الأربعاء، 22 يونيو 2011

ما وراء العبث بالإعلام وتضليله... تبديد الواقع وسد ذرائعه

في مدوناتِ أو مرويات تنازعِ الحكّام والمحكومين على رواية وقائع أو حقائق تدور على ما يفعله الحكام في المحكومين، واقعتان قريبتان وفريدتان هما معسكرات الاعتقال السوفياتية ("الغولاغ" منذ "تقصي" ألكسندر سولجنتسين الكبير والمستفيض في 1974) ومعسكرات الإبادة الألمانية النازية. وأودت الأولى بين 1918، غداة محاولة اغتيال لينين، و1953، غداة موت ستالين والإقلاع عن سياسة الاعتقال الجماعي، بنحو 15 مليون "سوفياتي". ولا يحتسب في هؤلاء من قضوا في المجاعات والتهجير القسري والانتفاضات الكثيرة التي لابست سياسة "بناء القواعد المادية للاشتراكية" ونجمت عنها. وقتلت الثانية 6 ملايين من يهود أوروبا، و300 الى 400 ألف من الغجر الرحل وربما 200 ألف من المرضى المزمنين والمصابين بعلل وراثية. وكانت معسكرات الاعتقال السوفياتية شبكة أمنية وإدارية "قضائية" وإنتاجية ومعنوية عظيمة، ومرفقاً معروفاً من مرافق "دولة العمال والفلاحين" وديكتاتوريتهم الديموقراطية، قبل ان توقَف الديكتاتورية على البروليتاريا حدها وصاحبة الحق الصراح فيها. وخصت القيادة النازية شبكة معسكرات الإبادة، اليهودية في المرتبة الأولى، عشية 1942 وتلية شنها الحرب الهائلة على الأراضي الروسية في تموز 1941 وتعثر هذه الحرب مع تبكير الخريف البارد بالقدوم، خصتها بموارد غزيرة وباهظة، وخلف حجبها عن الجبهات المنتشرة بنواحي أوروبا وأفريقيا وبحار الأرض خللاً ظاهراً أصاب مسارح البلقان وجنوب أوروبا وشمال افريقيا.

ولم تحل الآثار الفادحة في الناس والحوادث والمرافق بين أهل الحكم والقوة، ووكالاتهم السياسية والدعاوية جزء منهم، وبين إنكار هؤلاء، "واقعة" المعسكرات من أصلها، ونفي حقيقتها وحصولها. وبعض الإنكار لا يزال الى اليوم سائراً، ومن ثمراته "رسالة" روجيه غارودي قبل عقد وبعض العقد. وحين هرب مهندس روسي الى "الغرب" الأميركي في 1949، وكتب "اخترت الحرية"، وروى بعض الوقائع الأمنية والاجتماعية والمعيشية السوفياتية، ندد جهاز الحزب الشيوعي الفرنسي الصحافي و "الإيديولوجي" بكاتب الشهادة، ونسبها الى الكذب المتعمد والصريح. وحملها على حرب الاستخبارات الأميركية، وحمل مصدقيها على عملاء مأجورين ومختلقين. ومن لم تحسم المعتقلات النهمة والأكولة سنيّ حياتهم، وكانت لهم حياةٌ بعد المعسكرات وأعوامها الطويلة أو "القصيرة"، بعضهم تستر على هذا الشطر "المعيب" (على ما ترى الأجهزة وقد يتابع الناس الأجهزة على رأيها بعض الوقت) من حياتهم. ولم يزح الستر عنه لا في السيرة العامة التي اضطر المعتقل السابق الى كتابتها، ولا في السيرة الخاصة التي أسرَّ بها إلى أخص خواصه، على ما روى المؤرخ البريطاني اورلاندو فيغز في عمله "الهامسون" (كناية عن تعمّد المعتقلين السابقين إغفال حوادث حياتهم وإذا رووها عمدوا الى الهمس أو الوشوشة).

من "كُتبت" لهم حياة بعد معتقلات "العمل" السوفياتية، ومعسكرات الإبادة، وخرجوا منها ظلالاً رمادية وأطيافاً مغبرة، قال بعضهم – من كتب منهم أو من كلَّم أهله وأصدقاءه – انهم استَبَقوا تكذيب روايتهم وخبرهم والتشكك المتوقعين فيهما، وآثروا الصمت. وبعضهم أقام على تشككه في حقيقة ما رأى وعانى وخَبِر الى أن قضى ومات. وهذا قرينة على تجديد المعتقلات الجماعية، السوفياتية والنازية، واقعة الاعتقال الجماعي، وبنية المعتقلات ودورها الاجتماعي والسياسي، الى دورها العسكري والأمني الذي تحدرت ربما منه. فهي مثّلت على صنع بشرية جديدة لا تستبقي من البشرية الإنسانية المعروفة من قبل، وقوامها التعارف، إلا صفتها الحيوانية أو البيولوجية. وهذا ما تعاقب على قوله بريموليفي الإيطالي ("أيكون هذا إنساناً") وروبير آنتيلم الفرنسي ("النوع البشري") ويوليوس مارغولين البيلاروسي – الفلسطيني ("رحلة في بلاد الزيكا" أو "الحال غير الإنسانية"). وكلهم كتبوا قبل 1950، وحالَ العتقِ من المعتقلات الألمانية والروسية.

والسمة المبتكرة التي تستوقف في هذا المعرض، وهي وجه من تجديد المعتقلات الجماهيرية والجماعية على النحو الكلياني الشمولي (أو التوتاليتاري)، وابتكارها ما لم تُسبق إليه، هذه السمة هي استباق الخبر عن حادثة الاعتقال والمعتقلات، وإبطال هذا الخبر وإنكاره، على رغم تناوله عشرات الآلاف من الناس في وقت واحد قصير، والطعن في صدقه، وفي جواز ما يخبر عنه وحقيقته. فإذا خرج حياً من دَخَلَ الليل البهيم والأليل هذا، وأراد وصف ابتلاءه وابتلاء إخوة شقائه الفظيع، ألفى الجلادين وأصحابَ "نظام التجميع" والاعتقال قد سبقوا وصفه وروايته قبل ان يتصدى لهما، ويهمَّ بهما. وكذبوهما التكذيب الذي يَفترض ألا تقوم قائمة من بعد لرواية أو وصف يتناولان وقائع الاعتقال في معتقلات "العمل" السوفياتية والإبادة النازية الألمانية.

الاختلاط والتكذيب

ولا يتوسل التكذيب والإنكار المضمون بردٍ أو مناقشة أو تعليل حوادث يُقر بها تعليلاً مخالفاً. فالتكذيب والإنكار، في هذه الحال، هما في صلب الحوادث وكيانها. وهي من مادة تعصى التصديق، وتستدرج الإنكار والتكذيب من تلقاء نفسها، إذا جاز الكلام على "نفس". فمعسكرات الاعتقال الجماعية السوفياتية نشأت عن "روافد" وجماعات وحوادث ومنازعات وتشريعات وإدارات، أحصى بعضها ألكسندر سولجنتسين في أوائل العقد الثامن من القرن الماضي، وهذه "الروافد" يستحيل على المراقب جمعها أو ضمها في باب واحد او مؤسسة مشتركة. فما القاسم الذي قد يشترك فيه معتقلون جرموا في محاولة اغتيال لينين غداة انتصار البلاشفة على خصومهم وحلفائهم، ومحازبون شيوعيون تربعوا الى أمس قريب في سدة القيادة وشاركوا لينين نفسه الإعداد للانقلاب الثوري، وبعضهم شايعه من غير تردد، وبعض ثانٍ تحفّظ عن آرائه وأفعاله، وبعض ثالث ناوأه قبل أن يماشيه؟ وإلى هؤلاء وأولئك ضُمت جماعات متنافرة من المجرمين والجانحين "العاديين"، ومن "الطبقات" الغالبة والمسيطرة السابقة، ومن أقوام يُظن في أبنيتهم الاجتماعية ومعتقداتهم نازع الى مقاومة السيطرة الجديدة ومعاندتها ومواطأة أعدائها...

فاختلط "السياسي" بالمعتقد والمعاش والاجتماع والرأي والجنوح والجريمة والأخلاق والقرابة والهندام والمشاعر المعلنة والمفترضة ومقاصد القيادة الحزبية ومراتبها، اختلاطاً يعصى تمييزُ عناصره ومكوناته العقلَ العادي والخارق معاً. ومثَّلت السجون والمعتقلات، المتفرقة في أنحاء أوسع بلدان الأرض مساحة، والموحدة تدريجاً في إدارة بيروقراطية وأمنية متماسكة (اجتمعت "لفظة" "غولاغ" من أحرف كلماتها الأولى ومعناها الإدارة المركزية للمعتقلات) مثَّلت على وحدة قسرية واعتباطية. ولا قوام للوحدة هذه خارج سياسات القيادة الحزبية الحاكمة وفرماناتها الأمنية وغير الأمنية، فلم ينتبه أحد عملياً، لا عامة الناس، ولا المعتقلون أنفسهم، ولا المحازبون، ولا القياديون في المراتب المتوسطة ومعظم دوائر القيادة العليا، ولا "مسؤولو" الأجهزة الأمنية، الى ولادة أرخبيل المعتقلات المنتشرة خفية في طول عموم الروسيا وعرض أحزمة فتوحها. وبالأحرى ألا ينتبه أحد الى تبلور معنى متواطئ أو دور متضافر ومتماسك مقصود.

فإذا أنجز البناء العظيم والعبثي، على ما لاحظ خروتشوف على بعض ثمراته الكهربائية والمائية الضخمة غير المجدية، حال الستار الحديدي الداخلي، المصنوع من خوف وصمت وعزلة واضطراب وإجماع قسري، بين قدامى المعتقلين والمسجونين الناجين من الموت الجسدي والمعنوي وبين الكلام والإخبار. ويروي يوليوس مارغولين، البيلاروسي المولد والروسي اللغة الأم ولغة الكتابة، أن عدداً من معتقلي المعتقلات الجماعية لا يغادرون المعتقلات فعلاً حين انقضاء "محكوميتهم". فبعضهم يبقى في المعتقل، أو في أحد المعتقلات، موظفاً أو عاملاً إدارياً يتولى عملاً كان يقوم به منذ بعض الوقت وهو مسجون. وبعضهم يخرج من المعتقل الى جواره القريب، ويختاره منزلاً، وهو على يقين من خسارته المنزل السابق، وأهله وأسرته وعلاقاته. وبعض ثالث يثبته الجنون أو "ذهاب" العقل، في معتقله. وينتحر عدد كبير، قياساً على نظيرهم خارج المعتقلات، ويسدل موتهم الصمت على فظائع لا تصدق.

وهؤلاء، على تفرقهم، وأحوالهم الكثيرة والمختلفة، مصادر أو روافد صمت ثقيل وعميم يطبق على المعتقلات، وقارتها المترامية الأطراف، وعلى أهليها، وتجاربهم وأخبارهم. وينيخ الصمت، ومعه الإغفال، على ركن من أركان النظام المستبد والرابض على محكوميه وعبيد حزبه الحاكم (وليس رعاياه أو رعيته، وجذر اللفظة لا يخلو من أصداء معنى الاعتناء والحفظ والتكاثر، على خلاف معاني القهر والقتل والحجز التي لا تنفك من الاعتقال الجماعي والتأديبي الأمني والسياسي ومن ثمراته القاتلة والمميتة). ويتوسل الاستبداد بالمعتقلين الى إنكار واقعة المعتقلات، وإلى تبديد الواقعة، على رغم عِظَم كتلتها وعدد أهليها وضحاياها ودورها في استواء السلطان الغاشم والساحق على صورته. فالمعتقلون هم أداة الإنكار والتبديد الأولى، على رغم منهم. والسلطان الغاشم والقاهر قَدِر على صناعة واقعة "فرعونية" عظيمة، اجتماعية وإدارية ومادية، واستطاع صناعة إنكارها وإغفالها والسكوت عنها، معاً. وهذا طبع من طبائع الاستبداد سبق طبائعه الملكية المتأخرة التي أحصاها بعض الكتّاب الإيطاليين (واقتبس عنهم "عثمانيون" عرب إحصاءهم).

وحملَ الضحايا على الصمت، وربما على النسيان والإنكار حتى حين يخلو المرء بنفسه وإليها، سبقُ التشكيك والتكذيب الروايةَ، وإسراعُهما إليها قبل تصورها في الكلام والقول والذهن. فحين يختلق السلطان "الفرعوني"، أي البيروقراطي الصناعي في المعرض الشيوعي والمعرض النازي، واقعة المعتقلات الجماعية وكتلتها العظيمة، يُخرجها عمداً، وبناءً على أبنيته السياسية والإيديولوجية والتنظيمية العامة التي تتصدرها بنية الحزب القائد والطليعي، من عالم الحياة المشترك والمتعارَف الذي يتقاسمه عموم الناس، وينفيها من العالم المشترك والمتقاسَم هذا. والإخراج والنفي يتبلوران في المكان وتخصيصه (على حدة من الأماكن)، وفي الجمع بين من لا تجمعهم رابطة وحشرِهم على نحو يعدمون معه خاصاً يخصهم وحدهم. ويتبلوران في المراتب المفروضة، وفي اللغة الآمرة والبذيئة، والعمل المجرد من غاية مفهومة ومعروفة. والمعايير السائدة في قارة المعتقلات ليست أضعف إخراجاً من عالم الحياة المشترك، أو نفياً منه. فالنجاة بالنفس، والتنافس على البقاء والاقتتال في سبيله، والسعي في الحظوة، والتسلط على الضعفاء، والتسليم بالحال ولأصحاب الأمر، كلها أحكام وموازين تقطِّع أضعف عروة قد تجمع بين اثنين، وتُسْلم المعتقلين الى وحدة وعزلة مدمرتين.

تفترض الرواية، أو الخبر عن حادثة أو واقعة من حوادث عالم الحياة المشترك والمتقاسَم، بعض الاجتماع والإجماع على معنى أو دلالة، وعلى لغة تؤدي (عن) المعنى أو الدلالة. وعالم المعتقلات الجماعية يمعن، وهذه وظيفته الأولى، في تقطيع عرى الاجتماع والروابط التي تتيح أداء الواقعة الى النفس قبل الغير، والخبر أو الإخبار عنها، وحمل صاحب الخبر وراويه على الصدق أو الكذب أو عليهما معاً جزئياً. وعالم المعتقلات يقتل الرغبة في الإخبار والرواية والقص، على ما حصل للآلاف المؤلفة من المعتقلين. فتقطيع الأواصر والوشائج الإنسانية والمعنوية، على وجهها غير الحيواني أو البيولوجي وسلطانه، يُبطل ما يجتمع جماعة من الناس عليه ويُجمعون، ويستدلون به الى قيام "واقع". فهذا، على الدوام، عالم يحتكمون إلى حقيقته ضمناً، في مخاطبتهم بعضهم بعضاً، تصديقاً أو تكذيباً. والسلطان الصناعي والبيروقراطي الكلي يحقق ما أراده السلطان الديني القبلي والعصبي (أو مثاله الخلدوني، على زعم صاحبنا) من إنشاء الاجتماع والمناسبة بين الاجتماع السلطاني وبين أفهام ناسه وعقولهم ومخاطباتهم. وهذا، أي إنشاء "الواقع" والمناسبة بينه وبين أهله، لم يبلغه السلطان الديني العصبي، ولا أنجزته طبائع الاستبداد "التقليدي".

فإذا شاء المعتقلون السابقون الخبر عن "عالم" المعتقلات، والمعتقلات الجماعية نقض (على) معنى عالم مشترك ومتقاسَم ومتعارَف، خانتهم العبارة، وأرتج عليهم، وخافوا الكذب والتكذيب. واستهولوا غرابة ما كانوا فيه، أو ما هم فيه، إذا هم حاولوا الكتابة في المعتقل. واستولى عليهم بطلان أو إبطال "العالم" هذا نفسه بنفسه، وإنكاره حقيقته وصدق الخبر عنه تالياً حين هو كائن ويكون، أو في طور الكون. والحق ان عالم المعتقلات الجماعية، معتقلات العمل الشيوعية أو معتقلات الإبادة النازية، لم يستوِ واقعة مادية، سياسية وتاريخية، إلا غداة هدمه وطيه، ومعه مئات الآلاف من أهليه. وهو استوى هذه الواقعة، على هذه الشاكلة، في أعمال بعض الإخباريين ورواياتهم، ثم في أعمال المؤرخين وبعض السينمائيين القلائل.

تكذيب الشاهد

ولكن دروس المعتقلات وعالمِها وهي دروس سياسية امنية و"روائية"، باقية لم تطوَ. وهي اليوم، أي غداة نحو ثلثي القرن على هدمها، جزء لا يتجزّأ من جهاز السلطان المتمادي و "دولته" القاهرة والمنتصبة بإزاء مجتمعها وأهليه وحشاً ضارياً. والدرس الأول يقضي بحمل الناس على تكذيب ما يرونه رأي العين، ويلمسونه لمس اليد، والطعن في حقيقته وصدقه. فحي البلد بمدينة درعا بحوران، من أعمال الجمهورية العربية السورية (3 أكاذيب في 3 ألفاظ، على ما كان ليقول أحد دارسي الكليانية السوفياتية المبكرين)، لم يُحرم الذين يعدون 15 ألفاً من التغذية بالماء والكهرباء، والاتصال بخطوط الهاتف، والإمداد بالحليب والزيت والطحين، منذ 16 آذار 2011 حين طوقتهم قوات "خاصة". وهؤلاء، أهل حي البلد الى جنوب الشرق من درعا، لم يكبّروا ساعة صلاة المغرب ولم يردفوا التكبير بطلب الحليب لأولادهم والماء لهم جميعاً. ولم تحاول القوات المحاصرة تغطية التكبير والاستغاثة بإطلاق الرصاص، على ما سمع كريستيان كلانيه ("لوموند"، في 10 حزيران) بأذنيه. وحين استجاب بعض أهل قرى الجوار نداء أهل حي البلد، غداة نحو 5 أسابيع على ضرب الحصار، ومشوا الى أبواب المدينة حاملين أغصان الزيتون الى الجنود، و "غالونات" الماء الى الأهالي، لم يرد جنود "الخاص" على أهل الزيتون والماء برصاص قاتل أردى، في 29 نيسان، مئتي ضحية، على ما أحصت "هيومان رايتس ووتش" نقلاً عن الأهالي والأقارب والشهود (وليس المستشفيات، فلا "مشفى" بحي البلد).

ويطوق الحصار درعا كلها، منذ اوائل نيسان. ويحظر على أهلها إغاثة أهل حي البلد. وبعض أهل حي البلد اتفق ضربُ طوق الحصار الأول على الحي القديم مع خروجهم من حيهم، فلا سبيل الى عودتهم الى "بلدهم". فبعض سعوا، ويسميهم كريستيان كلانيه وهو حادَثَهم علي وحسين وأحمد، في العودة الى منازلهم وجرحوا برصاص القنص، أو اعتقلوا أياماً في سجن مرتجل وعذّبوا أو خطفوا. ومذذاك، صار هذا نهجاً في سياسة البلدات المتمردة والمتظاهرة، القريبة من الحدود التركية – السورية ومخيماتها، فتحاصر البلدات، وتخلى وتشرّد، وتقطع مواردها، وتُطوق طرق الخروج، ويحتفل بالعودة... وروى بعض شبان درعا للصحافي الفرنسي، وهو دخل درعا خلس في 25 أيار وطرد منها في 27، أن 8 جنود من الذين كانوا يؤدون خدمتهم العسكرية الإلزامية أُعدموا، وأشهد زملاؤهم ورفاقهم على قتلهم جزاء امتناعهم من إطلاق النار، وتحتسبهم احصاءاات الجهاز الحاكم في شهدائه. ويرتدي ضباط "الخاص" صدرية معدنية تحمي من رصاص الثأر والغضب والانشقاق.

الخبر على الهوية

فهذا وغيره مثله كثير، وبعضه بثت أشرطة صوره وأصواته على مواقع كثيرة وحفظت على "يوتيوب" وفي مدونات تلفزيونية، كذب في كذب. وهو ابن مشاهد وحوادث حسية. ولا يؤيد الشاهد الحسي، المرئي والمسموع، حقيقة المشهد أو الواقعة، على ما يحسب الظن العامي والساذج البالغ حد البله، على ما يذهب إليه مذيعو "ويكيليكس" والمتنصتون على أجهزة الاتصال "المقاوِمة"، الموازية والمقرصنة. فعلى مذهب "الخاص" السوري، الأمني الإعلامي والسياسي، ليس الشاهد الحسي المصور إلا مرآة ماثلة لمقاصد من يلوحون به أو يصدقونه ويحتكمون إليه. ويدعو الدرس الثاني المستقى من كتلة المعتقلات الى تعليق الخبر، ولو كان سنده اسماً ظاهراً وصورة مؤرخة وصوتاً ولوناً فاضحين، على صاحب الخبر أو مصدره. فيَحْسُن الخبر، ويحمل على الصدق، إذا كان ناقله من "أنسباء" الحاكم، وموظفي بعض أجهزته. ويُفحص المحدِّث قبل الفحص عن مادة الحادثة، وقبل النظر في وسائط النقل. فالتكذيب والتصديق معيارهما "الهوية" ومثل القتل على الهوية، والتعذيب والسجن عليها في حروب أو مقاتل الجماعات العربية الأهلية. وعلى هذا، تنكر حقيقة صورة حمزة الخطيب الصريحة، وحقيقة جروحاته وتعذيبه والتمثيل به قبل قتله وبعده. وتنكر حقيقة رواية الأهل، ويغفل انتظار الشهر قبل تسليم جثمان الولد. ويوكل الى طبيب "شرعي"، موظف في دائرة إدارية ومحل تهمة لا يرقى الشك إليها، "وصف" حال الجثمان. وذلك على ما ينبغي أن تكون عليه حاله.

الشهود الثالثون

فمن ألزم ما يلزم "الوصفَ" البوليسي المركزي والعصبي العشائري، ثالثاً، هو إبطال الشهادة الثالثة، وإنكار جوازها، اصلاً. وفي حال حمزة الخطيب، وغيره عشرات الأولاد ومئات الرجال والنساء، استدرج إعلانُ مصدر من الحركة الوطنية والمدنية السورية اسم الضحية والصورة ومحل القتل أو الاغتيال، نفياً قاطعاً. ويتوجه النفي الجازم على الجماعة المبادرة الى الإعلان قبل ان يتوجه على الحادثة أو الواقعة، وعلى مادتها وصفتها. ويترتب على هذا الطعن في جواز شهادة الأهل. فإلى تقرير الطبيب "الشرعي" و "المكلف" – على معنى التكليف الخميني، وحمله الشاهد والقاتل المفترض (في قضية الطيار الحربي اللبناني سامر حنا) على حجب شهادته عن المحقق "الكافر" أو غير العدل – أسرع رئيس "الدولة" إلى دعوة أهل القتيل الى "استقبالهم". وخرج الأهل المكلومون بكماً. وهم لم ينفوا تقرير "الخبير"

إبطال الاعلام

ويعمم الجهاز البيروقراطي الأمني والعصبي (المذهبي والأهلي) رابعاً، صيغة إبطال الشاهد الثالث على الإعلام كله، مرئيَّه ومسموعه ومكتوبه وإلكترونيه. فالاحتكام الى افتراض مثل هذا الشاهد، أو المصدر، يقيد صدق المصدر الجهازي. وهذه إما ان تكون مطابقة أو تتهاوى. وإخراج عيون الإعلام الأجنبي، وآلات رصده وإخباره وبثه، من الأراضي السورية حال حصول الحادثة السياسية المفاجئة والداهمة، وتعطيل شبكات الاتصال وتعمّد التعطيل أيام الخميس (قبل الصلاة الجامعة في المساجد) والجمعة والسبت، هذه كلها وسائل إبطال الشاهد الثالث أو الشهود الثالثون. وهذه كلها عطلها اعلام الطوارئ قبل نصف قرن. والشهود الثالثون هم "المصادر المستقلة" التي يستقوي بها الإعلام، وتقوم بها حرية الإعلام والرأي والاعتقاد، واستطراداً حرية الانتداء والاجتماع والانتقال. وهم، الشهود الثالثون، الكثرة التي تقوم بها الوقائع، ويبلغ من طريقها الإجماع على حقيقة هذه الوقائع و "موضوعيتها". وإذا امتنع الإجماع، وهو غالباً ما يمتنع، استقر الاحتكام الى معيار أو نهج تُطلب الموضوعية من جهته، وبواسطة تحكيمه. ويحارب الجهاز البيروقراطي والعصبي هذا المعيار حرباً شرسة. وهو يفضل نقض معايير الاستدلال كلها، وتبديد فكرة حقيقة ما، ولو كانت "حقيقته"على الإقرار بالكثرة وشهودها (و "عملية" لمياء شكور قرينة بليغة).

الحرب الاهلية في الخبر

فينبغي، في سبيل عموم الشبهة والشك، رمي حرية الإعلام والانتقال والتقصي كلها بالانحياز والميل والتخريب. ويدعو هذا، خامساً، الى بث الحرب الأهلية العامة في الإعلام والرأي، وحملهما عليها. وهذا ملحق "صناعي" وبيروقراطي من ملحقات إرساء الحرب الأهلية "الجديدة"، المذهبية الدينية والقومية والبلدية والثقافية والإقليمية، على منظمات شعبية وجماهيرية مؤطرة ومتماسكة. ويختلف الطور الجديد من الحروب الداخلية، على المثال البعثي العراقي الصدامي ثم السوري الأسدي، والخميني الإيراني فالفلسطيني واللبناني المعرَّبين من بعد، اختلافاً عميقاً عن المنازعات التقليدية المحلية، والمنافسة الظرفية والرخوة على الموارد و "الامتيازات" على مثالها اللبناني المنصرم والآنف. والعامل الجديد الحاسم هو تكتيل الجماعات الأهلية المتفرقة والمشرذمة في أجسام منظمة ومؤطرة تستند الى بيروقراطية تعبوية متماسكة ومركزية، أمنية وعسكرية وإيديولوجية و"اقتصادية" توزيعية. فإما أن تنشأ دولة أهلية موازية، على المثال الحزب اللهي تصدع وحدة الدولة الوطنية الاقليمية والقانونية والادارية، وتقسِّمها إقطاعات تقطعها مواليها، وتخرطها في كتلة محلية وإقليمية مرصوصة. وإما ان تنسلخ بطانةُ دولة ظلٍ تستدخل الدولة الوطنية القائمة، وتتسلط على هيئاتها وعلى أبنية المجتمع، وتحارب العصبية المستولية المجتمع وجماعاته بأجهزة الدولة المستدخلة هذه، على المثال الأسدي والخميني والفتحاوي والحماسي اليوم، والصدامي بالأمس.

أعراس اعلامية

ولعل الأعوام العشر الأخيرة، و"إنجازاتها" الإعلامية وحروب تضليلها الشرق أوسطية (من نيويورك الى أبو غريب ومن رصيف السان جورج ببيروت الى الاغتيالات المتصلة وقضايا التحقيق فيها)، شاهد على علاقة الحروب الأهلية والإقليمية المتناسلة والمتجددة بصروح الإعلام المتمايلة والمترجحة وبتشييدها وإعمالها والنواح على خسارتها. وتنزل السياسة الأسدية محل القلب من الحروب الأهلية الإقليمية، ومن حروب الإعلام، معاً. فمن حرب العراق، وفروعها الأهلية والإرهابية والإقليمية، والقرار 1559 واغتيال رفيق الحريري وذيوله الإجرامية والقضائية المتمادية الى اليوم، إلى انفجار الخلاف على النووي الإيراني وحرب صيف 2006 بين الجماعة الخمينية المسلحة وإسرائيل وقصف إسرائيل نواة المفاعل النووي السوري في خريف 2007، فحرب "حماس" وإسرائيل في 2008 – 2009 و "حرب" حصار غزة في حزيران 2009 – من تلك الى هذه اضطلع الإعلام المصور والدعاوي (دعاوة + دعاية) بدور راجح في اختلاق "الشارع" وإثارته وتجنيده تحت راية قضايا مشهدية ومبتورة، وتحت ألوية أصحاب قضايا يقودون جمهورهم الى التخبط والاستنزاف. واضطلع بدور لا يقل قوة في ولادة الحركات الوطنية المدنية. ولعل هذا الدور هو السبب في انتخاب الاغتيالات في لبنان منذ صيف 2004، عدداً من الاعلاميين وأهل العلانية هدفاً.

وكان لبنان واللبنانيون ساحة "مميزة" للعب الإقليمي. ونجم عن هذا اختصاصه بمسلسل إعلامي نازف تنقل بين المسؤولية عن اغتيال رفيق الحريري وتحقيقات المحققين الدوليين وإنشاء المحكمة الدولية وتقاريرها والشهود والمتهومين المفترضين والقتلة الحقيقيين والمتخفين. وفي الأعراس التلفزيونية والفضائية كان على الدوام للسياسة السورية وأعوانها وروافدها ووكلائها أقراص، وليس قرص واحد في العرس. وبعض الأعوان والوكلاء انقلب مشخصاً تلفزيونياً تتخاطفه برامج المحاورات "السياسية" الضاحكة والهازلة. فعرّج الرئيس السوري في خطبته اللبنانية الاولى شتاء 2005 على تناول آلات التصوير التظاهرات تقريباً وتبعيداً ("زوم إن" و"زوم آوت"). وسما جوهر ميشال عون و "إصلاحه وتغييره" في وقفة أسبوعية إعلامية، متلفزة و "لطيفة"، حولت كيمياؤها الهزل والسُفْهَ ذهباً سياسياً صافياً. وأما أمير أمراء الحرب على العناكب الغربية الواهية والمتداعية، عشية الرجعة و"الفرج" فتكشف عن رفيق مكاشفات وسمير أسمار عشايا في ملعب الراية، الحسن التسمية، لا يبارى. فليلة مكاشفاته وأسماره لا يغمض للمجاهدين وصحبهم جفنٌ، على قول ملتزم سهرٍ وسمرٍ آخرين.

الأربعاء، 1 يونيو 2011

"حرائق" وجدي معوض... مسرحية وفيلماً: التوأمة الرحمية باعث على عنف يلجمه التعاهد

المستقبل - الاحد 8 أيار 2011


قد لا يحتاج تقريب "حرائق" عمل وجدي معوض المسرحي (2003) فالسينمائي (2010 اخراج دوني فيلنوف، وتعرضه صالة ميتروبوليس ببيروت منذ نحو شهرين) من المسرح اليوناني القديم ومآسيه وفواجعه المتعاقبة الحلقات ادراج الكاتب اللبناني الكندي نفسه "حرائق" في رباعية كان كتب منها، قبل عمله هذا، "ساحل" (1997)، وأوشك على كتابة الجزء الثاني والثالث "سموات"، على ما روى وأخبر في توطئة الى عمله المطبوع (نشر ليمياك، اكت سود- بابييه، 2003-2008، مونريال وفرنسا). وهو وسم التوطئة بـ"عزاء صارم". ولا يقع القارئ المتصفح على "سموات" المزمعة في لائحة أعمال الكاتب المسرحية المطبوعة. ولكنه يقع على اعمال تالية زمناً، مثل "ويلي بروتاغوراس في المرحاض مسجوناً" (2004) و"غابات" (2006) و"عطاشى" (2007). وكلها نشرتها دارا النشر الكندية والفرنسية في الاعوام المدونة.
ووسم العمل التالي، او الجزء الثالث (؟)، بميسم أوسع الفلاسفة السفسطائيين اليونان شهرة، بروتاغوراس (وهو اسم على محاورة من محاورات افلاطون السياسية والخطابية الكبيرة)، يحمل على التقريب الشكلي والصوري هذا، على رغم الحال الساخرة، السجن في المرحاض، التي يتناول عليها العنوان ُالفيلسوفَ السفسطائي والديموقراطي اليوناني. والحق أن الاشارات والتوريات اللفظية، وترجحها بين وجه المأساة وأقنعتها الصارمة وبين أوضاع أو أحوال يومية وبدنية وحيوانية، تدعو القارئ والمشاهد من بعد الى توقع ترجح وازدواج لا يقتصران على ألفاظ العناوين، وتورياتها وكناياتها واضدادها. وحين يفاتح الكاتب المسرحي قارئه، قبل مباشرة المسرحية والمحاورة والتشخيص، بمناط عمله، وهو التفكير في الاصل والمصدر والمنشأ والتكوين، انما يدعوه تلميحاً الى انتظار مزيج لا تتخلص مواده الاولى وخيوطه من أقدار ومصائر مستغلقة وسابقة، ومن دواعٍ وبواعث تتصور معانيها في الانفس والعقول ولكنها لا تشفي غليل الاسئلة أو السؤالات على قول سعيد عقل، "الصارمة"، وتتركها معلقة الى وقت أو حين.
وحين يرضخ معظم الناس، كتاباً وفنانين و"عواماً"، غداة الحروب العاصفة، الاهلية والخارجية، الى تناول حروبهم الممضة والمريرة على وجه الدواعي والبواعث والمعاني النفسانية والمعقولة، وهو الشق الثاني من المزيج، يقتفي وجدي معوض، وَجِلاً وهيَّاباً ومعتذراً، خطى السلف اليوناني والتوراتي الكبير. فيسأل عن "الدم" الذين يتوارثه في عروقهم المولودون من الحب والاشتهاء، ومن ضغائن أهلهم وأمهاتهم، معاً. ويقتص آثار الاسماء والالقاب والعلامات، المحفوظة والمهملة، في المصائر والاحوال، المقسومة والمختارة. وينسب الشر، في صيغة تتعالى على الجمع والآحاد (الشرور والمظالم)، نسباً منقطعاً ومرفوعاً، على قول أصحاب الحديث، الى أصل من غير ابتداء. ويحتج لزعمه بـ"وعد"يلتزمه أصحابه، وتورثه الامهات أولادهن أو بناتهن على وجه الخصوص. ويشهد على الوعد والوصايا أهل القانون (الكاتب العدل) في قلب فوضى عظيمة تصيب الولادات والمواريث، وتخلط الدماء والارحام خلطاً ذريعاً.
ولكن حمل المأساة، ومعانيها الآبدة، على وجه الجد، اليوم وفي عصرنا أي منذ القرن السادس عشر أو السابع عشر على التقريب، يلقي بصاحبه المتزمت المقلد والسلفي، في كوميديا المساخر. فيحاكي محاكاة مصطنعة وآلية سِمْتَ ما يحاكيه وظاهره، ويكشف عن ازدواج الروح والجسم حيث كانت المُسكة البديعة آية العبارة ومجلاها، على ما يصنع أهل السلف كل يوم في داوئر الدين والدنيا. ولا يبلغ الكاتب اليوم من المأساة اذا هو غفل عما غفل عنه الابله في "زرادشت"، ومضى على حسبانه ان الآلهة لا تزال تقيم بين البشر وفي ظهرانيهم، لا يبلغ إلا ما يبلغه مجددو شعراء العربية المعاصرون من "الشعرية"، على قول بعض أعلامهم وببغاواتهم العالمة. وهو، في معظمه، مضحك ضحكاً آلياً وتلفزيونياً مضجراً. ولا يشفع له تقنعه بأقنعة "القضايا" الكبيرة، والهموم الثقيلة والمصيرية، وتذرعه بها الى التستر على أساطير ومنافع ومراتب عصبية وبائدة.
الشعيرة والبذاءة
فعمد وجدي معوض، في سبيل تبديد شهية المأساة الساذجة والخطابية، الى حبكة بوليسية وقصصية، أو خبرية، أوكل اليها النهوض بعبء السعي في اقتفاء الاصل، والتحري والاستخبار عنه. فلم يوقف على باب مدينة طيبة التنينَ، أو أبا الهول المصري، وسؤالها الملغز والمستغلق عن "الانسان" على قول الفيلسوف الالماني الاشهر (من الكائن الذي يحبو صباحاً على أربع قوائم ويمشي ظهراً على اثنتين...؟)- ولم يَجْزِ العجز عن الاجابة بالقتل. ولم ينشر الطاعون والموت في طيبة نفسها غداة نحو عقد ونصف العقد على قدوم أوديب ذي القَدم الملتوية المفصل، وحله لغز التنين، ورفعه الحصار والقتل عن المدينة، ودخوله اليها وبملكتها، أمه، من غير أن يعلم. والدخول بالملكة هو جائزة المنقذ العتيد.
ولكن كاتب المسرحية، وهو خلَّف وراءه فتىً طاعون حروب الاهل العربية المتناسلة ومسرحَها اللبناني الاثير والمزمن وسافر مع أهله المهاجرين الى فرنسا فكندا، استعاد معظم وقائع الخبر اليوناني. فاستهل خبره بلغز هو وصية الام الراحلة، نوال مروان، الى ولديها التوأمين جانْ (حنة، مؤنث حنا، جانْ التي تلفظ في الفرنسية من غير التلفظ بالالف والنون) وسيمون، سمعان، مروان. وشهرة الولدين هي شهرة الام، على ما ينادى الناس يوم الحشر ستراً لعيوبهم، بحسب حديث نبوي متناقل.
واللغز الامومي، على شاكلة مسألة التنين المميتة بباب المدينة اليونانية المولودة من هرب أوروبا وقدموس الصوريين الى جزر اليونان، موضوع على الولادة والنسب والهوية. فالأم تسأل ولديها، على معنيي المناشدة والاستفهام، البحث عمن يكونان: أبنا من أنتما؟ ومن يكون أخوكما؟
وإذا وقع القارئ على "نقد" تناول الفيلم الذي صنعه المخرج الكندي مع كاتب المسرحية، وفيه أن "البنية السردية... تجنح الى مطب الاستشراق" (سمير يوسف في "الاخبار" البيروتية، 24 كانون الثاني 2011)، أيقن ان البصيرة السعيدية، نسبة الى الكاتب الفلسطيني الاميركي، أعمت التلاميذ والمريدين والانصار، على نحو ما أعمت "الاستاذ" عن ادراك بدائه الوقائع الاصيلة والذاتية. فالسؤال عن النسب هو السؤال "العربي" الاول: من أي القوم أنت؟ وإذا عُلم من موقع الواحد في ميدان الحرب من هم قومه، والحرب "الاهلية" هي مدخل "الثقافة" العربية الاول الى تعريف الهوية، سُئل: "من أخوالك؟" على ما سأل المهلهلَ، أخا كليب، بعض المنتصرين لقاتله. ويوجز زياد عبدالله، في عدد لاحق من "الاخبار" نفسها، "المعنى العام للحرب الاهلية في الشرق الاوسط" ايجازاً جامعاً ومانعاً: "قتل المسيحيين للمسلمين" على ما يكتب غير مستهول نكران الوقائع والتعامي القومي الاسلامي والاستخباري او المخابراتي عنها، قبل أن يستدرك على مضض "... والعكس أيضاً". وعلى شرط التنديد بالـ"قالب الاختزال التبسيطي (الذي) تضيع فيه الفروق بين خطاب الجلاد (المسيحي) وخطاب الضحية (المسلم)". وهو (التنديد) دأب السعيديين وديدن حرفتهم ذات الريوع.
وتستودع المسرحية، شأن الشريط السينمائي، السؤال الباعث على التقصي وسيطاً لا حول له ولا طول، على خلاف التنين المميتة، هو كاتب العدل الكندي هيرميل لوبيل. واختار الكاتب المسرحي كاتب عدل أي (لغة) كاتب عدل من مسرح البولفار الهازل والبورجوازي الصغير او العائلي، وعلى مثاله، المخرج السينمائي ممثلاً ممتلئ الخدين والاوداج، يتدافع الكلام الثرثار وهو يخرج من فمه وعينيه وجسمه كله. ويتعمد تحريف الجمل الجاهزة والسائرة تحريفاً ساخراً ينم، في الوقت نفسه، بإرادته استدراج الاعجاب والتواطؤ الرخيصين. وكاتب العدل الهازل والبدين هو وسيط ارادة الام الاخيرة، ورغبتها الى ولديها في التقصي غير المأمون العواقب على المقتصيين الفتيين. والوصية التي يقرأها رجل القانون المدوِّن على الشابين تشبه الاحاجي في شقيها: الشق الموجب التقصي النسبي، والشق "الجزائي"، اذا جاز القول. فالمرأة المتوفاة عن 65 عاماً تطلب الى التوأمين، والى كاتب العدل الذي عملت في مكتبه أعواماً طويلة من غير أن يعلم منها وعنها غير اسمها "مدام نوال"، دفنها عارية من غير نعش ولا ثياب ولا قشرة ولا صلاة، وجهها الى التراب، ومن غير شاهد ولا اسم. وذلك الى أن تبلغ الرسالتان، واحدة الى والد التوأمين والاخرى الى أخيهما الشقيق، "غايتهما" أو مقصدهما (ونص المسرحية المكتوب يهجئ الغاية أو المقصد في صيغة المفرد، ويطرح علامة الاثنين أو الجمع، هذا ما لا تؤديه المشافهة، مسرحاً او سينما). فإذا بلغت الرسالتان مقصدهما أو مقصديهما، على ما يفترض السامع، وهتك السر وأنجز الوعد، أجازت الام، من وراء القبر، نصب شاهد على قبرها وحفر اسمها في حجر الشاهد، على ملأ "الشمس" ونورها.
المأساة في الرواية البوليسية
فتوسع الارادة الشعائرية الآبدة والموروثة من الجدة، والدة الام، وهذه ورثتها من والدتها على رسم الاصلاب (والغضب) الامومي الذي يؤرخ به معوض الاهدني المولد و"الدم" (على قوله في اهدائه عمله) الاجيال وتعاقبها وانقلابها- توسع بعدَ الشقة بين وجهي الترجح والمزيج اللذين تقدم الكلام فيهما (الاقدار والمصائر المستغلقة من وجه، والمعاني والبواعث المتصورة في الانفس والعقول، من وجه آخر). ويرد الفتى سيمون مروان، الملاكم الهاوي والمتدرب، على وصية الام الشعائرية، والمهيبة مهابة ما لا يطويه التقادم، بشتائم نابية وبذيئة:" "القحبة!"، "بنت الكلبة"، وغيرها أشد نبواً وبذاءة وصدوراً عن زعرنة يونانية. وتجهر الشتائم انتساب الولد الى عصره ووقته، على نحو ما تجهر مقدمة كاتب العدل في زحمة السير ورصف الطريق والاعلانات والإيجار ومكيف الهواء وجمله النمطية المحورة، آيات العصر والوقت.
ويفترق كاتب العدل والابن، على رغم انتسابهما المشترك الى حاضر "وضيع" الهموم والمشاغل، في حملهما وصية الام على معنين مختلفين. فعلى حين لا يرى الولد الفتى ما يلزمه في وصية الميتة، ويدعوه الى التمسك بشعائرها الغريبة والموروثة من "عرق" ملعون، على قوله، يقر كاتب العدل ورجل القانون للوصية بقوة إنفاذ يحتار في العبارة عنها، وفي ابلاغها. فيقول تارة أن الوصية يُعمل بها من غير تعليل ولا تسويغ، شأن أعمال ووثائق كتابة العدل الاخرى. ويقول تارة أخرى أن سكرتيرته السابقة، "مدام نوال"، كانت محل ثقته ومحبته، وكان هو محل ثقتها ومودتها. ويرد هيرميل لوبيل على غضب الشاب العاصف، وعلى انقياد البنت، بالتردد والترجح بين الامتثال لقوة القانون والعَقد التلقائية وبين التلويح بسلطان الصداقة والمحبة. والامران، قوة القانون موجب الصداقة، صورتان عن المزيج الذي صدرت عنه المسرحية، وصدر عنه بنيانها. فالقانون يتعالي عن الدواعي النفسانية والذاتية، ويُلزم بما لا تعليل له في المنطق والعقل المجردين من متعلقات الاعراف والمعتقدات والتقاليد المشتركة. والصداقة باعث نفساني وذاتي يرتضيه الصديق(ة) أو يتملل منه على هواه ومشيئته، وقوته من هوى صاحبه أو صاحبته.
والقسمة المركبة هذه، الناجمة عن مزيج المأساة والرواية البوليسية و"إقحام" الاولى في الثانية على قول ذائع في إحدى روايات وليم فوكنر الاميركي، هي شرط المسرحية الاول وركنها. فلولاهما لكانت المسرحية، والفيلم من بعد، قَصَصاً يشبه وعظ القُصّاص وأمثالهم الاخلاقية والادبية. أو لكانت سهرة سمر يحلو فيها التخفف من التبعة عن "الهزيمة" المشتركة وإلقاؤها على عاتق استشراق كوني وكلي يُنصب باباً من أبواب "التوجه على الكون" أو الكينة (الحال) الانسانية. وهما القصص وسهرة السمر الفصلان اللذان يكادان يستغرقان المثالات العربية الثقافية التاريخية والسياسية. ولعل السبب في ما يشبه الوجوم الذي استقبل به الجمهور (اللبناني؟ "العربي"؟) فيلم "حرائق"، وما يشبه الخجل الذي يبعثه وجدي معوض وأعماله في الجمهور نفسه وطبوله وأبواقه الدعائية، لعل السبب في الوجوم والخجل هو خروج بعض عمل معوض من الفصلين هذين، وعليهما. والحق أن خروجه ليس متماسكاً.
فهو يريد حمل المأساة، وأثقالها وأقدارها وليلها وصبحها (مجازاً وحقيقة)، على الحوادث اليومية العادية والطبائع الانسانية المتداعية. ولكنه يستسلم لغرق نوال مروان في صمت ثقيل وصفيق جمعه أو دوَّنه ممرض المستشفى الذي حلت عليه نوال ضيفة في أشرطة مسجلة ويقرب هذا من الكناية المشبعة والجامدة. أو هو يسترسل في كلام متدافع يزعم رواية المقاتل وهولها ولا يلبث أن يستعير صور الهول من روايات سابقة مثل رواية "اختيار" الام من تريد استبقاءه من ولديها أو أولادها حياً، ومن تتخلى عنه الى القاتل. وفي الفقرة 25، أطول فقرات المسرحية وأكثرها كلاماً، تروي سودا على مسمع نوال مقتلة "الميليشيا" في مخيم "اللاجئين". و"ترد" نوال على الرواية بالدعوة الى "التفكير"، وبوعد اغتيال قائد "الميليشيا"، معاً (وحذف المخرج "المشهد" على نحو ما حذف مشاهد الاشرطة المسجلة، ربما استثقالاً وربما مجاراة لداعي معالجة سينمائية أقل كلاماً). ولا تتخلص محاولة شبك نوال بسودا، ظل نوال وتلميذتها ومعلمتها الغناء ولاجئة المخيم وصديقة وهب اللاجئ وعشيق نوال الذي أولدها طفل الحب المنقلب قناصاً قاتلاً، وشبك سودا بنوال، لا تتخلص من أداء بلاغي، مجازي وتمثيلي، على رغم قوة التوأمة على المسرحة.
التوائم
والتوأمة، على وجوهها، تكاد تكون لازمة "حرائق": جيهان (الجدة) وإلهام (القابلة)، وهب (العشيق) ونهاد (السجان المغتصب)، سيمون وجان، نوال وسودا، كاتب العدل الكندي وزميله المحلي، الميليشيا والمخيم، حريق البوسطة واجتياح المخيم، الجنوب والشمال، الوطن والمهجر، الميتم والمعتقل... والتوأم، شخصاً او جماعة او مكاناً أو حادثة، هو القريب الذي يتهدد قربُه أو شَبَهُه الواحدَ (الآخر أو الغير أو التوأم) بالموت أو بالنفي. فإذا كان الاثنان (التوأمان) واحداً على ما يقول سيمون لجانْ، ولم يفترقا الفرق الذي يثبتهما على اختلافهما ويترتب على جمعهما (في) اثنين على ما يفترض وينبغي، نزعا الى العنف نازعاً لا راد له. فالواحد المجتمع من اثنين يستوي واحداً من طريق النفي، نفي واحدهما الآخر أو نفي نفسه وذوبانه في قرينه. وإذا أقاما على فرقهما، على رغم شبههما وأسوتهما أو مساواتهما، لم يأمنا المنافسة والرغبة في التقاسم والاقتتال.
وعناوين أجزاء المسرحية الاربعة الكبيرة أو العريضة "حريق نوال" و"حريق الطفولة" و"حريق جنان" (وهي جانْ)، و"حريق سروان" (وهو سيمون)، والجزء منها يحتوي على فقرات يترجح عددها بين 11 و9 و10 و7 على مثال حسابي قَبَّالي بعض الشيء- تكني عن الخروج من التوأمة الطفلية والاصلية الى فرادة لا تقتصر على الواحد أو الاحدية. وطريق الخروج هي التقصي عن النفس والاصل، وتعقب الآثار، والاخبار وراء الصمت والخرس المدميين. ولا يقود التقصي والتعقب، على خلاف الاسطورة النَّسبَبية العربية ومثالها العبري المطوي، الى ركن صلب وآمن. فحُمكهما هو حكم رياضيات الفوضى، على زعم جانْ، أستاذة هذا الضرب من الرياضيات (أو مساعدة استاذه). والقول أن التقصي والتعقب لا يقران على ابتداء أول وراسخ ليس معناه أنهما رمي في عماية أو خبط عشواء. فهما يرسمان خرائط طرق الانتقال والسفر والاقامة والهرب واللجوء، ومراحلها ومحطاتها. وتقتفي المسرحية الطرق والمراحل من المحطات على وجه محدث و"عصري"، إليزابيثي وشيكسبيري، أي غير "يوناني" ولا مقيد بالاجراء القضائي وإلزامه العمل المسرحي بـ"وحدة الزمان" و"وحدة المكان". فتُعاقِب الفقرة الواحدة بين أوقات وحوادث يحول اختلافها وتفرقها دون القرار على معنى ثابت وماثل ومثل هذا المعنى لا يمكن إلا أن ينحو نحواً خطابياً مدلساً ومتستراً على خطابته وتدليسه.
ويُسلم التقصي والتعقب الناس الى حمل الاخبار والآثار، والى تراويها والتحديث بها، وغالباً الى تأويلها وتعليلها ومقارنة متفرقها ونثرها. فيقود صاحب الخبر أو المحدث الى آخر قبله أو بعده. وعلى هذا المثال، في الفقرة 28 الموسومة بـ"الاسماء الحقيقية"، يقود عبد الصمد، اللاجئ في مخيم الشمال، خطى جانْ الى معتقل كفار ريّات، حيث سجنت الام نوال مروان وعذبت وحملت توأمين ووضعتهما. وفي كفار ريّات يسلمها منصور، دليل السجن الذي دلها اليه عبد الصمد، إلى فهيم، ناطور مدرسة كفار ريّات وميتمها، حيث كان يرسل ربما اللقطاء المولودون في المعتقل. ودلها فهيم الى راعي الجوار القريب من القرية، أو أحد الرعاة. والراعي، الخارج لتوه من "أوديبوس ملكاً" (أو طاغيةً) وجد ربما بعض الاولاد الذي كان السجن يرمي بهم بعد ولادتهم، وقد يعلم ما حصل لهم. وهذا الراعي أرسل جانْ الى مزارع اسمه عبد الملك هو محاور جانْ في الفقرة. وهو ربما مربي الولدين التوأمين اللذين لم يشأ الراعي تركهما للذئاب، فأوكل بهما المزارع. ويحتمل المزارع اسمين: عبد الملك أو مَلَك (والاسم الثاني كناية توحيدية ترقى من الملاك الذي شق صدر الراعي محمد بن عبدالله ووضع فيه قلباً نبوياً، الى الرعاية التي أخرجت مريم بنت عمران بمولودها الى مصر فأنقذته من مقتلة الأبرياء، الى ترك موسى في عهدة المهد والنهر وبنت فرعون وبمنأى من قتلة فرعون).
وإذا سأل عبد الملك البنت المستفهمة عمن دعاها الى قصد عبد الصمد أجابته:" على هذا المنوال، ننتهي الى يوم مولدي". وكان سيمون، على الهاتف بكندا، رد في الفقرة السابقة على أخته، وهي تبلغه ما آل اليه تقصيها آثار ولدي أمها، بالقول:" لا أريد أن أعرف! لا، لا شأن لي بتاريخها! أنا أعرف من أنا اليوم، وهذا يكفيني!". فالاستدلال على "التاريخ" يُخرج الواحد (والواحدة) من نفسه، ومن اقتصاره على نفسه، ويعقد بين الغير عقداً أو عهداً يتردد بين حدي الصدق والكَذب، ويحتملهما معاً. والعقد أو العهد هو ما يكسر المتعاقدان أو المتعاهدان به سر التوأمة، وما يقرّان به، من وجه آخر ملازم، بعلاقة تربط واحدهما بالآخر تحتمل العنف من غير شك، ولكنها تحتمل كذلك التعلم، وهو ما تنصح به الجدة نوال، وعلى ما تصنع نوال مع سودا، في فقرة توراتية وقرآنية، وتصنع سودا مع نوال (فتعلمها الغناء، وتوحي "المغنية" أو "المنشدة" للسجان، أبو طارق، بالغناء). وتحتمل العلاقة، كذلك، على مثال وعد نوال سودا بالاقتصاص من مقتلة المخيم، ووعدها بإنجاز تعليمها وإخراجها من لوثة القصاص والثأر.
فيجمع الكاتب، على نحو يتعثر بالنازع النبوي تارة وينهض من عثرته تارة أخرى من طريق البولفار اليومي والمعاصر، في سياقة متضافرة ومشتركة، الخروج من التوأمة، ومن أدوارها المغلقة والمدمرة، وسكوتها المترع بالضغينة والقتل، الى عقد الكثرة وعهدها ووعدها وحلقاتها وتقصيها رواياتها يجمع الكاتب هذا الى انشائه مسرحيته وروايته ومحاوراته وبنائها البناء المتقطع والمتجدد الذي انتهى اليه. فالسعي الذي يفرق التوائم، ويقر رابطتها على عهد، هو نفسه ما يعقد بين وجدي معوض وبين مشاهدي مسرحيته أو قارئيها، ويدعوهم إلى المشاهدة أو القراءة.

"اللادولة" نهج يستبق الردّ على الحركات الوطنية المدنيّة والديموقراطية

المستقبل - الاحد 29 أيار 2011


تبدو حلقات الحوادث العربية المتعاقبة وسلاسلها منذ انصياع الرئيسين السابقين، التونسي زين الدين بن علي والمصري حسني مبارك، لـ"رحيلهما" ورضوخهما لتخلي قيادة القوات المسلحة في الدولتين عن مساندتهما، تبدو هذه الحلقات مرآة دامية وعاصفة لخطط "بناء" الدولة التي تولتها واضطلعت بها طواقم حكم مستولية ومتسلطة على أجهزة القوة والسلطان، وعلى مجتمعات بلدانها ومرافقها، في ليبيا وسوريا واليمن أولاً، و"تعالج" اليوم الحركات الوطنية والمدنية التي تعارضها وتقوم عليها. فتستخدم في "معالجتها" موارد ووسائل أمنية وأهلية (اجتماعية) واقتصادية واعلامية دعاوية هي ثمرة "بناء" الدولة على المثال المتعمد الذي بنت هذه الطواقم أنظمتها أو دولها الخاصة عليه. فكأن "البناء"، على النحو الذي أنجز عليه، إنما قصد به منذ الشروع فيه الحؤول دون نشوء معارضته المحتملة، ومهاجمتها ومحصارتها وتدميرها إذا لم يبق باليد حيلة، ونشأت هذه وقامت على رغم الترصد لها واستباقها واطفاء مواردها.
ولعل في رأس ما يحول دون تبلور معارضة وطنية، ويقطع الطريق على نشوء حركة سياسية ومدنية تنازع الحكم الحاكم على الحكم، وعلى ادارة شؤون البلد وتنمية موارده وتوزيعها والدفاع عنه والحفاظ على استقلاله، هو حل كيان الدولة الوطنية الجامعة والمتماسكة في عصبيات أهلية، وتسليط ابنية هذه العصبيات الغالبة على اجهزة الدولة العامة والمشتركة، وعلى إداراتها ونواظمها القانونية والحقوقية والعرفية التقليدية. فحيث بقيت للدولة الجامعة والمتماسكة بقية على شاكلة جيش محترف مهني وغير فاسد، أو على شاكلة تعليم عمومي متوسط الجودة، أو مواد دستورية مدنية، أو نشاط اقتصادي لا تستغرقه الريوع وعوائدها وشبكاتها المتواطئة وتهربها الضريبي واستهلاكها الباذخ والمبدِّد...- اضطرت "الطبقة الحاكمة"، أو قمتها الظاهرة، الى الانصراف والاستقالة مرغمة ومكرهة. وعلى ما شُهد بالعين المجردة في تونس وفي مصر، حيث لم يدمر السلطان الامني والعسكري والاقتصادي كتل الدولة او مبانيها كلها، وسع حركة الاحتجاج الاتساع والتعاظم والسريان في ثنايا المجتمع المتصلة وروافده وجنباته. وانتهى المطاف بهذه الحركات، كان اولها ومبتدأُها في القلب (على صورة مصر) أم كان في بعض الاطراف الداخلية (على صورة تونس)، الى لم اطرافها الى قلبها وبث حركة القلب في عروق الاطراف. وجاز حصول هذا على وجه السرعة المباغتة وعلى وجه التزامن او التواقت الانترنتي والاعلامي "الفضائي".
ويعزو بعض المراقبين والناشطين الوطنيين، وبعضهم يجمع الصفتين معاً، تعاظم الحركة المدنية والديموقراطية التنوسية السريع الى جودة التعليم الذي حظي به أبناء أسر الطبقات الوسطى، وخوَّل بضعة آلاف منهم اذاعة وقائع القمع ومقاومته وانشاء جبهة الاحتجاج والمطالبة وبلورتها، وبعضهم يعزو التعاظم الى دور اتحاد الشغيلة العام التونسي والى مدنية الشباب التونسي "الشخصية". وهذه، جودة التعليم، وتماسك البنيان النقابي والمدنية القانونية والشخصية، من التراث البورقيبي، ومن أركان الدولة ومبانيها التي لم تبلغها يد بن علي، والرهط العائلي الذي يحفه، ولم تحطمها على ما ذهب اليه الفرنسي أوليفييه مونجان والتونسي الفرنسي عبد الوهاب المؤدب الاول في مقالة شهرية "اسبري" لخصتها "الحياة" في 11/5/2011، والثاني في كتيِّبه "ربيع تونس- تحول التاريخ" نيسان 2011، باريس. فوسع الحركة التأليف بين جماعات شعبية فقيرة وجماعات متوسطة متعلمة. وانضمت الى هذه وتلك جماعات عريضة من المهن الحرة والاطر الادارية العليا، وهيئات المجتمع المدني. فسرى التضامن والتكاتف في أوصال لم يستوف القمع تقطيعها (إلى) مناطق وجهات وإيديولوجيات وولاءات، على رغم عمق الخلاف بين الداخل الزراعي والمنجمي والبدوي "الهلالي" (بوزيد، اسم بلدة محمد البوعزيزي، على اسم عَلَم التغريبة العربية الاشهر) وبين الشرفة البحرية والمدنية ووارثة مركزية "الباي" وبعض امتيازاته.
وعلى المعنى هذا او قريباً منه، وقياساً على حالي ليبيا وسوريا، أرست الحركة المصرية بنيانها الكبير والجسيم على وطنية مصرية مشتركة وبدهية، وعلى عمومية شعبية تستقي من الوطنية المصرية تماسكاً قوياً. وحال هذا دون انفلات أجهزة القوة، وبعض الحركات الاهلية السياسية (مثل "الاخوانيين") من عقالها، وانقلابها على جسم الحركة الكبير إما قمعاً دامياً وإما استيلاءً سياسياً وتنظيمياً وقسرياً ومدمراً. ولم يؤد انهيار التعليم المصري الحكومي، على شاكلة عربية لا تقتصر على توسع التعليم الديني الصرف، الى غَلْق عقول المتعلمين ودراياتهم دون بعض احوال العالم وأطواره البارزة، الثقافية والاقتصادية والحقوقية القانونية والسياسية. ونفخت الحركة المدنية روحاً جديدة في جسم اعلامي متآكل ومتهالك، أناخت عليه "الثورة" وتأميماتها ومكافآتها و"إرشادها"، طوال 6 عقود طويلة، بقيودها الثقيلة. فانبعث شطر منه من عماه وسكوته وبلادته في أثناء الحركة نفسها (ويعود شطر آخر منه يتقنع بقناع محمد حسين هيكل و"حكمته" و"تجربته" و"اخباره" المنحولة والمزعومة، فيبايع المشير حسين طنطاوي، وزير الدفاع المزمن ورئيس المجلس الاعلى العسكري، "رئيساً انتقالياً"، وعلى تقليد عميق وثابت يقضي بالتسليم والخنوع فكان الرجل من سدنته وكهانه)، حين تولت الشطر الاعظم من الاعلام، في الوقت الحرج، الفضائيات الخليجية.
حل الدولة في الحاكم
وفي كلتا الحالين، انتقلت الحركتان التونسية والمصرية، من طرفية جغرافية واجتماعية ابتدائية الى عمومية متواردة ومتآصرة، وجمعت أذيال الثوب الوطني، ولمت اطرافه الى قوامه ومصدره. والارجح أن شبكة الاتصالات والتواصل الاجتماعية لم تضطلع بالدور الذي اضطلعت به في الحركتين إلا جراء لباسها جسماً وطنياً أقامت بعض مبانيه على بعض التماسك والوصلة. فجددت الشبكة، وأواصرها واتصالاتها، تماسكاً لم تتداع مبانيه كلها تحت وطأة الاستيلاء والتعسف والكذب والتفريق والمصادرة الاستبدادية. وحفظت الدول بعض العمومية الجامعة. فحالت هذه بين الجهاز الحاكم، على مثال صدامي من قبل وأسدي وقذافي اليوم، وبين تقطيع أوصال الجماعة السياسية الوطنية، وتسليط أجهزة القوة والتواصل والادارة، وعصابات أهلية طرفية، على الجسم السياسي الوطني وإرهابه وتقييده وشرذمته.
وعلى رغم شبه قوي بين الانظمة العسكرية الانقلابية التي تعاقبت على الاستيلاء على حكم بعض الدول العربية في العقدين السادس والسابع من القرن الحالي، ولا يزال معظمها على استيلائه، ثمة فروق سياسية واجتماعية لا تنكر بينها. وتقود هذه الفروق، أو بعضها، الى حال المجتمعات وجماعاتها، مُسكةً أو تصدعاً، حين الاستيلاء على حكمها. فخوَّل التصدع والتفرق العراقيان، نواحي ومدناً وأريافاً نهرية وأودية وحكاماً ومحكومين وطوائف وأقواماً وقبائل ومنازع، على تقسيم واحصاء فصلهما حنا بطاطو وتقصاهما، حاكماً مثل صدام حسين حين الاستيلاء على الحكم والدولة، وحلَّهما في شخصه وحده، وتوحيدهما فيه هو، وإبطال أضعف رابطة قد تربط اجزاء الدولة العراقية ومرافقها، وتشبكها بعضها ببعض تلقائياً ووظيفياً، خارج نظره وأمره وإيعازه.
فلم يشرك صدام حسين أركان جيشه في النصف الثاني من الثمانينات في التخطيط للأعمال القتالية الجوية المزمعة، ولا في التصدي للهجمات الايرانية على شكل الموجات البشرية الانتحارية في الاهوار. وكان الجبوري، قائد الاركان، تبلغه اخبار العمليات الكبيرة والصغيرة من الاذاعة، شأن غيره من الرعايا، على ما روى وأخبر. فالقوات المسلحة في الاوقات الخطيرة والحاسمة التي كانت تعركها وتمتحنها لم تكن قيادتها جديرة، في عُرف صدام حسين يومها ولا فيما يرى القذافي ورهط الاسد اليوم، بالاسهام في "قادسية صدام". فالقيادة لا يؤمن جانبها، ولايؤمن توسلها بقيادة وحداتها الى مهاجمة الحاكم والانقلاب عليه. و"عِلْمُها" لا اعتبار له في ميزان المحافظة على السلطة. والجنود "مادة" الحاكم الصماء والذليلة. وأحكام الخبرة والتقنية والمعرفة ذريعة لا يجوز، على ما يرى الحاكم الفذ والفرد، أو "القائد" التذرع بها الى إعمال معايير "غير سياسية" لا تصدر مباشرة عن ارادات قيادية ورئاسية، بالغاً ما بلغت هذه من الخرق وضعف التدبير.
ويسوغ هذا الالتباس، التباس تصريف أعمال الدولة بإرادات وأهواء لا قيد عليها ولا رقيب، فيما سماه بعض الخيمينيين، متفاخرين ومتعاظمين، "لا دولة". فلا قيد على "القائد" أو "المرشد" المعصومين، وهو (القائد أو المرشد) انشأ "النظام" وسواه من عدم، على ما هذى معمر القذافي وهجر في خطبة 21 آذار المشهودة. والهيئات التي قد تدعى الى مشاطرته السلطة، أو مراقبة أعماله وأفعاله، هي في حسبان "القائد" أو "المرشد" من خلائق النظام وصنائعه وفروعه وثمراته. فكيف يجوز أن تتصدى "الخليقة" الضئيلة، أو أن يتصدى الفرع للأصل، على ما يذكِّر بعض "كبار" الحوزة في قم، من امثال جنتي ومصباح يزدي وأحمد خاتمي، "المخلوق" أحمدي نجاد، وينصحونه بالرجوع عن مزاعمه البَنَوية الى حقيقته التابعة والمأمورة.
والحق ان ما جاز في العراق لم يجز في مصر الناصرية، وبالأحرى الساداتية والمباركية. فبعض أركان الدولة و"مداميكها"، على قول نابوليون في الادارات المحلية والقضاء والتعليم والتحصيل الضريبي ومرافق الانتاج الكبيرة والسياسة الدينية، عصي تصديعها وحلها في شخص الحاكم، على رغم دالته التاريخية. والحق أن هذه الدالة، والمكانة المترتبة عليها، حلت في المؤسسة العسكرية المصرية كلاً وجميعاً، وأحاطتها بهالة قيدت يدها الى اليوم، ومنعتها من التطاول على الحركة المدنية، وحالت بينها وبين خدمة التعسف الرئاسية وشططه، والانصياع لارادته وأهوائه. وهي تفرض على المجلس الاعلي مراوغته وترجحه بين الأقطاب المتخلفة عن اخراج مبارك واعتصامه بالصمت في مسائل كثيرة تتداولها المناقشات العامة مثل النص على مدنية الدولة ومترتباته على قانون الاحزاب السياسية وشروط انشائها ومراقبة التزامها القانون والشروط.
ويكاد ينفرد "النظام" القذافي الليبي، بعد انهيار قرينه الصدامي قبل 8 سنوات تحت ضربات الحملة الاميركية و"ائتلافها" الضيق وزعزعة معاصره وقرينه الاسدي السوري من بعد، في النص الصريح، عملاً وقولاً، على ارادة الغاء الدولة وهيئاتها ومؤسساتها وقواعد اضطلاعها بأدوارها ووظائفها تمهيداً لإلغاء "السياسة". وتتقنع دعوة الضابط والمحرض الليبي الى الغاء الدولة، وجماع هيئاتها الانتخابية والتمثيلية والتشريعية والقضائية وسلطاتها المستقلة والمتعاونة وأحزابها ونقاباتها...، بإلغاء الفرق بين "الشعب" وبين من ينوبون عنه، ويحلون محله، من طريق الانتخاب والتفويض والاجسام الوسيطة والقوانين والنظم الحقوقية والتنفيذية. ولا ريب في أن دعوة المحرض الناصري والمسلم "الجماهيري" تستقوي بانفصال الدولة، سلطةً وهيئات ومعاملات، من المجتمع وعنه، وانتصابها قوة أو كتلة مرصوصة تحكمه من فوق، وبمعزل من رغبات الناس والجمهور وارادتهم. والانفصال تجربة عامة تثقل على الناس في أنظمة اجتماعية وسياسية مختلفة. وهي أقسى ما تكون في الولايات السلطانية. ودواء الانفصال، على زعم محرضين كثر ليس معمر القذافي أولهم ولن يكون آخرهم، هو حل الدولة في الشعب، وتذويبها في مائه الصافية والطاهرة، ومصادرتها على سلطاتها التي صادرت الشعب عليها من قبل و"سرقتها" منه، على نحو ما سرقت المُلكية (المِلك) الممتلكات وخصت ملاكين بها بعد ان كانت مشاعاً مباحاً وغير مقسوم.
المثال القذافي
وتتردد اليوم، في خطب "القائد" وأولاده وهم عماد "الطبقة السياسية" العائلية الحاكمة وبعض ألسنته، الاحالات الى خطبة زُوارة، في 1973، البرنامجية. فالضابط الشاب الملازم الاول بعد أن كان نقيباً، لم يدعُ الى حل مباني الدولة حين استولى وصحبه من الضباط الاحرار، على الحكم وخلع الادريسيين، في 1969. وأرجأ الامر، من غير الافتراض أنه كان عازماً عليه، أربعة أعوام. وفي الاثناء، احتدمت الخلافات في قيادة الضباط الانقلابيين. ولم تلبث هذه ان انقلبت الى صفوف الموظفين، والجماعات الاهلية التي يصدرون عنها هم والائتلاف العسكري الحاكم. وذرت قرنها في أوساط الميسورين والمتعلمين (البورجوازية) في المدن الكبيرة، طرابلس وبنغازي. وتستجيب خطبة وزارة ودعوتها الى الغاء التمثيل، وإلغاء التقاسم وموازنة الحصص والمراقبة والقيود على المبادرات والتزام المداولة (وهذه كلها هي الوجه الآخر للدولة وانفصالها)، تستجيب داعياً شعبياً عميقاً، ونازعاً حاد الى التحرر من قيد سلطة مركزية قوية، وتشترك جماعات ليبية أهلية عريضة في الداعي والنازع هذين، على ما لا يلاحظ الديبلوماسي والضابط الفرنسي السابق باتريك همزاده ("في قلب ليبيا القذافي"، باريس، نيسان 2011).
وحرص "العقيد" الابدي، في خطبة زوارة، على ارساء اعادة الدولة الى الاحضان الشعبية المزعومة على عمليات استئصال تحيل المجتمع الليبي وجماعاته أنقاضاً، وتمهد خلافاته ونزاعاته وتزهق أسبابها. فتعهدت النقطة الثانية تطهير ليبيا من "المرضى". والمرضى هم أنصار النظام السابق و"الاخوان المسلمون" والشيوعيون و"القطريون" المتحفظون عن الوحدة (الوحدات) العربية. وأطلقت النقطة الثالثة "حرية الشعب" من غير قيد، على ان يحظر على "اعداء الشعب" التمتع بها على أي نحو كان. وعلى جاري عادة هذا الضرب من الانظمة المستبدة والمتسلطة، قلما تترتب نتائج معروفة وايجابية على الاجراء، على حين تترتب عليه نتائج سالبة مباشرة. واباحة حرية التظاهر في سوريا من آخر الامثلة على هذا. ولما كان لا يعرف أحد من يكون "الشعب" المفترض والمطلق الحرية، وكيف يتمتع بالهبة الالهية والمعمرية، بقي الاجراء من غير أثر. وعلى خلاف الوجه الايجابي، لا يجهل أحد من يكون "أعداء الشعب": فهم "الخبثاء" (لم يكن هذا اسم "الجماعات الارهابية" بعد)، و"القطريون" الوطنيون ودعاة الاقلاع عن المغامرات الخارجية وتمويل حركات "التحرر"، والانفصاليون من غير قبيلة (قوم) القذاذفة وحلفائها المباشرين والاوفياء وكاتمي الاسرار من المقارحة. وأقرت النقطة الخامسة اجراءً عاجلاً هو "الثورة الثقافية". وهي قضت من غير ابطاء، بإحراق الكتب الماركسية والرأسمالية والمخالفة الاسلام، وبـ"التعريب الكامل" للحقل الثقافي البارز والحيوي الماثل في اسماء المحال التجارية والشركات.
وأتبع "الأخ" خطبته بأفعال ترجمت عنها. فاعتُقل آلاف الليبيين المتعلمين والميسورين، وعذبوا، وقتل بعضهم. ومن لجأوا الى ديار (أو ديرات) أهلهم، واعتصموا بها، قصفوا هم وأهلهم. وهرب الآلاف من السجن الليبي الكبير الى الخارج. فأرسل "الاخ القائد" من تعقبهم، وقتل بعضهم عنوة في المنافي، خارج أسوار "اللادولة" القذافية الناشئة. ودأب الرجل، وهو انفرد تدريجاً بالحكم بعد أن انفض عنه حلفاء الساعة الاولى وشركاؤه في الغاء القواعد الاميركية والبريطانية وفي زيادة حصة ليبيا من عوائد تصدير النفط، دأب على النفخ في إوار "الثورة"، والحؤول دون برود توتراتها، واستقرارها على نظم وأعراف. فلا مناص إذا استقرت هذه، من أن يفضي استقرارها الى تقييد حملات التطهير، وتحصين المواقع والمصالح، والرجوع الى السوابق والاجتهادات وتقديمها على الاحكام المرتجلة. وسمى الرجل نهجه المضطرب هذا "ثورة الى الابد". ومزج تخريب الدولة، ونظمها وسننها، بإجراءات سياسية واجتماعية استجابت احتياجات فعلية وعامة. فهو لما دعا "الشعب" الى الاستيلاء على جهاز الادارات، وتحطيم الدولة، وندد بطلب جماعات ميسورة ومتعلمة اجراء انتخابات نيابية حرة وعلى قاعدة حزبية، عمد الى زيادة حد الاجور الادنى ضعفين. وأمر بتثبيت ايجارات السكن. وعرَّب التعليم فقرَّبه من متناول الفقراء وأهل العسر. وباشر خطط إسكان كبيرة وسريعة تلبي حاجات المهاجرين من قراهم وديراتهم الى مأوى في مهاجرهم الحضرية والغريبة.
وعلى هذا، اجتمع في نهج وسياسة متضافرين ومتلازمين تحطيم الادارات وهيئات التمثيل والتوسط والتحكيم واضطهاد الاحزاب ("الاخوان" والشيوعين والبعثيين) مع تلبية بعض حاجات الجماعات النازحة الى المدن واهل القبائل، واستعداء "النظام"، رسمياً وايديولوجياً، هؤلاء، وهم يحملون وظائف الدولة التحكيمية والتمثيلية والقضائية والادارية على ترف في وسعهم الغنى عنه، على البورجوازية وأنصار السنوسية والطرق الصوفية والاحزاب والدول الاستعمارية الغربية وشركاتها النفطية و"عملائها" المحليين. وأرفق اجراءات التوزيع باعتقالات معارضين حزبيين وناشطين من التيارات والميول كلها. وفي أواخر تشرين الاول 1975 غداة سنتين وبعض السنة على الاجراءات "الشعبية" التي مولتها زيادة عوائد النفط في اعقاب حرب تشرين (1973)، وتوسلها المحرض الجماهيري الى شراء الانصار وتكتيلهم وتجييشهم في إمرته كشف الضابط المستولي عن مؤامرة ضباط "رجعيين" يقودهم عمر المحيشي، المصراتي الطرابلسي. وكانوا ينوون الانقلاب على معمر "القذاذفي" السبهاوي الفزّاني. وكان المحيشي أنكر تقديم عبد السلام جلود على سائر الضباط، وانتدابه الى الولاية على المنظمات الفلسطينية المقاتلة في لبنان، والى تنسيق الولاية المزدوجة والعظيمة المردود مع الاجهزة السورية الاسدية "العاملة" في "بلد الارز". وسمى الضابط المحرض والناشط و"الموزع" مهاجمة بعض شركائه في هيئة الانقلاب وهي تشبه مرفق دولة ولو شبهاً ضعيفاً- والاعداء الكامنين والمتجددين، سمى العمل المزدوج "زحفاً" على المؤسسات.
وتوج مسيره المظفر منذ "الفاتح" (الاول من أيلول) بـ"الكتاب الاخضر"، أو النظرية العالمية الثالثة، مَدْرج البشرية (فهي وحدة القياس القذافية) الى تجاوز الشيوعية والرأسمالية، على ما هو مشهور. وفي أوائل آذار 1977، بسِبْها هذه المرة، وفي قلب الفزان، ومن مؤتمر الشعب العام، زف القائد الملهم بشرى انشاء "الجماهيرية العظمى..."، نظام سلطة الشعب من غير دولة، ودستوره و"مرجعيته" "الكتاب الاخضر"، بحر العلوم السياسية والاجتماعية والتاريخية ومحيط المحيط. وحسبان انسان او امرءٍ مثل معمر القذافي، وهو من هو عزلةً وتحصيلاً ضعيفاً وعالة ظاهرة وقصوراً فادحاً، أن في مستطاعه الخروج الى انسانية القرن العشرين بـ"دعوة" سياسية وأخلاقية واجتماعية جامعة تداوي أمراض هذه الانسانية وتشفيها، لا لمسوغ إلا تحكمه في انتاج نحو مليوني برميل نفط في اليوم وأمره ونهيه فيها وحده، هذا الحسبان مدعاة غرابة وعجب لا يتبددان على مر الزمن. ويصيب مثل هذا الغرور المرسل والارعن أشباه الرجل المتربعين على رأس وحدة صواريخ مهربة، ووراء جدار بشري من الشهداء "الاحياء" الذين تغلب "شهادتهم" "حياتهم" المبددة. ويبعث انكفاء الجماعات العربية "القبلية"، وانقطاعها من تيارات العالم وحوادثه، مثل هذا الاحساس المستحوذ والمستبد بالانتداب الى تبليغ "رسالة خالدة" وتخليص البشرية من "الآثام" و"الشرور".
الاعفاء
فتتصور الادارات، وأعمال التدبير اليومية، والسياسات التربوية والانتاجية والمالية والقضائية والتقنية، وغيرها مثلها، في صورة المهمات التافهة، والسخيفة. ولم يخامر الملازم أول والمحرض المنتشي بسلطانه وعوائد نفطه، والمتربع في قمة "ولايته"، شك في تفاهة القيود على سلطانه. فلم ينفك يخرب أبنية الادارة والتدبير بواسطة "اصلاحات". وتعمدت هذه تضييع المسؤوليات عن القرارات، وتمويه معايير تعيين المسؤولين ومحاسبتهم ومراقبتهم. وأعلت معيار الولاء او التحزب والتعصب على معايير الكفاءة والاداء والمسؤولية. فسادت مناخات "الثورة الثقافية البروليتارية العظمى"، الماوية الصينية المدمرة، "الدولة" والجماعات الليبية. وعاثت فيها فساداً وتخريباً وتفكيكاً. وعلى المثال الماوي الصيني، بقي الرأس المدبر، أو "قيادة الاركان"، يقظاً. فحصّن مرفقين حيويين ومتصلين من فوضى "اللادولة" القذافية، هما المورد النفطي والنهر الكبير أو العظيم. فأوكل بالاول إدارة تقنية صارمة. وصرف الى الثاني شطراً كبيراً، يقدره همزاده بنصف عوائد الدولة. فالماء، في بلاد صحراوية وزراعية، على رغم هجرة معظم أهلها الى المدن، مادة شاملة، إذا جازت العبارة، وركن ترسو عليه لحمة الجماعة الوطنية وتغرف منه. وقد تؤدي خطط الري الزراعي من دون مياه الشفة تقريباً وهي أنجزت منها 3 مراحل تروي أراضي أجدابية وسرت وبنغازي وطرابلس وشرق برقة وغرب طرابلس (في 1983 1996 الى اليوم)- الى نضوب المياه الجوفية في مستقبل قريب أو بعيد. وتحظر السياسة والمخيلة الستالينيتان والماويتان، ونازعمها الى العظمة الفرعونية، مناقشة المسألة الحيوية. فالأمة الليبية ذائقة الموت على خلاف سلطانها "الدهري" وسلالته.
ويُزري جعلُ النفط، أو عوائده، والماء في عهدة القذافي وحده، من غير تثمير العوائد ورسملتها، وعلى خلاف مقتضيات الحفاظ على مصادر المياه، بالدولة وهياكلها ويحط منها. وهو يوكل الى الرجل وأولاده وبعض أصهرته التمثيل على دوام الامة. فإذا اضطر الى تقليص أعباء النفقات "العامة"، على معنى السلطانية أو نفقات الاعالة من الموارد الطبيعية وليس من موارد العمل والانتاج، سلك نهج الادارة السوفياتية و"اصلاحات السوق" الحيية التي اضطرت اليها. فأباح في أواخر الثمانينات، حين شرعت أسعار النفط تتردى في ختام دورة زيادتها "العظيمة"، التجارات الصغيرة من جديد. وألغى دعم بعض المنتجات والسلع الحيوية. ورفع الحظر عن بيع المزارعين منتجاتهم بأسعار السوق أو قريباً منها. ولا تفعل مثل هذه الاجراءات إلا الإقرار المتأخر والوقح بأن للاقتصاد ومعاملاته منطقاً لا تستنفده إرادة الحكم ومصالحه التعبوية والشعبوية والارهابية (وهذه سنوات اسكوتلندا ولوكربي)، ونازعه الى إيهام رعيته بأنه "ربها" الذي "يحيي ويميت". وهذا على خلاف منطق الدولة، ورهنه النتائج والعوائد الاقتصادية بتنظيم الانتاج، وسياسة الاستثمار في المرافق المناسبة، واسهام عوامل الانتاج، وفيها العمل، في الناتج.
واضطر القذافي المحاصَر، وهو جرّ رهينته ليبيا الى الحصار، الى "تحرير" مرافق أخرى، على ما سميت اجراءات السياسة التاتشرية والريغانية الليبرالية في أوائل التسعينات. وعادت الاجراءات القذافية على الليبيين المحاصرين بكارثة انسانية. فزادت أسعار السلع الاستهلاكية، وهي تولت شركات الاستيراد الاحتكارية والمحظية استيرادها، ووزعتها المحال الصغيرة والخاصة، أضعافاً. ولم يكن عسيراً على "الاخ" المتعاظم القيادة الخرقاء والمتهورة استثمار عسر الليبيين في خدمة سلطانه: فاستمال اليه المستوردين، أو قوّى روابطهم بإرادته وإنعامه، وحمَّل صغار التجار أوزار النقمة "الشعبية" على المستغلين والعملاء وأنصار النظام القديم، وندد بالحصار الغربي والاستعماري على الشعب الليبي المظلوم وعلى قيادته العنيدة والمقاومة، وجدد العقد بين القيادة الحكيمة وبين الشعب. وأتبع، مرة أخرى، النظر والمقال بالعمل والحال: فأنشأ لجان تطهير ثورية (بديهة)، في 1994، أوكل اليها تعقب الباعة وصغار الوسطاء من "المنتفعين" ومصاصي دماء الشعب (ولولا بقية من جهل أو حياء لقال: الكولالك او لقال اليهود).
ولما عدم كل ذريعة الى استبقاء "الخطة" المركزية، أو "القطاع العام"، وهذا ما كان في 2002 -2003، "حرر"شيخ القذاذفة والمقارحة الاقتصاد كله، وخصصه أو خصخصه. وألقى على عواتق أولاده الكثر، وخواصهم ومحظييهم، أعباء السوق "الاجتماعية"، على قول الصينيين الشيوعيين وقول عبدالله الدردري الخبير الاقتصادي السوري في حكومة العطري الحلبي "التكنوقراطي". فاقتسم محمد معمر القذافي، بكر الاولاد، وسيف الاسلام والساعدي والمعتصم (بالله بعد والده) وهنيبعل (صاحب الفتوحات السويسرية واللبنانية) وعايشة وسيف العرب (الراحل)، مرافق الهاتف النقال والنفط والمصارف وكرة القدم وتجهيزات البنى التحتية ووكالات الاستهلاك العالمية والتجهيز العسكري والنقل البحري والعقارات. وأبلوا جميعاً في المهمات الثقيلة بلاء أولاد الاخوال والاصهرة في بلدان شقيقة أنشأ قادتها، وهم على الدوام فرادى، أجهزة تسلطهم "الى الابد" على مثال "اللادولة".
وعلى هذا، لا ينهض سلطان القائد المزمن والقادة المزمنون الاشقاء، على أجهزة الاستخبارات والامن والقوات المسلحة والعصابات الاهلية، أي على الارهاب والاكراه والعصبية أولاً. وإلا لم يُعقل، ولم يجز فعلاً وعملاً، انتهاء عهود مثل هؤلاء القادة، ولو تصورت نهاية عهد بعضهم في صورة المعجزة الفريدة. فلا أمن بن علي أصابه الوهن، ولا نقص عدد موظفي الامن المركزي المصري، ولا ألغي جهاز واحد من أجهزة الامن السورية الـ19 أو قلصت صلاحياتها في التوقيف و"المقاضاة" والاخفاء، ولا انحسر "الباسدران" و"الباسيج" الوارف عن الايرانيين. فركن الاستبداد المتين هو صدوع المحكومين وتوكيلهم الحاكم، وأهرامات أجهزته ومراتبها، بالنيابة عنهم في تدبير روابطهم ومصالحهم المشتركة، ومرافق معاشهم وعمرانهم، وفي تعريف هوياتهم ومثالاتهم. فيصح في معمر القذافي أنه اشترى من ليبيين كثر حرياتهم وتدبيرهم، "أن لهم"، أي لقاء اعفائهم من منازعاتهم على أي ليبيا يريدون : أي اواصر بين المناطق و"العواصم" التاريخية والاهلية؟ وأي ادارة لهذه الأواصر؟ وعلى أي معايير توزيع وتأليف وتداول؟ وعلى أي مقادير من العوائد؟ وعلى أي توزيع؟ وأي قسمة بين الدولة وبين المجتمع وقواه وجماعاته؟ وكيف يُنشّأ فتيان الليبيين؟ وأي روابط تشدهم الى مواضيهم؟ والى الامم الاخرى؟...
والدولة الوطنية المدنية، في عالم دول أمم غالب، هي الكيان الجامع للمباني التي تضطلع بالمداولة العملية في مثل المسائل التي "أعفى" منها القذافي، وأقرانه وزملاؤه "العرب"، رعاياهم من الخوض فيها، واحتمال اعبائها الثقيلة، الى بعض الوقت (الطويل). وهم لا ينفكون يطلبون إطالة الوقت وتسليفهم الصبر عليهم، على رغم استطالة الوقت هذا عقوداً مرهقة. وأنصار هذه الانظمة حين ينتصبون للدفاع عنها يختارون ما يتراءى لهم منها "مهمتها المركزية"، مثل المقاومة، او التحرير، أو عداء الامبريالية، أو الموقع الاقليمي المفتاحي... وفي الاحوال كلها يرفضون المجادلة في "السياسة"، أي في موضع التهمة الداعية الى الحركة المدنية: كيف اضطلع النظام بمهمته المركزية المفترضة. وكيف عرَّفها وانتخبها؟ وما هي تبعات التعريف والانتخاب على الشعب وأجزائه وعلاقات اجزائه بعضها ببعض وطاقاته؟ وعلى رشده وقيامه بنفسه؟ فالمجادلة في عدد الصواريخ وجفري فيلتمان أقرب تناولاً وأوضح معنى.