الثلاثاء، 29 أبريل 2014

مصائر الاستيلاء العصبي البيروقراطي والريعي في مرآة حنا بطاطو الاسترجاعية

المستقبل، 27/4/2014
التعليل الاجتماعي والتاريخي بالاستعمار
 وجهٌ من إلزام المجتمع بمركزية مستبدة ومقيمة
 ليس هنا معرض مناقشة "نظرية التخلف" (وهي ليست واحدة) التي يُلمع إليها المؤرخ الاجتماعي، حنا بطاطو، عرضاً ومن غير تخصيص، ولا يستعمل أو يقتبس إلا طرفاً من مصطلحها. والاشارة الى اطار استعادة بطاطو بعض المصطلح السياسي والايديولوجي، شأن وحدتي الطرفين أو القطبين المتصارعين والمناضلين وإدراكهما حالهما وعملهما بموجب الحال وإدراكها، ذريعة الى تناول القسم الثالث من الاستدلال بعمل الكاتب في العراق الملكي والجمهوري الى الفحص عن مثال الدولة العصبية الوطنية والبيروقراطية الريعية الذي غلب على البلدان والمجتمعات العربية المشرقية (وبعض المغربية والخليجية أو الجزيرية) غداة الحرب الثانية واستقلالاتها و"قضيتها" الفلسطينية و"اندلاع" الحرب الباردة، ودام على تفاوت وتقديم وتأخير بحسب البلد نحو نصف القرن ودخل حقبة تصدع وانهيار في العقد الاول من القرن الواحد والعشرين. وتناول القسمان، الاول والثاني، سياقة الانقلاب من سيطرة أو غلبة دولة الاهل الكثر والمتنازعين، في كنف الاحتلال ثم في الطور الاول من الاستقلال فغداة استخراج النفط في 1952-1958 واستغلاله، الى سيطرة أهل الدولة، وعصبيتهم الملية الاهلية والحزبية الايديولوجية، على الدولة وبيروقراطيتها العسكرية والمدنية وعلى ريوعها المتعاظمة. وتتبع القسمان، على خطى صاحب الكتاب وروايته حلقات النزاعات ومنعطفاتها ورصده مواد قواها وأنسجتها، الوجه السياسي الغالب و"التقليدي"، على معنى العصبي والأهلي، وإفضاء هذه السياسة الى مثال أجوف يحتكم فيه أقطاب أو أطراف النزاع على السلطة الى كفة القوة، العارية ظاهراً من الروافد الاجتماعية البارزة، وعنوانها أو وسمها ولواؤها هو القوات المسلحة. وسعى القسم الثاني في اقتفاء أطوار المادة الاجتماعية التي بعثت الكتل السياسية والاجسام الاهلية، وهي على حالها من الشقاق والمنازعة وضعف المُسكة، على أداء الادوار التي أدتها في صوغ المثال الاجوف ثم في تحكيم كفة القوة العسكرية في المنافسة على السلطة والاستيلاء عليها.
***
 حين وسم حنا بطاطو كتابه الكبير باسم البلد الذي يتناوله، أي العراق، أتبع الاسم العلم بعنوان الباب الذي ينوي طَرْقه وهو "الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية...". وأردف الباب بالمدة التي ينوي قصر المعالجة عليها وتنتهي في 1958، أي عام إعلان الجمهورية وقلب الملكية، ولم يقصرها عليها فمدها فعلاً الى عشية طبعه الكتاب في 1978. ولعل أول وأبرز ما يدعو الى الفحص هو اختيار الطبقات الاجتماعية باباً يدخل منه صاحب التاريخ الاجتماعي الى العراق، الكيان السياسي والجغرافي والوطني الواحد والمتماسك، والقائم بنفسه وبوحدته بما هو موضوع تأريخ. والطبقة الاجتماعية، أو ما يفهم بها، قرنت بحركة ثورية أم لم تقرن، تُحمل على جزء عضوي من مجتمع كلي أو شامل يصدق وصفه التشريحي (الثابت) والوظيفي (الحركي) على الرسم الطبقي عينه. فهي تُفترض على شاكلة الجسم المتصل والمتجانس أو النازع الى الوحدة والتنازع والتماسك تحت وقع مصالح جامعة، اقتصادية واضحة وسياسية أقل وضوحاً، ويسوق أطوارها وأحوالها توجهها المتعرج صوب تضافر المصالح الاقتصادية والسياسية على إرساء الجسم أو الكيان على دور واحد وراسخ الهوية. ونازع الجسم الى قيادة المجتمع الكلي، بعد نازعه الى توحيد أجزاء الطبقة ولمّ شتاتها، عامل راجح في تعريف الطبقة الاجتماعية وتعقب أدوار تاريخها وحوادثه، شأن نازع ثالث الى توحيد الطبقات المتنازعة في اطار "مجتمع" عالمي، تعمل في وصل حلقاته وتقطيعها معاً قوى اقتصادية هائلة مشتركة ومتجددة.
"الدولة قبل الطبقة"
 ودخول المؤرخ الاجتماعي الكيان الوطني العراقي من باب طبقاته الاجتماعية، أو ما يُفهم بالطبقة، قد يبدو إغفالاً متعمداً ومكابراً للعوامل الكثيرة والمتفرقة في الابنية الاجتماعية الاخرى، من عصبية قبلية وعشائرية ومذهبية وأهلية وقومية وبلدانية جغرافية وسياسية وإدارية وحقوقية، أو قد يبدو إنكاراً لقوتها وأثرها في استواء الحوادث والوقائع على سياقاتها ومثالاتها. والانحياز الاصطلاحي واللفظي الى "الطبقة" نُسب ردحاً من الزمن، ولا يزال ينسب الى تعصب سياسي وإيديولوجي الى "الماركسية"، والى القوة السوفياتية التي نُصبت وصياً عليها، وتولت الوصاية هذه فعلاً عقوداً طويلة لم تصرم ذيولها. وانتقاء بطاطو المفهوم في دوامة مناقشة عريضة لمسألة التخلف والتراكم الاولي والعالم الثالث وطي الاستعمار والتصنيع والانخراط في السوق الرأسمالية العالمية...، وهو تناول هذه المسائل وخاض فيها من غير مواربة، لا يخلو (أي الانتقاء) من جبه التحدي، ورد الجواب عليه من غير الوقوع في سذاجته واختزاله.
 ويتصدر رد الجواب على قصر الخيرة في المسائل المتنازعة على "الطبقة" أو "الامة" الاصلية الهجينة ومراتبها العضوية، مقدمة العمل الجامع وكتابه الاول، الموسوم بدوره بـ"الطبقات الاجتماعية القديمة". فينبه التصفح الاجمالي والجامع الى اضطراب البنيان الطبقي، وغلبة هذا الاضطراب على طبقات كبار ملاكي الارض وكبار رجال الاعمال من مال وتجارة في العقود الاربعة التي دامها العهد الملكي الى الثورة العسكرية والاهلية عليه في 1958. فدخول ملاكي الارض والتجار ورجال المال، أو كبارهم، الطبقات الرأسمالوية (على ترجمة نزيه الحكيم مفهوم "كابيتاليستيك" في عمل مكسيم رودنسون الفرنسي الاسلام والرأسمالية (1966 بالفرنسية، 1970 بالعربية) صبغته بصبغتها المهلهلة نشأة أبنية الدولة الملكية على نحو سريع ومرتجل، وترددات الكساد الاقتصادي العالمي في 1929 في أحوال العراق الاجتماعية والاقتصادية الداخلية، وتمليك الارض وتوزيعها بين 1932 و1938 بموجب قوانين تسوية رجحت الاستنساب والولاء والتقريب على المعايير الاقتصادية والانتاجية، الى عوامل فرعية وظرفية مثل تقلص الاستيراد من الخارج، وضمور التداول جراء التضخم الكبير الذي أصاب الاقتصادات الغربية قبيل الحرب الثانية وفي اثنائها، ونجم عنه تعاظم ثروات بعض التجار والصيارفة والمقرضين بين ليلة وضحاها وانهيار آخرين نظيرهم. وأدت هجرة اليهود الجماعية غداة 1948 الى توليف طبقي جديد. فخلف تجار شيعة من أهل المدن، كانوا على أطراف الكتل الاجتماعية الحاكمة و"السوية" وفي وسعهم تعاطي أعمال المال والتجارة التي لا تتعاطاها الجماعات التقليدية و"الشريفة"، هؤلاء خلفوا التجار والصيارفة اليهود. وتدفقت عوائد النفط وريوعه على خزينة الدولة الضاوية والهزيلة فجأة، منذ 1952، فملأتها. وامتحنت توزيعها على الطبقة السياسية والادارية، وعلى مصادرها الاجتماعية القريبة من أعيان الدولة والاسر العريقة وكبار ملاكي الارض. وفي الاثناء زاد عدد سكان بغداد 4 أضعاف، اجتمعوا من الهجرة الريفية والتعليم وتوسع حاجات الادارة وتقسيم العمل الاجتماعي. وامتحنت حصتُهم من العوائد العامة، وأولها النفط، سياسة التوزيع التي انتهجتها الدولة و"أصحابها"، وفاقم انحيازها الى اهل القوة والحظوة والمكانة حدة النزاع على العوائد، وعلى السلطة الحاكمة في توزيعها.
الاحصاء والمكانة
 وهذه العوامل، متفرقة ومجتمعة، نزعت عن الطبقة الاجتماعية، مفهوماً وكياناً، التجانس الذي تدين به الى سيرورات انتاج وتخليق تفترض فيها عمومية حسابية ومصلحية تنسب الى السوق وإوالياتها. فلم يستوِ كبار ملاكي الارض العراقيين طبقة متماسكة ومتجانسة في نهاية أو في سياقة مطاف كان مداره على انتاج "افضل" السلع الزراعية بأرخص الاثمان، وفي نطاق متوسط مساحات الارض الفضلى، ومن طريق إعمال رأس المال المتوافر واليد العاملة القريبة والطيعة على "خير" وجه، وفي سبيل تلبية احتياجات مستهلكين في وسعهم تسديد مشترياتهم في أثناء الوقت الضروري المتوقع... ولا هم قادوا أو ساندوا حركات اهلية ومحلية عسكرية أو امارات وولايات مستقلة حملتها نزاعاتها وحروبها وأحلافها على الانخراط في تكتلات متفاوتة التماسك استقرت على وحدات سياسية وجغرافية متكاتفة. فهم، أي كبار ملاكي الارض، "طبقة" على معنى إحصائي ووصفي مرتبي، معياره مساحات ملكيات الارض. وهذه تحدرت إليهم من مناصب ومكانات سابقة، تصدرتها المشيخات القبلية والعشائرية والقومية، والرئاسات الصوفية والمذهبية والحرفية والادارية السياسية والعسكرية. فملاكو الارض هم أغوات وشيوخ عشائر؛ وهم "سادة" (من فروع نسب نبوي متشابك) حضريون؛ ورؤساء أجسام مذهبية تولوا قديماً وأقاموا على تولي تمثيل أهل مذاهبهم لدى السلطات والحكام؛ وهم "رجال الدولة" الجديدة، حين انقلابها من ولايات عثمانية الى كيان سياسي وقانوني وطني وجامع، والمستولون على مناصبها في كنف القوات البريطانية المنتصرة، والضباط الشريفيون (نسبة الى الشريف حسين والشريف فيصل) أبرز جماعاتهم؛ وهم مضاربون وتجار وصيارفة وصناعيون أثرياء.
 وتشترك هذه الفروق في تغليبها المكانة العصبية الاهلية الناجمة عن مركب النسب الاسمي والدور السياسي التحكيمي والعسكري، وريوع المكانة، على الموقع أو المحل من الانتاج وسيرورات وشرائط تعظيمه، وعوائد الموقع. وتضعف المكاناتُ المختلفة والمتنازعة جمعَ أو ضوي الاجسام الاجتماعية والسياسية ومراتبها الداخلية في بنيان متصل تسود علاقاته المتبادلة قوانين او معايير واحدة، وتتوج الدولة اتصال البنيان ووحدة قوانينه ومعاييره. ولعل السمة التي تشترك فيها أجزاء "طبقة" كبار ملاكي الارض وفئاتها هي احتياجها في سبيل استتباب مِلكها الارض وحقها في استغلاله وفي حيازة ثمرة المِلك والاستغلال، الى الاستقواء بوجوه حق وتسويغ ليست من لوازم الانتاج ولا هي من متعلقات انجازه وشرائط الانجاز. فمِلك الاراضي آل الى ملاكيها العراقيين، ودام فيهم، وتولوا إعمال العاملين فيها على طرائق معهودة، وعاد عليهم دوامُ ملكهم وتوليهم بعوائد خاصة هي جزء من عائد انتاج الارض كله، يحصل هذا كله، من طريق قوتهم السياسية والعصبية وإعمالهم إياها في دوام مكانتهم وحقوقها. والسمة الجامعة السالبة، أي استغناء سيطرتهم عن الاحتكام الى معايير الانتاج وثمرته، هي ما يفرقهم دوائر مستقلة، ويدعوهم الى دمج قوتهم السياسية والعصبية واسبابها في مِلكهم الارض، وسيطرتهم على العاملين فيها، واقتسامهم الناتج من استغلالها على النحو الذي يقتسمون ويتقاسمونه. فهم يسوسون رعاياهم وأهاليهم وأنسباءهم بواسطة وكلاء يقودون جماعات "عسكرية" مأجورة تقمع المخالفين والمتمردين والمتلكئين. ويتوسلون المضافات والصرف عليها تعويضاً عن توزيع مقتر ومتعنت. ويتوسطون لأبناء عشيرتهم المهاجرين الى المدينة في تزكية حصول على عمل أو عقد زيجة أو دخول مدرسة...
 وتسور الاجزاء الطبقية هذه بأسوار صفيقة تشدها الى جماعاتها الاهلية، وتفرقها عن نظائرها التي تشترك وإياها في نمط السيطرة، أواصرُها القومية العرقية والدينية المذهبية. فكبار ملاكي الارض هم عرب وكرد وتركمان وآراميون وأرمن. وهم، من وجه آخر، شيعة وسنة ومسيحيون ويهود. ولهذه الوقائع والانساب آثار تتفاوت قوتها في تثبيت سيطرة المالك على أرضه والعاملين فيها ولها مفاعيلها في مكانة كتلة الملاكين القومية او المذهبية وموقعهم جماعة من موازين القوى الغالبة في علاقات الجماعات العراقية بعضهم ببعض. فالتسلط بقوة العصبية في ­أطار جماعة محاربة غير التسلط بدالة المال وبدالة النفوذ في الدوائر المركزية. وإعمال المِلك في خدمة المكانة غير إعماله في خدمة الربح والمنافسة على السوق. وعلى هذا، وسع كبار الملاكين من أهل العشائر السنة مزاولة نفوذ في "اهاليهم" العاملين في أراضيهم فوق ما وسع زملاءهم المسيحيين واليهود من أهل طبقتهم. وهم سعوا في غايات سياسية يترتب عليها تعظيم نفوذهم ودورهم الداخليين والاقليميين وتربعهم في ذرى الدولة، فوق سعي زملائهم الذين غلبت مشاغل الوقاية وتحصين الدور الاقتصادي على سياساتهم. وإذا ولدت الاحوال المتفاوتة والمتفرقة "مجتمعات متفرقة"أو متباينة في صفوف الطبقة الاجتماعية "الواحدة"، وانصرف المجتمع منها الى شؤونه ومصالحه على حدة من سواه من المجتمعات، فلا ريب، من وجه آخر، في أن عوامل الجمع والشبك والتأليف، من خارج وعنوة، كانت قاهرة وراجحة.
 ويقدم حنا بطاطو، من هذه العوامل، عاملاً "اجتماعياً تراكمياً وسوقياً" (ج1/ص 22)، رأسمالياً، ألزمت به العراقَ "روابطُه بالسوق العالمية". ويصف علاقة البنيتين، التراكمية السوقية والعصبية (وسمتها الغالبة هي اتصال المكانة بالنسب والعلم الديني والفروسية)، بـ"التداخل". ويرى ان استقرار الملكية الخاصة بأيدي المشايخ والآغوات، ثم توسعها واجتماعها في أيد قليلة، هي أبرز تغير اجتماعي طرأ على بنية الاجتماع العراقي في العهد الملكي العراقي (1/29). فشاعت المضاربة المالية والعقارية، وانهار اقتصاد الكفاف، وتقهقرت مكانتا النسب والدين، وبرز التملك علامة فارقة على علو الموقع الاجتماعي وعلى الانقلاب من المنزلة أو المكانة الى الطبقة. وتتردد في المصطلح الذي يختاره دليلنا، مثل "التداخل" (تداخل البنيتين، الرأسمالية و"ما قبل الرأسمالية" أو "السابقة"، التراكمية والراكدة، وهو لا يستعمل هذه)، و"الانتقال" أو الانقلاب وقصور "استكمال" الطبقة ركناً على الترتيب الطبقي، مشكلات نظرية التخلف"، على ما تقدم الإلماح غير مرة، ومعضلاتها. فهذه الوقائع الاجتماعية ربما تنهض قرائن على عطالة أدوار سابقة أو مستجدة مثل تلك التي كانت تتولاها الرئاسات الاهلية وتضطلع بموجبها توزيع العوائد على سنن معروفة ومقبولة. وهي ربما قرينة على منازعة معايير ضروب أو اصناف من العمران والمعاش مختلفة تنتهي، على مقادير وصور متفرقة، الى توليفات أو سيرورات مضطربة.
قيود السيطرة
 ولكن الواقعة الكبيرة والراجحة، أو العامل الذي تترتب عليه نتائج لا راد لها، هي مباشرة القوة العسكرية البريطانية إنشاء أبنية الدولة العراقية على مثال يفترض القسمة المبدئية بين الدولة والمجتمع الوطنيين وما يتبعها من مركزية السيطرة، ومعايير حقوقية وقانونية عامة، واحتكار العنف وآلاته، والسعي في توحيد دوائر التبادل والتداول في دائرة متصلة ومشتركة، أي "وطنية". وإلقاء التبعة عن الاختلالات المفترضة- وهي من غير شك حقيقية، وأحد الامثلة عليها (من بطاطو نفسه) تعفن القمح في مخازنه الريفية آن يكاد البغداديون غير البعيدين يجوعون جراء معوقات نقله وعرضه وبيعه، ولكن صفة الاختلال تقيس على حال معيارية طرأت (فكرتها وربما الحاجة اليها) مع مثال الدولة المركزية، وسرت في المألوف وأعرافه- القاء التبعة على "نفوذ البريطانيين... البنيوي" (1/29) يحمل علاقات المنازعة والمباينة والمساومة المضطربة على بنيانية جوهرية ومزدوجة ناجزة وتامة. وليس معنى المناقشة السريعة أن النفوذ البريطاني بريء من التبعة عن قصور استواء طبقة كبار الملاكين طبقة اجتماعية "مكتملة" أو "كاملة" الطبقية. فما تنبه إليه المناقشة هو أن السلطة الاستعمارية البريطانية انتشرت في أرجاء العمران العراقي، من أقاصيه الى أدانيه، وزجت بجماعاته وبه في دوامة توحيد سياسي وإداري قانوني واقتصادي، وتفتقت هذه (الدوامة) بدورها عن مفاعيل تعصى التعليل من طريق الرد الى كتلة بنيان النفوذ البريطاني، من وجه، والى كتلة بنيان النسب والدين ومكانتهما، من وجه آخر. وتخلص "نظرية التخلف"، شأن الحركات الاستقلالية الوطنية و"نظريتها" من قبل، وفي بعض الاحوال من بعد، من هذا الى حتمية "الثورة الوطنية الديموقراطية" على كتلة الاستعمار أو كتلة الامبريالية، وإلى وحدة قوى الثورة الالزامية، تنظيماً وقيادة ومصالح، في مقابلة وحدة "الكتلة" المناوئة، داخلاً وخارجاً وفي قيادة الخارج.
انتاج المجتمع
ولا ريب في أن "الحركات الثورية"، والطبقات "الجديدة" التي وَلَدت هذه الحركات من مادتها ومصالحها ومشكلاتها، كان لها ضلع قوي وفاعل في حبك الحوادث والوقائع، وفي بلورة النزاعات واستنتاجاتها نتاجاتها. ولكن ضلعها بقي مطوياً في ظلال كبرى الحوادث. وغالباً ما تلقي الحركات "التحررية" الثورية أو العامية – تمييزاً لها من الحركات الاستقلالية التي قادها شيوخ العشائر وأعيان التجار والعلماء وكبار الموظفين (وكلهم تملكوا الارض على مقادير متفاوتة) – ويلقي كتابُها وألسنتها بالمسؤولية عن المصائر السياسية والاجتماعية التي آلت الى التبعية والتخلف، على عاتق أولياء السيطرة والرئاسة وانقيادهم لمصالحهم "الانانية". والحق أن ما يسهم عمل كاتبنا في تفحصه من قرب هو أسر الحلقة المفرغة التي تدور فيه مناقشة المسؤوليات، وترجحها بين قطب التعليل التاريخي وبين قطب الادانة الاخلاقية. فمسألة مثل انقياد كبار ملاكي الارض العراقيين الى سيطرة وكلاء الامبراطورية البريطانية وموظفيها المحليين، وجزائهم عن هذا الانقياد بقوانين تسوية توزيع الاراضي في 1932- 1938، وهي ملكت كبراءهم مساحات فاحشة الاتساع، مثل هذه المسألة ليست السبب الاول أو الوافي في تخلف العراق عن إنشاء مجتمع زراعي وفلاحي منتج ومجز. فمجتمع على هذه الشاكلة، ركنه مزارعون متوسطون ومستقلون يزرعون وينتجون ويوزعون في اطار سوق تخرج من الكفاية وتكلفتها وإدقاعها وانغلاقها الى تكلفة المفاضلة واختياراتها ونزاعاتها السياسية، هو مجتمع رأسمالي أو جزء من مجتمع رأسمالي يميل الى التجانس والانقسام الطبقيين، ويحتكم الى تمثيله السياسي على هذا المعيار في حل النزاعات التي تمزقه.
 وعلى هذا، فحمل ُالسيطرة البريطانية على الارض وملاكيها على القيد أو الحاجز الذي حال بين المجتمع الفلاحي والزراعي العراقي وبين استوائه مجتمعاً رأسمالياً منتجاً (وهذ ما لم يقله بطاطو واقتصر على إلماح غامض وعام إليه)، مبالغة واختزال يقودان الى التعمية والاعتباط والتسويغ. وتنبه المعضلات التي أحالت الاصلاح الزراعي في بلدان المشرق العربي، وبعض بلدان المغرب، الى عملية أو سيرورة عبثية، الى ضعف المبالغة والاختزال السابقين والمقيمين في بعض الاذهان والاحكام. وافتراض ان "مقاومة" شيوخ العشائر والآغوات وأعيان التجار والحوزات والطرق الإنعام البريطاني عليهم بالتسوية لكانت قلبت رأساً (مزارعاً فلاحياً) على عقب (عشائري وبدوي) العراق بقضه وقضيضه، أقرب الى اعتقاد السحر في معرض يزعم تبديد السحر من الخليقة وعالمها. فلا تسوغ الافتراض واقعةٌ ضعيفة واحدة من الوقائع التي تصف حال الزراعة و"المزارعين" الشاوية، أو البدو المتساقطين من البداوة والمستوطنين الارض والمنتحلين عملها. أكانت (الواقعة) انحلال الأبنية العصبية، أو تعاظم التوطن والعمل في الارض، أو زيادة انتاج الارض جراء تحسن الري وانتظام المواصلات وتوافر الواسطة النقدية وزيادة "أجر" الفلاحين وانتاجيتهم واستقرار مكانة تجار الغلال الاجتماعية والسياسية (على مثال يرسمه بعض المؤرخين الغربيين والصينيين لشقَّيْ مقارنة الرأسمالية الزراعية البريطانية ونظيرها الصيني في أوائل الثامن عشر، كينيث بومبرانتز: مباينة كبيرة، 2010، باللغتين الانكليزية والفرنسية). والمجتمع العراقي بين الحربين لم يكن خرج خطوة صغيرة من دوائر المنازعات التي قسمته جماعات متناحرة: البدو والمدن، عشائر البدو وأحياء المدن، السنة والشيعة المسملون وغير المسلمين، العرب والشعوب الاخرى... وأودت فيضانات اواخر القرن التاسع عشر بالترع، فجاع البدو وهجموا على المدن، وتقلصت الاراضي المزروعة الى الارباض القريبة. فإخراج مجتمع زراعي وفلاحي منتج من هذه الانقاض، على شرط اضعاف السيطرة البريطانية، ضرب من السحر المضاعف والمغلف كذباً مغرضاً.
 ويسعى الجزء الثالث من هذه التعليقة على عمل بطاطو في العراق في تعقب اسهام "الحركات الثورية" وروابطها وأحزابها وطبقاتها ومبادراتها، في بلورة المنازع التي أفضت الى غلبة الدولة العصبية والبيروقراطية الريعية ومثالها على مثالات سياسي واجتماعية اخرى جائزة، أو تصورت بعض القوى السياسية والحزبية الناشئة جوازها واهتدت به. والكلام على إسهام "الطبقات" المنقادة أو الخاضعة، أي المحكومين، في إنشاء المباني السياسية والاجتماعية على الوجوه التي تنشأ عليها، وقد تستقر بعض الوقت، لا يعدو تقرير واقعة اجتماعية مجتمعية عريضة وحاسمة تنبه الى ولادة الحوادث والمنعطفات والمباني من نزاعات جوهرية. وتعتمل هذه في قلب الجماعات، وتصوغ سياقاتُها وحوادثها وملابساتها المباني التي تسوس عليها الجماعات مصائرها. وليس معنى التقرير ان "الطبقات" الخاضعة تشارك الطبقات المسيطرة التبعة عن مترتبات النزاعات، وعن الاشكال السياسية والاجتماعية التي تتمخض هذه النزاعات عنها، وحسب. فافتراض ان المثال السياسي والاجتماعي الغالب في وقت من الاوقات، أي الدولة العصبية والبيروقراطية الريعية ومجتمعها، هو مولود طبيعي وتلقائي للسيطرة الاستعمارية، ولآثارها في حركات التحرر الاستقلالية وفي مباني مجتمعاتها ودولها، يهمل من غير تسويغ أو تنبيه تعليل النزاعات الحادة التي لم تخلُ منها هذه المجتمعات في حقبتيها الاستعمارية والاستقلالية، وظل يضطرب بها مجتمع الدولة العصبية البيروقراطية والريعية (المشرقية العربية). فأسفرت عن "الحركات" والمعارضات الاسلامية والمدنية التي قامت ونشطت في البلدان التي غلب عليها مثال الدولة هذه، في العقدين العاشر من القرن العشرين والاول من القرن التالي ونصف العقد الثاني منه. وإذا أعفيت "الطبقات" المحكومة من الاسهام في بلورة المثال الغالب، ثم المتصدع والآفل، وحمل كلاً وجميعاً، أو كتلة واحدة، على إرادة المستعمر السابق، لم يعقل شيء من نشوء المثال واستقراره المأزوم، ولا من قيام "الحركات الثورية" أو من عملها ومحاولاتها وتنظيمها وبرامجها، من قبل ومن بعد. ولم تعقل أخيراً الحركات التي هزت بلدان الدول العصبية البيروقراطية والريعية ومجتمعاتها، ولاقت المصائر المتفرقة التي لاقتها وتلاقيها، وصدرت عن تصدع المثال وانهياره بعد تبديده موارده في تحصين عصبيته وإعالة بيروقراطية، وتغذية ريوعه.