الأربعاء، 23 أكتوبر 2013

مرض الوزير الباشكاتب حين أشكلت عليه إرادة المرشد المبرقع

المستقبل 20/10/2023

قرأ احد ابرز السياسيين الديبلوماسيين في ايران، السيد محمد جواد ظريف، وزير خارجية الرئيس الجديد والمنتخب في الدورة الاولى بعدد اصوات ساوى ما جمعه منافسوه جميعاً، وهم بعض أبرز سدنة الجمهورية الخمينية الامامية الاثني عشرية، على ما اثبت دستورها بالحرف- قرأ في صحيفة "كيهان" شبه الرسمية عنواناً أول (مانشيت)، عريضاً ومفصلاً، يبلِّغ الجمهور على الملأ أن الوزير أقر بأن المحاورة الهاتفية بين الرئيس الشيخ حجة الاسلام حسن روحاني وبين باراك أوباما، الرئيس الاميركي الخامس والاربعين، والاول على وشك الاقلاع من مطار نيويورك قافلاً الى إيران، "لم تكن مناسبة"، وأن "المحادثات الطويلة" بينه وبين محمد جواد ظريف وبين جون كيري، نظيره الاميركي، "خطأ في خطأ". وطُبعت إدانة حسن شريعتمداري في صدر الصحيفة اليومية في 8 تشرين الاول، الشهر الجاري، غداة عودة الفريق الرئاسي الديبلوماسي الايراني "منتصراً" من دورة هيئة الامم المتحدة العامة، الثامنة والستين، والخطابة فيها.
وفي الاثناء أو قبلها بقليل (في 6 تشرين الاول)، التأمت لجنة الامن القومي والسياسة الخارجية في مجلس الشورى الايراني، وناقشت تقريراً أعده وزير الخارجية العتيد، تناول فيه رحلته ورئيسه الميمونة والمظفرة الى مدينة مقر الامم المتحدة. وتعد اللجنة بضع عشرة نائباً شوروياً، بينهم حسين نقوي حسيني، وهو من السادة على ما ينم اسمه أو تنم أسماؤه. وفيهم، حكماً، رئيس اللجنة، الثابت في رئاستها ثبات رفسنجاني في بعض رئاسته، الشيخ بروجُردي، وهو من وجوه "النظام" البارزة. وإليهما، ثمة منصور حقيقت- بور، نائب رئيس اللجنة، والمتغيب عن الجلسة على الاغلب. فلما قرأ الوزير عناوين "كيهان"، وهي صحيفة على سبيل المجاز مثل بعض الصحف المحلية الهستيرية وورقة تبليغ أمنية وإدارية في غد وشيك إن لم يكن اليوم، كتب على حائطه في وسيلة الاتصال الاجتماعي الاشهر، "فايسبوك"، أنه أصيب، في اليوم نفسه، بـ"ألم شديد في الظهر والساقين (أم الركبتين؟) و(عجز) عن المشي أو الجلوس"، فاضطر الى إلغاء مواعيد واعدها في مقر وزارة الخارجية.
ولكن "4-5 ساعات من الإخلاد الى الراحة لم تعالج المشكلة"، على قوله. فذهب الديبلوماسي القلق والمرهق من محادثاته الطويلة مع وزير شرس على شاكلة جون كيري، وهي دامت نحو 45 دقيقة أو 2700 ثانية (على ما كان الجنرال الرئيس إميل لحود أحصى)، الى المستشفى وعرض جسمه، أو بالأحرى نفسه المعذبة على آلة تصوير بالرنين المغناطيسي، وليس على آلة تصوير بالاشعة السينية العامية والتافهة على نحو ما تصنع العامة الآمنة من تحريض "كيهان" و"مانشيتاتها" المدمرة. فأفشى الرنين المغناطيسي سر الالم الشديد في الظهر، وهو آية الصلابة والتماسك والسند، وفي الركبتين، وهما من آلات الرجولة والثبات في أبدان المحاربين الفرسان. وقال (الرنين): ان مشكلتـ(ك) سببها إرهاق وتشنج عضلات". وعلى غرار العرافات والعرافين أو الكاهنات والكهنة، أوصى أو أمر الرنين العائد من نيويورك غازياً (على قول أنصار طيب رجب اردوغان في بطلهم حين عودته من دافوس في 2009 ومقاطعته شمعون بيريس الاسرائيلي بالمعالجة) "بواسطة مزاولة الرياضة".
وتطرق المفاوض الحديد(ي) الى الجمل الأربع التي صدرها حسين شريعتمداري "حميم" المرشد آية الله العظمى والسيد حاج آغا (وهي ألقابه المضمونة) علي خامنئي الموسوي، ووكيله على رأس "كيهان"، ولسانه في القضايا القومية الكبيرة مثل "قضية" البحرين وإيرانيتها التاريخية صحيفتَه، فلاحظ هادئاً ومنصفاً، أن "ساعة ونصف الساعة من المحادثات الجدية والصريحة والخاصة (لا تلخص) بأربع عبارات لا يتماشى مضمونها مع ما (قاله)". ويلوم صاحب الحساب "الاتصالي" من "يقضون من تلقاء أنفسهم في نزاهة (الآخرين)"، ويدعون ولاءً خاصاً للمرشد، وصدوراً عن إرادته وإدانته المفترضة. ويختم المفاوض المؤتمن على بلوغ أجهزة تخصيب اليورانيوم في الخنادق الجبلية الحصينة بفوردو بعد نانطنز عتبة الخصوبة النووية العسكرية بقول عميقٍ عمق المراوغة والمكر "الإلهيين" والخامنئيين استطراداً وفيضاً: "ألم يبن لهم أن المرشد، لو أراد، لكان أعرب عن موقفه واضحاً من غير لبس؟".
وهذا بيت القصيد. المرشد ومقاصده وعزائمه ومسالك إبانته عن هذه وتلك. والمرشد من لحم ودم، وجُبِل من طين ولم يجبل من نور، على قول أثر من آثار "المعصومين" في جبلَّتهم هم الاثنا عشر المكتوبون بنور أخضر على قائم العرش. وهو حاضر، ملء البصر والعين، وكلامه ملء السمع، وبلاغته ملء العقول والصدور والافهام. وحضوره أو شهوده، في لغة القوم ومصطلحهم، يحمله السفيرُ الدولي الايراني والمفاوض القديم الذي يتذكر الامين العام لجامعة الدول العربية المغمور نبيل العربي لطفه ودماثته (وجه "المرونة" من "المرونة البطولية")، على غيب أو غيبة تنطوي على معاني لا يسبر غورها. فالغالب على الشاشات البيض ومحطات الاذاعة والمواقع الالكترونية من غير منازع، والخارج على الدوام منتصراً من الاشتباكات الانتخابية الايرانية و"ليل نقعها" حين لا شمس ولا قمر إلا جبين المرشد ووجهه الصبوح، هو نفسه لم يستبن لأقرب المقربين إليه، وهم ألسنته وأذرعته وأعصابه وهم "عيناه" (خميني في "الباسدران")، ما أراده، وما بيَّنه، وما تعمد الإغماض فيه والاشارة، وربما الجمجمة على طريقة عرف بها الاعاجم على زعم العرب قبل الشعوبية.
والمناقشة في "إرادة" المرشد ومعاني "بيانه" كأنها عود على بدايات الكلام الاسلامي:" فأراد (هل أراد الله) أن يُعصى؟"، سأل واحدهم وقد وقف في مسألة حرية المخلوق في ارتكاب المعصية والله خالق السماوات والارض وحوادثهما، وذهب ضمناً الى أن حمل المعصية على الخالق، وتحميلها المخلوق، خُلف أخلاقي لا يحتمل. فرد الآخر: "أفعُصي كارهاً؟"، مرغماً ومضطراً وهو الجبار وقاهر الجبارين، على ما ذكرت بيانات "الجهاد الاسلامي" حين ابتدأ "الجهاد" العتيد، في 1985، جهاده الإلهي فخطف فيمن خطف ميشال سورا، المستشرق "البشع"، والمنكر جبروت القاهر، والحاجب نور العرش بيده. والسؤالان وجهان جدليان لاستحالتين متماسكتين منطقياً، وتماسكهما قرينة على خلوهما من قضية يقضي فيها الرأي من طريق التجريب والاختبار.
والرأي أو الحكم من طريق التجريب والاختبار في إرادة المرشد وقصده، في مسألة المفاوضة على السياسة النووية والعسكرية الايرانية، ممتنع أو مستحيل أو متناقض، على رغم أن الفقيه وولي "المسلمين" وأمورهم حي يرزق، ويستعجل فرج إمام الزمان مثلنا كلنا وهو يصرف الامور الثقيلة، مثل محمد خاتمي ومير حسين موسوي وعلي أكبر هاشمي رفسنجاني وغيرهم مثلهم، نيابة عنه. والقرينة الدامغة على جدلية المقاصد الخامنئية، وإيجابها أو إثباتها الحقيقة في الضدين والرأيين، هي تملص "الواقعة"، موضوع الاختبار والتجريب المفترضين، من الرواية والخبر. فما دار أو حصل في لجنة الامن القومي والسياسة الخارجية في 6 تشرين الاول من عام السعد 2013 (م)، ودام ساعة ونصف الساعة، على أحد قولين، وحضره الوزير والنواب الشورويون وفيهم حسن نقوي حسيني ومنصور حقيقت- بور، يعصى الرواية المحكمة، على ما يقال في التفسير أو على ما قالت المعتزلة، ويترجح أو يتعثر في الرواية المشتبهة، على قولهم كذلك. فيصر مخبر "كيهان" ومدارِها الشرعي، النائب حقيقت-بور، على ان وزير روحاني قال ان المحادثة الهاتفية بين الرئيسين غير مناسبة وأنه، هو الوزير، استرسل في محادثة نظيره الاميركي اللعين واستمرأ. ويصر النائب حسين نقوي حسيني، الناطق باسم اللجنة، على "ضعف" الخبر الكيهاني، والشريعتمداري تالياً، والخامنئي من بعد لو جاز الرفع الى "الحلقة" الاولى او السبب غير المشروط.
وهذا ليس لاهوتاً، بل هو ناسوت خالص على قول حسن قبيسي. وهو ناسوت، على معنى لاهوتي، أي "طبيعة" بشرية وإنسية، وجسد من لحم ودم وعظم وأعصاب، مرة أخرى. فإنكار المنكرين، من نواب شورويين سمعوا بآذانهم ورأوا بأم العين، وتصديق المصدقين وهم شأن المنكرين سمعوا ورأوا، على قول الانجيلي، هذا الانكار أنزل "المرض" والوهن في معاون الرئيس الايراني على تصريف الشؤون والعلاقات والعداوات والحروب الخارجية. فمرض الرجل- وهو صاحب رجال أشداء خاضوا بحوراً من الدماء والاشلاء في العقود الثلاثة ونصف العقد التي انصرمت منذ شباط 1979، وقتلوا وقُتلوا واغتالوا واغتيلوا، ونصب أعينهم منذ عقدين من الزمن تقريباً امتلاك السلاح "الاعظم" والقاضي في "القرار الاخير"- حين أذاعت صحيفة "يحجب" صاحبها أو مديرها بابَ المرشد أو الولي، ويميط بعض الحجاب عن مكنون سره وإرادته وقصده.
و"مرض" محمد جواد ظريف، التقني ووزير التدبير والتنفيذ من غير تكليف (وهي أبواب من الاحكام السلطانية نبهت اليها مقدمات رضوان السيد في "التراث"، من غير تخصيص)، سبق أن تناوله أحد الأناسين الفرنسيين الاوائل، مارسيل موس، في عشرينات القرن العشرين. وخصه ببحث فحص عن موت (لا قدر الله!) أناس استراليين أوائل أو أصيلين، من بعض قبائل أهل البلاد، يقودهم الى حتفهم حسبانهم أو يقينهم بأنهم "ملعونون"، وأن لاعِنَهم أفلح في استمالة قوة سحرية نافذة الى جانبه. فلا جدوى من مقاومة الإصابة ومعاندتها، ومن التمسك بأسباب الحياة والبقاء على قيدها. فينتحي الموقن باللعنة ناحية من قرية قبيله وأهله، ويقطع أواصره وروابطه بهم وبمعاشهم، ويقلص حركاته وسعيه الى أقل القليل. وينقطع من الصيد والحرب والكلام والطعام والمخالطة، ويقبض تنفسه، ويثوي على احد جنبيه، ويغرق في سبات عميق لا يشبه "نعاس" الموت بين الاهل، على زعم جبور الدويهي في أقاصيصه الاولى.
ولا يصدق القول في الميت لعنةً أو ملعوناً انه انتحر، أو أنه قتل نفسه عمداً. فـ"الانتحار الغيري"، على خلاف "الانتحار الأناني"، على ما سماهما إميل دوركهايم (خال مارسيل موس قرابةً)، مشروط بفعل معلوم النتيجة هو الارتماء فيما يؤدي الى موت محقق مثل تفجير حزام ناسف أو سيارة مفخخة... أما الميت ملعوناً فيدخل سيرورة بطيئة وطويلة تُسْلمه الى ثأر لاعِنه، وقوة سحره المميتة، من سبل أو طرق لا علم له بها. فالفاعل، في هذا المعرض، خفي القصد والارادة، تلفه غيبة تحجبه عن الافهام والتعليل. ولا يستقيم الخفاء والغيبة والحجاب إلا في إطار "عالم" أو "دنيا" خلقهما خالق مفارق تلتبس معاني خليقته، وبالأحرى أن تلتبس معانيه هو، على مخلوقاته الفاهمة والعاقلة. فمدحت كتب آداب السياسة "المدنية" المدونة بالعربية والمتداولة في مجتمعات غلب عليها الحكام المسلمون، وهي معظمها فارسي، حسن غوص الوزير على معاني الحوادث المشتبهة والحيل التي جبلت منها، وجبل منها البشر وشؤونهم.
والوزير ظريف، شأن ملايين من المريدين المقاتلين ("المبارزين") وغير المقاتلين، يسعى بين ظهراني اجتماع سياسي موكول به التشابه. وعموم المتشابهات يحمل "الناس"، المريدين والانصار والباسدران والباسيج والمتحزبين، على قطع الأنفاس بين يدي المحتجب أو المبرقع، وهو اسمه في إحدى قصص بورخيس أو "خيالاته". فهو الفقيه، العارف، وهو ولي العمل أو الأعمال. وهم، المريدون والأنصار...، يضبطون أعمالهم على إرادات ومقاصد يختلفون على تفسير متشابهها، ويقتتلون فيه. والمبرقع "يمسك" عالم المريدين والانصار والجنود "أن يسوخ"، على قول محمد بن علي الباقر، ويلحم نثاره وشراذمه في اجتماع أو مجتمع. فلا يدين أهل هذا المجتمع، "الإمامي"، لإمامهم ومرشدهم ونائب صاحب زمانهم ونبيهم "المستمر"، بلُحمتهم وحسب، بل يدينون له بـ"كيانهم" أو "كينونتهم". فهم "نحن"، وليسوا هملاً وعمى وفوضى من غير هوية ولا مرجع تقليد وضبط وفهم وعمل، من طريقه. فإذا اختل فهمهم إرادته، أو حسبوا أن فهمها اشكل عليهم، "مرضوا" و"ساخوا": ضعفت ظهورهم واصطكت ركابهم، واستحال عليهم تقرير ما قيل وما لم يقل، وتبلبلت ألسنتهم في انتظار تصدي المرشد الإمام العدل لتقويمها.

وبعيداً من طهران ونيويورك، على المنقلب الشرقي والشمالي من الهضبة الايرانية وما يليها من بلاد القوقاز، روت البيلاروسية (الروسية البيضاء) سفيلتانا ألكسييفيتش، وهي روسية الاقامة والرحلة والعمل (الأدبي والصحافي) سير مئات من أمثاله أو أشباه محمد جواد ظريف، على هذا القدر أو ذاك من الشبه والمثل. ووسمت كتابها بـ"نهاية الانسان الاحمر أو زمن الخيبة" (بالفرنسية، عن "أكت سود"، باريس، 2013، أيلول، وطبع بالروسية في السنة نفسها، بفروميا، موسكو). وفي أخبار سفيلتانا ألكسييفيتش يموت نساء ورجال كثيرون، على شاكلة موت "ملعوني" مارسيل موسل الاستراليين، اشتباهاً وإشكالاً وفهماً مستوحداً، إذا جازت العبارة، غداة موت ستالين فعلاً، وانهيار المجد السوفياتي والامبراطورية والوطن، وحسر التاريخ برقعه ولثامه عن بحور دماء وجبال اشلاء امتنع صرف معناها أو استغلق. وقد يستحق هذا فصلاً آخر أو عجالة أخرى.
http://www.almustaqbal.com/storiesv4.aspx?storyid=591536

الجمعة، 11 أكتوبر 2013

تهمة الكيمياء غير المردودة

المستقبل، 23/9/2013

حسب الرئيس الروسي البوليسي، فلادمير بوتين، أن في مستطاعه إبراء ذمة حليفه ومولاه ودخيله (أو محميِّه) الرئيس السوري، بشار حافظ الاسد، من محرقة غاز السارين بغوطة دمشق الشرقية، في 21 آب (أغسطس)، قبل أيام قليلة من صدور تقرير لجنة تحقيق الامم المتحدة في استعمال الأسلحة الكيماوية. وأعلن رجل الاستخبارات السابق، وبطل "أيام" غروزني وبيسلان ومسرح بطرسبورغ ومجازرها، براءة مولاه في صدر صحيفة أميركية "كبرى" أهدته موقع افتتاحياتها. فقبل الهدية، وأقبل عليها إقبال النهم، الطفيلي الأشعبي، على مآدب الأعراس والأتراح. فمدَّ يديه وقدميه، ولم يقتصر على دفع التهمة عن "زبونه"، ومَدينه المثقل بديونه القاتلة. فمضى على تجريم السوريين المقاتلين في الغوطة، وجزم بإدانتهم ومسؤوليتهم عن قصف الضاحية الريفية القريبة بالغاز المميت، وبصواريخ أرض – أرض، وهي تشير زوايا محركاتها، أو بقيتها، المغروسة في الارض، إلى اطلاقها من هضبة قاسيون ومخازنها الحصينة، على ما لاحظ مراقبون ومصورون قبل ثلاثة أسابيع من تقرير التحقيق الاممي.
 ولا ينتهك استعجال التهمة وصدورُها عن الاتحادي الروسي الاول ورأس الفيديرالية الامني المزمن، دعوةً روسية ديبلوماسية الى الأناة، وانتظار ختام التحقيق، والاتعاظ بسابقة خان العسل واشتباهها وإلقائها بعض الشبهة على مقاتلين إسلاميين، وحسب. فالاستعجال يضرب عرض الحائط بكل هذا معاً، ولكنه ينم على نحو صريح وصارخ بسياسة بوتينية و"سوفياتية" راسخة وأصيلة انتهجها عقيد الكي جي بي في معالجة قيام الشيشان على استبداد موسكو وصلفها واحتقارها "الوطنيين المحليين"، على ما سمت القوى الفاتحة والاستعمارية كلها أهل البلاد المستعمرة الاصليين، و"إدارتهم" إدارة كولونيالية لا تتورع عن الاستئصال. واستوى في هذا الصنف من "الادارة" الاستعمار الهولندي وصنوه البرتغالي ووارث الاثنين الانكليزي والمنافس الفرنسي فالألماني. ولم يقصر "الوجود" السوري في لبنان، ولا قصر "ضحايا (الفلسطينيون) الضحايا (اليهود)"، بحسب عبارة إدوارد سعيد الخالدة، في المضمار. والعمائم الخمينية والحراب الحرسية  تسوس البلوش وأهل سيستان بما هم أهل له جزاء ضلوعهم في سفك الدماء الزكية وقتل المظلومين...
 فأعمل "القيصر"، أو قيصرون، في بلاد الشيشان- عدا القصف بالمروحيات المدرعة والمصفحة وهي من مفاخر الصناعة الحربية المحلية، وهدم البيوت على رؤوس الناس والاعتقال الجماعي، والتعذيب المدمر، والخطف والاغتصاب والتهجير- أعمل سلاحاً ماضياً يكاد يكون "ميتافيزيقياً"، على قول لورنس في سند الدعوة الشريفية المجازية الديني، هو حمل الثائرين على القهر الروسي على ارهابيين أصوليين وسفاحين إسلاميين. وسوغت التهمة ، وهي نظير تهمة الادارات الاستعمارية العسكرية المحاربين الاهليين بالتوحش او على وجه التخفيف والتلطيف بالبربرية، حرب الابادة على بلاد الشيشان، واستعمال "المولى" قديروف ولجانه وقوات دفاعه الوطني على الابادة، وندبه من بعدها الى إنهاض غروزني العاصمة من أطلالها وأنقاضها، وإطلاق يد قديروف الشاب في اغتيال صحافيين محققين روس في مقدمهم أنَّا بوليتكوفسكايا. وبعثت الحرب البوتينية، وبعض فصولها المصطنعة والبوليسية وفصلها "الوطني والمحلي" الاهلي الاخير، في صفوف الحركة الوطنية الشيشانية إرهابيين حقيقيين وقاعديين أصيلين.
 وهذا نهج قلما يخطئ دلالةَ المستولين وأهل القوة العارية الى الحروب الاهلية، والغرق في رمالها وأوحالها المتحركة والمعتمة. وبوتين لم يبتكر هذا النهج. وليس بشار حافظ الاسد السائر الاول على خَط أو طريق أهل السابقة. وهو خالفُ حجة في الحرب على الظلاميين المبتدعين وفي فقه هذه الحرب، ومعاصر أحد أئمة هذا الفقه وآياته وحليفه الصدوق. وحين تلجأ مساعدة الرئيس السوري، الدكتورة اللغوية والألسنية بثينة شعبان، الى رواية المحرقة الدمشقية على طريقة "ألف ليلة وليلة" فرنكشتينية ودراكولية (قالت: الارهابيون التكفيريون الوهابيون أغاروا على قرى ريف اللاذقية وطرطوس، في 20 آب أو قبله بقليل، وقتلوا 1428 نفساً من السكان، العلويين، ونقلوهم الى الغوطة، وكفنوهم هناك بأكفان بيض وصوروهم، وقالوا انهم قتلاهم، أي صرعى بشار الاسد وحلقة ضباطه القريبة، حين هم ضحايا الارهابيين الخليجيين)، فهي لا تنافس بعض الروائيين "اللبنانيين – الفلسطينيين" فحسب، وتبزهم في مضمار التراث والابداع، بل تلقن أحد سادة التجسس الروسي سابقاً على ألمانيا، والمنصور على الشيشان، درساً في التخييل والإصعاد في معارج الغرابة والعَجَب.
 وتوسل غيرُ مشكك في مسؤولية الرئيس السوري عن محرقة السارين بالغوطة بحجة حسبها لا ترد: لماذا انتظر المقاتل الشريف، على ما قال أبوه في نفسه، والمستقيم عشية قدوم لجنة تحقيق أممية الى دمشق ليقصف الارهابيين الوهابيين، وبعض أولادهم (426 من 1428) ونسائهم، بالغاز المميت؟ ألا يدل الامر على غباء تكذبه إدارة "الملف اللبناني" في 2000-2005 ثم 2005 – 2013؟ ومجابهة المحكمة الدولية المختلطة في قضية رفيق الحريري والقضايا المتصلة الاخرى؟ وخلافة الجماعة الحرسية والخمينية المسلحة على الادارة العتيدة والبارعة؟ وغيرها من بينات الذكاء وآياته التي لا ترد. والحق أن التسليم بمنطق المناقشة، حين يتولى تقصٍ مادي التحقيق والفحص والتثبت، مضيعة وقت لا طائل منها.
 ولكن الداعي الثقيل والمرير الى القلق والحزن هو استحالة الرد على مزاعم العين (الجاسوس) والمشيرة الدكتورة بالقول: القتل بالسارين، أو بغيره مثله من آلات القتل الخسيسة والارهابية، ليس من شيم أي فريق من فرق المعارضة أو الثورة (على المعنى الحرفي) السورية، وهو وقف على قوات "العصابة" وأعوانها. والرد على هذه الشاكلة، أي بإطلاق، مستحيل حتى لو ثبت أن المواقع الـ14 التي ذهب تقرير التحقيق الدولي الى ان سلاحاً كيميائياً استعمل فيها ليس فيها موقع واحد يتحمل فريق من المقاتلين التبعة عن استعمال السلاح فيه. فالحق أن في صفوف المقاتلين المتفرقين والمختلفين، ومن ينسبون الى "الثورة" أو ينتسبون إليها، ولم تكذب بعض تظاهرات الأهلين نسبتهم وعلاقتهم حين ظهرت فرق "المسوِّدين" بجوار باب الهوى قبل عام وبعض عام- من استجابوا النهج الاسدي والبوتيني والحرسي، وولغوا فيه، وساروا عليه.
 وحين طرحت على "ثورات" عربية سابقة، مثل الفلسطينية وربيبتها اللبنانية ("الوطنية" أو العروبية) واليمنية قبلها وبعدها والجزائرية قبلها كلها والعراقية اليوم (!)، مسألة الطوارئ والاستثناء العرفي أجمعت هذه "الثورات"، وأهلوها ومناضلوها، على ازدراء المسألة، وانكار حقها في المناقشة وحظها من التشاغل. وحُملت الانتهاكات، وهي لم تلبث أن انقلبت نهجاً معتاداً وسائراً، على استثناءات ظرفية ومؤسفة قبل أن يرمى بالمسؤولية عنها "مستوى وعي" المقاتل العادي، وإرث القمع والاستغلال الماضيين، وعنف العدو وشراسته، والطائفية التي خلفها الاستعمار وينفخ فيها عملاؤه، و"النيوليبرالية" المتوحشة والمتربعة في سدة العولمة، والحاجة الى المَدَد الخارجي... ولم تشذ "الثورة" السورية، وعلى الاخص في فصلها الثاني غداة تدمير قوات الاسد باب عمرو بحمص، عن السنن العربية الموروثة. ويتفق هذا مع تعهد حركات الاحتجاج المتناثرة قادة طارئون ومرتجلون، تساقطوا من الابنية الاجتماعية في اثناء انحلالها وتصدعها الطويلين قبل الانفجار، ولم "تهذبهم" أو تؤدبهم وتعركهم حياة سياسية مجربة.
 وهذا وغيره مما يتداوله، منذ بعض الوقت، كتاب سوريون متكاثرون، أو أتاحت "الثورة" نشر كتاباتهم على نحو ما دعتهم الى الرأي والكتابة والعلانية، صحيح. فإذا اضيفت إليه كثرة الجماعات السورية، وتنافرها الموروث، وانتهاج "العصابة" وأسلافها سياسة تفريق وتمييز وترهيب متصلة، بدا التعليل متماسكاً ومعقولاً. وبدت المقارنة بحركات التحرر، واضطرارها المفترض الى الارهاب جواباً عن وطأة السيطرة الاستعمارية وتحجيرها الشعب المغلوب على سلبيته، جائزة. وعلى هذا، ساغ قول من دفعوا تهمة الارهاب عن جبهة النصرة، حين قدمت بعض فصائلها القليلة والهزيلة بعد أشهر على ابتداء حركة الاحتجاج السورية، ورأوا أن بشار الاسد هو مصدر الارهاب الوحيد في سوريا، ولا إرهابي غيره وغير أنصاره وقيادته. ومن يقاتل هذا الارهابي لا يجوز أن ينسب بدوره الى الارهاب.
 وهذا "مذهب" جبهوي واعتقاد ستاليني سوفياتي. وهو يترتب على احتجاج أو قياس مقدمته الاولى والكبيرة أن عداوة الشر السياسي توحِّد على نقيضه وخلافه، وتجرد النقيض من أوساخ نقيضه وعلائقه، موقتاً. فلا ينبغي أن يدب الخلاف في "الجبهة" التي تقاتل الرئيس السوري وعصابته وحوشيته. وأما لماذا تقاتل "الجبهة"، وأجزاؤها وجماعاتها وكتلها، "العصابة" فسؤال مبكر وفج على الدوام، على زعم الجبهويين الأقحاح. وهؤلاء، على شاكلة الشيوعيين بين الحربين، قد يديرون الظهر لحلفاء الامس "المتآمرين"، ويرتمون في أحضان هتلر، ويتقاسمون بولندا وجمهوريات البلطيق وإياه من غير تردد. ويفترض الجبهويون، وهم في سوريا اليوم كثيرون وعلى رأسهم شيوخ "الحمر والسمر" أو المزيج الشيوعي والقومي، أن رص الصفوف اليوم حنكة شأن فضها غداً. ويفتقر الحساب والتعليل هذان الى عامل أو بعدٍ رئيسي، مكانة معنوية ودوراً عملياً، هو العمومية. فإذا لم تحتسب الأجزاء، الاهلية والقومية والدينية، مكسباً مشتركاً وجامعاً من ثورتها وانتصارها، وخشيت أو خشي بعضها انتكاسته حين انتصار الحركة، تهدد الثورةَ خطر مميت. وليس التفكك أو التصريح هو مصدر الخطر الوحيد. فافتقار الثورة الى العمومية المعنوية والعملية المصلحية يحط بها الى ذرائعية فقيرة. والتنديد بالارهاب الذي يصيبنا، وغض النظر عن إرهاب يصيب العدو، قصر نظر وعمى عن شروط مصلحة عامة، وإرادة عامة لاحقاً. وحين يدعو بعض أعلام المعارضة السورية اليوم الى التهوين من شأن السلاح الكيميائي، وحمله على تفصيل يتعلق بأمن اسرائيل ولا يقدم أو يؤخر في حرب الموت السوري الذريع، يستأنف هؤلاء إطراح العمومية، ويقللون من شأنها، على شاكلة الساكتين عن الارهاب ما لم يصبهم هم وأصاب "أهل" بشار الاسد ومقاتليه.

  والطَلب الى "العالم"، والى "الاصدقاء الاميركان" (على قول سليم إدريس) على نحو خاص، حماية السوريين من جرائم "العصابة" وسلاحها لا يستقيم إذا لم يحمِ السوريون أنفسَهم من بعض "اصدقائهم" والمقاتلين نصرة لهم أو "للاسلام"، على زعمهم. فواجب الحماية أو المسؤولية عنها واجب عمومي ومسؤولية دولية. والارهابيون سواسية، كانوا في المباني الحكومية المحصنة أم في اللجان الشرعية والدوريات التي تقتل الاولاد حين تتناول ألسنتهم "المقدسات". وهذا ليس درساً في الواقعية السياسية، على المثال المدرسي والامني... السوري أو الاسدي، وإنما دعوة الى عمومية تقدم المعنى السياسي الجامع، وهو في هذا المعرض المعنى الوطني السوري، على المعاني الاقليمية والدولية المضمرة أو المعلنة. والدروس الاخلاقية في الأنانيات الدولية والقومية، وفي الانحياز الى هذه المصلحة أو تلك، هذر مكرر وشديد الشبه بالبذاءة.  

جان – بيار فيليو يضبط وقت "الشرق الاوسط الجديد" على ساعة الثورة السورية: ثورة من تحتٍ وداخلٍ وحاضر رداً على تاريخ فوقي وخارجي ومفوَّت؟

المستقبل، 6/10/2013
 يصدِّر جان – بيار فيليو كتابه "الشرق الاوسط الجديد/ الشعوب على توقيت الثورة السورية" (أواخر تشرين الاول 2012، باريس، مكتبة آرتيم فايار) برواية طرفة أو خبر من أخبار سوريا "الغائمة" او المضطربة في 2012، اي السنة التي كتب في اثنائها كتابه الثاني في "الثورة العربية". والخبر يروي حكاية ضابط سوري انشق عن جيش النظام و"عصاباته"، ويقسم في أواخر الشتاء بشمال غرب البلاد على علم الاستقلال أمام جمع من المقاتلين المسلحين التزامه التنديد بجرائم عصابات النظام وحماية المتظاهرين والابرياء، جنباً الى جنب الجيش السوري الحر. وتستخف الحماسة الضابط، وهو يختم قسمه، فيهتف، على ما هتف على الدوام طيلة "حياة عبودية" متأصلة: "عاشت سوريا الاسد!". فينفجر الحضور بالضحك. ويعقب الكاتب على الخبر، ويمهد لإهدائه عمله، فيكتب: "هذه هي الحرية، أن تدرك مدى إذعانك من قبل وأن تضحك منه". فالضحك هو وليد الايقان بأن الرجوع الى ما مضى أو استئناف الماضي مستحيل، وبأن غاشية الموت لا تعف عن مكان أو عن أحد والحياة على وشك الانتصار: "هذا الكتاب هدية (مهدى) الى كل الذين ضحكوا وانتصروا". ويعلِّق بصدر الصفحة التالية شاهداً من "يوميات ديكتاتور" (2011) لزكريا تامر، كاتب الأقصوصة السوري، يجري على لسان الطاغية قوله أنه رفع جداراً بينه وبين شعبه، ليس خوفاً من شعبه على ما حسب الاغبياء، بل حباً به، و"حماية له من غضب(ه)". 
حرية وقتامة
 والحق أن الاهداء والتصدير يستوقفان القارئ، وهو أحد القراء الكثر على ما أرجو، أو قد يستوقفانه في ضوء الكتاب كله وصفحاته الاربعمئة، وفيها نحو 70 صفحة من الهوامش والملاحق والمراجع والفهارس. فهتاف الضابط المنشق بحياة "الاسد"، والاسد الاب لم يتورع عن "ملاعبة" الأبد (على مثال ملاعب الأسنة، الفارس والشاعر) وهو يعاني سكرات المرض الفاتك، يقود الى الضحك من طريق "انفجار" التناقض أو التفاوت الحاد بين حاضر القسم، المنقلب على الابد الاسدي، ودوام "التعييش" الآلي أو الميكانيكي الذي يفترضه سارياً ونافذاً. وفيليو يقف معنى الضحك في المشهد الطريف وخبره على التناقض هذا، وعلى إدراك المفارقة ومباغتتها الشهود حين هم يحتفلون بما يحسبونه طيهم، من غير لبس، ماضي عبودية اعتادوها وسلموا بها دهراً أو أبداً عصى الطيَّ وامتنع منه. والقول ان معنى الضحك، في هذا الظرف أو هذه الحال، هو الحرية، لأنه إقرار أو تقرير بالتخفف من ماضٍ ثقيل، اجتزاء مجحف وشديد التفاؤل.
 والتأويل يغفل بعض إيحاءات المشهد وتلويحاته القاتمة. فالضابط العتيد انتظر سنة كاملة، على ابتداء الثورة والقيام على الطاغية الشاب، اقترف هو وعصاباته وميليشياته و"جيشه" (رغم كل شيء) في اثنائها الفظائع والجرائم التي تدينه، ولا يبرئه شهود مبايعته علمَ الاستقلال متأخراً من ارتكاب فظائع أُمر بارتكابها في اثناء السنة المنصرمة، وأطاع الامر طاعة صاغرة أو متحفظة، فسلم رأسه من الجز والاطاحة. ولا تخفى في صوت الضابط نبرة الانكار والتنصل: فهو يقسم على ألا ينصاع بعد اليوم لما انصاع له وسكت عنه وسوغه من جرائم في حق المتظاهرين. فالشهود قوامون، شأن "الثوريين" على العموم، على طهارة المقاتلين، ليس حاضراً أو مستقبلاً وحسب، بل ماضياً كذلك. والشكوك في ازدواج بعض الانصار والمقاتلين الجدد ليست كلها تهمة ظالمة، ولا افتئاتاً خالصاً، حين "يتمتع" العدو بالمقدار الذي تتمتع به "العصابة" من المراوغة والمخاتلة والتحلل من قيود المحظور الاخلاقي والانساني. فالضحك، والحال هذه، الضحك الصريح والساخر من النفس، يجلو مفارقة الجمع بين ترك "غاشية الخنوع" (محمد مهدي الجواهري) وبين إزمان لغتها ودوام هذه اللغة وشعائرها. ولكن لا يؤمن ألا يضمر هذا الضحك كذلك، حين امتحان الهزائم ويقظة الشكوك وانفجار الخلافات أو "مثلث" النفط والطائفية والعنف الأسود، سؤالاً عن طوية صاحب القسم الجديد، واستقامة عهده وقوة التزامه. فيسأل بعض الحضور نفسه، في أثناء الضحك أو بعده: ألم يفضح الهتاف ركاكة "إيمان" الضابط المعلن وحقيقة ولائه؟
 والإيحاءات الستالينية والبوليسية التي تنم بها هذه الملاحظات المتشككة لا تقتصر على إساءة الظن في صريح المعنى، ولا تزعم الفطنة. ولكنها مرآة التباس الاحوال السياسية، من غير شك، والوجدانية والبلاغية "العربية"، والسورية على الخصوص، كذلك. وعلى المنوال نفسه، لا أرى موجباً للاعجاب بخاطرة زكريا تامر، وانتخابها أو تعليقها بصدارة الكتاب. فهي لا تعدو طباقاً على افتراض عداوة الطاغية لـ"شعبه"، وبغضه له. فيقلب الكاتب الافتراض الى خلافه ونقيضه، ويجعل الحب والحماية محل البغضاء. ويوكل بالضد اللفظي وغير المتوقع، والعصي تخيله على "الاغبياء"، اجتراح معنى عميق ولا يدرك قاعه أو غوره، ويلقي بالتبعة عن إدراك العمق على القارئ وحده. ومثل هذا كثير في بعض الشعر العربي "الحديث"، على مثال طباق "الإقامة في التيه" المعروف والعريق. ومسايرة جان – بيار فيليو إيجاب المعنى وحقيقته من غير دليل أو شبهة، هي تثنية على فعل تامر، وتزكية له ومشايعة عليه.
 داخل / خارج
 وظاهر ما تقدم أنه تقويل عشرة أسطر نافلة، هي من حشو الكلام، وتمهيده، ما ينبغي ألا يُحمّله المتن الصلب والتحليل المتماسك. وهذا صحيح لولا تجاوب وتواشج قويان ومتينان يشدان حشو الكلام الى صلب التحليل والتعليل. فما يؤخذ (آخذه) على المتن والاحتجاج في أعقاب قراءة متقصية، على زعمي، هو ما قد يؤخذ على افتتاحه وتصديره الخاطفين والمستعجلين. فالكاتب يحتج (على معنى كتب الاحتجاج الديني والاعتقادي وعلى شاكلة الاسقف عمار البصري في منتصف القرن التاسع م أو أفلاطون في سقراط) لرأي يراه في "الثورة العربية" في صيغة الفرد، وهو قصد، في كتاب وسابق طبع أيلول 2011 (عن مكتبة فايار، باريس)، جميعاً من تونس ومصر والبحرين وليبيا واليمن وسوريا، الى الجزائر والمغرب وفلسطين... ويذهب فيليو الى ان "الانتفاضة الديموقراطية" العربية، في فصولها المتفرقة والمؤتلفة، هي جواب من تحتٍ (شعبي) وداخلٍ (اجتماعي وتاريخي) وحاضر معاصر عن معضلات البناء المصنطع، الخارجي والاستعماري، الذي فرضته القوى المتسلطة على الشرق الاوسط عشية الحرب العالمية الاولى، من طريق السلطنة العثمانية، وغداتها الانتدابية.
 وهو يعني بالاضطلاع، الفوقي والخارجي والفائت أو المفوَّت زمناً ووقتاً، أموراً  كثيرة، معظمها مضمر، مثل تقسيم بلدان الشرق الاوسط الى دول وكيانات سياسية وحقوقية جديدة ومبتدعة. فهي لم تستأنف كيانات على شاكلتها، داخل حدود جغرافية وأهلية وسياسية وثقافية راسخة ومتعارفة. وهو يمثل على رأيه هذا، بديهةً، بسوريا، "العربية" قوماً، والسورية أو الشامية طبيعة وأرضاً وتاريخاً امبراطورياً قديماً. فسوريا هذه، على نحو ما استقرت في حدودها الجمهورية والانتدابية بعد وأد "الحلم" الفيصلي الهاشمي والعسكري العثماني والاعياني المحلي، خرجت من نظام الولايات، وهو نصبها على رغم تقلبه الرجراج "قلب" الولايات العربية، الى نظام دول (-أمم) قسمها، على خلاف منطقه وأعرافه وما ندب إليه، دويلات وأقاليم ومذاهب وإدارات توسَّطها، وتوسط روابطها "الرأس" الانتدابي وأداته العسكرية القاصمة. وألحقها بالساحل، البيروتي اللبناني، وبتجاره وجمركه ومرفئه و"نصاراه" وخليطه. وهذه أثارت  في دمشق، كرسي الولاية الام قبل 1887، تاريخ انتخاب بيروت اسم ولاية ساحلية طويلة ومركبة، حفيظة حانقة. وسعت الادارة العثمانية، ومعها أعيان دمشق وعلماؤها وموظفوها، في إبطال الاسم والدور زماناً طويلاً. ولكنها اضطرت الى الصدوع بأحكام الوقائع الجغرافية والاقتصادية والاستراتيجية الجديدة. وهذه قضت بالاقرار بـ"حقوق" الجماعات الاهلية في السلطة والثروة والثقافة والائتلاف في كيانات اتحادية ذاتية. ولكنها، من وجه آخر، سلخت اسكندرون عن الدولة.
 فيلاحظ الباحث الفرنسي والديبلوماسي السابق (كان مستشاراً أول في السفارة الفرنسية بدمشق ونائب السفير، على ما يوضح وينبه) أن "السوريين" حملوا الاختبار الانتدابي على محنة تمزيق وإذلال قاسية، أنزلتها بهم، من فوق ومن خارج، القوة الاستعمارية المنتدبة. وتماشي الملاحظة التأويل السوري، العروبي والتقليدي، السائر والمتداول في أوساط السياسيين المحليين والمتعلمين الى اليوم تقريباً. وهو يستدرك على هذا التأويل، أو على بعض النتائج التي تحمِّلها "العقيدة" العروبية إياه. فـ"العقيدة" ترى أن "التجزئة القطرية" محنة عمت الأمة، أي فعلاً المشرق القريب، وعلاجها صدارة "سوريا" وغلبتها الاقليم الاستراتيجي الواحد. ويذهب الباحث الديبلوماسي الى أن ما تراه "سوريا" تقطيعاً وتجزيئاً لم يشك "اللبنانيون" في عوده عليهم، وعلى وطنهم الكبير، توسعاً وامتداداً. ولا شك "الاردنيون" في إيلائه جماعتهم دور الحاجز بين شبه جزيرة العرب وبين المشرق، والممر الضروري بين الشطرين. وانصرف العراق الى التأليف بين حواضره الثلاث، بغداد والبصرة والموصل.
 وينبه استدراك ثان الى أن احد مصادر الحقيقة والحيوية في ثورة السوريين هو تسليمها بسوريا، في حدودها الاقليمية الانتدابية والاستقلالية، دولة – أمة، وإطاراً مشتركاً لجماعاتها ونزاعاتها وإجماعاتها (أو تفاهماتها، في لغة ديبلوماسية العصر). ويتخلل التعليل والسرد التاريخيين استدراك ثالث مضمر يعزو الحقبة الاسدية، والبعثية عموماً، واستنقاعها "البريجنيفي" المنهك، الى ارساء حافظ الاسد عهده الطويل والعقيم على مقايضة اقليمية متراكبة: مقايضة الإمساك الاميركي بضبط المنظمات الفلسطينية المسلحة وتوريطها وشرذمتها والحؤول دون سيطرة "الحلف" الفلسطيني – اللبناني ثم الجماعة الحرسية والخمينية المسلحة على لبنان، ومقايضة المساندة السوفياتية بتسليح "اشتراكي" كثيف وبالتوسط بين موسكو وبين الخليج ورعاية تماسك "قومي" بإزاء اسرائيل لحمته مناهضة الامبريالية الغربية وحدها والسكوت عن الامبريالية السوفياتية... وتفترض المقايضة العتيدة، الاقليمية والدولية، مثالاً قومياً، وظيفياً وذرائعياً خالصاً، يشتري من السوريين استقالتهم وتسليمهم السياسيين والعلنيين لقاء "الدور" القومي والدولي المسرحي ورعاية موجباته التي لا تحصى ولا تدرك. وتنكر "الانتفاضة الديموقراطية" والوطنية الصفقة التي أرسى عليها جهاز الاسد سلطانه وامتيازات بعض دوائره، وتطعن عليها. وحسب الاسد الآخر قبيل اندلاع الحركة السورية، أن سلطانه حصين، وما يحصنه هو الصفقة "القومية" الموروثة. فخيبت الثورة، أي القيام الشعبي (تحت) والوطني (من داخل) على الاستيلاء العصبي والبيروقراطي الريعي حسبانه.
طيف "النهضة"
 ويلوح في ثنايا احتجاج الكاتب لرأيه أن ثمة نظيراً تحتياً وطنياً ومعاصراً (حديثاً)، سورياً، للمصادرة، المتسلطة والاجنبية (الاستعمارية) والمفوتة، على سوريا والسوريين. ويلوح في هذه الثنايا طيف يسميه الكاتب "النهضة"، ويستعيض بالاسم والطيف عن الايضاح. ويمثل عليه بانتفاضات و"حركات" (على ما سمت مرويات درزية لبنانية انتفاضات القرن التاسع عشر المحلية) معاصرة، يروي منها بشيء من التفصيل قيام جبل الدروز، في 1925، على الانتداب، والمقاومة الانتخابية البرلمانية التي أعقبته وأفضت الى 1936 ومعاهدتها. ولا يستوقف الكاتبَ اضطلاع جماعة "طرفية"، معتقداً ومقاماً او منزلاً وعدداً، بالمبادرة الى معارضة الانتداب وقتاله. فهو يقرر الواقعة، وصفتها، فلا يدعوه تقريرها الى مساءلتها عن معناها أو معانيها، ولا عن تساميها الى منزلة "الثورة العربية"، "الكبرى" أحياناً، ثم "السورية"، تواضعاً وتمييزاً من تاليتها الفلسطينية في 1936-1939. وسبقت ثورة جبل الدروز، "جبل العرب"، في النصف الثاني من العقد الثالث، ثورة اللجا الحوراني، أي جبل الدروز الداخلي، على ابراهيم بن محمد علي باشا المصري. وأثخنت حرب الساقة، أو المؤخرة، هذه في قوات الحملة المصرية على السلطنة، وعجلت في انسحاب الفاتح "العربي" وحليفه الفرنسي من الولايات العربية المشرقية وقلبها "السوري".
 والانتفاضتان الدرزيتان و"السوريتان" على سلطانين مختلفين، وهما يفصل بينهما نحو قرن من الزمن، ليستا انتفاضة واحدة في وقتين. ولكن ما يجمع بينهما هو "المواقع" التي ينزلها القوم المنتفض: الموقع المذهبي المنفصل والاقلوي، والموقع العصبي المنكفئ والمناهض الجباية "الحديثة" على الرأس والمساواة في التسليح بين أهل المذاهب والديانات المتفرقة، والموقع البلداني والقبلي المقدم "الارض والعرض" (وليد جنبلاط مفتتحاً معركة الجبل في صيف 1983) والحرب على غيرها من المعايير. ولا تحول هذه "المواقع" بين صاحبها، القوم المنتفض، وبين عقده على العروبة الجامعة والواحدة "الى الابد"، وبنائه بها. فالعروبة، في صيغتها السلالية والحربية الغالبة (وغير الحصرية)، تجيز أو تبيح "تعليق" الجماعة الجزئية الفرعية على الاصل المشترك والمفترض من غير وسيط "سياسي" ومادي (إداري أو مالي أو تمثيلي أو عسكري). وسوَّغ هذا تصدي بعض المسيحيين "العرب" الى تصدر الدعوة "القومية" العربية وشق تيار "النهضة" تيارين فكريين على ما يلاحظ بيار فيليو عرضاً. وعلى مثالهم، معنى وليس وقتاً، تصدرت أقليات متفرقة الى "قيادة" حركة قومية طيفية ومعنوية، على شاكلة التعليق النسبي والسلالي، وغلت في تصديها وبالغت على نحو المبالغة والغلو الاسديين العلويين.

 وأسهم هذا بسهم راجح في إنشاء عصبية الدولة أو عصبية السلطنة، أي في تنصيب العصبية المستولية والغالبة، وهي جزئية أو فرعية، عصبية جامعة وواحدة. ويتولى الطيف القومي، العروبي في هذا المعرض والاسلامي في معارض أخرى، توحيد العصبيتين في واحدة، من غير أن تنفكا اثنتين. وهذه العملية، اللاهوتية السياسية في جوهرها، هي ركن حمل "مصالح" العصبية المستولية على مصالح قومية مشتركة. وهي مسوغ نزع ما تتماسك به الجماعات المتفرقة، قومية أم مذهبية أم محلية أم اجتماعية أم اقتصادية، من روابط داخلية. ودخلت تحت هذا المسوغ، مع سيادة الناصرية ومثالها "القومي – الاجتماعي" على هذا القدر أو ذاك، سياسات التأميم وحل الاحزاب في الحزب الواحدة و"جبهته"  وبناء القاعدة المادية الاشتراكية والدولة الادارية والمرحلة "الوطنية الديموقراطية"، المتضافرة والمتواشجة. فالرابطة "القومية" المستولية تنهض على نفي الروابط والاواصر الاخرى كلها، عصبية دموية أم اعتقادية أم مصلحية أم سياسية مركبة، من غير أن يكون في مقدورها تدميرها او استيعابها ودمجها. وعلى هذا،  يبطن الاستيلاء العصبي، مهما بدا مستتباً وراسخاً، اضطراباً وقلقاً. فإذا نشدت الجماعة، أو "رمادها" ورميمها، حصتها من الهوية، على قول مايكل فالزير، أو من العوائد ومن السلطة، تصدع البناء، وتزعزت أركانه. فهل يلد التداعي، على هذا النحو، ثورة من تحت وداخل وحاضر؟ لا يجيب التأريخ شبه اليومي لوقائع الثورة، على ما يصنع الكاتب، عن السؤال. وبين أواخر تشرين الثاني من العام الماضي وبين اليوم انقلبت موازين ومعايير ومقاييس انقلاباً حاداً ولكنه لا يؤذن بارتسام ما يرغب الكاتب في ارتسامه، ويقول أنه يوشك أن يرتسم، ولو على سبيل الكناية، على نحو ما ابتدأ كتابه.