الاثنين، 17 نوفمبر 2008

انقلاب الأم هندية من مرتبة القداسة الى درك الشعوذة والجريمة... "سابقة" مارونية لبنانية لم تنقطع الى يومنا؟

في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، بين عام 1750م و1779، هزت الكنيسة المارونية والرعايا الموارنة في جبل لبنان والشوف وساحل كسروان وصيدا وطرابلس ودمشق وحلب، وفي روما (من طريق بعض طلبة المدرسة الشرقية)، أزمة حادة كانت السبب فيها الراهبة الأم هندية (حنة) عجيمي، الحلبية المولد والنشأة. وهندية عجيمي هي صاحبة رهبنةً قلب يسوع ومؤسستها، ثم رئيسة دير بكركي، أحد الأديرة الجديدة والزاهرة في عهدها، قبل ان يؤول أمره الى الكرسي البطريركي، ويتخذه البطريرك مقراً شتوياً. و "أمومة" الراهبة هندية رهبنة موقوفة على القلب الأقدس رتبة استحقتها الراهبة المارونية، وأسندتها الى تصوفها ورؤاها، وإلى منزلة من الابن نسبتها الى نفسها، وإلهام فاض عنه إليها، على قولها.
وما كان ابتداؤه رهبنة جديدة، وديراً زاهراً، ومكانة أثيرة من الكنيسة المحلية وأساقفتها، وتوافدَ مؤمنين كثر، وصيتً قداسة، وطلبَ "معجزات" وكرامات وبركات، واعتقاد هذه، انتهى الى تهمة بقتل ثلاث راهبات من أخوات الرهبنة بعد تعذيبهن عذاباً فظيعاً. وتكشَّفَ عن تعسف وقسر قاسيين، وأماط الستر عن أساليب في حكم الرهبنة واستدراج التصديق والتسليم بالكرامات تخالف معايير الرعاية والإدارة الكنيستين الرومانيتين غداة الرد على الإصلاح البروتستانتي. ولما لابست "حركة" هندية عجيمي، وهي جملة أعمالها وعباداتها وكتاباتها (أو "أماليها" – ما أملته على كاتبها أو كتابها)، من إنشاء رهبنة قلب يسوع ثم أخوية القلب الأقدس الى تدبير الدير واستجابة رجاء المؤمنين، لما لابست أحوال الموارنة الكنسية والسياسية والاجتماعية والثقافية ملابسة قوية وحميمة، ترددت أصداء الأزمة في كل وجوه الجماعة المارونية وعلاقاتها، داخلاً وخارجاً.

القضية
فإنزال الأم هندية، من مرتبة القداسة، وهي على قيد الحياة، الى مرتبة النبذ والازدراء خلّف في الجماعة المارونية، وهي يومذاك في طور الانتقال الى مباشرة دور متعاظم في إمارة الجبل الصغير، أصداء أليمة ومحبطة لا يزال بعضها يتردد في نفوس موارنة مؤمنين الى اليوم. وأصابت الأصداء هذه رابطة الكنيسة المحلية، المتحدة بحاضرة الكثلكة وعاصمتها، بالكنيسة الجامعة، في صميمها وقلبها. فالموفدون البابويون هم الذين تولوا تحقيق ما نُسب الى الأم هندية من تهم، وهم من انتهوا الى إدانتها، وإدانة البطريرك يوسف أسطفان وبعض وكلائه وأساقفته. وقامت رابطة الكنيسة المارونية بالكنيسة الكاثوليكية مقام الركن من تجدد الكنيسة المحلية، ومن استجماعها عوامل قيامها بدورها الجديد هيئة تتصدر اجتماع الموارنة، وتربط بين أجزائهم ومراتبهم وبلادهم، وتؤلف منهم جماعة وطنية مستقلة في كنف السلطنة العثمانية.
ولكن نواة "قضية" الأم هندية هي هندية عجيمي نفسها، والراهبات اللواتي حطْنها، وكن "أخواتها" و "بناتها"، ثم صار بعضهن شريكاتها في تثبيت قداستها، وبعضهن الآخر ضحايا هذه القداسة، وضحايا شريكاتها المقربات وشركائها الذين لا يقلون قرباً. فهندية عجيمي عَلَم على حياة اختبرت بعض أقاصي المشاعر والانفعالات، أو المواقف والمقامات التي ترجحت بينها التجارب والأحوال الإنسانية في مستهل العصر الحديث. والمرأة التي عمّرت وناهزت الثمانين (1720 الى 1798) ارتقت معارج التصوف الى ذراها، وسلكت مسالك الرؤيا والعبارة الى ابعدها وأغربها، وانتشت بسلطان التصديق، وانحطت الى درك الشعوذة، وناءت بالشك والمرض والوحدة، وسبقت معاصراتها الى ما لم يدر بخاطرهن من قيام بالنفس ونكصت الى صور وانفعالات بدائية ومدمرة. فكأن "الروح" الذي سكنها، وأمتلأت منه بركة وأعطيات، تركها. فخلف تركه أنقاضاً خاوية ومتصدعة. وحلت محل المرأة الملهمة والمنعمة على معتقدي ولايتها آيات الخصوبة والحياة والصحة امرأة أخرى متسلطة ومراوغة، قادتها ضغينتها، وقادها حرصها على تثمير صيتها، وتثبيت سلطانها على من حاطها، الى قهر وعنف مميتين.
وقد يكون من غريب الأمور، وهو حتماً من أقواها دعوة الى النظر، إغفال الكتابات التاريخية والأدبية والفلسفية اللبنانية قضية هندية، والإشاحة عنها الى أقل منها شأناً وأفقر معنى. وعلى جاري سنة مألوفة تولى كاتب ومؤرخ أوروبي، هو الفرنسي برنار ايبرجيهن، استاذ التاريخ في جامعة تولوز إحياء هذا التاريخ، رواية وتأويلاً، في ضوء محاضر الفاتيكان، ورسائل المبعوثين والموفدين، ووثائق الكنيسة المحلية (في كتابه: "هندية/ متصوفة ومجرمة"، عن دار أوبييه، 2001). ويعود بعث كتابات هندية، أو أماليها، الى ميشال الحايك، في "المشرق" اليسوعية، قبل خمس وثلاثين سنة تامة (في 1965 و1966)، وإلى بطرس فهد في 1972 ("أقوال الراهبة هندية عجيمي الحلبية وترجمة حياتها"). واقتصرت الرواية القصصية على عبدالله حشيمة في "القديسة هندية". (من غير تاريخ).

من حلب الى كسروان
ولدت هندية في اليوم الأخير من شهر تموز (يوليو) عام 1720، في حارة باب النصر بحلب. ورزق والداها، شكر الله عجيمي وهيلينا حوا، عشرة أولاد، لم يبق منهم على قيد الحياة إلا أربعة، ثلاث بنات هن ماريا وهندية ومارغريتا، وولد ذكر، نقولا، وحده من الذكور لم تطله المنية، وكان شفيعه القديس نقولا (من مدينة) بارني. أما الآخرون، فخمسة منهم هم انطون وحنا والياس وقدسية وأنطون (المثنى) وافتهم منيتهم ولما يبلغوا العام ونصف العام. وبلغت سوزانا عامها التاسع.
وكانت ولادة هندية في يوم عيد القديس اغناطيوس. فاستبشر اليسوعيون "الحلبيون"، ومنشئ جمعيتهم اغناطيوس (من بلدة) لويولا، بالمولودة خيراً. وغمست بماء العمادة في 6 آب (اغسطس)، عيد تجلي العذراء بحسب تقويم الكنيسة المارونية. وكان صاحب عمادتها الخوري سركيس الجمْري، أحد طلاب المعهد الماروني بروما، وزميل توما حوا، ابن أخي مطران قبرص جبرائيل حوا، وجبرائيل هذا هو عم هيلينا حوا، والدة هندية عجيمي، وأحد منشئي الرهبنة المارونية اللبنانية في العقد الأخير من القرن السابع عشر (في 1693)، ورئيسها الأول. وبقي اسم هندية، على رغم عمادتها باسم حَنِّة (وهو نظير آن الأوروبي)، من اسماء القديسات على خلاف هندية، عالقاً بها.
وعلى مثال القداسة النسوية المعروف ظهرت "علامات" السعي في الولاية على بنت عجيمي الصغيرة باكراً. فالبنات المنذورات للولاية، وقبلها للرهبنة، يحزمن أمرهن قبل الثامنة. فعليهن، مذ ذاك،ان ينقطعن من حال البنات و "إعدادهن" للزواج والإنجاب. فيخالفن حال صحبهن وأترابهن من سنهن، ويمتنعن وهن بعد "جوار" من استجابة تربية الأسرة لهن التربية المناسبة.
ولم يكن الانقطاع من الدنيا، أو من العالم، الى حياة الأديرة متاحاً لنساء حلب المسيحيات في ذلك الوقت. فمن أرادت الرهبنة كان عليها الإقامة في بيت أهلها، والبقاء فيه، واعتزال الأهل، والانتحاء ناحية على حدة من حياة البيت المشتركة والمختلطة. والحجرة في الدار تقوم مقام صومعة العبادة، ومقام "معمل" تعمل فيه الراهبة، وتكسب معاشها من عمل يديها. وتتردد الحبيسة الى الكنيسة ثلاث مرات أو أربع في الأسبوع، و "تتناول" مرة في الأسبوعين وفي الأعياد. وبعضهن كن يعتنين بالمرضى في بيوتهن، وبعضهن الآخر يعلمن الأطفال والبنات القراءة.
وفي العقود الأخيرة من القرن السابع عشر اجتمعت في حلب نحو خمس عشرة الى عشرين "راهبة" كاثوليكية انتسبن الى الرهبنة الكبوشية. وأرادت فتيات مارونيات من حلب الحذو حذو الكاثوليكيات الكبوشيات. ولكن المطران لم يجز لهن الالتحاق بزميلاتهن، وآثر ان يتوجهن الى لبنان. فلم يمتثلن، واطرحن لباس النساء، ولبسن لباس زميلاتهن. ولما تولت زوجة أحد التجار الموارنة الحلبيين تعليم البنات المارونيات الراغبات في الرهبنة، وهي كانت، أي الزوجة، انتسبت الى رهبنة القديس فرنسوا، فشت الخلافات بين الآباء الكبوشيين وبين الأساقفة الشرقيين، ومدارها على تولي ضمائر الراهبات، وعلى جواز امتناعهن من الزواج من غير ان ينضبطن بنظام حياة الدير. وانفرط عقد الراهبات الكبوشيات بحلب في السنوات الأخيرة من القرن السابع عشر بعد أن اشترطن على الكبوشيين ان يترك إليهن انتخاب "الأم" الرئيسة من غير قيد الأعوام الثلاثة التي اشترطها الكبوشيون.
وجددت بنات ملكيات، كاثوليكيات، حوالى العام 1730 بحلب صنيع البنات اللائي سبقنهن قبل ثلاثة عقود. وتولى آباء يسوعيون، هذه المرة، الإشراف على جماعتهن. ولم يطل الأمر بهن فأعلن على الملأ إرادتهن إنشاء دير لهن في كسروان، على ما صرحت "متقدمتهن" أو رئيستهن ماريا القاري. ولكنهن لم يسعهن مغادرة حلب الى كسروان إلا في 1737، وكانت هندية عجيمي بلغت السابعة عشرة. ومعظمهن كانت تقدمت بهن السن، وتبتلن منذ سنين، وهن أخواتُ رهبانٍ أو خوارنةٍ أو بنات خوارنة. وما أنجزنه، قبل إنشاء الدير، لم يكن قليلاً. فتبتلن، ومجتمعهن لا عهد له بالعزوبية، ولا يقرها. واجتمعن من طوائف مسيحية متفرقة، ملكيات ومارونيات، جماعة واحدة. وخلطن الشعائر الشرقية بطرائق عبادة مصدرها أوروبي. وخلفن وراءهن عالم أهلهن وعصبياتهم ومنازعاتهم الى حيث ينبغي أن يكنّ بمنأوى منها، ولم تلبث هذه أن لحقت بهن وأدركتهن.
ولعل تربية هندية عجيمي قرينة على ترجح بنية الأسرة الحلبية المارونية بين حدي العشيرة المغلقة – أو العائلة المؤلفة من "شيخ" كبير ومن أولاده وأحفاده، فتتشابك رابطة الأخوة برابطة بني العمومة وربما الخؤولة – وحد الأسرة النواتية والمحدثة، المقتصرة على الوالدين وأولادهما، والمشرعة على الخارج وبواعثه ودواعيه. فكان أهل هندية، في اثناء انقطاعها في حجرة البيت، يستقبلون مرشدها الروحي، انطونيو فانتوري، مرة في الأسبوع. ولم يكن مثل هذا الاستقبال استثناء بين عائلات موارنة حلب والجماعة المارونية الحلبية. فهذه الجماعة، ويقدر انها كانت تعد نحو ثلاثة آلاف نفس في مدينة تعد بدورها نحو ستين ألفاً، خرجت من الفقر والحاجة في اثناء النصف الثاني من القرن السابع عشر، الى بعض البحبوحة، من طريق علاقاتها بـ "الفرنج".
وكانت هذه العلاقات سبباً في انتشار التعليم في صفوف أولاد الطائفة وكثرة بناتها، وفي سفر بعضهم في تجارة أو وساطة و "سفارة"، غرباً (شمالاً) وشرقاً (جنوباً). فكان معظم مسيحيي حلب يتناولون طعامهم على طاولات، ويجلسون إليها على كراسٍ، ويؤاكِلون نساءهم وبناتهم. فسبقوا بقرن ونصف القرن ما لم يسع رفاعة رافع الطهطاوي المصري مشاهدته ووصفه إلا في "تلخيصه باريز" ورحلته إليها في 1830- 1831. وأقلع الرجال عن اعتزال النساء في المجلس والمأكل. وتركت النساء الحلف بالله، طلباً للتصديق، إلى عبارة "صدقني"، على ما نقل زائر كرملي.
واختار أهل هندية معرّفاً، يتولى اعترافهم بخطاياهم ويحلِّهم منها، كاهناً من آباء بيت المقدس وليس من الخوارنة الموارنة. وتولت أم هندية، هيلينا حوا على ما مر، تربية بنتها، ديناً ودنيا. فكانت تصطحبها الى المدرسة، وهي طفلة، وإلى الكنيسة. وتلقت البنت الصغيرة عن أمها آداب الجلوس والنظر والكلام والسمع، إلى آداب النظافة والطعام. فنهتها عن النظر الفضولي والثرثرة المسترسلة، ودعتها الى تجنب مواقف الكبر والمباهاة بالنفس أو الكلام بصوت مرتفع يخالطه الضحك، أو التثاؤب والتمطي والنوم على الجنب... ولقنت الوالدة بنتها عن ظهر قلب صلاة "أبانا" وصلاة "يا قديسة مريم" وهي في الثالثة والنصف. ولكن، الأم على رغم ورعها وتلقينها بنتها معاني التقوى وحملها على "كره الخطيئة" وتجنبها، حملتها، من وجه آخر، على اتباع العادات والسنن الاجتماعية السائرة ومماشاتها.

إرهاب الطهارة

ولم تقتصر التقوى على هندية. فشاركها فيها شقيقها نقولا، المولود بعد أخته بست سنين. والأغلب على الظن ان هندية كانت قدوته ومثاله. وتوسم معرِّف الولد، الأب أنطونيو فانتوري اليسوعي، فيه نازعاً الى "القداسة"، فأرسله الى أباتي الجمعية و "جنرالها"، فرنسوا دو ريسّ (ريتز)، وله من العمر خمس عشرة عاماً، وأوصى بقبوله فيها طالباً. وكان نقولا عجيمي، الراهب اليسوعي بعد دراسته بروما، عضد أخته وسندها، وهو اعتقد قداستها قبل ان يرجع في اعتقاده ويقر بانحرافها عن طريق الكنيسة.
وعلى خلاف تعلق نقولا وهندية واحدهما بالآخر، تناصبت ماريا، بكر الشقيقات وشقيقهن، وهندية التحفظ وربما العداء. فكانت الغيرة قاسمهما المشترك. ولما بلغت هندية الرابعة أو الخامسة من العمر، وبدأت علامات تعبدها في الظهور، عمدت ماريا الى اضطهادها وسبها وضربها بالعصا أو بالقبقاب. فإذا انفردت بها في البيت، وغاب الأهل، طردتها. وحين كبرت البنتان، وبلغت هندية الثالثة عشرة، نافست اختها البكر على إعجاب الأهل والزائرين بجمالها وهندامها، وأدلت بعقد ذهبي طوقت به رقبتها. وتقول هندية، على ما نقل عنها معرِّفها في أعقاب سنين طويلة، ان العقد الجميل الذي باهت به أختها انفرط ثلاث مرات، وكادت تتدحرج على السلم المفضي من سطح الدار الى البيت وهي تنزله، بعد مشهد المباهاة والمفاخرة. وهذا على زعمها قرينة على لوم ملاكها الحارس إياها. و "تنبأت" هندية لأختها بزواج عظيم يعقبه فقر وقهر. وصدق توقع هندية. وينبغي ان يُحمل هذا دليلاً على تفوق هندية، والطريق التي اختارتها، طريق البتولية والرهبنة، على الطريق التقليدية التي سلّمت بها بكر الشقيقات.
وتقر هندية، في إجابتها اسئلة المحقق والمستنطق الفاتيكاني الأب ديزيديريو الذي تحرى أحوالها، بأنها خالفت والديها وأوامرهما مرتين. الأولى حين أمرتها امها بأن تأوي الى فراش أبيها، "على عادة تلك البلاد" في البنات الصغيرات اللاتي لم يبلغن السبع سنين، فلم تمتثل. ولم ينفع إلحاح امها. والثانية لما أمرت والدتها خادمة بمرافقة هندية الى المدرسة، فرفضت هذه مرافقة الخادمة. ما دعا الجدة، جدة هندية لأمها، الى صحبة حفيدتها. والمخالفة الأولى تستجيب سعي الإكليروس الكاثوليكي، منذ القرن السادس عشر، في نقض سنّة شائعة يومها (ولا تزال شائعة في جماعات كثيرة) تبيح نوم الأولاد في فراش الوالدين والأهل عموماً (مثل الأخوة المتزوجين والأعمام والعمات...). وعاد مجمع ترانت "الإصلاحي" وختامه في 1564 – وهو كان رد الكنيسة الكاثوليكية على الإصلاح البروتستانتي، الى النهي عن إيواء الأولاد في فراش أهلهم. والحق ان رابطة هندية بأبيها شكر الله عجيمي بقيت غامضة. وبقيت حال الوالد في بيته، وهو المقيم على انتظار ولد ذكر يخلفه الى حين ولادة نقولا، غامضة كذلك.
وتروي هندية في "سر الاتحاد" (وهو "كتابها" في تجربتها الصوفية) انها كانت، وهي بعد طفلة لا تتكلم، تنظر الى السماء فترى "شخصاً ولكن ليس كما (ترى) الأنام البشريين، ويظهر عالياً (عنها)". فكانت تعتبره وتحبه "لأجل عظمته وهيبته، ولأجل اتصافات جماله وبهائه" (في المخطوطة المنشورة بعناية ميشال الحايك: "بهايه"). وروت لأمها رؤياها فقالت: "يا أمي أنا أنظر شخصاً أحبه كثيراً وأخاف منه لما يحكي معي (...) ما كان يدعني أن أسلك كما تسلك الأولاد، لا أزال خايفة ليلاً يأتي إلي ويراني أسلك كالأولاد". وتروي: "لما أمي تنظرني أحياناً ذليلة حزينة تسألني عن سبب حزني والذلية التي تراني بها تظن السبب من حوادث خارجة، فأجيبها أنا: لا بل الذي أحبه، لست أنت تعرفينه، فلم أنظره قط معكم بل دايماً أراه وحده".
وقد يصح تأريخ الرؤيا هذه، إذا قورنت بإقرارها الى المحقق والمستنطق في 1753، بسنتها الثامنة.
وعلى هذا قد تكون الرؤيا أعقبت، وقتاً، مخالفتها أمر أمها بالمأوى الى فراش أبيها. وفي هذه السن أصابتها رهبة جهنم "بنوع لا يفهم" (على قولها في "كشف الأسرار الخفية مما رأته في الخزانة السرية"). ومصدر الرهبة العظيمة ليس النار وعذاباتها على قدر ما هو الحكم في الخاطئات والعاصيات بالإقامة في جهنم مع الرجال. فـ "الخطيئة" العظيمة هي الجسد الجنسي أو المجنس، وآيته الذكورة والرجولة. وروت أنها، وهي في الثامنة أو التاسعة، حالت دون ولوج رجل حجرتها بمؤازرة ملاكها الحارس ومساندته. وكانت مذ ذاك تمتنع من مجرد رؤيا رجل ولو كان والدها نفسه. وتحاشت دخول حجرات البيت إذا اجتمع فيها رجال ونساء وأخذها "حزن وغم وقلق مزعج مما (تسمعه) مما يضاد الطهارة من الحوادث الخارجة"، على قولها على لسان "الذي يخاطبها" وتشك "إذا كان" المسيح أو الشيطان.

التطهر

وأنفت نفسها الطعام في الوقت نفسه. فلم ترض منه إلا الخبز والزعتر. واقتصر تناولها النبيذ على مرتين، ولولا إلحاح أمها لم تشرب هذا السائل المتصل بالرجولة. وأكثرت من "ضروب التزهد وأساليب قمع الجسد وقهره" (على قول الأب بولس مسعد، أحد من كتبوا في الراهبة المحيِّرة). "فأخذت تجمع الحصى والأشواك وتضعها في فراشها، راقدة عليها الليالي الطوال، مسرورة بالأوجاع الشديدة التي كانت تعانيها (...) بل كانت تضع في صدرها شوكاً حاد الأطراف تحمله يوماً كاملاً الى ان يسيل من أعضائها دم غزير...". وآذنت هذه الرياضة القاسية برغبة هندية المبكرة في حبس نفسها على يسوع المسيح ووقفها عليه. وأمكنتها رؤاها، ومخاطبتها الشخص الذي "تنظره"، ومخاطبته إياها، من الخروج على آداب المجتمع المسيحي الحلبي، والاستقواء عليه، وعلى معلّم اعترافها نفسه. فاختطت لنفسها، وهي بنت لم تبلغ العشرين بعد ولم تخرج من حارتها الضيقة في المدينة المشرقية النائية، نهجاً شائكاً وصعباً، وخاضت دونه محناً قاسية.
في عام 1737 ذكرت مصادر مكتوبة متواطئة، إقامة الراهب اليسوعي أنطوني فانتوري (أو فنتوري، على تهجئة "سر الاتحاد") بحلب. وكان الراهب وصل البلاد السورية قبل أربعة أعوام، وهو في الثانية والثلاثين. وفي 1739 أفضت إليه "النظارة" على ضمير هندية. وكان معلم اعترافها قبله يسوعي آخر هو جياتشينتو تريفا. ومدح رئيس فانتوري القادم بتحصيله فهم البلاد وأحوالها على خلاف سلفه. وكانت هندية ابتدأت الاعتراف في السابعة من غير حل او مناولة. ولم تتناول إلا في الثامنة. وكانت مناولتها الأولى عن يد كاهن ماروني، ثم عن يد فرنسيسكاني مقدسي، كانت مناولة أمها عن يده. وفي الخامسة عشرة تولى الاعتراف والحل راهب يسوعي، وحل محله حين ترك حلب زميله تريفا، في 1738.
ولم يأذن هذا التقلب لهندية بالكشف عن رؤاها الى معلمي اعترافها، ولا أسرت إليهم برياضتها الجسدية الدامية، وهي لم تجرؤ على وصف "اعطية" الشخص الذي يظهر لها، وهذه الأعطية هي ظهور الشخص ظهوراً يحيل التخيل إلى إدراك قوي الوطأة، إلا بعد إلحاح الشخص عليها في القول. فكان رأي فانتوري ان هذه الرؤى "شيطانية". وزادها شيطانية في اعتبار الراهب اليسوعي ان الشخص أجرى على لسان هندية "نبوءة" بمحنة يُمتحنها اليسوعيون وجمعيتهم، وكانت الجمعية في منازعة مع بعض دوائر الكرسي البابوي أسفرت عن إجراء قاس في حق الجمعية القوية نجم عنه كسر شوكتها بعض الوقت.
وعلى رغم معاندة الأب فانتوري التسليم السريع برواية هندية وأخبارها، وتشككه في مصدر هذه الرؤى، انتهى الى التسليم بصدقها، في 1742، وإلى الإقرار بـ "كراماتها" التي يسميها، شأن معرَّفته، "أعاجيب". فابتدأ مذ ذاك، وكان انقضى ثلاثة أعوام على قيامه منها مقام معلم الاعتراف، تدوين وقائع عبادتها ونسكها وآلامها وعلامات قداستها. فروى، فيما روى، ان هندية علمت بتعليمه اعترافها وهي في الحادية عشرة من العمر، وكان هو طالباً في مدرسة اللاهوت بروما، ولا علم له ببعثات جمعية اليسوعيين الى المشرق.
ولم تلبث "نبؤات" الحلبية (ولم تكن رسمت راهبة بعد) وحدسها في أفكار الناس، ان رفعت مكانتها من صاحب اعترافها وقوَّت دالتها عليه. فإذا به يدين لها، في شباط (فبراير) 1745، غداة مقتل الأب اليسوعي رومان بدمشق، بطمأنينته الى قداسة زميله القتيل، ويقينه برفعه الى جوار الملأ الأعلى، وذلك تصديقاً بقول هندية. وصدَّق الراهب اليسوعي الأخبار التي أخذ مسيحيو حلب وبعض مسلميها يتناقلون روايتها في أحوال بنت العجيمي الحبيسة وأفعالها. فدوَّن في مدونته ومذكرته ان عمةً لهندية أخفقت في سلق عدس قاس، فما كان من بنت شكر الله إلا أن "سمَّت" على العدس الممتنع اسم الجسد القدوس فلان، فضعف وقَبِل السلق.
وباشر فانتوري تأديب هندية بآداب عبادة منهجية غايتها التمثل بقداسة القديسات المطوبات واللاتي لا يتطاول الشك الكنسي الى قداستهن. والتمثل هذا يقدم المنهاج الصارم على الفطرة وإلهامها وطفرتها. فكانت تقضّي الساعات الطوال في فحص "ما يرد عليها" (على قول الصوفية) من أفكار ومشاعر وصور وكلمات، إما وحدها أو مع صاحب اعترافها، أو تخشع في الكنيسة من منتصف الليل الى الغداة ظهراً. فتعلمت الانتقال من المناجاة بألفاظ وقول الى المناجاة من غير ألفاظ ولا قول، ومن هذه الى الاتحاد الذاتي والقلبي. وأتم هذا التأديبَ بتعليمها القراءة.
فلما كثرت علامات اصطفاء بنت عجيمي، وتواترت أخبار كراماتها وعبادتها، خرجت عن مرتبة العابدات المعروفات بحلب وجمعيتهن الكبوشية السالفة. وهي زعمت انها لم تكن بلغت الخامسة عندما سمعت "هاتفاً" في قلبها يندبها الى إنشاء رهبنة "عن قلب (يسوع)"، وهذه هي "العطية التي أسرتها منذ حداثتـ(ـها)"، الى "حين شاء (الذي تنظره) ان يوضح ماهيتها". فلما بلغت السابعة عشرة أو الثامنة عشرة ظهر لها المسيح، وكان مرشدها "البادري انطون"، على ما تسمي الأب اليسوعي، وأمرها بـ "تأسيس" رهبنة "تتمجد بمحبة قلبه" "وتكون عروسته ويفردها بالتخصيص لجسده المقدس". وحاول اليسوعي ثنيها عن تسمية ما تقول انها وعدت بها "رهبنة"، والاقتصار على "الأخوية". فلم يفلح إلا بعض الوقت. فإنشاء رهبنة على مثال الرهبنات الدومينيكية أو اليسوعية أو الفرنسيسكانية إنما هو وقف على آباء أولياء ثبتت ولايتهم، وأقرتهم الكنيسة ومراتبها عليها. والبنت الحلبية، على رغم كراماتها وصدق عبادتها لا تزال مبتدئة.
وقد لا يكون من المصادفة ان "ترث" بنت هيلانة حوا عن عم أمها، جبرائيل حوا، فكرة إنشاء رهبنة. فعم الأم، على ما مر، هو أحد الذين نهضوا الى تأسيس الرهبنة اللبنانية، وكان رئيسها الأول. وعزم على إنشاء فرع نسائي لها. فندب عبدالله قرألي، في 1699، الى السفر الى حلب والتحري عن المارونيات الحلبيات الراغبات في الانقطاع الى العبادة، وجمع الهبات للقيام بأودهن. ولما كانت آثار الديون التي رتبها خلاف جبرائيل حوا مع الطائفة المارونية، وسجنه وفك سراحه لقاء "بقشيش" باهظ، كانت ترهق كاهل ابن اخيه وبعض أولاد أقربائه، استقبلت الطائفة المارونية كلام العابدة الشابة على الرهبنة ونيتها إنشاء جماعة جديدة، استقبالاً متحفظاً وحذراً. وفي عام 1748 وقع وجهاء موارنة حلب مذكرة ("عرضحال") تندد بالرهبنة اللبنانية وتشكو عسر حال الطائفة في المدينة السهلية والتجارية بعد يسر. والسبب في الشكوى والتنديد ما ترتبه الرهبنة على أهالي الرهبان والراهبات من أعباء ثقيلة أولاً، ثم ما تبعثه من حذر وشكوك لدى الولاة وفي صفوف الأهالي المسلمين، ثانياً.


الثلاثاء، 11 نوفمبر 2008

انتخاب باراك أوباما اثنان... واحد شاركت فيه "جمهورية العالم" وآخر اقترع فيه الأميركيون

الحياة- 10/11/2008
يتفق انتخاب باراك أوباما الى الرئاسة الأميركية وانقلاب العالم أو جنوحه من حال الى حال. والاتفاق ليس مصادفة بل هو مرآة عوامل متضافرة يشترك فيها وجها الاتفاق. فالرئيس الأميركي الرابع والأربعون، ذو السبعة وأربعين عاماً، جمع انتخابه رئيساً تحولين أو انعطافين: الأول داخلي، وهو انعطاف من مجتمع لم يطوِ ذيول تفرقة عرقية تنكرها أصوله ومبادئه الدستورية والثقافية، الى مجتمع ينتخب، من غير تردد بفرق بلغ 6 في المئة من أصوات 64 في المئة من الناخبين رجلاً أسود، أفريقياً أميركياً، مولَّداً، رئيساً على دولة لا يبلغ "اخوته في العرق" فيها 10 في المئة من السكان. والثاني خارجي وعالمي، وهو ما اصطلح على تسميته بصعود الدول الناشئة والأسواق الجديدة، في إطار عولمة شاملة ربطت بين أرجاء الأرض بروابط التجارة والإنتاج والتقنية والصور على نحو وثيق وقوي.

المرآة والأصداء
و "الصعود" هذا لا تحصى القرائن عليه. ففي غضون أقل من عقد، أوله العام 2000، كانت بورصات الولايات المتحدة تتبادل نحو نصف قيمة الأسواق المالية العالمية كلها، ونزل النصف الى الثلث في أوائل 2008. والانحسار الأميركي، النسبي (على المعنى الحرفي)، يندرج في انحسار "غربي". فالبلدان الغنية، وهي على التقريب "مجموعة السبع"، كان حجم اقتصاداتها 70 في المئة من الناتج الإجمالي العالمي قبل ثمانية أعوام. ويتقلص الحجم هذا تدريجاً فيقل عن نصف الناتج في العقدين المقبلين، وعن ثلثه في منتصف القرن، على قول أحد أساتذة الشؤون المالية في جامعة أميركية مرموقة. فيتراءى للمراقب أن "صعود" الأفريقي الأميركي، وتربعه في رئاسة الولايات المتحدة الأميركية، القوة العظمى ولو نسبياً أكثر فأكثر، إنما هو صدى "صعود" الشطر الآسيوي الأفريقي والأميركي الجنوبي الى سدة الكوكب الاقتصادية والسياسية.
وهذا الاتفاق، إذا صدقت الملاحظة، يفترض رابطاً بين الولايات المتحدة الأميركية وبين العالم يجعل من الأولى مرآة الثاني، وحجرة أصدائه. ويبدو هذا الرابط، على هذه الصفة، غريباً بعض الشيء. ففي الأعوام الأخيرة، وليس حدها 15 أيلول (سبتمبر) 2008، يوم انفجار الأزمة المالية وإعلانها على الملأ، بدا أن كراهية أميركا هي أكثر "الأديان" أو المعتقدات رسوخاً وشيوعاً ويسراً. فلا يتلفظ بالاسم حتى تكر سبحة الكوارث المادية والمعنوية: العراق، أفغانستان، فلسطين، أبو غريب، غوانتانامو، التلوث (كيوتو)، الانتشار الذري، المشتقات المالية... وغيرها على شاكلتها. ولا يقتصر هذا على الشرق الأوسط، الضيق أو الأكبر.
وعلى رغم هذا، ففي ختام "سنوات بوش"، المتصوِّرة في صورة قرون وسطى معاصرة وآفلة، تشد الانتخابات الرئاسية الأميركية، وهي الأطول قياساً على مثيلاتها منذ قرن على زعم بعض المؤرخين الأميركيين، طوال 11 شهراً متصلة أنظار الناس في جهات العالم الأربع. ولابست الأشهر هذه حوادث جسيمة، من التيبيت الى الألعاب الأولمبية ببكين، ومن خلافة ميدفيديف بوتين الى العدوان على جورجيا، ومن أزمة الرهون العقارية الى سقوط "ليمان براذرز" وتبدد بضعة تريليونات من الدولارات في انهيارات لم تهدأ بعد. فبدا العالم، عالمنا الأرضي، "جمهورية" واحدة، على قول صحيفة أميركية، تخوض انتخابات مشتركة. فتلاحظ محطة "صوت أميركا"، وهي تذيع برامج بـ45 لغة وتتوجه الى جمهور يعد 134 مليوناً، اهتماماً غير مسبوق. ويتصدر المرشح الأفريقي الأميركي الاهتمام غير منازع. فيقترع له، في استطلاعات الرأي، 70 في المئة من "الناخبين" الألمان، و75 في المئة من "الناخبين" الصينيين. ويكتب أحد محرري "نيوزويك": "تبنت آسيا أوباما ولداً من أولادها بذريعة نشأته الأولى أندونيسيا، ونسبته أفريقيا إليها وحملته على والده الكيني، والشرق الأوسط رأى فيه صورة اسم والده (حسين)".
ويبدو هذا دليلاً لا لبس فيه على مكانة الولايات المتحدة قطباً دولياً مركزياً، وعلى دوام هذه المكانة الى اليوم، على رغم النكسات والخيبات. فـ "أميركا" هي الداء والعلة، ويترتب على انحرافها عن نهجها وتقاليدها تخبط العالم في الأزمات. وهي الدواء والعلاج. ويعوِّل أناس لا يحصون، في أرجاء الأرض، على ربان المركب الكبير الجديد ليعود بـ "الأمة العظيمة" و "الاستثنائية"، والعالم معها، الى جادة الرشد القويمة والسديدة. فكأن من ينتدبون "شيخ" (سناتور) إيلينوي، الخلاسي والمهجن، الى تقويم السياسات الأميركية وترشيدها، بالعودة الى "القيم الأميركية" نفسها واستئنافها ("الناس الذين واصلوا العقيدة الأميركية"، على ترجمة الوكالات الفقرة هذه من خطبة أوباما في 4 – 5 تشرين الثاني/ نوفمبر) ليسوا الناخبين الأميركيين وحدهم، أو "نحن، الشعب" على قول استهلال وثيقة مؤتمر فيلادلفيا الدستوري (1787)، بل هم ناخبو العالم (السياسي) المعولم. وهو عالم كان للأميركيين فيه، بخيره وشره، السهم الكبير. فالقرن المنصرم، على تأريخ الرئيس الرابع والأربعين وتقويمه وعلى تأريخ كثرٍ غيره، "قرن أميركي".
ففي الأعوام المئة وستة من عمر آن نيكسون كوبر – الناخبة المعمرة السوداء التي أدلت بصوتها بأتلانتا بضغط على شاشة، وخصها أوباما بربع خطبته الأخيرة - وسع النساء الأميركيات والسود الملونين الأميركيين الاقتراع أسوة بمواطنيهم، ونهضت النساء و "تكلمن وأدلين بأصواتهن في صناديق الاقتراع" أسوة بالرجال، وسارت السيارات على الطرف ومخرت الطائرات الفضاء، وحين انتشر الركود في الأرض (1929 – 1936) قهر "الشعب" الخوف بـ "عقد جديد" ("نيو ديل") "ومرافق عمل جديدة، وشعور متجدد بالغاية الجامعة"، وحارب "الشعب" هذا الطغيان النازي حين غزا العالم. وقاتل بأوروبا وآسيا "في سبيل إنقاذ الديموقراطية"، وخاض معركة الحقوق المدنية في الداخل وانتصر فيها، "ومشى رجل على سطح القمر، وانهار جدار برلين، واتصل العالم بعضه ببعض بواسطة علومنا وخيالنا". وهذه الفصول والحلقات من تاريخ الأميركيين، يرويها الرئيس الجديد على مثال حكاية عائلية متصلة.

الاستثناء العرقي
وهذه الحكاية لا تنفرد بها "أميركا"، وليست حكراً عليها، ولا يرويها باراك أوباما على هذا النحو. ولكن الشطر الراجح منها (و "الراجح" لتفادي "الأعظم" الخطابية) هو من صنع أميركي حقاً. فالمساواة، على ما لاحظ "فقيه" "الثورة الديموقراطية" ألكسيس دوتوكفيل في 1835، ركن الحقوق السياسية ومقدمتها، هي عقيدة أمة المهاجرين أولاً. وحركة الحقوق المدنية، مقدمة حقوق الإنسان وركنها الفعلي، معينها التاريخي والعملي أميركي. والحركات النسوية تكاد تكون حركات "بلدية"، وعاميات مدينية أميركية. والعقد الروزفلتي لا يزال مثال "اقتصاد السوق الاجتماعي". ومن الحرب الثانية الى انهيار الشيوعية السوفياتية، اضطلعت الولايات المتحدة الأميركية بالدور الأول في مصائر البشرية الاقتصادية والسياسية والثقافية والعلمية والتقنية ("علومنا وخيالنا"، على قول الخطيب مكنياً ومستحياً).
ولا ريب في أن هذا كله، أي العالم الحديث والمعاصر وأركانه، هو ثمرة "الأنوار" (الأوروبية) وذريتها. وشعار حملة المرشح الطويلة والمتماسكة، على رغم استطالتها وجبهتيها الكلينتونية ثم الماكينية، ولازمة الخطبة الأولى بعد الفوز، "في مقدورنا (صنع تاريخنا)"، نازع "الأنوار" العميق الى الاضطلاع بتبعات الإنشاء التاريخي، وتقديم الآتي على الموروث والتقليد والمألوف، والإعداد له والتوجه عليه. والتاريخ الأميركي، المنقطع تكويناً من تراث "النظام القديم" الأوروبي، ومن مراتبه وطبقاته وإلزاماته وقيوده ومحافظته وأهوائه، وسعه إعمال روح "الأنوار"، وإنجاز ثورته المساواة الديموقراطية، من غير القيام على "النظام القديم"، أو الانقلاب عليه انقلاباً دامياً خلف في الأبنية السياسية والاجتماعية، المولودة من الانقلاب، منازعات وضغائن وثارات لم تندمل إلا بعد عقود طويلة. والاستثناء العرقي لا يكذب الحل هذه. فهو، على رغم الفرق والتفاوت اللذين نصبهما في قلب المجتمع الأميركي، أرسى الهوية الأميركية السياسية المشتركة، "البيضاء"، على نقيض اجتماعي وطبيعي تماسكت به، وفي مواجهته، ونهض هو قرينة مزمنة على نقصانها و "تناقضها".
فكان الاستثناء العرقي محركاً تاريخياً لم يكف، الى اليوم، عن دعوة المجتمع الأميركي الى تلبية نداء الدمج والاستيعاب والتمثل الذي يقوم من بنيان المجتمع هذا وتجدده مقام الدورة الدموية من الحياة العضوية. فأمة "الخليط"، خليط الأعراق والطبقات والأمم واللغات، تأتلف من مصادر متفرقة ومختلفة، على شرط أن تتجرد المصادر هذه من فروقها الظاهرة والصلبة، وترضى الاقتصار على المواطنة والهوية الدستوريتين والعلنيتين. وما يعصى الاقتصار هذا، شأن المصدر الأفريقي، والمصدر "الإسباني" الهندي على قدر أقل، يحمله التقليد الأميركي على الانتهاك، ويخرجه من الشراكة الدستورية والوطنية، من الضم والدمج وتوسيع "الحدود". ولكن التقليد نفسه يبقي المصدر الأفريقي، والمصادر "المارقة" الأخرى، على تخوم الجماعة الوطنية، وداعياً مقيماً الى الضم والدمج في صلبها، معاً وجميعاً.
ويلاحظ دارس الاجتماعيات الأميركية، أورلاندو باترسون، أن فوز أوباما بالرئاسة يتوج ظهور طبقة وسطى عريضة من السود الأميركيين، وانخراط هؤلاء في القوات المسلحة. وانتخاب سود الى منصب العمدة في المدن الكبيرة (لوس انجيليس وشيكاغو ونيويورك وأتلانتا...)، وآخرين الى منصب حاكم ولاية (فرجينيا وماساشوسيتس)، واضطلاعهم بدور "رائع" في الحياة الثقافية. وهذا الفصل من تاريخ الأميركيين الملونين، ومن تاريخ الشعب الأميركي كله، يلي فصل "ثورة الحقوق المدنية". وقوض الفصل المدني "نظام جيم كرو"، على ما يسميه الأميركيون، أي النظام الذي حل محل نظام الرق، وأرسى التمييز والإقصاء على ركن قانوني وعرفي لا يتستر على معاييره وقيمه. ويلاحظ باترسون أن الإقرار بالسود جزءاً لا يتجزأ من الجسم السياسي الأميركي لم يؤدِّ بعد لا الى ثبات الطبقة الوسطى السوداء في موقعها وتماسكها فيه – فهي أفقر أضعافاً من نظيرتها البيضاء وأضعف حصانة من التردي والانهيار الاجتماعيين -، ولا أدى الى الاشتراك في الحياة الخاصة ("فالسود هم أكثر الجماعات تزاوجاً فيما بينهم"، والأسود "العادي" لا أصدقاء له من البيض ولا أصحاب، ويترتب على هذا خسارة السود "الشبكات الاجتماعية الحيوية وقسطاً كبيراً من رأس المال الثقافي المتأتي من الاختلاط القريب").
وخص المرشح أوباما هذا الوجه من سيرته، ومن السيرة الأميركية "الفريدة"، بخطبة، في 18 آذار (مارس) ببنسلفانيا، هي من ذرى حملته "الشعرية"، على قول توني موريسون، الروائية الأميركية السوداء ونوبل الآداب. فقال إن فوزه في بعض أكثر الولايات سكاناً بيضاً، أو "بياضاً" على قوله ساخراً ربما، لا يعني أن العرق ليس مشكلة في الحملة، أو ان الحملة الانتخابية العريضة والواسعة لم تتعثر بمشكلة العرق. ولاحظ أن بعض المعلقين رأوا في الالتفاف حوله مسعى من "ليبراليين ساذجين" لمصالحة الأعراق بثمن قليل، رمزي أو أدبي، لا يرتب على أصحابه البيض تكلفة باهظة كتلك التي ينبغي بذلها أو تسديدها لقاء مساواة اقتصادية واجتماعية تامة.
ولا يغفل المرشح، وهو كان يكافح يومها على جبهة المؤتمرات الديموقراطية، رأي قس كنيسته، جيريميا رايت، في "فساد" أميركا الفطري، وفي عنصريْها التي تعصى الطبابة والشفاء. وهو يرد على المَطْعَنيْن والنقدين رداً معقداً، ومتلوياً بعض الشيء، لعله مرآة المسألة نفسها. فيذهب الى أن حاجة أميركا الملحة، اليوم، تدعوها الى الوحدة والتضامن على جبه حربين، وعلى معالجة التهديد الإرهابي، والنهوض باقتصاد متآكل، وإخراج النظام الصحي من أزمته المزمنة،والتصدي لتغير المناخ، الخ. وهذه حجة تقليدية لا تخلو من ديماغوجية في متناول من شاء. وهي تقدم المصلحة العامة والمشتركة، أو دائرة العلانية، حيث يُقر للسود بالمساواة إقراراً متعاظماً، على تمييز "أعمق" ومتغلغل في ثنايا الأنفس. فيقول الخطيب أن جدته البيضاء، لأمه، وهي حضنته، هو ابن الرجل الأسود الأفريقي الكيني، وربته، وارتضت لأجله تضحيات لا تحصى، وأحبته فوق الناس كلهم، هذه الجدة، وحالها هذه، أسرّت الى حفيدها يوماً ان الخوف ينتابها حين تمر برجل أسود في الطريق. ولم تتورع، في أحيان كثيرة، عن ترديد أحكام منمقة في السود وطبائعهم، عرقية وقومية، وجبلّتهم. وهذه المرأة لا يسع باراك أوباما إنكارها أو التنصل منها، فهي جزء منه على نحو ما الجماعة السوداء ("الأمة"، المؤتلفة من النسب الأبوي وأهل الأم الأخوال، على ما كان ماسينيون يردد) والسمراء جزء منه.
ولا ينفي هذا رسوخ التمييز في تاريخ اجتماعي يتناوله المرشح تفصيلاً، ويتعقب إرثه، وينسب إليه جراح "المهانات والشكوك والخوف" غير الملتئمة، وإزمان "ماض لا يمضي ولا ينقضي"، على قول وليم فوكنر، الروائي الأميركي "الأكبر" ربما (وأوباما ينقل عنه قوله هذا في خطبته). ويترجح الخطيب بين معالجة اجتماعية ومؤسسية عامة، تقتضي تعاقب أجيال من الناس، وتمسكهم بإرادة معالجة التمييز وظلمه، وبين دعوة السود الى التخلص من "تواطئهم على أنفسهم ودوام حالهم"، والى ترك الغضب العقيم، الحقيقي والقوي، ونسج الأحلاف في سبيل إنجاز التغيير الذي يحتاج السود إليه. ويعرج المرشح على حال شطر من البيض الفقراء الذين يصيبهم ما أصاب ويصيب السود من ظلم وإحباط، وخشية من المستقبل و "تبدد الأحلام"، ومن ضغينة على "التمييز الإيجابي" الذي يفيد منه بعض السود والملونين. فيطلب الى السود التنبه الى مغزى رفض بعض فقراء البيض دولة الرعاية، وانتفاع السود منها فوق انتفاع البيض الذين يمولونها.
وينتهي الخطيب الى نتيجتين غير حاسمتين: فينيط بترشحه الى الرئاسة الأميركية، وفوزه المرجو طبعاً، خطو خطوة على طريق لأم جراح التمييز الحميمة (ويقول أن ولاية سوداء واحدة لا تستوفي المهمة والعم)، من وجه أول. وينيط، من وجه آخر، يقينه بتخطي المعضلة، بإيمانه بالخالق وإيمانه بالشعب الأميركي، على المثال التنويري والتاريخي الدنيوي والعملي الذي يهيمن على التدين الأميركي، ويصبغه بصبغته. والإيمان المزدوج هذا هو بمنزلة إقرار ببقاء جزء من المشكلة عصياً على الإرادة والعزيمة المعلنتين، وتسليم بعوامل ليس في مقدور التصميم والرغبة وحدهما تطويعها وسوقها، على رغم شعار الحملة، ولازمة خطبها وأناشيدها وبعض أغانيها. فجهر اليقين بالقوة على الفعل، وإسناد القوة هذه الى مضاء الشعب المتكاتف والمتآزر والى هيئاته السياسية وتقاليدها، لا ينفكان من تعويل على الوقت، ومراكمته الإجراءات المتصلة، ودمله الجراح الأليمة، واستيلاده المشاعر المواتية.

التباس سندريلا
ولا ريب في أن مثال السياسة الذي ابتدعه باراك أوباما، وجسده واحتذى عليه معاً وفي آن، مثال يجمع البساطة الى التركيب، ويُعمِل موارد التقليد الأميركي الحقوقي والقضائي. والحق أن سبر معاني الشغف العالمي بحملة أوباما، وبالمرشح وسيرته وخطابته، سبراً دقيقاً، بعيد من المتناول. ولا يبعد أن يضطلع مثال السياسة الإرادي (وليس الإرادوي وعلى الضد منه)، والبصير بالمعوقات والعقد العسيرة والعصية، والداعي الى إجماع موضعي وطوعي وجزئي قبل الإقدام على إجراءات لا يحملها المتعاقدون على منطق "ما يربحه المتعاقد أي الخصم هو خسارة لي وما أربحه أنا هو خسارة يمنى بها هو"، والمعول على الوقت، لا يبعد أن يضطلع مثال السياسة هذا بدور راجح في تأليب جمهور "جمهورية العالم"، وجمعه على الإعجاب بالأسود الأميركي ومباشرته السياسة، وركضه في مضمارها وسبقه فيه. وقد يصح حمل الإعجاب والتأييد هذين على إكبار مثال سياسة ليبرالي وديموقراطي، وإكبار بصيغته الأميركية التي مر وصفها، ونشدانها نفي القسر والتعسف والعمودية من المنازعة السياسية والعامة. هذا إذا صدق أن الإعجاب هو تأييد، وأنه يتخطى الانبهار بحكاية سندريلا أو بـ "حكاية نجاح" اليتيم في العثور على نسب ملكي صريح. فالمثال ملتبس.
وهو قد يحمل على كناية عن بلوغ الفقير والضعيف والمنبوذ سدة السلطان العظيم بالرفق واللين والحيلة، فيمثِّل على حال العالم، وانقلابه من غلبة الغربي والأبيض الى غلبة الملون والمستضعف. وهذا تأويل صراعي على منطق موازين القوة. وهو قد يحمل على نموذج يتيح معالجة الشطط والمظالم والانحراف من طريق المنازعة السياسية والعامة، المنضبطة على قواعد صارمة تقر للمتنازعين كلهم بالحق في الخلاف والعلانية والحماية. وعلى هذا، ينهض الرئيس الأميركي المنتخب نقيضاً أو ضداً للزعماء السياسيين و "الرؤساء" من أمثال محمود أحمدي نجاد (أو خامنئي من ورائه وفوقه) وفلاديمير بوتين وهوغو تشافيز أو إيفو موراليس (البوليفي)، بعد تنحية جوزيف كابيلا وبشار الأسد وموغابي وقديروف وأمثالهم عن المقارنة.
وعلى خلاف التباس دلالة الإعجاب العالمي، واحتماله معنيين مختلفين، تبدو دلالة الاقتراع الأميركي واضحة ولا لبس فيها، تقريباً. فالستون مليون ناخب أميركي الذين أيدوا باراك أوباما – وهم 52 في المئة من المقترعين، وهؤلاء نحو 64 – 65 في المئة من جملة الناخبين – تقاسمهم المرشحان، هم الشطر الغالب من 130 – 135 مليون ناخب أميركي، قسمة عادلة. ففي باب الجنس اختار 49 في المئة من الناخبين الذكور المرشح أوباما، واختار 48 في المئة المرشح ماكين. وعلى حين اقترع 56 في المئة من النساء الناخبة للمرشح الديموقراطي، اقتصر اقتراعهن لخصمه على 43 في المئة. ويتعدى الفرق، وهو 13 نقطة، في الباب هذا الفرق العام، وهو 5 – 6 نقاط (52/ 46 – 47 في المئة) على نحو "غير عادل" أو مجحف. وتنقلب الآية في باب اللون أو العرق. فاقترع 55 في المئة من الناخبين البيض لماكين، وأيد 43 في المئة منافسه الأسود. وتميل الكفة ميلاً صارخاً في بابي الناخبين السود والإسبانيين: فلم يقترع غير 4 في المئة من السود للجمهوري الأبيض، نظير 95 في المئة للديموقراطي الأسود. وبلغ عدد المقترعين الإسبانيين للمرشح ماكين نصف عدد من اقترعوا منهم لمنافسه الملون (66 في المئة). و "الاختلال" الأخير هذا يجري عليه اقتراع من سنهم 18 الى 29 سنة: فهؤلاء انتخب 66 في المئة منهم المرشح "الشاب"، واقتصر من قدموا عليه منافسه على 32 في المئة. فكان الناخبون البيض أعدل فئات الناخبين انتخاباً (في ميزان الأعراق والألوان). واشتط الناخبون السود في ميلهم.
وقد يقيد دلالة الشطط العرقية اشتطاط الشباب، وميلهم الحاد الى مرشح دون آخر. ويقيدها، على قدر أقل، ترجيح النساء كفة أوباما. وتستوي النسبتان، في باب فئة الناخبين البالغين 30 الى 44 سنة، على متوسط الفرق العام: 52 في المئة اقترعوا لأوباما نظير 46 في المئة لخصمه. ويعدل ناخبو فئة 45 – 64 سنة، فيقسمون أصواتهم بين المرشحين قسمة سواء: 49 في المئة لكليهما. ولا يبالغ ناخبو فئة 65 سنة وما يزيد، فيقدم 53 في المئة منهم المرشح المسن (73 سنة) على الفتي (45 في المئة من أصوات الفئة). ويبعث باب المداخيل الاختلال: فمن ينقص دخلهم السنوي عن 50 ألف دولار، وحصة الملونين والنساء والشباب منهم كبيرة، اقترع 60 في المئة منهم لداعية إصلاح الرعاية الصحية عاجلاً. وتقدم أوباما ماكين في باب هؤلاء 22 نقطة مئوية. ولم يرجح ذوو المداخيل المتوسطة (50 الى 100 ألف دولار) والعالية (100 ألف وما يزيد) كفة ماكين، صاحب المنازل السبعة والثلاث عشرة سيارة، على كفة من لم يفرغ بعد من تسديد قرض دراسته في بعض أعلى الجامعات الأميركية مرتبة. فاقترعوا 49/49 و49/50 في المئة.
ووسع المرشح الديموقراطي انتزاع ولايات إلى صفه كانت معاقل جمهورية. فاستمال ولاية نيفادا (5 مندوبين) في الغرب، وكولورادو (9 مندوبين) ومكسيك الجديدة (5 مندوبين) في الجنوب المحافظ و "الرجعي". وأقامت تكساس، وحدها من الولايات الكبيرة (34 مندوباً)، على عهدها الجمهوري الثابت. وكسب انديانا (11 مندوباً) من جديد، والولاية كانت اقترعت لكلينتون قبل أن تقترع مرتين لبوش الابن. والى انديانا كسب معقلين من معاقل الجمهوريين لم يفلح كلينتون في شدهما الى ولاياته هما فرجينيا (13 مندوباً) وكارولاينا الشمالية (15 مندوباً)، وتوج أوباما موجته بصيد ثمين صد كلينتون كذلك هو فلوريدا (27 مندوباً)، ند تكساس تقريباً.
ولكن المرشح الشمالي، وشيخ ولاية إيلينوي، قصَّر عن الفوز بولايات الجنوب الأربع، ميسوري وأركنساو ولويزيانا (وهاتان فاز فيهما شيوخ ديموقراطيون) وجورجيا، الى الشرق، وبولايتي الوسط، كنتاكي وتينيسي. وهي ولايات فاز بها كلينتون الديموقراطي. وكانت وراء زعم راج، وبعث على التشكيك في حظوظ أوباما بالفوز. فذهب المراقبون الى أن المرشح الديموقراطي الأوفر حظاً هو القادم من الجنوب، والقادر على كسب ولايات الجنوب الى صفه. والبرهان القاطع هو آخر رئيسين ديموقراطيين منذ 1968، كارتر وبيل كلينتون، جاءا من الجنوب. ولكن ما قصر عنه الرئيس المنتخب عوضه بعض الشيء بالفوز في كارولاينا الشمالية وفلوريدا، على ما مر للتو. والفوز بـ56 مقعداً في مجلس الشيوخ (من 100)، وبمقعدين من المقاعد الأربعة المعلقة، يقرب الديموقراطيين، وبعضهم مترجح الرأي والاقتراع، من الفوز بغالبية تطلق يدهم في هيئتي التشريع والرقابة.
والمقارنات هذه تنم بصدور النتائج الانتخابية المثلثة، الرئاسية والمشيخية والنيابية، عن تماسك انتخابي قوي، وليس عن طفرة مزاجية أو ظرفية. فشيخ إيلينوي رفع بناءه على بنية ديموقراطية حزبية عريقة، بعثها وجددها وزاد عليها مسحته الملونة والعمرية والاجتماعية. فما يسميه بعضهم "ثورة أوباما" هو، حقيقة وفعلاً، ثورة أميركية تبلورت من تحت، وثمرة حركة انتشرت في أرجاء الجسم الأميركي على مقادير متفاوتة من غير شك، ولكنها لا تخرج على التناسب والتوازن العامين إلا في حال العرق.

الاثنين، 3 نوفمبر 2008

الاتفاق الأمني العراقي – الأميركي قيد مناقشة داخلية وإقليمية مستفيضة ومتناقضة

في أوائل شباط (فبراير) 2008 بدأ وفدان مفاوضان، عراقي وأميركي، مناقشة اتفاق امني وعسكري يخلف قرارات الأمم المتحدة التي يرجع إليها الطرفان، منذ غداة نيسان (ابريل) 2004، وسقوط نظام صدام حسين ودولته، في تنظيم علاقاتهما تنظيماً قانونياً. وكان مقدراً ان تنتهي المحادثات هذه في تموز (يوليو) المنصرم. فتنتهي الهيئات الدستورية العراقية، من المجلس السياسي للأمن الوطني الى مجلس الوزراء والنواب، بعدها من مناقشته وإقراره في اثناء الصيف، قبل ختام السنة، أولاً، وقبل اقتراع الأميركيين على الرئيس الأميركي الـ44، ثانياً. وختام 2008 هو موعد انقضاء صلاحية القرارات الدولية في شأن العراق المحتل وإدارته. فينبغي، على رأي الائتلاف (في قيادة الأميركيين)، أن تثمر الأعوام الأربعة المنصرمة، وأن يثمر خصوصاً العام ونصف العام المنقضيان منذ زيادة عديد القوات الأميركية من نحو 140 ألفاً الى 165 ألفاً، حالاً عراقية داخلية، سياسية وأمنية، تبرر الدعوى الرئاسية الأميركية بأن جزءاً من "مهمة" الحرب أُنجز. وآية الإنجاز القوية والواضحة تولي الدولة العراقية، وقواتها الذاتية، شطراً متعاظماً من أمن مواطنيها وأراضيها في 12 محافظة من 18 في جهات العراق كلها، وتولي الدولة نفسها المفاوضة على أمن العراق الإقليمي. والوجه الثاني من الإنجاز توكيل الدولة العراقية، السيدة والمستقلة شطراً من الأمنين، الداخلي والخارجي، الى الائتلاف، أي ألى القوات والديبلوماسية الأميركية معاً.

المعنى المزدوج

ولا يخفى أن بلورة الاتفاق العراقي – الأميركي، على وجهه الأمني الداخلي وعلى وجهه العسكري الإقليمي، قبل الانتخابات الأميركية في 4 تشرين الثاني (نوفمبر) الوشيك وقبل 31 كانون الأول (ديسمبر)، يقدم للسياسة الأميركية، البوشية في الأثناء، إقراراً، عراقياً وعربياً وإقليمياً، بإنجاز قد يكون متأخراً بعض الشيء، وباهظاً من غير شك، ولكنه لا ينكر. فهو قرينة على حسم سياسي وطني من الانتخابات والهيئات والأجهزة والإدارات التي مرت. ومعنى الاتفاق ان بؤرة الإرهاب العراقية أخمدت تقريباً على رغم تضافر انهيار "الدولة" تحت وطأة الغزو الأميركي، وتجدد العصبيات الأهلية والمذهبية، واقتتال القوى والقيادات السياسية المحلية، وضلوع قوى إقليمية كثيرة في تيسير انتقال الجماعات "الجهادية" وتسليحها ورعاية الجماعات والقيادات البعثية والقبلية المناوئة، على رغم تضافرها على إشعال البؤرة هذه والنفخ فيها. ومعنى الاتفاق كذلك، وهو يكمل المعنى الأول، تكذيب التكهنات القريبة من اليقين بأن العراق مقبرة الامبراطورية الأميركية، وأن "المشروع" الأميركي طوي الى غير رجعة، وخلى محله لشرق أوسط "إسلامي" تتربع إيران الخمينية والنجادية في قمته، وتتولى إدارته بواسطة "جيوش الحرية" التي تنشئها وتمولها وترسم لها نهجها السياسي والعسكري الأمني، وتتقاسم النفوذ فيه مع القوى الإقليمية التي تفيء الى جناحها وظلها. ويتصل المعنى المزدوج بقضايا ومعارك إقليمية كثيرة. فلا يترك قضية إقليمية، أو وجهاً إقليمياً لقضية وطنية أو محلية، فلسطينية أم لبنانية واستطراداً سورية وأردنية وخليجية ومصرية وتركية وإيرانية بديهة، من غير ان يؤثر فيه على مقدار أو آخر.
وتصدرت السياسة الإيرانية، وغاياتها وخططها، محاولات عرقلة الاتفاق الأمني العراقي – الأميركي. ففي سياق الحوادث والنزاعات المتعاقبة منذ الاحتلال الأميركي العراق، وأفغانستان قبل العراق، على أقرب تقدير، يحول نهوض دولة عراقية متماسكة الى الغرب من ايران، تحجز بينها وبين جوارها العربي – الإسلامي القريب والمختلف، يحول بين ايران وبين بسط نفوذها على مجموعة من الكيانات والأبنية الأهلية والسياسية الضعيفة اللحمة والمتباعدة. ولا شك في ان انبعاث التماسك العراقي في رعاية أميركية يقوض المطامح الإيرانية الإقليمية، ويتهدد السيطرة الخمينية على إيران نفسها، ويحرمها المدى الريادي الذي تحتاج إليه المهمة أو الرسالة التاريخية التي تنسبها القيادة الخمينية والإمامية الى نفسها، وتسوغ سيطرتها على الإيرانيين، والشيعة العرب وغير العرب، بها. وتملك السياسة الإيرانية في العراق أدوات كثيرة تخولها التأثير في قرارات الدولة والجماعات والقوى التي تشدها الى إيران، طاقماً حاكماً وأجهزة وهيئات أهلية، روابط متفاوتة القوة. ويملك حليفها السوري أدوات أخرى.
وبينما كانت المفاوضة على الاتفاق الأمني تخطو خطواتها الأولى، في موازاة خطة بترايوس وأوديرنو وطلائع بعض النجاح "غير المستقر"، وغير بعيد من المفاوضات بين ايران وبين دول مجلس الأمن ومعها ألمانيا (5+2)، أخرج مقتدى الصدر، المتخفي في إيران، والمنازع على القيادة الشيعية العراقية، مسألة الاتفاق من الظل الذي كان يلفها الى العلن. فعزم على دعوة "تياره" و "جيشه" و "كوادره" ببغداد ومدن الجنوب الى تظاهر "مليوني" في 9 نيسان (ابريل) 2008، اليوم الرمزي والملتبس، وإلى اعتصام عام، تنديداً بالاتفاق المزمع. وتذرع الى دعوته هذه، وإلى نقل مسألة الاتفاق الأمني، وجدولة انسحاب "الائتلاف" وقواته الأميركية، الى قلب النزاع السياسي العراقي والمسألة العراقية عموماً، برفض أميركي سابق ومعلن تعيين تاريخ انسحاب يتفق عليه بمعزل من الأحوال الميدانية، واختبار متانتها. والحجة الصدرية الثانية هي حوادث انتهاك القوات الأميركية المتكررة والكثيرة أمن المدنيين العراقيين، وإيقاع القوات هذه والشركات الأمنية المتعاقدة معها عشرات القتلى في صفوف الأهالي. والحجتان متينتان وقويتان، وتتوسلان بمشاعر عامة العراقيين وشكواهم الأليمة والطويلة من الفوضى التي عمت البلاد منذ حصار صدام حسين ثم سقوطه، وانقلاب العراق ميدان "جهاد" مشرع الأبواب، ومسرح اقتتال أهلي وإقليمي.
وتولى مقتدى الصدر قيادة التنديد بالمفاوضة على اتفاق أمني وعسكري، هو أقرب الى المعاهدة منه الى الاتفاق الظرفي والجزئي، في منعطف سياسي، عراقي وإقليمي، حاسم. ففي مطلع 2008، كان انقلاب العشائر السنية على "القاعدة" يتمخض عن نتائجه الأولى وغير الثابتة. وكان على القوات الأميركية حمل حكومة نوري المالكي، وقيادات الشرطة المحلية والمحافظين، ومعظمهم من الشيعة، على قبول مقاتلي "مجالس الصحوات" في عداد القوات العراقية الوطنية او الرسمية. واقتضى ذلك تحصين الجيش العراقي وقوى الأمن الوطنية والمحلية، وبعض الإدارات المحلية، من اختراق الجماعات الشيعية الحزبية والمسلحة لها. واقتضى كذلك مكافحة الاختراق. فكان مقتدى الصدر، ومن معه ووراءه في العراق وفي الجوارين الشرقي والغربي، يسابق إجماعاً أهلياً على معارضة القوات الأميركية، إن لم يكن على قتالها.
وعلى مثال سياسي وأهلي عربي شائع، أراد زعيم التيار الصدري وقائد "جيش المهدي" تصدر معركة إجلاء الأميركيين عن العراق، والتربع في رأس "الدولة" العراقية وحده، وقتال الجماعات السياسية والأهلية الأخرى والمنافسة، وإقصاءها عن مراتبها ودوائرها ومصالحها المشروعة وغير المشروعة، والتشكيك في دالّة الهيئات الدينية والمدنية، وفي تمثيلها اجزاء من مجتمع متناثر ومتصدع. فشن "جيش المهدي" عمليات مسلحة على قوات الأمن والجيش والإدارات التي تأتمر بأمر خصمه الأول "المجلس الإسلامي الأعلى" (الحكيم)، المهيمن على الجنوب. ولم تسلم المرجعية، وعلى رأسها علي السيستاني، من الهجوم المادي والمعنوي. فانفجرت اشتباكات دامية في نيسان، موعد التظاهر "المليوني" المقدر، بالنجف والكوفة وضواحيهما. وتحالف على "جيش" الصدر، المتهور والأرعن، خصومه كلهم على ما يبدو. فقتلوا مئات من أنصاره المعلنين، ومن احتياطه "السماوي". فهزم "التيار"، وخسر معركة أساء الإعداد لها، على عادة عرف بها، وصارت اختصاصاً دامياً. فألغيت التظاهرة، وخسر "التيار"، في الأثناء، شطراً كبيراً ربما من الجناح "القومي" السني. ففقد سنداً قوياً لمعركته الوطنية، وتحريضه على الاحتلال الأجنبي باسم عراق "عربي" واحد، بينما كان يحوم على ايران الخامنئية والنجادية طيف ضربة عسكرية استباقية تقوض بعض مقومات البرنامج النووي، المدني والعسكري, جميعاً.

طاقم سياسي متهافت

والحق ان مقتدى الصدر، وإيران وسورية معه ومن ورائه، كان يقاتل الاحتلال وقواته، من جهته، ويقاتل القوى والجماعات المتحالفة مع الاحتلال على بناء مرافق إدارة أمنية وخدمية ومدنية، من جهة ثانية، بينما يشترك وأجزاء من القوى والجماعات الشيعية المتحالفة مع الاحتلال في عمليات قتل وعدوان واغتيال مذهبية محلية، ويستدخل المرافق الرسمية في هذا السبيل. ويسطو "التيار" على الموارد المحلية، وعلى حرمات الناس وهيئاتهم الأهلية، و "حرياتهم" حيث قدر. وهذا ليس شأن "تيار" الصدر المتواري و "جيشه" وحدهما. فالقوى الأخرى ليست أقوى تماسكاً من "التيار" و "الجيش". ولكنها، على خلافهما، تعول في سبيل تثبيت مواقعها ونفوذها، وضمان حصتها من عوائد السلطة، وتقوية ولاء مواليها، على استدخالها المرافق والمراتب والهيئات، وحماية إقطاعاتها المحلية والأهلية بواسطة المرافق هذه، ونفوذها فيها. وهي تجاري مناهضة الأميركيين طبعاً. وبعض محازبيها ضالعون في مقاتلتهم. ولكن قياداتها تدرك، من وجه آخر، ان السياسة والقوات الأميركية وحدها ضمان "وحدة" العراق الإقليمية والسياسية، والقوى القادرة على حماية دولة وطنية آتية من تناهش الأطراف الإقليميين، والعصبيات الأهلية الداخلية، الجماعات العراقية وولاءاتها الرجراجة.
ونهج الجماعات والأحزاب العراقية هذا يتحدر من ملابسات القضاء على سلطة صدام حسين، وسياق "تحرير" العراقيين من النظام الصدامي الحسيني. فارتضت الجماعات والأحزاب هذه، وفي مقدمها المجلس الإسلامي الأعلى ("الثورة الإسلامية" سابقاً) وحزبا الدعوة والفضيلة – وكلها أحزاب شيعية ناشطة ومقاتلة وسرية ومنقسمة، وبينها وبين طهران الخمينية روابط تترجح بين الحلف وبين الجفاء – حكم العراق "هدية" من الاحتلال وقواتها، من غير إسهام عسكري أو سياسي فاعل، ومن غير تورط في مساندة صريحة ومشروطة ومعللة. ولعل الثغرة الواسعة في حال القوى والأحزاب هذه، أو موطن ضعفها، هي تهافتها الداخلي، وائتلافها من شراذم وعصائب وشطور، ومن مصالح وميول من العسير تماسكها على طاقم ونهج وبرنامج لا غنى عنها لقيام دولة وطنية ودوامها. وأقامت وقتاً طويلاً، ما لا يقل عن 3 أعوام، قبل ان تبادر بعض الشيء الى الانخراط في عملية سياسية تمهد لاستلام مقاليد السلطة، عن بعض جدارة وشجاعة. وتقتضي هاتان الإقرار بثقل الإرث الصدامي الحسيني، و "الدولة" القومية الاستبدادية عموماً (ويصح هذا في الدولة المذهبية والفقهية)، وباستحالة نهوض القوى الذاتية والأهلية، المشرذمة والمستتبعة، وباستحالة نهوض القوى الذاتية والأهلية، المشرذمة والمستتبعة، ببناء الدولة، من بسط الأمن وتوفير الخدمات الى الاضطلاع بمهمات السيادة الجامعة في الداخل والخارج.
وكانت المفاوضة على الاتفاق الأمني اختباراً للطاقم الناشئ. وظهر تدريجاً ان كسر شوكة القوة الأهلية والعسكرية الصدرية – وعلى نحو مفاجئ وملغز خلص الصدر من هزيمته الى إعلان مهادنة القوات الأميركية وتعليق قتاله إياها، والتزامه التعليق عموماً في العلن والسر – لم يحرر القوى الأخرى من ارتهان داخلي وإقليمي، قومي وإسلامي، مقيد وثقيل. فانتهجت في مفاوضتها نهجاً مسوفاً يبدو انه انطلى على المفاوضين الأميركيين الى أواخر آب وأوائل أيلول (سبتمبر). وفي الأثناء، قوى الاقتراع على قانون النفط، ثم إقرار قانون مجالس المحافظات وانتخاباتها (في 24 ايلول)، في أعقاب خطو القوات العراقية العسكرية والأمنية خطوات على طريق المهنية والانضباط والوطنية المتوازنة، قوت هذه مشروعية المفاوضين العراقيين والسلطة التي انتدبتهم، ويعود إليها، مجلساً سياسياً وطنياً وحكومة وبرلماناً، النظر في المعاهدة وإقرارها.
ولا ريب في أن نوري المالكي، رئيس الوزارة، ورأس الائتلاف الشيعي النيابي (82 نائباً من 275)، يدرك تبعات المسألة. وهو يدرك ان التسويف والمماطلة في إقرار الاتفاق يماشيان في المقام الأول، رغبة أحمدي نجاد وبشار الأسد في الظهور مظهر "الناخبين" في الانتخابات الرئاسية الأميركية، والمؤثرين في إخفاق المرشح الجمهوري، وفي فوز المرشح الديموقراطي حامل لواء "محاسبة" السياسة الخارجية البوشية في الشرق الأوسط. ومن وجه آخر، قد لا يكون أدنى مرتبة من الأول، يخرج الاتفاق علاقة العراق بالأمم المتحدة من الرعاية والوصاية الدوليتين. وتخرج العراق ودولته تالياً، من قصورهما السياسي الدولي. وعراق راشد دولياً، وسنده مشروعية داخلية تنزع الى التكامل، يعطي معاهدة ثنائية ودولية مع المحتل قوة ومشروعية سياسيتين وحقوقيتين تكذبان تكذيباً بليغاً مزاعم الجوار "القومي – الإسلامي" في جدارته وحده بالقيادة الإقليمية، وفي "انهيار المشروع الأميركي وإفلاسه". ويحاول الجوار "القومي – الإسلامي" (وهو قومي – قومي في نهاية المطاف) إرجاء إبرام المعاهدة، فيلوح بتمديد ولاية الأمم المتحدة على العراق، ودولته الفتية، على ما ذهب إليه عمار عبدالعزيز الحكيم (في 27 تشرين الأول). وكان علي الدباغ، الناطق باسم الحكومة، استبق الاحتمال هذا، في 15 من الشهر الجاري نفسه.
وجلي ان دوام الوصاية الدولية يضعف المتعاقدين، الأميركي والعراقي. ويمنح المعارضة العراقية الصدرية، والوصيين الإقليميين، الإيراني والسوري، فرصة الطعن في رشد الحكومة العراقية الداخلي والدولي، وفي دور الاحتلال واضطلاعه بقيادة الدولة العراقية، أمناً وتشريعاً وإدارة، الى الرشد هذا، وإلى الأمان المنشود. وبعض المشكلة مصدره خوف الحكومة، ومعظم القوى السياسية المؤتلفة فيها (على تفاوت في ما بينها)، من الاعتداد بمشروعيتها، وبما أنجزته أو أُنجز في مواكبتها واستجابتها. فسعى المالكي في تحميل النجف، والسيستاني في المرتبة الأولى، المسؤولية عن إقرار مسودة الاتفاق. فزار رئيس الحكومة المرجع (في 11 تشرين الأول)، ونوه بحصول المفاوض العراقي على "تنازلات كبيرة" أميركية. وذاع ان الأميركيين وافقوا على جدول انسحاب مرن من المدن المتبقية (حده منتصف 2009)، ومن الأراضي العراقية (نهاية 2011). وأقروا بالولاية القضائية العراقية على أفعال الجنود الأميركيين الجنائية، خارج العمليات القتالية والثكن العسكرية. ولكن علي السيستاني رد المسؤولية على "الشعب وممثليه"، ودعا العراقيين ونوابهم الى تحمل التبعة عن عمل هو في صميم صلاحيات الدولة الراشدة.

العراق الإقليمي

وفي ما يشبه المواكبة لسلطة الدولة، تقاطرت الزيارات الديبلوماسية والسياسية العربية الى بغداد. وتوالى فتح السفارات، أو الإعلان عن العزم على فتحها، وتقديم السفراء أوراق اعتمادهم الى وزير الخارجية ورئيس الجمهورية، هوشيار زيباري وجلال الطالباني، في غضون أسبوعين أو ثلاثة من تشرين الأول. ولم يكن السفير السوري آخر السفراء، إذا كان عبدالله الثاني الأردني أول الزائرين المأذونين. وليس التقاطر العربي، الخليجي والمصري، بينما تدعو طهران السياسيين العراقيين، مسؤولين رسميين ومنشقين عن أحزابهم (أبرزهم ربما رئيس الوزراء السابق، الجعفري، ومنافس المالكي على قيادة حزب الدعوة، من خارج الحزب منذ بعض الوقت) الى رفض الاتفاق اتفاقاً ولا مصادفة.
وتصدى بعض الزوار، في أثناء زياراتهم، وقبلها أو بعدها، لمسائل استراتيجية شائكة، تتصل بدور العراق الإقليمي في الخليج، وعلى ضفتيه. فاقترح وزير الخارجية البحريني (خالد بن أحمد آل خليفة) إنشاء منظمة إقليمية عريضة تجمع الدول العربية الى إسرائيل وتركيا وإيران. ويخرج الاقتراح على القواسم المشتركة العربية خروجاً صريحاً، وإلى إجابة وزير الخارجية الإيراني، بالرفض طبعاً، تجند، في البحرين، ناطقون باسم "الأخوان"، وكتلة الوفاق البرلمانية الشيعية، والقوميين العرب، للتنديد برأي وزير الخارجية. وذهب اثنان من ثلاثة نقاد الى التحصن بالسياسة الإيرانية، ورأيها في المسألة.
ولم تثن الملاحظات على الاقتراح الوزير البحريني، بعد نيف وأسبوعين من إدلائه برأيه الإقليمي (في أول تشرين الأول ثم في 18 منه، في أثناء زيارة بغداد)، على "تأطير" خليجي لرأيه. فذهب ببغداد الى ان العراق "يشكل امتداداً طبيعياً لدول مجلس (التعاون الخليجي)". وعلى خلاف التصريح الأول، الفضفاض والبعيد، يلوح الرأي الثاني، في خضم مناقشة مسودة الاتفاق الأمني والعسكري، بخطة سياسية لا يسع إيران، ولا أنصارها العرب، إنكارها. فـ "الامتداد الطبيعي" يمهد لانخراط سياسي ومؤسسي. وانخراط العراق، بعد دخوله في "مِلك" غالبية سكانه الشيعية، في الدائرة الإقليمية الخليجية، العربية والسنية، لا يعدم معنى استراتيجياً عربياً، وقطبياً، نظير القطبية الإيرانية على ضفة الخليج الأخرى. وتحجز الكتلة الجديدة، إذا استوت وتماسكت، بين القطب الإيراني وبين الخطوط الخلفية المشرقية التي تسلل اليها، منذ 1979 – 1980، من طريق الرئيس السوري حافظ الأسد وبعض المنظمات الفلسطينية وشيعة لبنان، وانقلبت خطوط التسلل جادات عريضة منذ انهيار صدام حسين، والعملية الأميركية في البوكمال، في 26 الشهر الجاري، "تعليم" لإحدى الجادات هذه. واستئناف الوزير البحريني اقتراحه الأول، الخيالي، باقتراح إقليمي فرعي، يثبت القدم العراقية في كتلة الخليج الغربية، على أن تستوفي شروطاً داخلية لا تستوفى من غير طريق التعاون الأميركي، وعلى أن تخرج من الفلك الإيراني والمذهبي وقيديه، الداخلي والدولي، على قيام الدولة العراقية وعلى سيادتها.
وحملت دعوة النجف نوري المالكي، وربما المجلس الإسلامي الأعلى وحزبي الدعوة والفضيلة، الى الاضطلاع بمسؤوليات الدولة، حملته (هو وأصحابه) على الإحجام عما دعت اليه، وهو الشجاعة والصراحة السياسيتان. فتعلل بـ "غموض" بعض بنود الاتفاق الى إرجاء بته. وفي باب التمثيل على الغموض لم يذكر جدولة الانسحاب النهائي، ولا القواعد العسكرية المزمعة، ولا حدود الولاية القضائية، بل اقتصر على مسألة المرجع في اقتضاء "الظروف على الأرض" الانسحاب من المدن أو أرجائه. فسأل: "من يحدد الظروف؟". وهذا ضعيف. فمن ادعى قبل أيام قليلة، أنه انتزع "تنازلات كبيرة" من الأميركيين انما ينذر بذرائع صغيرة وطفيفة.
ويكرر عباس البياتي أحد نواب "الائتلاف" البارزين، للمرة الثالثة لائحة التحفظات وبنودها الخمسة (وهي كانت سبعة ثم ستة في غضون 10 أيام)، فيحصي: الدقة في جدولة الانسحاب، والحصانة القضائية ("تضعنا في هواجس"، على سبيل الدقة!)، وتفتيش البريد الداخل والخارج، والتردد الى المنشآت والمعسكرات الأميركية، ومطابقة النصين العربي والإنكليزي واحدهما الآخر. وترى نرمين عثمان، وزيرة البيئة، أن بنوداً في الاتفاق "تنتهك الدستور العراقي". وهي تقصد، على غرار البياتي، الحقوق المدنية والحريات التي يضمنها الدستور العراقي، على مثال أنغلو – ساكسوني عريق، مثل الحق في سرية المراسلات (على خلاف تفتيش الأميركيين البريد)، وحرية التنقل، واضطلاع الدولة بمراقبة أراضيها الإقليمية كلها (على خلاف انكفاء المعسكرات الأميركية و "استقلالها")، والمساواة القانونية والقضائية (على خلاف المحاكم الخاصة).
وتستظهر الملاحظات هذه بمعايير حقوقية ودستورية عالية، وأمينة على روح التشريع والمواطنية. ولكنها تغفل عن أمر واحد هو ان العراق لا يزال في خضم حرب قاسية ومتشابكة تتغذى من انقسامات الداخل، ومصالح الجوار المتضاربة ورياحه العاصفة، ومن قصور القوى السياسية عن بلورة صورة دولة جامعة ومركبة. والمقاتلون في الحروب هذه، من الداخل والجوار والخارج، وفيهم الحكام والنواب والقادة العسكريون والأمنيون، لا يتقيدون أضعف التقيد وأقله بقواعد الحرب والقتل، ولا بالأحكام العرفية.
وتفترض الملاحظات "الدستورية" انهم مواطنون ورعون وأتقياء، يترفعون عن ارتكاب الأذية العارضة. فبريدهم انما هو لبث الأشواق، وطلب الوصل، وتبديد غيوم الخلاف، وليس (بعضه) لنقل المتفجرات، وتهريب الأموال والناس والسلع. وتنقلهم يُفترض للنزهة، وزيارة المعالم الطبيعية والتاريخية وعتباتها. وهذا أشبه بالمطالبة الإيرانية والسورية والحزب اللهية والحماسية بـ "قواعد اشتباك" تقيد العدو أو قوات الفصل والسلام الدولية، ورده المحتمل، بسلامة المهاجم وأمنه. ولكنها لا تقيد المهاجم المعتدي، والمستبيح أمن العراقيين واللبنانيين والفلسطينيين والسوريين والإيرانيين وحقوقهم، وأرواحهم ودماءهم، من غير رادع. وهو المنطق الذي حكم رد الجيش الشيعي المسلح في لبنان على قرار الحكومة اللبنانية في 5 أيار (مايو) المنصرم الإشراف على شبكة اتصالات الحزب الخميني، ولا يزال يحكم سياسة الحزب والجيش الخمينيين، وهو حكم استيلاء "حماس" على غزة بذريعة حماية "المقاومة" والصواريخ.

الحرب غير المتكافئة

فالجماعات الأهلية و "دولها" التي تخوض على الأهالي، والمواطنين والأبنية السياسية والحقوقية، وعلى الاحتلال والقوى الدولية عموماً ومعاً، أنشأت في الدول العربية، وبعض الدول الإقليمية، نظامها الإقليمي، رداً على العلاقات الإقليمية القائمة. وحين يخطب مقتدى الصدر الجموع التي دعاها الى التظاهر، وجمعها في "مدينته" أي في أحيائها وطرقاتها وبيوتها فهي "تتظاهر" حيث تقيم وتعلم (في 18 الجاري)، فيقول: تخلت الحكومة عن مسؤولياتها، وسكت العلماء والمراجع عن الفتوى في الاتفاقية، فعلى "الشعوب" إطاعة ربها وضميرها و "التعبير عن صوتها" والتظاهر (على ما تفعل). ويدخل الخطيب المتواري الاتفاق المزمع في سبحة "الاتفاقيات المشؤومة التي ختمت جبين الإنسانية" العربية. ويحصي منها اثنتين: كمب ديفيد و "سايكس – بيكو". والاثنتان لا قياس بينهما، فالأولى عقدها المصريون مع عدو حاربوه وحاربهم، وقايضوا انسحابه من أراضيهم المحتلة، سلماً واعترافاً و "عزلة" وطنية على قياس إمكاناتهم ومواردهم وحاجاتهم. والثانية عقدتها قوتان كبيرتان ومستعمرتان تقاسمتا بموجبها النفوذ في بلدان احتسبت في أسلاب سلطنة آفلة.
والحق أن ما يجمع الحالين هو الرد "الإسلامي" السياسي و "الجهادي" عليهما. فقتل "الجهاد" المصري، "الإخواني"، الرئيس المصري، واحتفلت طهران الخمينية بالقاتل. ولا يزال الشارع الذي يحمل اسم الإسلامبولي بطهران علماً على حضانة طهران هذا الصنف من "الحقوق" السياسية، وعلى إسهامها في "النظام" الإقليمي المولود منها. ولا يزال الانقلاب على اتفاق المفاوضين البريطاني والفرنسي في العاصمة الفرنسية (في 1916)، واقراره دولة لبنانية "مسيحية"، لا يزال الانقلاب هذا حادي السياسات السورية، ومزاعمها في قيادة محو آثار الاستعمار. وانضمت السياسة الإيرانية "الجهادية" الى السياسات "القومية" والعروبية هذه. وعلى المثال نفسه يحتذي "النظام" الإقليمي "الإسلامي (المذهبي) – القومي"، وهو مركب دول وأجهزة وجماعات أهلية وحركات أمنية وعسكرية، في العراق.