الخميس، 25 يونيو 2009

أجهزة القوة المركزية في طهران تحسم الموقف الرسمي و«الإسلامي»

الحياة- 24 يونيو 2009
بدت صورة محمود أحمدي نجاد وهو يخطب جمعاً من بضع عشرات من العلماء المعممين (بعمامات بيض معظمها) غداة خطبة علي خامنئي، في 19 حزيران (يونيو)، وحسمه الرأي في انتخابات 12 وتزكيته «التلميذ الصغير»، على ما وصف الرئيس المنتخب نفسه، وفوزه - بدت الصورة غريبة بعض الشيء. فجنرال الحرس الثوري السابق، وعضو استخباراته وجهازه العملي والتنفيذي، على زعم نمساوي متجدد، لا يقف خطيباً، بعد فوز متنازع، في من يفترض فيهم انهم قاعدته السياسية و «الاجتماعية» والإيديولوجية، وأمثاله وزملاؤه.
وليس من يقف موقفه في العلماء المعممين هو من يفترض فيه انه زميلهم، ومن مرتبتهم «علماً» وفقهاً وتدريساً، وهو آية الله (العظمى، على سبيل الاختيار) علي خامنئي. وعلى رغم ان خامنئي رئيس اركان فقهاء الجمهورية وعلمائها، لم يخص ضباط الحرس والشرطة والجيش والاستخبارات بخطبة غير تلك التي قرأها على مصلي الجمعة بطهران. فهو برز على شاكلة قائد «اجهزة القوة»، على قول روسي يخصص أدوات القمع بالتسمية والوظيفة. والمرشد ومرجع الفقه والتقليد في دولة تنتسب الى دين وإيمان واعتقاد، قصر كلامه الفصل، بحسب ما ينص الدستور على مرتبته، على شؤون «سياسية»، والأصح على شؤون إدارية إحصائية وإجرائية وبوليسية. فلم يحتج، ولم يقارع الحجة بالحجة، والمنطق بالمنطق، والبرهان بالبرهان. فتوعد وتهدد و أنذر وخوف. فكان قوله قول ضابط أمن، من الحرس أو من الباسيج، وليس قول مدرس مجتهد، يحاضر في السطوح والخارج وفي مبادئ استنباط الأحكام، على قول الإماميين في علمائهم وطلبتهم.
ولا نعلم ما قاله محمود احمدي نجاد وهو يخطب جمهوره من الحاج والأغوات، على ما يسمي الإيرانيون معمميهم. ولكن ما لم يفت المعلقين ملاحظته هو إحجام كبار العلماء ومدرسي الحوزات بقم ومشهد وشيراز ويزد، الى طهران، عن الخوض في انتخابات الجمهورية «الإسلامية» التي تستظل علمهم وفقههم و «قيادتهم»، ويتبوأون في مجالسها الانتصابية (الرقابية) مراتب الحسم والبت. وكان مير حسين موسوي ناشد العلماء الكبار، مساء 12 حزيران، وحال مبادرة بعض اجهزة السلطة الأمنية والإعلامية إلى إجراءات وإعلانات أظهرت خروجها عن التحفظ وميلها الى الرئيس الحرسي والأمني-، تركَ انزوائهم وصمتهم غير المعتاد، والإدلاء برأيهم فيما يحصل ويُفتأت. وبعض منه، إن لم يكن معظمه، يحصل باسمهم ويستقوي بولايتهم وفقههم. وأدرك بعض المراقبين ان الغرض من مناشدة موسوي العلماء هو تلافي دعوة الناخبين المقترعين الى التظاهر، وحماية اقتراعهم وأصواتهم من مصادرة اجهزة وزارة الداخلية، وأجهزة القوة الأخرى لها.
ولكن علماء الحوزة «الناطقة»، والجهورية النطق، على ما دعاها إليه روح الله خميني وثنّى على دعوته نجل محمد باقر الصدر العراقي ، لزم معظمهم الصمت. وتركوا، ما خلا آية الله صانعي وحسين منتظري «المعتقل»، عشرات الملايين من المقترعين الإيرانيين، المسلمين، وجهاً لوجه وعشرات الآلاف من «الخالدين» (اسم فرقة الحرس الشاهنشاهي والامبراطوري الخاص) الجدد. وهم أحجموا عن الكلام، رأياً غير ملزم أو فتوى، وعزفوا عنه. ولم يعلنوا تأييدهم المرشد، من وجه آخر، ربما تفادياً لظهورهم، أو ظهور مكانتهم ودورهم على حقيقتهما الضعيفة والهزيلة. فالجمهورية «الإسلامية» ناطت بعلم العالم الفقيه صفته الدينية المفترضة، وأرست على العلم هذا وصل ما انقطع من حبل الإيمان والرأي الصحيح والسديد. وهي تولت جسم العلماء وسلكهم وهيئتهم، وخشيت انقساماتهم، وتحفظهم، وانصراف معظمهم عن وعودها لهم. ولم ينفع هذا كله. فجاء انتخاب رئيس بلدية طهران (يومها)، والحرسي الاستخباري، الغامض الدور والماضي والسيرة، وهو أول «مدني» غير معمم يتبوأ منصب الرئاسة، جاء ايذاناً بتردي مرتبة العلماء بين مراتب الجمهورية وبضعفها.
وصمَمُ العلماء، اليوم، عن نداء «المدني» موسوي، وفي صفه خاتمي ورفسنجاني من زملائهم الى منتظري، وإحجامهم عن التورط في تأييد خامنئي، ولزومهم صمتاً موارباً، قد تكون من القرائن على إدراك العلماء، جسم الجمهورية «الإسلامية» الأول وعلمها على هويتها المفترضة، ضعفَ مرتبتهم، وتقدم المراتب الأخرى، الأمنية والعسكرية والتعبوية والاقتصادية، عليها. واستباق خامنئي، ووزارة الداخلية، الاحتكام الى مجلس صيانة الدستور الذي يبت في الترشح الى الانتخابات، وإلى مجلس الخبراء الذي يراقب أعمال الهيئات وفي مقدمها المرشد نفسه، والعلماء هم الشطر الراجح من هيئات المراقبة والنظارة والحسبة - الاستباق هذا قد يكون عبارة عن «نقل» خامنئي ولاءه، أو التماسه عوامل قوته من الهيئات الدستورية الى اجهزة القوة.
وبعض هذا، مقدماتُه في سياسة محمود أحمدي نجاد، وفي النهج الذي توجه احمدي نجاد، وأعانه على تتويجه خامنئي في 2005. فالميل الى حماية النظام «الإسلامي»، اي الخميني، من طريق سياسة ردع نووي حازمة ومغامرة، وبواسطة طوق من المنظمات العسكرية والأمنية الموالية، على مثال «حزب الله» و «حماس» و «لواء بدر» السابق واللاحق، والمبادرة الى حروب اختيار واستنزاف إقليمية، تقتضي سلطة مركزية متماكـسة ومرصوصـة في الـداخل والـخارج مـعاً.
ولا يتفق المقتضى المركزي العسكري هذا مع كثرةِ الهيئات الرقابية، وربما تنازِعها، المتخلفَيْن عن الحركة الشعبية و «الجمهورية» التي حملت فقيه قم الى قيادة إيران. فمهمة قيادة الدولة الإقليمية التي تتوق الى «العظمة» تشترط من غير شك تمتعها بمشروعية «إسلامية» متينة. ولكن حماية الدولة هذه، في الداخل والجوار، لا تقع في المرتبة الأولى على عاتق الجسم العلمائي. وانقساماته لا تؤهله للاضطلاع بحماية الدولة او النظام. وعلى هذا، فالانتخابات على صورتها السابقة، واحتكامها الى منافسة حقيقية على رغم تصفية المرشحين، لم تبق الشكل الأمثل لـ «إنتاج» قيادة مشاغلها العسكري والأمنية غالبة. فينبغي ألا تكون الانتخابات مرآة قيادة مركبة، أو منقسمة في الداخل، شأنها في الخارج. وهذا برنامج المرحلة القادمة. ولكن ربما بعد فوات الأوان. فالإيرانيون ثلموا الصورة الحرسية، وأظهروا الانقسام في قلب «الامبراطورية» الإقليمية. فليس المتظاهرون والمتظاهرات وحدهم في ورطة. وقد تكون ورطة اركان الحرس والباسيج وأجهزة القوة أشد وأقسى وأبأس عاقبة

الاثنين، 22 يونيو 2009

الانتخابات الرئاسية الإيرانية... من التسويد النجادي الى "الكرنفال" الحزيراني

الخبز العامي والسيرك الإقليمي والحياة الخاصة محل السياسة

المستقبل، 21/6/2009

غداة أربعة أيام على إحصاء وزارة الداخلية الإيرانية نتائج الانتخابات الرئاسية التي دعي الى المشاركة فيها 46 مليون ناخب، ولبى الدعوة 80 في المئة منهم، نظم انصار محمود أحمدي نجاد، المنتخب الى ولاية ثانية في الدورة الأولى بثلثي أصوات المقترعين، نظموا تظاهرة تأييد و "توحيد" لصاحبهم. ومنع أنصار خصم الرئيس المنتخب، في اليوم نفسه، من التظاهر. وناشد المعارضين والمحتجين صاحبُهم، المرشح مير حسين موسوي، البقاء في منازلهم، وترك الشارع العظيم بطهران، ولي عصر (إمام الزمان المنتظر، و "خليفة" بهلوي ثم محمد مصدق، رئيس الوزراء الذي "قلبته" الـ "سي آي أي" في 1953، على الاسم)، الى متولي احمدي نجاد وراعيه، علي خامنئي، المرشد والولي الفقيه ومرجع التقليد، آية الله العظمى.

المحادثة الأخطبوطية

وتقول وكالات الأخبار في الحشد النجادي والخامنئي هذا – وكنا، نحن مشاهدي التلفزيون، رأينا العشية السابقة صوراً مضطربة، وتكاد تكون رمادية وبعيدة، تظهر فيها ظهوراً هلامياً حركات جموع تروح هذه الجهة ثم تلك، وتشبِّه موج البحر في علوه وهبوطه وامتلاء أطرافه وانحسارها وضمورها – تقول الوكالات ان الحشد جمع من غير شك آلافاً من المتظاهرين، ربما بلغوا العشرة أو فوق العشرة. والحق ان العدد، ولو فاق العشرة آلاف أضعافاً كثيرة، ليس ما يستوقف، ويدعو الى النظر والتأمل. فما يستوقف هو تناول التلفزيون (الرسمي طبعاً) المسيرة أو التظاهرة الجديدة أو الأخيرة. فالصور والمشاهد اقتصرت على نصف الشاشة، ومعظمها بعيد من المتظاهرين، وضيق البؤرة، ومحجم عمداً عن التصوير العالي والإجمالي والبانورامي، ومن غير صوت خلفي أو غير خلفي. وأما نصف الشاشة الآخر، نظير التظاهرة الحاشدة والتوحيدية، المفترضة عينة من 62.63 في المئة المقترعين لأحمدي نجاد، فـ "احتله" المعلقون أو المذيعون، خطباء مكبرات الصوت الجماهيرية في حجرات الاستديو المركزي المغلقة والصامتة.
وعلى هذا، انفرد المذيعون الخطباء بالكلام والتعليق الكثيرَين على الصور القليلة والغائمة والضيقة الحقل والصامتة. وعادت الشاشة، وصورها المتدافعة والعصية على القراءة والتصفح النافذين والبصيرين، عادت الى دورها المتواضع والثانوي سنداً للإذاعة والصوت الجهوريين والمعنويين، والمقتصرين على المعنى والمضبوطين عليه. والضبط ليس، في هذا المعرض، كناية ولا مجازاً. فالمعلقون والمحللون، على قول الوكالات، وهم كلهم صوت مجلس تنسيق الدعاية الإسلامية، صاحب الدعوة الى التظاهرة، تكهنوا بالأثر المترتب على التظاهرة النصفية والصامتة. فأجمعوا، والإجماع فضيلة الصوت الواحد الداعي ومجيب الدعوة معاً، على ان الجمع "يحسم دابر المؤامرة والإخلال بالأمن"، و "يحبط مخططات الأعداء".
وفي الأثناء، على قول موقع قناة "برس تي في" على الشبكة، شهدت مراسلة القناة مناصري المرشح الخاسر، وخصم أحمدي نجاد و (تدريجاً) علي خامنئي، يتجمعون ويقصدون ساحة وناك، أحد مسارح الحملة الانتخابية البارزة شمالاً، ويتكاثرون، ويضمون روافد المتظاهرين المتقاطرين من الطرق والشوارع الفرعية والخلفية. وحين صاروا "تظاهرة كبيرة وضخمة"، وخضراء جهيرة الأخضر، قصدوا "في هدوء" جادة والي عصر، الشريان الواصل جنوب طهران "الفقير" بشمالها "الميسور"، والبالغ 16 كلم طولاً و50 متراً عرضاً. وانعطفوا صوب مبنى هيئة التلفزيون الإيراني، جنوباً، حيث يطمئن صوت المستضعفين، ونورهم ومنارتهم، في حضن أهله. ويسعه ان يعمى عن تظاهر الخصوم "الأعداء"، ويصم الأذن عن أصواتهم ومطاليبهم، ويعدمهم. وكان المقترعون لموسوي يجتمعون في مدن ايران الكبيرة الأخرى مثل شيراز، جنوباً، وأصفهان، وسطاً. فيسرع "الباسيج"، شرطة التعبئة ("المعبأون" حرفياً)، الى محاصرتهم وتخويفهم وتفريقهم واعتقال بعضهم، حين لا يقتلونهم غدراً.
ويتضافر على الإسكات والتعتيم، وهو صنو الإعدام واسمه الآخر في عصرٍ وليّه أو امامُه الصورة المتلفزة والرقمية وليس الصوت الإذاعي، قطع شركة الهاتف الخلوي التي تملكها الدولة الاتصال عمداً، والحظر على أخبار وسائل الإعلام الأجنبية. وقال أحد مأذوني وزارة الثقافة أن وزارته، أي دولته، حظرت على الصحافيين والمراسلين التصوير التلفزيوني والفوتوغرافي (الشمسي) في انحاء "المدينة". وفي المدن الإيرانية الأخرى، بالأحرى. وكانت السلطات الفقهية الراشدة والهادية والمهدية، الثقافية والإعلامية، أسكتت معظم المواقع والمدونات المناصرة موسوي في الأيام الثلاثة السابقة. فلجأ المناصرون الى نشر الأخبار والصور وتبادلها على مواقع "حرب" الغوار والطياحة المحدثة، وطرق "تموينها"، وعلى "فايسبوك"، و "تويتر"، منافسه المولود قبل وقت قليل. فانتصاب نصف الشاشة التلفزيونية الرسمية معلقاً أوحد ومأذوناً على نصفها المصوَّر والغامض والصامت الآخر، وعلى الحشد المستجيب دعوة المعلقين وهيئتهم الراشدة (مجلس تنسيق الدعاية الإسلامية)، إنما شرطة تجفيف "الدم" السائل في شرايين المواصلات والخطوط التلفزيونية والإلكترونية. فلا يستقيم تسويد الشاشات، وإطلاق ألسنة المحللين المأذونين في القيام مقام المقترعين والناشطين والمتظاهرين وأصحاب الرسائل القصيرة والمواقع والمدونات، أي مقام المحادثة العظيمة والأخطبوطية التي عصت بإيران والإيرانيين طوال الأسبوعين الأولين من شهر حزيران 2009، ومثَّلت على السياسة غير الخمينية ولا الخامنئية الحرسية والباسيجية – لا يستقيم هذا إلا بخنق ذاك.

العزل والكوى

والحق ان الانقلاب الى الحال الأخيرة، حال التعتيم والتسويد وانتصاب نصف الشاشة رقيباً على نصفها الصامت الآخر، هو مرآة الانقلاب الحرسي والفقهي على المحادثة والسياسة الإيرانيتين اللتين استفاقتا في الأيام العشرة عشية الانتخابات، بعد أربعة أعوام من سلطة حرسية وبوليسية متزمتة. فعلى رغم ان سنوات ولايتي محمد خاتمي (1997 – 2005) لم تدرأ عن الإيرانيين المتنورين اغتيالات 1998، وهذه طاولت بعض المثقفين (وفيهم امرأة) ولا اقتحام جامعة طهران والعدوان على الطلاب وقتل بعضهم ترهيباً، ولا هي حمت الفقراء وأصحاب المداخيل المتواضعة من البطالة وانهيار قيمة العملة وضعف الخدمات العامة، إلا انها نفخت بعض الروح واللون والأمل في الحياة الاجتماعية والثقافية. ودعت الشباب والطلاب والنساء وأهالي المدن الى مشاركة واسعة في دائرة التعبير العامة والمشتركة. وسعى الرئيس السابق في تقييد الحسبة الحرسية والباسيجية على حركات الناس وسكناتهم، وعلى أفكارهم وأقوالهم وذوقهم ولباسهم واختلاطهم وشرابهم ودراستهم. وهو لم يهدم جدار الفصل الشائك والعقيم الذي شيدته الخمينية ورفعته، وأوكلت إليه عزل إيران والإيرانيين عن تيارات مبادلات العالم ومداولاته، على وجوهها الكثيرة، ولكنه فتح كوى في الجدار الأمني والإيديولوجي، أو حال بعض الوقت دون ردمها وتطيينها على وجه السرعة، ومعاقبة المتجرئين على النظر أو الكلام أو الاستماع منها (ولم يبرئ هذا عبدي ولا كديوار، ولم يخرجهما من السجن ولكنه ربما حماهما من السحق وأحكام القتل التي يتهدد بها قضاة خامنئي وأحمدي نجاد معتقلي اليوم).
وحين حانت انتخابات 2005، كان استنفد الرئيس ولايتيه، وبدا جلياً، منذ انتخابات 2002 البلدية، قصوره وقصور أنصاره، وحزب المشاركة الذي يجمعهم ويضويهم، عن جمع كثرة الإيرانيين على سياسة تتفادى، في آن، الانقسام الداخلي العميق، ووصاية مجالس النظام الانتصابية، أو الرقابية على اجتماعهم واقتصادهم ونزاعاتهم وانتخاباتهم. وإلى هذا، وهو فادح، لم يخرج من صفوف الخاتميين، أو أنصار "الإصلاح" المقيدين بقيود "ولاية الفقيه" المزعومة والرازحين تحت ثقل تقاسم كتلها النفوذ والعوائد والموالي، لم يخرج "إصلاحي" واحد اضطلع باستئناف دعوة الرئيس السابق أو تجديدها. والعقم هذا ليس من حيل النظام الخميني المركب ومراوغته وحسب. فالحرب التي أصلتها المجالس والإدارة المهترئة والفاسدة الرئيس خاتمي، ومجلس الشورى المناصر له، استنزفت شطراً كبيراً من طاقاته ووقته ومساوماته و "رجاله".
ولكن خاتمي سلَّم طوعاً، منذ فوزه وعلى رغم فوزه الكاسح بأصوات لم يفلح التزوير المتعمد والشرس اليوم في بلوغ عددها (70 في المئة من المقترعين)، بأرجحية المرشد وهيئاته وأجهزته. وهو لم ينازع المرشد والحرس والباسيج و "أنصار حزب الله" والحوزة على قواعدهم وجمهورهم من "عيال" الثورة الخمينية وحروبها المعلنة والمستترة، ومستضعفيها وعوامها. فتركهم نهباً لوصاية شرهة ومتنمرة لم تفتأ تشد قبضتها على أعناقهم، وتغريهم بما أغرت به الامبراطورية الرومانية العوام، وصرفتهم بواسطته عن الجمهورية، وهو الخبز (المنح والقروض والإعفاءات والشيكات والطعام لملايين "المستضعفين" والموظفين وصغار اصحاب المصالح في الريف وضواحي المدن) والسيرك (النووي والثوري والإقليمي والشعبوي الداخلي).
فلم تقتصر الهزيمة على مرتبة "الإصلاحيين" المتأخرة، وهم كان وجههم البارز الشيخ المعمم والمسن (نسبياً) مهدي كروبي قبل ان تجلوه معارضة الأعوام الأربعة الأخيرة صوتاً غير متلجلج، بل تجاوزت تأخر المرتبة، وانفراط العقد، الى اضطلاع رجل مثل محمود أحمدي نجاد بقيادة ايران في النصف الثاني من العقد الأول. فـ "تجديد" النظام الخميني، وما اقتضاه من تقديم الحرس الثوري والباسيج وهيئاتهما ومصالحهما على هيئات النظام الأخرى بما فيها هيئة الإرشاد، وما آذن به التجديد هذا من تحريك نعرة "المستضعفين" في الداخل والنفخ في عصبية إقليمية مقاتلة تعهدت حروب اختيار متواترة (في 2006 و2008 – 2009) وشقاقاً أهلياً مزمناً (في لبنان وفلسطين والعراق) – تولاه الحرسي الاستخباري الغامض والمغامر هذا. وهو زعم إحياء الثورة الإيرانية، وقيادة "ثورة إسلامية ثانية" تُتِم الأولى، وتقتلع جذور "انحرافاتها" اللاحقة، وفي مقدمها امتيازات بعض اعيان النظام من المتحفظين عن سياسة أحمدي نجاد وعن شعاراته وخطاباته قبل سياسته. ويشمل أهل الامتيازات الأثرياء، وأهل الالتزامات من غير الحرس، ومعظم العلماء "القاعدين" أو "الصامتين"، والطبقات الوسطى الليبرالية وأولادهم الوارثين، والطلاب والنساء المائلين مع "الغرب".
واتفق انتخاب أحمدي نجاد مع غلاء أسعار الطاقة، وفورة البلدان الناشئة "الكبرى"، والعولمة المالية. فمدته هذه بموارد عظيمة صرفها الى توزيع "خبزه" وإخراج ألعاب "سيركه"، وإلى قمع خصومه الكثر والمتحفظين عنه. فأحيا، منذ اسابيع ولايته الأولى، مراقبة الباسيج البوليسية على لباس الصبايا والنساء، وزينتهن وشعورهن وصحبتهن من يصحبن. وخول شرطة "الأخلاق" تعنيف المخالفين والمخالفات، وتوقيفهم (وتوقيفهن) واقتيادهم الى المكاتب المحلية وابتزازهم والتشهير بهم، على ما صورت وروت مرجانة ساترابي في أشرطتها المصورة، "بيرسيبوليس"، وفي فيلمها الجامع (وهي تناولت المراحل الأولى من الانقلاب الخميني وقهره). فسام خصومه ومعارضيه السياسيين والاجتماعيين والثقافيين والإيديولوجيين، وهم على الأرجح معظم الشعب الإيراني "النبيل"، على قول حسين منتظري، إذلالاً ومهانة وتضييقاً. وجمعت هذه التمييز الرمزي الى وطأة التعسف والإمعان في الحجر والانغلاق والارتهان للطغمة الخمينية المتجددة والحاكمة.

الرمادي والأخضر
وعشية الانتخابات, أو قبل أشهر قليلة، لم يكن الإيرانيون وكثرة المراقبين، داخل إيران وخارجها، ليشكّون جدياً في تجديد ولاية محمود أحمدي نجاد. وذلك عملاً بسنّة درج عليها النظام منذ ترئيس علي خامنئي في 1981 – 1989. وهذه السنة انقلبت "حقاً" ادعاه المحافظون لصاحبهم، وبدا أن رأس النظام لا ينكره عليه، على رغم كثرة الثارات التي أحجبها الرجل في طاقم الحكم، وأجنحته المتنازعة والمتفرقة. وكان السبب فيها سعيه علانية وجهاراً في جمع مقاليد السلطة، ومفاتيح النفوذ، في نفسه وأنصاره وصنائعه، وفي إقصاء كتل النفوذ الأخرى، على خلاف ما استقر تقليداً ثابتاً في سياسة "الجمهورية الإسلامية". وقبل نحو السنة، أعلن محمد خاتمي عزوفه عن خوض الانتخابات. وأخرج إعلانه مخرج خطوة الى الأمام، وأخرى جانباً، وثالثة الى الوراء، على جاري تردد هاملت الإيراني هذا، واضطرابه وتنازعه المكبِّل. ولم ييأس بعض اصحابه من حمله على الترشح. وأولهم أحد أركان حملته الأولى، وأحد نوابه الرئاسيين في ولايته الثانية، محمد علي أبطحي، الكثير الوجوه، والمتشابك الأدوار والخيوط، وأحد المعتقلين البارزين في قيادة حملة مير حسين موسوي غداة إعلان النتائج.
وأثمرت المثابرة عودة عن العزوف، قبل اسابيع قليلة من افتتاح الحملة. ودعا المرشح، أو المؤذن بالترشح، الى مهرجانات على عتبة الصفة الانتخابية، اختبارية، خارج طهران. فكان الإقبال لجباً وعريضاً. وأطل الرجل ذو المحيا الأنيس والطلق، وصاحب النظرة الصافية والمباشرة، والعينين اللتين يذكر الإيرانيون انهما دمعتا في أوقات عصيبة بدا فيها الرئيس مقيداً بولائه البنوي للولي الأب وسياسياً مشلولاً وحائراً. واستقبله الجمهور مرحباً، وآملاً في التخلص من دبق جنرال استخبارات الحرس، و "دكتور" تنظيم المواصلات في المدن الخانقة والملوثة التي تتصدرها طهران، ورئيس بلديتها السابق. وثَنَى تهديد حاشية أحمدي نجاد الرئيس السابق، وربما الآتي، بلقائه مصير بنظير (بنازير) بوتو، على ما كتبت "كيهان" وعلى ما تهامسَ من غير شك اهل الظل الذين تنقل عنهم "كيهان" وأشاعوا، ثنى التهديد المرشح عن المضي على حملته. وتولى وسيط الجمهورية ومناورها، ورجل فصولها الكثيرة والمتقلبة، علي اكبر هاشمي رفسنجاني، وساطة أفضت الى انثناء خاتمي، على ما يحب ويرغب، وترشيح مير حسين موسوي، أحد اصحاب خميني المقربين، وجامع طرفي الاعتدال مصلحاً ومحافظاً، و "اليساري الفلسطيني"، على قول ايليوت ابرامز (أحد بيروقراطيي الأمن القومي الأميركي البارزين). وافتُرض أن موسوي المنكفئ والصامت طوال 20 عاماً حاسمة، ومخاصم الرئيس المرشح، أحمدي نجاد، من طريق زوجته زهرة رناورد (التي صرفها الرئيس الحرسي من رئاسة الجامعة النسائية فيمن صرف و "طهر")، قد لا يهزم احمدي نجاد، ولكنه قد يحول دون فوزه في الدورة الأولى، ويضيّق الفرق بين المرشحين. فإذا فاز، على رغم تكتل الخصوم، والمتحفظين الذين احتسب فيهم علي خامنئي نفسه ورجاله وأقرانه من رؤوس الحوزة، خرج من المعركة "بطة عرجاء"، على ما أحب المعلقون العرب والعجم القول في جورج بوش الابن ورددوا كثيراً غداة الانتخابات النصفية في خريف 2006.
وأراد استراتيجيو النظام، وأولهم ولاة الدعاية الإسلامية والثقافة (وهما واحد بطهران و "ضاحية" بيروت) وكبار موظفي وزارة الداخلية، وفوقهم "الأوصياء" على الدستور و "خبراؤه" وأهل التمييز والتشخيص، أرادوا إفحام الأعداء، وكسرهم وإذلالهم وإماتتهم بغيظهم وتعذيبهم. وفطنوا، عن دراية وحدس سوسيولوجيين، وربما في ضوء استشارات مكاتب دولية مثل التي أطلقت كذبة مفاوضة الحزب الخميني المسلح في لبنان صندوق النقد الدولي، فطنوا الى ان دليلهم الأقوى على مزاعمهم في موالاة الإيرانيين الثيوقراطية الخمينية المسلحة هو إشراك الإيرانيين المتحفظين والعازفين في الحملة الانتخابية. ويقتضي الإشراك هذا، واستجابة الإيرانيين الدعوة المتأخرة والمقيدة، الرضوخ لشروط احتفال وطني صاخب حر، ينسي الناخبين، وعلى الأخص فتيانهم وفتياتهم (60 في المئة من الناخبين) وجمهور الرسائل القصيرة ومواقع الإنترنت و "الفايس بوك" و "تويتر" والطلاب (60 في المئة منهم طالبات) والمتعلمين وأهل المهن، اعوام أحمدي نجاد وخامنئي "السياسية" والدعاوية والنووية الثقيلة.
وارتضى دعاة الأجهزة والكتل الصارمون والرماديون، في هذا السبيل، إعلان حال طوارئ مقلوبة واستثنائية طوال نحو أسبوعين. فتركوا للجمهور الذي نشأ وشب على هدهدة الحكاية الخاتمية، وحملته الولاية النجادية على تجميل الحكاية الذهبية هذه، حبلاً طويلاً على الغارب. وعندما حل مئات المراسلين والصحافيين الغربيين ربوع إيران طوال 10 أيام معدودة، وكانوا منعوا عملياً من ارتيادها في الأوقات العادية أو اقتصر اهتمامهم في الأثناء على السيرك الإقليمي، فاجأهم الإيرانيون باحتفالاتهم اليومية، وأعيادهم المخالفة على نحو حرفي ودقيق "عاشوراء" البويهية والخمينية، وتعمدهم الرد على شعائرها، ومناقضة شطور الشعائر هذه بشطور من ايار 1968. فعلى نقيض الأسود طليت الوجوه والجدران والسيارات بالأخضر الفاتح والفاقع. ورفعت الأعلام الخضر على المنازل والسيارات وفوق التظاهرات، ولُفَّت المعاصم بالخيوط الخضر، ورسمت الراحات المفتوحة وأصابعها الخمسة على الجدران. وسارت الموكب السيارة، وجابت شوارع المدن مثقلة بحملة الأعلام (الخضر) وحاملاتها، طوال ساعات العصر والغروب والعشاء الى مطلع الفجر، أو ساعات الليل المتأخرة الى السحر ووقت السحور في الليالي الرمضانية.

العيد والتبديد
وهتف أهل المواكب مودعين احمدي نجاد بـ "باي! باي!"، وناعتيه بالكذب والتضليل وتزوير الأرقام (مثل زعمه ان متوسط التضخم هو 15 في المئة، فرد البنك المركزي ان الرقم الدقيق هو 25، ودعواه ان البطالة اقل من 8 في المئة ورد اختصاصيين مستقيلين انها تبلغ نحو 20 في المئة). وعلى خلاف الشاشة التلفزيونية ذات الشعبتين، الصامتة الغائمة والخطابية الثرثارة، وسع مناصري المرشحين البارزين المناقشة والمطارحة على جهتي الطريق الواحدة، وعلى الرصيف الواحد، ومن سيارة الى سيارة. وتبادلوا، الى اللكمات والرفسات والشتائم أحياناً، البيانات والهتافات والشعارات والحجج، أحياناً أخرى. وتبوأت النساء وتلميذات وطالبات وعاملات وجامعيات و "ربات" منازل، محل الصدارة. فلوّنّ المواكب والمسيرات والتظاهرات بألوان تعمدن زهوها وبهجتها وضوءها. وسهرن خارج البيوت. وتوافدن الى الاجتماعات والمهرجانات وبادلن الشباب الهتاف والتحية و "خفقة القلب"، على زعم صحافية فرنسية. وأسمعن أصواتهن. وانتخبن زهرة راهنورد، موسوي – الرسامة، وصاحبة صالة عرض فنية، والأستاذة والعميدة الجامعية، أم ثلاثة أولاد، وصاحبة الوشاح الملون تحت غطاء الرأس الأسود، وشريكة زوجها في الحملة والخطابة، وشابكة يدها بيده على الملأ، ومتقدمته الى المنبر، والقائلة "نحن" كناية عن الرئيس الجائز وعن نفسها، ومن صب أحمدي نجاد عليها افتراءه في معرض تهمته خصمه بالفساد والمحاباة – زهرة راهنورد هذه انتخبتها الإيرانيات "الخضراوات" في اثناء الحملة علماً عليهن، وعلى علانيتهن وطلبهن الاختلاط والصداقة والشركة والمحادثة والقيام بالنفس من غير مراتب ولا وصاية.
وترك المعبأون والمستنفرون طوعاً (الباسيج) المغتاظون والمطضغنون، وهم يعدون 6 الى 8 ملايين ايراني وناخب، مواطنيهم ومواطناتهم المختلفين و "الغرباء"، يحتفلون بـ "كرنفالهم" و "كرمسهم". وخلوا بينهم (وبينهن) وبين قلب الدنيا، والعادات السائرة والسنن الثورية المعهودة والمشهورة، رأساً على عقب، على ما يجدر الأمر بالأعياد وتبديدها في أيام قليلة خزائن أعوام طويلة من الإمساك والجمع والمراكمة. وأمسكوا، على ما أمروا، عن قمع الإيرانيين المحتلفين، بعد صمت رمادي طويل، بانبعاث الحياة والألوان والمشاعر والأفكار والكلمات والروابط والكثرة في السواد الخميني والنجادي.
وجاءت الإشارة من عل، على صورة دعوة الى سبع مطارحات تلفزيونية حرة بين المرشحين الأربعة. فشهد الإيرانيون وسمعوا، وكان متوسط عدد المشاهدين المستمعين 45 مليوناً، سياسييهم ومقدمي دولتهم، لأول مرة، يكلم بعضهم بعضاً من غير تزويق ولا تلفيق أو مواربة. وخرج على الملأ تفرق أهل النظام المفترضين اسرة أو عائلة واحدة تحت عباءة الولي. وأنكر بعضهم على بعضهم الآخر الكذب والفساد والرشوة، والتوسل بالقضايا السياسية الكبيرة الى الصغائر. واستخلص الجمهور، والحملات من بعده، من المطارحات صوراً أو مواقف تختصر نهجاً. فعمت الجدران والصحف صورة إبهام مير حسين موسوي وهي تقطع كلام الرئيس محمود أحمدي نجاد المسترسل في رده الطويل، وغير الآبه بالقيد على وقت الكلام، وتلزمه الاستماع الى منافسه. وثبت ان الإيرانيين ليسوا رعية من القصّر لينتصب وصياً عليها وولياً مدعي مناجاة إمام الزمان، ومكاشفه على حدة من الشعب الإيراني، ومن هيئات دولته (وعلى رأسها المرشد!). وطالبُ الوصاية يستظهر بكرامات لم يعطها غيره مثل النور الذي جلل رأسه ووجهه وهو يخطب قادة الأمم و "ملوكها" في محفلهم الأممي. وكان بعض منافسيه، السابقين أو المرجأين، مثل علي لاريجاني، رئيس مجلس الشورى، يرى رؤى "يظهر" فيها خميني، وليس هو.
ولكن التلفزيون، وعلانيته، ذو حدين، على ما يعلم حق العلم أعيان الخمينية وبن لادن وأحزابهم. فهو مجلى الخلاف والنزاع والكثرة والاحتجاج، وعلى هذا فهو "دنيوي" و "بشري" ومبدد هالات. ولكنه، من وجه آخر، صانع ايقونات، ومجلل هامات. فشطر من الجمهور رأى أحمدي نجاد في صورة البطل المظلوم والمنافح عنه، والذائد عن حياضه وحقوقه ومصالحه، وحاميه من وحشية الليبراليين الشرهين، ومصاصي الدماء، عملاء "الأميركان" الذين أذلهم الحرسي ابن الحداد، و "أخوه البطل" حسن نصر الله، على ما قال الأول في الثاني. وترددت أصداء المناظرات التلفزيونية دعوة متعاظمة الى الحساب والعلانية والكثرة، من وجه، ويقيناً بإقدام "الملك" فيروز، البطل الملحمي الفارسي، وعدله ونصرته الضعيف على المستكبر الظالم، من وجه آخر.
والحق ان الإيرانيين لم يخرجوا الى علانيتهم الانتخابية، الموقتة والمقيدة، من مراسهم السياسي والاجتماعي طوال العقود "الخائية" (خميني وخامئني وخاتمي) الثلاثة. فهم خرجوا إليها من ارتدادهم الى حياتهم الخاصة التي قسرتهم السياسات الخمينية عليها، على مثال عرفه ووصفه روائيو الأنظمة الكليانية الشولية من أمثال ميلان كونديرا التشيكي – الفرنسي (وقد يحضر المتذكر، اليوم، غاسل الزجاج في "خفة الكائن المحالة الاحتمال"، وكلامه على مغامراته الجنسية). وبعض الصحافيين الذين زاروا، أخيراً طهران ومدناً إيرانية أخرى، لاحظوا كثرة الأشكال والصور التي يتصور فيها الانصراف الى الاهتمام بالنفس، أو ما سماه أحدهم "هم ذات النفس". وبعض الصور هذه مأساوي. فمنها مقتل 28 ألف نفس في السنة في حوادث سير، وإصابة 280 ألفاً بالتعويق. وهذا ثمرة ركوب هوى السيارة الفردية الإيرانيين. ومنها، كذلك، تعاظم الانتحار في صفوف اهل المدن العريقين، مسنين وشباناً، وفي صفوف المهاجرين من الريف الى المدينة الأولى العظيمة والساحقة. وإدمان المخدرات، على رغم الحرب التي تشنها قوات الأمن على الحدود الأفغانية – الإيرانية وكلفة الحرب الباهظة، البشرية والمادية، قد يكون تظاهرة من تظاهرات "الخلاص" البائس والفردي في مجتمع يتربع في سدته السياسية متزمتون، ومترهبو سياسة وأمر (ونهي، على وجه الخصوص). ومنها، أخيراً، تردي متوسط الإنجاب والولادات الى مستوى "أوروبي".
وإلى الوجه المعتم هذا، ثمة وجه آخر يشاركه الدلالة ويخالفه في العبارة. فجراحة تجميل الوجه وقسماته، وأولها جراحة الأنف (وتصغيره أو الحد من تصدر عظمته الوجه وغلبتها عليه)، لم تبق ميلاً، أو شاغلاً يقتصر على فئة ضيقة من الناس. وهذا ما كانت عليه العمليات الجراحية قبل 4 سنوات، عندما انتبهت الصحف الإيرانية إليها ونبهت عليها. فلم يفت الصحافيين الوافدين، والنازلين ايران بعد غياب طويل أو لأول مرة، عموم التظاهرة ومعناها. والعناية بالجسد، والوجه آيته الأولى، وبجماله لا تقتصر في دولة انتصبت لسياسة الأجساد واللباس والقيافة على قدر ما تصدت لسياسة النفوس والأذواق والأهواء والأفكار، العناية هذه جزء من مجادلة السلطان، والرد عليه حيث لا يحتسب رداً وجدالاً. وتتصل العمليات الجراحية التجميلية بحلقات نفسية تنصرف الى "تجميل" النفس، مثل التحليل النفسي، وعالم الرياضة الروحية الشرقي البوذي، والروحانيات الغيبية، والرياضات الجسمانية، من البادمينتون الى كرة الطاولة.
ويرتدي الانقسام الاجتماعي والسياسي الإيراني العميق، في ضوء العيد الانتخابي، وعشيته الرمادية وغداته الدامية والقانية، أثواباً مسرحية. وهذه جزء من تعريف هوية ايران السياسية. وهي قناع يحول بين قواها وبين تعرفها مسالكها الى مجتمع سياسي يقر بالكثرة والعلانية والمناقشة ناموساً يومياً وعادياً، وليس مكيدة ومراوغة تستدرجان الإيرانيين الى مبايعة احد أقلهم مروءة سلطاناً عليهم.


الخميس، 18 يونيو 2009

ثورة المخمل» المعتدلة والانتخابية تَهدّدت مراتب الأوليغارشية الحاكمة فَقُمعت


الحياة 16 يونيو 2009
عشية انتخابات ايران الرئاسية حذر أحد أبرز مفوضي الحرس الثوري السياسيين، وليس أحد جنرالاته العسكريين، المدعو يدالله جواني الناخبين الإيرانيين من اجتماعهم على «ثورة مخملية» على النظام الخميني الحاكم، ومن إطاحتهم النظام بينما هم يقترعون في انتخابات مشروعة يتولى النظام نفسه، هو وهيئاته وأجهزته الأمنية والإعلامية والإدارية والسياسية، إعدادها وتأطيرها والإشراف عليها. وفي معرض شرحه ما يعنيه بثورة مخملية، تناول رئيس المكتب السياسي الحرسي تفصيلاً عارضاً وثانوياً هو اختيار حملة المرشح مير حسين موسوي، المتحفظ الإسلامي (أو نظير يمين الوسط الإسلامي الخميني)، اللون الأخضر شعاراً للحملة. ولكن اللون الأخضر الحسيني، أحد لوني عمائم أهل البيت مع الأسود الموسوي ولون «الربيع»، ليس محل اعتراض أو انكار الجناح الحرسي من الطاقم الخميني الحاكم. والثورات الملونة ليست كلها مخملية، على المعنى التشيكي الذي طوى السلطة الشيوعية على تشيكوسلوفاكيا (سابقاً) في 1989.
فما يريده أو يعنيه المفوض السياسي والفكري والاعتقادي بثورة مخمل ايرانية محتملة هو خروج الناخبين، وعلى وجه الخصوص منهم الشبان والشابات والطبقات الوسطى المدينية وأهل الخبرات المهنية والثقافية ومتنورو المعممين والطلبة، خروجهم من اطار الاختيار الانتخابي المقيد الى استفتاء رأي. وعلى رغم ان استفتاء الرأي هذا ليس حراً، فاليد العليا في استبقاء المرشحين أو أطراحهم واستبعادهم هي يد طاقم النظام الحاكم، وسع جمهور المرشح موسوي نفخ حياة سياسية واعدة في مرشحه الباهت والبطيء والصامت طوال عشرين عاماً من تاريخ ايران المعاصر والمكبل.
فمير حسين موسوي «ورث» ترشحه من محمد خاتمي. وكان هذا، في أثناء ولايتيه (1997 - 2005)، رجل الناس و «المجتمع المدني» في وجه أهل المناصب والقوة والقمع. وهو عزم على الترشح قبل نحو شهرين، ولكنه أحجم وأمسك خوفاً من الترهيب والتهديد بالاغتيال، واحتساباً لتقدم حظوظ موسوي الراجحة بالفوز، نظراً لعلاقاته الواسعة بأوساط المحافظين المتعقلين والمعتدلين ولحظوته عند مساعدي خميني ووارثي نظامه وسلطاته. ويرجح مراقبون كثر أن موسوي، وهو رئيس وزراء روح الله خميني «الأول»، يوم كان علي خامنئي رئيساً للجمهورية وكانت السلطة التنفيذية مقسومة في رئيس جمهورية ورئيس وزراء، ما كان ليترشح، ويخرج من عزلته النسبية واقتصاره على شورى خامنئي، لولا رغبة خامنئي في احياء الحملة الرئاسية وبث الروح فيها. فلو بقي أحمدي نجاد، أو أحد حملة لواء الخمينية الرسميين، المرشح الراجح الوحيد، لغطت الحملة في سبات عميق، واسترسلت في رتابة رمادية فضَّت عنها الناخبين الإيرانين وصرفتهم. و «الثورة»، أو السلطة القاهرة والموزعة في هيئات الحكم المؤتلفة والمركبة لا تزال تحتاج الى التعبئة والمبايعة الشعبيتين. وذلك تسويغاً لزعم طاقم الحكم التحدر من قيام الإيرانيين، قبل 30 عاماً، على الإمبراطور البهلوي، ومن إجماعهم يومذاك على وجه الثورة ورائدها.
ويقتضي التسويغ، اليوم، شأنه في أوقات الأزمات والاستنقاع التي ينفض فيها الناس عن الطاقم الخميني المتهافت والقاصر والفاسد، التلويح باحتمال منافسة حقيقية بين مرشحين ليسوا فقط ممثلي الأجهزة أو ألسنتها. وهؤلاء، ليسوا على شاكلة محمود أحمدي نجاد وعلي لاريجاني ومحسن قاليباف وعلي أكبر هاشمي رفسنجاني ومحسن رضائي، يؤدي انفرادهم بالمسرح السياسي الى اظهار خواء وفاض السلطة وطاقمها من تأييد الناخبين، وضعف تمثيلها (وتمثيلهم) العددي والإحصائي جمهور هؤلاء. ولا يخول انقسام طاقم الحكم، وائتلافه من أجنحة وكتل متباينة تلحم بينها نواة علمائية وعسكرية قومية وعامية (شعبوية)، لا يخول الانقسام هذا طاقم الحكم حشو صناديق الاقتراع بـ 97 في المئة من الأوراق التي تحمل اسم زعيم أوحد و «أبدي» على شاكلة الحاكم العراقي السابق وزميله السوري اليوم وبالأمس.
ومن الشق هذا أو الثغرة هذه، أي كثرة كتل السلطة واضطرارها الى التحكيم، تخرج ثورة المخمل، أو يخرج خوف أهل الأجهزة الخمينية الحاكمة منها. فالثورة العتيدة تحصل سلماً، ومن غير قصد من أصحابها، وفي ظل الهيئات والمؤسسات والقوانين الغالبة والمسيطرة، وفي أثناء أداء الهيئات وظائفها. ولعل ثورة المخمل الأولى التي يعرفها المفوض السياسي الحرسي جواني من قرب، هي انتخاب محمد خاتمي المفاجئ في 1997، وعلى مقدار أقل تجديد ولايته في 2001. فالرجل حظي، شأن مير حسين موسوي اليوم، بتزكية مجلس الوصاية على الدستور، الهيئة التي تتولى دور المصفاة، أو الحاكم المتعسف في مطابقة المرشح معيار المنافسة والتزامه قيود النواة الخمينية عليها. وهذا قرينة على انضوائه في النواة. وهو رضي به المجلس العتيد، حيث رأي المرشد راجح في الأحوال السائرة، استدراجاً للناخبين المتحفظين أو الصادفين يأساً وقرفاً، شأن «مرشح» خاتمي اليوم. ولكن تخطيه دوره هذا، أي الاستدراج والترغيب، وتجاوز المهمة الداخلية الى تعبئة دوائر عريضة من الناخبين العصاة على أطر النواة الخمينية العلمائية والحرسية القومية والإدارية (المالية)، هذا التخطي هو ما يخشاه المفوض السياسي والحرسي، ويسميه ثورة ملونة. وهذا كناية عن يد «أميركية» مزعومة يعزى اليها خروج المواطنين عن التزام حدود الهيئات المرسومة والمقدرة. وكان «أمير» الحزب الخميني المسلح (في لبنان) ذهب، في 8 آذار (مارس) 2005، على ما سمي من بعد تكتل الحزب وملحقاته، الى استحالة ثورة ملونة، برتقالية، لبنانية، أي الى الخروج على السيطرة السورية من باب الانتخابات.
وعلى هذا، فالهيئات النظامية، وأولها هيئة الإرشاد والولاية الفقهية ومجلس صيانة الدستور، متنازعة بين دورين، دور رعاية «الإجماع» الشعبي والجماهيري على النظام، ودور حماية النواة الصلبة الحاكمة، والمستأثرة، من القوى العريضة التي لا تتفق مصالحها ورغباتها الجزئية والعامة مع مصالح النواة وحاجات أنصار أطرافها (أطراف النواة الحاكمة). ولعل التنازع هذا، وهو رافق العقود الثلاثة الماضية من تاريخ الخمينية في ايران وخارجها، هو السبب في تلازم وجهي الخمينية، المنفتح (المتعدد) والحر والمنقبض والمستبد، وفي انقلابها من وجه الى آخر وترجحها بين الوجهين.
وبنية المؤسسة السياسية هي مرآة التنازع والتقلب هذين. فتتولى هيئات الرقابة والوصاية اخراج قلب الولاية الخمينية، العلمائية والحرسية، وهويتها الإيديولوجية والسياسية والاجتماعية، من التنازع والخلاف والمناقشة. وهذا معنى تنصيب هيئات أو مراجع غير منتخبة فوق إرادة الناخبين، وإفتائها سلفاً في من يحق له الترشح، والاحتكام الى اختيار الناخبين تالياً، وفيمن لا يحق له. وهذا نظام حزبي «بلشفي»، وينطوي على وجه من وجوه العائلية أو العشائرية المافياوية والإخوانية الصوفية. فهو يوكل الى نواة ضيقة من الأفراد يختار بعضهم بعضاً في ميزان معايير مشتركة، ويتوالد بعضهم من بعض، حماية أركان النظام، المعنوية والشخصية، من آراء العوام وأهوائهم وانقيادهم المحتمل الى من يوهمهم باستقامته. وأساس التمييز بين أهل الولاية والعلم والإيمان وبين أهل الأصنام والزيغ والظاهر أصل أو مبدأ اسماعيلي يرتب الناس على مراتب من «العلم» والفهم لا مقارنة بينها ولا قياس. والإكثار من النسبة الى الألوهة، ومن إطلاق صفة «الإلهي» أو «القدسي» على الخسارة العسكرية المحدودة، أو على احتساب اصوات الاقتراع المبكر والمتسرع، أو على عدد أجهزة الطرد المركزي، أو على عثرة الأعداء - هذا الإكثار مصدره إرادة عزل نواة النظام المستبد وركنه من المحاسبة والمناقشة ومن اقتراع العوام «الجاهلين». ويضمر أو يعلن هذا تقسيم الإيرانيين (واللبنانيين والفلسطينيين والعرب) طبقة أولى، هادية ومهدية، وطبقة دنيا تتولى الطبقة العليا، من المرشد وبطانته ومجالسه وعماله الى قواعد الباسيج والباسدران وبينهما الأجهزة و «كوادرها»، الاستيلاء عليها وقيادتها وتنظيمها وتجديدها.
فالانتخابات، عموماً، ينبغي ألا تتناول صلاحيتها، أي صلاحية رأي الناخبين، نواة «الثوابت»، على قول «سوري» أسدي. فلا يترك إلى الإيرانيين، من الجمهور والعوام والضعفاء (ديناً وموارد معيشة وعمل) و «أشرف الناس» على القول الديماغوجي المعروف والشائع، البت في الأمور «العظيمة» و «الكبيرة» مثل من «يدير» البلد، وكيف يحكمه، وما يليق بالإيرانيين فعله أو لا يليق، وكيف يتنازعون أو يتفقون، وما هي معايير التحكيم في منازعاتهم وهيئاته، وما هي معايير احلافهم وسلمهم وحربهم، وغيرها من المسائل. ففيها كلها ثمة مدونة أجوبة وعلم سابقة وثابتة. والأجوبة «العلمية» مستودعة في المرشد ودائرة اصحابه ومن يرون رأيه ويرى رأيهم. والمرشد ورجاله هم مستودع العلم المكنون هذا. وعلى الناس ان تنتخب، اي ان تدلي بصوت مقيَّد لا يتخطى «ألوان» الدائرة، على ان يقتصر الفرق بين هذه الألوان على اقل القليل ما أمكن، بناء على عزل دائرة المسائل، ودائرة الطاقم الحاكم، عن المحاسبة والمداولة.
وهذا شأن السلاح الذري، والصناعة النووية، في العقيدة السياسية الخمينية والخامنئية، العلمائية والحرسية. فما لا يكف الطاقم الحاكم عن ترديده هو ان التخصيب خارج المناقشة والمفاوضة، وهو موضوع «طوي»، على قول أحمدي نجاد «المنتصر». وهو وسيادة ايران وكيانها ودينها، واحد لا يتجزأ ولا يتعدد. وهذا ما يقوله الحزب الخميني والشيعي المسلح و «المدني» (بلبنان) في سلاحه و «مقاومته» وأراضيه الإقليمية ونوابه ووزرائه وحلفائه وموظفيه و «موازنته».
وهو ما تقوله «حماس» في «مقاومتها» وصواريخها وقوتها الأمنية ومعازلها الغزاوية. فالسلاح، والمنظمة العسكرية المسلحة والكتلة الأهلية التي تحوط البنية العسكرية وتحميها بنفوسها وباستعدادها للموت في سبيلها، هو على الدوام «خارج النقاش». فهو وسيطرة نواة الطاقم الحاكم في الدولة أو في الجماعة متلازمان ولا ينفصلان. وعلى هذا، ينبغي ان يبقى بمنأى من مناقشة الداخل، على نحو ما يصر الحكام على أنه بمنأى من مناقشة المجتمع الدولي، ودوله المستكبرة والمستضعفة على حد سواء. وطلب المناقشة، أو الحوار على قول اللبنانيين المهذب والحيي، إذا صدر عن الداخل، فهو قرينة على عمالة الداخل للخارج المستكبر والإمبريالي. وإذا صدر عن الخارج فهو قرينة على تواطؤ الاثنين، وعلى سعيهما في تقويض الثورة. و «ثورة المخمل»، على المعنى الحرسي، هي شعار التواطؤ المزعوم هذا.
وتوحيد كلا الخارج بالداخل والداخل بالخارج يعقل في ضوء مقاصد النظام السياسي أو البنية السياسية والاجتماعية التي تتعهدها السيطرة العلمائية الحرسية. فلا تستقيم هذه السيطرة إلا بتأليب العوام وتكتيلهم وراءها وتحتها. ويقتضي التأليب، ودوامه، استتباع العوام أو جعلهم أتباعاً للنواة المستبدة والمستأثرة بالسلطة على النفوس والجوارح والعقول. وفي اثناء ولايته الأولى رشا احمدي نجاد نحو 4 ملايين شاب وشابة تزوجوا في الأثناء، وأمر المصارف بتقديم «منحة» لهم من غير شروط تسديد. وكان توزيع أكياس البطاطا من عناوين حملته الانتخابية. ومحاولته زيادة الرسم على محروقات السيارات، قبل نيف وسنة، إجراء أراد به الأخذ من متوسطي الحال والميسورين، «أنصار» خاتمي وموسوي وقبلهما وبعدهما ربما أنصار رفسنجاني، والتخفيف عن مالية عامة غرضها الأول إعالة أنصار النواة العلمائية والحرسية. وتلبس الإعالة هذه لباس المنح والهبات و «الصناديق»، على شاكلة صندوق الجنوب اللبناني، وشاكلة المساعدات الحمساوية. وهي غير منتجة وليست استثماراً مجزياً ذا عوائد، وتؤدي الى إفقار الفئات المتوسطة والعوام والدولة (والمجتمع) عموماً. ولكنها شرط ضروري لتثبيت الطغمة أو الأوليغارشية الحاكمة، وإرساء سيطرتها على المعدمين والمحرومين وأهل الضعف وشراء ذممهم. والصناعة النووية عامل آخر في تثبيت الطغمة وسيطرتها. فهي عنوان الحرب على الداخل والخارج، وعلى «تواطئهما» المفترض على سيادة ايران وكيانها.
فلما تهدد ناخبو مير حسين موسوي، وهم ناخبوه وناخبو حليفه المعلن خاتمي وحليفه المستتر ربما رفسنجاني، مرشح الثورة العلمائية والحرسية، بدا التهديد هذا إيذاناً بتصديع اللحمة الإيديولوجية والسياسية والاجتماعية التي تلحم بين أجنحة الأوليغارشية الخمينية ومراتبها. فثار الحرس الثوري، من قبل ومن بعد.
وكان سبقه أخوه اللبناني. وهو اليوم في صدارة المهنئين بانتصار الثورة، الى «حماس» والرئيس السوري.

السبت، 13 يونيو 2009

الجماعات الكثيرة تعالت على قوقعاتها وأنشأت أجساماً وطنية وجددت الطائفية

الحياة- 09 يونيو 2009
في ختام حملة انتخابية دامت فوق الأربع سنوات متصلة، تخللتها أو كانت قوامها ومادتها حوادث حاذت المجابهة الأهلية العنيفة واليومية، وبعض هذه الحوادث فاض عن المسرح الوطني والمحلي الى المسرح الإقليمي وحروبه الجديدة، وكان الاغتيال من اسلحتها المفضلة، وتعطيل المؤسسات في المرتبة التالية – انتخب اللبنانيون برلمانهم الرابع عشر منذ الاستقلال (قبل 66 عاماً). وعلى نحو ما استدل ايليا حريق، أحد اوائل المؤرخين اللبنانيين، غداة 1967 وحربها، بإجراء انتخابات نيابية عامة في 1968، على ثبات انعطاف سياسي في تاريخ لبنان تعود بشائره العامية و «الشعبية» الى أواخر القرن السادس عشر، يجوز الاستدلال، اليوم، بانتخابات ربيع 2009 على فعل الانعطاف هذا وتجدده. فقبل 42 عاماً، لم تحل الحرب الكارثة التي آذنت بأفول الأنظمة العسكرية والقومية المتسلطة، وكسرت اثنينية المشرق العربي الإقليمية وأسلمته الى حروبه وانقساماته الأهلية المتداعية و «يقظة» منازعه الجهادية المبكرة، لم تحل هذه كلها بين اللبنانيين وهيئاتهم وبين إجراء انتخابات عامة. وأثمرت هذه، فيما أثمرت، بلورة القوى الأهلية والسياسية («التحالف الثلاثي» الماروني والمسيحي) التي انقلبت على شهابية اصلاحية شاخت واضمحلت في غضون اقل من نصف عقد.
وجرت الانتخابات في 7 حزيران (يونيو)، في ظروف يفوق عصفها عصف سابقتها العتيدة قبل نيف وأربعين عاماً. والفرق الكبير هو ان بلاد اللبنانيين، هذه المرة، هي مسرح بعض الحوادث العاصفة هذه، واللبنانيين أنفسهم جزء راجح من أدواتها وآلاتها وأصحابها. والفرق الآخر هو تعاظم دور دول اقليمية غير عربية، أولها ايران «الإسلامية» الشيعية. وتنفخ ايران في قوى أهلية ومحلية، وتحالف تحالفاً قوياً دولاً إقليمية يرث نظامها المتسلط والمغلق مخلفات الحرب العربية الباردة. وبينما تدعو عوامل الظرف «الجديد» والمتطاول الناخبين اللبنانيين الى العزوف عن الحياة السياسية الاستثنائية في قلب ميدان الأزمات المحلية والإقليمية، أو منطقة العواصف الشرق الأوسطية والمزمنة، يضرب الناخبون هؤلاء رقماً قياسياً في المشاركة. فتبلغ هذه نحو 55 في المئة من 3.26 ملايين، معظمهم الساحق من ابناء الحروب الداخلية والملبننة. ويقبلون إقبالاً لا يخلو «فرحه»، وهو دعاهم إليه رئيس متحفظ ومتجهم غالباً، من استعلاء «الماكينات» وتحديها واطمئنانها الى نفاذ كلمتها وفصلها.
وهذا، ربما، من غرائب الديموقراطية البلدية الأهلية وعجائبها. فالقوى هذه شنت حرباً حقيقية ومادية على هيئات الحياة السياسية، وعلى روابط السياسة والمواطَنة ومنطقهما. فسكتت عن الاغتيالات، وشككت في طلب القانون العدالة واتهمته، وانتهكت وحدة الدولة وسيادتها واستقلالها، وتهددت أمن المواطنين فرادى وجماعات، وعطلت المجلس النيابي ومجلس الوزراء والرئاسة، واستكملت تجييش الجماعات المذهبية ونشرته في الجماعات الأخرى. وهذه القوى نفسها، وفي مقدمها الحزب الخميني والحزب الشيعي «السوري» والحزب العوني الماروني وحليفه الأرمني، أسهمت بسهم راجح في دعوة اللبنانيين الى الاقتراع، والتعويل على ورقة الاقتراع، والصوت الانتخابي، أداة سياسية وسلمية في المجابهة العامة. ولعل السبب في ذلك أمران: الأول رغبتها في صبغ سيطرتها الميدانية والمادية والعسكرية، و «أمرها الواقع»، بصبغة مشروعة وقانونية، مصدرها العملية الانتخابية. فالصبغة هذه، إذا كانت متاحة، على ما يتيحها «النظام» اللبناني «الكريه» و «الظالم» و «الماروني» (على قول الفقيه خامنئي)، قمينة بإفحام العدو الأميركي والغربي. والصبغة المشروعة تعود بالربح على التكتل الأهلي والإقليمي، ولا تضعفه خسارته الصبغة هذه. وهو يعول، في الأحوال كلها، على رعاية الدولة الوطنية شرود القوة الأهلية الإقليمية، وخروجها عن الجماعة الوطنية وعليها.
والأمر الثاني هو إسلاس النظام الطائفي الأهلي القياد الى بلورة اختيارات وطنية و «قومية» عامة. ففي أثناء العقود الثلاثة الأخيرة تقريباً، وسع السياسات السورية بعد السياسات الفلسطينية وفي أثرها، وقبل السياسات الإيرانية، حمل العصبيات المذهبية على إنشاء كتل وأجسام وطنية ومركزية «ضخمة»، تعالت على المراتب الوسيطة والوجهاء والأعيان العائليين. وصدعت الكتلُ المراتب والوجهاء بواسطة السلاح والمال والنفوذ والتهجير، وتوحيد عوام العصبيات وجمهورها «الشعبي» في هويات حيوية (بيولوجية) صلبة، على رأسها قادة ملهمون في معظم الأحيان. فبينما استمرت التكتلات الدنيا والأهلية على مشاغلها اليومية والضئيلة، وعلى منازعاتها والسعي في مصالحها، تكشف التكتيل الفلسطيني – السوري – الإيراني عن لحمة وبُعد أطلا بالمشاغل اليومية والدنيا على رحاب مسارح وميادين «عالمية». وإذا بالمناضل العوني، على سبيل المثل، يجمع في فعل واحد، انتخابي أو إعدادي، تحصيل الحق في فرش طريق بلدته بالزفت، وحماية البلدة وأهله من خط التوتر العالي، وطي صفحة الخنوع والاستسلام المارونيين وتجديد «رسالة» المسيحيين الى الشرق، وتطهير الدولة من الفساد «الحريري»، والانتـــساب الى مقاومة «تذل» الأمريكان وإلى «أشرف الناس» معاً وجميعاً. وهو يفعل هذا كله بينما يركب سيارته الى مهرجان، أو يلصق صورة على زجاج سيارة، أو يلبس لوناً في مناسبة عامة، أو يقول «جمهورية ثالثة»، وينقِّل شاشة جهازه الصغيرة بين «المنار» وبين «أورانج تلفزيون» (فلا يتخلى عن رطانته الموروثة والمعتادة ببعض عبارات الأجانب). وما يصح في «الجندي شفايك» العوني يصح مثله في زملائه، الخميني أو الأملي أو الطاشناقي أو المستقبلي على نحو أقوى.
فجاءت الانتخابات العامة مجيء منازلة وطنية في دائرة انتخابية واحدة، على رغم «حلولها» في 26 دائرة. فهذه حكم تقسيمها، وتوزيع نوابها، انتسابُ الملايين الثلاثة وربع المليون ناخب الى 18 طائفة دينية. وتوحيد الدوائر الكثيرة، ومثلها الطوائف، في المبارزة الواحدة والمتشابكة، قرينة مزعجة ومحرجة ربما على «فضيلة» الطائفية اللبنانية، وقابليتها أو قبولها التجدد والتطور. فتعالت الجماعات هذه على قوقعتها، وعلى إلفتها وكراهيتها الدمويتين، و «عانقت» الأجسام السياسية «الكبيرة»، على قول أحد مؤسسي الحزب الخميني ونواب شتوته الأخيرة، من غير ان تخرج من إهابها ورطانتها. فالشيعي «ازداد» تشيعاً وإمامية وولاء وأخوة لأخوته وكراهة «لليزيديين» وطلباً للثارات. والماروني أمعن و «طعن»، على قول الشاعر، في أصول «بلده»، ومصدر معتقده، وعناده المستميت، ورغبته في عصر روح جماعته في نفسه، وخفة مهاجرته وانفضاضه عن قومه، وانتهازه «الأفكار» الجديدة والطريفة والميل مع رياحها. فلم تحجز الطوائف، وجدرانها المقطِّعة الجسم الوطني المفترض والحقيقي، بين الجماعات والعصبيات، ولا حالت بينها وبين التحالف على امتداد آلاف الكيلومترات المربعة التي استصغرها المقاوم الخميني الأعلى خطابة وصورة تلفزيونيتين. ولا حالت بينها وبين الخلاف الداخلي، على مثال جزين التي «كش» فيها الحزب الخميني شقيقه البكر الأملي و «السوري».
وارتقت الطوائف بالدائرة الضيقة والمذهبية الى مرتبة الدائرة المتصلة والنظام النسبي. ففاوض تيار المستقبل، الحريري، «الجماعة الإسلامية»، الإخوانية، على إخراج مرشحيها الأربعة أو الخمسة من المنافسة لقاء ضمان مقعد لها في دائرة بيروت الثالثة. وضمن الحزب الخميني مقعدين للسوريين القوميين – الاجتماعيين «وديعة» ثابتة يعود وقفها الحلال الى بعض اجهزة دمشق. ولم يبخل الحزب نفسه على «الداعية» فتحي يكن، و «عمله الإسلامي» الذي يخلط لغة بن لادن بلغتي دمشق وطهران، بترشيخ سني بعلبكي مضمون على لائحته. وأكرم مارونياً «سورياً – عونياً» من دير الأحمر، في أعالي البقاع المسيحي، بمقعد خلف عليه النائبُ المستميت الجديد قواتياً استخبارياً سابقاً مال الى أشقائه وزملائه منذ بعض الوقت. والمفاوضات المريرة على تأليف اللوائح في صفوف قوى «14 آذار» (مارس)، عشية الانتخابات، واستبعاد بعض الأخصاء في طرابلس والشوف والمتن، وترك التحالف مع ضعفاء الشيعة في الجنوب والبقاع، السبب فيها غلبة المعيار والوازع النسبيين على التقريب والتبعيد. والمعيار والوازع هذان أدخلا في اللوائح العتيدة من يسعه المقايضة، إما مباشرة أو مداورة، بأصوات وناخبين في دوائر أخرى، أو في بعض أجزاء الدائرة الواحدة. فلم يبرأ المنطق النسبي هذا، شأنه في الدول البرلمانية القديمة التي تنهض أبنيتها السياسية على منظمات حزبية ونقابية متماسكة، لم يبرأ من التعسف المركزي البيروقراطي، ولا من المساومات وراء ظهر الحلفاء والأصدقاء.
ولا تدعو الملاحظات هذه الى المساواة السياسية بين التكتلين الكبيرين، الإقليمي الأهلي والاستقلالي الوطني (والأهلي على مقدار أقل). والفرق ناشئ عن حصة الأهلية في التكتيل. فالمقارنة بين مصادر الكتل الكبيرة والراجحة في التكتلين تدل، تقريباً من غير لبس، على غلبة الدوائر القريبة من التجانس المذهبي على كتل «8 آذار» الجديدة. وأما كتل الاستقلاليين والوطنيين في «14 آذار» فناخبوها هم ناخبو دوائر أكثر اختلاطاً وتنوعاً من نظرائهم ومخالفيهم. فالأوائل اجتمعوا من كسروان وجبيل وجزين وزغرتا والزهراني – صور – النبطية – بنت جبيل – مرجعيون وبعلبك – الهرمل، فوق اجتماعهم من المتن الشمالي وبعبدا. وعلى خلافهم، خرجت كتل «14 آذار» الكبيرة من دوائر الشوف والبقاع الغربي والبقاع الأوسط وعكار وبيروت الثالثة، المختلطة، فوق ما خرجت من عاليه وبشري والبترون والكورة وصيدا، أو طرابلس. ويشترك التكتلان في دَيْنهما كلاهما إما الى غلبة الناخبين الشيعة أو إلى غلبة الناخبين السنة، بفوزهما. وتميل كفة الاختلاط، على اساس القاعدة المشتركة هذه، الى ناحية الاستقلاليين الوطنيين على ناحية الإقليميين الأهليين.
وعلى رغم خوضه المنافسة والخصومة الانتخابيتين على نحو التزم أصولهما، من غير إغفال ممارسته حيث قدر تهويلاً وتخويفاً مقذعين في حق مخالفيه، يعلن الحزب الإقليمي الأهلي (الخميني والأملي والعوني والطاشناقي) عزمه على «تجاوز» الهيئة والعمل النيابيين الى «خارج» المجلس النيابي. فهو «معارضة» في قلب السلطة. وهو شريك حكم وركن تعطيل الحكم معاً. وهو جزء من الدولة ويزعم القيام محل «المجتمع» كله أو محل الشعب والأهل. وهو بطل تحرير وتحرر وطني وهو ورقة وحجر (لعب) إقليميان. ويطلب إدارة الدولة فيما هو يخرب دالتها ورابطتها الجامعة ومصالحها المشتركة، ويقسم شعبها، ويطعن في هيئاتها. وعلى مثال الأعوام الخمسة المنصرمة، منذ غزت القوات الأميركية العراق وأسقطت صدام حسين، وعزم الرئيس السوري على تمديد ولاية صنيعته اللبناني وباشر التخصيب النووي واستأنفت طهران تخصيب اليورانيوم وانقسمت السلطة الفلسطينية على نفسها، قد لا يعدم الحزب الإقليمي الأهلي، وعلى رأسه شعبته الخمينية، «تنظيم» حملته الانتخابية الآتية على شاكلة الحملة التي خاضها قبل اغتيال رفيق الحريري وبعد الاغتيال. و «التزامه» نتائجها، الى اشتراطه نقيض النتائج أي الثلث الوزاري المحبط والمعلِّق، يغذي صورته «القانونية» المزعومة في الخارج أو بعض هذا الخارج. ولكن هذا قد يرسي تقليداً ديموقراطياً، ولو بعد حين. ويطيح أركان الاستبداد العامي الدهمائي.
.

إستهلال القص في "حكاية زهرة بؤرة الرواية المشتركة والجامعة هي ثمرة مثال ثقافي يقوم فوق العمل وخارجه ووراءه

المستقبل - الاحد 7 حزيران 2009 -

الملاحظات على رواية حنان الشيخ، إحدى روايات "الحرب اللبنانية" على ما جرى القول، جزء من مقالة في بعض الروايات هذه، وفي كتابتها ومباني هذه الكتابة. واقترح المعهد الفرنسي للشرق الأدنى IFPO، ومديره فرانك ميرمييه موضوع المقالة، واستضاف إنجازها. والجزء هذا يقتصر على الصفحات الأولى من الرواية، وينتقل الى أحكام عامة سندها الرواية كلها، وروايات أخرى هي معظم ما سمي روايات الحرب ونشر منذ 1975.توكل حنان الشيخ الى الصبية الفتية زهرة، في "حكاية زهرة" (دار الآداب، بيروت، 1980)، قص الفصل الأول من القسم الأول من "الحكاية" كلها. والحكاية كلها قسمان. ويتوالى على الأول، وعلى القص بضمير المتكلم، زهرة الفتية بين أهلها، ثم زهرة الشابة بأفريقيا مع خالها المهاجر والمقيمة ببيته، فخال زهرة المهاجر الى افريقيا، فزوج زهرة "الافريقي" ماجد، ثم زهرة "الافريقية" مرة أخرى. وعلى هذا، تُنقِّل الفصول الخمسة القص بين ثلاثة رواة هم زهرة، ثلاث مرات، وخالها وزوجها. ويقتصر القسم الثاني، وهو مئة صفحة من 250 صفحة، على قص زهرة الراجعة الى بيروت، والخائضة في حروبها.فالقاص الأول في مطلع الحكاية هو البنت التي تقول: "أنا الآن في سن أستطيع أن أميز معها تماماً الضيعة عن المدينة" (ص 10 من الطبعة الرابعة). ومسألة "التمييز"، في الفصل هذا، تتصدر ما تحكيه البنت، وتخبر عنه. فهي تروي خبر تشبيه الأم على بنتها، وعلى زوجها والد البنت تالياً، عشقها رجلاً آخر، وملاقاتها إياه بمواضع متفرقة. وزهرة، البنت، هي ذريعة الأم المتسترة الى المواضع الكاذبة أو الملفقة هذه. والمواضع هي تارة عيادة طبيب مزعومة تروح الأم بالبنت إليها، وتعلل رواحها بساقي بنتها المقوستين هزالاً وضعفاً، وتلتقي عشيقها بها. وينبغي ان تخبر البنت، صادقة، حين تعود الى بيت أهلها، أباها أن الطبيب، الدكتور شوقي، حقنها بحقنتي كالسيوم (ص 8). وتقتضي الرواية الصادقة المبتغاة ان تروي زهرة ما تشبهه الأم، والعشيق، وما تخرجه، على المعنى المسرحي رواية يقين وحق. وتفترض رواية اليقين والحق ألا تميز البنت مسرح المواعدة والملاقاة من مسرح العيادة المنصوب عمداً وإيهاماً. وإلى العيادة المزعومة، ثمة الشام، أي دمشق، تارة ثانية. وثمة الضيعة، تارة ثالثة. ويسبق العشيق، وهو سائق سيارة (والزوج سائق ترامواي)، صاحبته وبنتها الى الأماكن هذه. ويتزيا بزي يناسب تمويه المكان على البنت، وعلى مَلَكة "تمييزها"، أو ما تحسبه البنت تمييزها.الاختلاط والتمييزفعلى زهرة، وهي لم تبلغ العاشرة بعد، قص الحوادث التي تعرض على نحو ما تبصرها وتفهمها وتؤديها (او تؤدي عنها) بنت صبية في سنها، وفي حالها. وكتابة الفصل القصصية، ومن بعده الفصول الأخرى و "الحكاية" جملة، تترتب على حالي التشبيه والتمييز، أو الحال المختلطة التي تعرّف زهرة في ابتداء امرها (الروائي) وأمرنا (أمر القارئ أو القراء). فزهرة، في حال الالتباس والاختلاط التي هي حالها، هي ما تقول، ما تبصر وتفهم وتؤدي، ويقرأه القارئ مكتوباً ويسمعه. وبداية قص زهرة هي نون المتكلم جماعة. والجماعة هي البنت وأمها المتخفيتان بالباب، والمرتجفتان معاً و (بديهة) جميعاً. والوقوف "خلف البابا" (ص 7)، وارتجاف الاثنتين، لا يستوفيان معية الجماعة. فهي معية تتعدى الاشتراك في الوقوف والارتجاف الى اتصال دقات القلب ونبض عرق الرسغ. وتستشعر البنت الواقفة خلف الباب، والمرتجفة خوفاً، دقات قلبها هي ونبض الدم في عرق رسغ امها، واحداً "مختلطاً" لا يتميز.ولكن الواحد المختلط دماً ونبضاً ينشق عن اثنين أو اثنتين: واحدة، هي الأم، تطبق على فم الأخرى، البنت، وتحول بينها وبين الوشاية بهما وبوقوفهما وراء الباب والاختباء به. والشقاق أو الانفصال هذا تنم به بادرة تحجز بين الولد وبين دنيا الناس وسمعهم على نحو ما يحجز الباب بينهما وبين دنيا تتستر الأم عليها، وتتخفى. وهي تريد ألا تفشي البنت، الخائفة والمرتجفة، على الملأ التخفي هذا. والحركة التي تقمع بها الأم صراخ البنت، أو بكاءها، تجدد البنت بها حبل سرتها ورابطتها بأمها، وتصل دمها بدم الأم ونبضها بنبضها. والفرق الذي توجبه وتجلوه اليد على الفم يمحوه الدم الواحد النابض في قلبين وجسمين، على ما يتراءى للبنت الفتية. والدم الواحد لا ينفي الروائح، وشمها وتمييز رائحة البصل من رائحة الصابون، ولا الإحساس ببياضها وسمنتها ودفئها.وما أرادته الأم قمعاً أو علاجاً لطفولة البنت، ولعسر إكراهها نفسها من تلقائها على السكوت، حملته البنت الفتية على حرارة الضم، و "العودة" الى جسم الأم: "وددت لو تضع يدها على فمي الى الأبد" (ص 7). والفم هذا، الفم الذي يحس دفء يد الأم وامتلاءها وبياضها، ليس الفم الذي تسكته الأم وتكرهه على السكوت، بل هو الفم الذي تدعوه الأم الى "اكلها"، وإلى الاستقرار فيها لا إلا وقت أو غاية. و "إلى الأبد" هو وقت رحمي وأمومي ترى البنت نفسها وأمها معاً فيه. وتكاد تكني زهرة عن الرحم هذه حين تقول: "كنا في ظلام الغرفة مختبئتين وراء الباب المشقوق". ومن شق الباب تأتي الجلبة ووقع الأقدام و "النور كله"، وتخرج الأشياء، وأصواتها وصورها وألوانها، من العماء الى الكون. ويخرج القص من الزمن "الأبدي"، ومن كناياته ولغته، الى زمن الحوادث الجزئية، وتعاقبها السببي ومعانيها المباشرة والمركبة. فتتم زهرة الفتية، والمفاخرة بتمييزها الضيعة من المدينة، إخبارها عما حصل بعد سماع الجلبة ووقع الأقدام، فتقول: "بحركة لا شعورية التصقنا بالحائط...". ودخول "اللاشعور" على القص الفتي، وعلى التباس جسم البنت بجسم الأم، ورغبة الأولى في "أكل" الثانية، والعودة الى رحمها، والقرار في أبديتها وليلها، ينحرف بلغة القص وكتابته عما بدا، طوال ستة أسطر، سوية أولى ومختلفة.فـ"اللاشعور" المفترض ليس في دائرة الألفاظ والكلمات التي تؤدي، وأدت للتو اختلاط نبضات قلبي الأم والبنت وخوفهما وإحساس البنت الصبية بروائح أمها وبياض يدها على فمها. ومعين اللفظة والمعنى ثقافة مدرسية وصحافية لم تبلغها البنت بعد، وقد يعزف القص عنها، ويتخفف منها، ما لم تضطره سياقة أخرى إليها. ولا تتعهد الثقافة هذه، ولا ألفاظها ومعانيها، ما ابتدأت زهرة قوله، ويصدر عن وجه يلابسه التشبيه والاضطراب والأحاسيس المختلطة. فنسبة الحركة الخاطفة والتلقائية، أو الغريزية، الى "اللاشعور"، أي الى نصاب نفسي لا تدرك الصبية الفتية منشأه، ويخفاها العلم به، هذه النسبة تقحم على قص الصبية ولغتها ما لا طاقة لها به، ولا حاجة إليه. وهي تحمل على لاشعورها، ولا شعور امها، الالتصاق بالحائط. فتخبر البنت عن لا شعور الأم حين موضع الخبر ليس "اختلاط" الواحدة بالأخرى، ولا رغبة البنت في امها، بل تأويل فعل خارجي وآلي. ولا تغفل زهرة غفلة تامة عن الأم. فتقول: "... وكان (أم كأن؟ و. ش.) الخوف قد انتقل إليّ عبر سلك غرس بزندها وزندي في آن". فبعد الاستعارة من المصطلح النفسي، اللاشعور، تستعير الراوية، وهي هي حالاً وسناً من المصطلح الوظيفي الطبيعي أو الفيزيولوجي. ويطّرح المصطلحان، على اختلافهما وفرق ما بينهما، البنوة والأمومة والتماس الجسم الجسم، وتوسلهما كلاهما بالظلمة والخوف والتخفي الى الاعتناق والاختلاط. فليست الحركة وحدها "لا شعورية"، على معنى آلية وخارجية، بل القلب كله, ونبضاته ودمه وعروقه، بمنزلة سلك أو كبكوب أسلاك تنغرس بهذا الموضع أو ذاك من جسم "صاحبه"، وتبث الدم في العروق، والدقات في القلب.وتقص زهرة ما نجم عن الجلبة ووقع الأقدام، وأثرهما فيها وفي أمها، والفرق بين ما كانا عليه، وصارا إليه. فقبل الجلبة ثم فتح الباب كانتا خلف الباب ترتجفان. وبعدها التصقتا بالحائط. وقبلها، أطبقت يد الأم على فم البنت. وبعدها، "هذه المرة" (وهي تجهر وقتاً آخر وتالياً)، "أصابعها... شدت على فمي". وإذا كان الإطباق (الأول) على الفم وصل النبض والدم الأموميين بنبض الولد ودمه، وأثار روائح الاستحمام وإعداد الطعام، وحمل اللحظة على الدهر والأبد، لم يعدُ شد الأصابع على الفم ملاحظة الخوف في صورته الفيزيولوجية، على ما مر. ويفترق الجسمان واحدهما عن الآخر وينفصلان. وتستقل البنت زهرة بضمير متكلم فرد أو مفرد، على خلاف نون الجماعة الاستهلالية: "وقفنا...". فالخوف، هذه المرة، انتقل "إليّ". وثمة "زندها" و "زندي"، و "أصابعها" و "فمي". وتتولى الراوية تعقب الأوقات، وقتاً وقتاً. فتُخرج "هذه المرة" من زمن مديد يتصل بعتمة الأمومة ورحمها، ويتطاول الى "أبد" مرسل. وتثنّي الخروجَ من اتصال الزمن وتدامج اوقاته، فتنتصب الصبية إدراكاً منفصلاً ومفارقاً، فتقول: "لاحظتُ ان دقات قلبي...". والإدراك المنفصل والمفارق "يلاحِظ"، من خارج ومن بُعد، اتفاق "ذوبان" دقات قلب الراوية، الفرد، و "موت" نبض يد الأم. وتعلل الأمرين بـ"شدة الخوف"."الرأس الكبير والسمين"وعلى هذا، انقلبت البنت من بنوتها الأنثوية والرحمية الهوامية الى إدراك نهاري، متميز ومنفصل. فتحضر الحركات والسكنات، ومعها الأشياء، على شاكلة موضوعات وأعيان: الأصابع محل اليد، والشد عوض الإطباق، والملاحظة بدلاً من السمع، والانتقال (انتقال الخوف) وليس الاختلاط، والتعليل (بشدة الخوف) على خلاف الاستغراق، والمسافات والأوقات على الضد من الاتصال. وتستوي الملاحظة "فهماً" ناجزاً مع دخول "النور كله" من الباب بعد فتحه، وإطلالة "الرأس الكبير السمين" منه، و "(تحديقه) في الغرقة". فتقول الصبية: "وما أن أطل الرأس... حتى فهمت سر الخوف وسر يدها المطبقة على فمي". وتمضي الراوية على قصها وخبرها، وسبر غور الأسرار التي فهمتها مع دخول النور والرأس والتحديق بالغرفة، ومع استوائها هي متكلماً فرداً.ويطل "الرأس الكبير السمين"، وهو سبقته جلبة خطوه وسبَقَه اقترابُه من الباب المردود، على نحو متوقع ومنتظر. فتتداعى النتائج، وتتناسل من "رأس" المقدمة، إذا جازت العبارة، أو من المقدمة الرأسية والأولى. ويعطف القول: "وما أن..." سبحة الوقائع التالية، أو الحوادث، على جملة وقائع أو حوادث سابقة تقوم من تاليتها مقام السبب والعلة. وجملة الوقائع أو الحوادث السابقة التي يعطف عليها قول "وما ان..." هي، على الترجيح، الجلبة ووقع الأقدام المتقارب. وصيغة "وما ان..." لا تعطف الحوادث التالية على الحوادث السابقة وحسب. فهي تحقق التوقع والاستباق كذلك، وتملأهما بما أرهصا به ونمّا نماً مناسباً ومطابقاً. فينبغي ان يكون "الرأس الكبير السمين" متضمناً في الجلبة ووقع الأقدام المقتربة من الباب المشقوق ومضمراً فيه وفيها، لتقع "وما ان..." موقعاً مناسباً وصحيحاً. ويتأتى التضمين والإضمار، إذا صحا وصدقا، من اختبار سابق تكرره المرة هذه. وهذا ما لا يلبث تعاقب الحوادث ان يلمح إليه إلماحاً غامضاً. فتروي زهرة الحادثة نفسها على النحو الآتي (ص8): "ويدها البيضاء لا تزال تشد على يدي بدلاً من فمي. خاصة عندما برز وجه ابيض عبر الباب الذي فتحه صاحبة نصف فتحة وتفرس في الظلمة ورآنا وما رآنا". والجملة الأخيرة هي العلامة أو التوقيع على هوية "الوجه الأبيض غير الباب". فهو "الرأس الكبير السمين" نفسه، ومن سبق في السياقة الأولى أن حدق في الغرفة، وهو "يرانا ولا يرانا".وإذا صح هذا، لم يفهم القارئ (هذه المرة) "سر" ارتجاف الأم والالتصاق "بحركة لا شعورية" بالحائط وموت نبضها، الخ. وهو قد يفهم أعراض البنت الصبية إذا حملها على السن، وعلى اشتباه افعال الأم، وكذب دعاويها حين رواية الحوادث على نحو يخالف شهود البنت إياها. فالرجل المقتصر على وجهه، ووجهه تارة "رأس كبير سمين" يشبه الثور (وهذه من القارئ وتخييله) وتارة "وجه أبيض" يشبه صورة أو رسماً متخلفاً عن حلم أو منام غارب (وهذه كذلك من القارئ) ـ الرجل المقتصر على وجهه جزء أو مرحلة من حوادث تنتهي الى دخول وجه آخر. وتقول البنت انها تعرف الوجه هذا: "وجه لرجل رأيته قبلاً يتكئ برأسه فوق حضن امي" (ص 8). ولا ريب في ان الأم تستبق في الوجه الأول، على صورتيه ووصفيه، الوجه الثاني الغارق في حضنها (و "الاتكاء" كلمة أو لفظة تؤدي معنى يُفهِم السياق خلافه أو غيره). فما مساغ ارتجافها وخوفها وموت نبضها وإطباق يدها أو شدها على فم بنتها؟وظهور الرجل الأول على شاكلة "رأس كبير سمين"، ومنقطع من جسم، في العبارة أو الصيغة هذه، يصبغه بصبغة أسطورية أو حكائية. وتضمّنه الصبغة معاني لا فكاك له منها (ولا فكاك للكاتبة الروائية). ومثل العبارة هذه، أو التمثيل، يستأنف قصصاً سابقاً يقوم منها مقام ميراثها ونسبها ومستودع وجوه دلالتها. فالرأس الكبيرة تصف الغول، الأنثى، في أخبار الشاطر حسن. ويقتل الشاطر حسن الغول ويحز رأسها، ورقبتها العريضة والرخوة، في طريقه الى عروسه. وبعض الشبه بأوديب في طريقه الى طيبة المطعونة (المصابة بالطاعون) وقتله التنين (الأنثى القاتلة كذلك)، قد يكون أحد وجوهه عظم رأس التنين (وجه" أبي الهول المصري الرابض بجوار الأهرامات). وهي حين ترمي بنفسها في الهاوية السحيقة والبعيدة القرار، يتحطم رأسها أولاً، وتتشلع جوارحها وتتناثر. ووصف الرأس بالسمنة، بعد الكِبَر، يعرضها للذبح والأكل، على ما هي حالها في حلم فرعون الذي يؤوله يوسف ابن يعقوب. وعلى ما هي حالها في عبارة "العجل المسمن" وذبحه، كناية عن غلاء مهر العروس، وعلو قدرها وكرامتها في عين عريسها وأهله. فلا يبخلون عليها بواسطة عقد قطيعهم أو مالهم.وبعض الحيوانية الأسطورية التي تحوط "الرأس الكبير السمين" تمر الى التحديق وتخالطه. فتحسب الصبية الفتية ان الرجل "صاحب" الرأس، "يرانا ولا يرانا". والوقوف في نسبة النظر، أو الرؤيا والإثبات، الى الحيوان، يصدر عن بديهة خُبُر إنسي وسائر. وهو قد يصدر عن اختلاط كلامي ولفظي تتولاه محاكاة ببغائية لبعض مناحي العبارة. فالرأس المجردة من خلقة ورسم إنساني تام، والمنذورة للذبح أو المتخلفة عنه، على ما بدت حال الرأس هذه (في القراءة)، قد تكون عمياء. وتجردها من الجسم، على رغم الأقدام التي يسبقها وقعها، يجللها بإيحاءات أسطورية مر الإلماح إليها. وعلى هذا، فالقول: "الرأس الكبير السمين يحدق في الغرفة"، يجمع الوجه والمعنى الأسطوري الى الوجه الوصفي والعملي الفوتوغرافي. وهو يتنقل بين الوجهين أو المعنيين، ويخلط بينهما، ويمر بهما مرور الكرام. فقد تترتب "يرانا ولا يرانا" على حيوانية الرأس الأسطورية. وقد تترتب، من غير ترجيح، على وصف نفسي وبوليسي للرجل الذي قد يكون حاجباً أو حارسا او بواباً. وفي الحال الأخيرة، يبدو استبقاء القص الرأس المنقطعة من جسم، والطواف بها على باب مغلق، ونسبة التحديق إليها، والوقوف في إثباتها ما ترى ـ يبدو تخليطاً وعشواً وخبطاً. فهو يُدخل وجهاً في وجه آخر مختلف. ويفترض الوجهين متصلين، متآلفين ومتضافرين.فهم الأسراروترجع زهرة من رواية الاختباء والارتجاف والخوف في الغرفة الى "السرين" اللذين فهمتهما، "سر الخوف وسر يد (الأم) المطبقة على فمـ(ها)". وتجلو السرين وفهمهما، وتستدرك على الفهم فتقول انه "مهزوز". ويَغمُض على القارئ مأتى الصفة وأصلها: هل هو الصبية التي لم تبلغ العاشرة ام هو الكاتبة؟ فبعض القص يحاكي الصدور عن الصبية و"فهمها" ولسانها. وهو يميل الى أداء حسي وعضوي، وإلى أخيلة بعضها مثقل بالكلام العامي وأصدائه وتداعياته. وبعضه الآخر، على شاكلة "اللاشعور" و "المهزوز"، وانتقال الخوف "عبر سلك غرس بزندها وزندي"، معينه لغة مدرسية وصحافية متثاقفة وسائرة. ويدعوها جلاء السرين الى قص ما كان من الأم قبل خروجهما من البيت وقصدهما، تمويهاً، عيادة الدكتور شوقي، حيث يوافي الأم صاحبها. والإعداد لزيارة العيادة المزعومة، على ما ترويه زهرة، ينقل القص الى مسرح حركات وسكنات يومية ونهارية. ولا تُغفل الراوية، في المعرض الجديد، لا لون البنطلون، ولا قماشته ونسيجه، ولا حياكة الكنزة الخضراء بالصنارة. وضَفرُ الشعر يرافقه غمس المشط في كأس ماء، على ما كان يصنع أهل الريف وأهل المدينة التقليديون والمقيمون على سنن قديمة. والتذرع الى ترك البيت بعيادة الطبيب، في "كل مرة"، على قول الصبية الفتية، ينبه الى اعتياد الأم، واعتياد البنت الحيلة هذه، والى انطلائها على الأب الى حين.وتمتحن الحيلة تمييز البنت. فهي تسمع امها تحذرها، "بصوت عال" أسمعَ والدها ما تريد الأم إسماعه إياه، (من) معاندتها حقنة (إبرة) الطبيب، وتتوعدها بالضرب. وتزدوج البنت الفتية: فتسمع الآن، حاضراً، ما تقوله الأم في العيادة والطبيب والحقنة والمعاندة، وتحاول ان تتذكر وتتحقق من الحقن، ومن صدق رواية الأم أو كذبها. والحق ان هذا ما تقصه زهرة، وتقوله علناً، ويستوفيه قولها. فهي سرعان ما تخلص من "محاولة" التذكر، في منتصف السطر، الى إثبات بطلانه ونفيه في مطلع السطر التالي: "ولم أتذكر". واختصار "المحاولة" الى تعاقب على هذا القدر من القرب فلا تكاد (المحاولة) توجَب حتى يقفّى عليها بالنفي والإنكار، يُفهِم ان السؤال المضمر: هل حقنها الدكتور شوقي ("إذا كان الدكتور شوقي قد حقنني")؟ إنما هو صوري وخطابي، ولا يؤثر اثراً قصصياً أو كتابياً. وعلى حين يستعيد البنطلون أطوار لونه (الكحلي) ومادته (من الصوف)، وتجدد الكنزة ذاكرة لونها (الأخضر) وصنعها (الحياكة بالصنارة)، ويضفر الشعر بغمس المشط في الماء ـ فيأتلف من هذا رسم مشهد نمطي على شاكلة لوحات "الأوبيسون" أو اللوحات المرسومة بخيوط الصوف ـ تذوي محاولة التذكر في أداة أو حرف نفي جاف وقاطع. فتخرج الراوية من التخمين، وتُخرج قارئها معها وتسوقه سوقاً الى الخروج.ويترتب الخروج والإخراج على فهم الراوية السرّين، وغيرهما من الأسرار. و"فهمهما" القوي ينفذ الى ما وراء الظاهر، ويلم بما قبله وما بعده. فيتهاوى الظاهر سافراً عن مقاصد الفاعلين ونواياهم من غير بقية تعصى التمييز. ويشف مسرح الظاهر هذا، من طريق مشاهد أو "لوحات" رسمت أو نسجت على منوال حرفي ونمطي معروف، عن قاع قريب من "الأسرار" المعروضة على "النور كله". فإذا ألمّ القص بأحوال أو عبارات، أو بمزيج من الاثنتين على ما هي الحال غالباً (على مثال "الرأس الكبير السمين")، واعترضته الاحوال والعبارات هذه، وحرفته عن المشاهد واللوحات المفرطة المسرحة، لم يختر (القص) وجهاً من الوجهين، ولم يسعَ في شبكهما شبكاً مركباً، ولم يُعمل وجهاً في وجه. وعلى خلاف الاحتمالات والجوازات هذه، وهي ثمرة تجريبية واختبارية من ثمرات أعمال القص وأفعاله، يترك القص (في الجزء الذي تتناوله الملاحظات من "حكاية زهرة") الحبلَ على الغارب للجوار بين ضروب التناول وأنواعها، ويتنقل بين منازع العبارة ويسلكها في سلك يخيّل واحداً. وترصف الطباعةُ المنازع المتفرقة والمتناثرة رصفاً متصلاً، على شاكلة توالي السطور والفقرات والصفحات والفصول. ويحمل ضمير القاص المتكلم، أو ضمير الغائب، الحوادث المروية وأصحابها، على سياقة واحدة. ويعطف الرصفُ الطباعي، ونسبة القص (وضميره) الى صاحب يفترض جامعاً واحداً، أوقات ما يقص بعضها على بعض، ويجمع فصول قصة في أطوار يولد بعضها من بعض، ويعقل بعضها في ضوء بعض.ويتأتى هذا من قراءة تطرح، بدورها، الظاهر وصفحته، أو صفحاته المرئية والمسموعة والمقروءة والمحسوسة، وهي المعاني التي تقترحها الكتابة على القراءة والقراء. وتطّرح القراءة صفحات الظاهر، ومعاني الصفحات البادية والمقروءة، و "تتخطاها" أو تتجاوزها الى بؤرة روائية مشتركة. وينعقد على البؤرة الروائية المشتركة والمفترضة هذه، وعندها، قصٌ يؤلف من فوق ومن خارج بين احوال وعبارات ومنازع متفرقة ومتناثرة، وقراءةٌ تفترض التأليف هذا افتراضاً، وتلتمسه فوق المرويات وخارجها ووراءها. وعلى هذا، فلا القص الناجز الذي يقترحه صاحبه، "الروائي"، هو ما يكتبه الكاتب فعلاً، ولا هو (القص) ما يقرأه القارئ. فالبؤرة المشتركة تقوم فوق "العمل" المقترح وخارجه ووراءه على ما سبق القول للتو. ولعل سداها ولحمتها الجامعين، وما تتماسك به البؤرة هو تسليم الكاتب والقارئ، أي الكتّاب والقراء، بمثال روائي ثقافي مشهور ومتعارف يتعالى عن الكتابة والقراءة، وعن الاختبار، معاً. والمثال المبطن والمضمر، وهو ثمرة الرواية الغربية في القرنين التاسع عشر والعشرين، يقاس عليه قياساً مرسلاً وغير مقيد. والحق ان المثال الذي يقاس عليه ليس كتابياً. فليس مداره أو مبناه على الأعمال المكتوبة، أو على تداولها ومناقشتها في ضوء صيروراتها وأطوارها وتجاربها. والتداول والمناقشة في ضوء هذه لا يستقيمان من غير إلمام دقيق باللغات الأصلية، أو من غير نقل وترجمة يستوفيان شرائط النظير والشبيه، ويدرجان المنقول والمترجم في تراث اللغة واستعمالاتها.وانتفاء هذا كله يقود، على سبيل الاطراح من وجه وعلى سبيل التخمين المرجّح من وجه آخر، الى التماس المثال المبطن والمضمر في غير الرواية الغربية. ولا يقودنا هذا بعيداً. ففي جوار الرواية الغربية، نبتت فروع كثيرة وتناسلت الى اليوم. ونشرت الصورة، الصناعية، الفوتوغرافية والسينمائية والتلفزيونية والرقمية، الفروع القصصية في المجتمعات من غير تفريق، على شاكلة الأفلام والاسكتشات والأشرطة المتحركة والمسلسلات. وتستبقي الفروع القصصية من المثال "الكبير" ما يسع الرصف الطباعي ونسبة القص الى ضمير واحد جامع وعطف الأوقات بعضها على بعض، الاضطلاع به. ولعل أول ما يترتب على المثال الفرعي، وعلى اقتباسه على الصورة التي اقتبس ويقتبس عليها، التخفف من مباني الكتابة، ومن إكراهها الكاتب على شبك وجوه القص والأحوال والعبارات، شبكاً مركباً، وإعمال الوجوه هذه بعضها في بعض. فيصنع هذا مثالاً أو فناً جديداً. ولا تستوفي مقارنته بمثال "كبير"، رابطته به ضعيفة على رغم مزاعمه ومزاعم اصحابه، صفته. فهو ليس "أقل" من المثال "الكبير"، ولا مقصراً عنه، بل هو شيء آخر، وينتسب الى أصلاب ومصادر أخرى، ويركض في ميدان غير ميدان الرواية. وتواضع الكتّاب والقراء على المثال الفرعي قرينة على اشتراك الفريقين في الصدور عن ثقافة (فرعية)، حصةُ الكتابة ومبانيها منها ضئيلة. وأحسب ان الملاحظات السريعة والابتدائية هذه مدخل الى معالجة مسائل أخرى عريضة مثل التأريخ للأعمال "الروائية" عموماً على غير وجه الموضوعات والمعالجات، والإشاحة عن تناول الكتابة الروائية ومبانيها، وعسر وصف المباني هذه، والرضوخ لانقطاع الرواية من تراث القص، وتعليق مسألة التراث في حقول القص. والمسألة العريضة التي تتصدر المسائل هذه ربما هي محل "الأدب" الروائي من "الثقافة العربية".

الجمعة، 5 يونيو 2009

الاحتكام الى الناخبين اللبنانيين في ختام حملة دامت 4 سنوات: تعمّد تقويض مشروعية الدولة


الحياة -02 يونيو 2009
تحتكم كتلتان سياسيتان وأهليتان كبيرتان، في 7 حزيران (يونيو) الوشيك، الى الناخبين اللبنانيين. وموضوع الاحتكام هو إقرار الانعطاف الذي نجم عن اغتيال رفيق الحريري في 14 شباط (فبراير) 2005، وجمع كثرة أو غالبية سياسية في 14 آذار (مارس) من العام نفسه، أو العودة عن الانعطاف هذا. وأثمر الانعطاف، الى الكثرة النيابية التي نسبت الى «14 آذار» وخرجت من الاقتراع في أواخر ربيع العام ذاك، جلاء القوات السورية عن الأراضي اللبنانية. وخرجت مع القوات السورية، المتبقية من 30 ألفاً، قيادة الاستخبارات، أو الرصد والاستطلاع، التي تولت طوال ثلاثة عقود تامة الوصاية السياسية والأمنية على الدولة اللبنانية وهيئاتها، وعلى شطر عريض من المجتمع اللبناني. وفي غضون الثلاثين عاماً من سطوة الاستخبارات السورية، في شراكة مع المنظمات الفلسطينية المسلحة طوال أقل من عقد «رسمي» ثم منفردة، قام «الحكم» على الفصل بين إدارة «مدنية» تقاسمتها الجماعات المحلية فيما بينها ومع الدولة أو الإدارات الرسمية، وبين إدارة سياسية أمنية تولى قراراتها «الكبيرة» جهاز سوري - لبناني مركب، وعاد البت فيها، في نهاية المطاف وفي أوله، الى المرجع السوري وأعوانه المقربين.
وخلف الفصل النسبي والجزئي بين إدارة مدنية، تولى رفيق الحريري معظمها على شرط تلبية احتياجات موالي «الشام» وصنائعها، وإدارة سياسية أمنية تولاها المرجع السوري، وولى هو وكـــلاءه بعضها، خلف علاقات بالحكم والحكومة والدولـــة هي من غرائب فن السياسة وعجائبها. وبناء على الغرائب والعجائب هذه، عهد الوالي السوري بالمرافق المدنية، من إعمار أو «إعادة إعمار» وإنتاج ناتج داخلي وتوزيعه عوائد وأجوراً وريوعاً بالعملة المحلية أو بالدولار، الى رجل أعمال لبناني - سعودي مقتدر وخبير. وجاء هذا إقراراً بقلة دراية طاقم الحكم في دمشق وملحقاته المحلية بشؤون الإدارة المدنية والاقتصادية والمالية، من وجه أول، وقرينة على رغبة طاقم السلطة هذا، من وجه آخر، في استدراج «العرب» وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية الى الاستثمار في لبنان، ورعاية استقرار العملة الوطنية، بينما تنصرف السياسة السورية، ومن ورائها سندها الإيراني المغرض، الى إدارة العمليات والمناوشات على المحتل في الأراضي اللبنانية المحتلة، أو ما سمي «حرب التحرير».
وكان على الوكيل المدني اقتسام مرافق إدارته مع وكلاء المنظمات الأهلية المسلحة، وحلفاء المرجع السوري الأقربين. فوُلي مفوضو «أمل» وزارات الإسكان والطاقة المائية والكهربائية والأشغال والزراعة والصحة، وهي أولى وزارات الخدمات، مداورة مع بعض الحلفاء وعلى التوالي. وخص مندوب «الحزب السوري القومي - الاجتماعي» بوزارة العمل والشؤون الاجتماعية أعواماً طويلة، بعد ان مر بالوزارة العتيدة مفوض منظمة لبنان في حزب البعث العربي الاشتراكي. وهي وزارة خدمات كريمة. وذهبت الاتصالات غالباً الى رجل مقرب من رئيس الجمهورية. وأوكل بالوزارات «السياسية»، مثل الداخلية والخارجية والتربية والدفاع، والعدل والإعلام في أحيان كثيرة، الى بطانة الرئاسة المفترضة. وهي من أخصاء المحاسيب على المرجع السوري وفروع بطانته. واقتصرت «حصة» رئيس الوزارة، وهو من تسميه كثرة النواب في استشارات «ملزمة»، على وزارات المالية والاقتصاد والعدل (في بعض الأحيان). وازدوجت بعض الإدارات، مثل الأشغال والطاقة. فعهد بأعمالها الى مجلس الإنماء والإعمار. وهذا من صلب الوكالة المدنية ونواتها، شأن المالية. وخص زعماء الجماعات الأهلية البارزون بـ «صناديق» إنفاق على أهل العسر من ناخبيهم. و «أعفي» الحزب الخميني من التوزير، إرضاء للشريك الأميركي غير النزيه، وتخصيصاً للحزب بالتحرير النظيف. وكان لسان الحزب المسلح يقول ساخراً انه ترك «الطحين والمازوت» الى الحكومة، وأما السلاح فزينة السياسيين الرجال من امثاله. وفي الأثناء، كان يُقتل المتظاهرون لأجل الطحين والمازوت، ويُنسب قتلهم الى «الحكومة»، أي الى رفيق الحريري. وأدى فن الساسة السوريين الرفيع الى موازنة بهرت دقتها ومهارتها مخبري الإعلام المحلي ومعلقيه. فأُدخل الوزارات المتعاقبة والمتشابهة، والموسعة على الدوام فلا تقل عن 30 وزيراً، وكلاء الكتل النيابية كلها. والكتل هذه سبق احتساب ثقلها وعديدها إجراء الانتخابات نفسها. فإعداد اللوائح يقوم مقام مجلس صيانة الدستور الإيراني، ويستبعد من لا يأمن ويقرِّب من يتوسم فيه الامتثال. ورابطُ الوزير بكتلته شكلي. فهو لا يدين بوزارته، وخدماتها العامة والخاصة، إلا الى ولي نعمته. فوسع الوزير، في اثناء ولايته، الصولة والجولة بسيف مولاه، وانتهاج «السياسة» التي يرى ويراها له من ندبه. ولا يلزمه هذا بسياسة حكومة، أو مجلس وزراء «مجتمع» - قتل نحو 160 ألف لبناني وجرح وعوق 250 ألفاً في سبيل توليه (تولي مجلس الوزراء الذي يرئسه مسلم سني وعروبي مفترض) الحكم مجتمعاً، على ما ينص الدستور «الجديد». والمشاركة في الحكومة ليست دليلاً أو حجة على الموالاة، ولا على المعارضة. فاللفظتان، في فن السياسة السوري و «قانونها» في لبنان وعليه، لا ترتبان لا ولاء ولا تضامناً ولا التزاماً ولا قيداً. وحين دخل سليمان فرنجية، أحد أعيان موارنة الشمال و «صديق عائلة الأسد» على ما يعرف نفسه، وزارة رفيق الحريري الثانية، كان أول قوله انه لم يكف «معارضاً».
وتفسير الغرابة هذه هو ان الحكومة اللبنانية، في «العهد» (غير المسؤول) السوري، ليست هيئة سياسية متماسكة ومسؤولة، ولا شأن لمجلس نيابي تشريعي ورقابي، بها. وفي مستطاع من شاء أو قدر انتهاج «سياسته» أو «سياسة» أهل الحول والطول. ومن نتائج القسمة الكاريكاتورية والمأساوية هذه، ان بيضة القبان في السياسة اللبنانية، وهي الحزب الخميني والحرسي المسلح (وأعماله العسكرية وتسلطه على أراض لبنانية وجماعات، وأحلافه...)، بقي طوعاً خارج الحكم الظاهر والحكومة والإدارة، واستقل بجيشه وتسلحه وأمنه ورعاياه وولائه وعداواته، من غير حسيب ولا رقيب. وإذا به، على رغم استنكافه، إطار السياسة الوطنية والعامة، والقاضي في السلم والحرب، وفي الاقتصاد والمال والأمن والعدل من طريق السلم والحرب، من غير ان يتولى وزارة واحدة. وهو حمل حملاً على (طلب) النيابة، غداة اتفاق الطائف (1989) الذي رفضه. وقبوله (طلب) النيابة استجاب رأياً سورياً هو الاحتجاج بالتكليف الشعبي والديموقراطي، والتوسل به الى رد الاعتراض الأوروبي والأميركي المتوقع على صفة الحزب. وطمأن الساسة السوريون مفاوضيهم الأوروبيين والأميركيين الى فصل الوزارة، والمسؤولية السياسية العلنية، من النيابة. وهذه محل ازدراء يشترك فيه «السيّدان» السوري والإيراني وفروعهما وأذرعتهما. وتولي المنظمة الأهلية السرية والمقاتلة المناصب الوزارية علناً هو من نتائج الجلاء العسكري والأمني الجزئي عن الأراضي اللبنانية. فالجـــلاء حمـــل القـــوى السياسية المتفرقة، تلك التي أقامت على وفائها لساسة دمشق وتلك التي قامت على سياسة هؤلاء الساسة، على السعي في المطابقة بين التمثيل النيابي وبين الثقل السياسي الرسمي. والمطابقة هذه هي على خلاف فصل المدني والإداري الإجرائي من السياسي والسيادي. وهي من مصلحة الكتلة الاستقلالية والسيادية الوطنية التي ولدها القيام على اغتيال الحريري. واضطر الحزب الخميني المسلح إليها اضطراراً. ولكن المطابقة تخالف السنن والتقاليد السورية في الحكم. فهي تفترض الاضطلاع بالمسؤوليات، والمحاسبة. وتفترض، أولاً، وحدة الدولة الوطنية، على الضد من التستر السوري، وإلقائه التبعة عن الحرب والتردي الاجتماعي والاقتصادي على عاتق «الوطنيين المحليين»، على ما كانت القوى الاستعمارية تقول فــي رعايا المستعمـــرات. وتفترض، اخيراً، «ثقافــــــة حكـــم» واضطلاع بالمسؤولية عن القرارات، على خلاف «ثقافة المعارضة» والاقتصار على التنديد بإجـــراءات الحكومات المتعاقبة، والتنصل من تبعاتها ومقتضياتها على رغم المشاركة في الإجـــراءات وإملائها إملاء متعسفاً في احيان كثيرة.
واليوم يطمع تكتل القوى التي ترعرعت في كنف السيطرة والنفوذ السوريين، وورثت تقاليدهما وسننهما في فصل المدني والسياسي السيادي واطراح السياسي من الانتخابي ونسبة المطالبة السيادية الى السياسة «الأميركية - الإسرائيلية»، يطمع تكتل القوى هذه في تثبيت سيطرته وقوة نقضه بواسطة غلبة برلمانية. وفي أثناء الحملة الانتخابية الطويلة التي قادها التكتل منذ اغتيال رفيق الحريري، وانتخابات 2005، الى اليوم، انتهج سياسة إبطال الدولة وهيئاتها وسلطاتها من غير هوادة ولا مساومة. وهو يرى ان سياسته هذه تخوله «إدارة البلد»، وتؤهله لقيادة اللبنانيين على طريق «المقاومة»، اي التخطيط لحروب أو عمليات تحصن الموقع الإيراني، والسوري في المرتبة الثانية، في مفاوضتهما القوى الكبيرة على الشرق الأوسط واقتسامه.
وفي أثناء حملته «السياسية» الأمنية والأهلية الطويلة قدم تكتل «8 آذار» مصالحه وحاجاته الخاصة، وهي مصالح وحاجات فئوية وجزئية تنكص عن الدولة الوطنية ومواطنيها أو مصالح إقليمية تتعداها، على مصالح الدولة الوطنية. فحمل المطالبة بالعدالة في قضية اغتيال المواطن رفيق الحريري، والمواطنين الآخرين، على انحياز «اميركي». ونسب المطلب السيادي والاستقلالي الى العمالة. وشق الشعب الواحد والمتساوي «شعبين» متعاديين. وسور مناطق نفوذه بسلاحه.
وشن حرباً على إسرائيل اختارها هو، وأعد عدته الخاصة لها، وصمد هو فيها، بينما اقتصر دور الدولة على رعاية ضحاياه من اللبنانيين وحمايته وحماية مقاتليه ودرعه المدنية المذعنة. وطعن في الدولة والحكومة ودورهما، وقوضهما، وساوى الجيش الوطني بجماعة إرهابية قاتلته. وتنصل من مسؤوليته عن تسلل جماعات مسلحة ومدسوسة إلى الحدود، وإطلاقها الصواريخ على الدولة العبرية، بذريعة الترفع عن «حراسة حدود» إسرائيل. واجتاح بالقوة المسلحة، وأعمال القتل، أجزاء من الأراضي الوطنية دفاعاً عن نفسه وسلاحه. وأضعف الجيش الوطني واستدرجه الى التسليم بالعدوان على المواطنين، واتهمه في وطنيته.
وفي أثناء حملة الاستيلاء المديدة والمتعرجة، سكت التكتل العتيد عن الاغتيالات والاعتداءات. وأسهم جهازه الدعاوي الضخم في التحريض والتزوير والتشبيه. فالدولة التي يطلب حكمها وإدارتها هي «دولة» متخففة من المسؤولية عن أمن مواطنيها وسلامتهم، وحقهم في المقاضاة والعدالة. وهي «دولة» لا تحكمها مؤسساتها المنتخبة بل موازين قوة خفية ومستترة. ولكن استماتة التكتل العتيد في طلب الغلبة والاستيلاء الانتخابيين، وهو أنكر حق الكثرة في الحكم المقيد وأبطل قوة المرجع الانتخابي، تدعو الى الشك في «رغبته» المعلنة. وتعاقب «الإيرانيات» الخطابية الأخيرة قد يكون قرينة على رغبة في تعثر عوني كبير. ولا ينجم عن التعثر وربما الانهيار العونيين غير إبقاء الدولة والحكومة على ترجحهما وتعليقهما. وهذا مربح صاف: فتبقى الدولة قناعاً يحتمي به التكتل وأسياده، ولا تخرج سلطة النقض من يد المسلحين والخارجين على الدولة.