الاثنين، 26 يوليو 2010

الأنساب صورة سلطان الأمة واطراح الأبنية والأفراد الآحاد

المستقبل 25/7/201

يؤرق أهل المجتمعات العربية عموماً، وهم يقصدون بلوغ أو إنجاز ما يرفعهم الى مرتبة القدوة "الكونية" وينصب ما يصنعونه (أو يصنعه بعضهم) معياراً عاماً وجامعاً إنسانياً، وقوعُهم في خصوصية بلدية يرغبون فيها وينفرون منها في آن. ويبدو السعي هذا متناقضاً ومتدافعاً. فإرادة الصفة الكونية والإنسانية تلازمها إرادة دمغ الإنجاز أو العمل العلمي أو السياسي او الثقافي بدمغة الخصوصية "العربية" الخالصة. والترجح بين حدين يُجزم في بعد الشقة بينهما، وعسر جمعهما أو تهجينهما، يُسْلِم الى ضروب من الإفراط في التبعيد والتخصيص والتقييد تؤدي بدورها الى تقابلات وأضداد محمومة. وقد يتذكر بعضنا تأويل حصول أحمد زويل قبل نحو عقد من الزمن على جائزة نوبل في الكيمياء. فذهب بعض الى ان الجائزة "الكبيرة" قرينة على مضاهاة "العقل العربي"، ويفترض أن زويل قبس منه وبعض فيضه، "العقل الغربي"، وميزان نوبل آلة قياسه. وحمل معلقون وسياسيون "نبوغ" الباحث المصري – الأميركي على تربيته العائلية في مصر. وبعضهم خصص أو عمَّ فقال الإسلامية. وقصروا أثر دراسته الأميركية، في معاهد الولايات المتحدة ومختبراتها وفرق الأبحاث فيها، على نقل التفوق من القوة الى الفعل أو التفعيل، على ما درج القول.

الفيض والنسب
والصيغة الزويلية فرع ضئيل على أصل عظيم هو أصل إنجاب الأمة. فيقال أن أمة أنجبت فلاناً – وفلان هو "عبدالناصر" من غير "جمال"، بديهة، أي ابن الأمة البكر والمثال القاطع على البنوة الأمية المباشرة والأشبه بالخلق والتسوية والصنع من غير تضافر أنساب أو أرحام، أو فلان هو ملازم أول في الجيش اللبناني خرج على قيادته الوطنية والتحق بالفلسطينيين المسلحين وشهر ولاءه العروبي – لا تموت أو لن تموت، على سبيل التابيد الأثير والمستحب. والرجال الكبار، "آيات الله"، يبعثون على رأس كل مئة عام، على تذكير أسرة رجل توفي اخيراً، هم ولائد هذا الصنف من الولادة، ويتحدرون من غير وساطة أنفسهم، من الأمة التي لا تموت.
ولعل تعذر تعليل إسهام الباحث العلمي المصري – الأميركي في احد ميادين الأبحاث العلمية والتقنية الكونية أو العالمية، من غير حمله على بعض فيض "عقل" أو "روح" أهله أو جماعته وأمته، ومن طريق الإقرار بفرادته وجَلْو هذه الفرادة في هيئات وأبنية وأنظمة مشتركة، علامة من علامات كثيرة على عسر تدبر أمرين شديدي التلازم هما فردية الأشخاص والآحاد، من وجه، وتعهد الهيئات والأبنية والأنظمة الاجتماعية (التعليمية والتربوية والتقنية والذهنية والقيمية والذاتية) الأشخاص الآحاد وفرادتهم، وحمل فرد من الناس ("العرب") على قومه، على "عقلهم" أو على "أخلاقهم"، وفي كلتا الحالين على جميعهم. ونسبته إليهم من غير وساطة، تقود إليه في الغالب أبنية اجتماعية وسياسية وثقافية تُحِل الجميع (أو الجماعة) في آحاده (أو آحادها وأفرادها). وتتناول الجماعة الآحاد والأفراد، وتصنعهم وتعرِّفهم وتلبسهم، على صيغة التبعيض. فهم بعضها، صلباً ودماً ورحماً واسماً وطباعاً ومكانة.
وآلة تناول الجماعة الآحاد الأفراد على صيغة التبعيض، أو القبس والفيض، هي النسب أو الأنساب. فمن طريق الانتساب، والانتساب ركن الجماعة وعصبيتها وتماسكها وعددها وشوكتها أو قوتها، يستدرك الأفراد الآحاد على انفراط عقد جميع الجماعة، وتذررها عشائر وقبائل وبطوناً، وفي آخر المطاف أفراداً "عضويين" وتامي الخلقة والحياة المتعضِّية. ويغالب النسب أو الانتساب، والأبنية القرابية والسياسية والمكانية المتحدرة منه وحارسته والقوامة على دوامه، الانفراطَ الطبيعي، والتباين أو الفرق الاجتماعي والصناعي، معاً. ويترتب على الاستدراك (على انفراط عقد الجميع) والمغالبة، بذل الجماعات جهداً مجهداً في سبيل الحؤول دون نهوض هيئات وأبنية ونظم أو رسوم اجتماعية تتوسط علاقات الأفراد الآحاد بنواة الجماعة، أو بنفسها (روحها) وعقلها المفترضين. فمثل هذه العلاقات، أو الوسائط، تعقِّد انتساب الأفراد الآحاد الى اصلابهم أو صلبهم الجامع، مناط "وحدتهم" وتعصبهم، وهي تضعفه وقد تبدده. فيحسب الواحد انه عامل أو عالم أو تاجر أو راقص قبل ان "يكون" من هذا البلد، أو هذا الوطن، أو هذا المذهب والمعتقد، أو هذه العائلة... فينسب نفسه الى جزء أو فرع من اصل يفترض اوَّلَ وركناً، ويفترض ابتداءً جامعاً ومستوفياً التعريف التام والحقيقي، ومفرِّقاً الأصيل من الدخيل.
فلا يستقيم القول السائر والمتفق عليه أن مجتمعاتنا وبلداننا ودولنا "تنقصها" المؤسسات والهيئات والأبنية "المتخصصة" أو التقنية، أو أنها "تفتقر" الى "روح" المبادرة الفردية و "المبدعة"، وإلى المغامرة والمنافسة والابتكار. والأدق ربما القول (بعد الملاحظة والتقرير) أن المجتمعات والبلدان والدول هذه تدفع المؤسسات والهيئات والأبنية الوسيطة دفعاً ومدافعةً، وأنها تكاد تجمع على إنكار جواز قيامها أو اضطلاعها بأعمال أو مهمات تختص بها، ويتولى اصحابها وأهلها مناقشة معايير عملها، وإقرار هذه المعايير. فتكثير المؤسسات والهيئات والبنية الوسيطة يفتت الجماعة دوائر وأجساماً واختصاصات ومعايير وأحكام عمل، ويشرذمها تالياً لحمات و "أنساباً" (على معنى روابط "التضامن") ويفرقها تواريخ وذاكرات، ويشقها طبقات ويذررها أفراداً وآحاداً. ويُكَثِّر هذا الولاءاتِ، ويتركها للأهواء والحوادث والآراء، ويقطع اتصالها واصطفافها في مراتب يحتوي بعضها بعضاً، ويتضمن أعلاها أدناها ويبطنه. وانحلال الجماعة، وجسمها الواحد والمجتمِع على ما تكني عنه الأمة على مثالها النسبي والقرابي الأبوي والأخوي، يلد مسوخاً غريبة يرى إليها "عقل" الجماعة عدواناً على العقل والمنطق السويين والمستقيمين.

الطائفيتان... المستولية والمتربصة
والحق ان مسألة انفراط الأمة، او الجماعة الجامعة، يقود تتبعها او تعقبها الى وجهين مختلفين وليسا متفرقين وحسب. والوجه المعهود والمعروف في اختبارنا (العربي والإسلامي) هو الانفراط "إلى" قبائل وعشائر ودوائر أهل ونواح وطوائف وملل وأصناف وطرق. والقبائل والدوائر والنواحي والملل تتداعى، أي يدعو بعضها بعضاً ويجره ويعضده ويستدرجه الى الميل معه ومماشاته. وتتضافر على القصد شطراً واحداً. وينكر الحكم المركزي، "القومي" ذو المصدر التشريعي والدستوري الديني أو الوطني (شرط انتسابه الصريح الى الأمة وحمل نفسه على قطعة منها تنتظر بفارغ الصبر عودتها إليها)، ينكر على الأبعاض أو القطع المنفرطة طعنها العميق والثخين في الأمة التي يقوم هو، الحكم المركزي والعسكري الأمني غالباً، مقامها. وهجاء الطائفية المرير، ومعظمه يجري على ألسنة طوائف مذهبية مستولية وبعضه على ألسنة علمانيين ذهنيين أو "ذُهانيين"، يكاد يكون الأدب "السياسي" المشترك الأول. ولعل السبب في عنف الهجاء وعمومه ودوامه، منذ انحلال نظام الملل العثماني في الثلث الأول من القرن التاسع عشر، هو اشتراك المركز أو المستولين، والخارجين عليه (أو المعارضين في صيغة أقل فظاظة وأقرب الى الوقائع ومقالاتها)، في علل وأنساب طائفية أو مللية وأهلية متضاربة أو متقابلة، على شاكلة "قبائل" الجمجمة وعظامها المتناظرة.
وأهل المركز يعلمون بعلم معصوم "إلهي" (محمد باقر الصدر) وقاطع ان انقلابهم (إلى) عصبية الدولة المركزية، واستيلاءهم على هذه بـ "ضربة"، على قول أعجمي، هو ثمرة ائتلاف ملي على ملل ضعيفة اللحمة، وعلى إدارات وأجهزة أصاب الاهتراء رأس "سمكتها". وما حصل في الاستيلاء السابق جائز في استيلاء لاحق. ويتهدد السابق استيلاءٌ لاحق على الدوام. فيبدو هذا وشيكاً، ولا دافع له إلا بأحكام عرفية وطوارئ متجددة "الى الأبد"، على القول المشهور. واستقرار الاستيلاء والولاء على التضامن العصبي المتقنع بأقنعة الدولة المركزية الوطنية ("القومية" = الأمة المنتظرة والكامنة) لا يدفعه ولا يقيده، ما دام مجتمع الجماعات على هذه الصورة، إلا تضامن عصبي مثله (عصبية) وخلافه (مادة عصبية وقواماً). فتخاف "ائتلافات" شيعة العراق، على رغم عدد نوابها الغالب وتوليها إنشاء الإدارات والأجهزة في عهدة أميركية متملقة، ائتلافاً سنياً – شيعياً يتهدد خليطه "الوطني" صفاءها وتجانسها المفترضين. وتتسمر الحياة السياسية والحكومية في مكانها الدبق هذا. ومضى على بعض "المراكز" المستولية نحو نصف قرن، عصفت تحولاته وأطواره بمجتمعات العالم المزعومة راكدة، من غير ان يطرأ عليها طارئ غير تعاقب الدهر من غير سأم ولا سؤال ثقيل.
والوجه المعهود والمعروف لانفراط الأمة ودولتها (إلى) قبائل وملل ونواحٍ وأصناف إنما تحاربه الدولة العصبية المركزية لأنه الوجه الشبيه بها، ونقيضها القوي والناهل من معينها ومائها. وهو يكذب زعمها انها تقوم مقام الأمة، وأنها عدلها وكفؤها، وتقاتل، أي تقتل غالباً وتغتال وتقهر وتصادر، بسيفها. فتنشأ عن هذه الحال سلطنات أو ممالك أو امبراطوريات (في ترجمة عربية تقريبية) تلم، على شاكلة الأساطير الفرعونية، قَصَصاً يُجمع بعضه الى بعض، ويُضم ضماً. وتبقى القطع او الأجزاء على حالها من الانكفاء الداخلي، ويبقى "الكل" المجموع على حاله من الجمع المفتعل والتحاجر. فيقال "مناطق مضمومة"، بعد 90 عاماً في الأقضية الأربعة التي استوى معها لبنان "كبيراً" في حدود أهلية وملية، شأن تلك التي غلبت على إنشاء الولايات وتمييزها بعضها من بعض. ويقال "البدون" في جماعات تتقلب منذ قرون بين أظهر "المواطنين" ولا يفصلهم عنهم حاجز غير نسب لا يحول. ويسوغ الخوف من التوطين، المدعو كذباً توطيناً لنفي التبعة عن النفس، إنشاء معازل سكنية بائسة ومهينة بذريعة حمايتها هوية سياسية ووطنية يُخشى تخلي أهلها المفترضين عنها. ويحمل تسلحها في رعاية "قومية" على مقاومتها "التوطين".

الإصعاد والحلول
ويقتصر "التوحيد" الرأسي على انتصاب قوة مادية وأهلية غالبة، غلبتُها الظرفية و "الواقعية" رهنُ التزامها بعض القيود والحدود في سوسها الجماعات الأخرى الوطنية، فيها جماعتها الأهلية نفسها، ورهن ضعف الجماعات الأخرى وتفككها وغرقها في منطقها العصبي والخاص. ويحفظ لحمة السلطنة، التشريحية والظاهرة، فزع الجماعات من ثمن قيامها على الرأس المركزي المقحم والمستولي، المتحصن بالقوة العسكرية والأمنية والإدارية. وهو ثمن أهلي باهظ لا يطاق، على ما اختبر في عدن، "الديموقراطية الشعبية"، في الأيام الأولى من 1986، واختبر قبلها هنا وهناك في "انتفاضات" مدينية أهلية قمعت في دم غزير لم يُشف منه غداة نحو 30 عاماً، ويحول دون التئام جروحه قانون طوارئ مزمن. ويحفظ لحمة السلطنة، من وجه آخر ملازم، رعب الجوار الإقليمي، وما يليه من جوار دولي أي أوروبي، من تداعيات خروج الجماعات الأهلية على عصبيات دولها، وأثر التداعيات في "عمق" الجوار "الاستراتيجي" اللصيق، على قول مدرس علوم سياسية تركي، "عثماني" تاريخاً ومخاوفَ إن لم يكن نسباً وعرقاً.
ويتصدى الرأس السلطاني لتصدع الجسم الملصوق الأجزاء قسراً، بآلة المنطق التعبيري الذي تتفتق عنه الأبنية النسبية والعصبية. إلى تصديه بواسطة القوة المستولية الواقعية والتلويح المروع بالحروب الأهلية وتداعياتها "العميقة". فعلى هذا المنطق – وهو "حس" شائع وعام يتشاركه جمهور مجتمع في وقت من الأوقات، ويقوم من معاملاتهم ومقالاتهم مقام البدائه أو البديهيات – تصدر السياسة عن معنى جامع بؤرته الأمة. ولا تطعن كثرة الأجسام الأهلية في البؤرة وتوحيدها المفترض. فمن طريق الإصعاد في النسب تلفي أو تجد العشائر والعصائب الكثيرة ظاهراً نفسها "واحداً" حقيقة وجوهراً، يجري في عروقها دم واحد هو تمثيل على اسم ومعنى جامعين. وترد الفروع على الأصول، وتطوى في أصل أصولها من طريق الإصعاد في النسب. وينزل السلطان، صاحب السلطنة وأهله، الأصلَ أو البؤرة، ويحلها حلولاً مقدساً، أو "إلهياً" على قول بعض الفرق و "أئمتها". وهذا الضرب أو الصنف من الحلول يربط عالم ما تحت القمر، على قول يوناني قديم في "عالم" الكون (الولادة) والفساد (التغير والموت)، بعالم المعقولات الثابتة.
وقبول السلطان الهيئات والمؤسسات والأبنية الدستورية التمثيلية المنتخبة والقضائية والإدارية والتقنية، أو رضوخه لها، إذعان صوري وشكلي. وهذا ما يعلنه دستور الجمهورية "الإسلامية" الإيرانية من غير مواربة. وتسليط المجالس، مجلس حراس الدستور والخبراء والصيانة ومجلس تشخيص مصلحة النظام، على الهيئات الناخبة والمنتخبة، وعلى الترشيحات والتعيينات والقرارات والسياسات، في إشراف المرشد الأعلى "الدائم"، قرينة على إيداع السلطان وديعة بيد من لا قيد من التمثيل والمداولة والمصالح عليه. وهو قرينة على قيام السلطان وأهله، بمحل يتعالى على المحاسبة والمراقبة والمداولة والمخالفة العامية أو "الجمهورية". وبعض الدساتير ينيط قيادة "الدولة والمجتمع"، سلفاً بالحزب الحاكم. والحزب الحاكم، المتحدر من استيلاء، وُهب اصحابه نصف قرن لتسويغ استيلائهم، من بعد. فإذا شابت التوكيل المطلق من أي قيد "شائبة"، هي رأي الهيئات الناخبة وإرادتها، "جاز" للولي، فقيهاً ام ابناً، تكرير الشائبة وتهذيبها، وتشذيبها بالقوة المسلحة "الشعبية".
النقيض والضد
وعلى هذا، فلا ضد للمتربع في سدة الولاية المركزية المستولية والعصبية، وينبغي ألا يكون عليه وعلى سياساته قيد. فالقيد إذا كانت الجماعات الطرفية والمتربصة مصدره من تلقاء وجودها ومصالحها وقوتها، عالج المركز الأمر بمزيج من الاستجابة وشراء الولاء والقمع. وحال بين العلاج وبين استوائه سابقة يقاس عليها. وإذا كان مصدر القيد قوة سياسية وأهلية تنافس على السلطة كلها باسم عصبية مهزومة ومغلوبة، حق في هذه النفي من الحياة "العامة"، أي دوام النفي من دائرة المساومة وشراء الولاء الجزئي. فلا ينبغي، على أي وجه أو مقدار، ظهور معارضة سياسية تقوم من المركز المستولي مقام الضد. فتتولى إرساء المنازعة على الحكم على قواعد أو نهج تصريف الحكم وتداوله، وعلى توزيع الأصول والاستثمارات والعوائد، في إطار هوية تاريخية سياسية تقر للحاضر وللتاريخ القريب بحقيقة راهنة. والضد، ومقاومه، هو خلاف النقيض الذي يتشارك ونقيضه المثال النسبي والعصبي الواحد والكلي. وليس أيسر على المركز المستولي من قلب ضده، إذا استوفى بعض شروط القيام، الى نقيض لا يستقيم معه وفيه إلا النقض والنفي المعنويان، وإلا الحرب الأهلية ومنزعها الى الاستئصال والغلبة المطلقة وغير المقيدة. ويترتب هذا على منطق التعبير السلطاني. فالمتربع في المركز من طريق الاستيلاء والقوة الواقعية، على رغم قلته (أو أقليته) وهامشيته تمثيلاً وعدداً وموارد وقوة على التأليف، يساوي الحكم بالاستيلاء، ويحسب انه قادر على الحكم، وجدير به "مئة مرة" على قول صاحبهم، ما دام في وسعه ووسع كردوسه المسلح والأمني ملء "البر" بمسلحيه وسلاحه.
وركن قوة التعبير السلطانية، أو سلاحها الماضي والجارح هو الحرب و "مجتمعها" المزعوم. والحرب تنفي المجتمع واستواءه على علاقات تقسيم العمل والاختلاف والتضامن والتكامل معاً. فقسمة "المجتمع" نقيضين معنويين وماديين، وإدارة القسمة على هوية المجتمع والدولة، وعلى انتسابهما الجوهري والأصلي، تنصبان العصبية المستولية في موقع الأصل والقطب، وتنفيان العصبيات الأخرى، الطرفية، أو الوطنية المعارضة، الى خارج مريض ومعادٍ. فلا تدين ببقائها إلا الى استحالة استئصالها المادي، وإلى الفزع والذعر الإقليميين والدوليين اللذين سبق الإلماح إليهما. ولا يبطل الأمران السعي الدؤوب والملح في إبطال العصبيات المعارضة والطرفية بطلاناً معنوياً يترتب عليه بطلان مادي وسياسي، ولا في إخراجها من الانتساب الى اصل مشترك وجامع تالياً. وأوكلت الثقافة "السياسية" العربية الغالبة، وأجهزتها وأبنيتها العاملة على النسب والأصل والتراث الى "فلسطين"، وآلاتها العينية ومعانيها النافذة ومقالاتها المعيارية، الاضطلاع بالبطلان والإخراج هذين، وبإدارة القسمة الأهلية على "مجتمع الحرب" ونقيضيه المتنافيين.
وإناطة السياسة "العربية" ومنازعاتها وخلافاتها، بـ "فلسطين" هذه، واختصار السياسة فيها بعد حملها هي ("فلسطين" المفترضة) على القداسة والأصل (القضية الأولى) والصراع و "الوجود" وحدَّي البقاء والاندثار... يدخلها في حد التدين والحرب الدينية الاستئصالية، ويخرجها في الوقت نفسه من حد المنازعات السياسية والاجتماعية والثقافية الحادثة والحاضرة. وتعليق السياسة "العربية" المشتركة و "الجامعة" على المعنى الفلسطيني الصوفي هذا، يلحق السياسات المحلية بالمعنى الصوفي، الأصلي والنسبي، وينفي منها ما لا يحتمل الذوبان فيه، ويقضي فيها بالمعيار الأصولي. وفي ختام مطاف عمليات التعليق والإلحاق والقضاء يتألق الرسم العظمي والخميني الحرسي المعروف: "مقاومة" هي نور الوجود في جهة، و "لاجهة" "إسرائيل" وظلمة الخلق وديجوره وجهنمه.
وغلبة النسب القدسي على السياسات ومقالاتها وثقافتها، من طريق المعنى الفلسطيني في صيغته العروبية – الإسلامية اليوم، تلتهم المؤسسات والأبنية والهيئات والأجسام الاجتماعية، والوقائع المشتركة، وتطرح الأفراد الآحاد، وتحيل تصورهم على غير صورة الذهانيين المجردين أو صورة "المقاومين الاستشهاديين" الانتحاريين. ولا يجتمع معنى "كوني" من جماعات لا تفارق جميعَها إلا فراق الموت. ولا ترى الأفراد الآحاد إلا على صورة الجانحين والمنحرفين والمدخولين، ولا يبعد ان يرى الأفراد الآحاد أنفسهم على هذه الصورة. وتحمل الجماعات هذه الانقسام والمنازعة على الاستدخال والانتهاك، على نحو ما تحمل "الانتماء" الغفل على السوية والصدق والأصالة.

لبنان: الجماعة الأهلية المسلحة إذ تحمي ردْعَهَا ونَفْسَهَا بحرب لا نهايةَ لها

الحياة، 25/7/2010
في الذكرى الرابعة لحرب صيف 2006 «صادفت» واقعتان منفصلتان: كررت الحكومة الإسرائيلية الإعلان عن اكتمال «القبة الحديد»، أو الدرع الصاروخية المضادة للصواريخ القصيرة المدى، وقرب دخولها في الخدمة، من جهة، وتواترت الأخبار عن وشك إذاعة القرار الظني الدولي في اغتيال رفيق الحريري. فحفت بالواقعتين البارزتين وقائع كثيرة أخرى اتصلت بهما من طرق متفرقة. فـ «القبة الحديد» هي السلاح الدفاعي والواقي من السلاح الأمضى الذي انتهت إليه الحركات الأهلية المسلحة في الأراضي الفلسطينية المحتلة وفي لبنان. وكانت حرب 2006 أول اختبار عريض وكثيف لهذا الضرب من السلاح، وللحرب التي تنجم عن إعماله ونتائجها العسكرية والسياسية الاجتماعية والجغرافية. ولعل النتيجة الأولى التي ترتبت على خوض هذه الحرب هي رسو قوة الردع التي يتمتع بها الطرف الضعيف، وهو الجماعة الأهلية المذهبية المسلحة، على الحضانة «العائلية» التي تحوطه وترضخ للكلفة البشرية والمادية العالية الناجمة عن الحضانة الميدانية المباشرة، وتحول دون تصدي الجماعات الأهلية الأخرى، مباشرة أو من طريق الدولة، للانفراد بالمبادرة الى الحرب أو تصديها لمحاسبة الجماعة المنفردة وحزبها المسلح.

وعلى هذا فشرط ردع القوة الشيعية المسلحة الجيش الإسرائيلي عن ضربها، وعزلها وإضعافها، هو توحيدها بجماعتها الأهلية الواسعة، واستئثارها بمقدرات الجماعة وبتمثيلها، والنطق بلسانها في «الجوق» الميثاقي والوطني، وتوسيع حق النقض العائد إليها وتأويله على نحو يصلب الدولة على خشبة الحق هذا. وظهور فاعلية القوة العسكرية المذهبية قبل 4 أعوام أدى الى خشية العدو هذه القوة، وتحاشي استفزازها لخوض معارك مرتجلة وغير ضرورية ضدها، من وجه. وأدى الى احتسابها مشكلة غير عارضة، وتقتضي معالجتها إجراءات وسياسات متضافرة، بعضها عسكري تقني («القبة الحديد» أو الاعتراض باللايزر على ما يفضّل اهالي سديروت، قرب غزة، وبلديتهم)، وبعضها سياسي، إقليمي ودولي، من وجه آخر.

والنتيجة المباشرة للوجه الثاني كانت التوسل الى ردع الحزب الأهلي المسلح بواسطة تعظيم كلفة الخسائر المدنية، الأهلية واللبنانية الوطنية، على رغم ما يجره على علاقات إسرائيل الدولية والإقليمية، وعلى إجماع سكانها المعنوي، من تبعات قاسية. وقبول الدولة العبرية تعزيز القوات الدولية الموقتة، وربما إقبالها على التعزيز – مع ما يجره من عودة الجيش اللبناني الى شطر من الأراضي الوطنية أخرجته منها تباعاً ومعاً القوات المشتركة الفلسطينية – اللبنانية وقوات الردع السورية و «المقاومة الإسلامية»، ومن جعل الحرب على القوة الأهلية عدواناً على الدولة الوطنية – جزء من ثمن سـياسـي يقـيد الـعمل العسكري، ويغير صفته من إجراء دفاعي وبوليسي الى حرب يحاسب صاحبها. وفي الأحوال كلها، يرفع ردع (إسرائيل) ردع (حزب الله) ثمن الحرب في حساب الطرفين، ويرتب عليهما الحفاظ على صدقية مزاعمهما. فيهول الجيش الإسرائيلي بجاهزية درعه الصاروخية المضادة للصواريخ، وهي محل تشكيك إسرائيلي حاد على ما تدل عليه دعوى أهالي سديروت. ويرد الحزب الخميني بالتلويح بأربعين ألف صاروخ من الأصناف كلها، وبحضانة لبنان كله «مقاومته».

ويبقى الشرط السياسي الأهلي، في الجهة «اللبنانية»، حاداً وثقيلاً. فلا يسع الحزب الخميني المسلح قبول ظهور قرائن على انفصال جسم الدولة اللبنانية (الضعيف)، والتزاماتها السياسية والقانونية الدولية، عن الجسم الأهلي الشيعي، والعروبي توسعاً. والقطبان الدوليان لالتزامات الدولة اللبنانية هما القوات الدولية الموقتة جنوب الليطاني والمحكمة الدولية الخاصة بلبنان (وباغتيال الحريري والاغتيالات اللاحقة). وإلى اليوم، كانت القوات الدولية قطباً مستقلاً، ويتصل بأحوال الحزب الخميني المسلح، وبمسؤولياته وتبعاته المحلية، بداهة، والإقليمية والدولية على المقدار نفسه من البداهة، اتصالاً مباشراً. وكانت السياسة السورية هي الوسيط بين الحزب المسلح، في علاقته بـ «اليونيفيل»، وبين المحكمة الدولية الخاصة بلبنان. فإذا اعترضت السياسة السورية قضية تاجر سلاح سوري – إسباني ترغب واشنطن في التحقيق معه، حامت الشبهات حول الوحدة الإسبانية العاملة في «اليونيفيل». ولم يقتصر حومها على الحزب المسلح المحلي.

ودامت هذه الحال ما بدا ان التحقيق الجنائي الدولي يلتمس طرقاً يؤدي معظمها الى دمشق، على وجه أو آخر. ولكن تشعب التحقيق، وإفضاء بعض شعبه الى مقاصد أخرى، ربط الحزب المسلح، وهو مقصد من هذه المقاصد، بالقطب الدولي الثاني، المحكمة الخاصة بلبنان. واضطلاع الدولة بالتزاماتها بإزاء القطبين والهيئتين – بينما الدولة العبرية تلوح بورقة ردع حاسمة (الدرع الصاروخية المضادة) تضعف ردع الجماعة الأهلية ويعلن الحزب الخميني خواءها وكذبها – يؤدي لا محالة الى توسيع الشقة بين دولة اللبنانيين وبين «دولة» الحزب الأهلي الخميني. ويدعو الدولة، جنوباً، الى القيام بتبعاتها وتبعات جيشها بإزاء القوات الدولية. وأولى التبعات السهر، بواسطة الجيش، عديداً وعتاداً، على تمكين القوات الدولية من حماية الأهالي من العدوين المتقاتلين، وتجنيبهم قتالهما على «الأرض» الأهلية، وليس في مستطاع القوات الدولية التصدي للقوات الإسرائيلية وعدوانها إذا لم تضمن انفراد القوات المسلحة اللبنانية بالسلاح على الأرض التي يشملها القرار 1701.

فعلى الدولة القيام بنقيض ما يزعمه الحزب المسلح لنفسه من دور ومهمة. وما يخشاه الحزبيون المسلحون هو قيام الجيش اللبناني حاجزاً فعلياً بينهم وبين الأهالي، وبينهم وبين القوات الدولية. وتبديد الخشية يقتضي التهويل الدائم (والحقيقي) بضعف ردع القوة الأهلية إذا تولى الجيش الوطني مهماته الأمنية و «البوليسية». وهو يقتضي ردع الحكم اللبناني، ورؤوسه وقيادة قواته المسلحة، عن حمل التزاماته على محمل الجد. وشطر راجح من ردع الحكم اللبناني تولته «الهرجات» الميدانية المسلحة و «المدنية» في الداخل. وبعضه تولته السياسة السورية من طرق كثيرة بعضها متناقض.

فإذا اتفق هذا، زمناً، مع مجاري التحقيق الدولي الجديدة، ومع نتيجتها الأولى التي قال خطيب الجماعة الخمينية المسلحة انه وأصحابه «سعداء بها جداً»: «لن يتهم أحد من الأخوة السوريين والضباط الأربعة أو حلفاء سورية في لبنان»، ونتيجتها «السيئة»: «القرار سيتجه الى عناصر غير منضبطة في حزب الله» – استأنفت الجماعة الخمينية المسلحة سيرورة تحطيم الدولة مادياً ومعنوياً، وحـملها على الرجوع في التزاماتها الداخلية (الانتخابات ونتائجها) والدولية. ومـشكـلة الحزب الخـميـني المـسلح، ومشكلة خصومه اللبنانيين، ان إنجاز التحطيم يفترض الاستيلاء على الدولة. وهذا قد لا يكون عسيراً على الوجه المادي البحت. ولكن الاستيلاء الذي يسعى فيه الحزب المذهبي، ويخدم مصلحته ومصلحة سيديه الإقليميين، يفترض بقاء الدولة الوطنية «عادية»، يقر المجتمع الدولي، وشطره الغربي في المرتبة الأولى، لها بصفة تمثيلية وسياسية مقبولة، ولا يطعن فيها نزاع أو انقلاب أهلي يخالف الصفة المعلنة. وصرفت السياسة السورية في التوفيق بين الوجهين، الاستيلائي الانقلابي والتمثيلي، جهوداً عظيمة يخاف الحزب الخميني، اليوم، ضياعها هباء، فهو «يقترح» على القوى السياسية الاستقلالية الانقلاب على نفسها، على شاكلة وليد جنبلاط الذي يضرب به الحزب المثل، وعلى الدولة. ويطلب إليها، على مثال مضرب المثل الجنبلاطي، «(الوثوق) من نفسـ(ـها) ومن زعامتـ(ـها) ومن تفهم قاعدتـ(ـها) لها». ويفترض هذا انحلال لبنان، وطناً ودولة، الى حارات وغيتوات على الأنموذجين الناجزين: الأنموذج الصناعي الشيعي والأنموذج الطبيعي الدرزي، في حضن عروبي وإيراني، وربما تركي، دافئ

الخميس، 15 يوليو 2010

محمد حسين فضل الله أحد أئمة «الثوريين الاسلاميين»: جمع الإحساس بقسوة الضعف الى تسويغ آلات أهل القوة

الحياة 14/7/2010
في جمعة من أيام الجمع، في 1986 أو 1987، كان يستمع سائق سيارة النقل العمومية الى خطبة يوم الصلاة، ويُسمعها ركاب السيارة. وكان الخطيب تعرَّفه نبرته المترجحة بين الحنجرة وبين الصدر ولهجة عراقية صريحة، قبل أن تُعرِّفه خطابة متأنية تبدي في موضوعها أو موضوعاتها وتعيد شرحاً وتفصيلاً وصياغات فصيحة وعامية ونقلية ومنطقية، هو محمد حسين فضل الله. ودأبت سيارات الأجرة الصغيرة على بث خطبة «السيد» من مسجد الرضا ببير العبد. ولعله أول من استن هذا النهج الدعوي قبل أن يعم منابرَ دعوة الحزب الخميني وتحريضه، وتلابس الخطاب، على أصنافها، أوقات الحياة اليومية كلها.

وتناول الخطيب، يومها، «نصرة أهل البيت» والثمن الباهظ الذي يرتبه تكلفها، وتكلف نصرة «الحق» في المواقف كلها، على «المؤمن». وبعد أن روى بعض خبر مسلم بن عقيل في الكوفة، ورسائل بيعة أهل الكوفة، ونقضهم بيعتهم وتخلفهم، ومر بالتوابين وحركتهم غداة كربلاء، خرج الخطيب من روايته الكربلائية التقليدية، وخرج الصوت من تعليقه في رهبة الحادثة، الى مخاطبة المصلين الساكتين والمكلومين بكلام قريب من العامية. فقال لهم (على وجه التقريب): وأنتم؟ ماذا تظنون كنتم فاعلين في موقف مثل هذا؟ ابن بنت نبيكم يخرج على الظالم يطلب الحق للمظلومين، وإصلاح دين المسلمين، فهل كنتم تنصرونه؟ مهما كلفكم الأمر، وكلف أهلكم وعيالكم؟ هل كنتم تتركون عملكم ووظائفكم وأرضكم وتقولون هذا حق علينا نؤديه؟ وبعد استرسال في احصاء ووصف حسيَّيْن ومعاصرَيْن لما قد يترتب فعله على نصير الحق والعدل الممتحن، انعطف الخطيب بكلامه الى قول قاطع: أنتم واهمون إذا كنتم تحسبون أنكم ممن لا يخافون نصرة الحسين، هل كان بقي منكم معه 20 في المئة؟ هذا ادعاء كبير، 15 في المئة؟ أنا أقول أن 10 في المئة كثيرة عليكم... وتناول تفصيلاً، وفي عامية على عتبة الفصحى لفظاً، ما قد يقوله «المتخاذل» في نفسه، اليوم، إذا دعي الى «الجهاد». فرسم لوحات سريعة للمتخاذلين المفترضين، وحاكى أقوالهم ساخراً ومؤنباً مقرعاً. فسمع المستمعُ من الإذاعة، وهذه حالي، انفراج وجوه المصلين وأنفاسهم في صدورهم، وبكاء بعضهم بكاء خافتاً هو رجع إقرار صامت بصدق حكم الخطيب لتوه في تقدير شطر «المتخاذلين».

المنتحي

ولم تكن الخطبة من الإذاعة، قبل قراءة ملخصها اليوم التالي في الصحف المحلية على جاري عادة مكتب الخطيب في توزيع خطبته مصورة بالفيديو على الصحف، لم تكن «اللقاء» الأول بـ «السيد الشيخ»، على قول صحافيين غربيين وبعض أهل السنّة الذي أشكل عليهم اللقب الأول. فسبق لقاءٌ مباشر به في حسينية النبعة ببرج حمود في خريف 1973. وهو كان قدم من العراق، مدينة النجف العلمية والدراسية و «السياحية»، قبل نحو 7 أعوام، في مستهل عقده الرابع وغداة رسالة اجتهاده. واتفق مقدمه مع ايذان عالم معمم آخر، عاملي (نسبة الى جبل عامل) من قرية شلفيت المهجورة والخاوية، هو موسى الصدر، بابتداء «حركته» الأهلية والاجتماعية والسياسية. وأقام الصدر، قريب آل شرف الدين من طريق المصاهرة المتجددة بصور (بعد شحور في الداخل)، حيث استبق انشاءُ المدرسة الجعفرية من أموال المهاجرين وخمسهم نهجاً اجتماعياً ومحلياً بطيئاً ومتعثراً. وكان مدخله، وهو سليل أسرة مراجع ومجتهدين بين إيران والعراق، الى القيادة الأهلية منازعته كامل أحمد الأسعد زعامة الشيعة التاريخية و «القومية» العشائرية. وتقلب القادم الجديد، الطلق المحيا والمربوع القامة ومتكلم العربية بلكنة فارسية، وكاتب مقدمة كتاب هنري كوربان في العرفان الشيعي، بين أهل المناصب والثراء والإدارة والوجاهة، وحقوق «المحرومين» علمه. واستقبل عامة المدن والأرياف في فناء البيت «الخلفي». وأقر لهم، ولجناحهم العشائري على الخصوص، بـ «جمال» السلاح بأيدي الفرسان على ظهور الخيل بين مرجة بعلبك ومراحات قراها الجبلية، وبين شط صور الرملي يومذاك، فيما هو يسعى الى انتزاع مجلس إسلامي شيعي أعلى، وملي، من شارل حلو المنبهر بـ «حداثة» الشيخ، ومن «المكتب الثاني» المتحسس أفول الشهابية والناصرية والملتمس مد الجسور مع طاقم السلطة السوري العسكري والأهلي الجديد. وكان الصدر، باسم التقريب بين المذاهب وتراث آل شرف الدين وثيق الصلة بكبار هذا الطاقم وهم بعد ضباط أمن متواضعو الرتبة.

واختار السيد العيناثي، قياساً على الأضواء والمسارح والجلبة والتظاهرات الصدرية، الانتحاء جانباً. فأنشأ مدرسة تعليم في حي فقير يقصده منذ عقود مهاجرون من بلدات عاملية قريبة من بلدة والده وأهله، وينشط فيه وبين نزلائه حزبيون ونقابيون من المذاهب والملل كلها. وعكف على بناء «ناد» حسيني، أو خلية، تجمع مسجدَ الصلاة والاعتكاف الى مدرسة «العلم» الإسلامي المتجدد والصارم، وقاعةِ المنتدى والخطابة والشعائر الحسينية، والمستوصفِ والمستشفى والخدمات، وحجرة الاستقبال والمؤاساة والتعزية. وحلَّق حوله، من طلبة العلم الإمامي الشبان ومن طلاب «إسلاميين» انصرفوا عن التيارات القومية و «الماركسية» الى «إسلام» أصيل ومعاصر وفاعل (حركي أو متحرك)، حلقات انقطع أفرادها إلى شيخهم ومدرسهم ومقدمهم وعميدهم وملاذهم وقطبهم انقطاع المريدين الى صاحب طريقة. فلما التمستُ منه، أنا الوافد على ديرته من دائرة يسارية غريبة، استقبال شبان تحت درج النادي الحسيني يتولون مبادلة كتب التلامذة المستعملة بعضها لقاء بعض وتوفير شراء بعضها على المحتاجين (وسمينا العملية «تبادل الكتب»)، نظر إليّ بعينين رأيت بعض الفضول فيهما، ولم آنسْ مودة أو إقبالاً، وقال من غير تردد أو ارتجال: ما نقوم به في أسرة التآخي يقوم به إسلاميون ولا نشارك أحداً عمله. ونصح، رداً على معاودة السؤال، بالتوجه الى جامع الإمام علي بن أبي طالب، على بعد أمتار من مبنى الحسينية، وجزم باستقبال الجامع، وإمامه من جهاز المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، البادرة.

وفي أعقاب عشر سنين تقريباً على الواقعة الصغيرة، قرأت في الصحف خبراً عن دعوة مسجد الإمام الرضا ببير العبد، وهو المسجد الذي أمه السيد منذ هجرته القسرية من النبعة وأسرة التآخي في 1976، التلامذة وأهلهم الى «تبادل الكتب» في جناح من أجنحة مبنى المسجد. فبدا أن رأس «الأسرة» العتيدة لم ينسَ الاقتراح المتواضع الذي لم يشأ مشاطرة المبادرين الى الاضطلاع به من طريق المبنى والمرفق. وحين كلمته بالتلفون، متردداً وعلى مضض، في ربيع 1985، ورجوته التوقيع على نداء الى خاطفي ميشال سورا ومحتجزيه يدعوهم الى تخليته وينوه بصداقته مع من أقام بينهم وبـ «براءته»، أجابني صوت يغالب الغضب. وسأل لماذا أكلمه هو في المسألة، وما شأنه بالخطف والخاطفين. ولما قلت ان الطلب اليه، والى الشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد محمد حسن الأمين، توقيع النداء، وتزكيته، قرينة على «البراءة» من الخطف والخاطفين، لان الصوتُ بعض الشيء، وقال انه لولا قرابة بيننا لما استقبل الاتصال وأجاب الطلب. وتذكرتُ ما لم يذكّرني به قبل 12 عاماً، في حسينية أسرة التآخي، وما نسيته وكنت أعرفه معرفة غائمة، أي رابطة قرابة أغفلها المضيف المقطب. فوالد السيد محمد حسين، السيد عبدالرؤوف، تزوج بنت الحاج حسن بزي البنتجبيلي و «سلطان بر(ها)» ووالد علي بزي وزوج بنت الشيخ موسى شرارة، وهذه أخت جدتي لأبي. فكان علي بزي، وكنا نسميه «ابن خالتي»، خال السيد محمد حسين فضل الله، وقريب أقرباء كثر من هذا الباب.

الضعف والضعفاء

والحق أن منشئ الحوزة العلمية المحلية المقطب والصارم (حين يكلم «الغرباء»)، والمنتحي ناحية قصية ومتواضعة من منازل شيعة لبنان، والمعتزل أضواء المسرح اللبناني وتظاهراته، إنما كان يصدر في حركاته وسكناته عن فكرة أو «فلسفة»، على قول زميل دراسته ومذاكر دروس السطوح في النجف، محمد باقر الصدر، بسطها قولاً وعملاً طوال الأربعين عاماً اللاحقة الى حين وفاته القريبة. فهو كان على يقين من أن «الإسلام هو الحل»، على قول الإخوانيين، وأن «فكر الإسلام» هو ند العالم السياسي والاجتماعي والثقافي المعاصر، وكفؤه وجواب مشكلاته كلها.

ولا يعدو يقين المجتهد الشاب، ثم العلامة فالمرجع آية الله العظمى، ما ذهب اليه زميله (الشاب) في تصدير بيانه الأول «فلسفتنا» من أن الإسلام (القرآني والإمامي معاً في حسبانه) «رفع راية انسانية، وأقام دولة فكرية» على «القاعدة المعنوية والخلقية فأخذت بزمام العالم (في) ربع قرن، واستهدفت الى توحيد البشر كله، وجمعه على قاعدة فكرية واحدة ترسم أسلوب الحياة ونظامها». والإسلام، على هذا، «وعي سياسي عميق، مرده الى نظرة كلية كاملة نحو الحياة والكون والاجتماع والسياسة والاقتصاد والأخلاق (...). وكل وعي سياسي آخر فهو إما أن يكون وعياً سياسياً سطحياً... أو يكون وعياً سياسياً يدرس العالم من زاوية المادة البحتة». وبإزاء «النظام الرأسمالي الديموقراطي»، المفتقر الى «عقيدة في الحياة»، والاشتراكية والشيوعية الماديتين والجدليتين، يرسي المجتهد الشاب، «وعينا الاجتماعي السياسي لقضية العالم كله» على «المفهوم الإلهي للعالم». فيتاح «للأمة أن تعلن كلمة (الله) في المعترك، وتنادي بها، وتدعو العالم اليها». وما عدا هذا فهو من «(مدد) الاستعمار... في معركته التي خاضها للإجهاز على كيان الأمة، وسر أصالتها المتمثل في الإسلام».

ودرَّس منشئ الحوزة ببرج حمود كتابي زميله المتقدم (وهو يكبره سناً بنحو 7 أعوام)، وكتب حواشيه وشروحه السياسية والفكرية عليهما. وأخرج الحواشي والشروح في كتابين هما نواة مقالاته وخطبه اللاحقة، تناول فيهما الحوار والقوة في القرآن الكريم. وعلى رغم القرابة المعلنة والصريحة التي جمعت الرجلين و «العالمين»، اختط الشيخ العيناثي العاملي فاللبناني نهجاً مختلفاً، فجمع الى يقينه الفكري والإيماني، وهو مصدر صلابة وربما قسوة لم تغادراه، يقيناً حسياً بمعنى الضعف والضعفاء، وبأخوّتهم ورابطتهم. ولعل رجل المبرات والمدارس والمستشفيات والمستوصفات ومكتب «الخدمات» المادية والفقهية صدر عن إشفاق عميق على أهل الضعف عموماً، ومنهم المحتاجون واليتامى والأرامل والمطلقات والنساء عموماً. وفي أماسي العشر الأوائل من محرم، كل سنة، كانت حسينية أسرة التآخي تنقلب الى ميدان يتبارى فيه المتبرعون لخطط السيد الخيرية في خدمة هؤلاء.

وهو أراد تتويجها، قبل 1975 - 1976، ببناء مستشفى الى جنب مبنى الحسينية، في وسعه خدمة 80 سريراً. فكان مذياع المبنى يذيع، في ختام مجلس العزاء، على مسامع الأهالي المقيمين بين مقطع سكة سن الفيل وبين الغيلان كمب سيس أسماء المحسنين من ميسوري شيعة برج حمود الجدد، وسطاء العقارات وأصحاب «معامل» الأحذية والأثاث وتجار الخردة واللحوم. ولم تقل المبالغ التي تبرع بها هؤلاء - مستحيين من السيد ومعتذرين، وهم في ملابسهم الخلقة الداكنة والمتهالكة، عن تقصيرهم - عن تلك التي كان يتبرع بها أثرياء المهاجر الأفريقية بين يدي موسى الصدر في الحازمية. وتعمد ناظر خلية أسرة التآخي، وهو يتوسط الحاج من التجار وأصحاب المصالح في عباءته البنية الفاتحة، إذاعة الأسماء من غير ترتيب المبالغ. فيعلو المذياع باسم حاج تبرع بعشر ليرات لبنانية ثم باسم آخر تبرع بـ 15 ألفاً أو 20 ألفاً (وكانت هذه تشتري شقة سكن متوسطة في حي سكن بيروتي متوسط).

فالرجل الذي بدا، منذ تركه النبعة وانخراطه في دائرة الملأ والأشهاد، نهباً لهوى فكري وخطابي سجالي، لم يفتأ أخاً للمستضعفين حقيقة وفعلاً، وعلى معنى لا يستوفيه المعنى السياسي الاجتماعي الخميني. فربطته بهم (وبهن في هذا المعرض) وبأحوالهم وآلامهم ومهاناتهم، وهذه شديدة الوطأة، آصرة عائلية ورحمية لم تكن بعيدة من الآصرة «الحسينية»، الأسرية والدينية الاعتقادية معاً وجميعاً. وأراد أن تعم هذه الرابطة، وهي شخصية ومباشرة الى صفتها «الشرعية»، صلات من يأتمون به بعضهم ببعض، وأن يرعى بعضهم بعضاً، ويكون له سنداً. فهو وارث تقليد علمائي ومحلي عريق ومتقطع قضى بتصدي أهل العلم للرؤساء المتحدرين من أهل الحرب ومشايخ القبائل العربية، والمترسبين من قبائل الرعي بين ضفة الأردن الشرقية وبين سهول الجزيرتين العراقية والشامية. وهؤلاء غلاظ الطباع، قلوبهم فظة. وإليهم نسب أهلُ بلاد بشارة فظاظة بعض رؤسائهم المتأخرين.

وتتضافر التقاليد التاريخية هذه مع تأويل خلاصي وسياسي للضعف والاستضعاف، على نقيض الاستكبار. فالضعفاء هم ركن التاريخ وحوادثه الثابت. ومن هذا شأنه لا يهزم. وإذا خسر معركة، قام من خسارته بعد ألف وأربعمئة سنة، وانتصر. وكان هذا (بعض) تأويل «السيد» لثورة روح الله خميني بإيران. ولعله (بعض) تأويله لحركة الشيعة في لبنان، ولما سماه «المقاومة»، وأقام على التسمية والتأويل والنصرة الى وفاته.

ورد ضعفاء ملته رعايته وحدبه ومؤاساته، ويقينه، ميلاً وجدانياً، وتعلقاً قوياً. فاستمعوا اليه، والى خطبه ودروسه وخطابتها المجردة والغريبة على أسماعهم. وبايعوا خططه، وأعلوا مكانته ومقامه، وحملوه على الولاية، واستفتوه في شؤونهم وشجونهم. وهم أسرعوا الى هذا ففي 1968، توافد أعيان الشيعة الى إحياء عاشوراء في المدرسة العاملية ببيروت. ومر رئيس المجلس النيابي الأسبق كامل الأسعد في الحفل. فوقف كثيرون للرجل، ورددوا: «اللهم صل على محمد وآل محمد»، تكريماً وإجلالاً. ولم يحظ بالوقوف، واستنزال الصلاة، غير سليل البيت العائلي و «العلي الكبير»، إلا العالم الشاب والقادم من النجف منذ سنتين. وتوفد عشرات الآلاف في أيام الجمع الى مسجد الحسنين قرينة على دوام الخطوة.

وبلغ عدد مقلديه ومستفتيه في شؤون دينهم ودنياهم نحو مليون مسلم، على ما قدَّر هو في بعض أحاديثه الأخيرة. وهذا عدد غفير في «كرسي» مرجعية ضيق مثل لبنان، ولا يحظى بتقاليد ثابتة وسابقة. فعلى سبيل المقارنة، يقلد المرجع الأول بالعراق نحو 25 مليون مسلم. ومقلدو المراجع ليسوا كلهم ولا حتى كثرتهم في بلدان اقامة المراجع. ولبنان، أو الإماميون اللبنانيون هم بعض مستفتي محمد حسين فضل الله ومؤدي الخمس الى تدبيره (من مبرات ومدارس...)، وهما ركنا «التقليد». ويقيم معظم هؤلاء في بلدان عربية الشيعةُ الإماميون قلة فيها، عددية أو سياسية، أو يقيمون في مهاجر اللبنانيين التاريخية والمحدثة، ببلدان الخليج وأفريقيا أولاً، ثم في شمال القارة الأميركية وجنوبها وباستراليا وأوروبا.

ولا ريب في أن ملابسة «المفتي» فضل الله الاجتماع اللبناني، على النحو الذي أراد ملابسته واختباره في «بلاد» مثل برج حمود، بأرمنها (على طوائفهم) ومسيحييها النازلين اليها من الجبال البعيدة والقرى والبلدات القريبة، وأكرادها، وفلسطينييها الفائضين عن المخيم القريب، وطبقات شيعتها القادمين من بلاد بعلبك - الهرمل وبلاد جبيل والجنوب، والمتوطنين والمتملكين تباعاً وجيلاً بعد جيل، ثم المهجَّرين الى الشياح والغبيري وبرج البراجنة وحي السلم - لا ريب في أن الملابسة والاختبار هذين أتاحا للمرجع مادة تدبر وفقه عريضة. فنأى بتعليله فتاواه، وبلغة التعليل، من «مصطلح» الاختصاص المهني والتقني. وحين أفتى بجواز أكل الفلسطينيين المحاصرين في مخيمات صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة الميتة (المواشي النافقة) وإباحتها، في 1985، اقتصر على أصل الضرورة واختصر. فالعلل الفقهية والشرعية مضمرة في التعليل التجريبي السائر والمشهور.

«الحوار» الباتر

والأرجح أنه كان يرى ما رآه روح الله خميني حين أوكل الى مجلس صيانة الدستور بإيران ضرباً من حال طوارئ تجيز حماية الثورة وقيادتها وتقدم موجبات الحماية على العمل بالمعايير والموازين المتناقلة والملزمة. فأدخل ما سماه «حواراً»، ودعا الى نصبه نهجاً وميزاناً، في باب يختلط فيه العقلي بالنقلي، والعمومي المنطقي والتجريبي المعلن بالتراثي والثقافي المضمر. وتنقل بين الوجوه المتفرقة والمختلفة، وحملها على الاتصال. فخلَّف في كثيرين من سامعيه اعتقاداً راسخاً بجباية ريع الوجوه كلها من غير تدافع ولا افتئات. وحمى «المنهج» هذا بإسناده الى خدمة الإسلام «الثوري» و «المفهوم الإلهي»، والى خدمة المستضعفين وإمامتهم ووراثتهم. فأثار نخوة مخاطبيه واعتزازهم واعتدادهم بـ «قضيتهم»، ودعاهم الى الانغماس في مجتمعاتهم الجديدة والغريبة والالتصاق بسندهم معاً، مهوناً المشكلات التي قد تعترض الجمع المفترض من طريق حمله على ضعف النفوس، ووهن الإرادات، والتسليم للغرب الاستعماري، على قول محمد البهي «الإخواني»، واستعلائه ومزاعمه، بواسطة «قابلية للاستعمار» (مالك بن نبي) كان غالباً ما يندد بها، وينكرها ويعلل بها «أمراض» المجتمعات الإسلامية. وتوج هذا البنيان، إذا جازت اللفظة، بتشديد النكير على الضعف، على صوره وأشكاله، وتعظيم السعي في القوة. وطمأن المريدين والأنصار الى ضرورة انتماء «الحوار» الى إيجاب الحق وإثباته، والى اقرار المتحاورين به، والنزول على حكمه الباتر.

وهذا زاد ثمين في مجتمعات أهلها مترجحون وقلقون. وعلى شاكلة أرخميدوس، التمس السيد فضل الله نقطة ثابتة واحدة أرسى عليها رافعته السياسية والعملية الكونية، ووجدها في «المفهوم الإلهي للعالم»، وحرب «الاستعمار» عليه، وعلى أمته، وحربه على الاستعمار، الأميركي، وأقنعته وتلبيسه. وحين اجتاح الجيش الإسرائيلي شطراً غالباً من لبنان، في 1982، وحلت القوات المتعددة الجنسيات (الأميركية والفرنسية والإيطالية) ببيروت وجوارها، غداة مجزرة صبرا وشاتيلا الفظيعة، تصور «الاستعمار» في صورة إبليسية وشريرة «مطلقة»، على قول موسى الصدر، و «سرطانية»، على فتوى خميني وخامنئي. فلم يبق شك في قطبية «الحرب» العامة. ودعا إمام مسجد الرضا، في بعض خطبه الأولى المشهورة والمتداولة التي ابتدأت ظهوره السياسي وتقدمه على المجلس الإسلامي الشيعي والجهاز الصدري، دعا الى ألا تفلت اسرائيل من الفخ الذي أوقعت نفسها فيه حين اجتاحت لبنان، وارتكبت الجريمة الإنسانية، واستحقت العقاب الأليم على فعلتها، والعذاب بأيدي «المقاومين».

ولم يشك نزيل بير العبد في تضافر استعادة إيران الخمينية معظم أراضيها المحتلة من قوات صدام حسين، ومبادرة قواتها الى مهاجمة الأراضي العراقية، وإنشائها ذراعاً عراقية هي المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، وخطو الجماعة الشيعية المسلحة خطواتها الأولى في لبنان تسعفها «هدايا» إيران (على ما قالت الصحافة الخمينية المحلية في الشاب الذي هاجم مقر القوات الأميركية ببئر حسن) وتقديماتها - لم يشك في تضافر هذه على انفجار حرب متصلة أو معركة «إسلامية» مظفرة على الاستكبار «الأمريكي». ومدح «السيد» الحرب المستعرة، القائمة والآتية، مديحاً مستفيضاً. وكان تحلق حوله وافدون من «الكتيبة الطلابية» الفتحاوية، ومن اتخذوا «أبو جهاد» (خليل الوزير)، قائد «فتح» العسكري والإخواني السابق والمقيم، قدوة ومثالاً، وفي هؤلاء على ما شاع القول عماد مغنية. وكانت بعض هجمات حزب الدعوة على مرافق عراقية في لبنان علامات في الطريق، على قول ذائع. فسار بعض هؤلاء في تظاهرة، قليلة، حملت لافتتها المتصدرة شعار «لا حكم إلا لله»، مرددة أصداء «الحاكمية» على تأويل سيد قطب الذي خصه «السيد»، في 1986، بتأبين فكري بليغ.

ولكن المبادرات الميدانية و «الجمهورية» لم تكن عبارة مناسبة عن دور الرجل، ولا عن مكانته المتعاظمة في رعاية إيرانية ظاهرة تكلفت، فيما تكلفت، إبعاد خالف موسى الصدر على رئاسة المجلس الإسلامي الشيعي عن «الساحة» المحلية وإضعافه. فالعبارة المناسبة هي المواقف المدوية. فذهب في 1982 - 1983، إبان شن الحرس الثوري «موجاته» وهجماته الدامية على طريق البصرة - بغداد، الى أن «تحرير البصرة» مفتاح مشاكل الشرق الأوسط وحلها كلها. وناصرَ، من غير تكلف تظاهر احتفالي، الجماعات الخمينية، قبل انصهارها في حزب واحد، على جماعات «أمل»، قبل انفجار الخلاف الأهلي الفرعي بين «الحزبين»، ودبيبه الدامي منذ اندلاع الحرب الفلسطينية - الأهلية في 1985 الى «ختامه» في 1990، وبعد ختامه. وحين استعرت الحرب الفرعية هذه في الجنوب، وأرادت الجماعة الخمينية المسلحة إضعاف «أمل» واستمام انهاكها العسكري والسياسي، وكثرت اغتيالات «الشيوعيين» و «اليساريين» في بلاد ولاية الحركة الصدرية، لم تعز الجماعة كلمات التشجيع. وبعضها، غداة مقتل شيخ شاب من آل كريِّم على حاجز قريب من صور، دعا من غير تورية الى إقامة الحد الصارم والقاطع. وكان هذا من فصول الحروب المحلية والفرعية البارزة والأخيرة.

وسبقت دخول القوات السورية بيروت في شتاء 1987، إلى الحرب الإسرائيلية - الشيعية (عملياً) المقيمة، والاشتباكات الفلسطينية - الأملية، حروب فرعية لا تحصى انفجرت في انحاء لبنان كله. واستولى «أمير» حركة التوحيد على طرابلس، الى حين انهياره تحت القصف المدفعي السوري. وكانت الحرب العراقية - الإيرانية بلغت ذروة أرهصت بقرب نهايتها، وتحتاج إيران في الإعداد للنهاية الوشيكة والباهظة الى الجبهات والميادين التي أسهمت في فتحها كلها. فلم يتردد من سطع في الأثناء، غداة محاولة اغتياله في مسجده ببير العبد (1985)، علماً على «المقاومة الإسلامية» العالمية، في تزكية كل عضد لإيران. وحين تحفظ بعض الحزب اللهيين عن طريقة عودة القوات السورية الى بيروت من بوابة ثكنة فتح الله وقتلاها، لام الشيخ السياسي المتحفظين، وسألهم عن تبصرهم بنتائج تصدع الحلف الإيراني - السوري، و «أخرستهم» حجته. وهوَّن شأن الخسارة الإيرانية في الحرب (1988). ومدح الشيخ سعيد شعبان على استظلاله عباءة طهران. واستقبل الهزيمة السوفياتية في افغانستان بالترحاب. ورأى في الهزيمة بشائر «إسلام ثوري» عالمي عوَّل على انتشاره في السودان والجزائر وجزيرة العرب والمهاجر الغربية. وشكك فيما نسب الى الجماعات «الإسلامية» الوليدة، وحمل ما لم تتبرأ هي منه على الاستخبارات و «لعبتها» المعقدة والخفية. وعاد عن اسـتبـشاره خـيراً في حـركـات وتـيارات غرقت في أنهار من الدماء. فدان هجمات 11 ايلول (سبتمبر). وأفتى، في صيف 2002، بمقاومة الحملة الأميركية على العراق. فشكر صدام حسين المرجع على فتواه. وغداة حزيران (يونيو) 2009 الإيراني، رأى ان المعارضة «الخضراء» تهددت الجمهورية الإسلامية بـ «الفوضى» المدمرة، فجاز الحؤول بينها وبين تقويض الجمهورية بالقوة. فحماية ولاية أهل الضعف لا تطرح آلات أهل القوة والسلطان وحمايتهم سلطانهم. وهم أولى بهذه الآلات من غيرهم. وهذا ما بدا «السيد» قاطعاً فيه وغير متردد ولا متحفظ.

الثلاثاء، 13 يوليو 2010

طباعة رواية جاك كيروواك "في الطريق" في صيغة اللفيفة المتصلة والأصلية... الترحل الأميركي عالم حياة ومراتب ولاية ومباني كتابة

تغلب على رواية جاك كيروواك "في الطريق (1957، وطبعت اللفيفة الأولى المتصلة على شاكلة الطريق نفسها، من غير فقرات، في 2007، ونقلت الى الفرنسية على صورتها الجديدة في 2010، وهي مرجع العجالة. والأصح نقل الوسم بـ "في الطريق" وليس "عليها"، فالمسافر هو في طريقه الى موضع وليس على طريقه...) استعارةُ توقيع موسيقى الجاز على اختلاف مقاماته وأدواره وطبقاته وآلاته ووصلاته وانقطاعاته. وبعض مشاهد الرواية وفصولها البارزة موضوعها أداء موسيقي في حانة بسان فرانسيسكو، على وجه التخصيص، تتولاه فرقة فرداً فرداً وآلة ألة، وتنتقل عدوى الأداء الى المستمعين أو هي تلازم العزف، منذ ابتدائه وإنشابه في الجمهور أثره وجوابه الى سريانه في الأجساد والحركات والسكنات والألسنة، ثم في الحانات القريبة فالأبعد فالأبعد وفي الشوارع فالليل "الأميركي". وموضوع فصول أخرى، بارزة كذلك، نوع مختلف من التوقيع هو توقيع سَيْر السيارات على طرقات الولايات المتحدة الأميركية، من الساحل الشرقي، وحاضرته نيويورك، الى الساحل الغربي الجنوبي، وحاضرته سان فرانسيسكو، ذهاباً وإياباً، وذهاباً وإياباً، مرتين وثلاث مرات وأربع مرات، وتسبق هذه رحلة خامسة تصل نيويورك، الى الشمال الشرقي، بمكسيكو، جنوباً.
والتوقيع القاري يحل في أداء الرحلة، في سَوْقها ومركباتها أو سياراتها، وفي سوّاقيها وطرائق سوقهم وسرعاته وتحميلهم المسافرين وأواصرهم بهم، وتبادلهم السوق والنوم، واستقبالهم المنعطفات والطرق والمدن والسهول والجبال وضفاف الأنهر والغابات والناس والسيارات الأخرى، وتركهم وراءهم المنعطفات والطرق والمدن والسهول... والتفاتهم إليها وكلامهم فيها، وتذكرهم إياها ونسيانهم. وهذا كله يروى على مثالات توقيع مموسق، على المقامات والأدوار والطبقات. وتتغلغل استعارة التوقيع في كل ما تتناوله. والتوقيع مبناه على الوقت وتقطيعه مداً أو قبضاً. ورواية كيروواك التي يغلب عليها التوقيع، واستعارته الكبيرة ووجوه الاستعارة الكثيرة، موضوعها المعلن في وسمها، "في الطريق"، هو المكان أو المحل.

ولاية الأزعر
والمكان هذا مأهول ومسكون، على معنى لا يستنفده القصص الشعبي والعامي القديم الذي يملأ الأمكنة بالجن والحن لبعض الوقت، ويرسلها في سفارة وتكليف خارجيين قبل ان يستعيدها، ويخلي المكان منها، فيقر المكان على حاله الأولى وقد أقفر من أهله ومنازلهم. فالطريق الأميركية في أواخر العقد الخامس من القرن العشرين تضج أصغر أوردتها وأضيقها، مثلما تضج شرايينها والأنسجة التي ترويها، وغدد وظائفها، بجن وحن وعفاريت وشياطين وملائكة هي نسغ الطريق ولحمها ودمها وصورتها. والتوقيع الموسيقي، على المعنى المتقدم، هو "قلق" الطريق، أي خلاف سكينتها وإخلادها الى مكان خالص وخال من الانقلاب غير المنقطع من حال الى حال ومن الترجح المقيم بين الأحوال. ومثل هذا المكان، الساكن والخالص والخالي، لا يعقل في عالم "الرواية" (والكتابة) الذي كان كيروواك أحد رواده وصانعيه.
وتحقق الرواية، في كتابتها على الوجه الذي كتبها عليه الشاب الأميركي طوال أعوام 1947 – 1951، التباس المكان بالرحلة، واستحالة انفكاكهما في الحل والترحال. والحل، أي الإقامة والنزول والإناخة، هو حال من أحوال الرحلة والتبدي، ولا يستقل بنفسه عن هذا أو تلك. والرحلة العريضة عرض القارة الأميركية البالغ، على ما يردد الكاتب مرات لا تحصى، 5 آلاف كلم، هي الأصل، وهي المثال الذي يحسن بصور الحياة ان تحتذي عليه، وتتأدب بآدابه وتأتم به. فهي، على هذا، طريقة، على المعنى الصوفي التقريبي، وإسراء ومراتب ودرجات متباينة. وقسمة الرحلة في الناس، وتتناول رواية كيروواك الأميركيين وملابسة الرحلة حيواتهم وسعيهم، وجريهم شاؤوا أم أبوا على رسمها، لا تنفي تفاضلهم فيها، ولا تقدمهم أو تأخرهم على سلم مكاناتها وطبقاتها ومقاماتها.
و "في الطريق"، شأن قصص الأولياء والأقطاب والأعلام، تروي أخبار ولي "عظيم" من أولياء الطريق والرحلة الأميركيتين هو نيل كاسّادي (واللفيفة الأصلية المتصلة تثبت اسمه وشهرته الحقيقيين، على خلاف الصيغة اللاحقة والمعروفة التي تسميه دين موريارتي). والرواية هي سيرة "مواقف" الشاب – المولود بدينفير في 1926، وعلى هذا فهو يصغر جاك كيروواك بأربعة أعوام، شأن الأخ الشقيق الذي فقده كيروواك حين كان في الخامسة من عمره، وكان كاسادي في الواحدة والعشرين حين التقاه الكاتب في 1947 – وإصعاده في مراتب "القداسة" ومعراجها، وفهرست كراماته. وحملُ نيل كاسّادي على الولاية والقداسة، أو رسامته وتطويبه قديساً، على قول أهل الكنائس، تسوغه مخالطته ضرباً من ضروب "الحياة"، أو إقامته بـ "عالم حياة" من عوالم الحياة، الكثيرة والمتفرقة. ويوجب "عالم الحياة" هذا جري الجسد، أو المرء، وجوارحه ووظائفه وأفكاره ولسانه وتوجهه على نفسه وعلى الغير، على رسوم تكثّر التوقيعات المموسقة، وتخلط بعضها ببعض وتدخل بعضها في بعض. فتبتكر أحاسيس ومشاعر وصوراً وكلمات وعلائق وتداعيات هي "بنت" صاحبها، على معنى ينكر التعلق والنسب من غير اطراحه أو إبطاله اطراحاً وإبطالاً تامين.
فقديس الطريق، أو ملاكها، هو من يرتقي من تكثير التوقيعات والخليط والابتكار مراتب عالية و "شريفة". وصفته الأولى أو مَلَكَته هي "طاقة هائلة" على الحركة والتنقل والسفر والتقلب بين وجوه الناس والأمكنة. ولا يشك كيروواك في تسويغ هذه كلها رسامة كاسادي، الفتى الرقيع والأزعر في يوم آت "قديساً أميركياً" (ص 169 من الترجمة الفرنسية). وحين يحصي المسافر جاك كيروواك، في احد فصول رحلته الأولى قاصداً الغرب، من يرجو لقياهم بدينفير، وهو يجتاز ولاية كولورادو، وهم وجوه "الجيل" من امثال إد وايت وهال تِشييْز وألنْ تيمكو وألن غينسبرغ وويليام بوروز ونيل كاسّادي وغيرهم، حين يحصيهم يرى دخوله على "العصابة" في بار بدينفير وهم، أهل العصابة، يرونه "نبياً في ثيابه الخلقة والبالية" التي تشبه مرقّعة أهل الطريق، "آتياً من جنبات البلاد وأطرافها ومكلَّمهم بكلام غامض"، فلا يملك هو، كيروواك، إلا القول: "واو!".
وغلبة مثال القديس الولي، أو الملاك أو النبي، على وجوه "في الطريق" وسواقطها وصعاليكها وجانحيها وسكيريها وبطاليها، هذه الغلبة تتصل بتراث ملحمي أدبي وشعبي كثير الروافد الأميركية والأوروبية والدينية الكونية. فقريباً من كيروواك ذهب الفرنسي جان – بول سارتر الى تطويب جان جينيه، السارق واللقيط والمثلي و "الخائن" والمجدف على رؤوس الأشهاد، "قديساً". فوسم كتابه فيه، وهو مقدمة أعمال جان جينيه الكاملة، "القديس جينيه، مهرجاً وشهيداً". ويخلو "في الطريق" من إشارة الى الكاتب والفيلسوف الفرنسي الأشهر يومها. وتتخلل الكتاب إشارة الى رواية الفرنسي الآخر، لوي – فردينان سيلين، "رحلة في الليل البعيد (أو "الى أطراف الليل")، وإلى أحد اميركييها. والأرجح ان سيلين مثال كتابي و "موسيقي" على قول سيلين في كتابته وابتكاره. فلا يحتاج كيروواك، ولا غيره من الكتّاب الأميركيين الى وسيط أوروبي يُسْلمهم الى صور الترحال والصعلكة وكتابتها. والكتاب لا يكف عن التلويح والتنويه بالسفر غرباً، وبالتغريبة الأميركية من الساحل الشرقي الأطلسي الى الساحل الغربي الهادئ، وولادة "أميركا" الأمة والمسرح من هذه التغريبة. ويستعير نحو خمس مرات أو ست مشية أو رقصة غروتشو ماركس، أحد الأخوة السينمائيين الأربعة، على قدميه مقرفصاً في أحد أشهر أفلامهم "ارحل غرباً" ("غو وِسْت")، للكناية عن "حجلة" نيل كاسّادي الخاطفة والمرنة. وإذا ضرب القارئ صفحاً عن "قداسة" هنري ميللر الأميركي النازل بمضربه الفرنسي وصاحب ثلاثية "الصلب بـ (اللون) الزهر"، وعن "ملاك الشر" الساقط أرتور رامبو و "مركبـ(ـه) السكران" وولولة الهنود الحمر الأميركيين على ضفتي النهر الذي ينزله المركب، وأشاح عن فرنسوا فيون (والـ "ف" تلفظ على شاكلة لفظها في "برافو"، ولا شأن لرئيس وزراء ساركوزي المسكين بالشاعر المشنوق في ساحة "لاغريف" الباريسية في يوم من أيام 1463م) وإنشاده صَحْبَ السوء وإخوانه – بقي "خَطَأة" الأناجيل تتقدمهم المجدلية المسماة باسم البتول أم الله المباركة بين النساء والمبارك ثمرة بطنها، على قول الصلاة القديمة. وبقي القديسون المؤمنون بعد حياة غيّ وضلال وتبديد وفي أثناء حياة الغي، والأولياء البسطاء المكرمون جزاء بساطتهم. والرواية الأميركية تعج بمثل هؤلاء، كتبها جون شتاينبك ("في الفئران والبشر") أم كتبها وليم فوكنر ("نور آب")، من غير تسوية ولا مقارنة.

الولادة والسيرة
ويكاد يكون نيل كاسّادي، على رواية كيروواك، عصارة السلسلة الأميركية الطويلة من قديسي الحثالة المتبدية بين ضفتي المحيطَيْن ودفتيهما. ورحلته الموقّعة رواحاً ومجيئاً ومنازل وظعناً، ورحلة تلميذه وحواريه ومرشده وصديقه ومدون "أعماله" وأخباره وآثاره، هي سيرته أو سيرة الصَّديقين المشتركة والمتقاسمة. والطريق أو الرحلة هي القاسم المشترك، وهي الرابطة والعروة واللحمة. وفي ابتداء خبره عن رحلته، وأطوارها ووقائعها وتوقيعاتها، يجمع كيروواك في جملة متصلة "حياتـ(ـه) في الطريق"، أو حياته المترحلة، ولقاءه نيل، وموتَ والده وإبلالَه هو من مرض ألم به غداة موت أبيه ونجم عن موت الأب، على قوله وتعليله السريع. ورغبته في الرواح الى الغرب، وحياة الطريق والرحلة والتغريب واحد بديهة ومن غير شرح، سبقت لقاءه نيل وموت أبيه. فكان اللقاء الداعي الى تلبية نداء الغرب، ومدرجَ التلبية. وذلك ان نيل ابن الطريق، على معنى غير مجازي. فهو ولد بينما والداه في الطريق الى لوس انجيليس، "في السيارة"، ويمران بسالت لِيْك سيتي. والولادة في الطريق، شأن الولادة الإنجيلية في مذود، علامة وكناية على رغم حقيقتها، على زعم كيروواك. وهذا الزعم يقوم من قص الكاتب ومن كتابته مقام الركن البارز وغير المعلن. فثمة ما ينبغي ان يشدَّ الواقعة السائرة والعادية الى واقعة أو وقائع أخرى، معاصرة أو تتصل بسياقة مشتركة، ويحمل القارئ على الاستدلال من هذا على معنى مؤتلف من الوقائع ومعاصرتها واتصالها. وتتولى الكتابة، وترجحها المقيم بين التقرير وبين التضمين أو التورية، الإلماح الى الائتلاف واحتماله وجوازه من غير التصريح به. ولعل أداة الموازنة بين التقرير وبين التورية، وبين التصريح وبين الإلماح، هي عطف صور الائتلاف بعضها على بعض، وإنشاء أمثلة بناء أو مباني من عطفها وتكرارها.
ولكن العمل الشكلي، أو الصوري والبنياني هذا لا يستقيم بغير معان جوهرية ومادية قريبة، ومن غير روافد تولى الاستعمالُ السائر والتداول وعالم الحياة المشترك بلورتها وإشاعتها، وجوَّز تأويلها على بعض الوجوه المحتملة. وعلى هذا، يفتتح كاتب "في الطريق" الرحلة المتواترة وسِيَرها المتشابكة والمتداخلة، بعطفها على موت (الأب) ومرض (الولد الراوي) وولادة (الصديق والدليل)، وينصب الرحلة اصلاً يحل في فروعه، وتنتشر عدواه في الآحاد المولودة منه، على ما هي حال نيل كاسّادي المولود من الطريق وفي الطريق وآلتها الأميركية (السيارة) الأثيرة. فيجوز ان يؤوِّل القارئُ صدور الترحل و "حياة الطريق"، والأخوة بين أهل الطريق، عن موت الأب، والحداد عليه، والسعي في إدراكه أو "البحث" عنه. ويسطع نيل كاسّادي عَلَماً على الطريق جراء قدر ندبه الى الهداية والولاية، وجعل ولادته في آلة الرحلة الأميركية، وبينما والده مترحلان، علامة وبشيراً. وهو نفسه، نيل، ضيَّع والده، واسمه نيل كذلك، وهو ولد لم يبلغ العاشرة.
ووالده عامل موسمي وسكير كان يترك بيت الأسرة قاصداً العمل. فإذا التقى "صديقا"، أو رفيق شراب، جالا معاً في الحانات القريبة فالأبعد فالأبعد، الى ان يتفرقا، ويذهب واحدهما الى حيث تقوده رغبته في الشراب، وصداقة جديدة، فرصة عمل طارئة. فلا يعلم أحد أين راح نيل كاسّادي الأب ويمم، ولا أين حل. وقد يرجع المترحل من رحلته بعد أسابيع أو أشهر، ويقيم مع ولديه وزوجه بعض الوقت قبل ان يستأنف ترحله. وفي أحد الأيام، وكان هذا قبل نحو عشرة أعوام سبقت لقاء نيل وجاك، لم يرجع الأب من ترحله. ولم تعلم أسرته إذا كان الأب لا يزال على قيد الحياة أم قضى ولم يبلغ خبرُ موته أهله، ولم تثبته الشرطة وأشكلت عليها هويته. ويحسب الابن ان أباه يهيم على وجهه في مدن ولاية كولورادو القريبة، أو في مدن ولايات أخرى، وأنه قد يقع عليه في يوم من الأيام على رصيف طريق، أو في حانة أو مطعم أو مقصف، أو في محطة محروقات، أو ربما في حافلة أو قطار أو محطة سكك حديد. وكلها على مباني الرحلة ويتصفح الابن وجوه الرجال في الأماكن والمواضع هذه، في روحاته وجيئاته الكثيرة. ويزعم إن إحساسه بعيني نيل كاسّادي الأب تشخصان إليه وتتعرفانه، هذه المرة، هو قرينة على حقيقة الأمر اليقينية.

الفاتحة

وحين يلتقي كيروواك نيل بنيويورك، كان هذا خارجاً لتوه من السجن. وحين خرج من السجن عمل في مزرعة بكولورادو راعي بقر أسابيع قليلة، وجنى من عمله مالاً قليلاً صرفه على زواجه بلووان، بنت السادسة عشرة "الجميلة والغبية" و "الهستيرية" والمتكسبة عرضاً من البغاء، وصرفه على سفره الى نيويورك لأول مرة. ويخالط القادم الجديد، "المجلل بالغموض" ومراسل بعض الصحب من سجنه، أصحابه، وهم خليط من شعراء وكتاب وعازفين ومصورين ورسامين بطالين أو مبتدئين أو عاملين في أعمال متواضعة، يتقاسمون الشراب والمخدر والجاز والليل والجنس والسفر، ويقيم بعضهم، مثل كيروواك، في بيوت أمهاتهم وهم بلغوا منتصف عقدهم الثالث، على خلاف سنّة أميركية راسخة تقضي بترك الولد حضن البيت والأهل الى الخارج الفسيح. ويتقدم كاسّادي الصحب والأتراب من هذا الباب. فهو لم يقر في بيت أو منزل، ولم ينطو عليه كنف أهل. وحين كان في السادسة من العمر، اضطر الى التردد الى مخافر الشرطة، وإلى قاعات المحاكم، وتولى إجراءات تخليص أبيه من الحجز تارة هنا وتارة هناك.
وحين عمل، أو تولى عملاً يكسب منه، "اختار" مهنة السواقة. فكان سواقاً في موقف سيارات عمومي تُركن هذه فيه في أثناء انصراف أصحابها الى عملهم. وهو عمل يحاكي الرحلة والسفر في مربعات المواقف الضيقة. وعلى سواق الموقف الكبير، أو السواق "العبقري" شأن نيل، استخراج المكان الذي يتيح للسيارات الحركة والتنقل، والدخول والخروج، من الفتات المتاح وكسراته الضئيلة والمبعثرة. فهو في وسعه ركن سيارة يقودها الى الخلف في سرعة 60 كلم، بمحاذاة جدار الآجر، ويخرج منها قفزاً، فيتسلل بين مقدمة السيارة ومؤخرة الأخرى اللصيقتين وكأنه بزاقة بحرية، ويستوي وراء مقود المركبة الرابعة وينعطف بها في سرعة 70 كلم في محل تبلغ مساحته "مساحة محرمة جيب"، ويدخلها وهو يسوقها الى الخلف بين سيارتين قريبتين لم يكن يحسب الناظر إليهما ان ما بينهما يتسع لسيارة ثالثة، فيركنها نيل على 5 سنتيمترات من كلا الجهتين من جارتيها... فتقليب المواضع والأمكنة على وجوهها وتصريفها، في رحب الطرق الواسع وفي ضيق المواقف المحشورة بين الأبنية، هوى الفتى وميله وعمله.
ومقدمة التعارف هذه، وهي لا تخلو من حواش مثل طعام وشراب في مطعم أو مقصف على حدة أو مع صحب وجمع، تقود الى موعد يتَّعده الصديقان الجديدان بسان فرنسيسكو، على ان يلحق كيروواك بصاحبه في مستهل الربيع القريب. وتكني هذه الفاتحة عن محل الرحلة والطريق من تسليك المبتدئ المريد وارتقائه المراتب المتقدمة. فعلى المترحل المقبل على حياة الطريق واختبارها مباشرةُ ترحله وحده، ومن غير "شيخ" أو دليل أو معلم، لُقاحاً، على ما كانت العرب تقول في القبائل التي لا تُجبى ولا تؤدي جزية ولا تقاتل في غارات غيرها. وعلى رغم لقائه من انتخبه دليلاً وولياً، وقر رأيه على توليه، اختار كيروواك خوض رحلته الأولى وحده، والجمع بين الرحلة وحيداً وبين قصد ولي الترحل (في الرحلات التالية) من غير صحبته ولا ولايته. فالولي مصدر دعوة، ويبعث على "الانزعاج"، على قول المتصوفة في بادرة السلوك الأولى، وينفخ في الهمة، ولكنه لا يتعهد الاختبار، ولا يقود خطواته. وهو ليس مثالاً أو قدوة إلا على وجه الرغبة. فلا يرغب الصديق أو المريد أو "الرفيق"، على ما يسمي وولت ويتمان "حبيب" سفره ورحلته، في صديقه إلا على سبيل المبادلة والشراكة الخالصتين، "قبل الموعظة والشريعة".
فيسع المترحل، مذ ذاك، مباشرة رحلته وطريقه وهو على غير بينة من أمر يطوي البينات.

الأربعاء، 7 يوليو 2010

القوة الأهلية المسلحة اللبنانية تستبق الحروب غير المتكافئة بحماية مقومات ردعها من الجيش الوطني والقوات الدولية


7/7/2010 الحياة
يجر القرار 1701، غداة حرب «حزب الله» واسرائيل قبل أربعة أعوام على وجه الضبط وشيكاً، ذيول الالتباس الذي نشأت الحرب عنه وأدت الى تكريسه. والالتباس هذا يطاول ازدواجية السلطة العسكرية الدفاعية والأمنية، وتالياً السياسية والديبلوماسية، في لبنان. فحرب الـ 33 يوماً في صيف 2006 فجّرها شنُّ الحزب الشيعي المسلح هجوماً دامياً على الحدود اللبنانية - الإسرائيلية الدولية في القطاع الأوسط، وخطفه جنديين وقتله 7 جنود، وتوسل الدولة العبرية بالرد على الخطف والقتل الى محاولة اجتثاث المنظمة المسلحة المرابطة في جنوب لبنان، بين أهاليه المحليين والمقيمين في ضواحي بعض المدن الساحلية. وتذرع الحزب المسلح الى هجومه بدوام حال الحرب بينه، ومن ورائه «الدولة» اللبنانية المنقسمة والمتنازعة غداة تمديد ولاية إميل لحود الرئاسية واغتيال رفيق الحريري وجلاء القوات العسكرية السورية وانتخابات 2005 النيابية، وبين اسرائيل المقيمة على احتلال مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، من وجه أول، وببقاء أسرى لبنانيين في المعتقل الإسرائيلي تعهدت الجماعة الأهلية المسلحة تحريرهم بالقوة، من وجه ثانٍ.

ومبادرة الحزب الأهلي المسلح الى الهجوم - غداة إخفاق المفاوضة الإيرانية - الدولية على توقيف التخصيب، وفشل الاغتيالات «اللبنانية» في فرط «14 آذار» (مارس) ولجم التحقيق الدولي في اغتيال الحريري والصد عن إنشاء المحكمة الخاصة بلبنان - تستر الرد الإسرائيلي الاستراتيجي، والقصف الجوي الشامل، على انفرادها وفئويتها وأهليتها. وألزم الحزبُ، ومن ورائه «الشارع العربي» و «الإسلامي» وبعض دوله وأجهزته الإقليمية المسيطرة على الفلسطينيين، الحكومة اللبنانية، ومعظم اللبنانيين، بالدفاع عنه، وعن مغامرته. وقلب هجومه غير المحتسب النتائج (على ما أقر ملتزم الهجوم المحلي)، واختباره موازين الردع في حرب غير متكافئة بالنيابة عن طهران النجادية الحرسية، حرباً بين دولتين. واضطر حكومة يطعن طعناً جارحاً في مشروعيتها، وينكر صفتها الوطنية الجامعة وتمثيلها العصبية «القومية» المفترضة، الى أخذه تحت جناحيها الدوليين، وتولي الوساطة بينه، ومن ورائه معسكره، وبين المجتمع الدولي الراغب في حماية لبنان والحؤول دون انهياره تحت وطأة حرب ملبننة متجددة.

ولا شك في أن ركن هذه الاستراتيجية المتعرجة والمركبة هو احتماء الحزب الخميني المسلح بالأهالي، واستدخالهم ثنايا مجتمعهم وحملهم على الرضا فعلاً بالتحصن في بلداتهم وقراهم ومنازلهم، وتخزين السلاح فيها، وبتوقع الموت درعاً له و «فداء قدميه». فهذا هو ثمن الردع الفاعل في الحرب غير المتكافئة. وهو يقتضي توريط المدنيين على صورة خسائر باهظة في الأنفس والمساكن والمزروعات والطرق وآلات النقل ومرافق الإنتاج، تحت «أنظار» عدسات شبكات التلفزيون العالمية و «الرأي العام» الإنساني. ويرتب هذا على الحكومة الوطنية، وعلى «الجيش والشعب» من باب أولى، التضامن غير المشروط مع الجزء المصاب من الأهالي المترجحين على حدود دقيقة ومشتبهة بين الولاية المذهبية الانفصالية وبين المواطنية (أو المواطنة) السياسية والمشتركة.

وهو يرتب كذلك على المجتمع الدولي الاضطلاع بدور مزدوج ومتناقض أو متدافع. فلا يسعه، الإغضاء عن إصابة المدنيين، والمرافق المدنية، والتخلي عن حمايتهم وحمايتها. وهو إذا أغضى، تنكّر لوظيفته الإنسانية، بداهة، وترك الطرف العسكري القوي على غاربه وغارب ردعه، وتنكر لوظيفته السياسية التي تندبه الى رعاية علاقات أهلية وسياسية بين الجماعات الوطنية (اللبنانية) تنهض على التضامن و «التآخي». ولكنه إذا ماشى الجماعات الأهلية الواقعة في أسر منظمات مسيطرة يستتبعها خارج مذهبي أو «قومي»، وسلَّم لها وللخارج الذي يستعملها بـ «الحق» في الانتحار والموت دون المنظمات المتهورة - إذا ماشى المجتمع الدولي الجماعات الأهلية على هذا حصد «حروباً» أو عمليات متسلسلة على شاكلة الجرائم الموقَّعة المعروفة. واستعمال المنظمات الضعيفة عسكرياً إذعان الأهالي، وحضانتهم وانتصارهم لها في الضراء خصوصاً ولو عادت عليهم بالويلات، عنصر جوهري في سياسة الردع المتجددة التي تنتهجها المنظمات.

والقرار 1701 يتخبط في لجة التجاذبات والترجحات هذه. فهو أيد «التزام حكومة لبنان... لبسط سلطتها على أراضيه، من خلال قواتها المسلحة الشرعية، بحيث لا يكون هناك سلاح دون موافقة حكومة لبنان ولا سلطة غير سلطة حكومة لبنان». ورحب «بما قررته حكومة لبنان بالإجماع في 7 آب/ أغسطس 2006 بأن تنشر قوة مسلحة لبنانية مؤلفة من 15 ألف جندي في جنوب لبنان مع انسحاب الجيش الإسرائيلي خلف الخط الأزرق». واستجاب مجلس الأمن طلب الحكومة مجمعة، وفيها الوزراء الشيعة المنسحبون من الوزارة قبل ثمانية أشهر ونصف الشهر احتجاجاً على طلب الوزارة إقرار المحكمة الدولية الخاصة بلبنان. وناط بـ «قوات إضافية من قوى الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (...) تيسير دخول القوات المسلحة اللبنانية الى المنطقة»، وبالحكومة الوطنية «تعزيز القوات المسلحة اللبنانية بما تحتاج اليه من عتاد لتمكينها من أداء واجباتها». ودعا القرار حكومة لبنان و «اليونيفيل» الى نشر قواتهما معاً «في جميع أنحاء الجنوب». وجدد تأكيده «أهمية بسط سيطرة حكومة لبنان على جميع الأراضي اللبنانية»، على ما ينبغي ويتوقع. ورهن بسط السيطرة الحكومية، وتقويم حقيقتها، بموافقتها («وفق») «... أحكام القرار 1559 (2004) والقرار 1680 (2006)، والأحكام ذات الصلة من اتفاق الطائف»، وهي المتصلة بنزع سلاح الميليشيات عموماً.

ويخلص القرار من المبادئ العامة والأساسية الى التخصيص (في النقطة أو الفقرة 8)، فيدعو الى «إنشاء منطقة بين الخط الأزرق ونهر الليطاني خالية من أي أفراد مسلحين أو معدات أو أسلحة بخلاف ما يخص حكومة لبنان وقوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان». ويُعطف الإجراء المحدد والموضعي هذا على الأحكام العامة التي نصت في اتفاق الطائف والقرارين 1559 و1680 على «نزع سلاح كل الجماعات المسلحة في لبنان حتى لا تكون هناك أي أسلحة أو سلطة في لبنان عدا ما يخص الدولة اللبنانية». وتقر النقطة «منع وجود قوات أجنبية في لبنان دون موافقة حكومته»، فتكرس انسحاب القوات السورية غداة 16 شهراً عليه. وتحظر «مبيعات أو إمدادات الأسلحة والمعدات ذات الصلة الى لبنان عدا ما تأذن به حكومته». ويوكل القرار الى أمين عام الأمم المتحدة أن «يضع... مقترحات لتنفيذ (أحكام) نزع السلاح، ولترسيم الحدود الدولية للبنان...» (النقطة 10). وتتولى «اليونيفيل»، بحسب القرار، «مرافقة ودعم القوات المسلحة اللبنانية في أثناء انتشارها في جميع أرجاء الجنوب». وكان القرار 426 نص على المهمة المزدوجة في جملة تستعيدها النقطة 11 الفقرة (ب) حرفياً. وتتولى كذلك «مساعدة القوات المسلحة اللبنانية على خطوات ترمي الى انشاء المنطقة المشار اليها في الفقرة 8»، أي المنطقة الـ «خالية من أي أفراد مسلحين أو معدات أو أسلحة...» (أعلاه) بعد «نزع سلاح كل الجماعات المسلحة...».

و «تساعد» القوات الدولية الحكومة على «منع دخول الأسلحة أو ما يتصل بها من عتاد الى لبنان دون موافقتها...» (النقطة 14). وفي ضوء المساعدة المزدوجة، على إنشاء المنطقة المنزوعة السلاح وعلى اعتراض السلاح، «يأذن» القرار للقوة الدولية «باتخاذ جميع ما يلزم من إجراءات في مناطق نشر قواتها وحسب ما تراه في حدود قدراتها لكفالة ألا تستخدم منطقة عملياتها للقيام بأنشطة معادية من أي نوع، ولمقاومة محاولات منعها بالقوة من القيام بواجباتها بموجب الولاية الممنوحة من مجلس الأمن، ولحماية موظفي الأمم المتحدة ومرافقها ومنشآتها ومعداتها، وكفالة أمن وحرية تنقل موظفي الأمم المتحدة... وحماية المدنيين المعرضين لتهديد وشيك، دون المساس بمسؤولية حكومة لبنان». وهذه مبادئ أو أصول صوغ قواعد الاشتباك العتيدة

وجلي، في ضوء المقتطفات من القرار التي كرر الناطقون باسم الحكومات الأوروبية المعنية التذكير بها ونبه اليها قائد القوة الدولية المؤقتة والمتحدث باسمه، أن القرار الدولي أرسى انقلاباً على الأوضاع التي رعتها السياسة السورية أيام سيطرتها على لبنان وكان الجيش الشيعي ركنها. فعودة الجيش اللبناني الى الأرض المرسَّمة التي طردته منها «القوات المشتركة» (الفلسطينية - اللبنانية) والحملات الإسرائيلية المدمرة معاً، ونزع السلاح الأهلي المؤتمر بأمر كيان آخر، ورعاية القوات الدولية الأمرين باسم مصالح الدولة الوطنية وسيادتها غير المقيدة، هذا البرنامج السياسي والعسكري الأمني يفترض كيان دولة وطنية متماسكاً وقوياً. وهو ينقض المزاعم والوقائع الحزب اللهية، ويخالف نازعها الى تثبيت ولاية وحزام «مستقلين» هما جزء من كتلة اقليمية كبيرة مختلطة ومركبة. والبرنامج الدولي والحكومي الوطني ينقض ركن الحرب غير المتكافئة التي تعهدت ايران الخمينية والحرسية بناء عواملها بواسطة إنشاء الولايات والأحزمة الإسلامية - الفلسطينية في دول الطوق، والإسلامية - المحلية خارجها. فنزعُ السلاح الأهلي، أو حتى مراقبة تخزينه والحؤول دون نقله أو تفقده على ما حاولت القوة الدولية مراتٍ سابقة، وتقدمُ قوات الدولة على الجماعة المسلحة وتوليها حماية الحدود المفترضة في انتظار الترسيم المرجأ قسراً، الأمران يؤديان الى إضعاف مقومات «المقاومة»، أو الحروب غير المتكافئة التي تشنها الكتلة الإقليمية المختلطة والمركبة على النظام الإقليمي «الأميركي»، والى اضعاف ردعها. وهما يقوضان مزاعم النصر الذي يسوغ به الجيش الشيعي السري إنشاءه ولايته، ودوام الولاية ومكافأتها الشعب والدولة مكانةً ومقاماً.

والحق أن الوقائع السياسية والعسكرية والأمنية، اللبنانية والإقليمية، منذ صدور القرار 1701، تخالف مخالفة حادة غايات القرار وبرنامجه وميزان القوى الذي تعول عليه الغايات. ففي أثناء السنوات الأربع المنصرمة، وسع قوى الكتلة الإقليمية المختلطة، وعلى رأسها إيران وطبقتها الحرسية الحاكمة، الاستدراج الى حروب غير متكافئة، داخلية أهلية وإقليمية، لعل آخرها «حرب» غزة «الإنسانية»، بعد سنة ونصف السنة من الحرب الأولى، العسكرية. وتصيب هذه الحروب أول ما تصيب مشروعية القوات المسلحة الوطنية، والدولة الوطنية عموماً، والمجتمع الدولي. وهي تقوّي الجماعات الأهلية، ومنظماتها «الإنسانية» والمسلحة على حد واحد. وأحرزت الحروب غير المتكافئة في لبنان، حقل اختبارها الأول والمديد، انتصارات لا تحصى على اللبنانيين، وعلى كيانهم السياسي وهيئاته. فالحكومة (اللبنانية) التي يصفها القرار 1701، وينسب اليها ارادة سيادية صلبة، والجيش الذي تنيط به فقراته مباشرة هذه السياسة والانفراد بها، لا يشبهان شبهاً ضعيفاً حكومة البيان الوزاري الأخير وبنده السادس («... لبنان بشعبه وجيشه ومقاومته...»)، ولا الجيش الذي «خاض» موقعة أيار (مايو) 2008، وجزي عماده على خوضه الموقعة بالرئاسة التي جزي بها، وقد يخلفه عليها خالفه العسكري.

وهذا من شروط الردع التي تعتد بها الجماعة الأهلية المسلحة وولايتها. وإذا هي خسرتها، على ما ينص برنامج الـ 1701 ويرجو، انهار ردعها. ووسع اسرائيل أو القوات المسلحة اللبنانية أو السياسة السورية (في ظروف قد تطرأ) كسر هذا الردع أو ثلمه. ولا شك، في الأثناء، أن محاصرة بعض وحدات القوة الدولية في بعض المواقع - على نحو يشبه محاصرة متظاهري مار مخايل وصفير والشياح في أوائل 2008، تمهيداً للاشتباكات الفاصلة في أيار الميمون و «المجيد»، القوات العسكرية اللبنانية، ويشبه حمل المتظاهرين الجنود على إطلاق النار والقتل دفاعاً عن أنفسهم وسلاحهم - لا شك في أن المحاصرة هذه هي من فروع القرار 1929، ونصه على تشديد العقوبات على ايران. وهي جزء من احتساب القرار الظني الدولي في اغتيال رفيق الحريري، واستباق بعض «ظنونه» وتحقيقاته ومظان هذه الظنون ومواقعها. ولكن الغايات الظرفية، وغير العابرة، هذه ينبغي ألا تتستر على الحرب الطويلة والمزمنة التي تخوضها «المقاومة»، أي قوة الحرب غير المتكافئة في الداخل والخارج، على الدولة الوطنية وسيادتها وقوتها المسلحة والإطار القانوني الدولي الذي تشاركه معاييره وأحكامه. ولم يفت الأمر الرئاسة اللبنانية «الأولى». فأسرعت إلى تهمة القوة الدولية بضعف التنسيق مع الجيش اللبناني، وهو ترعاه القوة الدولية، بحسب نص القرار 1701 الصريح. وهذا «نصر» آخر في جعبة كتلة الولايات والأحزمة الإقليمية المظفرة.

الخميس، 1 يوليو 2010

تحميل الحركات المطلبية الدولة والمجتمع فوق طاقتهما... وجه من سياسة في لبنان «اجتماعية - قومية» أهلية وباهظة

30/6/2010

تدور مناقشة حادة بين رابطة أساتذة التعليم الثانوي (الرسمي) وبين وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي (في لبنان)، موضوعها نسبة الزيادة المستحقة على راتب المدرس في مرحلة التعليم الثانوي، وطبيعة هذه الزيادة أو مسوغها. ففيما تذهب الرابطة الى أن الزيادة تبلغ 7 درجات، تقول الوزارة انها لا تتعدى الدرجات الأربع. وترى الرابطة أن الزيادة جزء من إيفاء (موازنة) الدولة تعهدها، قبل عقد ونصف العقد، تقويم الرواتب، واحتسابها من غير تجزئة وتشطير معقدين، تقول الوزارة أن الدرجات الأربع التي تقر بها للمدرسين الموظفين تدخل في باب مفاوضة تقليدية على الأجور، وتقتصر على تعويض الغلاء والتضخم. فمنذ منتصف تسعينات القرن الماضي، جدد تقويمُ الرواتب على معايير مالية ووظيفية مختلفة، ووعد رئيس مجلس الوزراء، في أثناء لقائه مندوبي المعلمين، بإنجاز سلسلة رواتب جديدة تعوض فعلاً الجسم التعليمي والتربوي كله تخلف قيمة الرواتب عن ثمن العمل، وتسعف المهنة على استقطاب من تحتاج اليهم والى كفاءتهم، وفي وسعهم الاضطلاع بمسؤولياتها عن جدارة.

وفي أثناء المفاوضات الطويلة بادرت رابطة المدرسين الثانويين الى منع لجان مصححي الامتحانات الرسمية الجارية منذ أوائل الشهر، واللجان تتولى مناقشة معايير التصحيح ثم التصحيح وإعلان النتائج، من الاجتماع والعمل. واعترض مدرسون استجابوا نداء الرابطة طريق المصححين وحالوا، عنوة، بينهم وبين بلوغ مكاتب الوزارة. ودعت الرابطة المدرسين المندوبين الى التصحيح الى مقاطعته، والإضراب عنه.

ويتذرع المدرسون والمعلمون، في مراحل التدريس كلها، بضعف استجابة الحكومة والإدارة إضراباتهم، وما يسمونه تحركاتهم المطلبية والديموقراطية، في الأيام «العادية» أو خارج الامتحانات، ويسوغون اختيارهم أوقات الامتحان الفاصلة للإضراب والاحتجاج. وعلى خلاف امتحانات المراحل الأخرى كلها تقريباً، تتبوأ امتحانات ختام المرحلة الثانوية محلاً مفصلياً. فشهادات القبول في أواخر العام المدرسي هي شرط التسجيل في المرحلة الجامعية. وعلى هذا، يقتضي التسجيل الجامعي، في جامعات لبنان «المنزلية» وفي جامعات الخارج التي يقصدها آلاف من الطلاب اللبنانيين، إجراء الامتحانات وتصحيحها وإعلان نتائجها وإعطاء شهاداتها. وإذا لم يحصل هذا في أوقاته تعطل التسجيل الجامعي.

ويحسب المدرسون الثانويون أن موقعهم الحاسم هذا، وهو حق نقض وتصرف مطلق، يخولهم جر «الدولة»، أي الإدارة وعلى رأسها وزراء «الخدمات»، الى الامتثال والرضوخ لمطالبهم المالية والإدارية. والى اليوم، قلما لجأ المدرسون الثانويون الى إجراءات تعطيل تمنع على الطلاب الثانويين، وهم ثمرة نحو 15 عاماً من التحصيل الغالي وبقية هذه الأعوام، قطاف شهادتهم وجواز دخولهم التعليم العالي. فالموقع الحاسم تترتب عليه مسؤولية معنوية ثقيلة أحجم مدرسو المرحلة الثانوية، الى اليوم، عن تكلف حملها أو تحميلها لهم.

والمسؤولية، في الإطار اللبناني، معنوية وليست مادية. فهي مثل الآلام النفسانية التي رضي القديس تحملها ودعا خالقه الى تجنيبه الآلام الجسدية، أي انها لا ترتب على المدرسين ثمناً، لا من رتبة ولا من راتب. وتاريخ الإدارة اللبنانية، وعلى رأسها التعليم، حافل بإضرابات متطاولة أسابيع وأشهراً. ولابس كثير منها، في الستينات والسبعينات، الأيام «الوطنية»، العروبية والفلسطينية، ومهد الطريق الى خروج الأهل على الدولة، وإنشاء حارات العصبيات الأهلية وعصاباتها وجباياتها وولاءاتها و «أعلامها»، على قول وليد جنبلاط في 1989. وانفرد سليمان فرنجية (1970-1976)، في 1973، بالرد على إضراب جرار، في أثناء أزمة أهلية وسياسية «فلسطينية - لبنانية» مشتركة، بفصل عشرات المدرسين عاد معظمهم الى مضاربه الوظيفية سالماً وغانماً.

وعلى هذا، فإضراب المدرسين الرسميين المهني والمالي منذ عشرات الأعوام، تحرسه ملابسة دعواه الاجتماعية والمعيشية، الفعلية والحقيقية، دعاوى «وطنية» وأهلية «سياسية» تستقوي بها الدعوى الاجتماعية والمعيشية. ويتولى حراسة الملابسة نقابيون محترفون ينتسب معظمهم، ثقافة وذهنية إن لم ينتسبوا تنظيماً الى يسار جهازي شيوعي وقومي وأخيراً إسلامي. وعلى رغم انهيار اليسار الجهازي هذا، منذ الهزيمة الفلسطينية في لبنان، تبايع كثرة المدرسين بقايا الجهاز المحترف على رعاية «مصالحها». وينوب المحترفون هؤلاء - وهم يرئسون هياكل مهنية وحرفية خاوية تقتصر على المطالب النقدية وعلى تحصيل «شروط الاطمئنان المادي والمعنوي»، على قول «تاريخي» لرابطة المدرسين الجامعيين - ينوبون عن جسم تعليمي مستقر وشائخ. وهذا الجسم رعى، والقوى الأهلية والساسية والأمنية التي يماشيها معظمهم من طريق الأواصر الأهلية، انحطاطَ التعليم اللبناني الرسمي وترهلَه، وتخلفَه الذريع عن أداء مهماته الثقافية والوطنية والاجتماعية، وتعاظم كلفته غير المجدية (قياساً على أدواره). والعلاقة الملموسة الوحيدة التي تربط قيادة المحترفين بالسلك هي إجماع السلك الظاهر على تعطيل التدريس. ويشفع بالإجماع هذا إجماع التلاميذ والطلاب، وإجماع الإداريين معاً. فالدعوة إلى التعطيل «الديموقراطي»، في سبيل حقوق كلها مكتسبة (على معنى طبيعية) ولا عودة عنها، وكلها إنسانية وأخلاقية، على مثال حقوق «المقاومة» الخمينية، هذه الدعوة تلقى الإجماع على التنفيذ، ويستحي المتحفظون عنها من إعلان تحفظهم، فكيف بمباشرة التحفظ عملياً ومخالفة الإجماع القسري.

والحق أن الاحتماء بصفة المطالبة الوطنية والاجتماعية المختلطة، وبالإجماع على حقوق «طبيعية» يلازمها التنديد المرير والعنيف بـ «طبقة» حاكمة تنسب من غير تمييز الى العمالة والخيانة والطائفية والاستغلال والاستبداد والطفيلية، يتحدر من تقاليد سياسية واجتماعية، لبنانية وعربية «عريقة». فالخروج «الوطني» العروبي فالإسلامي على الدولة اللبنانية أجاز الانتهاكات كلها، وأقام الصفة «الوطنية» محل المعايير الأخرى، المهنية والاجتماعية والقانونية والأخلاقية. فوسع «المناضلين» في صفوف المدرسين والتلاميذ والطلبة تخريب التعليم وتعطيله، والتمتع بالبطالة السافرة (غداة 1976 طوال الأعمال الثمانية التالية، اقتصر متوسط عدد أيام التدريس في المدارس الرسمية بمناطق السكن الأهلي المسلم على أقل من 50 يوماً من متوسط 150 يوماً تقريباً)، من غير قيد ولا رقيب. وبعضهم، وهم يعدون بالآلاف، سافر الى خارج البلاد، وأقام وتوطن ووطّن أسرته وأولاده وعلّمهم، وفي الأثناء داوم على تقاضي راتبه مباشرة أو بالوكالة وشهراً شهراً أو مضموماً، الى قيامه بعمل آخر. وافتُرض هؤلاء مداومين ومواظبين على الاضطلاع بعملهم. وعندما يقول اليوم أحد ألسنة الرابطة أن 60 في المئة من راتب المدرس الثانوي أدخل في الراتب علاوة زيادة على ساعات العمل (وهي متناقصة)، فهو يفترض في الجمهور غفلة عامة وجهلاً مستحكماً، أو مواطأة وضيعة.

ونصبت الطبقةُ الأهلية الجديدة، المولودة من فساد الحروب الملبننة وأقنعتها المعرّبة، حماية «المستضعفين» و «المحرومين» و «المغبونين» ميزاناً ومعياراً. وحملها ازدراؤها قواعدها الأهلية والعصبية، وجماعاتها المقاتلة والمستسلمة، وازدراءُ هذه القواعد نفسّها واعتيادها دوس كراماتها وإهدارها، على شراء ولاء الأهل بمال «الصناديق» العامة، وبتعويض التهجير، والتوظيف في الإدارات والأسلاك والأجهزة الرسمية. وتولى بعض أقطاب جوقة المؤدّين، الحاكمة بالوكالة، معارضةَ جباية الرسوم والضرائب والاقتطاعات، بذريعة حماية المستهلكين المحرومين، والدعوةَ الآمرة والملحة الى إعادة تقويم الرواتب والمداخيل على عجل، وتولوا إدخال الأفواج المذهبية في الأسلاك الإدارية والمهنية والأمنية (من 7.5 في المئة من «القوى العاملة» الى 14 في المئة)، والتنديد بتعاظم الدين العام وببرامج الإعمار وخطط الخصخصة، وبالتعويل على السلم الإقليمي وثمراته المرجوة - تولوا هذا كله معاً وجميعاً وفي آن. وحين تفترض ألسنة رابطة المعلمين الثانويين أن على الدولة أن تسدد الى اليوم متأخرات حقوق الموظفين عليها، وأنها لم تفِ تسديدها، فإنما هي تحسب أن الدَّين على الدولة لا يسدد إلى اليوم الآخر، وأن الحقوق المكتسبة ينبغي تجديد اكتسابها في انتظار رسو الحال على «نظام جديد»، قذافي أو صدامي أو أسدي أو خميني نجادي. فتتفتح إذ ذاك طاقات الإنسان المعرفية والعرفانية، وثرواته النفطية والغازية الساحلية والبحرية، وتمحو ديونه الظالمة والمجحفة والمهدورة حالاً.

ويؤدي دمج المنازعات الاجتماعية في الحروب الملبننة التي تتعهدها الأحزاب المسلحة «المقاومة» الى إلغاء معايير المفاوضة النقابية والاقتصادية. فما ترمي إليه الجماعات المهنية في إطار الدمج هذا، هو الطعن في موقع الدولة، وفي رعايتها المصالح العامة والمشتركة أولاً. ويتقدم الطعن في موقع الدولة، وفيمن يتولى الحكم شكلاً أو فعلاً، والتشكيك في جدارته بالحكم، تحصيل الزيادة المأمولة وحمايتها في غدٍ قريب. فالمعلمون جزء من أسلاك إدارية ومهنية، ومن «قوى عاملة» وطنية. وتترتب على الزيادة زيادات لاحقة متراكمة تتطاول الى التعويضات والرواتب التقاعدية، والى كلفة الخدمات الصحية والتعليمية. وتتطاول، من وجه آخر ملازم، الى الدين العام وخدمته، وسعر الفائدة على الاستدانة والتسليفات والاستثمار، وعلى الأسعار والاستهلاك.

والإغضاء عن العوامل هذه يفضي الى طريق «أرجنتينية» أو «يونانية» قريبة، من غير موارد الأرجنتين الطبيعية والبشرية، ومن غير حضانة أوروبية. ويبادر المدرسون الثانويون إلى انتهاك أخلاقيات المهنة، ويستقوون بالحقوق على الالتزامات والمصلحة العامة، فيما تعرقل الأحزاب المسلحة وجوقة المؤدين مناقشة الموازنة العامة، وتشن حملة الـ11 بليون دولار الثأرية والرجعية على حكومة رئيس الحكومة السابق، وتهول بحقوق الفلسطينيين المدنية العاجلة، وتخوض معركة حقوق إيران النووية، الى خوض معركة حقوق إيران وسورية «الفلسطينية» غير القابلة للتصرف اللبناني. وتبيِّت معركةَ براءة «حزب الله» في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان وقضية رفيق الحريري. ويدعو زائر بعد الظهر الدمشقي الى ترك الخوض في «سلاح حزب الله الذي لا يزعج الناس». ولكنه يحول دون إرساء علاقات سياسية ووطنية على معايير ثابتة ومتماسكة، على ما ينبغي له. ويحول دون أداء الدولة الوطنية حقوق المواطنين، ودون التزام المواطنين حدود المواطنية.