الأربعاء، 11 يناير 2012

الحزب ـ الدولة الإسلامي يهدم ركن المساواة الديموقراطي

المستقبل - الاحد 8-1- 2012
  
يثير انخراط منظمات وأحزاب كثيرة في الحركات الوطنية المدنية والديموقراطية العربية، تعبئة ثم اقتراعاً وانتخاباً، آمالاً حارة في اعتناق المنظمات والأحزاب "العقيدةَ" الديموقراطية، والإخلاص لها. ويسرع مراقبون وسياسيون الى تشخيص "حقبة ما بعد إسلاموية" أو "وسطية" معتدلة تطوي الحقبة الأصولية أو الجهادية والبنلادنية وربما الخمينية التي غلبت على بعض تيارات الإسلام السياسي منذ ثمانينات القرن العشرين. وهذا التشخيص، ومراقبون وسياسيون آخرون يرونه وهماً وتمنياً، يستقوي ببروز سمات جديدة متفرقة لا عهد للتيارات الأصولية الجهادية بها، وكانت تنكرها هذه التيارات إنكاراً حاداً. ومن السمات البارزة الجديدة تثبيت التخلي عن العنف في العمل السياسي العلني، والاحتكام الى الانتخابات، والاندراج في إطار الحياة السياسية المشتركة والوطنية من غير امتياز الانتساب الى الدين والوصاية عليه، ومن غير ما يستتبع الانتساب والوصاية من إخراج أهل التيارات والجماعات المخالفة من "الدين"، ومن تبديع وتجهيل وتصنيف وترتيب على مراتب. وبعض الحركات الإسلامية يجهر قبوله دولة مدنية تساوي بين الكثرة المسلمة والأقليات غير المسلمة، ولا يرى اشتراطه النص على مرجعية التشريع الإسلامي قيداً أو تمييزاً أو تخصيصاً. وطمأنت منظمات إسلامية، صارت في الأثناء برلمانية وتشترك في الحكم (تونس) أو هي موشكة على الاشتراك (المغرب ومصر)، سواد مواطنيها وأجهزة الحكم والإدارة في بلدانها إلى أنها لا تنوي الرجوع في إباحة السياحة ولباسها ومشروبها وطعامها، ولا في الأعمال المالية المصرفية والتجارية وأعرافها وقوانينها السائرة، ولا تسعى في الهيمنة وحدها على التشريع ومراكز القرار.
وتشمل سياسة الطمأنة المتعمدة والحثيثة أموراً إعلانية أخرى تتفاوت مكانتها ودلالتها، منها العودة عن تبديع "الديموقراطية" (اللفظة والمعنى المفترض) والمدنية، وترجمتها الى العدل والإحسان والكرامة والنهضة والتنمية والعمل والتجمع... ومنها التزام المعاهدات الدولية المعقودة على رغم معارضة المنظمات والتيارات، المعارضة يومها، عقدتها حين عقدتها الأنظمة التي ذهبت بها الحركات المنتصرة، وأبرزها كامب ديفيد، أو (التزام) علاقات الصداقة الاقتصادية والمالية أولاً بالدول الغربية، وهي كانت الى الأمس القريب العدو البعيد و "الاستعمار" الذي حرفت علمانيته الأمة عن طبعها ودينها، وبث في عقول أبنائها السموم، على ما ذهب إليه قبل عقود محمد البهي (المصري) مرهصاً بالتكفير والجهاد القطبيين وفروعهما الإخوانية المضمرة غالباً، والصريحة أحياناً.
وشيئاً فشيئاً، دعت حوادث 2011 المتدافعة واللجبة وانعطافاتها المفاجئة، الحركات والتيارات الإسلامية الى انتخاب عناصر من الديموقراطية يقول الداعية السلفي المصري ياسر برهامي، مستشهداً برنامج حزب النور، أن "آلياتها منضبطة بضوابط الشريعة". وبدا أن احتكام الإسلاميين إخوانيين وسلفيين ووسطيين، مثل حزب الوسط المصري والإخواني القيادة قبل انفصالها الى الاقتراع العام في الاستفتاءات الدستورية وفي الانتخابات النيابية هو لب التسليم الديموقراطي الى اليوم. والحق ان مماشاة الاقتراع والمقترعين شعارات وبرامج المنظمات والتيارات الإسلامية ومصالحها، مثل المرجعية الدستورية والتشريعية أو مثل اختيار غالبية نيابية من صفوفهم، أصاب هذه المنظمات والتيارات، قبل الامتحان الجدي والمرجأ، بما يشبه الحمى "الديموقراطية". ولعل إقرار الإعلان الدستوري (المصري) بثلثي أصوات المقترعين وبلغ هؤلاء فوق الـ40 في المئة من ناخبي اللوائح أي أضعاف متوسط المقترعين في الانتخابات المصرية السابقة كان الإيذان، قبل الانتخابات التونسية وانتصار الليبيين على نظام القذافي وقبل الانتخابات المغربية والانتخابات المصرية نفسها بالأحرى، ببروز العامل الانتخابي مرجحاً حاسماً لكفة الإسلاميين.
وصف الإرادة الشعبية
ويوافق الترجيح نزعة غالبة وملتبسة تحمل الديموقراطية على صورة مؤسساتها وهيئاتها السائرة والمتعارفة، وأولها من غير منازع المؤسسة الانتخابية والاستفتائية. فهي المؤسسة أو الممارسة التي يدعو المجتمع الدولي، الغربي الديموقراطي، الى احترامها ومزاولتها بحسب معايير انتدب إلى مراقبتها اللجان والجمعيات المأذونة. وهذه اجمعت تقريباً على نزاهة الانتخابات التونسية والمغربية والمرحلتين الأوليين من الانتخابات المصرية. وأشادت من غير تحفظ بالإقبال الطوعي والتلقائي العريض على إدلاء المقترعين بأصواتهم. وفي المشادة المصرية على المبادئ الدستورية ("الحاكمة الدستور")، بعد الإعلان الدستوري الذي اقتصر على إقرار المادة الثانية (المرجعية التشريعية) وعلى تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية "الهمايونية" السابقة، وفي الخلاف على اللجنة التأسيسية لصياغة الدستور، بعد الفراغ من مراحل الانتخابات الثلاث، ومشاطرة اللجنة الإستشارية (قبل الاستقالات) وتصريحات ألوية المجلس الأعلى للقوات المسلحة صلاحياتها المزمعة، في هذا كله تتمسك فرق الإسلاميين المصريين بحاكمية الاقتراع الشعبي، ومرجعيته الحاسمة، وديموقراطيته في المطاف الأخير.
وحجتها الدامغة هي ان الشعب هو صاحب الكلمة الفصل في الديموقراطية ومؤسستها الانتخابية والاستفتائية. والديموقراطية، تعريفاً وبديهة، على ما يقول الإسلاميون العرب اليوم في أعقاب كثر سبقوهم، هي النظام الذي يدلي فيه الشعب المتحرر من الرقابة البوليسية والإكراه الأمني والمنفعي، برأيه ويعلن إرادته. فوظيفة المؤسسة النيابية المنتخبة هي وصف الإرادة الشعبية، وتصويرها أو التعبير عنها، وتجسيدها تالياً. وفي صدد الإعلان الدستوري المصري، يرى الإسلاميون أن "الشعب" حسم مسألة المبادئ الحاكمة حين أقرت كثرة شعبية راجحة وموصوفة، تفوق الثلثين، المرجعية التشريعية.
وكان أحد وجوه جبهة الإنقاذ الإسلامية الجزائرية، علي بلحاج، ندد بحمل الاقتراع الشعبي على الكلمة الفصل في الشأن التشريعي والسياسي، في 1991، غداة انتصار الجبهة في الانتخابات البلدية والمحلية (في 1990) ثم في الانتخابات النيابية (في أواخر 1991). وقال: إذا اقترع الشعب على خلاف شريعة الله عد هذا كفراً، ويجب قتل الكفار الذين يريدون إحلال سلطتهم محل سلطة الله تعالى. وآذن هذا "الرأي"، وهو نهج سياسي، بالحرب الأهلية التي قُتل فيها ما بين 150 ألفاً الى 200 ألف جزائري. ويشرح الداعية السلفي المصري ياسر برهامي ما يترتب على ضبط ديموقراطية السلفيين (وحدهم؟) بضوابط الشريعة، فيقول: "إن السلفيين لا يقبلون الحكم لغير الله". وكان هذا ما ذهب إليه سيد قطب، الإخواني في وقت أول، على خطى المودودي ملهمه الباكستاني وملهم عدد من الحركات الجهادية التالية، السنية والشيعية. ويعود بعضها، في مصر نفسها، في حلة قد لا يصح القول في معظم عناصرها أنها جديدة (ما عدا إعلان نوايا بترك العنف في الدعوة العامة).
الناخب الديموقراطي
وفيما يتعدى المواطأة القائمة بين الإرادة الشعبية على صورتها وصفتها الانتخابية، وبين نهج الإسلاميين العرب المعلن غداة سقوط عدد من الطغاة المستميتين، ينهض الرأي الإخواني الغالب، والسلفي المتحفظ، في الديموقراطية ومؤسستها الانتخابية، على التباسات كثيرة. وإذا صدق حمل الاقتراع الشعبي العام على ركن المؤسسة النيابية، وعلى قرينة لا جدال في وصفها إرادة المقترعين وتكليفهم من يكلفون وينتدبون الى تسيير شؤونهم، وجب التدقيق في صيغة وصف الانتخابات الإرادة الشعبية، ومعنى هذا الوصف. فالناخبون المقترعون في انتخابات عامة ونيابية "كيانات" أو وحدات مجردة تختصرها العملية الانتخابية أو الاستفتائية في صوت أو اقتراع، أي في اختيار وترجيح. وعلى هذا فليس الناخب "الديموقراطي"، إذا صح جمع الموصوف والصفة، المرء المقترعَ كله، بمتعلقاته الاجتماعية ومنازعه ومعتقداته الدينية وأحكامه الأخلاقية والذوقية والجمالية وروابطه المهنية ومؤهلاته التربوية والعلمية وأواصره العصبية والنسبية وغيرها. والدليل على هذا هو ان الصوت الانتخابي أو الاستفتائي يقتصر في الصندوقة والاحتساب على العدد أو الرقم. وفي وحدة الصوت أو الورقة تتبدد الفروق المُعْلِمة كلها: الجنس والسن والنسب والعمر والمهنة والدخل والعلم والعقل والقلب والمكانة. وتستوي كلها على كعب واحد، ومستوى واحد.
والانتزاع من المتعلقات الفعلية والاخترال في وحدة إحصائية أو عددية هما في صلب العملية السياسية الديموقراطية، وليسا عرضاً نافلاً. فمن يُدعون الى اختيار من ينوب عنهم في التشريع ومراقبة التنفيذ في إطار قانون أساسي، ينص في الديموقراطيات على استقلال القضاء والفصل بين السلطات ويكفل حقوق المواطنين وحرياتهم ولا يجرم منازعاتهم وانقساماتهم...، يُفترضون مواطنين يجمع بينهم القانون الأساسي على اختلاف أحوالهم وأهوائهم ومصالحهم. وهذا الافتراض يخالف مخالفة صريحة حقيقة تفرق الأحوال والأهواء والمصالح. فهو يستبدل الروابط والأواصر الفعلية والقائمة برابطة صناعية وإرادية متخيلة أو متوهمة، هي رابطة المواطنة (المواطنية) الدستورية. وإثبات يورغين هابيرماز "وطنية دستورية" لا يخلو من المخالفة أو المفارقة: فالمذهب الدستوري، على الصورة التي دعا إليها راولز، يسدل ستارة أو حجاباً أسود (صفيقاً) على هوية الجماعات القائمة "خارج" الدستور. فكأن المواطنين الناخبين، ولا ينتخب غير المواطنين بديهة، خرجوا على علائقهم الأخرى، الدموية والاعتقادية والتقليدية... كلها، وانقطعوا منها وقطعوها، وانفكوا من جماعاتهم "الطبيعية" وأطر حياتهم، واقتصروا على الكيان الذاتي والفرد (أو المفرد) الذي يجمعهم الى أمثالهم، وهم كيانات ذاتية ومفردة كذلك.
ووصف العملية الانتخابية والاقتراعية على هذا النحو يجلو افتعالها وتجريدها ومفارقتها الحادة. وهو يجلو كذلك انقطاع القصد الديموقراطي من أشكال السياسة التاريخية المعروفة والسابقة. وحملت جدة القصد الديموقراطي وغرابتها الديموقراطيين الفرنسيين الأوائل إبان الثورة "الكبرى" على اقتراح حظر الاقتراع على الخدم في بيوت الميسورين ورهبان الجمعيات الكهنوتية. فالخدم والرهبان تابعون وغير مستقلين بآرائهم وإرادتهم، وهم عالة في معاشهم ومعتقدهم على مخدوميهم وأسلاكهم. ودعا هذا السلطة الثورية، في 1793 (قانون لوشابيلييه)، الى حل طوائف الحرف والأصناف والنقابات. وحملت السلطة الجديدة روابط الصناع و "الخلان"، على ما كان يسمى أعضاء النقابات العاملون، على تضامن طبيعي أو فطري يتوارثه اصحاب الحرف على اختلاف مراتبهم وطبقاتهم.
وهذا، أي الروابط الطبيعية أو الفطرية التي تسبق التطبع والاكتساب والاستقلال بالنفس والرأي والقيام بالمعاش وحاجاته (على ما اشترط في وقت أول من تاريخ العملية الانتخابية الاقتراع الضريبي الذي رهن الحق في الاقتراع بتسديد مبلغ من الضريبة على العائد)، هو ما يرمي الاقتراع، والمؤسسة الانتخابية والنيابية من بعد، الى تعليقه في الوقت الانتخابي والمواطني المصطنع الذي تنشأ عنه جماعة المواطنين في اللحظة الانتخابية الخاطفة والمتوارية. وعليه، فالقول ان الانتخابات الحرة، في إشراف القضاء النزيه وإطار الضوابط القانونية، هي مرآة المجتمع وجماعاته وصورة هذه وذاك، على ما يردد الإخوانيون العرب وفروعهم وأصولهم منذ قيام الحركات المدنية والديموقراطية وسريانها في الهشيم الاستبدادي العسكري والعصبي، هذا القول يخالف القصد الديموقراطي ومنطقه ومحركه.
الأفراد والمساواة
فمحرّك الثورة الديموقراطية، وهي ثورة على "النظام القديم" وتفاوت مراتبه الثابتة وتوزيعه الحقوق على أهل المراتب والجماعات والبلدان وتوريثه إياها وقسمتها منذ الولادة، محركها هو هوى المساواة، على قول توكفيل. والمساواة الديموقراطية ليست الأسوة "العادلة" والمنصفة، بل النازع إلى فك العلاقة السببية بين الأحوال الأولى، حين الولادة، وبين مصائر الأفراد التالية وأفعالهم وعوائد هذه الأفعال في دوائر السعي المتفرقة. ويقتضي فك العلاقة هذا استخراج الأفراد من اجسام الجماعات، أو تذرير الجماعات ذرات وأفراداً وآحاداً، ونصب الفرد صاحب حق ("ذاتاً حقوقياً") مساوياً لأصحاب حق وأقران على حدٍ واحد، بقطع النظر عن متعلقاته المتوارثة، ومكانة عاقلته وجماعته، وموارده. واستخراج الأفراد ليس معناه الإماطة عن كيانهم الفردي الكامن في ثنايا الجماعات، والمتحفز للخروج أو التجلي في جهازه الكامل. فاستخراجهم هو إنشاؤهم وإيجابهم إنشاءً وإيجاباً دؤوبين وعسيرين وعنيفين. وما يتصور في البديهة أو الثقافة الديموقراطية المعاصرة والمعولمة، في أعقاب نحو ثلاثة قرون من المسير العنيد، في صورة عملية تلقائية وطوعية تسلِّم بحقوق لا تزعم أشرس الأنظمة إنكارها مبدئياً هو ثمرة انقلابات وثورات تاريخية، حقوقية وإنتاجية وعلمية، تتوالى فصولاً وتتجدد لا إلى ختام أو نهاية. (ولعل من مفارقاتها جمعها بين حمل التاريخ على صنيع ينجز ويبلغ تمامه، وليس على أقدار ومصائر تقسم فيمن يتولونها، وبين بث فكرة المرسل، أو ما لا حد ينتهي إليه، في الزمن الكوني ثم في الزمن الإنساني).
والثورة الديموقراطية تحت لواء المساواة في الأحوال والشرائط نزعت، منذ بداياتها الأوروبية، الى إنكار «حقيقة» الفروق الاجتماعية والسياسية التي تقوم بها مجتمعات المراتب وتنهض عليها جماعاتها. وما بلغته هذه الثورة اليوم في ميادين وحقول مثل حقوق النساء والأولاد والمرضى والمثليين والحيوان والطبيعة والشواهد هذه يجمع بينها ويميزها تأخر حركاتها ومنظماتها وقتاً وزمناً، وملابستها الطبائع و «الطبيعة» على انحاء متفرقة قرينة على مخزون نازع المساواة الديموقراطي، وعلى ضربه صفحاً عن نتوءات الأبنية الراسخة، والفروق المتعارَفة من غير ريب ولا تشكك: فالأنثى غير الذكر طبعاً وشكلاً ومعنى، والولد قاصر والوصاية عليه حق للوالدين، والمثليون شاذون عن الطبع السوي، والطبيعة مادة للبشر... ويصدر نازع المساواة الديموقراطي عن سائقين أو أصلين يلازمانه هما سائقَيْن تمهيد دوائر السعي الإنساني وإحالتها كلها الى مادة اجتماعية لا تعصى الإعمال والفعل ولا يحصنها قصد أو إيجاب سابق ومفارق، وسائق توسع امبريالي يقود نازع المساواة الديموقراطي الى الانقلاب أو الانتقال مثل العدوى من دائرة من دوائر السعي الى دائرة أخرى قريبة او بعيدة.
ولا تستقيم هذه الحال، على وجهيها، إلا من طريق إقرار الفصل بين الدولة وسلطانها المتخلف عن إرادات المواطنين الناخبين وبين المجتمع المسمى مدنياً، كناية عن اشتراكه أو اشتراك افراده في السعي في حاجات معاشهم الدنيوي والزمني من غير معوقات أو ضوابط غير تلك المتأتية من عوائد هذا السعي والحؤول دون انكماشها أو ترديها (على خلاف «قانون» العوائد القصوى المقارنة)، أولاً، وكناية، ثانياً، عن تمييز الحياة العامة، السياسية والعلنية، من الحياة الخاصة ودوائرها المعاشية الحياتية والتناسلية والاعتقادية والأخلاقية والحميمة والذوقية. ورفد مذهب الحق الطبيعي، الفردي، ونصبُه الأفراد المستقلين بمِلكهم ودارهم وحصانتهم واعتقادهم آحاداً، ومرجعاً وميزاناً، الفصل بين الدولة وبين المجتمع. فضمن الحقُ الطبيعي وهو حق ينازع السلطان، صدر عن المُلك المطلق أم عن الجمهورية قيامَ المجتمع بإزاء السلطان، ومنازعته في التزامه العقد الذي لا طاعة حرة إلا بالتقيد به، وإلا حل القيام على السلطان، وجاز عزله. ولم تلغِ الديموقراطية ولا الأنظمة الجمهورية أو الملكية الدستورية والمقيدة هذا الفصل أو التمييز، على رغم استحالة إرسائهما على ركن مكين وجلي. ولكن افتراض المواطن الحر والمتعاقد والند المتساوي، وهو ركن الديموقراطية ومفتاح بنيانها وراعي «ابتكارها»، لا يستقيم من غير ازدواج الإنسان الديموقراطي: مواطناً عاماً وصاحب حاجات ومصالح ساعياً في هذه وتلك.
والحق ان الفصل والتمييز هذين ينقضان ركن «النظام القديم» المرتبي «الإقطاعي» والملكي المطلق. فالسلطان يعود في «النظام القديم» الى طبقة، هي مرتبة مغلقة مبدئياً ونظرياً، تجمع في آن السلطان (الحكم) والقوة (المسلحة) ومِلك عامل الإنتاج الأول (الأرض والعاملين فيها في وقت أول) أو التصرف فيه. وعلى هذا، فهي طبقة اجتماعية وسياسية معاً. ولا فصل بين تربعها في سدة الحكم، وقيادتها القوة المسلحة، وبين توارثها حقوق المِلك والكلمة الفصل في العوائد وتوزيعها. والثورات الديموقراطية على الأنظمة القديمة، المرتبية، لا تصدق تسميتها أو نعتها بالبورجوازية إلا على سبيل التورية والمجاز. فلو كانت بورجوازية، أو اجتماعية وطبقية، على معنى دقيق، لأحلت دولتها المرتبية، أو طائفتها (على المعنى الحرفي) وصنفها، محل الدولة القديمة. ولبدت أركان الدولة الديموقراطية، المواطنة والمساواة والولاية والحق الطبيعي والانتخابات والحريات والفصل بين السلطات، نافلة على صعيد الإجراء وعلى صعيد الخطابة أو الإيديولوجيّة.
وأخذُ الماركسيين وشطر من الحركات الاجتماعية الراديكالية بهذا الرأي أو المقالة، وحملُهم الدولة الديموقراطية عموماً، على دولة طبقية بورجوازية مقنعة أو سافرة أو أوليغارشية، قادهم، ويقود أمثالهم، إلى نفي السياسة والتدبير والفعل السياسيين، وترجيح كفة الاستيلاء على السلطان واحتكار السلطة، وطلب بسطها من غير معوق أو حاجز على المجتمع، وإنكار حق المنازعة (بإزاء الدولة) على المجتمع كلاً وأجزاءً أو قطاعات وعندما استقلت حركات شيوعية بسياستها، فأنشأت حزبها الثوري وطليعتها «العمالية» المحترفة، أو «أميرها» الحديث نصبت فوق المجتمع مرتبة آمرة ومستبدة، وسعت في ابتلاع المجتمع وتحطيم قواه، وأنكرت على القوى الاجتماعية معارضتها ومقاومتها.
تقدمية وحداثة عصبيتان
وبعض القرينة أو الحجة على حقيقة ما تقدم للتو هو أحوال أنظمة الحكم العربية في النصف الثاني من القرن العشرين، وما آلت إليه منذ بعض الوقت، وقبيل القيام عليها أو على معظمها في العام الموشك على الانصرام. فالتوريث، واحتكار مقاليد القوة والإدارة والموارد في «عصبية»، وعموم الفساد والتواطؤ عليه، والحجر على الانتخابات والاقتراع الحر وتداول المعلومات، وتسلط الحكم على المجتمع، وتربع جزء من المجتمع (الطائفي والطبقي والسلكي والبلدي) في قمة الحكم وبقاء الجزء على صفته الجزئية هذه الإواليات أو العمليات، وليس السمات وحسب، انتهت الأنظمة العصبية والبيروقراطية العربية إليها، على رغم اختلاف قوي بين مجتمعاتها، من طريق إنشاء وتثبيت بنية مرتبية وصنفية لمجتمع الدولة، والنقض أو الحجر على نازع المساواة الفردي والحقوقي، وفصل الدولة من المجتمع وتمييز المجتمع من الدولة، على المعنى الذي تقدم. فالتقدمية والحداثة المزعومتان اقتصرتا على شجب المراتب والجماعات العصبية «القديمة» أو السابقة وغلقها دوائر السلطة والقوة والإدارة والموارد على أهل المراتب والجماعات الدنيا أو الضعيفة وهي دنيا أو ضعيفة بحسب نظام المراتب السابق أو «القديم»، الأهلي العصبي. فهما تقدمية وحداثة غير ديموقراطيتين، ومناهضتان شديدتان ولئيمتان للديموقراطية وهواها ونازعها الى المساواة.
ويستعيد وصف الانتخابات الإرادة الشعبية، وتصويرها الحصص أو الكتل الاجتماعية (عامل، فلاح، فئات...) أو الكتل المذهبية والعقدية (من عقيدة او عقائد) المقنعة بأسماء «بيضاء» لا تحجب ملمحاً ولا سمة، يستعيد الوصف بنية مرتبية وصنفية ترعى الفروق التي يودي بها نازع المساواة الديموقراطي، وتجددها على اركان إسلامية أو فقهية. والنازع المرتبي ليس جديداً ولا طارئاً على حركات الإسلام السياسي المعاصرة (ولا على الحركات الصوفية، ولا على بعض الفرق). فدعوة صاحب جمعية الإخوان المسلمين الأول، حسن البنا («الشيخ» أو «الإمام»)، وسَّطت بين الأمة الإسلامية الناجزة أو فكرتها وبين المسلمين وأحوالهم السائرة والغالبة اليوم، حين نشأة الدعوة في بلدانها وأوقاتها، طبقة «الإخوان» الدعاة، خميرة الانقلاب من هؤلاء وأحوالهم إلى تلك وفكرتها. و»الإخوان»، وهم على وجه الدقة إخوانيون نسبةً وتثنية واختصاصاً مفارقاً، جماعة أو مرتبة تريد الجمع بين صفتها المرتبية وبين الاستواء في السلطة من طريق الدعوة والمجادلة والمَثَل الحسن وهيئات التعاون والتراحم والمؤاخاة، وبواسطة الانتخابات النيابية أو من طريق الاستيلاء والوثوب والحرب على ما ذهبت إليه جماعات «متطرفة» أو طرفية. ولم يشتط بعض أعلام السلفيين المصريين، راغب السرجاني ومحمد اسماعيل المقدم وأحمد النقيب حين أثبتوا وجوه الشبه بين الإخوانيين والسلفيين المعاصرين وبين «مدرسة الرأي والاجتهاد» (وهؤلاء هم إخوانيو عصور الخلافة) و «مدرسة أهل الحديث» (وهؤلاء هم سلفيوها).
وإرساء أبنية السلطان السياسية على أجسام أو أسلاك وظيفية، والتسليم بلحمة هذه الأجسام على المثال المرتبي والجمعي (والأدق: الجميعي على خلاف الفردي)، يقود لا محالة الى تحجير المجتمع والدولة على مراتب، وإلى تخصيص بعض المراتب الاجتماعية أو الأهلية هذه بـ «وظيفة» السلطة والحكم، أو بـ «وظيفة» السلاح، أو بالعمل و»الحرث» والطاعة. والمثال الإيراني الخميني، وفروعه، قريب وجلي. فتولية فقيه «عادل« الولاية على أجهزة السلطة والإدارة، وعلى المؤمنين ورعيتهم، وتصديه لإمامتهم في أحكام دمائهم وأموالهم وذراريهم إلى معتقدهم، انتهى الى تسليط المجالس (الخبراء، التشخيص، الأمن القومي...) المنتخبة على مرتبتين، على غرار مجلس الشيوخ المحافظ تعريفاً في بعض الأنظمة الديموقراطية، أو غير المنتخبة، على الهيئات المنتخبة، وإلحاقها جميعاً بـ «مرشد» يجسد وحده كيان الأمة. وانتهى الى استباق الانتخابات الشوروية والبلدية والمحلية، واطراح من لا يؤاتي رأيه أو هواه سياسة المرشد والأجهزة التي تحوطه وتمتنع من أي مراقبة أو ملاحظة أو حسبة.
وانتصبت أجهزة القوة والأمن والقضاء حارساً على باب «الخليفة الإمام»، وبلورت بدورها أسلاكاً وأجساماً متماسكة وقائمة بنفسها وحاجاتها ومصالحها. ويقتصر دور الولي منذ وفاة الولي الأول على ضمانها ودوامها وربما التحكيم في خلافات أصحابها. فلا يشبكها بعضها ببعض إلا ولاؤها المفترض لولي أمرٍ مهيمن على أحد مصدري مشروعيته، وهو أقرانه ومبايعوه، فيما المصدر الآخر، «الإلهي»، كوكب لا يبلغ نوره الأرض إلا بعد مليارات السنين الضوئية.
والفرع الحزب اللهي والحرسي للولي الإيراني الإمامي حصحص على المثال المرتبي نفسه. فأنشأ خارج أبنية الدولة والمجتمع اللبنانيين ولاية أهلية مسلحة تتقاسم، لفظياً، مع الدولة الوطنية «الجامعة» السيادة على الشعب والأرض، وتبت في شؤون الحكم والإدارة وأجهزتهما، ويعود إليها إعلان حال الطوارئ (حقيقة ومجازاً) وتمييز الصديق من العدو، في الداخل والخارج معاً وعلى وجه واحد. وهما، الاعلان والتمييز، القرينة على مناط السلطان وصاحبه وجسده. وفي الاثناء، يخوض «الحزب» المزعوم الانتخابات النيابية والبلدية والنقابية، ويتولى «المراقبة«، وهي حراسة وخبرة وتشخيص (على أسماء المجالس في النظام الخميني الايراني)، على اختيار النواب الجهاز الوزاري التنفيذي، وعلى (بعض) القضاء، و(بعض) الادارة، و(معظم) الديبلوماسية، ويخرّب التعليم والاقتصاد (على قدر الاستطاعة). والركن في «الدستور» الفعلي هذا هو تسلط شطر من المجتمع، متماسك وملتحم بلحمته الأهلية، على الدولة وجماعاتها، بالسلاح هذه المرة، ولكن الانتخابات التمثيلية أو التصويرية قد تكون آلة تسلط الحزب الدولة في مرات أخرى. ونظام المراتب، «الاسلامي» أو «العلماني» (في صيغته الأسدية السورية)، يتيح على الدوام تفريع شطر من السكان او الرعية فيضطلع بدور الجماعات المتفلتة والرثة، الخارجة على القانون (شأن «القيادة» نفسها أو أجهزة الحكم القانونية والدستورية، ولكن على وجه عملي مختلف) رسمياً، إذا جازت العبارة. و»عصائب أهل الحق» و»كتائب اليوم الموعود» و»جيش المهدي»، والجماعات المسلحة العراقية هذه «تأتمر» بمرجعها العاجل أو الآجل، السيد مقتدى الصدر ومن ورائه السيد الشهرودي.
والمقارنات هذه بفروع الإخوانيين المصريين والتونسيين والمغربيين... ليست افتئاتاً عليهم ولا تخرصاً أو استباقاً أو كهانة. فجمعهم بين مفهومهم عن حزبهم ومفهومهم عن الدولة ومرجعيتها التشريعية، وبين دمجهم الاقتراع والتجسيد الكياني في واحد، تترتب عليه نتائج. فهو يقود أصحابه الى نصب أبنية الحزب الدولة، وسيطرة الدولة على المجتمع من طريق تثبيت الفروق والتفاوت بين الإخوانيين المهديين وبين المنافقين، وبين عامة المسلمين وبين الذميين، وبين النساء وبين الرجال... فتنبعث «الخلافة السادسة» على قول حمادي الجبالي، رئيس الوزراء التونسي المكلف وركن «النهضة»، غداة فوز حزبه بنحو 30 في المئة من أصوات التونسيين. فتدور النزاعات السياسية والاجتماعية على اللحمات العصبية، وتقوي تماسكها، وترجح كفتها على كفة التكتلات التعاقدية المرنة والمتجددة والمتغيرة. ولا ريب في أن إنزال العلاقة بـ»الغرب» منزلة الضدية الجهادية والمميتة، بإزاء «صليبيين ويهود» مفترضين وأبديين، يضمر الحربَ الحضارية أفقاً سياسياً وتاريخياً «أخيراً»، ويسوغ إرهاب الدولة الاهلي والخارجي وانكفاءها على عصبياتها.
وسبق أن أراد أنطونيو غرامشي، أحد مؤسسي الحزب الشيوعي الايطالي، تأصيل صيغة الحزب اللينيني في التراث السياسي الاوروبي والإيطالي، فدعا إلى حمل الحزب على «الامير الحديث»، كناية عن استحواذ القوة السياسية المرصوصة والمتماسكة على الدولة باسم مجتمع مدني يسوس نفسه بنفسه، ويقوم الحزب منه مقام الوسيط والعبارة والعقل. ونبه «ماكيافيليون» معاصرون الى خلط غرامشي اللينيني في هذا المعرض بين تولي الأمير ضبط الطبقات الحاكمة، وتقييد تنافسها، والحؤول دون تعصيب العامة واقتتالها المزمن، وبين استقلال المجتمع (العامّة) بنفسه والمحاماة عنها من ظلم الأسياد المتناحرين. واليوم، قد ينزع إسلاميون متجددون إلى إقامة «خليفة جديد»، هو «الحزب الإسلامي»، محل الدولة. وعدتهم انتخابات وصفية تمثيلية تكتل الناخبين جماعات وأهلاً ومدارس، وترتبهم على مراتبهم الطبيعية