السبت، 31 يناير 2015

تراث «طبائع الاستبداد» النهضوي والمتنور واللفظي (2)... تبديد الاختبارات الاجتماعية والتاريخية في دور ثقافي عقيم

المستقبل، 2/1/2015
 لا يكاد عبد الرحمن الكواكبي، في "طبائع الاستبداد"، أن يحمل الانظمة السياسية في حالي الاستبداد وخلافه أو نقيضه أي "الحكومة العادلة"، وهي على خلاف الحكومة الظالمة على المنازعة بين الحكومة وبين الأمة، حتى يُحل المنازعة أو يذيبها في قطبين متباينين هما «جهالة الامة« و«الجنود المنظمة« (عطفاً على مقال سابق: تراث «طبائع الاستبداد« النهضوي والمتنور واللفظي، «المستقبل« «نوافذ«، 11/1/2015). وإذا قامت اليقظة نظير الجهالة لم يقم شيء، يسميه الكاتب، نظير «الجنود المنظمة". وهو لا يفترض حكومة منزوعة السلاح ولا يقترح هكذا حكومة محل الحكومة المسلحة والقاهرة. ولا يرى القارئ موضع حكومة غير مسلحة على خريطة «المرادفات والمقابلات« التي يرسمها صاحب «الطبائع«، ويوزع تعريفاته على مربعاتها وخاناتها. و«الحكومة المدنية«، على ما يصف مادحاً حكومة «حضرة الملكة فيكتوريا« البريطانية المعاصرة، لا تلغي القوات العسكرية، ولكنها تمضي على مدنيتها غير مختارة. وتكرهها على مدنيتها، وهي خلاف عسكريتها واستبدادها معاً، «يقظة الانكليز«. وهذه اليقظة، على رغم اشتمالها على تقديم «أمة الانكليز« على الملكة وحماية الجيش، ليست من «استلامها« (من استلام أو سيطرة الملكة على الجيش) وسيطرتها عليه، ليست هيئات وأبنية وأحوالاً، أو اجتماعاً سياسياً ينقاد للوصف والتأريخ. فهي سور معنوي ولفظي في مقابلة الجهالة والغفلة، ومرادف من مرادفت القيام على الاستبدد وحكومته.

وبعض الحكومات أو أنظمة الحكم، شأن «الحكومات البدوية« في عهود ملوك تبع وحمير وغسان وما قبلها وما بعدها، ليس الاستبداد، «طبعاً«، في متناوله. وذلك لأن رعيتها من العشائر تنزل البوادي والصحارى. فإذا أرادت الحكومات، وهي طبقة الرؤساء والمشايخ في هذا المعرض، سياسة الناس، أو عامة العشائر والقبائل، بـ«الضيم« والظلم، و«مست حريتهم«، لم يقوموا عليها ولم يخلعوها ويحلوا محلها حكومة حرية، على ما ينبغي لغةً وخطابةً، واقتصروا على «الرحيل والتفرق«. وهذا في طبائع العمران البدوي، محلاً ومعاشاً واجتماعاً. ولا يشكل على الموظف العثماني السابق إدخال «حرية« البداوة ويقظة الانكليز والمراقبة والمحاسبة الشديدتين على المشرِّعين وعلى المنفذين، في باب مشترك وواحد. فالقاسم المعنوي واللفظي المشترك يفي بالغرض من كتابة «الطبائع« أو «تحريره«، وهو التنبيه الى حقيقة داء الشرق ودوائه، على ما مر، و«وصف الاستبداد... بجمل بليغة تصور في الاذهان شقاء الانسان، كأنها تقول له هذا عدوك فانظر ماذا تصنع«.

كتابة «الأدب« وإخراجها

وعلى مقتضى هذا، ما على المنبِّه المبلِّغ والمذكر إلا تدوين مختارات من الجمل البليغة، ومحاكاة تصاوير شقاء الانسان المريض بالغفلة والاستبداد، وتمثيل المستبد والمستعبد لـ«ناظر« رعيته الغافلة والجاهلة. ويقرن الكاتب داعي القول بالقول الذي يدعو إليه ويحض عليه. فبعد كلامه على «الجمل البليغة« مباشرة، يكتب و«من هذه الجمل قولهم«. وتلي إعلان العزيمة منتخبات بلاغية هي أقرب الى التوقيعات المختصرة والنافذة التي تتوسل بالأضداد والطباق والمجانسة والاستعارة، على شاكلة صنع جماليات الأحلام والمنامات والرؤى. فالمستبد، على قول أحد الحكماء البلغاء، «يتحكم في شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم، ويحاكمهم بهواه لا بشريعتهم...». وهذا يستبعد التعريف المزدوج و«القانوني« للسياسة والاستبداد، ومقابلة الحكمة بالهوى. ومثل آخر يذهب الى ان «... العوام صبية أيتام لا يعلمون شيئاً، والعلماء هم إخوتهم الراشدون، إن أيقظوهم هبوا، وإن دعوهم لبوا«. وتكرر الجملة ركن التعلم والدعوة في صورة تشبيه و مثل.... ويتمم الركن هذا الزعم «ان مجرد الاستعداد للفعل فعل يكفي شر الاستبداد«. ويؤول ضرب الأمثال بالحيوان على مثال «كليلة ودمنة« الى تقرير أن «الانسان أكثر ما يألف الغنم والكلاب، فالمستبد (والمقدمة الاولى من القياس توجب أن «المستبد انسان«) يود أن تكون رعيته كالغنم دوراً وطاعة وكالكلاب تذللاً وتملقاً...»

وهذا النحو في الكتابة، وفي إخراجها أو مسرحتها، ليس صنيعاً ثانوياً يقتصر على ظاهر عرضي وموضعي منقطع من باطن و معنى مفترض، ولا يتطاول إليه (الى المعنى المفترض) فعلُه أو عمله. فالكتابة (الكواكبية)- على معنى إدراج الجمل وأجزائها وألفاظها البارزة في صيغ متعالقة ومتواردة تتولى ضبط المقالة على موضوعاتها وإنشاء الموضوعات من طرق الإطناب أو الحمل أو التحليل- تتناول السياسة، والاستبداد فرعها الاول، على وجه علاقة معيارية قطباها أو طرفاها ضدان مجردان ومعنويان يتنقلان بين حدين مقيمين أو ثابتين على تنافيهما وشكليتهما ولفظيتهما. ويقود هذا الضرب من الكتابة الى المختارات والمنتخبات التي تجدد صورة الضدية الاولى، الحكمة والهوى، وتولد من نسلها ورحمها الاشياء والاضداد لا الى مقدار معلوم. ويفترض هذا الصنف من الكتابة شبكة المواقع والعلاقات التي يتقاسمها «المحرر« والجمهور في علاقتهما بمطلب المقالة، أي السياسة والاستبداد، وأحصتها الحلقة الاولى من المقال: الطبابة والتنبيه والدعوة والوحي والعرفان والهدية، ونظيرها الداء الدفين والسبات والغفلة والجهالة والنزع، وبين هذه وتلك الشرق والمرض ومعاناة سكرات الموت والناشئة والعلماء و«المحررون« السياسيون والبلغاء ومحاكو المراقبة والمحاسبة. وهذه القسمة المثلثة ترسي المطلب أو الموضوع على أدوار ثلاثة أو طبقات ثلاث: طبقة أهل الاستبداد، وطبقة أهل الانقياد والجهالة، وطبقة المبلغين. وتقيم هذه الطبقات على طبائعها المزمنة. فأهل الاستبداد سادرون في هواهم وعدوانهم وسطوهم، وأهل الانقياد والجهالة في عماهم وغفلتهم. ويتردد المبلغون بين محاباة الحكومة المستبدة والتمكين لسلطانها وبين تنبيهها أهل الجهالة الى موتهم الوشيك، إذا لم ينتبهوا ويستفيقوا على الخطب وطميه الى الرُّكَب، على قول الشاعر اللبناني الذي أرَّخ جورج انطونيوس بصيحته «يقظة العرب«.
 ومقارنة الكتابة الكواكبية بسيرة الرجل، أو حمل كتابته على حوادث سيرته ووقائعها المتعلقة بالسياسة والاستبداد، يدعو إليها انغلاق «الطبائع« على نفسه، ودورانه الرتيب والعقيم في دائرة من النظائر والأشباه والأضداد. فهو لا يتعدى هذه الى «سيرة« تملأ شبكة المواقع والعلاقات والعلامات اللفظية والمعنوية بأعيان أو انيات زمنية ومكانية وإجرائية وتوثيقية تسلكها في سلك خبري أو استقصائي، على قول هيرودوتس في وسم مروياته. فمقالات «الطبائع« في الاستبداد العثماني تيمم صوب مثال خطابي وتعليمي وبلاغي يراه صاحبها مناسباً الغاية التي يقصدها وينهض إليها (التنبيه والتبليغ)، وموافقاً توقع جمهور «المحررين« السياسيين من أمثاله وأصحابه واستعدادَ أفهامهم. والحق ان التعويل على موافقة توقع الجمهور ومجاراته يترتب على المشاركة في المثال الخطابي والتعليمي والبلاغي، وعلى اختبارها والإيقان بها. وإثبات هذه الموافقة يقتضي مقارنة عريضة ودقيقة بين «المحررات« أو المقالات الصحافية المعاصرة لا تقتصر على «الأعلام«، على قول خير الدين الزركلي، صاحب أحد معاجم هؤلاء الاعلام. ويلاحظ أن مسألة إخراج كتابة «النهضويين« ومسرحتها مزمنة، وكانت على الدوام منشأ التباسات واشتباهات ملحة.

فحين يصرف رفاعة رافع الطهطاوي في «مناهج الألباب المصرية الى مباهج الآداب العصرية« (1869) فصلاً من مدونته هذه الى مطلب «الوطن« يسرع أنور عبد الملك، الوطني والتقدمي المصري، الى حمل مقالة الطهطاوي في الوطن على سبق فكري وإيديولوجي (مصري)، وفاتحة وعي المثقفين المصريين مسألة الوطنية على نحو تاريخي وعضوي «مطابق«. وإذا صدق أن الطهطاوي يُعمل فعلاً لفظة «الوطن«، في بعض جمل فصله، على معنى سياسي وجامع يلم بالدولة وبالجماعة التاريخية المتماسكة في بعض المواضع، فليس خلطه هذا المعطى المبتكر بمعانيه العربية الأدبية (مثل «حب الوطن من الايمان« أو «حبب أوطان الرجال إليهم/ مسارح قضاها الشباب هناك«...) أقل صدقاً ولا تواتراً من معناه السياسي والتاريخي الجديد. وجوار المعاني الجديدة، ودائرتها، بمعان سابقة تَنحو نحواً فكرياً وعملياً وحسياً مختلفاً (أو تنحو أنحاء مختلفة) يترتب عليه فهم مختلف لدلالة الافكار والمقالات حين صوغها وفي أثناء تناقلها. ومثل الخلط والجوار هذين متواتر في مدونة الكواكبي. فهو يحمل 1) المحاسبة، والمراقبة البرلمانيتين أو التشريعيتين، على السلطة التنفيذية الدستورية، أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين في فرنسا وبريطانيا، و2) الثورة المسلحة والأهلية على استئثار جزء من سلطة الفتوح بعوائد الفتح والحرب في اواخر القرن السابع أو منتصف القرن الاول للهجرة)، و3) الأدب الحكمي في التدبير الملكي («كليلة ودمنة«...، و4) و«الأدوية« النفسانية التي تعالج حب الحياة بحب الموت ومد الرقاب للسلاسل بالشموخ عن الذل...، و5) فراق عشائر البادية حكوماتها إذا هي ضيقت عليها- يحمل صاحب «الطبائع« هذه كلها على (معنى) واحد.

فلا مناص بهذه الحال من أن تُسوّى حدود الوقائع المختلفة والمتفاوتة على حد واحد ومستوٍ. والاطار المناسب والظرفي الذي يستقبل تسوية الحدود والمعاني، وجمعها من غير ظهور تفاوتها أو انقلابه الى تنافر مُعمٍّ وغير مستبين، هو الأدب. ويبث الكاتب تعريف الأدب في مواضع من مقدماته وفصوله يستهل بها ما يوشك على قوله، ويريد تنبيه القارئ إليه. فالأدب هو مجمع أقوال مرسلة في موضوع من الموضوعات، أو باب من أبواب القول. ولذا، يصح ما منها مصدره الدرس وما هو مقتبس من كتابات متفرقة في أزمان وأحوال ومسائل متباعدة، وما هو مزيد عليهما. ولا تحول كثرة المصادر من «(تحويلها) الى هيئة كتاب«، على أن يوحدها القصد، وهو، في هذا المعرض، التنبيه والاستدراك. ويُفَرَّع الباب من هذه الابواب الى مباحث الأقدمين وكتبهم، وإلى مؤلفات القرون الوسطى و«أمزجتهم« (يمزجون فن السياسة بالأخلاق، وبالأدب، وبالتاريخ)، و«توسُّعِ« المتأخرين من أهل أوروبا وتمييزهم مباحثهم، وتآليف المتأخرين من الشرقيين الترك والعرب، وأخيراً منشورات المحررين السياسيين من العرب في الجرائد والمجلات. ويتنكب صاحب الكتاب وصحبه إفادة «إخوانهم« العرب«، بـ«البحث والتعليل وضرب الأمثال والتحليل«، وصفَ الداء والدواء، وتعريفهم هذا الوصف. ويقتضي الامر، أي تحصيل الفائدة، «تلخيص النتائج التي تستقر عندها أفكار المتكلمين فيها« أو «تعريفاتهم«. و«هي نتائج متحدة المدلول مختلفة التعبير«. فلا يُنبه للمُختلف، ولا يؤخذ إلا بالمتحد والمتفق و«المتضافر«. وهو عينه شأن الـ«التعريف... بأسلوب ذكر المرادفات والمقابلات«. فهذه من حلي الأدب وزينته.

كاتب الأدب

والحق أن سيرة عبد الرحمن الكواكبي في رواية محقق أعماله محمد عمارة (الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، 1970) لا تقتصر، شكلاً وحوادث، على احتراف الأدب وامتهانه. فهو تحدر، نسباً وأعمالاً، من أشراف طالبيين عادت نقابة الاشراف بحلب إليهم. ووُلد والده، السيد أحمد بهائي بن محمد بن سعود الكواكبي (1829-1882)، لمهاجر فارسي قدم حلب في وقت سابق، وتزوج امرأة حلبية. والمهاجر الفارسي أردبيلي أذري (من أذربيجان) المنبت. وتزعم الرواية التي ينقل عنها صاحب التقديم أن الجد الأردبيلي الأذري هو من ذرية رأس السلالة الملكية الصفوية، اسماعيل الصفوي التبريزي، التركي والصوفي أصلاً وابتداءً قبل تشيعه وتشييعه أهل فتوحاته في بلاد إيران المغولية. وكان والد عبدالرحمن فقيهاً وقاضياً في مسائل المواريث من باب الفرائض، وأميناً لدار فتوى ولاية حلب بعض الوقت، وخطيباً في مسجد بناه جده ووقفه، ومدرساً في مدرسة المسجد العائلي وفي مدرسة الجامع الأموي بالمدينة.

ونشأ الولد المولود بحلب (في 1848 وليس 1846)، والمقيم بها الى 1854 سنة وفاة والدته، بانطاكية، وتعلم بها التركية 3 أعوام ورجع بعدها الى حلب. فدرس التركية بمدرسة الشيخ ظاهر الكلزي، وإليها الفارسية. وعاد الى انطاكية، ودرس في مدرسة خاصة على عم والدته، السيد (لقب الاشراف) نجيب النقيب. وآب الى مدرسة أبيه وجده، الكواكبية. وعين، في 1879، عضواً فخرياً في لجنتي المعارف والمالية من لجان الولاية، وعضواً في لجنة الاشغال العامة في السنة التالية. وكان، من بعدها، عضواً في لجنة المقاولات، وفي رئاسة قلم مأمورية الإجراء، وشريكاً في لجنة امتحان المحامين. وعينته وزارة العدلية العثمانية في محكمة تجارة الولاية. وترأس الغرفة التجارية المحلية، في 1892، والمصرف الزراعي، وكتَّاب المحكمة الشرعية، ثم غرفة التجارة ولجنة بيع الاراضي الاميرية في 1896.

ونظير وظائفه أو أعماله في دواوين السلطنة، ويسرع عمارة الى جمعها في باب أو اطار كبار الرجال (الشاغلين) أبرز الأماكن في سجلات «رجال الدولة« من غير وصف أعمالهم وصلاحياتهم، توالت استقالاته: من مأمورية الاجراء، ومن محكمة التجارة والمصرف الزراعي. وبعد توليه، أو توليته نفسه، مختاراً، تحرير «ظلامات الناس وشكاواهم (على) الموظفين والولاة العثمانيين«، وانقلابه عرضحالجياً، هجر حلب سراً الى استانبول، وأقام بأحد خاناتها متخفياً الى حين اكتشاف أرصاد الشيخ أبو الهدى الصيادي، محظي السلطان عبد الحميد الديني و«مدير مكتبه« على ما كان لم يكن دَرَج القول بعد، تخفيه. وسبق تخفيه باستانبول اعتقاله مرتين، وثورة «جماهير الشعب« على الاعتقال، على قول صاحب التقديم، الناصري يومذاك. وقام هو على «اغتصاب« الصيادي نقابة أشراف حلب من أسرة الكواكبي، وأقام مشيراً على المحامين المتقاضين باسم أصحاب الحقوق. ومثل أمام محكمة بيروتية، استأنف بين أيدي قضاتها إدانة بالارتشاء و«الاتصال بدولة أجنبية« أصدرتها محكمة حلب، بناء على وثائق زورها الوالي المحلي. فعمدت الولاية الى تسليط قبضايات من الجوار، وحرضتهم على اذائه وربما قتله. فهرب الى مصر مهاجراً في 1899. ويفتقر السجل الوظيفي المزدحم بالأعمال والمهمات والاختبارات والقيود الى تاريخ حوادثه العامة، والى تبويب مسائله وقضاياه الكبيرة.

فالسيرة الكواكبية، الشخصية أو الفردية، موازية للسيرة الحميدية السلطانية، زمناً ووقائع. ولابست السيرة الحميدية خلافةٌ مضطربة ودامية تحدرت الى عبدالحميد من طريق الاغتيالات، ومنازعات الاهل والوارثين، وتربص كتل الاعيان وكبار الموظفين والعسكريين بعضهم ببعض، وبروز أدوار سياسية وأهلية جديدة اضطلعت بها كتلتا طلبة المدارس الدينية باستانبول وجموع الأتراك المهجرين من الولايات البلقانية المحتلة السابقة والمستقلة تدريجاً، منذ أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر الى تركيا. وأدى تعاظم التدخل الروسي في البلقان، وفي شؤون الشعوب السلافية والارثوذكسية بالبلقان وبجنوب أوروبا ووسطها، انفجار حروب متعاقبة. وترددت أصداء الحرب القوية في بعض بلاد الشرق الادنى وشمال افريقيا، وصار معظمها في الاثناء محميات أوروبية، وعلى تخوم مناطق النفوذ الروسي الممتد والنفوذ الامبراطوري البريطاني. وأرادت التنظيمات العسكرية والادارية والحقوقية والاقتصادية تطويع السلطنة وولاياتها وتكييفها في خضم أزمة موارد بشرية ومالية ومعنوية عامة. ففاقمت اضطرابها وخلخلتها، واسلمتها نهباً للدول الكبرى، ولحركات الاقوام التي أخضعتها جيوش آل عثمان بالقوة والفتح، وأناخت عليها بثقلها العسكري والمالي، وبأنظمتها الاجتماعية الجامدة والخانقة وسياستها القاهرة والمتعنتة. وقريباً من ذروة سجل الكواكبي الوظيفي، تصدت السلطنة للحركة الاستقلالية الأرمنية بمجازر ثخينة كانت مجازر 1896-1898 أقربها الى إبادة 1915-1916. وسلطت الادارة الحميدية، «التحديثية« من كثير من الوجوه، على المجتمعات والأقوام والبلدان والشعوب الملحقة، المضطربة والمتحفزة، وعلى حركاتها الاستقلالية والانفصالية السرية، طبقة ملتزمين مطلقي اليد في الجباية، وجهازاً بوليسياً وأمنياً كاسراً، وجهازاً عسكرياً وقومياً عصبياً خسر تدريجاً شطراً راجحاً من ضباطه المنتمين الى الأقوام الاخرى ونخبها الوليدة.

وجمع الانتقال العثماني، في عقوده الاخيرة، بين أبنية سلطة ومجتمع تغلب عليها انظمة طائفية وصنفية مرتبية (تضطلع فيها اللحمات الاهلية والعصبية والسلكية بدور راجح)، وبين علاقات حقوقية قانونية وإدارية واقتصادية و«ثقافية« اجتماعية، بورجوازية مدنية ورأسمالية. واقتحمت العلاقات هذه حصون الأبنية والانظمة العثمانية، المتينة الاركان والضعيفة الحيلة معاً، والموقوفة الفعل. فلم يسع العلاقات البورجوازية المدنية والرأسمالية- ومثالا اجراءاتها إقرار الاصلاحات أو التنظيمات المساواة بين أقوام السلطنة ومللها في 1839، والملكية العقارية الخاصة في 1858- لا إنشاء وطنيات فرعية عثمانية تكتل مواطني الأقوام في إطار ذاتي وائتلافي (كونفيديرالي) أو اتحادي (فيديرالي) من بعد؛ ولا وسعها إنشاء سوق رأسمالية عثمانية، مشتركة ومتصلة، تطيح تدريجاً الامتيازات المرتبية والسلكية وريوع المواقع والمكانات السلطانية والأهلية التي لا تحصى.

وحين قدم عبد الرحمن الكواكبي القاهرة، في 1899، خالط فيها مخالطة قريبة «طبقةَ« (أو صنفَ أو طائفة) المحررين والكتاب والأدباء والدعاة والموظفين والاعيان السياسيين، اللاجئين من الولايات العربية المشرقية، ومن بعض بلدان المغرب. وكانت هذه «الطبقة« على حال عثمانية من ضعف التجانس والتمايز، وضعف التقسيم الداخلي والوظيفي، معاً. والقاهرة يومها المنتدى العربي والاسلامي، الاصلاحي والإحيائي، ومجمع نخب نشأ معظمها ونضج على مزج الهويات والوطنيات والثقافات والمعارف والسياسات في صنف فكري وذهني رخو البنية ومائعها. وهو (أي مجمع النخب) يضمر اثنينية «العلم والإيمان«- على ما لخص أنور السادات، الرئيس المصري وصريع المنظمة الاخوانية، وعنفها - أو الهوية والتقنية، ومرادفات أخرى شبيهة. وترجحت هذه النخب بين توحيد السلطنة العثمانية وخلافتها المدعاة في إسلام جامع وعالمي، وبين التطلع الى «مملكة« عربية عريضة تستمد (من) اللغة والتاريخ «المجيدين« لحمتها وسننها ودليلها، ومن مدونة الانساب الشريفة والصريحة رجالاتها وطواقمها. ولم يفضِ الترجح آنذاك، وهو فقير المادة، الى خلافات ومناقشات فكرية ناتئة ومتبلورة، ولا أفضى الى منازعات سياسية داخلية حادة. فكلا الوجهين انتظر نهاية الحرب الاولى ليخرج الى العلن والتمييز، على مقادير متفاوتة. والحق أن الحرب الاولى حسمت الوقوف العثماني، السياسي والاجتماعي، وأبطلت دور السلطنة في التحجير على المنازعات والخلافات و«حلها«، وأحلت قوى كبرى، رأسمالية وليبرالية امبريالية، محلها.

و«الأدب« الكواكبي، أو «مرادفاته ومقابلاته« هو لغة طائفة أو سلك المحررين العثمانيين المؤتلف من الروافد التي أحصيت للتو، في الوقت الذي تقدمت صفته أو بعضها. والقول أن ادب المرادفات والمقابلات وخطابتها هما لغة سلك المحررين العثمانيين- قبل جيلين ثقافيين من انقلابهم «مثقفين« عن أيدي التيارات السياسية والفكرية الحركية والثورية (الانقلابية والاستيلائية)- يستتبع توسيط هذه اللغة وكتابتها حين التحري عن الوصلات بين قطبين: قطب الإنيات والوقائع الحسية والمعنوية النفسية والاجتماعية والثقافية التي لابسها المحررون العثمانيون وكانت طينة خُبُرهم وأفقه، وقطب مقالاتهم حين استوائها مذاهب ومللاً ونحلاً فكرية ونظرية. فالمقارنة العارية، إذا جاز القول، بين الاختبارات الكواكبية و(اختبارات) من شأنهم شأن الموظف والشريف الحلبي في الثلث الاخير والعثماني من القرن التاسع عشر، وبين مقالاته في عَمَلَيْه («أم القرى« و«طبائع الاستبداد«)، تدعو الى تقرير انفصام المقالات من اختباراتها. فالمقالات تُجري ما تتناوله على انتخاب أبواب الدلالة والمعني، وإقامة الوصل والفصل، على أنحاء قد تؤدي الى تولية اللغة وأنظمتها العبارة المستأنفة عن الإنيات والاختبارات وتَعَرُّفها في مرايا العبارة؛ وقد تحمل اللغةَ (وأنظمتها) على تناول الإنيات والاختبارات من طرقٍ تُدْرجها في أدب حكمي (والاقتصار على نوعين يسوغه حصر الكلام في الكواكبي ووقته).

فما يستعجله «الطبائع« هو إدخال «الاستبداد- بعد نقله من موضع «الظلم« الاسلامي وحده، ثم حله في علامات تيسر جمعه الى أحوال عامة ومشتركة تناولتها مقالات الامم ومثلت عليها وعلى اضدادها الأمثال والأشباه- تحت باب عام. فيشترك في تعريفه ومقاومته والقيام عليه، أو في ذمه ورذله وثلبه، أهل الأدب في الأمة (وهم من يحصي «أم القرى« في مقدمته أحوالهم البلدانية: الفراتي والشامي والتونسي والتبريزي والبيروتي المتغيب...، والعلمية والعملية المرتبية: العلامة والمحدِّث والحافظ والفقيه والمولى...). ونَظم «الطبائع« مبناه على هذه القسمة: قيام عالِم رئيس بإبلاغ علماء مفطورين على الدين الصادق والتوحيد الصحيح، حقيقة الداء الذي تشكو منه الامة، ودعوتهم الى المشورة والمداولة والاجتماع متكتمين أول الأمر، ثم إذاعة علمهم «الجمعي« و«الخفي« اللابس حلة «سلفية متوسطة«، يرتجى ارتضاؤها لدى الحكام الشرقيين، في الناس على مراتبهم. ويؤدي استبعاد الاختبارات الكواكبية الكثيرة من تقصي أحوال الاستبداد العثماني، على ما عركها الشريف والموظف الحلبي وعجمها، الى استبعاد أصحابها وأهلها. فليس في ندوة «ام القرى« المندوبة الى مناهضة الاستبداد الحميدي، وترجمتها جمعية شورى، من يشبه أهل الادارة العثمانية خبرة وتنوعاً وعلماً بالاستبداد والفساد والتعسف الاجرائية والاجتماعية. ولا ريب في ان عضوية لجنة المقاولات ورئاسة قلم مأمورية الإجراء والشراكة في لجنة امتحان المحامين، وشبه القضاء في محكمة تجارة الولاية ورئاسة غرفة التجارة الحلبية، إلخ.، الى «وظيفة« العرضحالجي التلقائية والطوعية، خلفت في متوليها تباعاً إلماماً موسوعياً بمجاري نظم الاستبداد ومبانيها، وأطوارها، ومسالكها ومقاوماتها ومساوماتها، ومراتب أهالي هذه الأحوال كلها وإجماعاتهم وخلافاتهم وحيلهم.

فليس أن العلامة والمحدِّث والحافظ والفقيه والمولى- وغيرهم مثلهم من أهل «العلم« والكتابة« المحررين« الذين جمعتهم ندوة «أم القرى«، وندبتهم الى معارضة طبائع الاستبداد بطبائع «الحكومة العادلة«- لا يلمون بـ«علوم« الموظفين العثمانيين بالاستبداد، وحسب، بل أن «علومهم« المعيارية التي يتشاركونها لا تؤهلهم الى قياس الوقائع والأقضية (الأحكام) على مثالاتها أو أبنية تصريفها، أو على سوابقها. وهذا ما يصنعه الكواكبي حين يتناول مسألة الاستبداد، والسياسيات من ورائها. والمثال الذي يجري عليه يقضي بالقسمة الطبقية المثلثة التي تقدم الإلماح اليها: طبقة أهل الاستبداد، وطبقة أهل الانقياد والجهالة، وطبقة المبلغين المنبهين. والقسمة الوظيفية (الفيزيولوجية) المثلثة تترتب على تناول الاستبداد (والسياسة) على مثال علاقة معيارية قطباها أو حداها ضدان مجردان ومعنويان ثابتان، على ما مر القول كذلك. ويحيل الركنان، القسمة المثلثة الطبقية والعلاقة القطبية المعيارية، السياسة أو السياسيات، على ترجمة أو نقل أوغسطينوس بربارة البولسي وسم كتاب أرسطو (طاليس) في الموضوع، مطلباً أدبياً وأخلاقياً مجرداً من صروف السياسة ووقائعها وأحوالها.

وهذا التشخيص أو الوصف لصنيع عبد الرحمن الكواكبي في «طبائع الاستبداد« على الخصوص، يفتح الباب على مصراعيه لمقارنته بأفكار سياسية عربية وإسلامية لاحقة، مثل الفكر القومي (العروبي والسوري) وقسمته الأمة على أهل نهضة وأهل انحطاط وأهل إقطاع (وعمالة وتجزئة)، والفكر التقدمي وقسمته المجتمع على طليعة عالمة وأهل اقتصادوية وطغمة مستغِلة وعميلة، والفكر الاسلامي وقسمته أمة أو جماعة المسلمين على قادة علماء وأهل جهالة أو جاهلية وأهل طاغوت واستكبار وكفر. وتشترك هذه المذاهب أو العقائد في إخراج السياسة، والسياسيات من بعد، من المجتمع ومنازعاته وأبنيته وأهل هذه وتلك، وتسليطها من فوق عليه وعليها، ونسبتها الى أهل اختصاص بها، ووقفها عليهم وعلى اهل العلم بها. وقد ينبه هذا الى احتفاء بعض ذُرية عبد الرحمن الكواكبي و«طبائعه« بصاحبهم وبمقالته حين بَرَق شبه أدبي بحوادث ماثلة، فخلصوا منها الى ما خلص إليه صاحبهم من الاستبداد الحميدي: ذم الاستبداد وأهله والقعود عما يتعدى الذم.

الجمعة، 23 يناير 2015

كاريكاتوريون مقذعون مودة وشهوة وضحكاً ووقاحة وهجرة...أعداء الإرهاب «الجهادي» المستكبرون

المستقبل /18/1/2015
في اليوم التالي 11 أيلول 2001، على وجه الدقة، كتب رئيس تحرير صحيفة فرنسية مرجعية افتتاحية الصحيفة ذلك النهار، ووسمها بعنوان طار صيته في الأرجاء: «كلنا أميركيون». ونهض العنوان علماً وشعاراً على التضامن العريض مع الأميركيين قبل دولتهم وإدارتهم. وهو أراد إدخال الأوروبيين والغربيين عموماً، ومعهم المجتمعات «المدنية» في بلدان العالم الأخرى، في كتلة إنسانية متصلة، تستمد لحمتها من الوقوف المرصوص في وجه إرهاب من صنف جديد، متعولم، على ما شاع القول شيوعاً قوياً مذ ذاك.

وسرعان ما استعجل كثيرون، أوروبيين وغير أوروبيين، مثقفين أهلَ رأي وعامةً حزبيين وأهل رأي وناشطين، الخروج من «الانتساب» إلى الأميركيين في محنتهم الطارئة، وعليه. وتذرع بعض هؤلاء إلى الخروج والتنصل بأن «الأميركيين» هم دولتهم ومجتمعهم وسياستهم واقتصادهم ودولارهم وجيوشهم الخ. وهذه لا يسوغ التضامن معها، وبالأحرى الانتساب اليها. وذهب بعض ثان إلى أن مهاجمي البرجين التوأمين والبنتاغون إنما تعمدوا مهاجمة رموز الغطرسة الأميركية، وإذا جاز التعاطف مع الأميركيين المظلومين فلا يجوز تأييد الطبقة الصناعية العسكرية والامبريالية الحاكمة، وهي «السبب» الحقيقي في عملية «القاعدة» المبتكرة.

ووجد بعض ثالث في إسلام المهاجمين وعروبتهم، أو في عالمثالثيتهم ومواطنيتهم في بلدان مستعمَرة وتفتقر الى الحقوق السياسية، ويسوسها حكام يميلون الى «الغرب» الأطلسي ميلاً لا كابح له، عللاً تدعو الى تفهم دواعيهم الى الارهاب المدوي. واشترك بعض رابع في الآصرة أو اللحمة الدينية أو القومية المفترضة، بينما ذهب آخرون الى تحميل التبعة عن الارهاب الجماهيري الى وكالة الاستخبارات المركزية. ولا تزال لهذه «الاحزاب» امتدادات الى اليوم. ومبادرة الولايات المتحدة، ورئيسها ومجلسي كونغرسها، الى «(الحروب) على الارهاب»، وإعلان قيادتها السياسية والعسكرية توليها هذه الحروب وحدها، وحلُّها حلفاءها الأطلسيين من بند المعاهدة الذي يلزم الحلفاء برد العدوان مجتمعين وموحدين وتقديمها «حلف الراغبين» والمتطوعين على حلف المتعاقدين هذه وغيرها فرقت شطراً من المتعاطفين. وأسلمت السياسةَ الاميركية، العسكرية والاستراتيجية («الشرق الاوسط الكبير» والجديد، الأحلاف الاقليمية وإدارة الاحتلالات...) والمدنية الداخلية، الى احكام موضعية وظرفية قاسية. وأُنسي الجمهور، وفيه أميركا، «كلنا أميركيون».

وفي العقد وقرابة نصف العقد المنصرمين، تدفقت مياه صاخبة في مجاري الإهارب المتكاثرة والمنتشرة تحت جسوره. واسترعى الانظار واستوقفها ما خلفته العمليات الارهابية في العلاقات الدولية، وعلى الأخص في علاقات الدول «الكبرى»، الغربية في المصاف الأول، بالدول «النامية»، وعلاقات هذه بتلك. فتصدرت الحروب الأميركية وديبلوماسيتها الدولية ولايتي جورج بوش الابن وشطراً من ولاية أوباما الاولى. وأعاد انفجار الارهاب في بلدان الشرق الاوسط الكبير المحورية ومجتمعاتها. و»تطوره» الى حروب أهلية ومذهبية إقليمية غداة أزمة 2008 المصرفية والمالية فالاقتصادية العامة، الارهاب الى مكانته المتصدرة مضاعفة. وكانت عمليتا نيويورك وواشنطن في 2001، ومن بعدهما عمليتا لندن ومدريد في 2005 و2006، الى أعمال إرهابية أقل إيذاء وعرضاً وتنظيماً في عواصم ومدن غربية كثيرة، أخرجت الى العلن قضية جوهرية هي دور المقيمين والمهاجرين المسلمين الى بلدان الشمال ومجتمعاته في تغذية منظمات الارهاب بالارهابيين الافراد والآحاد.

وهؤلاء ولدوا في هذه البلدان، ويتخفون في ثناياها وبين أظهرها، ويعتنقون «الفريضة الغائبة» (الجهاد)، ويلبونها فرضاً عينياً. ولولا حاجة داعي «الجهاد» الى التدريب العسكري، والسلاح القاتل، والاتصال الالكتروني، وبعض الرصد والمشورة الأخوية المجربة، لاقتصرت التلبية على فحص ضمير وطويةِ نفسٍ «بروتستانتي». ورافق النازع الفردي والشخصي الذي لابس الايمان والعمل «الجهاديين» في جاليات المسلمين نازع جماعي قوي يلزم المرشح الى القتال والموت بفرائض الشرع العامة والمشتركة. فمن ناحية أو وجه، يعتزل الجهادي الجديد أهله وأصحابه ودائرة حياته السابقة، على وصف دينا بوزار المغربية الفرنسية أحوال هؤلاء، ويتصل اتصالاً وجدانياً ورحمياً بجماعة المؤمنين وشريعتهم وفرائضهم، من ناحية أخرى.

وخلَّف هذا الازدواج، أو الترجح بين صفة «الجهادي» الفردية وبين قتاله تحت علم الجماعة وشريعتها، اضطراباً في صفوف جاليات المسلمين وتنازعاً حادين. ولم تلبث المنظمات الارهابية أن توسلت بهما الى تطوير غاياتها وبرامجها، وتوسيع مسارحها، وإثراء مقاصدها وتوجهاتها. فالعمليات الارهابية تحصل في ما كان «حواضر» غربية وما غدا مدناً ضخمة معولمة ومختلطة منذ جيلين، سكان جاؤوا من المستعمرات السابقة قبل استقلالها وبعد الاستقلال. ولم تنقطع هجرتهم. وأقاموا في ضواحي المدن غالباً وعملوا وتزوجوا وتوطنوا. فنشأ أولادهم وأولاد أولادهم، مواطنين أصيلين فيها.

وامتحنت هجرة المسلمين العريضة الى الحواضر السابقة جماعاتهم الناشئة في البلدان التي حلوها ولم يبقوا ضيوفاً عليها. وذلك على نحو ما امتحنت البلدانَ التي قدموا اليها، واستضافت موجات هجراتهم الاولى، قبل أن ينخرطوا، على مقادير متفاوتة، في أعمالها ومصانعها وأحيائها ومساكنها ومدارسها ومواصلاتها ومستشفياتها وأسلاكها، الى مجالس بلدياتها ومناطقها وبرلمانها ووزاراتها (وتولي محمد بن عباس، على شاكلة باراك حسين أوباما، رئاسة الجمهورية الفرنسية، وعلى ما يلوح الروائي ميشيل أويلبيك في روايته «اسلام»، تخييلٌ لا يخلو من الافتعال ولا من الجواز، والسابقة الأوباموية تنزع التهديد من الجواز والافتراض وتبطل الجوانب الروائية السخيفة منها).

والامتحانان يشملان وجوه الحياة والعمل كلها. ويتطاولان الى الحريات الشخصية و»أحوالها» وقوانينها، الى الضمانات الاجتماعية وتعويضات البطالة والتمثيل السياسي والمحلي والتعليم والاستشفاء والأعياد... وطالما وسع جمهور الأوروبيين «المسلمين» (من ذوي الأصول والمنابت الوطنية المتفرقة والاسلامية بمنأى من معتقداتهم وشعائرهم) موافاة الأبواب الاجتماعية والسياسية والثقافية التي ينقسم عليها وإليها سواد الفرنسيين ومجتمعاتهم، والاندراج فيها أو تحتها، لم تترتب على الاختلافات والتباينات مشكلات حادة تنذر بمنازعات واضطرابات مستشرية. والحق أن ضعف الموافاة والاندراج الاجتماعيين في مسائل أو أبواب البطالة والدخل والتعليم والصحة والسكن ... والجريمة- وهذا الضعف في المرتبة الاولى هو ثمرة جدة الهجرة وإفضائها الى استواء «أهلها» الجماعة الدينية الثانية في عدد من دول الغرب وذلك للمرة الأولى منذ... 15 قرناً أوروبياً!- أدى إلى اضطرابات اجتماعية في الضواحي، وأصاب الحياة العامة والعلاقات الاجتماعية والشخصية بانفعالات مؤذية. وهذه الاضطرابات، على رغم خطورة بعضها، تحتسب في اطار المنازعات الاجتماعية المشتركة، ولا تشذ عن منطقها شذوذاً ظاهراً.

ويصح هذا التقويم طالما استقامت علاقات «جاليات» المهاجرين من الأصول الوطنية والاسلامية بمجتمعاتهم «الجديدة» على سوية جزئية وفرعية، ولم تتعدَّ هذه السوية إلى معيار أو معايير الهوية «الشاملة». فتنزع الفروق والتباينات الاجتماعية، على هذا القدر أو ذاك، إلى موازاة نظيرها في مجتمعات الاستقبال والمهاجرة وموافاته، ونظيرها المحلي ليس قليلاً وهو يغذي منازعاتها وصراعاتها منذ قرون ولن يكف عن الأمر-. وتنخرط أجزاء متعاظمة من المهاجرين وأولادهم وأحفادهم في قنوات الحياة الوطنية ودوائرها، ولكن لا تزال، في الاثناء، في مقدور إرهاب «الجهاديين» الاسلاميين ومجازره، وازدرائه الحياة والكرامة والحرية الانسانية، امتحان روابط «الجاليات» بالمجتمعات التي قدمت عليها وأصبح شطر غالب منها (من «الجاليات») أصيلاً في هذه المجتمعات، وجزءاً لا يتجزأ منها.

ولا شك، على ما أحسب، في ان بعض عوامل التوريط مصدرها إحجام الشطر المنخرط أو المندمج من «الجاليات» عن الاضطلاع بدور سياسي جامع في الحياة الوطنية العامة. فالمندمجون، على العموم، هم الذين خلفوا وراءهم تناقضات الانتماء العقيمة، وطرقها المسدودة، ويجبهون ما يجبهه أمثالهم «الأوائل»، فرادى من غير مراجع جامعة وآمرة موروثة و»اسلامية». وأحوالهم هذه تبعدهم من «أهلهم»، وتقطع أواصرهم «العامة» والأهلية بهم. وأما أهل الضعف في هذه الجماعات فتحملهم الفروق والتباينات الباقية، والمتفاقمة إبان الازمات، على الانكفاء على أنفسهم، وتشدهم الى مصادرهم الاهلية، والى عوامل توحيدهم وجمعهم وتُخندقهم في خندق واحد وأهاليهم.

ويؤدي العمل الارهابي «الكبير» في «الحواضر» الى تصديع روابط جماعات «الجاليات» بعضها ببعض، وكلها بالمجتمعات الوطنية، ويُعسّر اضطلاعها بالدور السياسي الوطني. فجماعات المندمجين تحار في امر ردها أو ردودها على العمل الارهابي: فهي لا يخفاها أن بعض الشجب والاستنكار الوطنيين يحمله شطر من الجاليات، أي من «أهلها»، على عرقية دينية واجتماعية تصيب هذا الشطر وتشمل «الجاليات» كلها. وتدعو مشاعرُ»الأهل» جماعات المندمجين الى موقفين مترجحين، 1) يُنكر الموقفُ الأول الوجه العرقي الديني والاجتماعي من الشجب والاستنكار الوطنيين والمشتركين، ويفضي الى تضامن جزئي ومضمر مع «الأهل»، لا يسلم من الإحراج الذاتي، 2) ويدير الموقف الثاني الظهر الى بقية الروابط الأهلية، ويكن الضغينة للجماعات التي تتعرف هويتها وقضيتها في منظمات الارهاب «الجهادي» وأعمالها.

وكلا الموقفين عقبة وعثرة في طريق سياسة تتخطى جرائم «الجهاديين»، وصغائر أعدائهم «القوميين» المذهبيين، ومفاعيلها العامة والأليمة، الى معالجة المسائل الكبيرة والمتخلفة عن هجرات سكانية قارية لا سوابق لأحجامها، في اطار عولمة تمد الجسور وتشق الجادات بين البلدان والأقوام والمجتمعات آن هي تفاقم الفروق والاستفزازات وتوسع التفاوتات بينها. فالسياسة المرجوة تفترض بعض التماسك في الجماعات المهاجرة وجالياتها المتوطنة وذراريها، وربما في مصادرها الوطنية والاقليمية. فلا يضاهي بربرية الارهابيين «الجهاديين» وثورة ضغائنهم وثاراتهم إلا علمهم العميق والغريزي بمواضع المهانة والضعف والوضاعة في الجماعات المنكسرة والمحبطة، ودرايتهم بوسائل تعبئتها وتجييشها على أعداء يختارهم الارهابيون على ما يرتأون ويقدرون: رسامي كاريكاتور مقذعون مودةً وشهوة وشبقاً وضحكاً ووقاحة وهجرة بعد صحافيين وشرطيين ومسافرين وسياسيين ومهاجرين وموظفين وبائعين جوالين..

السبت، 10 يناير 2015

خليط خطابة يمزج السياسة بالطبابة النبوية والهداية والعرفان: تراث «طبائع الاستبداد» النهضوي والمتنور واللفظي


المستقبل 11/1/2015
حين انعقدت بعض ثمار الحركات «الربيعية» المبكرة، وانهارت رئاسات وزعامات ودول بدت، الى أمس قريب، راسخة رسوخ الدهر والطود، وأرهصت أخرى بالانهيار الوشيك، التجأ بعض أهل الكتابة والصحافة والرأي الى مقالات يستعينون بها على قول الحوادث المفاجئة والداهمة المفرحة، وعلى عقل سلكها في خيط مبين يرتبها على مراتبها ويجلو معانيها. وقادت الترددات اللفظية والتداعيات الاشتقاقية، من وجه أول، والمناسبات المعنوية والدلالية والفكرية، من وجه آخر، بعض الكتاب والصحافيين وأهل الرأي الى إحياء أو تذكر مقالات عبد الرحمن الكواكبي (حلب 1846- القاهرة 1902) في الاستبداد وطبائعه الآيلة الى مصارعه المرجوة وأفوله. والحق أنه مهما كان من أمر هذا التذكر، الظرفي والخاطف، واقتصاره على عجالات وتعليقات سريعة لم تفضِ الى عمل متماسك يضطلع ببعض التمحيص، فهو قرينة من قرائن كثيرة على مسالك الرد الى تراث مفترض، والعود عليه، وفهمه وإعماله في جلاء معاني الحاضر وحوادثه ووقائعه.

ويعلن الرد الى تراث مفترض، أو تعلن إرادته عن صفة الأصالة، على النحو الذي تفهم عليه ثقافة ضامرة ومتعثرةٌ الأصالةَ، أي صدورها عن تواتر سابقات تنتهي الى أول لا زمن له، ويقوم تخففه (المزعوم) من الزمن قرينة على حقيقته وقوة إيجابه ودوامها. وهذا في معرض استجابة دواعي حاضر «ثوري» و»قطيعة» تدير ظهرها لقيود مواضٍ ثقيلة الوطأة على الاجساد والرغبات والعقول والارادات. وفي الأمر ما فيه من الخُلْف والمفارقة. وكأن معارضة بعض الماضي، وما يحسب ماضياً محافظاً وثقيلاً، وهو «الاستبداد»، بماض معاصر قام عليه، وأراد نقضه ومخالفته، وهو ماضي «طبائع» الكواكبي، يسبغ على الوقت المعاصر والمخالف هذا قوةً يحتسبها الحاضر نصراً له ومورداً. وهذا منطقُ السنن المحافظ والمنكفئ، وطريقة التقليد واحتجاجه بالسابقة المنقضية على الجديد المنقطع والضعيف.

والحق أن التوسل بـ»طبائع الاستبداد» و»خطابته»، على قول الكواكبي نفسه في مطلع فصل «الاستبداد والدين»، الى نقد الانظمة العربية المعاصرة و»تأصيل» القيام عليها وتسويغه، قلما تعدى الايحاءات الخطابية الى فحص «الطبائع»، والسؤال عن منطق تناوله موضوعه، وبنائه هذا الموضوع، والصورة التي جلاه عليها وحدود هذه الصورة. ويشبه هذا، أي ترك التصفح والسؤال، شبهاً قوياً نهج عبد الرحمن الكواكبي نفسه. فهو سبق الى الكتابة في الاستبداد، والكلام عليه، من طريق الكناية الخطابية وإعمال مقالات سابقة في موضوع ماثل وحاضر. فينوب الاستقواء بالسابقة، وإقامتها مقام السنة والمثال، مناب إنشاءِ الموضوع الحاضر، وهو يومها الاستبداد العثماني الحميدي (نسبة الى السلطان عبد الحميد الثاني 1876-1909)، ووصفِ صورة أحواله وأطواره، وتعليل سبله، وربما تعقب القوى التي تعترض هذه السبل وتحول بين الاستبداد وبين بلوغه غاياته. وهذه ليست مقترحات متأخرة على رجل قضى مسموماً بيد أحد عملاء عبدالحميد، قبل قرن وعقد من الزمن. وهي ليست درساً في طريقة الكتابة الاجتماعية والسياسية يلقيه متأخر على متقدم. فمسوغ الملاحظات، ما تقدم منها وما هو آت، هو «امتحان» معاصرتنا حاضرنا، والتحري عن صور تعثرها، اليوم قبل البارحة، على رغم رسم تعاقب الاوقات المفترض.

خليط النبوة والسياسة

ودعت مقالات الكواكبي قراءها الى قراءتها أو تناولها على وجه «نبوي»، إذا جازت الصفة أو النسبة، يستوفي التبليغ غرضها ودلالتها. فصاحبها أو «محررها»، «الرحالة كـ...»، وهو توقيع العمل الاول، يحملها على «كلمة حق وصيحة في واد/ إن ذهبت اليوم مع الريح، لقد تذهب غداً بالأوتاد». ولا يقتصر الوجه النبوي على التوقع والاستباق الزمنيين واليقينين، ولا على البيان الطبيعي وصوره (الوادي والريح والعاصفة وتقويض البيت والعمران العائلي). فهو يوقت مصائر المقالات أو التبليغ على دورين أو مرحلتين: دور المحنة والهباء ودور الواقعة. ويشبِّه الدور الاول الضعف وقلة الحيلة، ويوهم صاحب السلطان بمناعته الثابتة، وضآلة شأن الخارجين عليه. وهذا مثابة دعوته الى التمادي، وحفر قبره بيده، والتمهيد لمصيره. فإذا استجاب الدعوة، ولا مناص له من الاستجابة فهي في «طبع» السلطان الطاغية، عصفت الريح، الصرصر، بأركان البناء، وأطاحته وهدمته. فالاستعارة الكواكبية تبطن أو تجهر مبنى أو مركباً زمنياً يعاقب بين الخروج الى الدعوة، أو البعث عليها، وبين صمم «الناس» عنها والتنكيل بحاملها، الى أن تجتمع شروط التبليغ والسمع، ويأذن «فسق الملوك» وظلمهم بهلاك «القرية»، وسقوط رأس الفسق والطغيان.

وجدل هذه الرواية بعيد من جدل «الوعي» و»الثورة» العامية أو قيام «الشعب» على الطاغية وهدم ملكه، وإقامة نظام الحرية محل ملك الواحد والقلة الاوليغارشية. ففي منزلة القلب من الرواية الكواكبية التقليدية والملكية (أو النبوية، على ما مر) يستوي داعية الحرية، وحليفه السلطان العادل. ويتصدر الاثنان، على معنى الصدارة الحرفي، «الكتاب». وبعد الحمدلة والصلاة والسلام، يكتب المنفي الطوعي الحلبي: «فأقول، وأنا المضطر للاكتتام حسب الزمان». وهذا فصل الابتلاء والتخفي والغيبة. ثم يؤرخ لمجيئه مصر: «على عهد عزيزها ومعزها حضرة سمي عم النبي العباس الثاني، الناشر لواء الحرية على أكتاف ملكه»، وهو الخديوي عباس حلمي. واقترحه الكاتب من بعد ناشراً لواء الخلافة على أكتاف أمة المسلمين، محل السلطان العثماني الظالم الذي أحرج الشريف الطالبي الحلبي فأخرجه من مدينته الى كرسي عباس حلمي بالقاهرة.

وأما الرسالة التي يدعو اليها المكتتم اضطراراً فهي، في لغة الرسل والمبلغين، «تنبيه الغافلين لمورد الداء الدفين عسى يعرف الشرقيون أنهم هم المتسببون لما هم فيه، فلا يعتبون على الاغيار، ولا على الأقدار، وعسى الذين فيهم بقية رمق من الحياة يستدركون قبل الممات». وتمزج لغة الرسل والمبلغين التي يتوسل بها الكواكبي أنحاءَ مختلفة من القول لا يجمعها مصدر أو معين واحد، ولا يوحدها سلك مشترك. فالغفلة والداء الدفين، ومعهما أو نظيرهما التنبيه وبقية الرمق والاستدراك قبل الممات، تصدر عن المثال النبوي المعروف، وهو يحمل الغفلةَ والكفرَ والضلال على مرض واعتلال، والمنبِّه والمذكِّر والمبلِّغ على طبيب يزيل الغشاوة عن عيني الاعمى الضرير، ويهديه سواء الطريق والقصد. وعلى جهة القول الاخرى، يسعى المنبه المذكر في معرفة الشرقيين ما غابت عنهم معرفته، وهو من باب غير باب الشاغل والهم الدينيين والباعثين على الهداية قبل الوفاة، وخشية الغيب الذي يليها. وصنف المعرفة هذا وهو ينبغي أن يقود العارف الى القيام في محل صاحب التبعة عن أحواله ومصائره، على خلاف المعرفة الدينية أو العرفان- لا يقود الى التسليم ولا إلى الايمان، خوفاً من الهلاك ومن تضييع الآخرة بعد الاولى، ولا إلى ذوبان النفس وتوحيدها في «نفس» الذات.

وتميل المعرفة، وهي معرفة من طريق السبب والواسطة والفعل ومفاعيله، ويميل الاستدراك، من طريق التوقع والاستباق والاستشراف الى تخصيص الفاعل المرجو. فيهدي الكاتب المهاجر كتابه «هدية منـ (ه) للناشئة العربية المباركة الأبية المعقودة آمال الامة بيُمن نواصيهم». وأما الداعي الى إهداء «كلمة الحق والصيحة في واد»، وهي وديعة علم ومعرفة واستدراك وإحياء الى الشباب («الناشئة»)، فلا شأن له بمكانتهم من أحوال «الامة». فهو، الإهداء، يترتب على منطق التوارد وتوزيع العلامات والأمارات. فعلى زعم الرحالة المتكتم:» لا شباب (للأمة) إلا بالشباب (عمراً وسناً)». ويحقق تواردُ فتوةِ الامة، وتجدد الحياة في عروقها- وذلك بانتفاضها على الاستبداد والاستعباد وفتوةِ «الناشئة» القائمين بالانتفاضة والثورة، والمدعوين الى الاضطلاع بهما، (يحقق) وصفَ الاستبداد بـ»الداء الدفين»، وحمله على طبيعة من الطبائع المنحرفة التي تعود طبابتها أو معالجتها الى عالم عارف و»مهدي» (من الهدية، وهي حرفياً مرادف «الكاريزما»، اللفظة اليونانية التي تعني الهبة أو اللطف الالهي، واشتق منها ماكس فيبر وصف القيادة الكاريزمية والنظام السياسي الذي تنشئه).

وعليه، «يورث» أحدُ أعلام النهضة الفكرية والسياسية العربية الاجيال العربية «الجديدة»، على ما سماها ميشيل عفلق الدمشقي غداة نحو 4 عقود، خليطاً فكرياً وخطابياً يمزج الاصلاح السياسي بالطبابة النبوية، والحركة السياسية بالتبليغ والهداية، والمعرفة العامة بالعرفان الخاص، وتجديد العمران والاجتماع بتوارد الطبائع. ولا شك في ان تحقيق «التوريث» وإثباته يقتضيان تقصياً دقيقاً ومفصلاً، وهذا ما لا قِبَل لعجالة به. إلا أن تواتر الابواب والموضوعات وموافقاتها، منذ جمال الدين الافغاني على أقرب تقدير الى اليوم، قد يصح حمله قرينةً على تناقل غير منقطع. ولا أزعم أن مثال التناقل «جرثومي» أو جِبِلّي. ولا يستوفي مثال تناقل الاخبار والآثار والاحاديث والسنن، وهو عَلَم تراثي وتقليدي مطبوع وجوهري، المقصود بالتناقل في معرضنا. وهو لا يستوفي تعليلُه الاقامةَ عليه. فعلى نحو ما ان «نقل» عبد الرحمن الكواكبي عن رسالة فيتوريو ألفييري (1749-1803) الايطالي في «الطغيان» (1778-1786؟) ليس تعليلاً، لا وافياً ولا غير وافٍ، لخليطه وترجحه بين أبواب متنافرة وملتوية من المقاصد والمعاني (على ما نرى من بعد)، ليس النقل عن صاحب «طبائع الاستبداد» تعليلَ تواتر الموضوعات والافكار والمعاني والصور المختلطة في الخطابة السياسية اللاحقة، وملابستها المواقف والافعال والمؤسسات، معاً. فالموضوعات والافكار والمعاني والصور الكواكبية، واختلاف ترجحها، إنما تُعْمِل في الوقائع المعاصرة، المجتمعة من الحوادث والاحوال والناس والمقالات، مقاصد يحيط الكواكبي بها بعض الاحاطة، ويستجيب دواعيها (وصوارفها، على قول المتكلمين) بعض الاستجابة. وهو شأن «الوارثين» المفترضين جميعاً.

خطابة التبليغ

وكان المنفي الحلبي نوَّه في خطبه «الطبائع»، قبل المقدمة، الى كتمانه، أو اكتتامه، ولجوئه الى مصر وملكها و»حريته» (حرية الملك)، ووصف «ابحاثه» بـ»العلمية السياسية»، ونبه الى مصدريها: «ما درسه»، أي ما استقاه من اختباراته، و»ما اقتبسه»، أي ما أخذه أو رواه عن رسالة الكاتب الايطالي المنقولة الى الفرنسية في وقت مبكر. ويستبق مذاهب القراء المحتملة في التأويل، وحملهم ما يقرأون على وقائع عثمانية ماثلة لأنظار بعض العثمانيين من أمثاله. وربما يحتاط الكاتب لانطباق ما يكتب ويذيع على سياسة المضيف المصري. فيزعم أنه لا يقصد بمقالته «ظالماً بعينه ولا حكومة مخصصة». وينبغي ان يكون هذا الزعم مصدقاً للصفة العلمية السياسية، أي النسبة الى «علم السياسة»، والى مطلبه الواحد والجامع، والمجرد من الإِّنيات والاعيان العثمانية والمصرية. ويبحر صاحب «الطبائع (...) والمصارع» بين هذه الثغور، وهي «مواضع المخافة من بلدان العدو»، العصية على المداراة والتجنب.

فتقيِّتُه لا تعدم التنبيه الى إسراره غير ما يعلن حين يقول أنه «غير قاصد... ظالماً بعينه»، فتدعو القارئ الى الإيقان بأنه يقصد حقيقةً عبد الحميد الثاني الذي خلَّف الشريف الحلبي «غاشيته» (الجواهري) وراءه حين قدم مصر، وحل ضيفاً على «عزيزها». واللقب القرآني الاسلامي يلمع ربما الى فرعون الذي قرَّب يوسف ابن يعقوب، واتخذه «وزيراً» ومشيراً ومدبراً، فحمى مفسر الرؤيا «النبوي» (ورؤى المنامات «جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، على «قياس وتقدير حديث «صحيح»!) مصر وأهلها من المجاعة. ومن طريق التورية هذه، إذا صدق ان ثمة تورية، ومن غير تنطح علني وصريح الى الاضطلاع بالمكانة العظيمة، يسوق المندد بالإدارة العثمانية الظالمة بلاغه و»رسالته» سوقاً راعوياً، على قول كنسي وكاثوليكي ذائع. فإذا عزت مكانة النبوة وامتنعت، فلعل الوزارة والمشورة والتأويل أقرب وأيسر (متناولاً ومنالاً). ويؤيد هذا صفة التبليغ التي بدت سمة بارزة من سمات الخطابة والكتابة الكواكبيتين، وربما النهضويتين من بعد. فالمبلِّغ، المصلح والنهضوي والمتنوِّر والداعية العربي (والاسلامي؟)، يصدر عن «وحي» يوحيه اليه «علم» الأولين، المسلمين «العرب» (لغة وثقافة) أو القدماء الاوروبيين، أو الآخرين، الاوروبيين المعاصرين، أو الهوية الاصلية والثاوية في الامة في انتظار الانبعاث والإحياء. ومن هذا شأنه «ما عليه إلا البلاغ»: حمل «العلم» الناجز الى السادرين في الجاهلية والظلامية، والتنصيص أو تقريره عليه، وتذييله بالشروح والحواشي التي تمرن الأذهان المسترسلة في سبات ثقيل. فإذا قام «عرب» على أنظمة مستبدة وبوليسية ومحتكرة أسرع المبلغون، وهم في مصطلحهم ورطانتهم «مثقفون عضويون» أو «نقديون» أو «ثوريون»، الى تلاوة عبد الرحمن الكواكبي أو ويكيبيديا (على ما صنع «الاستاذ» محمد حسنين هيكل في محاورة قريبة)، واستشهاد محمود درويش أو انسي الحاج أو إدوار سعيد، الى مديري صفحات في الصحف «السيارة».

وما يصنعه بعضهم من المعاصرين بالكاتب الحلبي المغدور، وبمن يُحملون على نهضة وتنوير مفترضين، صنعه هو، في ظرف عصيب وخاص، بمن بلَّغ عنهم، وحمل علمهم وقرَّره على قرائه، وعلى نفسه. فهو يتناول «الاستبداد» (وليس «الظلم» على ما يقضي اصطلاح اسلامي)، أي اللفظة والكلمة، ابتداء من باب «العلم»، «علم السياسة» العام. وإذا أضفتُ أو زدت: وليس من باب الاعيان والاختبار، أو من باب نشأة الموضوع وخروجه الى المداولة والمناقشة والمطارحة العمومية في مجتمع من المجتمعات المعاصرة التي يتشارك الكاتب السياسي مع قرائه المفترضين «علماً» بها، أي معاناة و»تحككاً»، على قوله في المقدمة، وملابسة، على ما يقصد ربما إذا قلتُ ذلك فلست أريد أنه كان على الكواكبي دخول الموضوع أو طرقه من باب أوثره على بابه هو. وإنما أريد التنبيه الى تماسك معالجته المسألة، وإضماره مقدمات أو وصلات ووسائط لم يُحْوَج الى اعلانها وتسويغها، وتسري في معالجته وإنشائه موضوعه ومسألته، وتترتب عليها نتائج لا يسعنا إغفالها. واستهلال المقالة في السياسة بأنها «علم» و»علم واسع جداً» و»قلما يوجد انسان يحيط (به)»، ثم انتقاله الى تأريخ خاطف ومبتسر «للعلم» المفترض، يُسْلم المقالةَ الى التعليم أو التبليغ، وينصب المصادر أو المراجع مثالاً للاستعادة والإعمال، وهي على حالها من المصدرية أو المرجعية، وهو (المصلح الحلبي العثماني) على حاله من التوسط والنقل.

وسرعان ما يبدو التنويه بمراجع الأقدمين والوسيطين حاشية نافلة أو ترصيعاً يزين المقالة من غير العمل فيها. فلا يقع القارئ على أثر تالٍ «للرومان الجمهوريين»، أو لـ»كليلة ودمنة» و»رسائل» غريغوريوس اليوناني، و»نهج البلاغة»... وتسوي زينة الترصيع، شأنها عموماً، أنحاء تناول وأغراضاً ومسالك وعصوراً لا تشترك فيما بينها في شيء. ويتقلص الغموض والإجمال مع «المتأخرين»، على تفرقهم: المتأخرون من أهل أوروبا، والمتأخرون من الشرقيين (من الترك)، ومن العرب. وهؤلاء كلهم ممن يوحي الكاتب أنه درس عليهم وتتلمذ، وهو يقتبس «علمهم». وأما من يخاطبهم ويدعوهم الى مشاطرته سعيه ونهجه فهم معاصروه من «المحررين السياسيين من العرب». وهؤلاء «قد كثروا، بدليل ما يظهر من منشوراتهم في الجرائد والمجلات في مواضيع كثيرة». وأوحت الكثرة الى زميلهم بأن «(يذكر) حضراتهم على لسان الجرائد العربية بموضوع هو من أهم المباحث الأساسية (...) (فيدعوهم) الى ميدان المسابقة في خير خدمة ينيرون بها أفكار إخوانهم الشرقيين. وينبهونهم، لا سيما العرب منهم، لما هم عنه غافلون. فيفيدونهم بالبحث والتعليل وضرب الأمثال والتحليل ما هو حقيقة داء الشرق ودواؤه».

المرادفات والمقابلات

ولا يحمل تعيينُ المخاطبين وجمهورهم مخاطِبَهم، وهو الكاتب، على وصف الموضوع، المفترض مشتركاً ومتقاسماً وجامعاً، أي «داء الشرق». فالتسمية المجردة تفي بالغرض. والاشتراك في الموضوع، على فرض جواز التحقق منه عينياً، وهذا ما يلمح إليه صاحب «الطبائع» حين يدل الى كثرة «المحررين السياسيين من العرب» و»ما يظهر من منشوراتهم في الجرائد والمجلات»، يترتب عليه حتماً إجماع جمهور المخاطبين على تشخيص «الداء» و»الدواء»، وعلى نهج العلاج وهو «تنوير» الافكار و»التنبيه»، ثانياً. ولا يؤيد استنتاج الاجماع وتوقعه إلا حمل الاستبداد، وتشخيصه ومعالجته، على بدائه «علمية» وذهنية، أو عقلية، مشتركة وفطرية. فما أن يُدل إليها ويشار، وتسمى، على ان يختار الدال والمشير الجمهور المناسب، حتى ينعقد إجماع أهل «العلم» وجمهورهم على «البحث والتعليل وضرب الأمثال والتحليل»، على خطابة الموظف العثماني السابق. فيبدو «علم السياسة»، في مرآة الخطابة الكواكبية، صورة عن العلوم الطبيعية الحياتية على ما كانت عليه في العصر «الكلاسيكي»، وقيامها من الطبابة العملية مقام المقدمة المنطقية وتوليدها، بواسطة حلقة وصل صغرى، النتائج المتوقعة. ويبدو «عمل» السياسة صورة عن مزاولة صنعة من الصنائع البسيطة التي تعم مبادؤها ومعاييرها الصنعة، فلا يختلف مزاولوها فيها أو عليها، ولا يرون ضرورة أو حاجة الى تفصيل القول فيها من جديد.

وعلى هذا، يباشر الكاتب مقالته بتعريف «مبنى علم السياسة» فيقول، أو ينقل القول اليوناني «الجامع» والذائع، انه «ادارة الشؤون المشتركة بمقتضى الحكمة». وينقلب الى الضد، اللفظي والاصطلاحي و»الطبعي» (يكون بالطبع أول مباحث السياسة...»الاستبداد»)، فيذهب الى ان الاستبداد هو «التصرف في الشؤون المشتركة بمقتضى الهوى». وتتفرع على ضدية الحكمة والهوى، بعد الاقتصار عليها وعلى إطلاقها، «مسائل» من طينتها تضاداً وتقابلاً ولفظية وإطلاقاً. فإذا سأل (وهي مسائل على هذا الاشتقاق وحده): «لماذا يكون المستبد شديد الخوف؟»، أردف:» لماذا يستولي الجبن على رعية المستبد؟». وإذا تحرى عمن «هم أعوان المستبد؟»، أتبعه بالتحري، نظير الأعوان وعصبية المستبد وشركائه في استبداده، عن طاقة الرعية على التحمل. ويمضي على تقليب وجوه «تعبير» المتكلمين في المسائل، بحسب «اختلاف مشارف (الباحثين) وأنظار(هم)». وهو يقصد بهذا تبويب أصحاب المقالات على أبواب ومذاهب: المادي، والسياسي، والحكيم، والحقوقي... فيُجري على لسان المادي: «الداء: القوة، الدواء: المقاومة». ويحصي، على هذا المنوال، الأدواء وفي مقابلتها أدويتها. فإذا زعم السياسي أن الداء هو «استعباد البرية»، وصف «استرداد الحرية» دواء شافياً ووافياً. ويقسم أصحاب المقالات قسمين: «أهل النظر» و»أهل العزائم». وأهل العزائم هم الأبيّ والشهم والمتين والمفادي. وتعريفاتهم، شأن طبابتهم، هي مرآة معاني أسمائهم المتعسفة في معجم جُرَّدت شروحه من وجوه الاستعمال، ومن الملابسات التي تخصص المعاني، وتسلكها في سياقات وعلاقات واحتمالات عصية على الاستباق والاستيفاء- هذا التجريدُ يُخرج لغة «الطبائع» من التواريخ والأزمنة والحوادث، وينفيها من البلدان والجماعات ورسوم هذه وتلك، ويعلقها في أثير فقير وأعجف.

والحق أن عبد الرحمن الكواكبي ليس غافلاً عن «أسلوبه» أو طريقته اللفظية. فيقول إنه «أسلوب ذكر المرادفات والمقابلات». ويعارضه بالتعريف «بالوصف». ويباشر وصف الاستبداد فيقول «(انه) صفة للحكومة المطلقة العنان التي تتصرف في شؤون الرعية كما تشاء، بلا خشية حساب ولا عقاب محقَّقَيْن». وهو «ينشأ» عن «كون الحكومة غير مكلفة بتطبيق تصرفها على شريعة، أو على أمثلة، أو على إرادة الامة». ويوسع «الوصف» الاقتصارَ على «المرادفات والمقابلات» الى الإلمام بأنواع من الحكومات أو الأنظمة، وأصناف من القيود والضوابط، مثل الشريعة الدينية والتقاليد والانتخاب العامي. ويجمع الوصف «القيود» في باب واحد على رغم تباين أدوارها ومترتباتها ومواقعها من المحكومين. فالقيد الديني يصدر عن فوق وخارج يوجبان على الحاكم و»الرعية» الانقياد لهما، والتزام حدودهما. وهما (فوق وخارج) يبطلان الارادة والامة معاً، ولا يوجبانهما إلا على شرط انصياعهما لقانون أو حدّ يتصور نافذاً من تلقاء نفسه، وقائماً في نفسه، وما على الحاكم والمحكوم إلا الدخول في سلطانه والاتحاد به. والتقليد يستقوي كذلك باستوائه خارج «الامة، وقبلها أو في ابتدائها. وهو علة تماسكها وما هي عليه، أو هويتها. فلا تملك التصرف به، ولا تدبيره، إلا خفية وتورية وتأويلاً وعلى شرط إنكار التصرف.

«أمة» الحساب

ولكن «المحرر السياسي» الشرقي، على ما يصف الكواكبي نفسه ويصف أقرانه ومخاطبيه والكتاب والمتعلمين، يسوي قيدَ إرادة الامة الداخلي والتحتي، بقيدي الشريعة الدينية والاستنان على التقليد و»شيوخه»، الخارجين والفوقيين. و»هذه كلها حكومات مطلقة». ولا يمر صاحبنا بالمسألة عابراً، بل يبدي فيها ويعيد. فيكرر أن «أكثر الحكومات التي تسمي نفسها مقيدة» تملك نفوذاً يبطل «قوة القيد بما تهوى». ويُعمّ «حكومة الحاكم الفرد المطلق الذي تولى الحكم بالغلبة أو الوراثة»، وهو الحاكم الفرد «المقيد الوارث أو المنتخب» و»حكومة الجمع ولو منتخباً» و»الحكومة الدستورية المُفَرَّقة فيها قوة التشريع عن قوة التنفيذ»، بصفة المستبدة و»أشكالها (الـ) كثيرة». ويسوغ العمومية أو التعميم والكواكبي وفهمه منصرفان في هذا الموضع إلى احوال السلطنة العثمانية وإصلاحاتها القريبة من الدستور الذي انقلب عليه عبد الحميد الثاني بعد أن سنَّه الى الانتخابات المجلسية والنيابية الاولى في العقد الثامن من القرن التاسع عشر، فـ»مجلس المبعوثان» في 1902، وجمعيات الضباط السرية والقومية المعاصرة- إما الافتقار الى المحاسبة، أو إجماع الرأي المشترك على الاستبداد فيكون «أحكم وأضر من استبداد الفرد»، أو إلغاء مرجعية الامة الاخيرة والمقرِّرة فلا يسأل «المشرعون» المنفذين» ولا «تتقاضى (الامة) الحساب» من المشرعين المنتخبين.

وحين تتردد أصداء الحوادث العثمانية الماثلة في معالجة «المحرر»، وتنبهه هذه (الحوادث) الى قصور الافكار أو الاحكام الكلية والتعريفات عن تشخيص المعاني الدقيقة، وإيجاب معايير الرأي فيها) والعمل على هديها، يتنصل الكاتب من الملابسات العثمانية ومن مناقشتها. فيلجأ تارة أولى الى المبادئ العامة والمجردة: «وخلاصة ما تقدم أن الحكومة، من أي نوع كانت، لا تخرج عن وصف الاستبداد ما لم تكن تحت المراقبة الشديدة والمحاسبة التي لا تسامح فيها»؛ وتارة ثانية الى «مثال» بعض حوادث الاسلام التي يؤولها تأويلاً يُخرجها من «الفتنة الكبرى» الى المحاسبة: «(على ما جرى) في صدر الاسلام فيما نُقم على عثمان بن عفان رضي الله عنه»؛ ويلجأ تارة ثالثة الى أمثلة غربية معاصرة أفشت فساد بعض الحكومات وتواطؤها على الخداع والظلم، «(على ما جرى) في عهد هذه الجمهورية الحاضرة في فرنسا في مسائل النياشين وباناما ودريفوس»، واضطلعت فيها الصحافة والانقسامات الفكرية والاجتماعية المعلنة بدور راجح.

فترتسم في ثنايا التناول المتعرج والخابط المضطرب ملامح عامل جديد غفلت عنه «المرادفات والقمابلات»، وسقط من شباكها العريضة، هو (عامل) أهل المحاسبة والمراقبة والمؤاخذة ومتقاضو الحساب، أي «الأمة». وكان هؤلاء حضروا دائرة الالفاظ والعلامات في صورة أخرى وسالبة، على الطرف الآخر من علاقة الحاكم بمحكوميه، هي الرعية. وليس لهؤلاء (أهل المحاسبة ... أو الامة على معناها الجديد)، وهم على صورة رعية، كيان موجب وفاعل، لا في تعريف الاستبداد المقتصر على المستبد ولا في التصدي له، وإخراج استبداده من حد ماهية الطبع والطبيعة الى حد الفعل والعلاقة المتنازعة والسيرورة. وعلى هذا، فما من «حكومة عادلة» في نفسها ومن تلقائها، أو تدين بعدلها الى طبعها أو طبع حاكمها وغريزته أو نحيزته، على قول بعض اللغويين في مَلَكة اللغة. وتخالف هذه المقالة مذهباً ساد مقالات «النهضويين»، وتتردد معانيه في برامج الإحياء والانبعاث والثورة، أوكل الى مستبد عادل، أو ديكتاتور قومي أو إسلامي، الاضطلاع بتبعات النهوض والتنبيه والمقاومة.

فالاستبداد، في التعليل المركب والمتنازع، ينشأ عن التحكم والانفراد والهوى والتأله المركوزة في موقع «الحكومة» (السلطان) بإزاء رعية صاغرة ومنقادة. ولا تأمن «حكومة» لا تقتصر على فرد وتتولاها جماعة كثيرة، ويقود خطواتها دستور يفصل سلطتها التنفيذية عن سلطتها التشريعية، وتنتخبها رعية- وهي حال السلطان العثماني الحميدي في عهديه (لا تأمن) غاشية الاستبداد والاستعباد. فمصدر الغاشية الخانقة، هذه المرة، ليس طبع السلطان أو طبع طائفته وطبقته وحرسه وحسب، بل هو «غفلة الامة أو إغفالها (المؤاخذة)»، و»جهالتها». والقوة المسلحة، أو «الجنود المنظمة»، حين تأتمر بأمر الحاكم وحده، هي حرس الحكومة المستبدة من المراقبة والمحاسبة والمؤاخذة، أي من «الامة». وهذه، الامة، لا تستوي على حال سياسية وفاعلة إذا لم تخرج من «غفلتها» و»جهالتها» و»رعيها» الى حال «الشدة» («المراقبة الشديدة») و»النقمة« (على خليفة راشد رضي الله عنه) والخلاف (على فساد وتزوير). والحكومة «المدنية»، ويريد الكواكبي نظام حكم غير ديني، لا تدوم فوق «نصف قرن الى غاية قرن ونصف»، شأن «الحكومة الحاضرة في انكلترا»، إلا إذا سهرت على دوامها «يقظة» المحكومين، وحالت بينها وبين تسلم «زمام الجيش»، وتولي امرته منفردة. فكيف تحصل مثل هذه الحال؟