الخميس، 30 سبتمبر 2010

الحنين الى الانكفاء على حارة الموالي والانتساب إلى عصبية الدولة

المستقبل 26/9/2010


في يوم قائظ من آب المنصرم، في 23 منه على وجه الدقة، وهو صادف قريباً من منتصف شهر صوم المسلمين أو قبل انتصافه بقليل، كانت صحافية لبنانية "تستعد"، على قولها، مع آخرين "من جنسيات مختلفة" لتناول العشاء في "مطعم فندق حديث في وسط، يملكه ماروني وباركه أحد المطارنة بالمياه المقدسة حين ارتفع بنيانه" (هيام قصيفي، المطاوعة في وسط بيروت، "النهار" اللبنانية البيروتية، 25 آب). والفندق هذا هو "لوغراي"، والماروني صاحبه هو من آل قبشة، والمطران المبارِك هو المطران بولس مطر، راعي أبرشية بيروت للموارنة، على ما صرح رد جواب مجلس إدارة الفندق على رواية الصحافية وتورياتها (رد من مجلس إدارة "لوغراي"، "النهار"، 29 آب). وبينما كانت الصحافية تستعد وصحبها، إذن، للعشاء "الساعة الثامنة"، وكانت انقضت نحو 3 أرباع الساعة على ابتداء الإفطار، في مطعم "لوغراي"، و "(طلبوا) الطعام والشراب"، "أصر" نادل المطعم، أو "ميتر دوتيله" المولج خدمة المائدة، على نصح الطاعمين "بنوعية نبيذ معين".
ولما لم يكتب النادل الى الصحيفة، ولا كتب مجلس إدارة صنف النبيذ المقحم نفسه على أذواق الطاعمين والشاربين، خفي إلى اليوم على القارئ مصدر الإكراه الأول الذي نزل في المزمعين الأكل. وموضوع الكاتبة المخبِرة ليس أصناف النبيذ ومراتبها في التذوق والتمتع، وإنما هو درجات الفرض والإكراه والتعسف والقهر في الفندق مِلك صاحبه الماروني ورئيس أساقفة الأبرشية. ودخل الفندق و "مطعمه" الدائرة الأولى من دوائر الفرض وانتهاك الحرية من باب صنف النبيذ، والقهر عليه. وانقلب النادل القاهر والمتطفل والوقح، في إغماضة عين، رجلاً حيياً ومهذباً. فهو، بعد رفض الآكلين "نوعية" نبيذه واختيارهم "نوعية" يرتضونها، "عاد معتذراً"، وأردف اعتذاره بـ "خجل"، وزاد على الاثنين "أسفاً". وقال المعتذر الخَجِل الآسف: "أخجل مما سأقوله، ولكن لا نستطيع تقديم النبيذ لأننا في رمضان".

اسم البلد

والفصل الأول هذا من الواقعة يتناول زمانها ومكانها ويمهد الى "الأزمة" أو مدار الحبكة والعقدة، على قول كتب تدريس مبادئ الأدب الفرنسي في المقرر الثانوي السابق. وعلى ما قد يفترض قارئ الصحيفة، أو لا يفترض، جبه الجالسون الى مائدة "لوغراي" اعتذار الرجل وخجله وأسفه، والمشاعر الثلاثة إدانة ثقيلة، من داخل، للفندق ومطعمه وآل القبش ورئيس أساقفة بيروت معاً، جبهوا الاعتذار برد متدرج. فهم، أولاً، "لم (يستوعبوا)". وهذا قرينة على طبائع حرة، ومترفعة عن "استيعاب" صغائر الأمور وحوادث العالم السفلي الذي يرتع فيه وضعاء القوم، والراجعون في التزام مترتبات الانتساب الى المارونية، والمباركة الأسقفية، والعاجزون عن التزامها. وتواضعاً ربما، "(حاولوا) الاستفهام"، ثانياً. و "الاستفهام" ليس استفهاماً، على المعنى الشائع والسالب والخائف. فمن يقول انه "لم يستوعب"، ويعني الازدراء بجبن محدثه ونكوصه وضعف التزامه معتقده، لا يستفهم استفهام عامة الناس. وعليه لم يرَ "المسؤول عن المطعم" بداً من المجيء، وشرح اعتبارات الإحجام عن تلبية طلب الآكلين الشاربين الشراب. فقال ما قاله نادله المعتذر الخجل الآسف لتوه. وزيَّن الإحجام بـ "احترام مشاعر المسلمين" المفطرين.
وردت صاحبة الخبر، وكاتبته في الصحيفة، رداً "سياسياً" هو في صلب الخبر ونقله وروايته وإذاعته على الملأ: "إننا مسيحيون وعليك احترامنا... ونحن في بلد اسمه لبنان ولسنا في بلد إسلامي". فارتقت المسألة الى مرتبة أو مصف المساواة بين السكان وجماعاتهم وعاداتهم وسننهم، وإلى صفة "الدولة" أو السلطة التي تضمن المساواة، وتحامي عنها. و "الدولة"، وتحسب الراوية ان "بلد اسمه لبنان" يقوم مقام الدولة وسيادتها الحقوقية والقانونية على مواطنيها (أي سيادتهم على أنفسهم من طريق الدولة)، "الدولة" هذه مدنية، أي غير دينية التشريع ومصادره، ولا يحق لها تالياً إكراه من ترعى حقوقهم من مواطنيها على فعلٍ أو إمساكٍ وترك لا ينص عليهما القانون. ولا يحق لها هي الإكراه، وعليها ألا تبيح لأفراد أو جماعات تولي الإكراه في محال عامة ومشتركة.
واحتجت صاحبة الخبر لرأيها احتجاجاً مفصلاً ومفنداً: 1)"لائحة الشراب والطعام لم تتعدل"، 2) لم يعلق الفندق "في الخارج لافتة تعلن منع الخمور". وعلى هذا، أو هذين، على الفندق وفاء وعده بالطعام والشراب المباحين. "تشبثنا بموقفنا الرافض" انتهاك الاحترام والمساواة ومدنية "البلد" غير الدينية. وحسب "المسؤول" الغافل أن ما يصر عليه "الرافضون" هو الشراب، وليس الاحترام والمساواة والمدنية. فاقترح عليهم، لغفلته وسذاجته وتخففه من المواطنَة الحرة والأبية، الشراب إياه في أقداح "مموهة رزقاء" تتستر على "وقاحة" عصير العنب، على ما سمى معاصرو الحسن بن هانئ ما ينتبذ من عناقيد الدوالي. وأمعن "المسؤول" و "التاجر" المسكين في الغفلة والتخلي، فأراد إعطاء الشراب "مجاناً" من غير ثمن، فزاد الطين بلة، وحمل الراوية على المغادرة.
ومقارنة روايتي الصحافية ومجلس إدارة "لوغراي" الواحدة بالأخرى تبرز وجهاً أغفلته رواية الصحافية عمداً. فمجلس الإدارة يقول إن الفندق استثنى، طوال شهر صوم المسلمين، مقهى (مطعماً) واحداً من خدمة الشراب، هو "غوردونز كافيه". وما عداه كانت "جميع النقاط المخصصة للأكل والشرب في الفندق... تلبي طلبات الزبائن"، بما فيها المشروبات الروحية، باستثناء مقهى (غوردونز كافيه) وأثناء فترة الإفطار فقط". وترتب على الإغفال الأول إغفال ثان هو اقتراح النادل على "السيدة" تناول الطعام في "أحد مطاعم (الفندق) الأخرى". فتأكل وتشرب ما أرادت واشتهت. ومحل الإغفال المزدوج ملأته الصحافية المخبرة برواية الأقداح المموهة بالزرقة والهدية من غير لقاء. ورد "لوغراي" لا ينفي الرواية ولا يثبتها، ولكنه يروي ما يضعف مسوغها (وهذا رأي يمليه ربما التحامل على السكوت عن ذرائع المطعم، وذلك في معرض تحقير "خبث تجاري متستر بالمحافظة على العيش المشترك واحترام مشاعر المسلمين"، على قول صاحبة الخبر، منددة وعائبة).
وتخلص الراوية من روايتها المركب بعضها على هواها، وعلى قصد الطعن في مجاراة مسيحيين لبنانيين غايات ومعايير "سلفية" وقصد مديح تراث مسيحي لبناني شامخ الرأس، تخلص الى ما كانت ابتدأت به: "...ولدنا وعشنا في بلد أرسى فيه المسيحيون قواعد العيش المشترك المبنية على احترام الآخرين (و) لسنا أهل ذمة، ولا نريد ان تنتقص حقوقنا بحجة تجارية واهية". وتصوغ سؤالاً عن الآتي في "قالب" كلمات أو مصطلح يشي، شأن مصطلح العنوان، بتشخيص لمصادر التهديد يستشعِر الخطرَ من جهة، أو جهات، دون أخرى: "فهل وصلت الشرطة الدينية الى لبنان وإلى قلب الوسط التجاري واجهة لبنان الحضاري وبدأت ترتدي بذلة أجنبية وربطة عنق؟". وكانت الفقرة الأولى من المقال حملت "الشرطة الدينية (المطاوعة)" على بلدان إسلامية (على معنى اعتقاد غالبية السكان) متفرقة ومختلفة النظم السياسية والاجتماعية والثقافات والتواريخ. فجمعت أندونيسيا وأفغانستان في باب واحد. وهذا افتئات وتعنت (أو جهل، بديهة).
وهي حملت "الشرطةَ الدينية" على "المطاوعة" دون "الباسيج"، على رغم إحصاء إيران في البلدان الخمسة، ودون التنبيه الى الأصل الذي تتفرع عليه الشرطة وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من وجه، والحسبة، من وجه آخر. وبينما يدخل الأصل في بنية الدولة في حالين، على نحوين مختلفين، لا مدخل له في باكستان ولا في أفغانستان، وبالأحرى في اندونيسيا وإسلامها (وهو كثير على ما ذهب إليه دارسه الكبير كليفورد غيرتز) الصوفي الشخصي والشعائري الاحتفالي معاً. والأصل الأول في صيغ الأمر بالمعروف والحسبة، وعلى الأخص في الأحوال التي تضطلع فيها الدولة أو السلطة السياسية الجامعة بالأصل هذا وتعده جزءاً من ولايتها وصلاحياتها، الأصل الأول هو إقامته على الرعايا المسلمين، أي امر المسلمين بالمعروف ونهي المسلمين عن المنكر، والحسبة على معاملاتهم في الأسواق وبيعهم وشرائهم واحتشامهم، الخ. وأما "أحكام أهل الذمة" – وهي تبيح لأهل عهدها، في "ديرتهم" المنكفئة، تدبير أحوالهم على سننهم وعوائدهم الموروثة – فمرجعها الى قانون الحرب والفتح، وإلى عهود أو معاهدات هذا وتلك.
ويغمز مصطلح الصحافية المخبرة، واختيارها ألفاظها من معجم دون آخر، تتصدره لفظة "المطاوعة" وشرحها بـ "الشرطة الدينية" على خلاف "الباسيج" المفترضين شرطة "أخلاقية"، يغمز من "محور" يجمع السعودية الى "سوليدير" ورفيق الحريري والمستثمرين المسيحيين في "الوسط التجاري" (على ضفة "ساحة الحرية" الغربية وفي جوار "الاعتصام" أو الاحتلال الحزب اللهي والعوني 18 شهراً) والإكليروس الماروني "المتواطئ" مع حلف تجاري "خبيث" مفترض يلحق البطريركية المارونية بالمسلمين السنّة السلفيين من لابسي "البذلة الأجنبية وربطة العنق"، من ورائهم جماهير طرابلس وعكار "الحريرية" وغزاة الأشرفية وحرّاقي السفارة الهولندية في 5 شباط 2006. ويفترض في حبات السبحة ان تكر: من عصابة السطو على فرع مصرف في الدامور الى عصابة سطو أخرى من الهوى نفسه على فرع مصرف في البترون، تمهيداً لحرب مخيم نهر البارد في رعاية "فرع المعلومات"، على ما "أثبت" ميشال عون ببراهين دامغة تكاد قوتها ترقى الى قوة قرائن ومعطيات أُخَر.
القرار والرأي
وفي عبارة جلية، يريد خبر الصحافية القول ان السلفية السنية وهيئاتها تزحف الى قلب "لبنان المسيحي"، وتهدم حرياته وهويته في رعاية رساميل مسيحية تباركها بكركي البطريرك صفير، ويباركها أساقفة تشدهم الى "القوات اللبنانية" روابط القرابة الدموية (كتلك التي تشد رئيس أساقفة بيروت المطران بولس مطر الى شقيقه العميد مطر المدان بالضلوع في اغتيال رشيد كرامي) والسياسية تالياً.
وكان سبق خبر صحافية "النهار" المندد بـ "المطاوعة" المحدثة اللباس وحليفة "الرساميل" المارونية وأساقفة بكركي المتواطئين، تعليق في "الأخبار" موسوم بـ "من (احتكار) المسيح الى إمارة صيدا" (جان عزيز، 19 آب). وتنكر المقالة على "السلطة الكنسية"، وهي في هذا المعرض رئيس أساقفة جبيل للموارنة المطران بولس الراعي بوكالته عن بكركي والبطريرك صفير، "تدخلها" في إلغاء عرض المسلسل الإيراني التلفزيوني "المسيح عيسى بن مريم" على شاشتي "المنار"، محطة "حزب الله"، و "إن بي إن"، محطة "امل". ويخشى التعليق "آراء الظلاميين من كل جهة، على تناقضهم وتحالفهم الموضوعي" – وهذه لازمة رأي يرى مساواة "النظام الأميركي" أو "الامبراطورية" بـ "قاعدة" بن لادن، على ما ذهب إليه علم اليسار الأميركي نعوم تشومسكي – وعدوانهم على "حرية التفكير والضمير الديني"، وعلى "حرية الرأي والتعبير" و "حيز الفضاء الدنيوي والخاص والزمني"، على قول صاحب التعليق الأخباري مقتطِفاً ومعللاً ومجتهداً.
وتمضي الخشية على تعاظمها، فتخمن في صدور "قرار كنسي يلغي أجزاءً من الأدب الإنساني الحي". وهو، في الأثناء الخطابية والمهوِّلة والنافخة في أبواق تدك الأسوار، جعل تلويح مطران كرسي بلاد جبيل بمؤتمر صحافي يعتب على الإنتاج والتوزيع الإيرانيين والشيعيين الإماميين انحيازهما الى أنجيل "منحول" – "قراراً كنسياً" إدارياً نافذ الإجراء. ويخالف هذا واقع الحال. وحملُ الرأي الأسقفي الماروني، وهو ناجم عن خوف ويتمسك بتلابيب عزلة فكرية واعتقادية تداعت حجارتها منذ زمن، على إجراء عملي وإداري متمكن من أدواته وآلاته وسلطانه، تضليل متعمد. فما هي دائرة إنفاذ القرار المزعوم؟ هل هي الأمن العام اللبناني؟ ام محكمة المطبوعات؟ أم المجلس الوطني للإعلام؟ أم هي "نفوس" القراء والمشاهدين المحتملين؟ والحق ان إلغاء عرض المسلسل الإيراني والشيعي الإمامي – وهذه صفته وهذا نعته ولا غبار عليه منهما، على زعمي – استدرج إليه توافق جهازين دعويين واعتقاديين، وسياسيين على مقادير متباينة، على الإلغاء. وأُخرج الإلغاء والتوافق عليه مخرجَ إجماع الجماعات على احترام واحدتها معتقدات الأخرى، ومخرج التمثيل على جدوى "الحوار". و "المربح" من الإخراج هذا، إذا صدق أو صح أن ثمة مربحاً وليس خسارة، تتقاسمه الكنيسة المارونية والأجهزة الإعلامية والدعاوية الإيرانية والإمامية في طهران وبيروت (أو "الضاحية").
والمعلق الإخباري يقصر الفعل الرقابي وإدانته على الكنيسة و "قرارها" (في "أعمال" ثانوية نشرت منذ عقود ولم "يلغها" أحد)، ويسكت عن "شريكها" في العقد التوافقي المضمر بعضه والمعلن بعضه الآخر. ويحاول مكافأة إدانته "القرار الكنسي"، والجلي الصفة، فيعرج على "فتاوى" افتراضية، تنسبها اللفظة المشتقة (من الفتوى والمفتي) الى الإسلام والمسلمين، في "الكوميديا الإلهية" الدانتية (ويتحاشى الأخباري ذكر وسمها الفاضح في صحيفته "الحرياتية" و "الإبيستيمية" – كذا -) وفي طقطوقة درويشية تقضي تقوى المولى العروبية برفعها الى منزلة الإعجاز. ويغفل فتوى ناجزة وصريحة في رواية سلمان رشدي، "آيات شيطانية"، أفتى بها مرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية الأول. وقضت بـ "إلغاء" الكتاب والكاتب معاً، ووعدت القاتل العتيد، وآلة إنفاذ "القرار" الهمايوني والشاهنشاهي وغير الكنسي، بمليوني دولار أميركي ونصف المليون حُبست على صورة وقف يعود رأس ماله وريعه الى من يتولى إنزال "حكم الله" في دم الروائي. وجدد غضنفر ركن أبادي، سفير جمهورية إيران الإسلامية، إدانة سلمان رشدي، وإباحة دمه تالياً، في أثناء زيارة إلى دارة ميشال عون في 17 أيلول 2010. وهذا قرينة على اتصال الفرمان والخط "الفقهيين" من 1989، عام إبداء المرشد الأول رأيه في الرواية، الى اليوم. وفي الأثناء، حفل تاريخ الولاية بالاعتقالات والاغتيالات والمحاكمات المزورة والرقابة على الصحف والكتب والشعر والأغاني ومجالس العزاء والقبور. ولكن هذا كله، لا يرتقي الى مرتبة "قرار كنسي" واحد، "(يجعل) الجهات الدينية مرجعية ضابطة وإكراهية لأطر التفكير والتعبير"، على قول الأخباري "الإبيستيمي" و "الحرياتي". وفي الميزان نفسه، يفوق الإحجام عن خدمة الشراب 17 شهراً من احتلال "مشين" انتهك الحق في الملكة والتصرف والرزق والانتقال والإقامة.
وعلى مثال سائر تختبره الجماعات الثورية و "الجهادية" المقاتلة والعالمثالثية وما بعد الكولونيولية منذ عقود، يَنصب الكاتب "القرار الكنسي" أو الاستعماري والإمبريالي، أساساً وأصلاً وبدءاً. وتأتي "الفتاوى" مأتى رد الجواب الثاني والتالي. فـ "يؤرخ" لظهور لوحات إعلان في "إمارة صيدا"، ولا يقول الإسلامية أو الجهادية فتبقى مرسلة على شاكلة "بلدية صيدا" – ولوحات الإعلان هذه "تصور شخصاً يشعل سيجارة وفوقه شعار (الله أكبر) ومعه أمر النهي عن المنكر: (إذا كنت معذوراً فاستتر)" – يؤرخ المعلق للوحات فيكتب: "قبل يومين جاء الرد النقيض". فيوهم كاتب "الأخبار" ومعلقها قارئه ان الأثر المفترض، "من كان معذوراً في إفطاره فليستتر"، هو رد على المطران الراعي، ورجاءه المحطتين التلفزيونيتين "الشيعيتين" تعليق المسلسل الإيراني "التاريخي". والأثر المفترض هذا رفعته لافتات "الأحباش" و "الجماعة الإسلامية" على شوارع بيروت منذ 1989 على أقرب تقدير، ونسبته الى الصحيحين "مسلم" و "البخاري"، أو اقتصرت على تذييله بـ "متفق عليه". ولكن الغمز من صيدا، "الإمارة" الحريرية المفترضة التي اضطر أحمد نصر الله ("شاهد صدق" خطيب "حزب الله" على دسيسة إسرائيل بين رفيق الحريري وغازي كنعان وبين الحزب) الى "اغتيال" شقيقة الحريري ليستدرجه الى زيارة صيدا – الغمز هذا يستأهل تأخير الحملة على مفطري شهر الصوم عند المسلمين نحو 13 قرناً. فتصادف، بعد التأخير القليل والطفيف، "القرارَ الكنسي" الظلامي والظالم والأول.
ويتوج الصحافي الأخباري، شأن الصحافية المخبِرة من بعده، ملاحظته أو روايته بإعلان الخشية من "نقل فعل الاعتذار الى الإجبار". فيسأل: "ما الذي يكفل عدم تطور مشروع (الإمارة) تلك الى نظام المطاوعة...؟"، قبل ان يلاحظ ان نظام المطاوعة "مطبق اصلاً في الواقع، في أحياء كثيرة يعرفها العارفون ويسكتون عنها". وحمل "النظام" المَخوف هذا على واقع قائم وسائد بعد جهر الخشية من قيامه، والإلماح الى استقراره في أحياء سنية (عنوانها الإمارة وليس الولاية، والمطاوعة وليس الباسيج، والإفطار وليس التشادور، والاعتذار والتخيير وليس الاحتلال والإكراه، إلخ) دون الشيعية، ومعارضة معرفة الوقائع وشهرتها بالسكوت المتعمد والمشبوه عنها، وافتراض ضرب من المعرفة تختص به جماعة من الناس، هذا وغيره مثله وشاية ونميمة بمعنى أو معانٍ يقولها الصحافي الأخباري مواربة وتورية. فهو يزف "بشرى" التهديد الجهادي والسلفي الى "المسيحيين (في) هذا البلد" على قول زميلته النهارية، ويحصره في مصدر سني يغمز من تواطؤ "إداري وقانوني" معه، وينبه الى "حلف" الكنيسة المسيحية "الموضوعي" ومصدرَ التهديد هذا ومعه. ويتفق هذا وتشخيص ميشال عون، وغرضيته الأهلية المحدثة، أحوال المسيحيين "في" لبنان، وأحوالهم والأقليات المسيحية وغير المسيحية في "هذا الشرق"، على نحو ما يميل الى علاج الأحوال الذي يدعو إليه مرشد الغرضية وإمامها وفقيهها، وتهتدي "سياسته" به، وهو "تحالف الجغرافيا"، أو الأقليات المشرقية تحت لواء عصبية الدولة القومية المستولية.

حقوق الهوية "الموالية"
والحق ان هذا، أي هوية الصحافيَيْن لا يستحق تقصياً، لو اقتصر الأمر عليه. ولكن الاثنين يصدران عن "الجانب العملي لحياة اللبنانيين الميثاقية"، على قول المعلق، أو عن تقاليد "بلد أرسى فيه المسيحيون قواعد العيش المشترك المبنية على احترام الآخرين"، على قول الراوية. وهما يلتقيان على تعريف "المسيحية – اللبنانية"، واللبنانية الميثاقية والوطنية تالياً، تعريفاً واحداً. وركن التعريف هو الحقوق الشخصية والفردية أو بعض هذه الحقوق: الحق في حرية التفكير والضمير والدين وحرية الرأي والتعبير، والحق في "حيز الفضاء الدنيوي والخاص والزمني"، وفي احترام مشاعر أهل الجماعات كلها وعاداتها و "حقوقها" ما لم "تخدش الحياء ولا الذوق العام". والحقوق "اللبنانية" أو "الميثاقية" التي يحصيها الصحافيان، في ضوء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ام في ضوء "ولدنا وعشنا في بلد أرسى فيه المسيحيون قواعد..."، يطرحان منها حقوقاً كثيرة أخرى مثل الحق في الحياة والأمن والملكية (أي الملك) والإقامة والانتقال أو الحق "في الجمعية"، أي العمل القائم على الشراكة أو الشركة ("أسوسياسيون" أو "أسوسييْشن") الاعتقادية والفكرية والحزبية والنقابية المصلحية والخيرية والجمالية الذوقية... وفي الباب الأخير يدخل اختيار الطعام والشراب واللباس.
والكلام على "حيز الفضاء الدنيوي والخاص والزمني"، حين تفصل بنود الخبر في سياق المقال، أو في سوق الخبر، يقتصر على "الخاص"، ولا يستبقي من الدنيوي والزمني إلا اللفظتين الخاليتين من الحقوق التي تملأهما، وهي ما أحصت بعضه الفقرة السابقة. وعلى هذا، فالحقوق "الميثاقية" التي يرفع الصحافيان "المسيحيان" (وهما يحتجان لرأيهما في "الشرطة" ولخشيتهما سطوتهم المحتملة على المأكل والمشرب والملبس وربما الاعتقاد، بالميثاقية على وجهها المسيحي)، هذه الحقوق هي حقوق خاصة أو فردية في دائرة المعاملات أو "الحسبة" العامة والمشتركة. وإليها يسندان الهوية الوطنية أو "البلدية"، إذا حملت عبارة "في هذا البلد" على محمل الجد، على ما دعا دومينيك شوفالييه في مستهل كتابه في "مجتمع جبل لبنان". وهذه الهوية البلدية أو الوطنية، على معنى الوطن أو الموطن والديرة والمنازل، ليبرالية فردية وخصوصية. وهي تخلو من الحقوق والحريات السياسية، ومن الحقوق والحريات الاجتماعية (الملكية والإقامة والانتقال والشركة...) التي تفترض اجتماعاً سياسياً ركنه مواطنون أحرار متساوون يؤلفون شعباً ودولة و "أمة" في كنف سيادة.
فما يعرِّف به الصحافيان "المسيحيان" لبنانهما، ولبنان أصحابهم وأهل عصبيتهم وغرضيتهم وحلفائهم، هو حرية الأكل والشرب والتدخين وبث مسلسلات متلفزة تصنعها إدارات فنية في سوريا وإيران وتناقش معتقدات الجماعات الدينية الأخرى. وقد يترفع تلفزيون البلد المنتج عن بثها أو يحرجه بثها، على ما أصاب "الشتات" (السوري)، فندب تلفزيون "المنار" نفسَه الى بث المسلسل في الداخل وإلى الجاليات. وأنا لا أزعم أن اختيار المرء مأكله ومشربه وملبسه ومسلسله، من غير وصاية على رشده وإرادته ورأيه، ليس بشيء. ولكن التنبيه الى تقييد جماعات أهلية وعصبية الاختيار هذا، وتعمد حمل التقييد على جماعة مذهبية دون جماعة، والطعن في محاباة الكنيسة المارونية التقييد وانحيازها الى أصحابه، وقصر الحقوق والحريات على الخصوصية منها وحبس القلم عن إحصاء المزعج منها (والخوف من كتابة "الكوميديا الإلهية" ونسيان سلمان رشدي وطريق المطار و "تماثيله" الخشبية واستقبالاته المسلحة من قبل ومن بعد...) – هذا ومثله يشي بمذهب "الموالي" في السياسة. وقوامه هو قصر الهوية الوطنية على بعض شارات الحقوق الشخصية والخاصة، والنزول طوعاً عن الحقوق والحريات السياسية والسيادية الوطنية إلى رأس "السلطنة" وأجهزتها.
ففي عدد صحيفة "النهار" الصادر في 24 آب، وهو اليوم الذي اختبرت فيه الصحافية المفجوعة حرمانها من حرية شرب النبيذ الساعة الثامنة مساء في "غوردونز كافيه"، كتبت هي نفسها مقالاً "سياسياً"، على مثال راج مع أوائل الحروب الملبننة حين تحولت الأخبار والتعليقات مراسلات ورسائل مواربة من مضافات "القيادات" ومجالسها، عنونته المعلقة: "الحريري لم يلبِّ بعد تعهدات قمة دمشق". ويصدر هذا الضرب من "التحليل" عن حلول المحلل المفترض تدريجاً محل مصادره، وهي أحزاب وقوى وجماعات وتيارات، وكلامه أو نطقه باسمها، ومحاكاتها خطابتها (إنكاراً وطعناً وتهديداً في معظم الأحيان). فسرعان ما تخلص المعلقة المفترضة من ملاحظة "مسلمة بدا فريقا الأكثرية والمعارضة يتعاملان معها على قاعدة تمرير الوقت"، الى نقل رأي "أوساط مطلعة في المعارضة". وأحد زملائها يسمي "الأوساط" "دوائر القرار"، فتنتفخ أوداجه زهواً. ويتلاشى النقل والإسناد إلى مصدر "معارض". ويتولى الكلام والرأي "صوت" يمزج المصدر المعين أو وجهة النظر الجزئية، باستنتاج ينتهي الى تقرير واقعة لا جدال فيها: "فتعهد الحريري ان دم والده لن يكون سبب فتنة في لبنان لم يترجم بعد عملياً على أرض الواقع".
وتمضي المعلقة على المزج التقريري والجازم في صدق الخبر وفي ضرورة مترتباته "الفولاذية" (والصفة لزميل المحللة) معاً: "ودفتر الشروط الذي أملته قمة دمشق لا يعني التهدئة للتهدئة، بل التهدئة الإعلامية مصحوبة بخطوات عملية على الأرض، لا بعبارات مبطنة خلال الإفطارات توحي بأن وراء الأكمة ما وراءها". وينبغي ألا يشك القارئ في مواد ما تسميه المعلقة المراسلة والمحدثة، "دفتر شروط"، أي "أوامر"، على حكومة لبنان الميثاقية. وينبغي ألا يتردد في هوية من يصدر الأوامر، ويشترط الشروط المذلة على "شعب" الموالي، ويتحمل المسؤولية عن الإخلال بها وإثارة "الفتنة". وتجزم المعلقة، من غير سند صاحب رأي يجتهد في المسألة، ان الحريري "حتى الآن لم يلبِّ... ما هو مطلوب من القمة الدمشقية الثنائية". وتلتوي العبارة في هذا الموضع من بسطها تقريرها وأحكامها. فالمعلقة تريد إفهام القارئ ان رئيس الوزراء اللبناني لم يصدع بما يقول "حزب الله" (وهو "المعارضة") ان القمة، نيابة عن "المعارضة"، أمرت الحكومة اللبنانية الامتثال له على وجه السرعة. و "المعارضة" رضيت، على قول المحدثة عن ثقة، "على مضض" تكليف وزير العدل إبداء الرأي فيما تسميه بعض الأوساط "ملف شهود الزور". ووزير العدل هذا غير جدير بالمهمة. وهو "أكد... عدم معرفته بعدد من النقاط المتعلقة بملف التحقيق كقضية زهير الصديق وأسماء الشهود وعدم صلاحية المحكمة البحث في ملف شهود الزور". ومعنى "عدم المعرفة" بزهير الصديق والأسماء الأخرى، على غموضه، قد يكون مفهوماً، أما عطف "عدم صلاحية المحكمة" على "عدم المعرفة" فإعدام صريح لأداء المعاني ومباني الأداء. وهي تعلل القبول بالوزير بمكسب سيادي عظيم: فالمعارضة "كسرت المحظورات بفتح الملف الذي طالما رفض".
وتدلي المعلقة بدلوها، وهو ودلو أصحابها ومحدثيها الثقات واحد، في "شهود الزور". فتتخطى "التحقيقات"، على رغم أنها في حوزة لجنة التحقيق وحدها ولم يفلح مدير عام الأمن العام السابق بعد في الاطلاع عليها، وتتخطى "تداعياتها" على التحقيق (ربما)، والاغتيالَ نفسه و "توجيهَ الاتهامات عشوائياً"، تتخطى هذه إلى... ماذا؟ الى ما هو أفظع من الاغتيال، وانتهاك كيان الدولة والمواطنين، والطعن في مبنى السياسة والسيادة: "الى إيجاد مناخ ضاغط منذ عام 2005 تسبب بسوء العلاقة مع سوريا، إلى انتخابات نيابية...". ومعالجة هذا هي برنامج "المعارضة"، على ما أعلن جميل السيد ومستقبلوه وكتابه ونوابه ومواليه. وتندد "المعارضة"، ومراسلتها المعلقة، بـ "لغتي" الرياض في المحكمة: "واحدة عبر الحوار مع سوريا، وثانية عبر تمويل المحكمة". ويقود هذا الى بشرى تزفها المعلقة الى قراء الصحيفة: "... ستكون المعارضة حكماً في حل من كل التعهدات".

قلم "الدولة"

و "المحللة" المحدثة عن أصحاب دفاتر الشروط، وتوقعاتهم وحساباتهم وآلات قوتهم و "فوضاهم" وآرائهم في الحكومة والقوانين والقتل والقضاء والعلاقات بين الدول، والمنتضية سيوفهم والملوحة والمخوِّفة بها، هي نفسها (مع لفيفها العصبي العريض) استظهرت، في اليوم التالي، بـ "البلد" الذي يحترم حرية المأكل والمشرب، واحتجت به على "الشرطة" الذين حرموها الشراب في "غوردونز كافيه" من أعمال "لوغراي" في أثناء إفطار من إفطارات رمضان. وعلى المثال نفسه، استظهر معلق "الأخبار" بالميثاق ومقدمة الدستور وشرعة حقوق الإنسان على الكنيسة المارونية وحلفها مع "المطاوعة" على إلغاء "الحيز الخاص". ومن قبيل المصادفات المحض أن معلق الصحيفة هو من أوائل من أذاعوا، في خطابة التهديد و "التحليل" نفسها، ما "تنتظره دمشق" من رئيس الوزراء اللبناني. فنظير "الحيز الخاص"، والحاجات الفردية المنقطعة من التدبير المشترك الذي يفترض مواطنين، "ينزل" أصحاب الهوية البلدية والليبرالية، على غير مضض، عن الحقوق السياسية التي تتوج الحريات والحقوق والإرادات والعمومية المشتركة معاً. ونظير الطعام والشراب في "غوردونز كافيه"، أو ترك اللوحات الإعلانية، لا غضاضة في السطو المسلح والقسري على شرايين المواصلات في لبنان كله. وعلى قلب بيروت "التجاري" والسياسي والإداري والاجتماعي والثقافي.
وهذا نزول عن السياسة، وتخلٍ عنها، والنزول هذا هو سمة "أخلاق" المولى والتابع الفارقة. ويقضي عقد الولاء السلطاني، والانتساب الى عصبية الدولة الغالبة على الولايات الأهلية والبلدية، يقضي بتجريد المتعاقدين على الولاء من "سلاحهم"، وندب أهل العصبية الغالبة والمستولية الى الدفاع عنهم، لقاء فريضة (أو "فردة") يؤدونها. فهم يُحملون حملاً على التجرد من السلاح، وهو ركن الشركة السياسية في مجمع الفتوح السلطاني، ويلزمون أداة الرسم عن تجريدهم و "تخليهم". وإلى اليوم، "يناقش" إخوانيو مصر حق المصري القبطي (أو المرأة المنزوعة السلاح) في رئاسة الجمهورية، وفي الولايات العامة، ويحتجون لإنكار الحق بترك السلاح، أو العجز عن حمله. فتُقصر، بناء على الأصل هذا، "المواطنية" على الهوية البلدية أو الاجتماعية الأهلية والشخصية، وعلى "حريات" المأكل والمشرب والملبس خارج الدائرة العامة والمشتركة وعلانيتها. فينبغي أن تحفظ الدائرة هذه "آثار" الحرب والتغلب والسلطان، على معنى القوة المعملة، فيما يحل أكله وشربه أو ينهى عن أكله وشربه. فينشأ عن تمييز الدائرتين، الخاصة الأهلية و "الاجتماعية" والعامة السلطانية والمختلطة، الواحدة من الأخرى، "مجتمع" حاجات وتدبير على حدة من السلطان. ويتربع في سدة القوة والسلاح والأمر أهل القوة الخاوي الوفاض واليد من التدبير، ومن فهم الحاجات واحتسابها. ويؤدي هذا الى "حريات كثيرة" و "قليل من الديموقراطية"، على قول سليم الحص المنحاز الى العدوان على الحريات والديموقراطية معاً. وهذا قد يحملهم على اجتياح الطرق وقطعها، واحتلال الساحات عنوة، ومحاصرة مراتب التدبير، من غير حرج.
وعلة "الاستثناء" اللبناني في "هذا الشرق" الى اليوم، هي كسر موارنة الشمال ثم جبل المتاولة فجبل الدروز فجبل لبنان، القسمة الحربية والاجتماعية السلطانية، وإيجابهم مجتمعاً غير منزوع "السلاح". فلا تقتصر حرياته وحقوقه على الانكفاء على حاراته وعاداتها والالتحاق بعصبية السلطان، بل تتخطى هذا وذاك الى الشركة في الأمر والتدبير والمداولة والولاية، واحتساب الشركة على الحصة في المصالح وفي الموارد على أنواعها، والحرث والنسل والعلاقات بالخارج وعوالمه. والقيام بكسر القسمة السلطانية حمل ثقيل ومرهق. وجددت ثقله سلطنات الاستيلاء العصبية والمحدثة، والحركات السياسية والأهلية الانقلابية والمدججة بآلات الاستيلاء والإناخة على الصدور والعقول والألسنة. فيذهب شطر من الذين ينوؤون بالحمل الثقيل الى طلب "العودة" الى عقد الولاء، والاقتصار على "المنازعة على المحل الثاني" في السلطنة، على قول فرنسوا زبال قبل أربعة عقود، أو على المشورة والإدارة الإنفاذية من غير "سلاح" ولا سياسة ولا مواطنة، في رحاب "حيز خاص" منتشٍ بـ "حرياته".

الاثنين، 27 سبتمبر 2010

من «شهود الزور» الى «مثلث القوة السوري - الإيراني - التركي»... دمى روسية تتوالد

الحياة 19/9/2010
على شاكلة الدمية الروسية، تتفتق العلاقات اللبنانية – السورية، في إطار «النظام السوري – اللبناني» الموحد، عن «دمى» كثيرة، عددها على عدد الألغام ضد الأفراد في حقل ملغم، داخل الدمية الواحدة التي يحسب المرء «العادي» انها نهاية مطاف ما يراه. فما أن قال رئيس الحكومة اللبنانية الوطنية والاتحادية ان تهمة شطر راجح من اللبنانيين، هو واحد منهم، سياسة (أمنية وعملانية) «سورية» بالضلوع، على وجه غير واضح ولا معلوم، في اغتيال رفيق الحريري، «انتهت»، وتابع قائلاً: «هناك أشخاص ضللوا التحقيق... وشهود الزور هؤلاء خرّبوا العلاقة بين البلدين وسيّسوا الاغتيال» – ما أن قال الرجل هذا، الى أمور أخرى أقل بساطة و«سذاجة» ومهادنة، حتى خرجت من دمية التهمة السياسية العتيدة، ومن دمية أصحاب الشهادات المفتعلة والمضللة، دمى أضخم بكثير. وكانت هذه في الدميتين على شاكلة دخان المارد الجنّي في قارورة البحر.

فمن الدمى الضخمة وعمالقتها المحصورين «منظومة سياسية وأمنية وإعلامية» ينسب إليها نواب الحزب الخميني المسلح «فبركة» الشهود المفترضين. وهذا «النظام» «لعب (...) في البلد أربع سنوات» على قول «جنرال» أمني سابق. وكان خطيب الحزب الأول ذهب الى اختصار الأعوام الأربعة التي أعقبت اغتيال رفيق الحريري، وشهدت دورتين انتخابيتين هزمت قوى الولاء السوري – الإيراني فيهما، في مسألة «شهود الزور». ومن الدمى المتعاظمة مع انتشار الدخان المحبوس «(توزيع) الشعب طوائف لمنع الثورة عنهم والانقلاب (عليهم)»، أي على أصحاب «سوليدير» الذين تُختصر حركة «14 آذار» (مارس) فيهم. فـ «الطائفية»، على المعنى اللبناني- العروبي أي «السوري القومي»، وهي إثم وجودي ولعنة دامغة جبرانية، هذه الطائفية هي من بنات الدمية الروسية المتناسلة.

وفيما قد يحسبه بعض أهل السذاجة دمية أخيرة، إقليمية عريضة، تنتصب «صورة سياسية هي على الشكل التالي»، بريشة الرسام الجنرال: «سورية، السعودية وفرنسا لا تريد الفتنة وهي تعمل بكل الوسائل لمنعها. أما مصر والأردن وبعض الإدارة الأميركية فإنها تريد الفتنة». ولكن رساماً آخر، «أميراً» جبلياً هذا، يؤطر الصورة السياسية، أو الدمية، في صورة تاريخية وجغرافية استراتيجية مترامية الأطراف زمناً ومكاناً: «الأيام أثبتت ان خيارنا الوطني كان الخيار الصحيح، وأن نظرتنا الى سياسات الدول الاستعمارية حيال لبنان والمنطقة كانت هي النظرة الصحيحة. إن الأيام تثبت صحة نظريتنا القائلة بأن من يُسقط الجغرافيا من معادلة السياسة يخرج نفسه من التاريخ». وإمعاناً في الدخول في التاريخ يفتح «المير»، المتحدر من الحروب الأهلية الدرزية والمدين بنيابته الأخيرة الى استنكاف القطب الجنبلاطي عن منافسته، باب التاريخ الآتي عريضاً بوجه الفتوحات والثارات الآتية: «ان خيار التكتل الإقليمي الحضاري الكبير المكون من مثلث القوة السوري – الإيراني – التركي هو المستقبل الذي تصغر أمامه المشاريع الاستعمارية كافة، وأولها المشروع الإسرائيلي، وموقع لبنان هو في قلب هذا المثلث» (صحف 13 ايلول/ سبتمبر المحلية).

وفاتحة الدائرة أو الصورة الملحمية هي «فتح ملف شهود الزور في قضية الرئيس الحريري». فهذه تفضي، من طريق الملفات المعهودة والمعروفة والمعالجة منذ ثلث قرن في إطار «النظام السوري – اللبناني» (مثل اقتتال اللبنانيين المنقسمين طائفياً وأحضاناً حزباً خيانياً وحزباً وطنياً منذ الأزل، على قول نبيه بري شارحاً رأياً ثابتاً جرى بشار الأسد عليه) – تفضي «قضية الحريري»، وعنوانها «شهود الزور» وليس اغتيال الرجل، فـ «الرجل مات» (جميل السيد)، الى مكانة «الامبراطورية» السورية من مثلث «الامبراطوريات» غير الاستعمارية والفاضلة. ويقضي سر خفي يعصى أفهام الساذجين ان يكون لبنان، وهو التافه وهونغ كونغ والدكان على البحر والطائفي حتى العظم والمتسكع على أبواب السفارات، في «قلب مثلث القوة» «الصيني» الهائل والموعود.

ومن يحسب ان الأقوال هذه خطب يوم أحد، ومؤتمرات صحافية يصول ويجول فيها من لم ينجح يوماً في الإيقاع بمتعاون واحد طوال ولايته الأمنية الطويلة، يخطئ. فمسألة الشهود المزعومين، على خلاف حسبان «لبناني» يتسم بالخفة، ليست مسألة لبنانية ولا قضائية أو إجرائية، بل مدارها على «ضرب النظام والاستقرار في سورية»، على ما نقلت سابين عويس («النهار» اللبنانية، في 8 ايلول) عن مصدر سوري أو محدث ينقل عن مصدر سوري. ويعرِّض التلميح بأقوال نائب الرئيس السوري السابق عبدالحليم خدام، وبدور الرجل المفترض في تغذية أقاويل راجت في التحقيق ومذاهبه وتخميناته، وتلقفها لبنانيون كثر وتناقلوها وعوّلوا على قوتها في إثبات تهمتهم من اتهموا ولا يزالون.

والحق ان إحالة المسائل اللبنانية المتفرقة، صغائرها و «عظائمها»، الى قضايا أمنية سورية أو إقليمية، وترجمة المسائل تلك الى مشاغل «استراتيجية» أي أمنية خاصة، الإحالة والترجمة هاتان هما من صلب السياسة السورية التي توهمت وتتوهم فراغ لبنان واللبنانيين من القضايا السياسية السيادية، وجوَّزت وتجوّز البت في القضايا هذه بتاً بوليسياً وإجرائياً.

ومصدر التهمة السياسية كان ولا يزال هذا النهج في الإحالة والوهم والتجويز. فماذا يمنع من يزعم ان رفيق الحريري «مات»، ولم يقتل اغتيالاً – فلا قضية ولا دعوى في قتله، ولا حاجة الى محافظة على مسرح الجريمة على الحال التي خلفته عليها الجريمة ثم الى الفحص عن آلتها وإلى تشكيك في أحمد أبو عدس والمعتمرين البوسنيين أو الباكستانيين الذين شك فيهم «التحقيق» المحلي – ماذا يمنعه من حمل الرأي المخالف على تشويه الدور السوري، وضلوع استعماري أو يميني غبي أو انعزالي في عرقلته؟

وفي مناقشات رئيس الوزراء اللبناني الأخيرة بدمشق، بحسب نقل سابين عويس نفسها، ألقى «الأساتذة» المضيفون درساً على ضيفهم في «مقاربة حادثة برج أبي حيدر»، وفي نهج المقاربات عموماً. فهم رأوا أن تناول الحادثة من ناحية «أن مسجداً أحرق» خطأ فظيع، مرده الى ان الوصف هذا يقتصر على الوجه السياسي والمحلي والمذهبي، أي اللبناني، من الواقعة. وما يقتصر على الوجه هذا يوهم بـ «استقلال» الواقعة عن سياقها ومعرضها الحقيقيين، أي الأمنيين، أي الاستراتيجيين، أي القوميين. وعلى هذا، فالواقعة الجديرة بالانتباه وحدها هي «اغتيال مسؤول في حزب الله ومعاونه (و) ذلك بمثابة اغتيال للمقاومة». ويستدعي هذا، على وجه السرعة، تضامن سورية ورعايتها وحمايتها وتحكيمها وتصويبها الاستراتيجي. وأما «الترهات»، مثل سلاح بقايا الميليشيات المقيم، وجوار السكن الأهلي المختلط، ومسؤولية أجهزة الدولة عن التحكيم في خلافاته، وسريان الخلافات في جسم المدينة المتصل والمقطع، وغيرها من المسائل التفصيلية، فليست من السياسة «الكبيرة» والامبراطورية في شيء. ولا يجوز لحكومة «كل لبنان» أن تغفل عن الجوهر الأمني الثاوي في التفاهات الأهلية العابرة.

وجواباً عن هذا النهج ومزاعمه وعدوانه قامت حركة «14 آذار» الاستقلالية والسيادية ولم تولد من «شهود الزور»، على ما لا يخشى القول اليوم مستخرجو الدمى الروسية بعضها من بعض.

الحنين الى الانكفاء على حارة الموالي والانتساب إلى عصبية الدولة

المستقبل، 26/9/2010

في يوم قائظ من آب المنصرم، في 23 منه على وجه الدقة، وهو صادف قريباً من منتصف شهر صوم المسلمين أو قبل انتصافه بقليل، كانت صحافية لبنانية "تستعد"، على قولها، مع آخرين "من جنسيات مختلفة" لتناول العشاء في "مطعم فندق حديث في وسط، يملكه ماروني وباركه أحد المطارنة بالمياه المقدسة حين ارتفع بنيانه" (هيام قصيفي، المطاوعة في وسط بيروت، "النهار" اللبنانية البيروتية، 25 آب). والفندق هذا هو "لوغراي"، والماروني صاحبه هو من آل قبشة، والمطران المبارِك هو المطران بولس مطر، راعي أبرشية بيروت للموارنة، على ما صرح رد جواب مجلس إدارة الفندق على رواية الصحافية وتورياتها (رد من مجلس إدارة "لوغراي"، "النهار"، 29 آب). وبينما كانت الصحافية تستعد وصحبها، إذن، للعشاء "الساعة الثامنة"، وكانت انقضت نحو 3 أرباع الساعة على ابتداء الإفطار، في مطعم "لوغراي"، و "(طلبوا) الطعام والشراب"، "أصر" نادل المطعم، أو "ميتر دوتيله" المولج خدمة المائدة، على نصح الطاعمين "بنوعية نبيذ معين".
ولما لم يكتب النادل الى الصحيفة، ولا كتب مجلس إدارة صنف النبيذ المقحم نفسه على أذواق الطاعمين والشاربين، خفي إلى اليوم على القارئ مصدر الإكراه الأول الذي نزل في المزمعين الأكل. وموضوع الكاتبة المخبِرة ليس أصناف النبيذ ومراتبها في التذوق والتمتع، وإنما هو درجات الفرض والإكراه والتعسف والقهر في الفندق مِلك صاحبه الماروني ورئيس أساقفة الأبرشية. ودخل الفندق و "مطعمه" الدائرة الأولى من دوائر الفرض وانتهاك الحرية من باب صنف النبيذ، والقهر عليه. وانقلب النادل القاهر والمتطفل والوقح، في إغماضة عين، رجلاً حيياً ومهذباً. فهو، بعد رفض الآكلين "نوعية" نبيذه واختيارهم "نوعية" يرتضونها، "عاد معتذراً"، وأردف اعتذاره بـ "خجل"، وزاد على الاثنين "أسفاً". وقال المعتذر الخَجِل الآسف: "أخجل مما سأقوله، ولكن لا نستطيع تقديم النبيذ لأننا في رمضان".

اسم البلد

والفصل الأول هذا من الواقعة يتناول زمانها ومكانها ويمهد الى "الأزمة" أو مدار الحبكة والعقدة، على قول كتب تدريس مبادئ الأدب الفرنسي في المقرر الثانوي السابق. وعلى ما قد يفترض قارئ الصحيفة، أو لا يفترض، جبه الجالسون الى مائدة "لوغراي" اعتذار الرجل وخجله وأسفه، والمشاعر الثلاثة إدانة ثقيلة، من داخل، للفندق ومطعمه وآل القبش ورئيس أساقفة بيروت معاً، جبهوا الاعتذار برد متدرج. فهم، أولاً، "لم (يستوعبوا)". وهذا قرينة على طبائع حرة، ومترفعة عن "استيعاب" صغائر الأمور وحوادث العالم السفلي الذي يرتع فيه وضعاء القوم، والراجعون في التزام مترتبات الانتساب الى المارونية، والمباركة الأسقفية، والعاجزون عن التزامها. وتواضعاً ربما، "(حاولوا) الاستفهام"، ثانياً. و "الاستفهام" ليس استفهاماً، على المعنى الشائع والسالب والخائف. فمن يقول انه "لم يستوعب"، ويعني الازدراء بجبن محدثه ونكوصه وضعف التزامه معتقده، لا يستفهم استفهام عامة الناس. وعليه لم يرَ "المسؤول عن المطعم" بداً من المجيء، وشرح اعتبارات الإحجام عن تلبية طلب الآكلين الشاربين الشراب. فقال ما قاله نادله المعتذر الخجل الآسف لتوه. وزيَّن الإحجام بـ "احترام مشاعر المسلمين" المفطرين.
وردت صاحبة الخبر، وكاتبته في الصحيفة، رداً "سياسياً" هو في صلب الخبر ونقله وروايته وإذاعته على الملأ: "إننا مسيحيون وعليك احترامنا... ونحن في بلد اسمه لبنان ولسنا في بلد إسلامي". فارتقت المسألة الى مرتبة أو مصف المساواة بين السكان وجماعاتهم وعاداتهم وسننهم، وإلى صفة "الدولة" أو السلطة التي تضمن المساواة، وتحامي عنها. و "الدولة"، وتحسب الراوية ان "بلد اسمه لبنان" يقوم مقام الدولة وسيادتها الحقوقية والقانونية على مواطنيها (أي سيادتهم على أنفسهم من طريق الدولة)، "الدولة" هذه مدنية، أي غير دينية التشريع ومصادره، ولا يحق لها تالياً إكراه من ترعى حقوقهم من مواطنيها على فعلٍ أو إمساكٍ وترك لا ينص عليهما القانون. ولا يحق لها هي الإكراه، وعليها ألا تبيح لأفراد أو جماعات تولي الإكراه في محال عامة ومشتركة.
واحتجت صاحبة الخبر لرأيها احتجاجاً مفصلاً ومفنداً: 1)"لائحة الشراب والطعام لم تتعدل"، 2) لم يعلق الفندق "في الخارج لافتة تعلن منع الخمور". وعلى هذا، أو هذين، على الفندق وفاء وعده بالطعام والشراب المباحين. "تشبثنا بموقفنا الرافض" انتهاك الاحترام والمساواة ومدنية "البلد" غير الدينية. وحسب "المسؤول" الغافل أن ما يصر عليه "الرافضون" هو الشراب، وليس الاحترام والمساواة والمدنية. فاقترح عليهم، لغفلته وسذاجته وتخففه من المواطنَة الحرة والأبية، الشراب إياه في أقداح "مموهة رزقاء" تتستر على "وقاحة" عصير العنب، على ما سمى معاصرو الحسن بن هانئ ما ينتبذ من عناقيد الدوالي. وأمعن "المسؤول" و "التاجر" المسكين في الغفلة والتخلي، فأراد إعطاء الشراب "مجاناً" من غير ثمن، فزاد الطين بلة، وحمل الراوية على المغادرة.
ومقارنة روايتي الصحافية ومجلس إدارة "لوغراي" الواحدة بالأخرى تبرز وجهاً أغفلته رواية الصحافية عمداً. فمجلس الإدارة يقول إن الفندق استثنى، طوال شهر صوم المسلمين، مقهى (مطعماً) واحداً من خدمة الشراب، هو "غوردونز كافيه". وما عداه كانت "جميع النقاط المخصصة للأكل والشرب في الفندق... تلبي طلبات الزبائن"، بما فيها المشروبات الروحية، باستثناء مقهى (غوردونز كافيه) وأثناء فترة الإفطار فقط". وترتب على الإغفال الأول إغفال ثان هو اقتراح النادل على "السيدة" تناول الطعام في "أحد مطاعم (الفندق) الأخرى". فتأكل وتشرب ما أرادت واشتهت. ومحل الإغفال المزدوج ملأته الصحافية المخبرة برواية الأقداح المموهة بالزرقة والهدية من غير لقاء. ورد "لوغراي" لا ينفي الرواية ولا يثبتها، ولكنه يروي ما يضعف مسوغها (وهذا رأي يمليه ربما التحامل على السكوت عن ذرائع المطعم، وذلك في معرض تحقير "خبث تجاري متستر بالمحافظة على العيش المشترك واحترام مشاعر المسلمين"، على قول صاحبة الخبر، منددة وعائبة).
وتخلص الراوية من روايتها المركب بعضها على هواها، وعلى قصد الطعن في مجاراة مسيحيين لبنانيين غايات ومعايير "سلفية" وقصد مديح تراث مسيحي لبناني شامخ الرأس، تخلص الى ما كانت ابتدأت به: "...ولدنا وعشنا في بلد أرسى فيه المسيحيون قواعد العيش المشترك المبنية على احترام الآخرين (و) لسنا أهل ذمة، ولا نريد ان تنتقص حقوقنا بحجة تجارية واهية". وتصوغ سؤالاً عن الآتي في "قالب" كلمات أو مصطلح يشي، شأن مصطلح العنوان، بتشخيص لمصادر التهديد يستشعِر الخطرَ من جهة، أو جهات، دون أخرى: "فهل وصلت الشرطة الدينية الى لبنان وإلى قلب الوسط التجاري واجهة لبنان الحضاري وبدأت ترتدي بذلة أجنبية وربطة عنق؟". وكانت الفقرة الأولى من المقال حملت "الشرطة الدينية (المطاوعة)" على بلدان إسلامية (على معنى اعتقاد غالبية السكان) متفرقة ومختلفة النظم السياسية والاجتماعية والثقافات والتواريخ. فجمعت أندونيسيا وأفغانستان في باب واحد. وهذا افتئات وتعنت (أو جهل، بديهة).
وهي حملت "الشرطةَ الدينية" على "المطاوعة" دون "الباسيج"، على رغم إحصاء إيران في البلدان الخمسة، ودون التنبيه الى الأصل الذي تتفرع عليه الشرطة وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من وجه، والحسبة، من وجه آخر. وبينما يدخل الأصل في بنية الدولة في حالين، على نحوين مختلفين، لا مدخل له في باكستان ولا في أفغانستان، وبالأحرى في اندونيسيا وإسلامها (وهو كثير على ما ذهب إليه دارسه الكبير كليفورد غيرتز) الصوفي الشخصي والشعائري الاحتفالي معاً. والأصل الأول في صيغ الأمر بالمعروف والحسبة، وعلى الأخص في الأحوال التي تضطلع فيها الدولة أو السلطة السياسية الجامعة بالأصل هذا وتعده جزءاً من ولايتها وصلاحياتها، الأصل الأول هو إقامته على الرعايا المسلمين، أي امر المسلمين بالمعروف ونهي المسلمين عن المنكر، والحسبة على معاملاتهم في الأسواق وبيعهم وشرائهم واحتشامهم، الخ. وأما "أحكام أهل الذمة" – وهي تبيح لأهل عهدها، في "ديرتهم" المنكفئة، تدبير أحوالهم على سننهم وعوائدهم الموروثة – فمرجعها الى قانون الحرب والفتح، وإلى عهود أو معاهدات هذا وتلك.
ويغمز مصطلح الصحافية المخبرة، واختيارها ألفاظها من معجم دون آخر، تتصدره لفظة "المطاوعة" وشرحها بـ "الشرطة الدينية" على خلاف "الباسيج" المفترضين شرطة "أخلاقية"، يغمز من "محور" يجمع السعودية الى "سوليدير" ورفيق الحريري والمستثمرين المسيحيين في "الوسط التجاري" (على ضفة "ساحة الحرية" الغربية وفي جوار "الاعتصام" أو الاحتلال الحزب اللهي والعوني 18 شهراً) والإكليروس الماروني "المتواطئ" مع حلف تجاري "خبيث" مفترض يلحق البطريركية المارونية بالمسلمين السنّة السلفيين من لابسي "البذلة الأجنبية وربطة العنق"، من ورائهم جماهير طرابلس وعكار "الحريرية" وغزاة الأشرفية وحرّاقي السفارة الهولندية في 5 شباط 2006. ويفترض في حبات السبحة ان تكر: من عصابة السطو على فرع مصرف في الدامور الى عصابة سطو أخرى من الهوى نفسه على فرع مصرف في البترون، تمهيداً لحرب مخيم نهر البارد في رعاية "فرع المعلومات"، على ما "أثبت" ميشال عون ببراهين دامغة تكاد قوتها ترقى الى قوة قرائن ومعطيات أُخَر.
القرار والرأي
وفي عبارة جلية، يريد خبر الصحافية القول ان السلفية السنية وهيئاتها تزحف الى قلب "لبنان المسيحي"، وتهدم حرياته وهويته في رعاية رساميل مسيحية تباركها بكركي البطريرك صفير، ويباركها أساقفة تشدهم الى "القوات اللبنانية" روابط القرابة الدموية (كتلك التي تشد رئيس أساقفة بيروت المطران بولس مطر الى شقيقه العميد مطر المدان بالضلوع في اغتيال رشيد كرامي) والسياسية تالياً.
وكان سبق خبر صحافية "النهار" المندد بـ "المطاوعة" المحدثة اللباس وحليفة "الرساميل" المارونية وأساقفة بكركي المتواطئين، تعليق في "الأخبار" موسوم بـ "من (احتكار) المسيح الى إمارة صيدا" (جان عزيز، 19 آب). وتنكر المقالة على "السلطة الكنسية"، وهي في هذا المعرض رئيس أساقفة جبيل للموارنة المطران بولس الراعي بوكالته عن بكركي والبطريرك صفير، "تدخلها" في إلغاء عرض المسلسل الإيراني التلفزيوني "المسيح عيسى بن مريم" على شاشتي "المنار"، محطة "حزب الله"، و "إن بي إن"، محطة "امل". ويخشى التعليق "آراء الظلاميين من كل جهة، على تناقضهم وتحالفهم الموضوعي" – وهذه لازمة رأي يرى مساواة "النظام الأميركي" أو "الامبراطورية" بـ "قاعدة" بن لادن، على ما ذهب إليه علم اليسار الأميركي نعوم تشومسكي – وعدوانهم على "حرية التفكير والضمير الديني"، وعلى "حرية الرأي والتعبير" و "حيز الفضاء الدنيوي والخاص والزمني"، على قول صاحب التعليق الأخباري مقتطِفاً ومعللاً ومجتهداً.
وتمضي الخشية على تعاظمها، فتخمن في صدور "قرار كنسي يلغي أجزاءً من الأدب الإنساني الحي". وهو، في الأثناء الخطابية والمهوِّلة والنافخة في أبواق تدك الأسوار، جعل تلويح مطران كرسي بلاد جبيل بمؤتمر صحافي يعتب على الإنتاج والتوزيع الإيرانيين والشيعيين الإماميين انحيازهما الى أنجيل "منحول" – "قراراً كنسياً" إدارياً نافذ الإجراء. ويخالف هذا واقع الحال. وحملُ الرأي الأسقفي الماروني، وهو ناجم عن خوف ويتمسك بتلابيب عزلة فكرية واعتقادية تداعت حجارتها منذ زمن، على إجراء عملي وإداري متمكن من أدواته وآلاته وسلطانه، تضليل متعمد. فما هي دائرة إنفاذ القرار المزعوم؟ هل هي الأمن العام اللبناني؟ ام محكمة المطبوعات؟ أم المجلس الوطني للإعلام؟ أم هي "نفوس" القراء والمشاهدين المحتملين؟ والحق ان إلغاء عرض المسلسل الإيراني والشيعي الإمامي – وهذه صفته وهذا نعته ولا غبار عليه منهما، على زعمي – استدرج إليه توافق جهازين دعويين واعتقاديين، وسياسيين على مقادير متباينة، على الإلغاء. وأُخرج الإلغاء والتوافق عليه مخرجَ إجماع الجماعات على احترام واحدتها معتقدات الأخرى، ومخرج التمثيل على جدوى "الحوار". و "المربح" من الإخراج هذا، إذا صدق أو صح أن ثمة مربحاً وليس خسارة، تتقاسمه الكنيسة المارونية والأجهزة الإعلامية والدعاوية الإيرانية والإمامية في طهران وبيروت (أو "الضاحية").
والمعلق الإخباري يقصر الفعل الرقابي وإدانته على الكنيسة و "قرارها" (في "أعمال" ثانوية نشرت منذ عقود ولم "يلغها" أحد)، ويسكت عن "شريكها" في العقد التوافقي المضمر بعضه والمعلن بعضه الآخر. ويحاول مكافأة إدانته "القرار الكنسي"، والجلي الصفة، فيعرج على "فتاوى" افتراضية، تنسبها اللفظة المشتقة (من الفتوى والمفتي) الى الإسلام والمسلمين، في "الكوميديا الإلهية" الدانتية (ويتحاشى الأخباري ذكر وسمها الفاضح في صحيفته "الحرياتية" و "الإبيستيمية" – كذا -) وفي طقطوقة درويشية تقضي تقوى المولى العروبية برفعها الى منزلة الإعجاز. ويغفل فتوى ناجزة وصريحة في رواية سلمان رشدي، "آيات شيطانية"، أفتى بها مرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية الأول. وقضت بـ "إلغاء" الكتاب والكاتب معاً، ووعدت القاتل العتيد، وآلة إنفاذ "القرار" الهمايوني والشاهنشاهي وغير الكنسي، بمليوني دولار أميركي ونصف المليون حُبست على صورة وقف يعود رأس ماله وريعه الى من يتولى إنزال "حكم الله" في دم الروائي. وجدد غضنفر ركن أبادي، سفير جمهورية إيران الإسلامية، إدانة سلمان رشدي، وإباحة دمه تالياً، في أثناء زيارة إلى دارة ميشال عون في 17 أيلول 2010. وهذا قرينة على اتصال الفرمان والخط "الفقهيين" من 1989، عام إبداء المرشد الأول رأيه في الرواية، الى اليوم. وفي الأثناء، حفل تاريخ الولاية بالاعتقالات والاغتيالات والمحاكمات المزورة والرقابة على الصحف والكتب والشعر والأغاني ومجالس العزاء والقبور. ولكن هذا كله، لا يرتقي الى مرتبة "قرار كنسي" واحد، "(يجعل) الجهات الدينية مرجعية ضابطة وإكراهية لأطر التفكير والتعبير"، على قول الأخباري "الإبيستيمي" و "الحرياتي". وفي الميزان نفسه، يفوق الإحجام عن خدمة الشراب 17 شهراً من احتلال "مشين" انتهك الحق في الملكة والتصرف والرزق والانتقال والإقامة.
وعلى مثال سائر تختبره الجماعات الثورية و "الجهادية" المقاتلة والعالمثالثية وما بعد الكولونيولية منذ عقود، يَنصب الكاتب "القرار الكنسي" أو الاستعماري والإمبريالي، أساساً وأصلاً وبدءاً. وتأتي "الفتاوى" مأتى رد الجواب الثاني والتالي. فـ "يؤرخ" لظهور لوحات إعلان في "إمارة صيدا"، ولا يقول الإسلامية أو الجهادية فتبقى مرسلة على شاكلة "بلدية صيدا" – ولوحات الإعلان هذه "تصور شخصاً يشعل سيجارة وفوقه شعار (الله أكبر) ومعه أمر النهي عن المنكر: (إذا كنت معذوراً فاستتر)" – يؤرخ المعلق للوحات فيكتب: "قبل يومين جاء الرد النقيض". فيوهم كاتب "الأخبار" ومعلقها قارئه ان الأثر المفترض، "من كان معذوراً في إفطاره فليستتر"، هو رد على المطران الراعي، ورجاءه المحطتين التلفزيونيتين "الشيعيتين" تعليق المسلسل الإيراني "التاريخي". والأثر المفترض هذا رفعته لافتات "الأحباش" و "الجماعة الإسلامية" على شوارع بيروت منذ 1989 على أقرب تقدير، ونسبته الى الصحيحين "مسلم" و "البخاري"، أو اقتصرت على تذييله بـ "متفق عليه". ولكن الغمز من صيدا، "الإمارة" الحريرية المفترضة التي اضطر أحمد نصر الله ("شاهد صدق" خطيب "حزب الله" على دسيسة إسرائيل بين رفيق الحريري وغازي كنعان وبين الحزب) الى "اغتيال" شقيقة الحريري ليستدرجه الى زيارة صيدا – الغمز هذا يستأهل تأخير الحملة على مفطري شهر الصوم عند المسلمين نحو 13 قرناً. فتصادف، بعد التأخير القليل والطفيف، "القرارَ الكنسي" الظلامي والظالم والأول.
ويتوج الصحافي الأخباري، شأن الصحافية المخبِرة من بعده، ملاحظته أو روايته بإعلان الخشية من "نقل فعل الاعتذار الى الإجبار". فيسأل: "ما الذي يكفل عدم تطور مشروع (الإمارة) تلك الى نظام المطاوعة...؟"، قبل ان يلاحظ ان نظام المطاوعة "مطبق اصلاً في الواقع، في أحياء كثيرة يعرفها العارفون ويسكتون عنها". وحمل "النظام" المَخوف هذا على واقع قائم وسائد بعد جهر الخشية من قيامه، والإلماح الى استقراره في أحياء سنية (عنوانها الإمارة وليس الولاية، والمطاوعة وليس الباسيج، والإفطار وليس التشادور، والاعتذار والتخيير وليس الاحتلال والإكراه، إلخ) دون الشيعية، ومعارضة معرفة الوقائع وشهرتها بالسكوت المتعمد والمشبوه عنها، وافتراض ضرب من المعرفة تختص به جماعة من الناس، هذا وغيره مثله وشاية ونميمة بمعنى أو معانٍ يقولها الصحافي الأخباري مواربة وتورية. فهو يزف "بشرى" التهديد الجهادي والسلفي الى "المسيحيين (في) هذا البلد" على قول زميلته النهارية، ويحصره في مصدر سني يغمز من تواطؤ "إداري وقانوني" معه، وينبه الى "حلف" الكنيسة المسيحية "الموضوعي" ومصدرَ التهديد هذا ومعه. ويتفق هذا وتشخيص ميشال عون، وغرضيته الأهلية المحدثة، أحوال المسيحيين "في" لبنان، وأحوالهم والأقليات المسيحية وغير المسيحية في "هذا الشرق"، على نحو ما يميل الى علاج الأحوال الذي يدعو إليه مرشد الغرضية وإمامها وفقيهها، وتهتدي "سياسته" به، وهو "تحالف الجغرافيا"، أو الأقليات المشرقية تحت لواء عصبية الدولة القومية المستولية.

حقوق الهوية "الموالية"
والحق ان هذا، أي هوية الصحافيَيْن لا يستحق تقصياً، لو اقتصر الأمر عليه. ولكن الاثنين يصدران عن "الجانب العملي لحياة اللبنانيين الميثاقية"، على قول المعلق، أو عن تقاليد "بلد أرسى فيه المسيحيون قواعد العيش المشترك المبنية على احترام الآخرين"، على قول الراوية. وهما يلتقيان على تعريف "المسيحية – اللبنانية"، واللبنانية الميثاقية والوطنية تالياً، تعريفاً واحداً. وركن التعريف هو الحقوق الشخصية والفردية أو بعض هذه الحقوق: الحق في حرية التفكير والضمير والدين وحرية الرأي والتعبير، والحق في "حيز الفضاء الدنيوي والخاص والزمني"، وفي احترام مشاعر أهل الجماعات كلها وعاداتها و "حقوقها" ما لم "تخدش الحياء ولا الذوق العام". والحقوق "اللبنانية" أو "الميثاقية" التي يحصيها الصحافيان، في ضوء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ام في ضوء "ولدنا وعشنا في بلد أرسى فيه المسيحيون قواعد..."، يطرحان منها حقوقاً كثيرة أخرى مثل الحق في الحياة والأمن والملكية (أي الملك) والإقامة والانتقال أو الحق "في الجمعية"، أي العمل القائم على الشراكة أو الشركة ("أسوسياسيون" أو "أسوسييْشن") الاعتقادية والفكرية والحزبية والنقابية المصلحية والخيرية والجمالية الذوقية... وفي الباب الأخير يدخل اختيار الطعام والشراب واللباس.
والكلام على "حيز الفضاء الدنيوي والخاص والزمني"، حين تفصل بنود الخبر في سياق المقال، أو في سوق الخبر، يقتصر على "الخاص"، ولا يستبقي من الدنيوي والزمني إلا اللفظتين الخاليتين من الحقوق التي تملأهما، وهي ما أحصت بعضه الفقرة السابقة. وعلى هذا، فالحقوق "الميثاقية" التي يرفع الصحافيان "المسيحيان" (وهما يحتجان لرأيهما في "الشرطة" ولخشيتهما سطوتهم المحتملة على المأكل والمشرب والملبس وربما الاعتقاد، بالميثاقية على وجهها المسيحي)، هذه الحقوق هي حقوق خاصة أو فردية في دائرة المعاملات أو "الحسبة" العامة والمشتركة. وإليها يسندان الهوية الوطنية أو "البلدية"، إذا حملت عبارة "في هذا البلد" على محمل الجد، على ما دعا دومينيك شوفالييه في مستهل كتابه في "مجتمع جبل لبنان". وهذه الهوية البلدية أو الوطنية، على معنى الوطن أو الموطن والديرة والمنازل، ليبرالية فردية وخصوصية. وهي تخلو من الحقوق والحريات السياسية، ومن الحقوق والحريات الاجتماعية (الملكية والإقامة والانتقال والشركة...) التي تفترض اجتماعاً سياسياً ركنه مواطنون أحرار متساوون يؤلفون شعباً ودولة و "أمة" في كنف سيادة.
فما يعرِّف به الصحافيان "المسيحيان" لبنانهما، ولبنان أصحابهم وأهل عصبيتهم وغرضيتهم وحلفائهم، هو حرية الأكل والشرب والتدخين وبث مسلسلات متلفزة تصنعها إدارات فنية في سوريا وإيران وتناقش معتقدات الجماعات الدينية الأخرى. وقد يترفع تلفزيون البلد المنتج عن بثها أو يحرجه بثها، على ما أصاب "الشتات" (السوري)، فندب تلفزيون "المنار" نفسَه الى بث المسلسل في الداخل وإلى الجاليات. وأنا لا أزعم أن اختيار المرء مأكله ومشربه وملبسه ومسلسله، من غير وصاية على رشده وإرادته ورأيه، ليس بشيء. ولكن التنبيه الى تقييد جماعات أهلية وعصبية الاختيار هذا، وتعمد حمل التقييد على جماعة مذهبية دون جماعة، والطعن في محاباة الكنيسة المارونية التقييد وانحيازها الى أصحابه، وقصر الحقوق والحريات على الخصوصية منها وحبس القلم عن إحصاء المزعج منها (والخوف من كتابة "الكوميديا الإلهية" ونسيان سلمان رشدي وطريق المطار و "تماثيله" الخشبية واستقبالاته المسلحة من قبل ومن بعد...) – هذا ومثله يشي بمذهب "الموالي" في السياسة. وقوامه هو قصر الهوية الوطنية على بعض شارات الحقوق الشخصية والخاصة، والنزول طوعاً عن الحقوق والحريات السياسية والسيادية الوطنية إلى رأس "السلطنة" وأجهزتها.
ففي عدد صحيفة "النهار" الصادر في 24 آب، وهو اليوم الذي اختبرت فيه الصحافية المفجوعة حرمانها من حرية شرب النبيذ الساعة الثامنة مساء في "غوردونز كافيه"، كتبت هي نفسها مقالاً "سياسياً"، على مثال راج مع أوائل الحروب الملبننة حين تحولت الأخبار والتعليقات مراسلات ورسائل مواربة من مضافات "القيادات" ومجالسها، عنونته المعلقة: "الحريري لم يلبِّ بعد تعهدات قمة دمشق". ويصدر هذا الضرب من "التحليل" عن حلول المحلل المفترض تدريجاً محل مصادره، وهي أحزاب وقوى وجماعات وتيارات، وكلامه أو نطقه باسمها، ومحاكاتها خطابتها (إنكاراً وطعناً وتهديداً في معظم الأحيان). فسرعان ما تخلص المعلقة المفترضة من ملاحظة "مسلمة بدا فريقا الأكثرية والمعارضة يتعاملان معها على قاعدة تمرير الوقت"، الى نقل رأي "أوساط مطلعة في المعارضة". وأحد زملائها يسمي "الأوساط" "دوائر القرار"، فتنتفخ أوداجه زهواً. ويتلاشى النقل والإسناد إلى مصدر "معارض". ويتولى الكلام والرأي "صوت" يمزج المصدر المعين أو وجهة النظر الجزئية، باستنتاج ينتهي الى تقرير واقعة لا جدال فيها: "فتعهد الحريري ان دم والده لن يكون سبب فتنة في لبنان لم يترجم بعد عملياً على أرض الواقع".
وتمضي المعلقة على المزج التقريري والجازم في صدق الخبر وفي ضرورة مترتباته "الفولاذية" (والصفة لزميل المحللة) معاً: "ودفتر الشروط الذي أملته قمة دمشق لا يعني التهدئة للتهدئة، بل التهدئة الإعلامية مصحوبة بخطوات عملية على الأرض، لا بعبارات مبطنة خلال الإفطارات توحي بأن وراء الأكمة ما وراءها". وينبغي ألا يشك القارئ في مواد ما تسميه المعلقة المراسلة والمحدثة، "دفتر شروط"، أي "أوامر"، على حكومة لبنان الميثاقية. وينبغي ألا يتردد في هوية من يصدر الأوامر، ويشترط الشروط المذلة على "شعب" الموالي، ويتحمل المسؤولية عن الإخلال بها وإثارة "الفتنة". وتجزم المعلقة، من غير سند صاحب رأي يجتهد في المسألة، ان الحريري "حتى الآن لم يلبِّ... ما هو مطلوب من القمة الدمشقية الثنائية". وتلتوي العبارة في هذا الموضع من بسطها تقريرها وأحكامها. فالمعلقة تريد إفهام القارئ ان رئيس الوزراء اللبناني لم يصدع بما يقول "حزب الله" (وهو "المعارضة") ان القمة، نيابة عن "المعارضة"، أمرت الحكومة اللبنانية الامتثال له على وجه السرعة. و "المعارضة" رضيت، على قول المحدثة عن ثقة، "على مضض" تكليف وزير العدل إبداء الرأي فيما تسميه بعض الأوساط "ملف شهود الزور". ووزير العدل هذا غير جدير بالمهمة. وهو "أكد... عدم معرفته بعدد من النقاط المتعلقة بملف التحقيق كقضية زهير الصديق وأسماء الشهود وعدم صلاحية المحكمة البحث في ملف شهود الزور". ومعنى "عدم المعرفة" بزهير الصديق والأسماء الأخرى، على غموضه، قد يكون مفهوماً، أما عطف "عدم صلاحية المحكمة" على "عدم المعرفة" فإعدام صريح لأداء المعاني ومباني الأداء. وهي تعلل القبول بالوزير بمكسب سيادي عظيم: فالمعارضة "كسرت المحظورات بفتح الملف الذي طالما رفض".
وتدلي المعلقة بدلوها، وهو ودلو أصحابها ومحدثيها الثقات واحد، في "شهود الزور". فتتخطى "التحقيقات"، على رغم أنها في حوزة لجنة التحقيق وحدها ولم يفلح مدير عام الأمن العام السابق بعد في الاطلاع عليها، وتتخطى "تداعياتها" على التحقيق (ربما)، والاغتيالَ نفسه و "توجيهَ الاتهامات عشوائياً"، تتخطى هذه إلى... ماذا؟ الى ما هو أفظع من الاغتيال، وانتهاك كيان الدولة والمواطنين، والطعن في مبنى السياسة والسيادة: "الى إيجاد مناخ ضاغط منذ عام 2005 تسبب بسوء العلاقة مع سوريا، إلى انتخابات نيابية...". ومعالجة هذا هي برنامج "المعارضة"، على ما أعلن جميل السيد ومستقبلوه وكتابه ونوابه ومواليه. وتندد "المعارضة"، ومراسلتها المعلقة، بـ "لغتي" الرياض في المحكمة: "واحدة عبر الحوار مع سوريا، وثانية عبر تمويل المحكمة". ويقود هذا الى بشرى تزفها المعلقة الى قراء الصحيفة: "... ستكون المعارضة حكماً في حل من كل التعهدات".

قلم "الدولة"

و "المحللة" المحدثة عن أصحاب دفاتر الشروط، وتوقعاتهم وحساباتهم وآلات قوتهم و "فوضاهم" وآرائهم في الحكومة والقوانين والقتل والقضاء والعلاقات بين الدول، والمنتضية سيوفهم والملوحة والمخوِّفة بها، هي نفسها (مع لفيفها العصبي العريض) استظهرت، في اليوم التالي، بـ "البلد" الذي يحترم حرية المأكل والمشرب، واحتجت به على "الشرطة" الذين حرموها الشراب في "غوردونز كافيه" من أعمال "لوغراي" في أثناء إفطار من إفطارات رمضان. وعلى المثال نفسه، استظهر معلق "الأخبار" بالميثاق ومقدمة الدستور وشرعة حقوق الإنسان على الكنيسة المارونية وحلفها مع "المطاوعة" على إلغاء "الحيز الخاص". ومن قبيل المصادفات المحض أن معلق الصحيفة هو من أوائل من أذاعوا، في خطابة التهديد و "التحليل" نفسها، ما "تنتظره دمشق" من رئيس الوزراء اللبناني. فنظير "الحيز الخاص"، والحاجات الفردية المنقطعة من التدبير المشترك الذي يفترض مواطنين، "ينزل" أصحاب الهوية البلدية والليبرالية، على غير مضض، عن الحقوق السياسية التي تتوج الحريات والحقوق والإرادات والعمومية المشتركة معاً. ونظير الطعام والشراب في "غوردونز كافيه"، أو ترك اللوحات الإعلانية، لا غضاضة في السطو المسلح والقسري على شرايين المواصلات في لبنان كله. وعلى قلب بيروت "التجاري" والسياسي والإداري والاجتماعي والثقافي.
وهذا نزول عن السياسة، وتخلٍ عنها، والنزول هذا هو سمة "أخلاق" المولى والتابع الفارقة. ويقضي عقد الولاء السلطاني، والانتساب الى عصبية الدولة الغالبة على الولايات الأهلية والبلدية، يقضي بتجريد المتعاقدين على الولاء من "سلاحهم"، وندب أهل العصبية الغالبة والمستولية الى الدفاع عنهم، لقاء فريضة (أو "فردة") يؤدونها. فهم يُحملون حملاً على التجرد من السلاح، وهو ركن الشركة السياسية في مجمع الفتوح السلطاني، ويلزمون أداة الرسم عن تجريدهم و "تخليهم". وإلى اليوم، "يناقش" إخوانيو مصر حق المصري القبطي (أو المرأة المنزوعة السلاح) في رئاسة الجمهورية، وفي الولايات العامة، ويحتجون لإنكار الحق بترك السلاح، أو العجز عن حمله. فتُقصر، بناء على الأصل هذا، "المواطنية" على الهوية البلدية أو الاجتماعية الأهلية والشخصية، وعلى "حريات" المأكل والمشرب والملبس خارج الدائرة العامة والمشتركة وعلانيتها. فينبغي أن تحفظ الدائرة هذه "آثار" الحرب والتغلب والسلطان، على معنى القوة المعملة، فيما يحل أكله وشربه أو ينهى عن أكله وشربه. فينشأ عن تمييز الدائرتين، الخاصة الأهلية و "الاجتماعية" والعامة السلطانية والمختلطة، الواحدة من الأخرى، "مجتمع" حاجات وتدبير على حدة من السلطان. ويتربع في سدة القوة والسلاح والأمر أهل القوة الخاوي الوفاض واليد من التدبير، ومن فهم الحاجات واحتسابها. ويؤدي هذا الى "حريات كثيرة" و "قليل من الديموقراطية"، على قول سليم الحص المنحاز الى العدوان على الحريات والديموقراطية معاً. وهذا قد يحملهم على اجتياح الطرق وقطعها، واحتلال الساحات عنوة، ومحاصرة مراتب التدبير، من غير حرج.
وعلة "الاستثناء" اللبناني في "هذا الشرق" الى اليوم، هي كسر موارنة الشمال ثم جبل المتاولة فجبل الدروز فجبل لبنان، القسمة الحربية والاجتماعية السلطانية، وإيجابهم مجتمعاً غير منزوع "السلاح". فلا تقتصر حرياته وحقوقه على الانكفاء على حاراته وعاداتها والالتحاق بعصبية السلطان، بل تتخطى هذا وذاك الى الشركة في الأمر والتدبير والمداولة والولاية، واحتساب الشركة على الحصة في المصالح وفي الموارد على أنواعها، والحرث والنسل والعلاقات بالخارج وعوالمه. والقيام بكسر القسمة السلطانية حمل ثقيل ومرهق. وجددت ثقله سلطنات الاستيلاء العصبية والمحدثة، والحركات السياسية والأهلية الانقلابية والمدججة بآلات الاستيلاء والإناخة على الصدور والعقول والألسنة. فيذهب شطر من الذين ينوؤون بالحمل الثقيل الى طلب "العودة" الى عقد الولاء، والاقتصار على "المنازعة على المحل الثاني" في السلطنة، على قول فرنسوا زبال قبل أربعة عقود، أو على المشورة والإدارة الإنفاذية من غير "سلاح" ولا سياسة ولا مواطنة، في رحاب "حيز خاص" منتشٍ بـ "حرياته".

الأربعاء، 8 سبتمبر 2010

"الدراسات ما بعد الكولونيالية" على محك المجتمعات المستعمرة وتواريخها

الاستغراق في مرايا الهوية وافتراض الانقطاع والاختلاف... يحولان دون تواريخ الأفعال والمباني
المستقبل، 5/9/2010
بينما تنسب تيارات سياسية واجتماعية عريضة إنجازاتها و "معجزاتها"، على قول علي أكبر هاشمي رفسنجاني، من "انتفاضات" وحركات "تحرر" و "تحرير" و "مقاومات" و "ممانعات" واستقلالات الى نفسها، أي إلى "تاريخها" و "تراثها" و "أنسابها" و "سلفها" و "دينها" – تنسب إخفاقاتها وكبواتها ونبواتها وعثراتها، إذا أقرت بها، الى الاستعمار، ومخارج حروفه السود كلها. والاستعمار هذا، شأن الهوية، أي النفس على المعاني التي تقدم للتو إحصاء بعضها (التاريخ والتراث والأنساب...)، كيان ثابت لا يحول من حال الى حال، ولا يؤرخ، شأن الشر، ولا تزول آثاره ولا تمحى ولا تبيد. وكل عثرة من العثرات هي أمارة على انبعاثه. والعثرة العَلَم هي انقسام "النفس"، وتصدع وحدتها البديعة، وتذررها (عصبيات) مذاهب وفرق وطوائف وبلاد وعشائر وطبقات وأوطان وأحزاب وتناقضات و "تناقضات" بين هذه جميعاً. ولا يحدس أثر الاستعمار، نحو سبعين عاماً بعد جلائه المادي عن بلاد عربية كثيرة، على نحو ما يحدس في "الاقتتال الأهلي". ولا يحمل أمر على الأجنبي، وعلى ما ليس من شيم النفس ودواخلها وعاداتها، على نحو وقدر ما يحمل الاقتتال الداخلي، وانقسام الأهل على أنفسهم.
وعندما ترامى الى أسماع الجمهور و "العلماء" أن ثمة، في بلاد الاستعمار والإمبريالية، من يحمل النفس المقتتلة والمنقسمة على نتاج الاستعمار والإمبريالية، وفعلهما اللئيم والكريه، حتى انقشعت الغمة عن الصدور والعقول. وقر فيها، أو في شطر منها، أن معالجة الأمر ومداواته الناجعة تقتضي شق النفس على نفسها، وتطهيرها من شقها الموبوء والمصنوع بيد الاستعمار، واستخلاص نفس من صنع داخلي خالص. ويدعو هذا، بديهة، إلى قتال "العدو القريب"، ظل العدو البعيد والصارخ العداوة. ولا ينتهي القول إلى أن أسامة بن لادن قرأ "استشراق" إدوارد سعيد الفلسطيني – الأميركي، وأحد أقطاب "الدراسات ما بعد الكولونيالية"، ولا إلى أن مناقشات الإخوانيين المصريين، وقبلهم السوريين والفلسطينيين، وقبلهم جميعاً المقالات القومية المشرقية تدين للجامعي الفلسطيني ببعض شفرات سلاحها أو احتجاجها أو مقالاتها.
ولكن القول يصل بعض كتابات الجامعي الفلسطيني – الأميركي وأقرانه الكثر بحركات دعوات سابقة تحدرت منها منظمات ومبادرات وأعمال تملأ "الساحات" العربية والإسلامية قتلاً ودعاوى وتعبئة، وتمعن في الناس تقطيعاً، وفي الأذهان والألسنة التواءً واعوجاجاً.
والحق أن الرسم هذا، وهو رسم اجتماع و "سياسة" ومقالات أو "أفكار"، كان ركناً من أركان "النهضة" الضعيفة التي ولدت في أحضان التوسع الاستعماري الغربي المباشر، ونزاع الامبراطوريات. واستعارت "النهضة" المفترضة رسومها من مباني القرابة والديانة الغالبة، ومن ثقافتيهما. ولا يزال وارثو "النهضة"، ومن يخالون أنفسهم "ابناء" أو "أولاد رفعت" (أو رفعة رافع الطهطاوي) على قول صحافي فرنسي معاصر، على "نقد" إرثهم الأعجف و "تفكيكه" و "تأريخه". وهم يتوقعون انقلاب تراب التراث وغباره تبراً تنويرياً، فيجمع ذهب الأصالة العريقة الى أنوار الحداثة والمعاصرة. وما يتبدد، في الأثناء، هو تاريخ الأفعال وما يصل بين ما يُخال تراثاً، وهو مولود في ثنايا الأفعال ومبانيها، وبين وقت الفعل أو أوقاته. وبينما يبدي "النقد"، أو "التفكيك" و "التأريخ"، ويعيد في نقد النقد وتفكيك التفكيك، لا إلى غاية، "يتواضع" باحثون غربيون منذ عقود، ويتدارسون الأفعال ومبانيها، وصرفها ونحوها وأنسابها، في مواضع بعينها، وأوقات دون أوقات. ومن هؤلاء جان – فرنسوا بايار، الفرنسي. وآخر أعماله جردة في "الدراسات ما بعد الكولونيالية" (منشورات كارتالا، باريس 2010). وهو يراها "كارنفالاً أكاديمياً"، على قول عنوان عمله الفرعي.

الصدع والعصبية

فغلبة فكرة "التراث الكولونيالي" على وجوه من الثقافة (الفرنسية) قادت بعض الباحثين في الاجتماعيات والمؤرخين إلى فحص الانقسام الاجتماعي، أو "الصدع الاجتماعي" الداخلي، في ضوء "الصدع الكولونيالي" وصوره السياسية والعسكرية والاجتماعية والثقافة الحادة والعنيفة. وافترض المؤرخون هؤلاء دوام الصدع واتصاله من دائرة المستعمرات الى دوائر العلاقات داخل الحواضر، أو الدول – الأمم المستعمرة، ومن الزمن الاستعماري الى الحاضر والزمن المعاصر، "ما بعد الاستعماري" أو الكولونيالي. وانتخب الباحثون والمؤرخون، ومعهم ناشطون مناضلون، جاليات المهاجرين العرب والأفريقيين، من دون المهاجرين الآسيويين، موضوعاً يحقق فكرة الاتصال. ولا شك في ان اضطرابات الضواحي وأحزمة المدن الكبيرة، في 2005، جددت الموضوع وأحيته، وعرضته على الأنظار والملاحظة.
ويمتحن أصحاب "الدراسات ما بعد الكولونيالية"، على ما يسميها الجامعيون الأميركيون، التاريخ الوطني في ضوء التجربة الاستعمارية وصدعها، فيذهبون الى أن الجمهورية، وحريتها ومساواتها، زعم في زعم وكذب ودعوى. فهي تشمل عموم البشر، وتنصب العموم، أو الجامع العام، ميزاناً على سبيل التمويه، آن تفرقهم مراتب وطبقات، وتعلي بعضهم فوق بعض، وتسلط بعضهم على بعض. وتسوغ الأمرين، العلو والتسلط، بمنطق "استعماري"، استئصالي وعنصري. ويتسع "التعليل" الى تظاهرات الكليانية الأوروبية. فينسب النازية، وفرعها البيتاني (نسبة الى المارشال بيتان) في فيشي، عاصمة الحكومة الفرنسية المتعاونة مع الاحتلال الألماني الهتلري في الحرب الثانية، الى السيطرة على المستعمرات، وإدارة المستعمرات والداخل معاً.
وتتصل "الدراسات ما بعد الكولونيالية" بحركات الجماعات المقهورة التي عرَّفت نفسها وأحوالها بقهرها، شأن النساء والمثليين والمتحولين والأقليات القومية (الإثنية). وتضرب هذه الحركات بجذورها القريبة في العولمة المعاصرة واختباراتها السياسية والاجتماعية، وفي ماضيها الاستعماري المباشر أو الأبعد. ومن وقائع الماضي الاستعماري التي خلفت آثاراً عميقة في أحوال المستعمرين، وأولادهم، "عقود العمل" الشبيهة بالسخرة والرق في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وتجارة الرقيق الأطلسية (من دون تجارة الرقيق الشرقية في المحيط الهادئ، من وادي النيل والصحراء، وكان تجارها من العرب). ومن وقائع هذا الماضي المعاصرة، وهي تتمة الماضي الماثلة، جاليات المهاجرين وشتاتهم وائتلافهم في مجتمع مدني عالمي، أو "اممي" مفترض.
ويدفع أحد أعلام "الفكر ما بعد الكولونيالي"، أشيل ميمبه الكامروني،على رغم تحفظه عن تماسك الفكر هذا، تهمة العصبية على أوروبا أو مناوأتها. ويحمل ولادة "ما بعد الكولونيالية"، وعموميتها العامة والجامعة، على التقاء أوروبا بالعوالم التي كانت، في أيام خالية، ممتلكاتها وفتوحها، وعلى تجارب الشتات الهندية والافريقية والكاريبية، الى المداولات والمنتديات والمناقشات الثقافية في الجامعة الغربية على وجه الخصوص. ولكن المنزع العمومي والكوني غالباً (وسرعان) ما يسفر عن مقالات مدارها على الهوية. وعلى هذا، فقد تتماسك "الدراسات ما بعد الكولونيالية" أولاً بتهمة من لا يماشونها أو يوالونها، والإنكار عليهم. والحق ان فرص التهمة والإنكار وذرائعهما تتكاثر على قدر تكاثر موضوعات الدراسات واستحداثها. فهي تجند في موضوعاتها ومقهوريها الفلسطينيين، ضحايا القهر الاستعماري الصهيوني أو التمييز والفصل العنصريين، والعمال الأتراك في ألمانيا، وأقوام امبراطورية آل هابسبورغ النمساوية. ولا يدعوها الى التحفظ إشكال "الاستعمار" الإسرائيلي المفترض وملابسته حركة قومية ووطنية تاريخية، ولا مغالطة إدخال تركيا في البلدان المستعمَرة وهي لم تستعمَر يوماً، ولا صفة "الحيازات" النمساوية وقربها من الشراكة – على خلاف الممتلكات الألمانية الامبراطورية ثم النازية والفتوح العثمانية.
وعلى منوال تقريب موضوعات ومسائل متباعدة وخلط بعضها ببعض وتوحيدها في باب مشترك، تتناول "الدراسات ما بعد الكولونيالية" المجتمع الفرنسي في سياقة تناولها ضواحي بعض مدنه. فـ "تدينه" بالإقامة على سمات استعمارية تكوينية، وتندد بقهره وعنفه وإنكاره حقوقاً أقرتها قوانينه. ولكنها تخرج الضواحي من "المجتمع الفرنسي" ونطاقه، وتخصها، وتخص أهلها ومهاجريها بسمات ودواع ورسوم تميزهم وحدهم دون الجماعات الأخرى. وتتناول "الطبقة السياسية الفرنسية" على مثال واحد ومتماسك، وهي شتيت، ولا يجمعها رأي ولا مذهب في مسائل الضواحي والمهاجرين والإدارة المحلية و "الهوية" والتاريخ الوطنيين. وتنحي "الدراسات" العتيدة، على الجامعة، والتعليم العالي الجامعي، باللائمة، مغفلة منازعاتها الداخلية وكثرة مللها ونحلها في المسائل هذه، وفي غيرها.

الامبراطورية الدولة – الأمة

ولعل جِدَّة "الدراسات ما بعد الاستعمارية"، الأميركية والبريطانية في المرتبة الأولى، هي ربطها القهر الاستعماري بصور القهر والسيطرة في مضامير أخرى مثل "النوع" (الجنسي) على وجه الخصوص. واستظهرت، في صنيعها هذا، بأعمال أصحاب "النظرية الفرنسية" أو "فرنش ثيوري"، على ما يسميها الكتّاب والمدرّسون الأميركيون. ويلاحظ بعض الدارسين ان أعمال أصحاب "النظرية الفرنسية" أغفلت عامل الامبراطورية، أو السلطنة، ومثالها السياسي (على خلاف مثال الدولة – الأمة وإطارها التاريخي الأوروبي)، في دراساتها ومن دراساتها. وتناول كتّاب ودارسون – من أمثال فرانتزفانون وأوكتاف مانوني وجان – بول سارتر الى افريقيين – "فرنسيين" في مقدمهم إيميه سيزير المارتينيكي وسنغور السنغالي – الوجه الامبراطوري من نظام السيطرة السياسي والعسكري والاجتماعي. وعلى هذا، فزعم بعض أصحاب "الدراسات ما بعد الاستعمارية" الجدة والابتداء في هذا المضمار دعوى يعوزها السند. وكانت حنة أراندت البادئة في حمل الكُلِّيانية (الشمولية) على علل ومصادر ليست الامبريالية أضعفها شأناً ولا أقلها دلالة. وذهبت الفرنسية سيمون فاي، في أثناء الحرب الثانية، الى ان الهتلرية هي ثمرة أو صورة إعمال مناهج الفتح والاستيلاء "الكولونيالية" في حكم القارة الأوروبية والبلدان التي يأهلها السكان البيض.
ولا يترتب على الملاحظة لا إنكار إسهام بعض "الدراسات" في جلاء وجوه من السيطرة الاستعمارية على المستعمرات، قبل تحررها واستقلالها وبعدهما، ولا إغفال دور التاريخ الاستعماري في بلورة بعض سمات العالم المعاصر في "الحواضر" و "الأطراف" المعولمة جميعاً. ويدعو الإقرار الى فحص المقالات "ما بعد الاستعمارية" في واقعة الاستيلاء والتسلط والإدارة الكولونيالية العريضة، وروابط الواقعة بتواريخ الدول المستعمِرة الفاتحة ومجتمعاتها، وبتواريخ بلدان الفتوحات ومجتمعاتها، من ناحية، وفي علاقة عالم اليوم المعولم بالواقعة الاستعمارية ودورها في العولمة، من ناحية أخرى. ولعل أثمن ما في هذه الدراسات تناولها أحوال المستعمرات (السابقة) على وجه الهيمنة والغلبة، وتنبُّهها على فخ مفهومات تدير ظهرها للتاريخ، شأن مفهوم "المجتمع المدني"، ودعوتها الى اعتبار مكانة "تاريخ الأمة". وحملت هذه، أي التناول والتنبه والدعوة مؤرخين كثيرين "جدداً" على فحص التواريخ القومية والغائية (الموجَّهة صوب غايات) التي صبغت تناول سقوط السلطنة العثمانية والامبراطوريات النمساوية والروسية والكولونيالية (البريطانية والفرنسية والبلجيكية والهولندية)، و (حملتهم) على اطراح أو نقد الروايات القومية والغائية هذه.
فأبرزت أعمال متفرقة اتصال الدولة – الأمة، ورسومها وهيئاتها، بالامبراطورية اتصالاً وثيقاً. وليس جائزاً، على هذا، فك مسألة الهيمنة في المستعمرات من مسألة صيغ الهيمنة الامبريالية في الحواضر. وأثبت المؤرخون، ومعظمهم لا يدين لـ "الدراسات" العتيدة بدين يذكر، أن "السلطنتين" العثمانية والنمساوية – المجرية، والامبراطوريات الكولونيالية، انهارت وقضت جراء هزيمة عسكرية أو أزمة مالية ضريبية، واضطلعت العوامل الخارجية أو الظرفية في انهيارها بدور يفوق خطره خطر الحركات الوطنية والقومية الداخلية. وينبه هذا الى المبالغات الذاتية والنرجسية التي لا تمنع الحركات هذه، أو "ولائدها" ومخلفاتها، نفسها منها، بل تماشيها وتسايرها وتغلو فيها. ومنذ خمسينات القرن العشرين، درست دوريات بريطانية وأميركية رائدة قيام أصحاب حركات الاحتجاج بأنفسهم، وابتكارهم معايير عمل ومناهج فعل وثقافة أخرجتهم من وصاية أهل القوة وولايتهم. وكان عمل إدوارد تومبسون "نشوء الطبقة العاملة البريطانية" (1963) علماً على نهج الدراسات هذا. وسبق النهج بعقود دراسات أحوال "الضعفاء" والموالي التابعين من أهل الاستتباع (على الضد من أهل السلطان).
وتنزع "الدراسات ما بعد الكولونيالية" في هذا المعرض الى إغفال الأعمال والأفعال ووجوه الصنيع المتفرقة، وهذه تقتضي التقصي وفحص الأرشيف، وتميل إلى تعظيم مكانة المقالات والتصورات والتعقيب التأويلي المرسل عليها. ويقود الإغفال، من وجه آخر، أصحاب "الدراسات ما بعد الكولونيالية" الى نصب مفهوم "الهوية" صنماً وجودياً وجوهرياً يحجر أحوال المجتمعات المتحدرة من البلدان المستعمَرة ماضياً. فتتصور المستعمَرة والعبودية في صورة مصير المستعمَر و "سيده" المحتوم. ويفضي هذا بدوره الى صبغ المسألة الاجتماعية بصبغة مصيرية محتومة. فيذوَّب النزاع الاجتماعي، "الطبقي" على صور مخصوصة، في "العنصرية" المفترضة والمباشرة. وهذه سبق ان اختصرت "الدراسات" العلاقات الاجتماعية والسياسية، في الحواضر، فيها من غير بقية. ولا يسعف التذويب المزدوج في إخراج مسألة الرق أو العبودية من النطاق القومي الغالي وتحريفه المغرض، وفحصها في ضوء علاقات الاسترقاق الاجتماعية داخل المجتمعات التي فشا فيها الرق، شأن مجتمعات جنوب الصحراء الافريقية. فتقتصر معالجة مسألة الرق وتجارته على التنديد بالغرب، والطعن فيه، وتبرئة الداخل إلا من الانقياد للغرب و "العمالة" له.

الأقنعة الاستعمارية

فتنتفي الصفة التاريخية من العلاقات السياسية والاجتماعية، على وجهيها الخارجي (الحواضر) والداخلي (المستعمرات). وتتحجر على ماهيات جوهرية وثابتة لا يطرأ عليها تغيير، ولا تعمل فيها حوادث، ولا معنى لها غير المعنى المتنزل من مثالاتها. وعلى هذا، فليس الانقلاب او الانتقال من الطور الاستعماري الى الطور الذي خلفه وطواه انقلاباً، ولا انتقالاً "في" زمن ووقت أو حادثة. فالسيطرة والقهر على حالهما. وربما لم تبق المستعمرات وحدها مسرحهما. فكثرت مسارح وخشبات "حبكة" واحدة يعييها تبديل أقنعتها. وهذا ناجم عن حمل الواقعة أو الحال الكولونيالية ("الغربية") على فرادة لا تشاطرها إياها صور السيطرة الامبريالية الأخرى. فتعطل الفرادة المفترضة المقارنات الجائزة، وتبطلها قبل محاولتها أو المباشرة فيها. والحق أنه لا سبيل الى تدبر الواقعة الكولونيالية إلا من طريق إدراجها في جملة الوقائع الامبراطورية المتفرقة، ومقارنتها بها من غير تخصيص وإفراد يسدان الطريق على إحاطة جامعة بالوقائع جميعاً.
و "الدراسات ما بعد الكولونيالية" تسكت عن الفروق بين مستعمرات الاستيطان ومستعمرات الرق وضروب أخرى من المستعمرات. فلا يستعمَر الواحد (والواحدة) في مستعمرات البحر الكاريبي، أو في الهند، على نحو ثابت ولا يحول من الاستعمار. وهو ليس "ما بعد مستعمَر" على النحو نفسه. وقد تؤدي الظروف والملابسات الى خلط "دولة الفتح"، العنيفة تعريفاً واضطراراً، بـ "الدولة الكولونيالية" المستتبة والمستقرة و "المعقلنة"، وإلى دمج الاحتلال الأول بالاحتلال الثاني الذي تغلب عليه دواع وموجبات اقتصادية وإدارية و "أخلاقية". ويحصي بعض الدارسين ستة كيانات حقوقية وقانونية في "الاتحاد الفرنسي" غداة الحرب الثانية، تكاد أحوالها لا تتقاسم قاسماً مشتركاً. فأقاليم أو أراضي ما وراء البحار يأهلها رعايا "ارتقى" بعضهم الى مرتبة خولتهم المواطنية. والجزائر كانت جزءاً لا يتجزأ من الجمهورية، معظم أهلها الجزائريين المسلمين رعايا. ومراكش أو المغرب، شأن تونس والشطر الأعظم من الهند الصينية، كانت محميات تتمتع بالسيادة وأهاليها رعايا. وأوكلت عصبة الأمم الى فرنسا انتداباً على بلدان مشرقية. وتباين أحوال الكيانات والبلدان هذه هو ركن من أركان المنازعات الراهنة التي تضطرب في جماعات "الفرنسيين الجدد"، على ما يسمون في بعض الأحيان.
وعلى نحو ما يغضي أصحاب "الدراسات ما بعد الكولونيالية" عن الفروق بين أحوال الكيانات المستعمَرة وفي أحوالها، يُغضون كذلك عن اختلاف أحوال الرق والرقيق، وعن تعسف إدراجها في باب واحد. وينسون أنموذجاً من الإمبرياليات هو الإمبريالية الليبرالية البريطانية في الممتلكات المأهولة بالبيض في جنوب افريقيا وروديسيا، وفي أوستراليا وبعض أوروبا (إيرلندا وقبرص). واختبرت دول – أمم لاتينية أميركية حالاً لم تقتضِ الاحتلال العسكري، ولا السيطرة الإدارية المباشرة. ولكن هيمنة السوق الحرة على الحياة العامة، وعلى الدولة، في هذه "الممتلكات"، أوكلت تصريف شؤونها وأحوالها الى السوق على نحو قريب من تصريف الاحتلال شؤون بلد محتل ومستعمر. وأدارت السلطنة العثمانية بعض ولاياتها العربية على مثال لا يبعد كثيراً من إدارتها الأناضول، وهو ركيزتها الإقليمية. وبرزت قسمات امبريالية هندية في إطار امبراطورية الهند البريطانية نفسها. وفي كيبيك باشر الإيرلنديون والاسكتلنديون، والجماعتان شطران من المملكة المتحدة وامبراطوريتها "الأصلية"، ضرباً من السيطرة الكولونيالية الفرعية. ولا ريب في أن اندونيسيا في تيمور الشرقية، وبابوآسيا، واليوم زيمبابوي ورواندا وأوغندا في الكونغو، تبتكر صوراً من السيطرة الكولونيالية جديدة، وينبغي إحصاؤها في ثبت أشكال هذه السيطرة وفهرسها.
ويحول إغفال التجربة العثمانية بين "الدراسات ما بعد الكولونيالية" وبين تناول مسائل ذات دلالات "طريفة". فالسيادة العثمانية على الممتلكات والولايات تنوعت وتباينت صورها بحسب الولايات. فنزلت الآستانة الى بعض الولايات عن استقلال ذاتي عريض ومتعاظم. ونزلت الى امبراطوريات منافسة عن حقوق سيادية وإدارية كثيرة. وبلغ التنازل هذا، على ما كانت حال مصر في شطر من القرن التاسع عشر، مبلغ "حق" في الاحتلال. ولم يمنع التصرف في "ديوان الخاص". والحق ان السلطنة العثمانية لم تجمع ممتلكاتها وولاياتها يوماً في إطار جسم اقتصادي ونقدي متصل ومندمج. فكانت، على قول محمود مامداني (محمداني) في "المواطن والرعية" (1996)، "استبداداً لامركزياً" في دولة "حد أدنى"، على ما في العبارات هذه من تدافع أو مفارقة. فالواقعة الإمبريالية العثمانية لا تنفك، في عصر "التنظيمات"، من تراكب الآماد أو الأوقات الامبريالية والإسلامية والأوروبية الغربية، والتباسها بعضها ببعض، على مثال أعمل فيه فرنان بروديل نهجه وطريقته.
وكان موزيس فينلي، صاحب الدراسات الهللينية، قَصَر "الاستعمار" على استيطان جماعة هي جزء أو فرع من حاضرة، أو مدينة أم، بالقوة والغصب أرضاً بجوار أقوام أخرى، وما عدا كينيا وروديسيا الجنوبية وأنغولا والجزائر، لم يكن اقتسام دول أوروبية كبيرة "استعمارياً". ولا يصدق القول في البندقية، على رغم سيطرتها الإدارية على ممتلكاتها ووكالاتها، انها "قوة استعمار" وافتقار الاستيطان اليهودي بفلسطين الى حاضرة يدعو الى النظر في معنى "الاستعمار الصهيوني".
ولم تُجمع القوى الاستعمارية، وهي لا تقتصر على الدول والجيوش والموظفين وتتعداها الى الكنائس والشركات التجارية وبعض الجمعيات الخاصة أو الأهلية، على نهج معاملة واحد مع "ثقافة" السكان المحليين او الوطنيين. فبعض الإرساليات الدينية أرادت حماية هذه "الثقافة"، وحين لم تقع أو تعثر عليها، لم تتردد في ابتكارها. وسعت تيارات استعمارية في رفع المحليين الى مصف "الإنسان"، وحملهم على تعرّف أنفسهم "بشراً". والتزمت المهمة أو العمل هذا ميزاناً زانت فيه إخفاقها ونجاحها. واستمال السعي هذا عدداً من المستعمَرين قد تكون إدانتهم السياسية مشروعة، ولكنها في منظور تاريخي من غير معنى. واليوم، تتبوأ الكرامة (أي معناها) مكانة عالية في سلم القيم الوطنية والإنسانية والسيادية الذي تسوغ به الحركات الاجتماعية والوطنية وحركات "الأقليات" والمهاجرين، مطاليبها وغاياتها. و "الكرامة" هذه تبعث، من وجه أول، معنى الشرف القديم التقليدي والمستمر على الزمن على النحو الذي يتناقله عليه "تراث" الجماعات الأهلية. وهي تستعير، من وجه ثانٍ، بعض معنى المثال الأخلاقي والمهني والنضالي الذي غلب على الوسط العمالي والسلك العسكري والجسم المدرسي. وإيديولوجية "المهمة الحضارية" هي كذلك أحد مصادر معنى "الكرامة" التي لوح بها جمهور الحركات الاستقلالية، ويلوح بها اليوم الأبناء والأحفاد في المهاجر الغربية، وفي المواطن الأولى. والوجوه الثلاثة هذه متفرقة ومتباينة من غير شك. ويراها دعاة "الكرامة" متضاربة ومتدافعة، ولكن هؤلاء الدعاة، والجمهور عموماً، يصدرون، هم ومقالاتهم، عن "طبقات" تاريخية تنطبع آثارها ومعانيها في المواقف والمعاني والكلمات.

التراث المصنوع

ويصدق في الاستشراق، وفي المقالات والمعارف التي دارت على "الشرق"، ما يلاحظ على معنى "الكرامة" وإعماله في سياسات الهوية والتحرر والمساواة وحركاتها. وما يغفل عنه "نقد" الاستشراق، وتغفل عنه نسبتُه الى "إنشاء" الشرق والشرقيين، هو تولي الحكومة على النمط الكولونيالي "صناعة التراث" أو "التقليد" المحلي، و "اختراعه" وإيجابه حيث لم يكن ثمة تراث، ولم تعمد النخب المحلية ومتعلموها ومدونوها الى تناول "الثقافة" التي تحدرت إليها على وجه تراث ومعناه (لاحقاً)، على ما ذهب إليه إريك هابسباون وتيرينس رانجير في كتابهما المشترك "صناعة التراث" (1983). وتضافر على الصناعة هذه، وعلى نصب ثمرتها "تراثاً صحيحاً" أو "كاملاً"، علماء الدولة الكولونيالية (الأوروبية) وأدباء الجماعات الأهلية وكتّابها وفقهاؤها. وندبت الإدارة الكولونيالية بعض النخب الأهلية إلى تولي وجوه ومراتب من التدبير المحلي في إطار "حكومة ذاتية"، على ما سميت من بعد. وأثمر التوليد والتهجين هذان ثماراً قوية تشهد الآرية بجنوب آسيا وإيران، عصبية وثقافة، على قوتها، على نحو ما تشهد العصبيات القومية (الإثنية) جنوب الصحراء الافريقية. والتراث المصنوع هذا، أو المبتكر، كان ذريعة الجماعات و "الأمم" والأقوام الى تجديد أفكارها ومعتقداتها الجامعة وتحديثها، وسُلَّمها إلى إنشاء بؤرها الذاتية والفردية.
ويتنازع "الدراسات ما بعد الكولونيالية"، على ما ذهب إليه فريدريك كوبر (1994)، نازعان لا يستقيم جمعهما: يحمل النازع الأول أهل الضعف والاستتباع على فاعلين ناجزين ومقتدرين وكاملي الولاية على أنفسهم. وعلى هذا، على أصحاب "الدراسات" الإقرار لأهل الضعف والاستتباع بالقوة على قلب السلطان الكولونيالي، وهو ركن استضعافهم واستتباعهم، وعلى تملك حداثته السياسية على الخصوص، والدولة – الأمة عَلَمها وقرينتها الظاهرة. والتملك يقتضي، على المعنى الذي ذهب إليه ماركس، التمثل المادي والجسدي للأعمال (والصنائع) الإنسانية وما يتبع التمثل والحيازة و "الابتلاع" من تحول من حال الى حالٍ غيرٍ (تغير) وأخرى. وعلى خلاف مترتبات الإقرار المفترض لأهل الضعف والاستتباع بالقوة والاقتدار والفاعلية، يقصر أصحاب "الدراسات" فعل هؤلاء على شعائر ألم ممض، وأعراض تمرد شعائري يتلاشى في مسرح رثائي ذاتي. وعلى طرف آخر، يذهل أصحاب "الدراسات" عن معاني المحاكاة الشائعة في صفوف المستعمَرين، ويحملونها كلها على صدوع مسلِّم بالغلبة. ويخفاهم التوسل بالمحاكاة والترديد الى ابتكار عبارات جديدة ومحدثة، مولَّدة، عن معانٍ مولودة من اختبارات راهنة. ولعل الرياضة أحد الأمثلة البارزة على "مفاوضة" الغلبة الكولونيالية، وعلى استدخالها وحرفها عن دورها ومكانتها الأولين، وإعمالها في سيرورات درامية، فردية وجماعية، غير تلك التي أوجبتها القوة الكولونيالية. وتفترض الرياضة، شأن "الكرامة"، مثالاً أخلاقياً سبق الدولة الكولونيالية، ولا تستوفي الدولة دلالته ومعانيه. ومن طريق الرياضة وعالميتها، يتخطى النزاع القديم إطار الثنائي الضيق والمقفل، ويشرك "قانون" العالم في التحكيم والقسمة الرمزية.
ويتطاول الخروج من الإطار الاثنيني، وقصره فعل المستعمَر
على رد منفعل ومحاكاة ببغائية، إلى إنشاء الدولة الكولونيالية نفسها، وهي التمثيل الحاد على سلطان الاستعمار وقهره، على زعم "الدراسات ما بعد الكولونيالية". فأبرزت عشرات الأبحاث والأعمال "الأفريقانية" أو الموضوعة على الافريقيات – وجان فرانسوا بايار باحث افريقاني درس الكاميرون اولاً – أن الدولة الكولونيالية نشأت جزئياً عن المستعمَرين ومبادراتهم وحركاتهم. وكانت مجتمعاتهم وأحوالها، قبل الاستعمار وفي اثناء الاستيلاء ومراحله، عاملاً في صوغ هذه الدولة على النحو الذي صيغت عليه، بمنأى من صنيع المستعمِر الفاتح وإرادته وسلطانه وخبرته، أو خارج هذا الصنيع وعلى حدة منه. وصدرت مبادرات المستعمَرين وحركاتهم عن دواعي مجتمعهم وبواعثه واحتياجاته وتأويلاته. والمجتمع هذا أقام طويلاً بعيداً من آلات القوة الكولونيالية وأدواتها، مستقلاً بنفسه وعلله وإوالياته. ووسعه، وقتاً طويلاً كذلك، التحكم في علاقاته بالدولة الكولونيالية. ولعل مجتمع المستعمَرين هذا، وهذه حاله، هو نواة تاريخ الدولة ما بعد الكولونيالية، ومَدَد هذا التاريخ. ويحول المجتمع ما قبل الكولونيالي، وحوادث استجابته مبادرات الدولة الكولونيالية وامتناعه من الاستجابة، يحول المجتمع وحوادثه أو تاريخه دون تعليق الدولة ما بعد الكولونيالية في فراغ تاريخ عدمي أو في "لا تاريخ" هو ثمرة جهد "الدراسات ما بعد الكولونيالية" وعماها عما تدعوها مقدماتها الى الإغضاء عنه والإشاحة.
وفي قلب ما أشاحت عنه "الدراسات" ويتصل اتصالاً وثيقاً بأطوار المجتمع المستعمَر – قبل الاستيلاء عليه، وفي أثناء الاستيلاء وغداة خروجه من السيطرة الكولونيالية – ثمة الدين وحقله. فالدين يتوسط روابط المجتمع الأهلي بالدولة الكولونيالية وبالدولة ما بعد الكولونيالية. ولاحظ الدارسون ان حركات النبوات الافريقية، شأن الكنائس المحلية الناشئة في كنف التبشير الأجنبي والطارئ، وعلى مثال شعائر التقرب من الغيب وتألفه، تستعير سمات كثيرة من العالم الإداري والبيروقراطي الأوروبي. وهي، من وجه آخر يلازم الوجه الأول هذا، جزء لا يتجزأ من نشوء الدولة عن آثار الغرب الكولونيالي وعن المجتمع ما قبل الكولونيالي معاً. وبلاد قوم اليوروبا بنيجيريا، وبلاد آكان في شاطئ الذهب، والبلاد هذه شهدت طلائع تنصير في النصف الأول من القرن التاسع عشر، كانت مهد تيار قومي ثقافي، وحضنت مبادئ صوغ السياسة في مقالات دينية، وابتدأت بلورة جسم كنسي وإكليركي أهلي. وعلى هذا، فالزعم أن الدولة الكولونيالية، وخليفتها الدولة ما بعد الكولونيالية، هما ثمرة إرادة القوة الكولونيالية المطلقة والمرسلة، ووليدة هذه الإرادة، (زعم) لا سند له. فوجها الدولة إنما منشأهما المجتمع الأهلي أو المحلي. ولم يسع القوة الكولونيالية جبَّ هذا المجتمع، ولا "إذابته" أو تبديده، ولا ابتداء مجتمع غير مسبوق أو أُنُف. فكان عليها الإقرار والصدوع به، على رغمها. واضطرت الى السير في ركاب نشأة الدولة عن سيرورات محلية. والقوة الكولونيالية لم تمح هذه السيرورات. فعمدت الى صوغها على مثالات مختلفة، وعظمت بعضها وقيدت بعضها الآخر وصرفته الى أغراض غير أغراضه السابقة.
وتزعم "الدراسات ما بعد الكولونيالية" ان تراث الحال الاستعمارية ومخلفاتها تكرر وقائعها المفترضة، ولا تحيد عن منطقها الصارم والمستقيم. ويستغني الزعم عن الاحتجاج بـ "تاريخ فعلي" لشرائط نقل التراث، واجتماعيات الوارثين المأذونين والنقلة و "أحوال الإعمال" في مواضع دون مواضع وظروف دون ظروف. ولا يميز بعض عوامل الدوام، أو الإدامة، التي يعود بعضها الى صفة جغرافية بلدانية ثابتة فوق ما يعود الى السيطرة الاستعمارية. ولا يلم الزعم بتبدد بعض هذا التراث في سياقة استئنافه، وفي الأثناء، ولا بتباعد بعض أجزائه، وضعف ائتلافها، في ضوء تفرق المجتمعات المستعمَرة وتباين السيطرة الاستعمارية نفسها وظرفيتها و "التباسها" (على قول ج. بالاندييه الاستهلالي في الدراسات الأفريقانية). وحمل الدراسات الأناسية والحكمية (الإثنولوجية) على المصالح الاستعمارية يُغفل نازعها الأول الى نقد الاستعمار من طريق مقارنة "إنجازه" بمزاعمه، وملابسة النقد الوساطة من طريق جمعيات الدراسين وشبكات مخبريها ومحدثيها. وبعض "العلماء" الكولونياليين، أو المثقفين من تابعيات الدول المستعمِرة، أرسوا تقليد مناهضة الكولونيالية، والتصدي لها، والنقض عليها. والتقليد هذا جزء من الحال أو الواقعة الكولونيالية، ونشأ عنها. وهذا، أي نشأة الضد الاستقلالي والتحرري عن الكولونيالية بما هي "واقعة اجتماعية كلية"، بعض ما لا يسع "الدراسات ما بعد الكولونيالية" الالتفات إليه، وتناوله من قرب، لقاء استرسالها في "كرنفالها"، على قول جان - فرنسوا بايار.

الأربعاء، 1 سبتمبر 2010

العراق وفلسطين ولبنان على أبواب «الدولة» الممتنعة

الحياة، 1/10/2010

يستأنف رئيس السلطة الفلسطينية مفاوضات مباشرة مع بنيامين نتانياهو، بواشنطن، وفي رعاية أميركية رئاسية، في أعقاب انقطاع «غير مباشر» دام نحو العامين، بينما تجلو قوات أميركية مقاتلة من العراق وتخلي أو تنهي اخلاء نحو 400 قاعدة، وتنكفئ على نحو 100 قاعدة غير قتالية، على ضعف الفرق بين نوعي القواعد هذين. والى «البلدين» اللذين يحصل فيهما الانعطافات المفترضات، المفاوضات والجلاء، فلسطين، والعراق، يضيف أنصار السياسة السورية في لبنان ورعية «الدولة» السورية - اللبنانية، لبنان. فيقولون، على مثال رئيس الحزب «القومي السوري» أو الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، «فلسطين والعراق ولبنان». وهم يريدون بمثلثهم هذا أن مصالح سورية، على ما يرى الحكم أو النظام السوري، على المحك، وقيد الاختبار، في المفاوضات المباشرة الفلسطينية - الاسرائيلية، وفي بلوغ المعاهدة الأمنية والعسكرية والعراقية - الأميركية فصلها ما قبل الأخير، وكذلك في ترجح الأزمة الوطنية اللبنانية بين «تهدئة» متوترة وانفجار داخلي وخارجي يلوح وشيكاً في الأحوال كلها.

وتشترك الساحات الثلاث فيما هو أبعد بكثير وأخطر من ضلوع أجهزة أو مصالح اقليمية فيها. والمشترك هو امكان انعطاف البلدان الثلاثة، وسورية هي رابع هذه البلدان، نحو تماسك سياسي واجتماعي يتيح، بدوره، فرصة استتباب الدولة وسلطتها على الجماعات الأهلية المتنازعة. ونظير الانعطاف العسير، يؤدي اخفاقه الى دوام الاضطرابات والنزاعات الاقليمية والحروب الداخلية. ويترتب على الدوام هذا ضلوع دول الجوار، والحركات والقوى «غير النظامية» التي تتوسل بها الدول هذه، وبعض أجهزتها، في النزاعات الأهلية العصبية ضلوعاً يرتد عليها تشنجاً وأحكاماً عرفية، مضمرة أو معلنة. فعلى الحكومات الثلاث، ومن ورائها هيئات الحكم والأبنية السياسية والإدارة (العسكرية والأمنية والخدمية)، على مقادير متفاوتة من الإلحاح، حسم مواقف واختيارات ترتب نتائج بعيدة الأمد على البلدان التي تتولى حكمها.

فتحمُّلُ حكومة عراقية عتيدة المسؤولية عن

(1) ادارة الأجهزة الأمنية والعسكرية الوطنية وهي المولودة من انهيار الأجهزة البعثية، واندلاع حرب «القاعدة» والبعثيين والجماعات الشيعية المقاتلة وبعض أجهزة دول الجوار وجماعاتها على القوات الأميركية وعلى نواة الحكم الجديد وبعض قواعده،

(2) وعن تمثيل الجماعات الأهلية و «السياسية» ومصالحها المتنافرة وغير المتبلورة،

(3) واضطلاع بإدارة مرافق الانتاج والتوزيع والخدمات وحمايتها من الفساد والتهريب والتسيب.

معاً، قضايا أو مهمات وأعباء لا قيامة حكم وطني عراقي من غير مباشرتها. وبعضها باشرته الحكومات السابقة، وعلى الأخص حكومة نوري المالكي، واضطلعت به، وأرجأت معظمه. وتعثرت، هي والكتل المتحفظة والمؤيدة على مضض، في التصدي له. ولا ريب في أن توقيع المعاهدة الأمنية المزدوجة بين العراق وبين الولايات المتحدة على طريق خروج بغداد من ولاية الأمم المتحدة الملزمة، والمحافظة على استقلال الاقليم الكردي الذاتي، ونشوء مستوى محلي من العلاقات السياسية والادارية، وتماسك القوات الأمنية والعسكرية الجزئي، ودوام ولاء معظم «الصحوات» للحكومة، والتمسك المبدئي واللفظي بسيادة وطنية عن الجارين الإيراني والسوري - لا ريب في أن هذا كله «انجاز» ضخم على رغم فسوخه الفاغرة واحتمالات النكوص عنه والرجوع فيه.

وينبغي سؤال «الطبقة السياسية»: المحلية، وهي طبقات وشرائح ومصادر لا تحصى، عن احجامها وتعثرها وتخبطها في بلورة مجموعة سياسات يؤدي تضافرها الى ارساء العراق على أركانه. وينبغي الإلحاح والإلحاف في السؤال. ولكن اغفال مصادر «الطبقة» السياسية العتيدة تعسف وتحكّم «لا يعجز (عنهما) أحد»، على قول أحد كبار المفسرين. فهي، اي «الطبقة» السياسية أو شريحتها الوطنية التشريعية، صنيعة انتخابات عامة لم ينته طعن واحد فيها الى نتيجة محققة تظهر انحرافها أو فسادها. والحق أن أحداً لم يطعن طعناً إجرائياً في تقسيم الدوائر الانتخابية، أو في توسل العصبيات المذهبية والعشائرية، وفي دور اليقظة القبلية، إلخ. فهذه شرائط اجتماعية عامة، وقد لا تقبل التخصيص أو التبعيض. وهذه الانتخابات، وعلى شرائطها المقبولة، «صنعت» الكتل الانتخابية الأربع البارزة على النحو الذي صنعتها أو ولدتها عليه.

وهذا النحو (91+89+72+43... من 325 نائباً)، الى شطوره الداخلية (النواب الثلاثون الصدريون «الأحرار» في «الائتلاف الوطني»، على سبيل المثل)، هو مرآة ترجح الناخبين، واضطراب آرائهم وأحكامهم في حكامهم المزمعين والمقدَّرين، وفي هيئات الحكم وإدارتها. فالاقتراع اقتراعاً متقارباً و «متوازناً» لكتل معلنة، جُربت كلها الحكم على رؤوس الأشهاد. ولا يجهل أحد ما بينها من خلافات ونعرات وتباين مصالح وروابط وميول، لا يجوز حمله على ضعف التجربة الديموقراطية وحده. وثمة قرابة لا تنكر بين «اللوحة» الانتخابية السياسية المتخلفة عن انتخابات شتاء 2010، وبين جردة الإنجازات والعثرات التي تقدمت. ولا يدعو مزيج الإنجازات والعثرات، ولا تدعو سوابق «أعيان» الكتل في الحكم وخارجه، الى حماسة غير متحفظة تنتدب مقدَّمي هذه الكتلة أو تلك الى ولاية راجحة.

والأغلب على الظن أن ما تقوله الكتل بعضها في بعض معظمه صادق. وتنكر المقالات المتبادلة على الكتل السياسية والأحلاف ضعف قوامها السياسي، أي صدورها عن منازع وروابط تحول بينها وبين الانسلاخ عن المنازع والروابط العصبية، والتعالي عنها. والناخبون لم يغامروا، بدورهم، في اختبار تقديم تيار على آخر. ولم ينتخبوا على شاكلة جسم انتخابي وسياسي متماسك. فلم يوزعوا اقتراعهم على غالبية محتملة واضحة، وعلى معارضة قوية تقوم من الغالبية مقام الكابح والحسيب، في إطار وطني مشترك. ويقتضي هذا «نضوجاًَ» حالت دونه عوامل كثيرة ليس أقلها ثقلاً التراث البعثي الصدامي المدمر، وولاءات المعارضات (السابقة) المتضاربة في الداخل والخارج، وضعفها واستبعادها إسقاط الحكم، ونهم الدول والجماعات الإقليمية لاستتباع العراقيين، والإدارة الأميركية للسنتين الأولين من الاحتلال.

ومن طرق مختلفة أشد الاختلاف ينتهي الفلسطينيون الى قريب مما انتهى اليه العراقيون. فما قاطعت «حماس» الانتخابات، وبقي ياسر عرفات على رأس السلطة، وسع «الطبقة السياسية» الفلسطينية، وهي لا تقتصر على «فتح» ولا على الفصائل الحليفة، إدارة «المناطق» المحررة والمحتلة من غير أزمات عميقة كتلك التي تهزها منذ أواخر 2004، على رغم اندلاع انتفاضة الأقصى، وعودة الاحتلال في 2002. وهي أفضت الى محنة انفصال غزة في 2006 – 2007. وطوال «عهد» ياسر عرفات، نهض استقرار الحكم الفلسطيني، وبعض التماسك الداخلي على عتبة حرب أهلية أو انفصالية وشيكة، على أداء زعيم منظمة التحرير التاريخي دورَيْ الحاكم المسؤول المفاوض (على ما تقتضي حال الاحتلال) والمعارض المقاوم معاً وفي آن. وخلّف ازدواج الرجل وأصحابه الفلسطينيين، وسياساتهم، الحالَ التي خلفهم (وخلفها) عليها. ولكن بدا الازدواج عبارة أمينة عن المنازعات الفلسطينية (والإقليمية) قبل أن تنشب فيها أظفارها ومخالبها قوى الإسلام السياسي المتعاظمة و «الحرب على الإرهاب» واحتلال العراق وغلبة الكتلة العسكرية والأمنية على النظام الإيراني.

وأثمر تواطؤ ياسر عرفات (وأجهزته) و «حماس» على اندلاع انتفاضة الأقصى رجحان كفة الحركة الإسلامية المقاتلة على «الطبقة السياسية» المنبثقة من سياسة زعيم منظمة التحرير وأحلافه. ولم تخيب الانتخابات العامة الأولى التي تشارك فيها الحركة الإخوانية فأل قادتها وجمهورها. ولا ريب في اضطلاع انقسامات «فتح»، وفوضى منازعاتها، بدور لا ينكر في انتصار «حماس» الجزئي، أو معادلة أصوات ناخبيها أصوات ناخبي خصمها تقريباً. ولكن العامل المرجح كان، على الأغلب، قيادة ناشطي «حماس»، وأنصارهم وحلفائهم، الانتفاضة العتيدة، وعملياتها. وعلى هذا، جزا الناخبون الفلسطينيون الشق «المقاوم» من السياسة الفلسطينية المزدوجة، وكافأوه مكافأة جزيلة على انجازاته.

وأغضى الناخبون عن شطر كبير من «الانجازات»: دعوة شارون الى شن عملية «السور الواقي»، وتجديد احتلال المناطق المصنفة (أ) و (ب) واطلاق اليد الأمنية الاسرائيلية فيها الى اليوم، وانشاء الجدار الفاصل الأمني بقضه وقضيضه، قبل الانسحاب من غزة من طرف واحد وتركها نهباً للأمن الحمساوي وتغليب قيادة الخارج على الداخل، وانكار وجود شريك فلسطيني يفاوض ويسعه التزام نتائج المفاوضة وإلزام عموم الفلسطينيين بها. وتركت جملة النتائج هذه كتل الفلسطينيين المتفرقة رهينة وساطات ووصايات ومساعدات عربية واقليمية وأجنبية متضاربة ومتناكفة. وعلى المثال العراقي المتأخر (وقتاً) عمد الناخبون الفلسطينيون الى اشراك الكتلتين البارزتين في سلطة عصبية، والحال هذه، على الحكم والادارة والتدبير. فلم يحسموا بين الميل الى الحكم والمفاوضة أو الميل الى المقاومة والقتال في ظرف متفجر.

وعلى خلاف العراقيين والفلسطينيين لم يرجع اللبنانيون في ما اختارته كثرتهم في 14 شباط (فبراير) - 14 آذار (مارس) 2005. ومضوا عليه في دورتين انتخابيتين فصلت بينهما 4 سنوات وحوادث جسيمة علقتهم على حافة هاوية حروب ملبننة مستأنفة لا نهاية لها ولا قاع. وأخفقت القوى المحلية الأهلية والاقليمية في انتزاع اقرار لبناني بالعودة عن انعطاف شتاء 2005 السيادي والاستقلالي. ولكن ميزان القوى، على قاعدة احتساب عسكري وأمني وعصبي واقليمي، يشبّه الترجحين العراقي والفلسطيني. وقد يؤول الى ما آلا اليه في ظروف مختلفة، ويكرس خشية «عربية» من استقرار الدولة الوطنية.