة وأصحاب الولايات والأراضي والموظفين والمتعلمين المدنيين و«الإكليركيين» المعممين والطلبة والتقنيين والمترجمين والتجار، وذلك في سياق التوسع الأوروبي المتصل والنزاع العام على الأقاليم والموارد وطرق التجارات الشرقية المتفرقة، حدسوا في أسباب «التقدم» الأوروبي، وفي أسباب «تأخر» المسلمين أو الشرقيين أو العرب أو العرب المسلمين، تباعاً على وجه التقريب. وحُملت هذه، أي أسباب «التأخر»، على خلاف تلك وأضدادها الرأسية والحرفية. وافتتن «عوام» الجماعات الحادسة وأطرافُها، مرتبة ومكانة وحرفة وإقليماً وطائفة أو مذهباً وسناً، بوعود «المدنية» الآتية مع «ريح الغرب»، وبثمرات التشبه بها، ولباس جلدها وقميصها (أو تقمصها) والانتساب إليها والمتِّ بحبل سرة داخلي وحميم، على ما رجا طه حسين من بعد. وعوَّل عوام الجماعات فيما عوَّلوا عليه من ثمرات المدنية العصرية، على امتلاك أسباب القوة و «المنعة»، وعلى المساواة في الرعية، ثم في الحكم وتولي المناصب وحيازة الثروات والممتلكات (وخصوصاً الأرض)، وتعظيم العوائد من المعاملات التجارية والمالية والعلمية مع دول الغرب وشركاته ومعاهده ومدارسه. وبرز نقد «الاستبداد» في السياقة المعقدة هذه عَلَماً على منازع كثيرة ومشتبك بعضها ببعض. وتناول معظمها العوامل المحدثة في الاستبداد ووطأته الشديدة. وكان التحديث الإداري والمالي والعسكري والاستخباري الأمني والسياسي (التمثيلي) حمل السلطنة، ونواتها السلطان الخليفة نفسه، ومن ورائها وفوقها دول الوصاية الأوروبية المتنازعة، حملها على التشدد في جباية ضرائب التلزيمات العائدة إلى القروض وأبواب إيفائها. وأخرجتها من أيدي الملتزمين المحليين والأهليين المتفرقين إلى يد بيروقراطية صارمة ومتجبرة وفاسدة معاً.
[المختلف والمؤتلف
فتضافر على التنديد بالاستبداد السلطاني، مطلب المساواة، جماعات وأفرقاء متفرقة المنازع والمصالح والأحوال والغايات. فمن الأفرقاء جماعات أثقل عليها التمييز الملي والديني، وحَصَرها في ديرات ضيقة، ومنعها من اتصال بعضها ببعض، واتصال كلها بماضيها وتراثها وبنظرائها وأشباهها و «إخوتها» خارج «الحدود» المتغيرة والسيادة المفروضة. وضيَّق التمييز على هذه الجماعات آفاق القيام بنفسها، واستقواءها بأحلافها وفرصها المتاحة، وتوليها الولايات والأعمال العالية، وتثمير الموارد في بناء هيئاتها والإصعاد في مراتب التماسك والمناعة والقوة. ومن الأفرقاء جماعات أثقل عليها الترتيب القومي (وليس «القومية» بعد وتقدمُ الترك، من حاشية السلطان القريبة ووزرائه ومواليه وصنائعه ومفتيه وعيونه وأرصاده ومدبري الديوان الخاص والضباط، أعيانَ الأقوام الأخرى (والعرب على الخصوص) وخواصها وأبناء هؤلاء المقيمين بالآستانة، والمتعلمين بها أسوة بزملائهم من العرق التركي والمتكلمين بلسانه على رغم إدلالهم بـ «لغة القرآن» واعتزازهم بها. والترتيب القومي فرَّق صفوف الأقوام نفسها ورتبها بدورها على مراتب متنازعة. فتقدم الموظفون ومن جمعوا «العِلم» والدراية البيروقراطية والتقنية إلى المكانة في قومهم والثراء، ابناءَ العشائر «الخلص». فأقام معظم هؤلاء على بعدهم وحذرهم وتحفظهم عن هيكل المراتب العثماني، وعصبيتهم عليه ومناوأتهم إياه على هذا القدر أو ذاك. وتغذت نقمة كلا الفريقين واحدهما على الآخر، وتضرب النقمة هذه بجذورها في منازعة أهل البداوة وأهل الحضر والزرع، وفي حصار الأولين هؤلاء وجبايتهم على شاكلة «الخوّات» (أو ضريبة «المؤاخاة» المزعومة وعلاوتها لقاء رفع الحصار والكف عن السطو والنهب).
وترتب على وجهي التمييز، المذهبي الديني والقومي، وصحبَهما تمييز اجتماعي أو «طبقي» لا يقتصر على التصنيف على طبقتين هما طبقة الرؤساء وأهل القوة وطبقة العوام وأهل الضعف. فالسلطنة نهضت، شأن الممالك عموماً و (الممالك) القومية الدينية خصوصاً، على فروق بين الفاتحين المستولين، وهم قوم وديانة، وبين أهالي بلاد الفتوح ودياناتهم. وهؤلاء، بدورهم، طبقات ومكانات. وسعت السلطنة الخلافة في استتباع رئاسات الجماعات الأهلية المسلمة ببلاد الفتوح. فأقرتها على مراتبها السابقة في جماعاتها، وألحقتها في خدمة ولاتها وعمالها، وقربت بعض الرئاسات الأهلية، واستعملت نفوذها المحلي في تقييد سلطة الولاة والعمال العثمانيين ونازعهم إلى التحايل على استانبول، واقتسام النفوذ والأموال معها، وانتهاز فرص الاستقلال عنها. وأما بعض أقوام غير المسلمين من أرمن ويونانيين (أروام) ومسيحيين «عرب»، فندب بعض أفرادها إلى أعمال فنية وتقنية وتنفيذية وإجرائية. وآذن إلغاء الانكشارية، وتقييد سلك المفتين وعلى رأسهم قاضي القضاة شيخ الإسلام، وابتداء «التنظيمات»، معاً، بإضعاف الحاجزين الديني والقومي بين الفاتحين وبين الجماعات الأهلية والمحلية (الوطنية). وفتح تدريجاً باب عثمنة ضيقة ونزرة، كان شرط ابتدائها، قبل توسعها البطيء، ارتضاء قمم السلطنة الخلافة ضعف الحواجز بين المراتب القومية والدينية على جهتي المراتب وضفتيها، العثمانية والمسلمة من جهة، والأقوام والديانات الأخرى قبالتها ونظيرها. ولعل الفصل الأول من السيرورة الطويلة والمتعرجة هذه هو دخول السلطنة الخلافة الجوق الأوروبي من باب ضيق، وانخراطها في دائرة قيادة العالم السياسية والأوروبية. وصفة المرض التي أطلقها القيصر الروسي ألكسندر الثاني على استانبول أو إنما أوقعها طاغية شرق أوروبا على «رجل أوروبا» (المريض)، على ما وصف تركيا العثمانية.
فـ «التنظيمات»، ومقدمتاها: العسكرية (النظام الجديد محل الانكشارية) والقضائية الحقوقية والفقهية (حل قبضة علماء الدين على الاجتهاد والأحكام)، اضطلعت بدورين متلازمين هما إدخال السلطنة في منظومة الأمم الغالبة والمتنازعة والمتباينة الثقل لقاء تخليها المتدرج عن عوامل عزلتها وحصانتها (القومية العسكرية والدينية القضائية). وكانت عواملَ قوة السلطنة الخلافة في أيام فتوتها التي صادفت انعطاف أوروبا من نظام التقسيم والاقتتال الإقطاعي والجامعة الكنسية إلى نظام نشوء الممالك المطلقة والإقليمية الوطنية (ومهدت هذه طريق الدول الأمم التالي). وتقدم التخلي عن عوامل العزلة والحصانة، وتقدمت مترتباته المتلازمة والمتشابكة المكاسبَ المحتملة والناجمة عن دخول السلطنة نادي الدول الكبيرة الست. وتغليب الصفة الاستعمارية على سياسة دول الجوق الأوروبي بإزاء العضو الضعيف، وإهمال حال الشراكة واحتمالاتها ومواردها الجائزة، يقودان إلى التقليل من دور موازين القوى في منازعات الدول، ويصرفان صرفاً مؤذياً عن فحص العوامل الموضوعية، العسكرية والاقتصادية والإدارية والنفسية الإرادية، وأثرها في مصائر العالم السياسية والعامة. والانصراف عن الفحص هذا يُسلم إلى إدانة أخلاقية ملتبسة. وهذه تعمي بصيرة صاحبها عن أحواله السابقة والراهنة، وهو «استعماري» مستول ومستبد قاهر شأن من يدينهم، وتحله من تبعاته الماضية واللاحقة عن ضعفه، وتدعوه إلى تشخيص عوامل قوة زائفة ومتوهمة. (وقد يدعو إلى النظر في فصل وجهي «المرض» العثماني، وجواز الفصل وصحته، مديح أحمد داود أوغلو، وزير الخارجية التركي، في كتابه «العمق الاستراتيجي»، توسل ديبلوماسية السلطنة في الحرب الروسية العثمانية الثانية، 1877 1879، منازعات دول الجوق الأوروبي وتغذيتها على خلاف انقيادها إلى ائتلافها وتنسيقها في أثناء حرب القرم قبل نحو عقدين. وهذا كان محالاً لولا وجه الشراكة).
فلا غرابة إذا قصّرت إدارة السلطنة عشية الحرب الأولى وغداتها مباشرة، عن معالجة المنازع «الليبرالية» في الولايات التركية نفسها وفي الولايات العربية، واستباق التيارات الانفصالية والاستقلالية القومية والدينية السياسية المتضافرة والمتشابكة. ولا عجب، من وجه آخر متممٍ الوجه الأول، إذا التبست مدافعة التمييز (المرتبي) الديني والقومي بمناهضة الاستبداد السياسي والمدني، وإذا التبست المدافعة والمناهضة هاتان بالتقييد الاجتماعي والاقتصادي الناجم معظمه عن النظام السلطاني ومقوماته وإدارته. فهذه الوجوه، الملتبس بعضها ببعض، حال التباسها المعمّي دون بلوغ المنازع والتيارات والحركات المتفرقة (التحررية السياسية والدينية والقومية والأهلية و«الاجتماعية»...) آمادها ومراميها البعيدة. فكبحت الرابطة الدينية الباعث القومي، وقيد الباعثُ القومي المنزع الليبرالي، وخنقت الرئاسات العصبية والمرتبية الدينية رغبات عامية محلية وبيروقراطية إدارية في إضعاف نظام المراتب وتبعاته القديمة والمستجدة، وحاصرت البوادي الرابضة على تخوم الأرياف الهزيلة ومدنَ الخطط المملوكية المسورة والخائفة من البحر ومن الداخلية معاً.
[السلطنة والمملكة والحدود
فلم تتحصل من الالتباسات كلها هذه لا حركات شعبية أو أهلية عريضة وجامعة، لا يستعدي بعضها بعضها الآخر أو أبعاضها وأجزاءها استعداء مستميتاً ومميتاً، ولا كتلُ نخبٍ متكاتفة على تشخيص احتياجات ومطامح مشتركة ومتواردة على هذا القدر أو ذاك. ولم تتوصل «مذاهب» فكرية أو ثقافية تعد العدة لجلاء موقع المجتمعات والبلدان، العثمانية إلى الأمس أو المخلفة الرابطة العثمانية وراءها والمستقبلة مصائرها الوطنية الوشيكة والآتية، من العالم، ومحلها من أطواره ومن أطوارها الذاتية. فغلب خليط أهلي وديني وقومي عصبي ووطني واجتماعي فئوي صنفي (أو طائفين، من طوائف الحرف)، حداثي وتقليدي، لا يتميز ولا يترتب على مراتب. فدخلت المجتمعات والبلدان، وأقوامها وجماعاتها وأهاليها، الدولة الوطنية والسياسية المحدثة ووجهها (وجوهها المتفرقة) إلى مواضيها المتخيلة والمتوهمة الامبراطورية وروابطها الداخلية الصلبة وقيود المواضي والروابط. فكانت «الثورة» الوطنية الديموقراطية (العامية) صاحبة الدولة الموعودة، وصانعتها متعاونة مع دول الانتداب والسيطرة ومخالفتها ومناقضتها معاً سالبة أو سلبية. وهذا كناية عن جمعها كتلاً وشراذم من غير لحمة داخلية مركبة، ولا كتلة غالبة «استحقت» الغلبة وحلقت حولها كتلاً مختلفة أقامت على اختلافها. فالدولة الوطنية والسياسية المحدثة أفضت إلى جماعات الولايات، وآلت إليها. وهي لم تردها على هذا الوجه، ولا على غيره، لا جغرافية وحدوداً، ولا سكاناً وجماعات، ولا موارد ومواصلات، ولا إدارات وهيئات، ولا مزيجاً أو تفرقاً.
والحق ان العقود الأخيرة التي سبقت الخروج من السلطنة، ومهدت الطريق إليه على أنحاء كثيرة ومتضاربة، لم ترهص بمصير مختلف، ولم تجل سياسات جائزة أخرى (على وجه الدقة: لم تجل نسيجاً «اجتماعياً تاريخياً»، على قول أحد المفكرين المعاصرين، آخر، وهذا النسيج هو الأرض أو التربة التي يضرب الاجتماع المفرد بجذوره ومصادره وموارده فيها). ولعل آية الحال هي ما سمي «الثورة العربية الأولى» أو «ثورة» الشريف حسين. فنهض عَلَماً على دخول المشرق العربي عصر الدولة الوطنية والسياسية الجديد نقيبُ الأشراف الهاشميين بالحجاز، وأمير مكة وديراتها وضواحيها البدوية القريبة (قياساً على الأحلاف القبلية القوية في الداخل)، المنزوع السلاح والضعيف الشوكة والعصبية والدالة، ووكيل الولاية العثمانية الإسمي، وأليف البلاط السلطاني، و «حليف» عامل استخبارات الجيش البريطاني بمصر. وشهرس إ. لورنس نسب الشريف الهاشمي النبوي والعربي «سلاحاً ميتافيزيقياً»، على قوله في مضمون دعاوته وتحريضه على استانبول وقواتها وسكتها الحديد. وتجاوز النسب الشريف، أشرف الأنساب في المجتمعات العربية والإسلامية، الطبقات الناشئة (الطريفة) والقديمة (التليدة)، الطامحة إلى الحكم والقيادة والمجرَّبة بعض التجريب في المضمار هذا والمتخللة الجماعات الأهلية والإدارات. وتخطى اقتراحه على الرئاسات الأهلية الاجتماعية رئيساً، أو شيخاً وملكاً، الجماعات المتفرقة، من أهل مدن وأهل أرياف وأقوام غير عرب وأقوام غير مسلمين، ومن تجار وأعيان وملاكي أرض وإداريين ووجهاء صف ثانٍ وفنيين وكتّاب ومدرسين...
فتنصيبه بهذا المنصب (أي تنصيب ابنه فيصل)، وهو من هو نسباً وعملاً و (ضعف) أواصر بـ «مملكته» ورعيته وتطرفاً في ميزان البلدان وماضياً ودراية، إنما هو قرينة على محل السياسات في «الاجتماعي التاريخي» وأبنيته «العربية» أو المشرقية. فالسياسات، بهذه الحال، لا تعدو المنصب أو المناصب، أي تصدر الجماعات المتلاحمة والتحصن بها وتحصينها وتجييشها وتعبئتها، واستتباع الجماعات الأضعف منها، وضمها وجبايتها وتجنيدها في «حروب» وغزوات. ومثال هذه السياسات هو السلطنة أو الامبراطورية (واللفظة العربية كانت تطلق على ملك شيوخ عشائر صغيرة، واللفظة المعربة والفخمة ينبغي ألا يعدو معناها معنى الأولى، فليس ما يدعو إلى انتفاخ الأوداج حين تراد بها دولة هزيلة وضعيفة وفقيرة جل طموحها ان تكون عقدة طرقات وأنابيب). و «السلطان» لا يصدر عن «تحت»، ولا يتحدر منه، ولا يستقوي بغير عصبيته ونسبه «النبوي» الحقيقي أو المتوهم، وبغير أجهزته التي تمده بها الدولة الوطنية المحدثة. وسلطنته «الواحدة» إنما لحمتها من فوق. وهذا ما شَبَّه على «عرب» مطلع القرن، ولا يزال يشبِّه على بعض «طلائعهم» و «نخباتهم»، على قول أحد أئمة عصبة منها، أن الوحدة القومية العربية هي «مشروع» غير سياسي، وأن ما يحول دونه هو المصالح «القطرية» الضيقة و «معوقات» مصطنعة. (ومن محدثات «الخطاب القومي» أنه «انتبه» إلى «مسألة الأقليات» في العقد الثامن من القرن الماضي، للقول أن حد أنسباء «الخطاب» العتيد تطرق إلى المسألة، متخلفاً 14 عقداً عن السلطان محمود الثاني، فـ «الخطاب القومي» المزعوم يحذو على مثال سلسلة المحدثين، وهو يختص بحديث أو «علم»، ويتناقله وحده).
وحين اضطر الملك المنصَّب بقوة نسبه، وضعف شوكته، وتعاليه عن المحايثات الأهلية والوطنية والإدارية، إلى الدفاع عن منصبه، لم يطق دفاعاً ولا حرباً. ولم ينجده «أحد»، على المعنى العسكري والسياسي. واستجابت «الدعوة»، على مقدار ضئيل وعابر، جماعات طرفية، عسكرية محترفة أو بدوية تنزل الثنايا بين بلاد الرعي وبلاد الزرع (وينهض علماً عليها أدهم خنجر في أطراف جبل عامل، وملحم قاسم في البقاع الشمالي، وقادة «الثورات» الأهلية السورية والفلسطينية والعراقية واللبنانية إلى اليوم، وهي مرت في القسم الأول من المقال). والجماعات الطرفية هذه هي مادة «المقاومات» المتعاقبة، ووقود حروب أهلية إقليمية فوق ما هي حركات وطنية وسياسية. ودأبها الاستيلاء والاقتطاع والسطو والولاء وليس الحكم والتدبير والتأليف. وقبيل تسليم فيصل وغداته انفجرت حدود الولايات القديمة، واضطربت بحركات (أو «هرجات») نازعت الكيانات الناشئة على أراضيها. فمن البوكمال، بين سوريا والعراق، شمالاً، إلى مدين على تخوم الاردن، جنوباً، وبينهما الأكراد والأحلاف البدوية والعشائرية المحلية والجماعات المذهبية ومجتمعاتها الخاصة والمدن، قامت جماعات أهلية متفرقة على السلطان الأجنبي، وعلى الطبقات والرئاسات المتصدية لحكم الكيانات الجديدة، وعلى أهل الزرع والتجارة والبلدات والمدن الصغيرة وغير المسلمين. وهؤلاء هم الخصوم والأعداء. فتناثرت «المملكة العربية» جماعات وعصابات وبلاداً ونواحي. فجمعتها الدول الأوروبية الغازية والمحتلة مجتمعات «وطنية» وحلقتها حول أجسام إدارية وعسكرية إقليمية، ومرافق تمثيلية واقتصادية ومالية وتعليمية ومواصلات. ولم يفضِ انقلاب الأنظمة السياسية، وتداولها حكم بلدانها، في أعقاب قرن مضطرب، إلى تغيير ثابت في حدود الكيانات هذه. وحالا فلسطين والاردن، وشطري اليمن، لا يكذبان الملاحظة. وباءت 3 عقود من المحاولات السورية بفشل مدمر قصاراه إطلاق حروب أو منازعات أهلية وإقليمية من عقالها.

الثلاثاء، 11 يناير 2011

«المقاومة» النظامية ـ الشعبية وليدة سيطرة ظرفية على عصبيات أهلية وجهازية

المستقبل 9/1/2011،
يتكرر في مقالات الخمينيين الحرسيين، وفي مقالات الإسلاميين السياسيين، وفيما يذهب إليه أنصارهم ومريدوهم وجمهورهم، احتجاج واحد يسوغ سياساتهم كلها، منذ نشأتهم في أوقات متفاوتة وبلاد متفرقة، بأمر عظيم هو إنجازهم أو بناؤهم قوة فاعلة وملموسة. وهذه القوة العسكرية، وسعها مقاتلة العدو، الغربي، الأميركي الصهيوني على وجه التخصيص، والثبات في وجهه، وردعه عن عدوانه المتكرر والرخيص التكلفة عليه، وحمله على النظر المتأني والمَلّي في كل مرة ينوي فيها شن حملة عسكرية على «بلاد» الخمينيين والإسلاميين. فهم أقاموا ميزان رعب متبادل أو ميزان ردع مستقيماً، على قولهم مستعيرين بعض مصطلح الحرب النووية وغير التقليدية. والحال هذه يوكل إليها جلاء الفرق العميق، والبون الشاسع بينهم وبين من سبقهم إلى مقارعة العدو، من منظمات فلسطينية مسلحة، وحركات يسارية محلية، ودول عربية اضطرت إلى قتال الدولة العبرية قبل ان تهادنها أو ترضى السلم معها. وكفة المنظمات والحركات والدول عريضة ولجبة. ويملأ الكفة علناً، من غير إضمار أو تورية، معظمُ التاريخ العربي المشرقي المعاصر أو القريب منذ غداة الحرب العالمية الثانية وعشية «النكبة««
وقوام التاريخ أو التواريخ الإقليمية والوطنية حوادث معروفة، أو تفترض معروفة، تنهض معالمَ على الخسارة والانهيار والتآكل. وهذه كلها جمعها، على معان مختلطة ولا تحصى، ما سماه الدعاة و الخطباء والكتّاب والمثقفون» العرب»، طوال نحو القرنين، الانحطاط، على تباين أوصافه وتشخيص عوامله. وقلما يبالي محْدَثو الحركات هذه، وهم ابتدأوا سيرتهم أو سيرهم غداة 1973 وحربها (وأسعار نفطها ومفاوضات سلامها والانقسامات الأهلية والسياسية الإقليمية التي لابستها وخلفتها وسياسات الانفتاح الاقتصادي غداتها)، قلما يبالون بإسناد مقالاتهم إلى سوابق وأنساب غير إسلامية وغير مذهبية. وهم، صدروا عن سيد قطب وقبله عن حسن البناء أم صدروا عن روح الله خميني وخالفيه، لا يقرون بسبق التشخيص، فضلاً عن سبق العلاج لأعلام «الليبراليين»، على ما سماهم ألبرت حوراني في تأريخه «الفكر العربي الحديث» وتابعه كثر على تسميته السريعة والمبتسرة. وعلى هذا فـ «الانحطاط» ليس من مصطلحهم المعلن، على رغم انهم يعنون أو يريدون بالضعف، والهزائم العسكرية والشعبية، بعض المعاني التي أداها «الانحطاط» في المقالات والسياسات «الليبرالية» أي غير الإسلامية. فإذا هم أحصوا علامات الضعف المعيبة والمهينة لم يبعدوا فوق 1948 أو قبلها، على ما صنعت «وثيقة» الحزب الخميني بلبنان في أوائل 2010، وعلى ما يؤرخ معظم المشرقيين الفتيان (و2 من ثلاثة منهم لما يبلغوا الثلاثين من العمر).
[نقيصة الوطنية
والعلامات هذه لا تقصر الضعف على الوجه العسكري، على نحو ما ان القوة العسكرية المحصَّلة والمفترضة التي يُدِلُّ الخمينيون الحرسيون والإسلاميون «الإحيائيون» (والجهاديون) بإنشائها ويفاخرون، إنما يثبتونها قرينة دامغة على ثورة «إسلامية» و «حضارية» (على قول محمد حسين فضل الله) شاملة، نقلتهم، هم الطليعة، من الاستضعاف إلى القوة، وإلى منطقها وكرامتها معاً. وهذه الحال هي حجتهم على جدوى معالجتهم وطبابتهم الضعف العام والشامل بدوره الذي اعترى إرادات المسلمين ونفوسهم وعملهم وعروتهم وعلمهم، على ما ذهب إليه محمد باقر الصدر في كتابه أو بيانه الأول (فلسفتنا، 1959). وينبغي ان يكونوا غير مسبوقين في إنجازهم وصنيعهم. وهم لا يحسبون المفخرة المصرية، أو المفخرة السورية (الأسدية)، في خريف 1973، من مأثور الحوادث التاريخية الكبيرة أو المجيدة، العربية وبالأحرى الإسلامية. ولا يشفع للحرب العربية الأولى التي بادرت إليها الدولتان المصرية والسورية إنجازُها ما أنجزته. وهي لم تنتهِ إلى تداعٍ سريع وكبير، وردت ارضاً محتلة، ومزجت الحرب بالسياسة والديبلوماسية، وقامت دليلاً على حسن التصرف في ميزان القوى وإعماله في خطة.
فعيوبها، في عين الإسلاميين المحدثين، تفوق بما لا يقاس فضائلها: فهي حرب سياسية و «ضيقة» الغايات والأهداف وليست جهاداً توجه دمارُ العدو واستئصاله وتداعيه، على ما تعاقب خميني ورفسنجاني وخامنئي وأحمدي نجاد على التوقع و «التنبؤ» والاشتراط. وهو ما يتوقعه، اليوم، محمد ضيف العسكري الحماسي الأول. والحرب اشترت وقف النار إما باعتراف بالعدو أو بهدنة طويلة و «قطرية» لا تزال علامة على ضعف مقيم. وقام بالحرب وطنيون مصريون وسوريون حملوها على خاتمة الحروب، عقدوا صلحاً وسلماً شأن أنور السادات أم سلَّموا بوقف نار لم ينتهكوه طوال 40 عاماً تقريباً (إلى اليوم)، وحوّلوا الحرب أهلية وخارجية إلى مسارح احتياطية أبرزها المسرح اللبناني، على ما أقر عبد الحليم خدام غداة «انشقاقه». وناوأ الوطنيون المصريون والسوريون، على رغم خلافاتهم فيما بينهم، الإسلاميين مناوأة حادة، فلم يَسْلم منها في دائرة النفوذ السوري الأسدي إلا من وإلى مضطراً أو مختاراً هذا النفوذ، وانقاد له وخدمه.
ولعل سمة حرب 1973 الوطنية («القطرية») المحدودة، والتقليدية، سلاحاً وقتالاً وأعرافاً وغايات، هي عيبها الأول، ونقيصتها الجوهرية. و «قطريتها» وَلَدت الرغبة في الدعة والسلام التي استبدت بأهل هذه الحرب وقادتها، غداة وضعها أوزارها على نحو وصفه كثر من منتقديها بالمعيب والشائن والناكص. فعلى زعم المنتقدين، كان في وسع الحرب لو شاء الرئيس المصري وأخلص العزم ولم ينو أصلاً تقديم غرضه القطري الجزئي والسياسي الظرفي على الغرض الكلي والشرعي والمشروع وهو الانتصار الكاسح والساحق على الاغتصاب اليهودي كان في وسعها المضي على مراحلها، وبلوغ غايتها المرجوة. ولا يرخِّص المنتقدون ثمن دوام الحرب، لو هي دامت. ولكنهم يرون ان الثمن رخيص قياساً على الإنجاز المرجو: دار عربية وإسلامية من غير كيان يهودي وصهيوني ومن غير أقليات قومية أو دينية، وبلاد عزيزة يحكمها أهلها وحدهم من غير نفوذ غربي ولا اقتسام عوائد مع مصالح استعمارية، ومكانة دولية محورية في قلب الكتلة البرية الأوراسية العظيمة... ويشبه هذا، في لغة اليوم أو البارحة القريبة، الشرق الأوسط الإسلامي، وهو الرد الإيراني على الشرق الأوسط الأميركي، الأوسع فالجديد المولود من حروب جورج بوش الابن الصليبية على الإسلام والمسلمين.
واختلاط أحلام اليقظة وهلوساتها الخلاصية بالمطاليب السائرة والمعقولة ينبغي ألا يحمل على اطراح الوجه الهوامي من خطابة «المقاومة» الخمينية أو الجهادية، ولا على إهماله وإغفاله. فهو ترتبت عليه نتائج عملية، معنوية وسياسية وتنظيمية ومادية ثقيلة ليس أقلها عصف الحرب الأهلية، المعلنة والمستترة، بالمجتمعات المشرقية عقوداً متطاولة واستواء أجهزة الحكم والسيطرة على ذيول الحروب الأهلية هذه وإدارتها من داخل شكل الدولة ومبانيها. وليس أقلها، من وجه آخر يلازم الوجه الأول نشوء حركات مقاتلة جماهيرية وعصبية استولت على مقاليد الجماعات الأهلية، وحصنت الجماعات من نفوذ الدولة، وسلطتها على مرافق السيادة، وتوسلت بالدولة وكيانها السياسي والحقوقي (الدولي) إلى حماية استيلائها من معايير الحكم المشتركة والعامة المفترضة داخل الكيانات السياسية والحقوقية، ومن موجبات العلاقات بين «وحدات» المجتمع الدولي.
[رسوم الأهل ورسوم الحكم
ويدعو نشوء الحركات المقاتلة الجماهيرية والعصبية، وغلبتها على جماعاتها الأهلية وسيطرتها عليها، ثم انخراطها في الأبنية الإقليمية السائدة، الحكومية والشعبية، تدعو هذه إلى فحص السياسات العربية (المشرقية) ومبانيها التي سوغت النشؤ والغلبة والانخراط جميعاً، وماشتها على هذا القدر أو ذاك، ورجحت كفتها في آخر المطاف (على تحفظ ومدافعة ربما). ولا يعقل دوام النظامين البعثيين في سورية والعراق الأعوام الطويلة التي داماها، قبل سقوط «دولة (بعث) صدام» حسين تحت وطأة اجتياح أجنبي غربي، ولا تكاثر المنظمات الفلسطينية المسلحة عشية حزيران 1967 وغداته، وانتشارها هي ووكالاتها الوطنية والمحلية، في ثنايا مجتمعات المشرق والجزيرة والخليج، ولا استقرار ذيولها على هيئات أو شاكلات «فتح» والمنظمة الخمينية المسلحة في لبنان و «حماس» إلا في ضوء تاريخ سياسي مديد ينبغي على الأرجح احتسابه بالعقود السبعة أو الثمانية الأخيرة، منذ ثلاثينات القرن العشرين إلى النصف الثاني من عقد القرن الحالي الأول والمنصرم. ففي أثناء هذه العقود تمثلت السياسات العربية، حركات وتيارات وأفكاراً وأفعالاً، في صورة رد أو ردود على دورة العلاقات السياسية السائدة والمستقرة، المتخلفة عن الإدارات الاستعمارية المباشرة أو غير المباشرة.
وكانت الإدارات الاستعمارية، ومعارضاتها المتفرقة، أفضت كلتاهما، وأدتا متضافرتين، إلى دول مستقلة ورثت أبنية الولايات العثمانية، الجغرافية والأهلية والسياسية والاقتصادية في عهد «التنظيمات». فتوجت أجهزة سيطرة اتحادية أو فيديرالية مراتب الجماعات الأهلية وعلاقات الولاء التي جمعت بينها جميعاً رخواً، وفرقتها على عداوات وأحلاف داخلية وإقليمية مضطربة، معاً. وركن هذه الدول، أو أجهزة السيطرة، جماعات أهلية قوام تماسكها وتنازعها علاقات نسب وصهر وجوار وحلف موروثة ومتقلبة. ولا ريب في أن انضواء الجماعات الطويل والمديد في أبنية سيطرة سلطانية (أو امبراطورية) جامعة وبعيدة، السلطنة العثمانية آخر حبات عقدها قبل ان تتقاسم النفوذ عليها الامبراطوريات الأوروبية، أقرها على رخاوة ائتلافها فيما بينها، حين خلفت السلطنة على ولاية الحكم وتعريفه. فأقام ائتلافها «الوطني» الإقليمي (نسبة إلى أراضي الإقليم المنفصل)، في طور تولي الحكم، على كثير من سماته وصفاته قبل توليه. فلم ينفك الائتلاف، في طوره الجديد، ضعيف اللحمة، متنازع الولاء، تغلب على أجزائه وكتله دالة أصحاب النفوذ الشخصية والموروثة. فتضافر دوام الأبنية الأهلية، وغلبتُها على رسوم السيطرة والأمر والنفوذ، وما نجم عن الدوام والغلبة هذين من ترجح وتقلب وأزمات معلقة، كلها تضافرت على إرساء طرفي ميزان لا يحظى بالقبول والإقناع ولا يُلجأ إليه في أمور تقتضي الحسم، واستبعدت بلورة قواعد مداولة ملزمة وحاسمة.
ولم تكن الجماعات نفسها أحسن حالاً من قممها ونخبها المؤتلفة في إطار جهاز السيطرة الوطني، قبل الاستقلالات وبعدها. فقوام الجماعات، القرابي والاعتقادي والعصبي، يجمع المتانة والإلزام إلى الشرذمة والتحلل من غير قيد تقريباً. والرابطة العصبية تلزم الجماعات الجزئية والآحاد (على المعنى العددي ومن غير المضمون العملي الفردي) والإقامة على رعاية فرائض الرابطة المعنوية والأدبية. ولكنها تحل الجماعات الجزئية والآحاد من تبعات سياسية ومادية مقيدة. وقد تحمل الجماعات الجزئية، شأن الآحاد، على انتهاك المكانة والطعن في الرأي. والحق ان النسب، الوهمي أو الحقيقي، ينزع إلى نفي الحدوث والجدة عن الوقائع، وإلى إثبات القديم على قدمه (ومثال القدم هو غير المحدث ومن لم يزل، وهو الواحد والحق...)، ويسعى في رد الحادث والجديد إلى قديم عريق. فيقال في تلازم «النسبين»، اللبناني والسوري، أن ما بين لبنان وسوريا لم نصنعه نحن البشر الحادثون، بل صنعه الله القديم. وهو، على هذا، «باق». واستقوى أحد موالي الرئيس السوري بقوله هذا فوقع عشية انفجار «حرب التحرير»، في 14 آذار 1989، على أقرباء له من آله في حلب. فالنسب هو الوجه الإلهي، المتصل والنازل على اختلاف وحَدِّ معقولين، من الاضطراب والاختلاط البشريين، ومن عجمة الزمن وجَمْجَمته. فيجوز، في «ثقافة» عربية أصيلة، التدين بدين النسب والقوم، أو دين الأجداد والآباء الأولين. ومن طريق النسب، والإعلاء فيه، يُجمَع المتفرق، ويوحد الشتيت. ويَسوغ للفاتح الحاكم ضم الجماعة المقيمة منذ قرون بمضارب عراقية بعيدة من إقليمه الجنوبي، إذا ساغ له القول: «هم أهلنا»، على ما يروي أمين الريحاني. ويضمر القول ان رسم السلطان والأمر ورسم الأهل والنسب واحد. ويعكس الترتيب، فيحمل رسم السلطان والحكم، إذا استقر بواسطة القوة والقهر، على نسب، ويوحد ما صنعه الفتح والتخويف والتفريق والاغتيال بالصنيع الإلهي في التاريخ.
فما خلا الحرب «المقدسة» وجهادها، وهي موضعية وظرفية على الدوام، لا تتماسك الرابطة العصبية بمُسكة جامعة وموجبة، ولو إلى حين. وامتحنت «التنظيماتُ» والإصلاحات، والسياسات الاستعمارية والانتدابية من بعدها وعلى خطاها، والمجاعات وسنّي القحط والجفاف، والأوبئة والطواعين، والهجرات الضيقة والعريضة، كتلك التي دعت كتلاً متعاظمة من سكان الداخلية (البوادي والسهول والأرياف) إلى ترك منازلهم وقصد الساحلية وزراعاتها وشريط موانئها ومدنها وتجارتها منذ القرن الثامن عشر والتوطن فيها امتحنت هذه كلها الروابط العصبية والأهلية، وخلخلتها، من غير ان تفلح، أو تسعى اصلاً في إنشاء أجسام اجتماعية مختلفة من مادتها أو أنقاضها. وإذا اجتمعت هذه العوامل على تقطيع الروابط والأواصر القرابية، القائمة، وضيعت حلقاتها وكسرت اتصالها، فهي ثبتت قوة المثال القرابي والنسبي العصبي، ودعته إلى الاضطلاع بأعباء النجدة والتعاضد والتآزر بين الناجين والباقين والآحاد المتساقطين من أجسام عشائرهم، والمنقطعين من اجتماعها وتعاونها.
ويقوم الحلف الاضطراري مقام نسب الأرحام ورابطتها. وتمهد المصاهرة إلى تنسيب ترفعه الرواية النسبية المتجددة من غير حرج إلى حلقة مضطربة وقلقة في سلسلة الأنساب. ولاحظ مؤرخو بعض القرى الجبلية اللبنانية المارونية، أن أنساب العائلات المحفوظة والمروية تلحظ على الدوام تقريباً دائرة غامضة يتصل منها النسب المفترض، من طريق هذا الجد أو ذاك، بعمود الأسرة ويتستر على انقطاعه الفعلي. وبعض هؤلاء المؤرخين قدَّر أن الثلث الأول من القرن الثامن عشر قد يكون الوقت الذي شاع فيه الغموض وكثر. والثلث الأول هو زمن هجرة عريضة، رومية كاثوليكية أو ملكية على الأخص، من حلب وبلادها وأريافها إلى جبل لبنان. وشهد جبل عامل، في أوقات مديدة، تسلل بدو سنة من عرب الحولة إلى ثناياه و «أقاليمه» الداخلية (الشومر والتفاح). وأنشأ المهاجرون مزارع، وعملوا «شاوية» في الأرض. وجباهم رؤساء العشائر، على ما كان يدعى الزعماء والأعيان، فيمن كانوا يجبون من السكان «الأصليين». وفي مطالع القرن العشرين أحصى أدباء جبل عامل المهاجرين البدو والسنة السابقين في خطط «الجبل» وعشائره ومتاولته. وتنقيل الأنساب والأحساب كثير في باديتي الشام والعراق، وفي الأحلاف القبلية الكبيرة مثل آل السعدون وعرب الرولَّة. ولم يمتنع التنقيل والتنسيب على رقيق القصور والبلاطات الصغيرة في الواحات النجدية. ولعل رفع صدام حسين نسبه إلى ذرية علي بن ابي طالب من اجلى القرائن المتأخرة على دوام قوة المنطق النسبي العصبي، وعلى عمق أثره في توليد المعاني السياسية ومبانيها العملية و «الروائية» معاً. وسبقت فعلَ صدام حسين وماشته، المشادة اللبنانية، الطرابلسية، على نسب المدينة كلها: أهي لا تزال طرابلس الشام، مدينة (سوريا) الساحلية على قول كبير أعيانها المفتي الشيخ عبد الحميد كرامي، أم مدينة لبنانية وعاصمة لبنان الثانية، على حسبان إرادي واختياري؟ أم هي عاصمة «اللبنانيين السنة»، على ما تردد أصداءُ المشادة المتجددة في آخر شهر من سنة 2010 الميمونة؟
[الائتلاف المتصدع
وكرست السلطنة العثمانية وإصلاحاتها التمثيلية («البرلمانية» القريبة من مجلس الشيوخ والأعيان والبعيدة من مجلس النواب العامي)، والإدارية (أي التعيينات المحلية)، والاقتصادية (وهي «خربت» الاحتكارات التجارية والحرفية التقليدية فوق ما أنشأت سوق تداول وتبادل) والقانونية (و «مساواتها» الرعايا أو مللهم وتأليبها الكثرة على القلات، وسن حماية الملكية الخاصة) كرست السلطنة، في نصف القرن الأخير من حكمها المتقاسم والمهجن، إشراكَ «وجهاء صف ثانٍ» من الأهالي والوطنيين في الدالة والنفوذ. فزادت طبقة جديدة على الطبقات الحاكمة القديمة المؤتلفة ائتلافاً رجراجاً من الأعيان والأشراف ورؤساء العشائر والأقوام والملل وكبار الموظفين و «الكتّاب» السابقين والحاليين وقادة الجند والتجار وملاكي الأرض (منذ 1858 وإنشاء «الطابو») ومشايخ الحرف والطرق الصوفية وشيوخ الفقه والفتوى والقضاء والتدريس ونظار الأوقاف المحبوسة. والطبقة الجديدة تتحدر من الموظفين الأهليين، مسلمين ومسيحيين ويهوداً، ومن مزيج الإدارة والتجارة وتملك الأرض و (بعض) «العلم» المعتم في الغالب فالحاسر. وانسلخت الطبقة الجديدة من العامة المختلطة والمولدة، واضطلعت بأدوار راجحة في إرساء النفوذ والرئاسة (أي السياسات الجديدة) على إرادة تمثيل اجتماعي لا يقتصر على الموازين العصبية، ومراتب الولاء والخدمة، ويُحتسب في مقومات النفوذ والرئاسة، وعواملهما، المكانة المحدثة والمتأتية من الموارد والتدبير والعلاقات وتثميرها.
و«قادت» الطبقة الجديدة، وهي وسطية أو متوسطة موضعاً ودوراً وقوة، المنازع الوطنية والقومية والاستقلالية، والتحديثية الاجتماعية والإدارية، والتجديدية الدينية والثقافية، معاً وجميعاً. ومعنى «قيادتها» انضمامها، مع الطبقات الأخرى الكثيرة والمتفرقة التي تقدم إحصاؤها، إلى سلك أصحاب النفوذ والدالة، وإسهامها العملي والمادي في العبارة المعلنة عن هذه المنازع، وندبها أفراداً أو آحاداً من أوساطها إلى تولي العبارة وصوغها. واقتصرت قيادتها على هذا. ولم تتعدَّه إلى بلورة كتلة متماسكة على مراتب وأدوار مقرَّرة، وعلى سُلَّم قوى ونفوذ ومصالح تقريبي ومتعارَف يحظى ببعض الإجماع، وتحتكم منازعاته إلى معايير عامة ومشتركة على حد أدنى. والكتلة والسلم والمعايير هي من أطياف «الطبقة الثالثة» الأوروبية ومثالها المتوهَّم والمترسب في قاع ثقافة «تقدمية» سادرة في ثبات تاريخي أشبه بالغيبوبة الدماغية. وهذه طريقة مهذبة ومعتادة ورتيبة في القول ان الطبقة الجديدة فاقمت تصدع الطبقات القديمة وتخليطها وتنافرها وتذبذبها وانتهازيتها وضآلتها. فكانت مرآة منازع الطبقات القديمة الكثيرة والمتضاربة، في شقيها أو شطريها، الحاكم والمحكوم، المسيطر والمنقاد. وقصَّرت عما لم تندب نفسها إليه اصلاً ويندبها إليه «التقدميون» المزعومون على مثال «بورجوازية» بعضهم «الوطنية»، أو على مثال «طليعة إصلاحية» أو «ثورية» متخيلة-. وهو، على سبيل الافتراض، استخلاص قواسم مشتركة، سياسية واجتماعية وثقافية وطنية، ترسي مداميك دولة مدنية ووطنية مجتمعة وحديثة.
وعلى خلاف هذا والضد منه، أسرعت الطبقة الجديدة، وهي مصدر طواقم الحكم والإدارة والسياسة والاقتصاد والثقافة في الدول العربية المستجدة قبل الاستقلالات وبعدها، إلى إنشاء عصبياتها وكتلها، وإلى تسويرها وتحصينها من طريق رفعها إلى أصلاب شريفة. و «جددت» الإنشاء والتسوير، فتوسلت إليهما بإعالة الأنصار والمحازبين وأهل الغرضية من العامة، إما فرادى وآحاداً، فوزعت العطاء العيني أو النقدي ما وسعها وفاضها، وملك يمينها، وإما أهالي وأسراً وقرى وأحياء وخططاً. فقسمت إدارات الدولة ومرافقها إقطاعات ومزارع ودويلات وحصصاً ورخصاً وإعفاءات، وأضعفت الوجه التقني من التدبير والحكم. وقوضت الوجه القانوني أو الحقوقي منه، وشاركت الطبقات القديمة مناوأتها المبادرات والاستثمارات الحرة (على قلتها)، وصورَ التعاون والاجتماع والتسليك المستقلة، والأفكار «الحُرِّية»، والمثالات الاجتماعية الفردية، والمساواة والمواطنة. فأسهمت في قلب الرسوم والسنن الجديدة، السياسية والانتخابية والإدارية، وفي مسخها وإلحاقها بالرسوم والسنن «العثمانية» والمحلية، وحَلِّها في اعتبارات التقريب والتبعيد والغرضية والأهلية. وسايرت مجافاةَ الاعتبارات هذه المعاييرَ التقنية والحقوقية والسياسية المدنية والوطنية. وعلى نحو قريب، سايرت ميول العامة وأهواءها الجماعية، وفي أحيان كثيرة نفخت فيها.
والحق ان العصبيات العامية كتلك التي وصف عبدالرحمن الجبرتي المصري فورانها وانطفاءها وترجحها إبان الحملة الفرنسية على مصر ثم في الأعوام الخمسة أو الستة التي مهدت طريق محمد علي باشا الأرناؤوطي إلى حكم مصر هي التي ملأت السياسات الوطنية والاستقلالية في الدول المحدثة غداة الحرب الأولى. والثورتان «العربيتان»، السورية (الدرزية) في 1925 1928 والفلسطينية «الكبرى» في 1936 1939، كانتا، شأن الحركة السورية الوطنية عشية 1936 ومعاهدتها وشأن «ثورة» 1958 «اللبنانية» العروبية الناصرية وأيلول 1970 «الأسود» والأردني وانتفاضة حماه في شتاء 1982 وانتفاضة 6 شباط 1984 ببيروت والانتفاضة الشعبانية في 1991 بالعراق، انتفاضتين محليتين وبلديتين وأهليتين واسعتين. ولم تبلغا، في ذروتيهما، التنسيق والتكامل والاشتراك التي تجيز حملهما على حركتين سياسيتين حديثتين. فالعامة، أو الطبقات الشعبية، كان اجتماعها، أو روابطها وأواصرها ومنازعاتها وانقساماتها، شديد الشبه باجتماع الطبقات الحاكمة، وترجحها بين التناصر والعداء على غير تبصر وروية وبين الائتلاف لا على بصيرة وخطة