الأربعاء، 15 أكتوبر 2014

العدو شعب ودولة ورتبة إنسانية دنيا... حملات القصف الجوي وسياستها المتمادية

المستقبل 12/10/2014

استفاقت الشعوب والمجتمعات العربية ذات 5 حزيران 1967 على خبر غريب يكاد لا يصدق، وهي لم تصدقه إلا في يوم الحرب السادس. ويزعم الخبر أن حرباً طاحنة زج فيها المتحاربون، وهم دول وشعوب، مئات الآلاف من الجنود، ودارت على مسارح مئات الآلاف من الكيلومترات المربعة، حُسمت وعُرف من المنتصر فيها ومن الخاسر، في ساعات الفجر الاولى من يومها الاول. ووجه الغرابة أن أقرب الحروب إلينا زمناً، وهي «حرب» السويس، الملتبسة التباساً شديداً بالسياسة والديبلوماسية - والدعاوى الايديولوجية لم تميز دور القوات المحاربة فيها من دور المفاوضات والانذارات و»روح العصر» في أثناء وأعقاب تصفية الكولونيالية أو الاستعمار-، وقبلها حرب فلسطين، على ما سميت. وإذا احتسبت حروب التحرير، وتتوسطها حرب الجزائر (1954-1962)، في الحروب «القريبة» يومها، أي في أواخر ربيع 1967، ازدادت الحرب الخاطفة غرابة. فحسمُها في الساعات الاولى أخرجها من معاناة الحروب وتماديها في الزمن والمكان والجهد والآلام وأثقال الخسائر والدمار، وفي حسن انتهاز الفرصة والشجاعة والاحتمال، معاً. فهذه كلها، الزمان والمكان والجهد، والآلام المتمادية، تقتضي وقتاً طويلاً، وتُعمِل أسلحة معنوية ومادية من صنوف كثيرة تختبر كلها المطاولة والمراوغة والحيلة، ولا تبلغ غايتها إلا بعد نفاد هذه واستنزافها.

السلاح الحاسم

وعُزيت سرعة الحسم، على ما ظهر للعيان، الى استخدام سلاح جديد في حروبنا الاقليمية هو سلاح الجو أو الطيران الحربي. وهو سلاح دقيق ويشترط في الطيارين وطاقم الملاحة والصيانة دربة عالية ومراساً طويلاً، ومعرفة تقنية عميقة، وتنسيقاً بين وحدات السلاح وبين مراكز التحكم قوياً، وذهنية تحصل بالجهد والطلب. وهذا السلاح باهظ الأثمان، ولا يسع الوصول إليه، وشراء بعض وحداته، من يملك المال وحده، بل ينبغي لمن يريد شراءه أن يتمتع بـ»صداقة» البائع ورضاه وإجازته. ولا تقتصر هذه على وقت الشراء والبيع، بل ينبغي أن تدوم طوال وقت استعمال المركبة. فالصيانة جزء من الصفقة المالية والسياسية معاً. وشأن التقنيات التي تُعملها الامم والدول والشركات المتقدمة في صناعاتها، لا ينفك سلاح الجو ينتقل من طور الى طور أعلى، وأغلى ثمناً، وأشد تعقيداً. وعلى هذا، فلا نفع يرجى من سلاح جو، على الخصوص، لا يواكب أطوار التقنية وتقدمها «الثوري». والاستثمار في الطيران الحربي، نظير التكلفة البشرية والعلمية والمعنوية والمادية الضخمة، يشترط مردوداً أو عائداً أقله السيطرة التامة على اجواء الميدان أو المسرح الحربي.

ومعظم هذه الشروط لم يتوافر يومها في القوى العربية المحاربة. وبقي سلاح الجو، الى اليوم، ثغرة فاغرة في «الدرع» العربية والاقليمية، وعنصراً ضعيفاً أو ثانوياً في الحروب الاقليمية الوطنية، وفي الحروب الاهلية، على حد سواء. فما كسبه الجيشان السوري والمصري في الايام الاولى القليلة من حرب تشرين 1973، خسراه في الايام التالية جراء تفوق جوي وحربي اسرائيلي. واضطرت القيادتان العربيتان في أعقاب اجتياز القوات الاسرائيلية قناة السويس الى ضفتها الغربية، واستعادة هذه القوات مرتفعات الجولان على طريق دمشق، الى التسليم بوقف نار ترتبت عليه نتائج سياسية متفاوتة، ومتناقضة على بعض الوجوه. ولم تعصم بطولات الطيارين الايرانيين في الحرب بين العراق وإيران (1980- 1988)، واستماتتهم في الدفاع عن بلادهم- على رغم قيادة سياسية لم تكف عن تهمتهم، والتشكيك في وطنيتهم، والخشية من انقلابهم عليها (لم تعصم) إيران من تآكل اسطولها الجوي الحربي، ونضوب مصادر الامداد والصيانة. فانتهت حربُها، وهي استدرجت اليها عدوها القومي الطامع فيها، على قدر ما استدرجتها إليها أزمة حكمها الداخلية ومطامعها المذهبية الامبراطورية، على صورة مهينة لم تشف منها الى اليوم.

الجو والارض

ولكن الانتصار المدوي في 1967، والمهين على جهته الاخرى العربية، لم يحسم النزاع او الحرب الطويلة والمديدة. ولم يبلغ ما ينبغي للحرب المظفرة أن تبلغه وهو السلم ومعاهدته المبرمة، وإطفاء عوامل النزاع وأسبابه المتجددة، وتعيين مرجع تحكيم في الخلافات الطارئة يتمتع بدالة معنوية نافذة. واستقرت الجبهات من غير سلم، ولم تتجدد الحرب على رغم دوام خلاف مبدئي واستمراره، حيث وسع العدو المنتصر احتلال أراض وطنية، عريضة أو ضيقة. ووسعه المساومة والمفاوضة على الجلاء عنها لقاء اتفاق على «لا حرب»، في الحال السورية، وعلى معاهدة سلام، في الحالين المصرية والاردنية. وأدى الاحتلال من غير جلاء، أو احتمال جلاء، الى دوام النزاع ودخوله في أواخر عقده الخامس في الضفة الغربية وغزة (فلسطين «العربية» أو الفلسطينية).

وعلى هذا، فالحرب الجوية الحاسمة والخاطفة لم يحسمها سلاح الجو وحده، حيث حَسَمها على اضطراب وقلق مستمرين، إلا حين «نزل» الجنود الى البر، وقاتلوا في حرب برية تقليدية، وبين دول وطنية وإقليمية. وكان وزير الحرب الاسرائيلي، موشي دايان، حسب، حين دخل القدس الشرقية وبلغ حائط المبكى، وذلك على مثال أوروبي شاع في النصف الاول من القرن، أن سلاح الجو أنجز المهمة الاستراتيجية الموعودة والمأمولة: القضاء على الحرب، وإحقاق السلم العام من طريق السلاح المتفوق والحاسم وسيطرته على السماء، أو من «حكم السماء» (وهذا وسم كتاب توما هيبلير، الفرنسي، الصادر بالفرنسية في 2014 عن دار «ليه بريري أوردينير»، باريس، وعنوانه الفرعي: «التاريخ المعولم لعمليات القصف الجوية»). وصورة دايان الى مكتب وضع عليه جهاز تلفون بارز، وهو يقول لجمهور الصحافيين والمصورين المحتشدين حول المكتب والجالس إليه، إنه ينتظر رنين الهاتف من العواصم العربية المحاربة إيذاناً بدعوته الى التوقيع على معاهدات سلام ناجزة- مرآة هذا الحسبان الذي تحدَّر الى الرجل من تاريخ «كولونيالي» استعماري، على ما يصفه هيبلير اليوم، وعلى ما سبق ان وصفه من غير خجل ولا تزويق بعض أصحاب عمليات القصف من الجو.

وتعود دول غربية و»شرقية» (عربية)، في اواخر صيف 2014 العتيد والجاري، الى مسألة قريبة من التوسل بالقصف الجوي الى القضاء على عدو «أرضي» محلي وغير نظامي. والعودة هذه تحصل أو تقع في أعقاب عقد ونصف العقد من «الحروب» أو العمليات غير المتكافئة التي قاتلت فيها جيوش نظامية، تتفوق عدة (جوية على الخصوص) وعديداً بما لا يقاس على جماعات مقاتلة برية وغير نظامية. فمن أفغانستان وباكستان، منذ أيلول 2001 أو غداته الى اليوم، الى العراق (في 2003 2011) فلبنان (في 2006) وغزة (في 2008-2009 و2012 و2014) فليبيا التي تولى سلاح الجو الفرنسي والبريطاني حماية شرقها ثم شمالها من مدرعات القذافي طوال 2011؛ فسوريا (منذ قصف الجيش الرسمي المدن والارياف السورية بالبراميل المتفجرة في أوائل 2012 الى غزة عيد الاضحى وأيامه الاربعة)؛ الى العراق وسوريا من جديد، تعاقبت عمليات جوية معولمة تتشارك سمات وقسمات سياسية واجتماعية واحدة، الى تشاركها صفتها التقنية الظاهرة، المتفاوتة الشبه والمتقاربة. وبالغ الرئيس الاميركي الاخير، باراك أوباما، في إعمال سلاح الجو وصيغه الجديدة. فزاوج أعمالَ القصف بالطائرات وعمليات القصف أو «القتل»، على ما كان قال الوزير الاميركي الاسبق دونالد رامسفيلد، بواسطة الطائرات المسيَّرة من بعد ومن غير طيار (الدرون).

القرن الاول

ويؤرخ توماك كيبلير لهذا الضرب من العمليات في سياقات استخدامها وإعمالها، قبل أن يخلص الى دلالاتها المحتملة على أحوال الحرب والاجتماع والسياسة المعاصرة. فيصف وصفاً مفصلاً قصف الملازم جوليو غافوتي، السويسري الايطالي الطيار المتطوع في القوات الجوية الايطالية المقاتلة بطرابلس، في أول تشرين الثاني 1911- قبل قرن تام تقريباً من الحملة الجوية الاوروبية (والعربية) على قوات معمر القذافي وقبائله واحة عين زارة، على 15 كلم جنوب طرابلس الشرقي. و»قصر» غافوتي قصفه الجوي على القاء قنبلة يد (رمانة) على جماعة من المقاتلين في خيمة على حدة. وكان طيار فرنسي، بليريو، قاد طائرته فوق بحر المانش، بين أقصى الشاطئ الفرنسي الغربي شمالاً وبين دوفر البريطانية، في 25 تموز 1909. وعلق هنري ج ويلز، الروائي العلمي (الخيالي) الأشهر يومها وصاحب «حرب الأجواء» قبل انجاز بليريو طيرانه بسنوات قليلة، على الانجاز «الاجنبي» الصاعق. فقال ان المملكة المتحدة لم تعد جزيرة. وهو يضمر ان حصانة «سيدة البحار»، على ما كانت تسمى، تداعت وانتهت. وهو الاحساس الذي انتاب الولايات المتحدة، جمهوراً وسياسيين ومعلقين، صباح 11 أيلول 2001، حين هاجم 19 انتحارياً بنلادنياً برجيَ التجارة العالمي ثم البنتاغون فواشنطن.

وفي 1918، وكان مضى على «الحرب الكبرى» نحو 4 أعوام شديدة الوطأة المادية والمعنوية، قتل في أثنائها ملايين المقاتلين والمدنيين هبت «أعاصير الفولاذ» (إرنست يونغير الالماني) على الزرع والضرع، وثبت للشعوب والدول أن قوة النيران والغازات السامة والتحصن في عشرات الكيلومترات من الخنادق والملاجئ جعلت الحرب وخططها ومفاجآتها مستحيلة- خطط الحلفاء، وبريطانيا على رأسهم، لشن حرب جوية عامة على ألمانيا. وكانت هذه الحرب ذخيرتهم الاخيرة واليائسة، على شاكلة القنبلتين الذريتين الحاسمتين على هيروشيما وناكازاكي في آب 1945. ولم تبلغ الخطة مرحلة الانفاذ الاخيرة لأن قيادة الجيش الالماني أقرت بعبث المطاولة الحربية وتكلفتها الباهظة، واستسلمت. وطي الخطة في 1918 لم يطوِ أصداءها، ولا طوى ترددَ هذه الاصداء الى حين إنفاذها الخطة عن يد الطيران الحربي الألماني، هذه المرة، ومحاولة ضرب الحصار الجوي على الجزيرة البريطانية في 1941، تمهيداً لانزال بري على سواحلها يُخرجها من «المعركة» العالمية. وما عجز عنه الطيران الحربي الالماني في 1941، استأنفه بوسائل مدمرة طيران الحلفاء في 1943. فشنت آلاف الطائرات الحربية البريطانية والاميركية على مدن ألمانيا الصناعية، وفي مقدمها درسدن وهامبورغ، حملات «قصف استراتيجي» ضارية، خلفت مئات الآلاف من الضحايا المدنيين. ومهدت هذه الحملات تمهيداً ضعيفاً، والحق يقال، لاستسلام ألمانيا الهتلرية في أيار 1944.

وبين 1918 و1943-1945، رجع الطيران الحربي الاوروبي الى مسارحه السماوية الاثيرة، فوق المستعمرات وفي أجوائها، ورداً على انتفاضات أهلية محلية. وحملة القصف الاولى سبقت 1918. ففي 1916، شن الطيران الملكي (البريطاني) حملة على دارفور بالسودان. وفي 1919، كان المصريون خرجوا آلافاً مؤلفة يطالبون «الانجليز» بمفاوضة وفدهم على الاستقلال، فقصف الانجليز فلاحين مصريين في بعض أطراف الارياف في جوار السودان المضطرب. وشهد عام 1920 ذروة الاضطرابات الوطنية والقبلية في المستعمرات البريطانية المتفرقة: في السودان من جديد، وفي افغانستان مرات، وفي الصومال. وحين اندلعت الاضطرابات بالهند، في 1925، لجأ الجيش البريطاني الى طيرانه الحربي.

فاستقر دور السلاح الجديد أداة فضلى في قمع حركات المستعمرات بين شمال افريقيا، الى الغرب، ومناطق القبائل على الحدود الهندية الباكستانية (من بعد، أي قبل انفصال باكستان أو «استقلالها»). وحين اندلعت، في 1925، بسوريا، «ثورة الدروز» أو جبل العرب، على الانتداب الفرنسي، عمد جيش الشرق الفرنسي الى قاذفاته، فقصفت حمص في تشرين الاول. وخصّت مرفقها التجاري وأسواقها. فدمر القصف سوقين و114 دكاناً أو حانوتاً. وفي الاثناء، قصف الطيران البريطاني مناطق قبلية في العراق، كان المفوض السامي ألب بعض قبائلها على قبائل أخرى، فلما تخطت عشائر غير منضبطة ما رسم لها المفوض أدبها الطيران الحربي. واضطلعت قاعدة الحبانية الجوية بدور «بوليس» جوي في أنحاء العراق، وبجواره القريب. ففي 1928، قصفت طائرات حلقت من الحبانية سرايا «الاخوان» المتمردين على سياسة عاهل المملكة الوهابية والساعين في توسيعها الى الشمال الاردني والعراقي.

ويلاحظ هيبلير أن بلاد «التأديب» من الجو، وبواسطة سلاحه، هي التي جمعتها الاستراتيجية الاميركية، وجغرافيتها السياسية («الجيوبوليتيكية») في الشرق الأوسط الكبير أو الواسع. وهو استقر في حدوده الآتية أو القادمة، في النصف الثاني من القرن العشرين وإبان العقود الاربعة من الحرب الباردة، بين شمال افريقيا، الى الغرب على المحيط الاطلسي، وبين باكستان، الى الشرق، على ضفاف المحيط الهندي. وليست مكانة هذا المنبسط، وحدوده، سراً غامضاً أو خفياً. فهو ممر الطريق القارية التي تمتد من مصر الى الهند، وقناة السويس المائية قلبها وركنها. ورفد النفط ومكانة الشرق الاوسط برافد استراتيجي حقاً. فمنذ 1911، والبحرية البريطانية تعمل على النفط الذي حل محل الفحم الحجري، بينما أقام الاسطول الحربي الالماني، منافس الامبراطورية البحرية المتربعة في سدة القوة المهيمنة، على تشغيل محركاته بالفحم العتيد، والبطيء الاشتعال والسرعة. ولم يقتصر السبق البريطاني على ميزات النفط الحرارية والآلية، فزاد ميزة سياسية واجتماعية حاسمة هي «تحرير» الاسطول البريطاني، العسكري والتجاري، من قيد عمال المناجم البريطانيين عليه، وتخفيف قوة النقابات عن الطبقات الحاكمة. فهؤلاء، وهم شعبة قوية من الحركة العمالية البريطانية والاوروبية، كان في مستطاع إضرابهم عن العمل، تعليق تموين الاسطول بالفحم، وشله. وعلى هذا، فالنفط الاوسطي مصدر ميزة مزدوجة: مقارنةً بالخصم الالماني، وفي ميزان النزاع الاجتماعي الداخلي وتكلفة دمج الطبقة العمالية في الجسم الوطني.

نفقات وطبقات

ومسألة تقليص العبء المالي في البلدان المستعمرة نفسها (شأن تكلفة الدمج بواسطة الرعاية الاجتماعية والاجور) وفي مستعمراتها (أعيان الادارة الاستعمارية والمدنية) ليست ثانوية. فحال تولى سلاح الجو الملكي البريطاني إدارة العراق تقلصت نفقات المستعمَرة من 23 مليون جنيه استرليني في 1921-1922، الى 7.1 ملايين في العام التالي، فإلى 3.7 ملايين في 1926 1927. ويعزى التقليص الى التخلي عن نهج استعماري تقليدي، كان الاحتلال البري الكامل ركنه وغايته. فسلاح الجو الجديد قصر السيطرة البرية على مواضع بعينها. وعوَّض بمراقبته أرجاء البلد وجماعاته، وتشبيهه على الجماعات والافراد وقوعهم بمتناول عينه اليقظة «السامية» والمحيطة، الحاجة الى سيطرة مادية ومباشرة. ويتجدد إلحاح مسألة فصل القصف الجوي من الحرب البرية في خطط «التحالف» الدولي على «داعش»، على نحو ما طرح على «أصدقاء سوريا» في الامس القريب. ويقارن توما هيبلير انجاز المراقبة الشاملة والمحيطة في المستعمرات، باستحالة هذا الضرب من المراقبة في الحواضر الاوروبية، واقتصارها على السجون والمصحات والمستشفيات. (وهذه الاستحالة طوتها وتخطتها المجتمعات «الموصولة» أو المشبوكة التي تتيحها الشبكة ووسائط الاتصال الاجتماعية وودائع المعلومات في «المصارف» ووكالات الاستخبار...).

والحق ان قصف المستعمرات، وقبائلها وعشائرها وأقوامها وقراها، مهد الطريق الى عموم القصف الاستراتيجي «الشعوب»، أي جماعات المدنيين، والبنى التحتية الانتاجية والصناعية (في المرتبة الاولى)، في أوروبا وخارجها. والحلقة الاولى في سيرورة التمهيد هي انقلاب الحرب من حرب دول، وبين الدول، وتستبعد تالياً المرافق غير العسكرية غير المنخرطة في العمليات الحربية، الى حرب شعوب وأمم (دول أمم، على قول الغربيين) بأكملها. ودمج الشعوب أو الامم في دولها الديموقراطية والتمثيلية، برلمانية أو غير برلمانية، هو من ثمرات الثورات الديموقراطية والوطنية. فالقرن التاسع عشر وتتمته الطويلة في القرن التالي، الاوروبي والاميركي، جمع التوسع الامبريالي والاستعماري العالمي الى دمج الطبقات العاملة في الدول الوطنية وأبنيتها الاجتماعية والسياسية (دولة الرعاية والدولة التمثيلية). وما ردده بن لادن وألسنته الكثيرة غداة 11 أيلول (2001)- من أن الهجمات على مرافق مدنية عامة سائغة وجائزة لأن الناخبين المدنيين، أي الشعب جملةً، هم من نصب الدولة وأجهزتها ورؤساءها في موقع القيادة السياسية والعسكرية المسؤولة ليس إلا صدى أفكار شاعت بين الحربين العالميتين، وتداول على صوغها والاحتجاج لها منظرون بارزون من المشارب كلها. والحجة المتصدرة في الحالين واحدة.

وكانت الحملات الجوية على المستعمرات، أرضاً وأهلاً، أو بشراً وحجراً، تتذرع بوحدة «المتمردين» القبائليين والريفيين و(مع) قبائلهم وقراهم الى تسويغ قصف مضاربهم وديراتهم وزراعاتهم، من غير تمييز المقاتلين من أجسامهم الاهلية. ونبه داعية «الحرب الكلية» الاول، إريك لوديندورف، أحد قادة الاركان الالمان في اثناء الحرب العالمية الاولى وعضد هتلر في الفصول الاولى من الحركة النازية، الى ان الحروب الكولونيالية التي تنزل من فوق على القوم أو القبيلة، وتسحقها من غير بقية، هي حروب كلية. وسمى الالمان، من قبل ومن بعد، هذه الحروب «ثقافية». وأرادوا بالاسم حمل القوم و»ثقافته» على معان ومعايير أخلاقية خصوصية وعمومية معاً. وانتصروا، في هذا الضوء، لثورات الشعوب المستعمَرة على الدول االكبرى الغربية التي أقصيت ألمانيا من جوقها المهيمن، وهذا قريب من «الروح الثوري» الذي ترفع الحركات والعصائب الخمينية والحرسية في المشرق لواءه، وتبث «ثقافته» في دعواتها وتحريضها.

والشعوب (أي الأعراق) و»ثقافتها» الخصوصية والفريدة تهتدي بـ»رسائل» (من رسالة أو دعوة)، لم يعدُ ميشال عفلق بوصفه إحداها، أي «الرسالة» العربية، بالخالدة، الذهنية الكولونيالية السائدة بأوروبا وخارجها بين الحربين. والرسالة القومية الخالدة، على رغم خصوصيتها أو جراء الخصوصية الفريدة هذه، هي والخير (والحق) واحد لا يتميزان ولا ينفصلان. وإرادةُ القوم البقاءَ في خضم حروب الابادة الاستعمارية والداروينية التي تتهدد الاقوام وإرادتها بالعدم، وفي طليعتها الارادة الالمانية والقوم الالماني، قرينة لا تخطئ على إيجابها الخير والحق، وقيامها على الشر. ولعل هذا النهج في الاستدلال هو النواة المشتركة التي تتقاسمها حركات اليمين المتطرف والثوري مع النزعات الامبريالية الاوروبية والحركات العالمثالثية العلمانية والدينية المحدثة.

فهذه الانحاء الثلاثة من السعي في ختام التاريخ ونهايته، على بعد الشقة فيما بينها، تصنع في كل مرة عدواً لها «غير متكافئ»، أي لا يكافئها (أو لا يكافؤها) أخلاقياً واعتبارياً. وتنزع حربُ هذا العدو، وينزع قتالُه، الى استئصاله وإبادته، بعد جمعه في كيان مادي ومعنوي واحد ومنحط. واستنزال الموت عليه، بعد الدعاء بلعنه، شعاراً وهتافاً في بعض الأحيان، إلا أنه يردد صدى سنده الحربي الحقيقي أو المرجو، أي صدى سلاح الإبادة (الذري) الأعظم، أو سلاح العملية الانتحارية المتناسلة والمتكاثرة الى حد بلوغ 40 عملية في يوم واحد، وعلى جبهة واحدة، على ما حصل في مواضع كثيرة من «ولايات» العراق والشام «الاسلامية» المستحدثة. وهذا يحصل في كل يوم في المدن والبلدان السورية التي ينعم عليها «روح حافظ» (الأسد) بقصفه «الاستراتيجي».