الجمعة، 23 ديسمبر 2011

فاروق عيتاني راوياً بعض أحوال التيه البيروتي: طيّ الفولكلور والذكريات يمهّد طرق الرواية والبطولة الضعيفة


المستقبل، 11/12/2011
تملأ صفحات "الكتاب" الذي بين يدي القارئ أسماء علم، أو أعلام، كثيرة، وأسماء أمكنة ومواضع تفوق الأولى عدداً وكثرة. والأسماء هذه مقترنة على الدوام بأوقاتها وتواريخها، في السنة والشهر واليوم والساعة ما وسع كاتبها توقيتها أو تأريخها على هذا النحو، أو تخيلها، إذا ولدتها أخيلته على ما يحصل في غير موضع. وأسماء الأعلام، أسماء الناس وبعض الحيوان، وأسماء المواضع والأمكنة والمباني، ومواقيت الحوادث والأفعال والسكنات والغيبات، لا تُقصد لنفسها، ولا يثبتها فهرست ولا جدول، على رغم قرابة ظاهرة بينها وبين سيمياء الفهارس والجداول والمعاجم أو القواميس. فهي، على الدوام كذلك، حلقة من حلقات أنساب متشابكة تشابكَ خطوط أحجية أو طلاسم مستغلقة. وهذا من مفارقات الأنساب عامة، وأنساب العامة أو العوام على الخصوص: فما وُضع على قصد التمييز والتفريق والترتيب والصراحة والتعيين يقود لا محالة إلى التخليط والالتباس، أو التلبيس، على وصف معروف لفعل إبليس الغامض والمُلْبِس.

وتنسب الأخبار البيروتية الأهل والصحب والمواضع والحوادث معاً، مَنْ تتناولُ، وما تتناوله، نسبة "عالية" أو شريفة. وحفظ الأسماء وتدوينها، وتناقلها، تالياً، تشريف. فالاسم من السمو والتسامي، على قول الزمخشري النحوي والمفسر. ولا يشترك في الشرف المفترض الوضعاء الغفل الوجوه والأسماء، والأعيان الوجهاء و"المصيتون" (أصحاب الصيت الذائع). ويلم علم الأنساب هذا بالحجر والطرق والمسالك والأبواب والثياب والأصوات والخطوط والآلات القليلة وبعض الحيوان والنبات، على ما مر. فيتحدر الناس، على "مراتبهم" المتفرقة، والمفترضة على زعم الكاتب، من أصلاب أجدادهم و(أسماء) آبائهم على نحو ما تتحدر المواضع والمباني والطرق والشعاب من معالم سبقتها، ومبانٍ قامت بها، وطرق وشعاب وصلت بينها، وحكايات وروايات مدونة أو متخيلة. وتميل الأخبار والروايات البيروتية التي يجمعها "الكتاب" إلى تقديم أخبار العوام والسواد ومنقطعي النسب ومختلطيه على أخبار الخواص والأعيان وأهل المرتبة. وقد يكون مرد الميل والتقديم هذين الى إرادة جمع وإحاطة. فلا تترك ارادة الجمع والاحاطة خارج مدونة الأخبار والأسماء "فرداً" بينه وبين "الجماعة" أو "الأمة" - على قول فاروق عيتاني ساخراً وممجداً وحائراً وشامتاً وراثياً معاً أو على التوالي- خيط أو سبب.

وقد يكون مرد الميل والتقديم الى ترتيب معياري يوجب التذكر والحفظ والخلاص، ومكانةَ هذه، للمساكين والضعفاء والمبتلين. وليس ارتقاء التذكر والحفظ والخلاص من غير لقاء او ثمن. فحنيفة شاتيلا، زوجة محمد علي عيتاني ووالدة توفيق عيتاني (والد فاروق) وجدة فاروق، صاحب الأخبار، "استحقت" رواية خبرها ("الأهل والمسوخ") على قدر استحقاق الآخيين اليونان، من أمراء وملوك وأصحاب جيوش وأساطيل ومقاتلة، روايات الهوميريين (جماعة رواة الأخبار والمحدثين المنسوبين إلى هوميروس) أخبار انتصاراتهم ومصارعهم. ورحلة السيدة وولدها - في أواخر 1915، غداة معركة "ترعة" السويس التي قتل فيها محمد علي وهو يتسلل الى مرابض المدفعية البريطانية غرب القناة إنفاذاً لخطة رسمها قائد الجيش الرابع جمال باشا، ويتتبع حفيد محمد علي عيتاني وحنيفة شاتيلا في موضع آخر من أخباره هرب جمال إلى افغانستان ومصرعه بباريس، و"يهمل" على غير اعتياد "مقارنة" حملة الخيالة على الحامية البريطانية بعبور الجند المصريين في قيادة الشاذلي والجمسي الترعة "نفسها" في غرة يوم السبت الواقع فيه اليوم السادس من تشرين الأول 1973...- رحلةُ السيدة وولدها من بيروت إلى صيدا وبيدها وصلٌ حرره قلم الولاية بصرف شوال طحين لها كل أربعة أشهر تعويضاً عن مصادرة القلم بقرتي السيدة وحليبها لحاجات المستشفى العسكري، في مدرسة عبد القادر قباني ببرج أبي حيدر، (الرحلة، إذاً) فصلٌ من ملحمة.

وفي الفصل الملحمي "العامي" والنسائي، وليس الوجه هذا مصادفة ولا اتفاقاً، من آيات الثبات والعناد والطلب والإقدام والتسامي على الخوف والألم واليأس ما يتقدم بطولة "أشباه الآلهة" الإلياذيين ومن خلفهم الى يومنا. أو هو يستن سنن بطولة من ضرب غير ضرب السيوف وثلمها و"اشتهائها"، على قول القاعدي غير التائب لقضاته بالرياض في منتصف تشرين الأول 2011. ويحصي الكاتب في "أبطاله" وملاحمه ركابَ سيارة السرفيس (وهو سواقها وصاحبها) الصباحيين والمعتادين، وطلبة التوجيهية اللبنانيين بمصر صباح اليوم الخامس من حزيران في سنة 1975 الميلادية الميمونة، ومعيِّدي رأس السنة 1973 بطريق الجديدة، ومضيفة الطيران الفنلدنية السائحة في ليلة رأس سنة سابقة، وموظفي السفارة الليبية في مستهل الحروب الوليدة والآتية على "طبقاتهم"، والألمانية اليهودية ابنة الحاخام وزوج ابن المدور بالتبني القادم من أسرة حلبية من طريق امرأتين نوريتين خطفتاه واضطرتا الى رميه في هربهما فحلّ ببيت "أبيه" حلول رومي الدوشرمة في ثكنة الانكشارية وربما، من بعد، في ديوان السراي...

وإنما يكتب النسّابةُ صاحبُ الأخبار، الحقيقية والمتخيلة، ما يكتب، روايةً وتقصياً واقتفاءً، وهو يريد بعث الآثار المهملة والدارسة. فينيط بالكتابة ورسومها و"وحيها" أو أثرها المزمن، على شرح أبي عبيدة اللفظة، إحياءَ الأنساب المهملة والدارسة كذلك، وأصحابِها الذين عفَّت الأخبار والتواريخ "الشريفة" على أنسابهم، وتركتهم هباءً. فالخلاص، على مذهب صاحبنا، هو القيامة في القول وبه، واجتماع من تروى أخبارهم إلى رواة هذه الاخبار وقرائها بعد أجيال ليس مهماً عددها، ولحاق زمانهم بزماننا، ودخولهم فيه، واجتماع الرغبات في رغبة متوهجة مقيمة. فلا يفصل الزمانين، والأزمان التي تتوسطهما، إلا غلالة القول والنَفَس الرقيقة والصلبة معاً. وعلى هذا تتولى الرواية والكتابة ترصُّد الأصداء والأطياف المتجاوبة (تلك التي يجيب بعضها بعضاً) والمتداعية (تلك التي يدعو بعضها بعضاً). فلا يحول تباعد الأوقات، من منتصف القرن التاسع عشر العثماني "اللبناني" إلى 7 أيار 2008 وفروعه ونفثه، بين محاورة الطيف الطيفَ والصدى الأصداء.

ولا تبرأ الطبيعة من المجاوبة والتداعي والمحاورة. ويكلم صفيرُ الريح المولود في أرحام خليج عين المريسة عواءَ الذئاب النازلة من أحراج منحدرات "الغرب"، على ما يسمي دروز الشحار والبنَّيه وشانيه حرف جبلهم المشرف على "قرى" بيروت إلى خلدة وعقدة طرقها. ويجيب البشرُ، أجداد فاروق عيتاني وجداته وآباؤه وأمهاته النازلون "التلال" و"الرؤوس" المطلة على البحر، الصفيرَ والعواءَ فيصنعون من طينة الأخيلة و"الرواية" مسوخاً وبشراً ليسوا كالبشر يُسكنونهم السراديب، ويحتمون منهم بالمواقد والحجرات الضيقة والسقوف الواطئة. ويغذون السير، إذا أوشك المساء، تفادياً للقائهم أو لقاء الذئاب، على ما صنعت حنيفة شاتيلا في مسراها من الأوزاعي الى تلة الخياط قافلةً من صيدا، وعلى ظهرها شوال الطحين، وتجر بيدها توفيق المتعثر والمتشقق القدمين.

ويفارق الكاتب مفارقةً أخرى قصده الأول. فهو توسل بالأنساب وروايتها الى تفريق الناس وتمييزهم، فوقع على أوقات مختلطة وأمكنة "أثرية" ودارسة، وعلى عوام نصفهم من لحم ودم ونصفهم من أخبار وأسماء وأطياف. وها هو يقصد استنطاق الهويات والأعلام، ووراء الهوية والأعلام أو فوقها هوية بيروت وعلمها، لعلها تقول "الاسم" الذي يرعى دوامها وتناقلها، على قول بعض الصوفيين. فيقع على هجنة وتوليد "لبنانيين"، "لا دين" لهم و"لا أصل ولا فصل"، على قول عامي سائر. ويعاصر سعي فاروق عيتاني، وإفضاؤه الى كتابة هذه الفصول، جلاء شطر غالب من الشيعة اللبنانيين بظواهر بيروت القريبة، و"قراها" الجنوبية وضواحيها، هوية عصبية، نسبية ومذهبية، "ناصعة"، لا هجنة فيها ولا تخليط، على زعم أعيانها ورؤسائها الملهمين وربما "المعصومين". ونصب هؤلاء هويتهم المسكوكة 24 قيراطاً (والذهب يحتاج الى بعض المعدن الخسيس أي المختلط ليتماسك قطعة واحدة) بإزاء بيروت "السنية"، وضدها.

فـ"يرد" البيروتي اللبناني، و"الكتاب" على وجه من وجوهه هو سيرة الطبقة أو الحلقة الأخيرة من النسب، بحمل "الأصل" الأول على الاختلاط والهجنة: لا شك في أن كنيسة سيدة النياح الأرثوذكسية براس بيروت أنشئت في 1860، مع عمارة الكلية الانجيلية (الأميركية) السورية (والمقصود غير العربية ولا الإسلامية، على ما ينوه الكاتب)، وألحق بها مقبرة، وتعهد البناء والإنشاء، وجوه البخعازيين والربيزيين من رعية المطران اليوناني والروسي القيصري الولاء إيروتيوس، الحسن التسمية، ولكن الكنيسة قامت في أرض اشترك في ملكها، وربما في هبتها، بعض آل دندن وقمورية واللاذقي وحطب، وكلهم من أقحاح أهل الملة السَّنية والسُّنية. ولا تستوفي سنة 1860 الدلالة على علو النسب المختلط: ففي 1843م، الموافق 1259هـ، وعلى وجه الدقة في 8 صفر، باع خطار الرجي، بأصالته عن نفسه ووكالته عنها وعن والدته محبة بنت منصور تابت وإخوته، الى حسين صالح العيتاني أرضاً تنبت أغراس توت بري وإجاص، وتقع في وسط أرض بملك حسين الغالي وبعض العياتنة و("بيت القصيد") وقف كنيسة الموارنة (من فصل "رجع وردح بيروتيان").

والرد على الهوية بالهويات المهجنة والمولَّدة، وعلى النسب الصريح والقح بالأنساب المختلطة والملتبسة، يؤدي إن لم يُودِ بصاحبه إلى إنكار الولاء الواحد والمقيم والمزمن لـ"مسلَّط"، واحد، على قول النؤاسي، أي "سيد" واحد. وتشد مريدي "السيد" وجنده الى سيدهم وأميرهم عبوديةٌ لا ينفع في تجميلها، وصقل نتوئها، رفعها الى سيد "السيد" "رب العالمين"، وقصر "السيد" على الكناية والتمثيل والتوسط. وبين الأمة الواحدة والسيد الواحد خيوط وجسور لا يفتأ الكاتب يحصيها ويصفها، ويروي اختباراتها وتقليبها على أوجهها، في كثير من أخباره وسيره وحواشيه. ولعل خبر الاعداد لعملية انتحارية أو استشهادية، يبلِّغ بها "مرجعيته" المقيمة بباريس، على قوله - وهو على يقين من أن مرجعه لن يتردد في نسبتها إلى نفسه، وإزجائها إلى ولي نعمة ينوب مناب الأمة بدوره - لعل الخبر هذا هو ذروة الاختبارات "الأمية". فإذا قارن اختباره هذا، في صيف 1990، غداة احتلال صدام حسين الكويت ومرابطة الطائرات الأميركية (وغيرها) ببعض مطارات الخليج القريبة، بما رآه وسمعه ولم ينفك مذذاك يراه ويسمعه من "المشاهد" الخُمينية - وخميني "سيد"، وخالفه سيد ووكيل خالفه وعامله (على بيروت ولبنان) سيد- لم يشك في فضائل التهجين والاختلاط، وتفوقهما، معنى وتوليداً واستقامةً واضطلاعاً بالمسؤولية وتحملاً للأمانة، على أخلاق العبودية.

ولعل هذا ما قاد الكاتب- والكاتب هو، في آن، المرء على وجوهه الكثيرة والمتفرقة (الكائن الحي والمتعضي، والانسان الحي و"الجمالي"، والمتحدر من أنساب ومرجع نسب)، والواحد في جماعة، والمواطن في "مدينة" أو دولة وطنية - إلى البحث عن المباني التي تتيح له تصريف نفسه على وجوه النفس الكثيرة والمتشابكة والمتنازعة، على ألا ينفي منها وجهاً، أو ينزل عن نازع. وهذا على خلاف منطق الواحد، أو المنطق الواحد، ودعوته ("المرابطية" الأهلية أو الخمينية الضاحوية) إلى اختصار النفس في طاعة ولي الأمر، الوكيل عن الأمة، وإنفاذ أمره بالموت حين يأمر بالموت ويراه ضرورة لا بقاء للأمة إلا به.

ويتتبع الكاتب، تارة ساخراً وتارة ثانية متألماً وثالثة متأسياً ورابعة غاضباً ثائراً، بعض أحوال المنقادين إلى أولي الأمر ونواب الأمة ووكلائها. ولوحاته "الليبية" البيروتية، وشخوصها من موظفين وصحافيين وسياسيين، مثل على التتبع الساخر. وذلك شأن اللوحة القاهرية و"الناصرية" في الخامس من حزيران العتيد، يوم ظن الشبان البيروتيون الأربعة أو الخمسة أنهم عائدون من طريق فلسطين المحررة الى بيروت، ولا حاجة بهم لا إلى طريق البحر الاسكندرانية ولا إلى الطائرة والمطار. فعفَّرهم التراب والغبار، و"سرق" بعضهم بعضاً، ورجعوا أو رجع واحدهم بأقل من خفي حنين. وحين يروي فاروق عيتاني مصائر صحبه هؤلاء، ومآل بعضهم الى القتل والاغتيال بيد وكلاء آخرين عن الأمة الواحدة نفسها، يأخذه الأسى، شأنه حين يكتب أن صاحباً آخر، من شلة فتيان أخرى ندبت نفسها الى المحاماة عن الشرف القومي، "مات" قبل خمسين سنة، ولا يزال يسعى في الأرض تائهاً وزائغاً.

فالملاحم بين يدي الأمة- وأمة "القوميين" هذه يُستدل عليها بأنبيائها وأئمتها ومرشديها القوامين عليها حين لا تتولى حركات سياسية شعبية ومدنية واجتماعية إيجابها أمماً وشعوباً ودولاً - تقود حكماً إلى مقاتل الأهل ومصارعهم وهم يضرب بعضهم بالسيف وجوه بعضهم الآخر، أو يغتال الأخَ والشقيقَ بكاتم صوت أو عبوة مدمرة من التي. إن. تي. أو السيمتيكس التشيكي (وخزن منه العقيد القائد، مرجعية الكاتب في بعض أيامه الخوالي، مؤونة تكفي 200 سنة من الاستهلاك والإهلاك).

ويفضي إنكار الأمة على صورتها الواحدة، الجامعة والثابتة والمتجسدة والآمرة والمميتة، إلى سيرة ذاتية وخاصة هي سيرة صاحب اسم العلم، وإلى تراجم الأهل والأصحاب والجيران والمسافرين والبلاد والأمكنة. وتبسط التراجم العامية، على خلاف تواريخ "الرسل والملوك" والمرشدين وكتب "الفتوح" و"المغازي" والسرح في "مروج الذهب"، وجوهَ السير المتنازعة والمتناقضة والمخرَّقة. فـ"البطل" العامي، شأن الكاتب صاحب السيرة الذاتية، يتقلب بين دفتي عالم يصنع الناس فيه، فرداً فرداً وعلى غير مثال، مصائرهم وهم لا يعلمون ما يصنعون، ولا كيف يصنعون، على قول سائر. وذلك أن مصادر هذا العالم، أو العوالم و"الأجرام" الصغيرة والعظمى، لا تحصى، ودوائره أو دوائرها لا تنفك تتناسل وتلد الحوادث والوقائع الجديدة. والحوادث والوقائع هذه لا تنفك، بدورها، من ملابسة المعاني والأفكار والصور والرغبات والكلمات. وهذه بنت الأخيلة والتشابه والجواز على قدر ما هي بنت الضرورة المُحْكمة. وإدراج هذا كله في الرواية والسيرة يضعف أواصر المرويين بالمثالات البطولية الفقيرة والثابتة. ولكنه يؤرخ لولادة متعثرة ومتعرجة وعسيرة هي ولادة المديني المدني، أو "ابن" المدينة المهجن واللقيط والعاق والمتقلب والموشى والمعاصر. وهو المهوِّم على الساحات والميادين والبوابات والمطوِّف بها.
[ السطور أعلاه تقديم لكتاب فاروق عيتاني: "البيروتي التائه"/ الصادر عن دار جداول/ بيروت/ 2011.

الأحد، 20 نوفمبر 2011

الخلاف على مسائل العنف والحماية الدولية والتمثيل الشعبي: هل الحركة الوطنية والمدنية الديموقراطية السورية "ثورة مبكرة؟"

المستقبل - الاحد 20 /11/2011 


تتنازع الحركة الوطنية والديموقراطية السورية أضداد واختلافات هي مرآة نشأتها وبنائها وكيانها واشتداد عودها، على نحو ما هي مرآة "النظام" الأسدي الذي خرجت منه وانقلبت عليه، وتريد إسقاطه وبناء "ديموقراطية تعددية" على أنقاضه. وتدور معظم المناقشات على مسألتين هما سلمية الحركة في وجه عنف الجهاز البوليسي والعشائري المتعاظم والمتصل، ودعوة "الخارج" العربي والدولي إلى حماية المدنيين المتظاهرين والمعتقلين، والسكان المعتصمين في الأحياء والبلدات، من القتل والحصار والخطف والتعذيب. وتتناول المسألة الأولى حق الحركة المدنية في الرد على العدوان السافر على المتظاهرين والمعتصمين بواسطة سلاح المنشقين عن القوات المسلحة وأجهزة الأمن، وبعض السلاح الفردي المتبقي من أحوال سابقة أو المهرَّب والمتداول في السوق السوداء. وجزء من المسألة هذه ناجم عن سياسة الجهاز الحاكم، وبنيته العشائرية البيروقراطية، أي عن إرادته (ومصلحته في) اختصار الحركة الوطنية والديموقراطية المدنية السورية في "مجموعات مسلحة" ومنظمة مولودة من "الإخوان" والأصوليين ونفوذ مراكز قوى إقليمية ودولية "صهيونية أميركية" في نهاية المطاف.

امتياز العنف القدسي

وسياسة الجهاز الحاكم وبنيته خلفتا انشقاق مجموعات عسكرية وأمنية نظامية عنه، وارتدادها عليه، واضطرارها إلى حماية نفسها من الاغتيالات في أثناء العمليات التأديبية، وحماية السكان المتظاهرين والمعتصمين والمحتجزين من القتل والمهانة والتمثيل والتعذيب. ولا يسع الجموع المتظاهرة والمعتصمة التبرؤ من المنشقين، كما لا يسع المنشقين ترك الدفاع عن النفس، وعن الأهالي الذين يحضنونهم في الأحياء الداخلية وأزقتها وسراديبها الخفية. واستقلال المنشقين بـ "جيش حر"، وتكاثرهم وتواتر عملياتهم منذ الشهر العاشر، وهو شهر الحركة السابع، وتصديهم للإعلان عن أعمالهم باسمهم، هذه كلها لا تتستر ولا تتكتم فعلاً على انتسابهم إلى الحركة الوطنية العامة، ولا على مشايعتهم جماعاتها أو تياراتها القاطعة والمتضافرة (التنسيقيات والمجلس الوطني، وهما صلب الداخل وعموده الفقري).

وعلى قدر بلورة الجهاز الأسدي أدوات عنف أهلية، مذهبية و"رسمية" بيروقراطية، يسعى هو نفسه في استدراج الحركة الوطنية والمدنية إلى بلورة عنف أهلي ومذهبي نظير أدواته، وكفءاً لها. فالحرب الأهلية العامة كانت سلَّمه للاستيلاء على السلطة، وذريعته الى الاستقرار فيها، والانفراد بها وجمع مقاليدها وأزقتها في يد واحدة ساحقة. وهو يعول عليها اليوم تعويله عليها في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات من القرن الماضي، في سبيل كسر الحركة الوطنية والمدنية، على ما أقر رأس الجهاز "الشاب"، والحؤول بينها وبين هيكلة كيان شعبي سياسي جامع لا قوام لدولة سورية وطنية إلا به. وجرُّ الجهاز الأسدي الحركة الوطنية الديموقراطية إلى العنف المسلح الأهلي يحقق، في حال نجاحه، شق الحركة، وحملها على جناحها أو تيارها الإسلامي (المسلم) المنظم والشعبي والممتحَن وعلى دائرته المذهبية والطائفية، وإلحاقها المعنوي والسياسي بماض أليم دامٍ وبأغراض وغايات حالية مدمرة.

ويقود هذا إلى المعادلة غير السرية ولا الخفية التي رهن بها الجهاز العشائري البيروقراطي "أبديته". وهي تقصر السوريين على "الاختيار" بين الحرب الأهلية العامة والمتطاولة ("اللبننة"، على مثال أسهم الجهاز في صنعه ورفض على الدوام اسمه واللفظة الدالة عليه) وبين دوامه في السلطة على النحو الذي يرتئي ويعرف، وهو لا يرتئي ولا يعرف غير هذا النحو. ولكن تمسك معظم الحركة الوطنية والمدنية السورية بسلمية تظاهراتها واعتصاماتها، واقتصار السلاح والتسلح على دفاع ذاتي ضيق على رغم توسعه النسبي، وامتناع أجنحة الحركة من التبرؤ ومن التبني على حد سواء، ومضي الجهاز على عنف هائل لا كفء له ولا نظير أبطلت هذه صيغة المعادلة "اللبنانية السورية"، وقلبتها الى صيغة مختلفة: إما الحرب الأهلية الدابة والمزمنة في قيادة عشائرية بيروقراطية وإما ذيول الحرب الأهلية المزمنة وتصفيتها "الأبدية" إلى ما شاء ربك. فأَسكت الإبطال أصوات المستكينين إلى دوام الجهاز لقاء سلم أهلي يحفظ الدماء ويحبسها من غير حرمة، ويبيح الأموال والكرامات من غير تعويض.

ويخشى الجهاز الأسدي، فوق خشيته أموراً أخرى كثيرة، التفريط باحتكاره العنف، وخسارته ذريعة القيام مقام الدولة ومشروعية انفرادها بتصريف العنف وتدبيره باسم مصلحة عامة هي وحدة الوطن، شعباً وأرضاً. ويتكئ احتكار العنف، على رغم صفة الجماعة الحاكمة الفئوية والأهلية وبعدها من العمومية السياسية والوطنية الجامعة، طاقماً وتصريفاً، يتكئ على غلو سيادي يلبس اللباس العروبي والفلسطيني و"العالم ثالثي" في صيغته المناوئة للاستعمار والإمبريالية والرأسمالية العالمية والاستكبار، وحواشيها "اليهودية والصلييبة" ضمناً. ويقود احتكار العنف، من غير كيان عام ومشترك يؤطره ومن غير تمثيل سياسي وتشريعي وإداري يقيده ويصوّب إعماله واستخدامه، إلى نصبه عنوان سيادة وولاية مطلقتين وساحقتين ولا راد لهما، على مثال رأي المجتهد ومرجع التقليد في بعض الفقه الإمامي. وحين ينكر الجهاز الأسدي، وأذرع إعلامه الدعاوي، على بعض جماعات الحركة الوطنية والمدنية الديموقراطية ردودها المسلحة الموضعية على عدوانه العام فهو إنما يخاف على المكانة التي أولاها ويوليها هو (إلى) استعمال العنف، وحمله على صلاحية قدسية تترتب على ولايته وأحقيته غير المقيدة بها. ويدعوه تعظيمه مكانة العنف في صيغه كلها من الحرب التقليدية إلى الصمود والتصدي، من التوازن الاستراتيجي، واللبننة، والتوسل بالخلافات الأهلية والنفخ فيها، وإلى إعمال الجماعات الجهادية وفِرَق الإرهاب وأوانيها الإقليمية المستطرقة على الجبهات الأوسطية الكثيرة، فالتحويم على البؤر النووية إلى سعي محموم في استئصال جذوة العنف الأهلية، والنفخ فيها، وإنكار "جدارة" الحركة الوطنية والمدنية بها، في آن.

الداخل/الخارج

وتتصل مسألة العنف، على وجهيها، بمسألة "التدخل الأجنبي". فالجهاز الأسدي نهض أولاً على معالجة ارتهان سوريا، دولة و(مجتمع) جماعات متفاوتة التماسك، للمنازعات الإقليمية والدولية، وطلبها "الوحدة" تفادياً للالتحاق بكيانات إقليمية هزيلة وتابعة. ولما كانت الجماعات الأهلية وانقساماتها وولاءاتها مطية الارتهان والتبعية والترجح، تصدى قائد "مخابرات" القوة الجوية في الجيش السوري مع أقرانه وزملائه البعثيين لجذور الارتهان. فمضى على قطع علاقات جهاز السلطة بالجماعات، وتحرير الجهاز من تبعيته للجماعات ومجتمعها، ومن روابطه التمثيلية والمعنوية بها، وإطلاق يده في خنقها وقمعها. وتصدرت الذريعة الاستقلالية عن القوى الإقليمية والقوى الأهلية، والذريعة العربية الفلسطينية، على النحو الذي دمجته عليه الحركة الفلسطينية ومنظماتها المسلحة، السياسات الأسدية. وفي نهاية المطاف، انتُزعت الدولة من شروطها وملابساتها المادية والاجتماعية والأهلية، وأوقفت وقفاً ذرياً على "القضية". فهي ليست دولة شعبها وجماعاتها ومجتمعها، بل "دولة قضية" و"وطن" هذه القضية. وأقامت الذريعتان المتصلتان على صدارتهما على رغم تبدل الأحوال.

والحق أن إرساء استقلال الجهاز الحاكم والمتسلط عن الجماعات الأهلية ومجتمعها على تربع عصبية جماعة أهلية ومواليها وصنائعها في قمة "دولة القضية" وفي قلب هيئاتها التشريعية والتنفيذية والأمنية، واحتكارها العقد والحل والمنافع من غير سبل مراجعة أو شراكة أو موازنة، الإرساء على هذه الشاكلة هو سمة حقبة مديدة من تاريخ نشوء الدولة في المجتمعات العربية، ومجتمعات الدول النامية ("المتخلفة" سابقاً) في العالم الثالث السابق، طوال نيف ونصف قرن. وتشهد المجتمعات العربية، اليوم، عن يد الحركات الوطنية المدنية والديموقراطية والحركة السورية منها بمنزلة الاختبار الأغنى، طي هذه الحقبة على الارجح.

وإسناد السيادة غير المقيدة الى جهاز يتربع في سدته حاكم فرد تسوغه الاقامة على حال طوارئ استثنائية، داخلية وإقليمية. ولا ريب في أن اضطراب العلاقات الاقليمية المزمن في الشرق الاوسط، مشرقه ومغربه، وتمزق مجتمعاته الأهلي وقصورها عن التعاقد على بلورة دول وطنية متماسكة، وتقاسمها الدولي والمنافسة عليها تضافرت جميعها على اخراج الدولة، فكرة وهيئات ومباني، من المنازعات الداخلية وموازينها وسياقاتها، وتصنيمها فوق المنازعات نصاباً فوقياً وإقليمياً- دولياً. فالقضايا التي تشغل "سوريا"، على قول أحد أنصاب الجهاز الأسدي المتسلط السابقين في الثلث الاول من العقد الماضي، هي العراق ولبنان وفلسطين. ولا تشغل قضية سورية، غير "الوحدة" الداخلية والقسرية في قيادة الجهاز العشائري - البيروقراطي، "القيادة" المزعومة.

والمشاغل الاقليمية، شأن العنف ومباشرته من غير قيد، هي من "حقوق" القيادة ووقف عليها، وهي من "حقوق" السيادة والولاية القدسية، ولا شأن "للرعايا" فيها. والارجح أن الجهاز الأسدي، على غرار اجهزة متسلطة أخرى تهاوى بعضها وبعض آخر يوشك على لقاء المصير نفسه، استمد شطراً غالباً من إزمانه الخانق وتماسكه الصوري والظاهر من احتكاره التمثيل على السيادة على صورتيها: العنف (الداخلي والاقليمي) والمناعة من الخارج. وهو سعى جهده في نفي قوى الداخل وجماعاته من التأثير في السيادة أو التمثيل عليها، إما مباشرة من طريق هيئات الدولة، وإما غير مباشرة من طريق الانخراط في سياقات مشتركة، و"عابرة الحدود" (وعلى سبيل المثل، حين تآخى اللبنانيون والسوريون على جهتي الحدود رداً على قمع تلكلخ الدامي، كفوا عن رابطتهم المفترضة من قبل "شعباً واحداً في دولتين"، وألزموا قطع روابط الجوار والقرابة).

وما يستوقف السوريين وغير السوريين اليوم، ناشطين منخرطين ومراقبين، من ضعف الانشقاق عن النظام في المجالات والدوائر العسكرية والديبلوماسية والادارية والتقنية ليس مرده، على الارجح، الى تماسك كيان الدولة المعنوي، ولا الى فاعلية القمع وشبكة رهائن الاهل التي تطوق بها السلطة أعناق الناشطين وتغل أيديهم، ولا الى تقسيم التسليح والوظائف والمراتب العسكرية والأمنية تقسيماً مذهبياً، وحسب. فهذه، وغيرها مثلها، لكانت تفتقر الى الفاعلية لولا استماتة الجهاز في تعظيم مثال العزلة السورية و"مقاومتها" التأثير والنفوذ "الاجنبيين" و"لعبة الامم"، ولولا صوغ السياسة ومقوماتها وعواملها على صورة البراءة من التلوث الاجنبي والأهلي معاً، ومن غير انفصال أو تمييز. واستفظاع بعض الوجوه العلنية من أهل الرأي والموقف المطالبة بالحماية الدولية والانسانية (من غير الاستهانة بتعقيدها في حال مثل حال سوريا)، وتهمة أصحابها والمحتاجين إليها بالانقياد "الاميركي"، هما صدى من أصداء المزاعم الجهازية والقومية الشعبوية في السيادة والدور والموقع والتأثير. وعلى الجهة المقابلة، يتورع معارضون آخرون من ادعاء تمثيل الحركة الوطنية والمدنية الديموقراطية، على رغم علاقتهم الوثيقة بموفديها وتنسيقياتها وناشطيها الميدانيين المولودين منها. ويقصرون دورهم على مساندتها ومناصرتها، وبناء جسرها الى المجتمعين الاقليمي والدولي. ويصدر التورع هذا عن تحفظ عن أركان السياسة الاسدية، من وجه، وعن "حياء" من التصدي للتمثيل والتكليف ولباس حلة السيادة، غداة نيف ونصف قرن من مصادرته على السوريين، واستبعادهم منه، والتهويل عليهم به وبقدسيته، من وجه آخر.

فيخلص معظم الحركة السورية ربما، وعلى الخصوص "ممثلوها" وأهل الرأي والاعلام فيها من دون ناشطين ميدانيين كثر، الى عسر صوغ مشروعية سورية مدنية وديموقراطية مستأنفة بمعزل من الجهاز المتسلط، و"محاورته" على الانتقال. ويبلغ العسر حد الاستحالة والامتناع. وهذا الرأي يستقوي بتكلفة حرب أهلية باهظة. ويحسب أن "الحوار" على الانتقال يقلصها اذا هو لم يجنب السوريين ويلاتها. وينبغي ألا يشك أحد في رجاحة الحجة وقوتها واستقامة منطقها. والحق أن التلويح بتكلفة حرب أهلية ثقيلة ليس الداعي الوحيد أو الاول الى تصور الانتقال الى دولة سورية ومجتمع تعددين على صورة تسليم وتسلم، ولو بعد فصل دامٍ نجم عن المفاجأة واختبار ميزان القوة "الضروري". فالحركة السورية، شأن الحركات الوطنية والمدنية الديموقراطية العربية التي سبقتها، وفوقها أو أكثر منها، ثورة مبكرة، إذا جازت العبارة، وسابقة أوانها، على افتراض أوان للثورات أو للانعطافات السياسية الحادة.

ووقوفها أي ترددها في الحسم في أصول الدولة والولاية، أي في العنف المشروع، وحد الداخل والخارج، والتمثيل (أو لبس أعباء الولاية)، هو صدى التبكير هذا. وتعليل الوقوف أو التردد في المسائل الجوهرية هذه بإعمال الطغيان الاسدي أركان انسلاخ الدولة عن المجتمع ومفارقتها الجماعات الأهلية، ودمجه سلاح الدولة بقضية من غير شعب مادي وبجماعة أهلية معاً، هذا التعليل لا يفتئت على الوقائع، ولا يفتعل رواية مغرضة. ويقوي التعليل، على زعمي، تقدم الحركات الاخوانية، على هذا القدر أو ذاك، على غيرها من الحركات السياسية أو الأهلية العربية في مضمار الاضطلاع بكيان الدولة السيادي، والتصدي لهذا الاضطلاع، وتصديقها حين تتصدى له. وتقدمها هو ثمرة خبرتها التنظيمية المديدة، ونضالها الطويل في أوساط اجتماعية وشعبية عريضة مدت لها يد العون، ومعارضتها الانظمة الحاكمة والقاهرة، وصدورها عن اسلام بعضه مشترك ومتعارف وبعضه الآخر "ثقافي" واجتماعي إرادي ومجتهَد، الى آخر العوامل التي يحصيها الباحثون في السياسيات والاجتماعيات، ولا ينكرها الحركيون. ولكن هذه العوامل مجتمعة لا تبعث على القبول والتصديق لولا مزاعم الحركات الاخوانية في أحقيتها بحكم الدولة، ويقينها العميق عموماً بجدارتها بالحكم. فهي لا يصدق الرأي فيها، في "ثورتها"، بالتبكير وسبق الاوان.

ولا تنكر قوة هذه المزاعم في وجه صلف الاجهزة العشائرية- البيروقراطية، وعدوانها المستميت والمزمن على روابط الاجتماع السياسي، وعالم الحياة السائر والمتقاسَم. وقلما ينهض في مقابل عصبية القوم الأهلية العربية، الحقيقية أو الوهمية الصناعية، ويقوى على مكافأتها، غير اللحمة الدينية. ولم يخفَ على المراقبين اليسر الذي طبع اقدام قدامى الجهاديين الليبيين على الفتوى بجواز الاستعانة بقوات الاطلسي، والاحتماء بها من عدوان الجماهيرية القذافية. ولم يفق المراقبون بعد من اجتهاد راشد الغنوشي في "اسلام" الدولة البورقيبية (والكمالية، على لسان أردوغان التركي) وضرورات السياحة بتونس وإباحتها المحظورات، والكلام في الخلافة السادسة في اليوم التالي. وهذا ما لم يكن ليتجرأ عليه مدني ديموقراطي عامي. وليس هذا دعوة الى الاقبال على المزاعم، ولو مستحقة ومصدقة. فالتحفظ السوري عنها قرينة نضوج، وآية فعل مديد وخفي في أركان الاجتماع السياسي الوطني وأبنيته التحتية. وما لا نعلمه الى اليوم هو ما قد تصنعه الحركة الوطنية المدنية والديموقراطية السورية بهذا التحفظ، وفي أي نهح قد تستثمره، وتخرج به من منطق الحرب الرأسية الذي يريد النظام حبس الحركة بين جدرانه العقيمة. فإذا آذن التحفظ فعلاً باختطاط نهج جديد بَطُل الحكم بالتبكير، وحق فيه انه استعجال ونفاد صبر، على ما يحصل للمتوجس خيفة ويقع له.

الاثنين، 7 نوفمبر 2011

تعليقة ثانية مستأنفة على حنا بطاطو في ضوء "المشاهد" العربية المعاصرة: دولة الاستبداد المديدة ثمرة الجمع بين خنادق الجماعات ووحدتها الآلية

6/11/2011 المستقبل--

حين ولي فيصل الأول ملكاً على العراق، غداة هزيمة جيشه "العربي" بميسلون في ضاحية دمشق، واستقر ببغداد بعد تردد، لم يغفل الشاب الحجازي، والعثماني إلى بارحة قريبة، أن ولايته إنما هي على "كتل بشرية خالية من أي فكرة وطنية (و) لا تجمع بينهم جامعة" (عطفاً على تمهيد تناول كتاب حنا بطاطو الكبير العراق: الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني حتى قيام "الجمهورية"، ونشر في "نوافذ "المستقبل"، في 22/10/2011). والعراقيون، على قول مليكهم الجديد الذي لم يختاروه ولم يخترهم في مذكرة سرية استخرجها حنا بطاطو من محفوظات بريطانية لا تحصى وثائقها كثرة وعدداً، العراقيون ليسوا "شعباً عراقياً بعد". و"الكتل البشرية" المتفرقة التي آل إليه حكمها، أو حكم "دولتها" المفترضة، "متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية". وأهلها أو أهاليها سريعون الى "الانتفاض على أي حكومة كانت". ويصف الشريف الحجازي الهاشمي ابن الشريف الهاشمي نقائض الاجتماع العراقي السياسي والأهلي وقصوره قياساً على مثال يتخيله ويحسب أنه حقيقة وواقع معياريان. ويحسب الأمير الجديد أن لا مناص من إيجاب الحقيقة والواقع المعيارين هذين قبل جواز الكلام على شعب عراقي، ودولة عراقية، وقبل استوائه هو ملكاً أو حاكماً فعلياً. وليس أضعف المفارقات ولا أقلها دلالة إقبال الشريف الحجازي والهاشمي على التملك على شعب "لا وجود" له، على قوله كذلك، على المثال المرتجى، الوطني والسياسي المجتمع، وليس على الشاكلة المشرذمة (القبلية العشائرية والقومية) والخرافية (الدينية والمذهبية).

وعلى هذا، عزم العاهل "العراقي"، ومعه رهط الضباط العثمانيين الشريفيين من أنصار ثورة أبيه على جيش السلطنة العلية والمسلمة المرابط في الولايات العربية، بين حلب شمالاً والمدينة المنورة جنوباً والسويس غرباً والبصرة شرقاً، ومن ورائهم ضباط الامبراطورية البريطانية وموظفوها، عزموا جميعاً على "بناء" أو إنشاء الدولة والشعب الوطنيين والعتيدين. ويقتضي هذا، على المعنى المضمر في شكوى الامير، توليد أو استيلاد "الفكرة الوطنية" الجامعة من "الكتل" الأهلية المتفرقة، وإرساء الحكومة أو الدولة ودالتها على ولاء المواطنين الطوعي (في وقت ثان) ورضاهم ولايتها عليهم باسم الرابطة المعنوية والرمزية المنشودة، والتدبير العادل، والمساواة في توزيع المصالح ("المناصب"، على قول ذلك الوقت، والاصول المعنوية والمادية وعوائدها من صنفيها).

"الفكرة الوطنية"

واضطلاع فيصل بـ"الفكرة الوطنية" العراقية- وهو الوافد على جماعات ما بين النهرين وقماشتها الاقليمية، من خارج مثلث: مراتب السلطنة والخلافة السابقة، والعروبة السلالية والتاريخية الملتبسة بالاسلام، والامبراطورية البريطانية وحراسة طرق مواصلاتها-، مفارقة أخرى من المفارقات التي لم ينفك منها نشوء الدول والامم في وقت وعالم خَلَفَا انهيار أبنية امبراطورية قديمة (التركية والنمساوية والروسية) ودوام أخرى (الروسية "السوفياتية" والبريطانية والتركية والايرانية)، وولادة كيانات "وطنية" هشة وضعيفة. وهو يطلب ملكاً وولاية على جماعات تقوم، أول ما تقوم وتتماسك، برئاساتها التي تتربع في ذرى أجسام عصبية منكفئة على نفسها، على رغم علاقاتها القوية والحيوية بأشباهها ونظائرها، وبنقائضها أو أضدادها، من الأجسام العصبية الأخرى. وطالبُ الملك والولاية، على خلاف من يطلب الملك عليهم من جماعات بين النهرين، ليس رأس عصبية قوية ومتغلبة على شاكلة تلك التي جمعت تحت سلطانها، الى الجنوب، ديرات القبائل، ومدن الأهل. فكسرت شوكة الحرب في القبائل من طريق التوطين في الهجر، وتوزيع عوائد الغلبة على الرؤساء والمشايخ لقاء استتباعهم، على المعنى الحرفي (إلحاقهم سيوفاً وجنداً ومقاتلة في أمرة العصبية المتغلبة).

ومن يتصدرهم فيصل ويتقدم عليهم من ضباط عراقيين وسوريين وكرد محليين شايعوه (شايعوا أباه أولاً) على السلطنة، ثم على فرنسا، قبل أن تنصبهم الادارة البريطانية على الجماعات "العراقية"، هؤلاء ليسوا أحسن منه حالاً في ميزان العصبيات والشكيمة والمرتبة. فهم طارئون على الجماعات الأهلية، ومولودون من مراتب ومكانات متوسطة. وهذه ارتقت من طريق بيروقراطية السلطنة المركزية، وحازت النفوذ بواسطة مراتبها الجديدة في الأسلاك العسكرية والادارية والمالية والدينية. وهذه الأسلاك، بدورها، تنامت عدداً ودوراً ونفوذاً تحت عباءة الدول الاوروبية "الكبرى"، وتنافسها على اصلاح السلطنة، أو تحديثها السياسي الوطني والتقني، وتقاسم النفوذ عليها وتوزيع عوائدها، وتقييد تفككها ورعايته، معاً وفي آن. فكانت البيروقراطية أداة من أدوات تجديد أبنية السيطرة المركزية المتآكلة على الولايات، وفي الداخل الأناضولي، وباعثاً على نشأة مجتمع سياسي ضيق اضطلع بتقييد سلطة السلطان وأركان نفوذه (مشيخة الاسلام والجيش القديم ونظام مِلك الارض وتلزيم الوظائف) وسعى في إضعاف هذه وتلك.

وكانت "الوطنية" أو "القومية"، فكرة ورابطة ودولة وجسماً سياسياً وحقوقياً، مطلباً أو غاية متناقضة أو متدافعة. فهي من بنات تحديث السلطنة، وإرادة حمل الشعوب والأقوام المغلوبة على الانخراط في كنف سلطان "دستوري" ما أمكن. ولكن "الفكرة" هذه كانت، في وقت واحد، نهجاً لمنازع أهلية وجزئية وفرعية، من وجه، وطُعمة لمصالح امبراطورية، دينية مذهبية أو عرقية، من وجه آخر. وإذا كان استقلال الولايات الذاتي، أو توسيع صلاحيات ادارتها الذاتية، خطوة على طريق تمدْين سياسي واجتماعي ("ديموقراطي"، على تحفظ شديد)، فلا ريب في أن تولي ولائد البيروقراطية السلطانية، من أهل الولايات المقيمين غالباً باستانبول و"المصعدين" إليها، طبع هذا التمدين بطابع التسلط والتوحيد الفوقي والعمودي الحاد.

ولم يشذ العراق، أي جماعات ما بين النهرين، عن التنازعات هذه وتدافع عواملها. فكان الملك الوافد، والقادم محمولاً على أسنة الجيش البريطاني (سلف "الدبابات الاميركية" المخيفة و"الضرورية") غداة فراغ القوات الغازية من اخماد "ثورة العشرين" الوطنية الجزئية والعشائرية الدينية، أداة رغبة القوة المحتلة في تدبير مجتمع "منظم" على مثال دولة- أمة، آمنة ومن غير منازعات أهلية باهظة الأكلاف (على المحتل والرعايا). والمثال نفسه مناط رغبة "الطبقة الحاكمة" الجديدة والمزمعة، من باب أول. وبينما يملك الاحتلال قوة قسر الجماعات على الرضا بالدولة الوطنية، الخلو من المنازعات الأهلية العصبية والمراتب الوسيطة (بين السلطة المركزية غير القائمة وبين المواطنين المفترضين)، لا تملك "الطبقة الحاكمة" المتحدرة من البيروقراطية العثمانية القوة هذه، وهي عالة على القوة الفاتحة والمستعمرة. وتجتمع القوة الفاتحة والمستعمرة و"الطبقة الحاكمة" المزمعة على مصلحة مشتركة هي إخلاء المجتمع "الوطني" المرجو من منازعاته الأهلية المدمرة، وتوحيده أو جمعه على "حكومة" تدبير وإدارة وانتاج منقادة، ومن غير هوى ولا مصلحة ذاتيين.

وهذا يتناقض ويتدافع. فالباعث على الوحدة لا يتأتى إلا من مصلحة وهوى ذاتيين. ويقتضي تغليبيهم على المصالح والأهواء الاهلية والجزئية المتدافعة والمحتربة تحطيم اللحمات العصبية التي تغذي المصالح والاهواء هذه وتغتذي منها، أو استتباعها. وتتولى الاستتباع جماعة قوية ذات شوكة ومتغلبة. فترسي غلبتها وسلطتها على تحالف يقيد العصبيات، ويرتبها على مراتب تحفظ لحماتها، وتلحقها بالجماعة المتغلبة إما مباشرة وإما من طريق مراتب وسيطة، محلية أو اقليمية، على ما حصل الى الجنوب من العراق في العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين. وينشأ عن الاستتباع، إذا افلح، إطار سلطاني رخو أو مرن يرعى مساكنة العصبيات ومراتبها معاً. فإذا ضعفت العصبية المتغلبة، وقصرت عن التحكيم والتوزيع "العادلين"، استيقظت العصبيات المغلوبة، أو بعض فروعها، وخرجت على "النظام" باسم روابط عامة ومشتركة، دينية في الغالب. وأما التحطيم فتتولاه جماعة قوية أو تحالف جماعات قوي. ولا تستقر غلبتها إلا إذا هي أتمت تحطيم الابنية العصبية كلها، وفيها أبينة عصبيتها هي، وتبددت أركان الغلبة الخاصة. فتنحل السيطرة في أبنية الدولة السياسية، ويقوم الشعب السياسي، المؤتلف من ارادات فريدة وأهواء ومصالح "نووية"، مقام مصدر السيادة أو الولاية. وهذه السيرورة، سيرورة تولي الجماعة المتغلبة استتمام تدمير أبنية غلبتها وإرساء السيطرة على قواعد غير مرتبية أو فئوية، فردية، هي ما سماه نوربرت إلياس، الألماني فالبريطاني، "دينامية الغرب"، الليبرالية والديموقراطية في آخر مطافها أو مطافاتها.

إلزام الدولة

ولم يكن ثمة ما يدعو قوة الاحتلال البريطانية بالعراق الى تحطيم الأبنية العصبية الأهلية. ويقتضي العمل قوة كبيرة ووقتاً طويلاً، بينما تستعجل القوة المستعمرة العالمية اجلاء معظم قواتها العسكرية وطاقمها الإداري غداة الحرب الأولى وذيولها (التركية والهندية والقارية الاوروبية) المعقدة والباهظة. وهي لا تجهل أن تصديها لهذه "المهمة" يبعث اضطرابات وثورات وانتفاضات لا حصر لها، ويتهدد الممتلكات الامبراطورية كلها بالتصدع من طريق العدوى. وهي تحتاج الى تعاون "طبقات" وجماعات أهلية، على أن تجزى على تعاونها، في كنف البنية السياسية والاجتماعية الجديدة، ورعاية السيطرة البريطانية، فوائد ومنافع مادية ومعنوية رمزية، من غير انفصال. وانتهجت السياسة الامبراطورية نهجاً متنازعاً ومتعرجاً خَطَّ تنازعَه وتعرجه "تناقضُ" المشروع الاستعماري، الغربي عموماً والبريطاني على وجه التخصيص. فالدولة، أو الدولة الامة على مثالها الاوروبي، لا تقوم الا بولاية ذاتية هي شرط ضبط المنازعات المتفرقة في اطار يرعى تضافرها، في نهاية المطاف، على تمكين تماسكها (على نحو احتساب إعمال قوتين في حركة جسم واحد). ويفترض هذا، فيما يفترض، نازعاً تلقائياً وداخلياً الى السيادة في اطار بنية "وطنية". وهذا معناه ان تضطلع القوة المستعمِرة بإعداد البلد المستعمَر الى الاستقلال والانفصال من الامبراطورية التي استعمرته تلبية لمصالحها الذاتية واحتياجاتها، على ما استنت مبادئ ويلسون في شأن الانتدابات. ولا يسوغ المبادرة الى "التأهيل"، حين تنهب المنازعات والتفاوتات داخلاً هلامياً ومتفرقاً وآن قوة المراقبة الدولة المعيارية لا تزال هزيلة ومتعثرة، مسوغٌ يتغلب على الارجاء لا الى غاية.

والحال أن "الحكومة" أي أجهزة الحكم الادارية والعسكرية والبوليسية والتقنية والمالية والتعليمية والقضائية، الى "الجهاز" المعنوي الذي يمثل عليه محلُ الحاكم أو "واسطة العقد" (الوكالة الدينية أو القومية السلالية والنسبية...) كانت "أضعف بكثير من "الشعب" في العقد الرابع من القرن العشرين، على قول حنا بطاطو. وهذا لا جدال فيه، إذا قيس على معايير مادية وكمية مباشرة، وإذا جمع في "الشعب" الواحد والمتجانس جماعات متفرقة ومتناحرة لا يدعوها الى التكتل والتكاتف داع قوي وثابت. وتحقق القول المتقدم المقارنةُ بين 100 ألف بندقية أهلية، تملكها العشائر مجتمعة أو متفرقة ومتقاتلة ويعود معظمها الى بطانات مشايخ العشائر، وبين 15 ألف بندقية حكومية يكاد يقتصر عليها تسليح الجيش العراقي والقوة الامنية. وكان الجيش العراقي يعد، قبل 1933 (عام سيطرة الحكومة الوطنية على الشؤون الداخلية)، 7500 عسكري. وعد غداة إقرار السيطرة 11500. وبعد 3 أعوام على ارتقاء غازي بن فيصل العرش، قفز عديد الجيش الى 19500 جندي في امرة 800 ضابط. وفي الاثناء، وسع غازي ما عجز عنه فيصل وهو سَنُّ التجنيد الالزامي (1934) وهذا اجراء على طريق دمج ابناء العشائر وأبناء المدن، وهما "جماعتان" متنافرتان الى فُرقة داخلية حادة، في "حياة وطنية" تتراءى أفقاً فوق ما هي حقيقة.

وتوسعُ الجيش الوطني، عديداً وتسلحاً ومصادر اجتماعية واقليمية مذهبية وطبقية، هو من الزامات بناء الدولة في مجتمع دول معاصر لا يطيق ما لم يكن سماه بعد "الدول الفاشلة"، وخلائفها هي الحروب الاهلية والحركات الانفصالية والقرصنة والتهريب والارهاب والتجارات غير القانونية وتهديد الاطراف والمراكز معاً. وتقدم الدولة المستعمرة على تلبية هذا الإلزام مكرهة، على رغم يقينها باستحالة التخفف منه، وذلك بموجب مصالحها. وعاندت بريطانيا طوال عقد ونصف العقد تقريباً الحاح فيصل في بناء نواة عسكرية وإدارية وتربوية وقضائية عراقية يستقوي بها على العشائر والطوائف والديرات والاقوام العراقية، وعلى الادارة البريطانية وقوتها العسكرية، في آن. وإلى اليوم، يعزى مقتل غازي في حادثة "غامضة" الى اصراره على بناء النواة الذاتية هذه. ومضى الطاقم الحاكم، وهو القصر وحلقة الأنصار الشريفيين المختلطة (من عسكريين وسياسيين)، على تقوية الجيش، بعد مقتل غازي وانتقال الحكم الى قرب المقربين من السلطة المستعمرة، الوصي عبد الإله ونوري السعيد. فبلغ عديده، في 1941- 1942، نحو 45 ألف جندي و1745 ضابطاً.

ولكن الزام الدولة، وبناءُ القوة المسلحة التي يفترض فيها "احتكار العنف المشروع" ليستقيم دورها الوطني والجامع فرعٌ على الالزام هذا، لا يقوم بنفسه ولا بمنأى من علاقات "الجماعات الأهلية وتكتلاتها ومنازعاتها. فمجتمع الجماعات المنقسم على نفسه انقساماً قريباً من الشرخ العميق والمزمن ليس في وسعه أن يستخرج من جماعاته، ومن منازعاتها، وشقاقها، جسماً متماسكاً ومتعالياً عن الشقاق. فمن هم في موقع الحكم والأمر، شأن نوري السعيد وعبد الإله، المتحدرون من النواة الشريفية الأولى والأضيق، انتابتهم الخشية من قوة الجيش المسلح. فعمدوا الى شقه حزبين: واحداً يناصرهم على صفتهم الشخصية والعصبية، تولوا السلطة أم خرجوا من ولايتها، وآخر يوالي ياسين الهاشمي، الضابط والسياسي الشريفي والعروبي. وإلى هذا، لم يلبث الجيش أن بلور عصبية سلكية حملته على طلب السلطة والمنافسة على امتيازاتها. وتغذت العصبية السلكية من مصادر الضباط الاجتماعية الجديدة، ومن دخولهم وأهاليهم دائرة التداول والتوزيع والعوائد المتسعة، وذلك من باب تقسيم عمل اجتماعي متعاظم ورأسمالوي (نظير "كابيتاليستيك" التي ذهب إليها مكسيم رودنسون في "الاسلام والرأسمالية")، ومن أبواب التعليم والوظيفة الادارية والحيازة الزراعية الصغيرة والحرفة المحدَّثة والاقامة في المدينة. وهذه من مرافق الدولة وأبنيتها.

وقادت العصبية السلكية، وهي في الوقت نفسه عصبية على كتلة الحكم المؤتلفة (على منازعة) من الادارة الاستعمارية والملك وكبار الضباط الشريفيين وكبار ملاك الارض من رؤساء العشائر وأعيان المدن، قادت قيادات الجيش المتوسطة والجديدة الى الانقلاب على كتلة الحكم، والاستيلاء عليه في الاعوام الخمسة التي تلت اغتيال غازي (1937 1941). وأفلت الجيش من يد "الدولة"، فتوسل البريطانيون بالجيش "العربي" في شرق الاردن الى اعادة عبد الإله بالقوة وصياً على العرش. ونهض هذا قرينة على شقاق اجتماعي بين جيش تغلب عليه مصادره القبلية، وقيادته الأجنبية، وبين جيش يغلب على ضباطه تحدرهم من أصول مدينية متوسطة. وصحبت الأصول المدينية والمتوسطة منازع "قومية" عروبية استقاها فريق أكثري من الضباط من المنابع الشريفية الأولى ومن روابط الشمال الغربي العراقي (الموصل والأنبار) بسوريا وفلسطين وشرق الاردن. فثنى الفريق هذا بخلاف سياسي و"قومي" على خلاف اجتماعي قديم. ولكن الحسبان أن كثرة عوامل الخلاف ينبغي أن تؤول الى كثرة عوامل التماسك وتضافرها داخل السلك الواحد، في غير محله. ففي 1943، غداة عودة الوصي وإخفاق حركة رشيد علي كيلاني (وهذا "قناع" فريق من الضباط) وانقلاب ميزان القوة العسكري الدولي، فرّ 20 ألف جندي عراقي من الخدمة. وهم ثلثا العديد الذي بلغ يومها 30 ألفاً. وآذن تفكك الجيش بانهيار اجتماعي عام بدت طلائعه في اضطرابات كردستان، وفشو التضخم، وجفاف الترع في دجلة الاسفل وتعاظم الري بالمضخات، والامعان في انفراد مشايخ العشائر بالأرض وتردي حال الفلاحين...

محاكاة المفارقة

وحالُ الجيش ليست فريدة في بابها. ومسوغ تخصيصه ببعض التطويل هو دوره الظاهر والبارز في مراحل التاريخ العراقي الحديث كلها، من الدور المملوكي الى تولي نوري المالكي اليوم، الى رئاسة الحكومة، أي الدولة في الدستور العراقي الجديد، وزارتي الدفاع والداخلية بالوكالة منذ نيف وسنة على تأليف الحكومة الائتلافية بعد انتخابات 2010 المزعومة حاسمة. وبين الدورين الانقلاب على الملكية، ثم الانقلاب على الانقلاب فيما يشبه حرباً أهلية دابة ومتطاولة لم تنفك تتخلل فصول التاريخ العراقي في نصف القرن الاخير، وتجيِّش الطوائف والمذاهب والأقوام والعشائر و"المحافظات" أو الأقاليم والمناطق والأسلاك والأحزاب والطبقات. ولا تبين حال الجيش من احوال أسلاك وأجسام ومؤسسات الدولة الوطنية الأخرى وأبنيتها، شأن القضاء (استقلال الملل والمذاهب وقتاً طويلاً بأحكام أحوالها الشخصية، "دساتير" الأحياء الجنائية وقوانين السواني العشائرية في الديرات والمدن بعد عقود من الاستقرار في المدن...)، أو التعليم وتنازعه بين ثقافة رسمية موحدة وفقيرة وبين روافد أهلية و"شعبية" قصصية (أسطورية) وصورية محافظة وجامدة.

وعلى هذا، فأركان الدولة العراقية و"مداميكها الفولاذية" المفترضة على قول القنصل أمير الجيوش فالامبراطور الفاتح نابوليون في الجيش والبوليس والقضاء والادارات والتعليم وفصل الكنيسة من الدولة، وهو داعية "استقلال" الدولة عن المجتمع وجماعاته الأهلية والطبقية ومنازعاتها- الاركان هذه ضعيفة المناعة والحصانة وهي من فعل الجماعات المتفرقة وتأثيرها ونازعها الى التفتيت. ولعل حنا بطاطو أكثر الباحثين حدة نظر في تمييز الفروق الاجتماعية التي تجاذبت مجتمعات الجماعات العربية المشرقية. وجرت عليه حدة نظره التهمة الاستخبارية والبوليسية، والذريعة التافهة هي توسله تقارير الموظفين البريطانيين. واتفق صدور كتابه الكبير الاول، في 1978 (في اعقاب بحث وتقص دؤوبين داما ربع قرن)، مع نشر "بيان"الفلسطيني الآخر ادوارد سعيد في "الاستشراق". واستقبل الكتاب الفاحص و"البيان" الخفيف على نحوين وشيا، ولا يزالان يشيان بتفاوت عميق في نوازع "الثقافة" العربية العقلانية والاجتماعية التاريخية، وفي الطاقة على احتمال الفحص الناقد في التواريخ الوطنية ونتائجها.

ولا يقتصر نظر بطاطو على احصاء الفروق وتعقب آثارها في (الحؤول دون) إرساء صروح الدولة على مداميك قوية تحصنها من التقلبات والانقسامات الاجتماعية الحادة. فينبه على تخندق الجماعات داخل أسوار منيعة وسميكة تحول دون تخليص الجماعات قواسم مشتركة، لا مناص منها في بناء دوائر عمل ونظر و"تجارة" (مبادلة) متصلة، على نحو ما ينبه الى تناقض السياسات، البريطانية والملكية وسياسة الطبقات المسيطرة والحزبية "الشعبية"، الساعية في انشاء الدولة. وعلى سبيل المثل، يحمل الكتاب الشقاق المدني/ العشائري- أي الخلاف بين عمرانين ومعاشين وميزاني معايير وأحكام ينجم عن (الخلاف) حصار العشائر المدنَ، وقطع طرق أهلها منها وإليها، ونهب تجاراتهم وتجويعهم، على قدر ما ينجم عنه استدخال العشائر وأهل الزرع منهم المدن بالهجرة والاقامة في "مدن" عشوائية تضرب على المدن حصاراً لا يقل قسوة وإحكاماً عن حصار العشائر من قبل يحمله على عامل أساسي في المنازعات الاجتماعية والسياسية والثقافية الوطنية. وهو شأن عوامل أخرى مثل الشقاق المذهبي والأقوامي والاقليمي المحلي والعشائري والمرتبي الطبقي. وعلى رغم ثبات وجوه الشقاق هذه، واتصالها الزمني، يتناول بطاطو أطوارها وتحولاتها، قوة وضعفاً وترجحاً. فليس الشقاق المدني/العشائري بعد سن الاحتلال البريطاني أنظمة التحكيم في المنازعات العشائرية (1925)، وإقراره تقديم الأعراف العشائرية المتفرقة على قوانين القضاء المشتركة، هو نفسه قبل سنها.

فالأنظمة الجديدة لم تثبِّت الشقاق على حاله، بل قوته ورفدت سيطرة شيوخ العشائر على أهل عشائرهم بروافد جديدة ليست من نسيج السيطرة السابقة: فالمشايخ "الجدد" هم أسياد الأرض قانوناً، وفي وسعهم بعد ضم المشاعات بيعها وشراؤها وجمعها وتبديدها، وتقييد الزراع بإجارتها وجبايتها، ومقايضة اقتراع المزارعين بقيمة الإجارة وتعجيل الجباية أو تأخيرها. فلا يركن التأريخ الاجتماعي إلى "بنيوية" العوامل، ولا يصدق اقامتها على حال واحدة. ولكنه لا يغفل كذلك عن سعي الجماعات في تأبيد هوياتها المتفرقة. فالعشيرة الدموية والنسبية لا تتبدد لحمتها تحت وطأة الهجرة الداخلية والتفاوت المرتبي والطبقي المتعاظم وغلبة العوائد النقدية السوقية على المداخيل. فالرابطة العتيدة، ويُقوي لحمتها المذهبُ الديني ومعمموه ومساجده، هي "دواء" كثير من العلل الاجتماعية الناجمة عن عوامل التفريق والمنازعة: فالزواج يمتنع في اطار اقتصاد سوقي وسلعي ونقدي (على هذا القدر أو ذاك) من غير طريق الأهل، والاقامة في المدينة كذلك، ومثلهما العمل أو بعضه، وبعض المؤونة من طعام ولباس... فما يطرأ ويجد، ويقتضي ربما روابط وخلافات من نمط جديد، تستجيب الأبنية الموروثة في حلة جديدة بعض مترتباته ومقتضياته.

و"تجاوزُ" الباحث هذه الأبنية، على خلاف موجبات أو دواعي التقصي التاريخي المتنبه الى المنازعات وصورها وأزمانها وأوقاتها ومضامينها، باسم تاريخانية مبدئية ومنهجية، يغفل عن "مقاصد" المجتمعات المضمرة، وعن سياقتها (أو سوقها) حوادث تاريخها صوب غايات دون أخرى، وليس على الباحث البت فيها، ونصب ميزانها. فإنشاء "المجتمع" العراقي خنادق وأسواراً من طينة النسب الدموي والقومي والاعتقاد الديني والتديّر البلداني والاقليمي، وتسويره جماعاته وأفراده بها، ليس ثباتاً أو تحجراً أعمى على أبنية "مؤبدة"، عفواً أو عمداً. فالأنساب والاقوام والمعتقدات والبلدان أركان الاجتماع، وقوتها على الزمن وتقادمه في بلاد ما بين النهرين ليست ثمرة ملاحظة تميل مع الهوى. وتقديم الجماعات العراقية هذه الأركان على عوامل تحول أخرى، وتحويرها احتساباً للعوامل الطارئة، "يقصد" بهما مدافعة نصاب الدولة السياسية "المفارقة"، وتقييد مفاعيله الهائلة في لحمات الجماعات وتحطيمها في سبيل "استخراج" الأفراد منها وصناعتهم، ونصب معايير الائتلاف والخلاف، وأحكام العمل والاعتقاد، والأبنية الاجتماعية والسياسية والثقافية بناء على المعيار الجديد.

وهذا ما تتردد على عتبته الحركات الوطنية والمدنية الديموقراطية الجديدة، وتدخل دائرتَه متلعثمة وظهرها إليه. وهو معين مقاومة أنظمة الاستبداد، الصلبة أو الرخوة. فالاستبداد، على صوره العراقية (السعيدية والقاسمية والصدامية، والمالكية؟)، والسورية (الاسدية) والليبية (القذافية) والمصرية (الناصرية والمباركية)، صاغ الدولة الجديدة واللازمة، على ما تقدم القول، على مثال يجمع مدافعة الدولة، ورفض مفارقتها الجماعات وانفصالها منها، الى احتساب العوامل الاقتصادية والتقنية والنفسية "الجديدة". ولعل انكفاء الحكام الطغاة، وجماعاتهم المذهبية أو العشائرية الاقليمية (على المثال القذافي) والعصبية المصلحية المولَّدة (على مثال مبارك) والقومية العامية (على المثال الناصري)، على عصبية أهلية و"مقاومة" مناوئة "للامبريالية"- والرأسمالية والليبرالية والديموقراطية المدنية و"الأنوار" الفردية والعقلانية معاً لعل الانكفاء هذا قرينة على رفض التجريد والعموم السياسيين والحقوقيين اللذين تفرضهما الدولة المحدثة. ولا يسع الدولة، والحال هذه، وهي حال محافظة جماعات المجتمع على خنادقها وأسوارها، الاضطلاع بوحدة مجتمع الجماعات الوطني إلا من خارج هذه الجماعات و"فوقها"، ومن طريق تحاجزها، ومحاكاة وظائف الدولة الادارية والاجتماعية محاكاة صورية، على ما تختبر الحركات الوطنية والمدنية في أرجاء العالم العربي كل يوم.

الأحد، 23 أكتوبر 2011

مشاهد" التاريخ السياسي والاجتماعي العربي المعاصرة في ضوء كتاب حنا بطاطو "الكبير" في العراق: بلوغ مراكز السلطة العربية استيلاء واحتكار

 المستقبل - الاحد 23 تشرين الأول 2011
يحسب من يقرأ أن "نحو ألفي شخصية عشائرية من مدن متفرقة" فيهم رؤساء عشائر أكراد، اجتمعوا في مؤتمر عقد إحياءً لذكرى "ثورة 1920"، وعظموا دور العشائر "الواضح" و "ولاءها الوطني" في "بناء البلد خلال كل مراحله السابقة والحالية"، واضطلاعها بـ "وحدة العراق والشعب العراقي... لا فرق بين عشيرة وعشيرة"، واستئناف "الأحفاد" صنيع "أولئك الرجال في ثورة العشرين" وثباتهم على "قيم العشائر منذ ذلك الوقت" وهي قيم المجتمع كله وصورة عن "طبيعته العشائرية" (الشيخ فلاح العداي من عشائر الأنبار)، وقيامهم بـ "لحمة (العراقيين) الواحدة" كرداً وعرباً ومحاماتهم عنها دون من يريد "تمزيق شمل العراقيين وانتهاك "خط الوحدة الوطنية الأحمر" (الشيخ سالار عبدالوهاب باجلان باسم ستة من شيوخ عشائر أربي ودهوك) يحسب من يقرأ هذا، وغيره مثله كثير، أن المؤتمر العتيد انعقد في العهد الملكي، وفي رعاية شيخ العراق الأول وشريفه المتحدر من "عشيرة" بني هاشم. ولكن المؤتمر عقده المؤتمرون في أواخر حزيران المنصرم.

وهو وجه من وجوه "النشاط" السياسي أو الأهلي المحموم الذي يعتمل في ثنايا "المجتمع" العراقي منذ سقوط صدام حسين، ونظام عشيرته وحكمها، قبل 8 أعوام ونصف العام تحت وقع "الصدم والترويع"، على ما سميت عملية القصف الأميركية العنيفة قبيل الحملة البرية. ويعمد أهل السياسة في العراق، حزبيين ونواباً منتخبين على الصفة الحزبية والسياسية الوطنية والجامعة أم مندوبين عن جماعات وتيارات محلية وعصبية، إلى إعمال المصطلح أو المرجع العشائري والمحلي والمذهبي والقومي في مناقشاتهم وسجالاتهم، ثورية أو صراحة ومباشرة. فإذا استعاد رئيس البرلمان العراقي، أسامة النجيفي (من "القائمة العراقية" المختلطة) اقتراحاً سائراً يقضي بتخصيص الأنبار، السنية السكان والشاسعة المساحة، بإقليم على غرار إقليم كردستان، وهو لا يخرج عن بعض مندرجات الدستور العراقي الجديد، جبهه بعض أعضاء كتلته الكبيرة، "العراقية"، وبعض أعضاء كتلته الصغيرة، "عراقيون"، بالتنديد، وطعنوا في أنانيته المذهبية وغير الوطنية. وردوا عليه احتجاجه بـ "تهميش" أهل محافظته وملته. ونبهوه إلى أن "سوء الخدمات والبطالة والفقر تطاول الجميع بلا تمييز" (ميسون الدملوجي باسم "العراقية"). وأبدى بعض نواب "التحالف الكردستاني" اهتماماً بما قاله رئيس البرلمان في أثناء إقامته بواشنطن في أواخر حزيران. وعطفوا التصريح بطلب الإقليم السني العربي على ميل الأكراد إلى "تشكيل الأقاليم الأخرى"، ونفيهم عنها شبهة "التقسيم" (مؤيد طبيب باسم "التحالف").

فوالق انقسامات وصراعات

ويتفق هذا، وهو مرآة ميول استقلالية "ذاتية" لا تذهب الى الانفصال وتحول دون الاندماج والبحث في سبله وشرائطه، مع النزاعات المحلية، "الأمنية" ظاهراً والأهلية فعلاً، التي تتغذى منها أعمال الإرهاب في بغداد وديالى والأنبار والموصل وكركوك، في الوسط والشمال، وفي كربلاء والنجف والناصرية والبصرة جنوباً. وتبدو النزاعات المحلية، على صورة تفجيرات أو اغتيالات، قرينة على استقرار بطانة اجتماعية تحتية وعريضة تلازم "المتن" الضيق والمهشم، وتغذي خروجاً متعاظماً وراجحاً على قانون ضعيف الحيلة واليد والدالة، ويتناهب حيزه أو دائرته، شأن تنازع أهل القوة ("الناس اللي فوق") وأهل الضعف ("الناس اللي تحت"). وتصب في "الهامش" العريض هذا روافد كثيرة يختلط فيها المهجَّرون، وسواقط المراتب والطبقات المتفرقة، والمجرمون المستقلون، والمجرمون المنظمون، والمقاتلون الناشطون، والمحتالون، والمتسلقون، وحواشي السياسيين، وغيرهم. والمناقشات السياسية المترجحة في المسائل الكبيرة مثل الفيديرالية وقانون الطاقة والنفط والمادة 140 من الدستور (وضع كركوك) وتقاسم المناصب الحكومية والعلاقة بالأقطاب الإقليميين والمعاهدة الأمنية العراقية الأميركية والفساد "العظيم"، هذه المناقشات مرآة ثبات الخلافات والتناحرات العراقية على حالها وعجز الجماعات والهيئات عن تخطيها.

ويذهب معلقون ومراقبون كثر الى ان وجوه الأزمة، والمسوخ الغريبة التي تفرعت عنها، إنما حبلت بها الأعوام الطويلة (35 عاماً) التي استبد في أثنائها بالسلطة حزب صدام حسين و "بعثه" وعشيرته. وكان الغزو الأميركي، وانهيار الأبنية الركيكة التي كانت ترعى تماسك "الدولة" الظاهر (والظاهر في هذا المضمار جوهري) تحت وطأته الفظة، قابلة الأزمة ووضعها وولائدها الممسوخة. ولكن زيارة عمل حنا بطاطو الكبير "العراق/ الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية" (1978 بالإنكليزية و1990- 1992 بالعربية، في ترجمة عفيف الرزاز، التقريبية والمضطربة على زعمي) في ضوء الوقائع التي أعقبت قيام الجمهورية الى انفراد صدام حسين بالسلطة (هذا تولاه العمل نفسه) وقيادته حربي الخليج، وتلك التي خلفها انهيار الرجل ونظامه واحتلال العراق ثم محاولة بناء العراق الجديد المتعثر والشاق، هذه الزيارة تنبه الى قيام العراق، مجتمعا(ت) ودولة (دويلات)، على فوالق انقسامات وصراعات عصيت سيطرة الجماعات المتصارعة عليها. وربما لم تسع الجماعات والهيئات المتفرقة في السيطرة على فوالق الانقسامات والصراعات، ولم تتنبه الى خطورتها وصلابة مكسرها، إذا استثني فيصل الأول ابن الشريف حسين. وهو كان في موقع نافذ ومقيد معاً. وينبغي على الأرجح استثناء كامل الجادرجي كذلك، وهو أحد أركان تيارات المثقفين "التقدميين" والليبراليين معاً ومنظماتهم وصحفهم، على رغم ضعف دوره السياسي. وهو انتهى به إدراكه جسامة الانقسامات والصراعات، وانصراف العراقيين عن تدبرها، الى الاستقالة من العمل السياسي، غداة نصف قرن من مباشرته ومراقبته مراقبة نفاذة. وقد يحصي الواحد في عداد القلة القليلة من الذين تنبهوا على فداحة "المادة" العراقية طاغيتي العراق الحديث، نوري السعيد وصدام حسين. وهما تمثيل حاد على إدراك عدمي للفداحة العصبية على الترويض والسوس. واتفق هذا وميولهما العميقة والجامحة الى تسلط لا قيد عليه.

والحق أن ما يسوغ زيارة عمل حنا بطاطو الفريد في بابه، الباب التاريخي والاجتماعي "العربي" والمعاصر، اليوم على وجه الخصوص، لا يقتصر على شبه مفترض وظاهر بين أحوال اليوم وأحوال الأمس القريب والأبعد التي أحاط العمل بها على نحو قلما تكلفه باحث مؤرخ في مجتمع مشرقي. وهذا الشبه، إذا اتفق وثبت، لا ينفي فروقاً عميقة لم يغفل عنها الباحث المتقصي، وأنزلها في محل القلب من تقصيه التاريخي. فموضوع عمله، على رغم وسمه التشريحي والوصفي وقرب جداوله الكثيرة من التبويب القَبَلي (نسبة الى "قبائل" الجمجمة وتقابل أجزائها الاثنيني)، هو المنازعات الاجتماعية والأهلية وأطوارها و "دينامياتها"، ولو على صورة الطياحة والخبط البعيدة من الانضباط الفيزيائي والميكانيكي الذي توحي به اللفظة.

مدافعة الدولة

ولعل ما أوهم بثبات المثال الذي جرى عليه التقصي، أو بـ "اسطاطيقيته" (على خلاف ديناميته)، هو جمعه بين منهجين: واحد تغلب عليه الروابط الجزئية والموضعية المباشرة والمغلقة، على ما يُرى في جداول الأبواب الاستقصائية التي تنزلها الطواقم السياسية المتفرقة و "القيادات"، وثانٍ عام وعريض يفصح عنه حنا بطاطو في خلاصاته الختامية وينتسب الى نظرية "نمو التخلف"، على ما صاغها عليه اندريه غوندير فرانك وفريق من الماركسيين في أواخر الستينات وأوائل السبعينات من القرن العشرين. وينحو النهجان نحوين من العسير التأليف بينهما. والأدق القول ان الباحث الكاتب لم يتكلف مؤونة التأليف الشاقة، أو هو لم يحمل التأليف على تتمة عمله "الضرورية". فصرف جسم العمل الأعظم الى وصف مفصل تناول ثنايا الجماعات، واقتص حوادثها على هدي علاقة "تمثيل" أو "تعبير" بقيت معاييرها مضمرة وغامضة أو مفترضة بدهية. وحاك في الختام خيطاً جامعاً أناط به تعليل إصابة علاقات الطبقات الاجتماعية بخلل أو تشويه جراء إدخال بريطانيا المستعمرة عاملاً غريباً هو ربط العراق بالسوق العالمية الصناعية وسلعها، وتحويل الامتيازات لمصلحة أوروبا (عوض السلطنة العثمانية التركية)، وغلبة وسائل النقل البخارية، وسلخ محافظات العراق العربية الشمالية عن دائرة تجارتها السورية أو الشامية... ونجم عن الربط هذا، على ما يكتب بطاطو، تردي الاقتصاد المحلي القائم على الحرف وصناعة المراكب والنقل التقليدي (على الجمال والمراكب الشراعية) وانهياره، واستقرار زراعة قبلية متصلة بالسوق على إنتاج كفائي ورعوي، واستملاك المشاعات القبلية والأميرية الشاسعة وجمعها بين أيدي المشايخ القبليين والأغوات عنوة، وتصدع الجماعات القبلية وطوائف الحرف والطرق الصوفية، وهجرة جماعات عريضة الى المدن وانخراطها في الجيش والشرطة والإدارات ومرافق العمل "البسيطة"... (الفصل 24، الجزء الثالث).

ولكن عمل الباحث الفلسطيني النسب، والأميركي التدريس، يتخطى بما لا يقاس التعليق "المنهجي" المزعوم الذي ألفه معلقو أو قراء "اليد الثانية"، ممن لم يتكلفوا عناء جمع المادة الأولى، أو التحري عنها في مواضعها وتمييزها، وسلكها في جُمل وسياقات إحصائية وروائية متماسكة ودالة قبل محاولة تأويلها واقتراحه، واختبار التأويل ومتانته. وما يدعو الى استئناف النظر في العمل، وهو لم يُعمَل إلا إعمالاً ضعيفاً وقليلاً (قياساً على استدراج "المناضلين" مديحاً وتطبيلاً مقيمين، أو من غير مقايسة ولا مقارنة)، ويدعو إلى إدامته، وتوسيع حقله، اتصاله العميق بأطوار المجتمعات المشرقية اللاحقة والراهنة، وربما الآتية إذا جاز التكهن والاستباق على حذر شديد. فحرص الكاتب المتقصي على تعقب أطوار الجماعات والأحوال طوراً بعد طور، وتحريه الدقيق عن تحدر الطور من الآخر، واتصال اللاحق بالسالف أو انقطاعه منه، وحياده عن سكته، بعثه على استخراج المزمن من العارض، أو البنيوي من الحادث. ولم يفترض البنيوي كامناً ومضمراً، ولا افترض العارض عبثاً. فقاده التقصي التاريخي الجامع، على نحو فحصِ الطبيب المعالِج وجوه قول "المريض" وأحواله "كلها"، وحملِه الوجوه والأحوال على كلٍّ وجميع دالّين، إلى تدوين ما ألح وتكرر طوال نيف وقرن بين انهيار عهد المماليك والفصل الأخير من التنظيمات العثمانية وبين استيلاء البعث في صيغته الصدامية التكريتية على الحكم والمجتمع العراقيين. وقد يكون ما ألح وتكرر (أو هذا ما أزعمه على تبعتي وحدي) هو مدافعة الجماعات العراقية، طبقات قديمة وكتلاً وسيطة، وحركات جديدة، الأبنية السياسية والوطنية الناشئة والمركزية مدافعة نشطة وفاعلة، وإنشاء الطبقات والكتل والحركات من علاقاتها ومراتبها ومبانيها ومنازعاتها دوائر منكفئة، وخنادق حصينة، تجعل من بلوغ السلطة ومراكزها استيلاءً واحتكاراً، من غير مشاطرة أو منازعة مشروعة. وعلى هذا، يضم الفريق المستولي الدولة ومراكزها وسلطاتها ومواردها إلى مِلكه و "ديوانه الخاص"، على قول عثماني وسلطاني سائر. ويَبْقى على حاله قبل الاستيلاء المركزي، أي جماعة أهلية أو كتلة أهلية مركبة تقتسم أجنحتها وكتلها الفرعية، و "أفرادها"، "المصالح" والعوائد والريوع.

ويفترض هذا (ويترتب عليه، في آن) إقامة الجماعات الكثيرة، المذهبية والمحلية والنَّسبية القرابية والقومية الإثنية والاجتماعية (عملاً وموارد وإقامة وموقعاً من الجماعات الأخرى في إطار "الكل" المفترض وحركة بيانية)، على فروقها ولحماتها أو عصبياتها، أي على حصونها وخنادقها بإزاء الجماعات الأخرى. وهو يفترض كذلك تعظيم الفروق والمراتب بين الكتلة المستولية وبين الكتل الأخرى، المنفية حكماً من "دولة" الكتلة المستولية. فسند الاستيلاء الجديد، وهو ما تعول عليه الكتلة المستولية في سبيل إدامة سلطانها وتعظيمه، هذا السند ليس معايير استملاك وتوزيع جديدة ومشتركة أو عامة فيؤدي إعمالها إلى ذهاب الشطر الأعظم من الموارد والمراكز إلى جماعة دون جماعة (مثل جعل الكفاءة محل النسب، أو تقديم الثراء على المكانة...)، وعلى ترتيب الجماعات المتفرقة والمتنازعة على مراتب لا يهدأ تداولها، وتدور المنازعة عليه (على التداول). وإنما السند، الوحيد ما أمكن، هو توسيع الهوة بين قوة الكتلة المستولية، وغالباً المنقلبة بالقوة العسكرية على الكتلة السابقة، وبين الكتل والجماعات التي نفاها الانقلاب الجديد من مراكز القوة ومواردها وأسبابها. وينبغي ان تكون محصلة الصراع على المراكز والموارد صفراً، فما يستولي عليه الطاقم المستولي يحسن أن يسلبه وينتزعه من المغلوبين المنفيين. وشرط دوام الغلبة والاستيلاء اللازم، وهو يلزم الطاقم المنقلب، هو ضعف المغلوبين.

اختصاص "طبقة" السلطة

ويرعى أهل القوة الجدد، ما داموا في السلطة وملكوا مقاليدها ومواردها، تجديد ضعف خصومهم ومعارضيهم ومغلوبيهم و "رعاياهم" (وهؤلاء واحد أو يفترضهم نظام الحكم واحداً)، وبقاء الهوة بين "الحاكم" و "المحكوم" على حالها من الاتساع الفاغر، والعمق الذي لا يردم. وفي مقابلة أهل القوة المتربعين في السلطة، والمجمعين على الاحتفاظ بها والملتحمين أولاً على هذا "البرنامج" وليس على غيره، يرعى الخصوم المعارضون والمغلوبون لحمتهم وانفصالهم وهويتهم، أو هوياتهم الأهلية، على حدة من الحكم، اي من الدولة الوطنية المفترضة. ويعدون العدة سراً أو علناً، لخلافة الحاكم المستولي وعصبيته. وعلى هذا مدار السياسة. ويسد الصراع القطبي والعصبي المجاري المفضية إلى أبنية أو هيئات سياسية وتمثيلية مركبة ومشتركة. فلا يقتصر غرض الصراع، والحال هذه، على المحل أو الوظيفة والدور، أو على تداول المحل أو الدور، بل يتعداهما (ويتعدى التداول) إلى "جسم" السلطة وصورتها المنغرسة في الكيان الجماعي العصبي والأهلي، وفي لحمه ودمه وقدسه. ويحيل هذا الدولة، أي معنى الأمر (والسلطة) ودالته وأجهزته، إلى مرتبة و "طبقة" منفصلتين ينزلهما أهلٌ أي أصحاب يختصون بهما، بالمرتبة و "الطبقة"، ولا يشاركهم الاختصاص إلا من يختاره الأهل، ويلحقونه بهم إلحاق أهل النسب الصريح مواليهم المهجّنين والمولدين بهم، وهذا احتلال أو فتح على المعنى الحرفي.

ومثال المتغلب بهذه الحال هو مثال المحتل الفاتح والغاصب، على ما ذهب إليه بنجامان كونستان في نابليون الامبراطور أوائل القرن التاسع عشر. أو هو مثال شيخ الأسرة و "ربها" وطاغيتها (على قول اليونان في علاقة رأس الأسرة غير السياسية بأسرته وعبيده وممتلكاته). ومن يتنطح الى الشراكة، وهي لا يسعها الاقتصار على الشراكة وتجد نفسها مقودة الى الاستيلاء والاستحواذ التامين، ينقلب على رغمه عدوّاً وجودياً أو كيانياً يُحتكم في "خروجه" (معارضته) إلى السيف، أو القتل الأهلي والاغتيال والنفي، وكلها إجراءات وأفعال "غير قضائية".

ويستحيل أن يترتب على الحرب الأهلية الكلية هذه، وأفقُها الماثلُ على رغم امتناعه العملي والإجرائي هو الإفناء المتبادل، تعاقد أو تعاهد على معايير المنازعة، وعلى تقييدها تالياً بقيود تنشأ عنها السياسة المدنية أو ينشأ عنها افتراض أفق يؤدي الى الانقسام والدمج والشراكة، ولو على مضض شديد. ويؤدي هذا، فيما يؤدي إليه، إلى إلغاء الفرق بين الداخل (الوطني) وبين الخارج ("القومي" أو الديني أو الإقليمي)، وبين السلم الأهلي وبين الحرب (الأهلية أو الخارجية)، وبين القوانين العادية وبين القوانين الاستثنائية، وبين العام وبين الخاص، وبين الدولة وبين الجماعات ومجتمعها. ويفترض في هذا ان تتضافر مفاعيله على تقوية القوي (الحاكم) وإضعاف الضعيف (المحكوم)، وعلى تعزيز لحمة الأول والإمعان في تفريق الثاني وتذريره. ويجتمع من هذا مثال للسياسة والاجتماع خرافي أو أسطوري قريب من تمثيل القصص الديني على حال الجماعات ومجتمعاتها قبل "الرسالات السماوية" ومبعث الأنبياء في أقوامهم، وقريب من تمثيل هوبس على حال البشر "الذئبية" قبل التأنس من طريق "الملك" والنزول عن آلات القتل والاقتتال إلى واحد يحتكرها لقاء بسط الأمن والسلم.

والخوض في مثل الأحوال المفترضة والمتخيلة هذه ليس من شيم حنا بطاطو. وليس القصد من الاستطراد المتقدم نسبته إليه. فهو التزم، في عمله، القرب الشديد من الوقائع والحوادث، ومن سياقاتها وجملها المتصلة أو المنقطعة. ولم يسلِّم بالأبواب والتصنيفات المركبة، ودعوتها المتفرق المتناثر إلى الاجتماع و"التسستم"، على نحت عبدالله العلايلي واستنان حسن قبيسي عليه، إلا على مضض ومضطراً ومن غير إجحاف أو افتعال. ولعل "طريقته" المتحفظة عن التركيب والبناء والتجريد هي ما أمكنه من تشخيص التقاء "المجتمع" العراقي، على المثال الذئبي أو السبعي (من السباع والمسبعة) العصبي، بأبنية الدولة الاضطرارية، على صورتها المملوكية العثمانية السلطانية، والاستعمارية (الكولونيالية) البريطانية "الحديثة"، من غير افتعال. فالدولة، على صورتيها هاتين وعلى رغم اختلاف عميق بينهما، تحمل على التأليف والجمع والترتيب، وتدرج الفروق في هذه (التأليف...) حين تنزع الجماعات نزاعاً شديداً إلى التذرر أو إلى ترتيب جامع قسري واضطراري، أو إلى الاثنين معاً. فلا تخرج، على ما يصف بطاطو، من التفرق الى الاندماج والالتحام، أو "الوحدة"، بل تبني منازعاتها ومصافها (صفوفها) على مثالات جديدة. فتستثمر احتمالات مضمرة في ضربي المثالات، وتصنع من زواج احتمالات الضربين، ومن قرانهما، تاريخاً فاجعاً وتافهاً معاً على شاكلة تواريخنا المعاصرة.

الخميس، 13 أكتوبر 2011

رفاه ورزان وسمر وصواحبهن... أنفـ(ا)س الصدق الزكية

المستقبل -9/10/2011
في العاشر من أيلول المنصرم، كانت رفاه ناشد، "الدكتورة"، أو المحللة والمعالجة النفسية السورية ويقال أنها الوحيدة من نوعها وحرفتها في "سوريا الأسد" السوية الصحة النفسية من غير طبابة- تهم بمغادرة مطار دمشق إلى باريس، حيث تنتظرها بنتها وحفيدها البكر من بنتها وبيدها جواز سفرها القانوني وسمة المغادرة. وبينما كانت تكالم زوجها مودعة، رأت رجال أمن "عصبيين"، على ما قالت لزوجها ووصفت، يفتشون المسافرين ويفحصون جوازاتهم مستعجلين وفظين. وقبل أن يبلغ رجال الامن بغيتهم، وهي "الدكتورة" المسافرة، ويضطروها إلى اطفاء هاتفها، وسعها القول لزوجها أنها هي مقصد المفتشين والتحريين، وأنهم بإزائها، ويمدون يدهم إلى جوازها. ومذذاك ورفاه ناشد في سجن مختلط، "سياسي" وجنائي. وتجيز السلطات زيارتها لزوجها وابنتها (أو ابنها) مرة في الأسبوع، نصف ساعة ووقوفاً، وفي غمرة هرج ومرج تحول دون سمع الواحد محادثه. فإذا كان المحادث (المحادثة) يشكو آثار سرطان شفي منه متأخراً، وأعراض ضغط حاد، وبلغ منتصف عقده السابع تقريباً، واعتقل عنوة وفجأة في الظروف التي اعتقل فيها، وهو مسجون في قاووش غريب ولم يعد العدة لنزوله قدَّر الواحد أثر الحال هذه في المرأة الأسيرة.

والمحللة والمعالجة النفسية لم تسبق لها مشاركة، من أي صنف، في"السياسة". فهي لم توقع بياناً من قبل (ولا من بعد)، ولم تتظاهر، ولم تكتب مقالاً ولا أدلت بمقابلة او محاورة، ولم تنتسب بالأحرى إلى منظمة. فليس في وسع سجانيها، وهم لم يتهموها، أن يظنوا فيها توهينَ نفسية الأمة، ودس الدسائس لدى العدو والتحريض على الدولة، وبث التفرقة المذهبية والطائفية، أو الانضمام إلى جماعة مسلحة والاعتداء على قوات الأمن في أثناء قيامها بوظيفتها... فلا يصح في الطبيبة ما ربما صح في الولدين حمزة الخطيب وزينب الحسني، أو "المغني" ابراهيم القاشوش، ومن غير شك في هيثم مطر وأنس الشغري، والآلاف من القتلى المحققين والمفقودين ومن الرهائن الأسرى. والقرينة الوحيدة والفريدة، فرادة احتراف السيدة حرفتها وعملها، على فعلة ارتكبتها الأسيرة العنوة هي جمعها، قبل أيام قليلة من الحملة الأمنية عليها وهي من طريقها إلى استقبال حفيدتها البكر، أولاداً وأطفالاً في دير للآباء اليسوعيين بضاحية دمشق، ومحاولتها علاج رعبهم ورهبتهم واضطرابهم من طريق دعوتهم إلى الاعراب عنها، والكلام فيها، والاستماع إليهم وهم يتكلمون.

ونهجُ العلاج الذي تنتهجه "الطبيبة" السورية يقوم على الكلام "الحر"، على ما يوصف تداعي الأفكار والخواطر والذكريات والمشاعر والكلمات الذي يدعى إليه "المريض" أو المعالَج. وهو تسمّيه المدرسة التي تنتمي إليها السيدة "القائم بالتأويل"، كناية عن تولي المعالَج نفسه تأويل أقواله وتداعياته وأحلامه واستنباطه أو إنشائه معانيها المضمرة والكامنة أو الخفية عليه. ومبرر النهج هذا، في آخر المطاف، هو أن المرض أو الاضطراب من صنع المريض، على نحو ما الاستبداد السياسي هو صنيعة "إرادة عبودية"، ولا سبب له "طبيعياً". والتحليل (النفسي) "علاج بالكلام" أو القول. وذهب بعض مزاوليه إلى وصف خصوصيته، وهي اقتصاره على طبابة قولية من غير عقاقير ولا كهرباء، بقطيعته من الإيحاء (أو التنويم المغناطيسي). فقالوا، في معرض إنكارهم الصيغة السوفياتية التي جعلت من الطب النفسي أداة تطويع المعارضين والمنشقين بواسطة العقاقير والكهرباء والايحاء، إن "التحليل يبدأ حيث ينتهي الإيحاء".

وعلى هذا ربما، بدت دعوة المعالجة او المحللة الأولاد والفتيان إلى الخوض في مخاوفهم وكوابيسهم، والعبارة عنها، والتشارك فيها، تحريضاً على الخروج على الإيحاء والتسليم بسلطان تأويل وتعليل الواحد غير المنازع. ولعل الأثقَل وطأة على السلطان المستولي هو المنازعة أو الانقسام والاختلاف، ولو لجأت هذه إلى طوية النفس وولدت كوابيس وأضغاثاً وهذياناً وهواجس وتعاسة، أو ولدت أعصبة موصوفة. فالسلطان الواحد، وهذا زعم ساذج وطفلي يسأله عنه التحليل النفسي سؤالاً ملحاً، يحسب في تشاوفه وتعاظمه وهذيانه أنه دواء الانقسامات والمنازعات كلها، بما فيها انقسام النفس وحزنها وتأسيها ("القرآنيين")، ومنازعتها نفسها. فالأصل، في النفس، هو الانقسام والكثرة. ومعالجة الانقسام والكثرة بالإيحاء، أي بالوحدة وتخييلها وترديد ذكرها، وبالإلزام بالصمت والخرس والصمم، وبنصب الرقيب والواشي والمخبر صاحب الحق في الكلام (أي في نفي الكلام وحقيقته)، هذه "المعالجة" هي خلاف المهنة التي تمتهنها رفاه ناشد، مهنة "حامل (ة) القول".

وما فعلته السيدة، أو رضيت الاشتراك في فعله امينة لمهنتها، يتعقب سلطانَ الواحد إلى أركانه وأسسه الدفينة والخبيئة. فالسلطان الأسدي في شقه العشائري الأهلي الذي ينفي جواز تطرق الاختلاف إلى "الدم"، وفي شقه الاستخباري البيروقراطي الذي يتوهم في نفسه القدرة على استباق الاحتمالات كلها- تراوده أخيلة التسلل إلى أدق أوردة النفوس والأجساد وإلى مصادر الكلام. وهو يحمل البواطن والدواخل، في قلب المدن العصية وأحيائها الداخلية ووراء أبوابها وحواجز طرقاتها المملوكية وسككها، على تمرد وعصيان خطيرين ومهينين. وهو يخوض منذ نحو 7 أشهر مديدة ومريرة حرباً "كلية" أو شاملة (على المعنى السياسي النظامي) على متظاهرين "أحرار"، يتداعون إلى التظاهر والكلام والغناء والإنشاد والرقص تداعياً حراً، ويحتكمون إلى الكلام والاجتماع والمداولة المسالِمة في دعواهم أو دعاويهم، ويخرجون على الإيحاء بوحدة وسلم واستقرار لا قائمة لها إلا في عصبية أهل الدولة المتسلطين، وفي أبنية تسلطهم المتآكلة. ولا تعدو مزاعم السلطان الأسدي مزاعم حليفه الإيراني (حيت يحرِّم على جعفر بناهي الاخراج السينمائي طوال 20 عاماً فيرد جعفر على التحريم بـ"هذا ليس فيلماً")، أو سنده الصيني (حين يخطف في وضح النهار المعمار إيَ وايواي ويخفيه 81 يوماً) وسنده الآخر الروسي (وسجله القانوني والحقوقي "أعظم" من أن يتعقب).

وربما ينبغي حمل السلطان الأسدي وجهاز استخبارات سلاح الجو الذي ورثه السلطان الابن عن والده السلطان واعتقل رفاه ناشد، على النباهة حين جرَّم الدعوة "التحليلية" إلى جهر الخوف والاضطراب بالكلام والعبارة العلنيين. فجزاء الكلام والإسرار والهمس، على مسمع اولاد، بالاعتقال عنوة قد يكون قرينة على فهم عميق للحوادث السورية التي تنتظمها الحركة المدنية والوطنية الديموقراطية المشهودة. وما كتبه أسامة محمد ("الحياة"، في 3 تشرين الأول الجاري) يدل على هذا الفهم، من الوجه المقابل:" هل المتظاهرون السوريون بشر جدد أبدعوا زمناً جمعياً معاشاً هو الأمان (...) وهو التظاهرة". فما ينزع الطاغية إلى الغفلة عنه ("وول ستريت جورنل" في أوائل آذار 2011...) هو ما نبهت إحدى سيدات العصر عقلاً وفهماً عليه، أي ابتداء البشر تاريخاً جديداً حين ولادتهم وابتدائهم حياة (عضوية) جديدة.

والموظف الأمني، والحارس المخابراتي، والواشي بالتلاميذ والأولاد، والصحافي "المقاوم" الملّي والمعذب والغاضب والمشايع الأمن والاستقرار والوحدة القومية في نهاية الأمر، هم خدم السلطان الواحد والكلياني لأنهم لا يرون ابتداء الحوادث والقول أو جواز ابتداء هذا وتلك. فيؤدي آيخمان ما أوكل إليها أداؤه لأن هذا هو سنة الحياة والكون. وهو يؤدي مهمات وظيفته مزمجراً وغاضباً، وصامتاً عن الكلام والمخاطبة والمحاورة. ويخص بصمته المنازعةَ أو التشكك في غيره وفي نفسه، وهو في شأنه هذا، على خلاف رزان زيتونة ("نوافذ" "المستقبل"، في 17 أيلول 2011)، ورفاه ناشد على نحو آخر. فحين تناولت رزان زيتونة الحركة المدنية الوطنية والديموقراطية السورية، حركتها وحركة صواحبها وأصحابها، كان كلامها في خلافات الحركة ومناقشاتها وانقسام بعض تياراتها وأجنحتها على مسألة المسالمة والعنف.

وعلى هذا المثال، أو من غير مثال (من غير إجازة إلا من النفس، على قول بعض زملاء رفاه)، جرت سمر يزبك حين روت ما أُشهدت عليه من فنون السَّجن والتعذيب والقهر، وما جُنبت معاناته المادية وحماها منه نسبها وقرابتها و"دمها". وسبق أن روى سولجنتسين، في مطلع "أرخبيل الغولاغ"، تسليمه، هو الضابط المخلوع الرتبة لتوه، بحمل أحد جنود الصف حقيبته وهو في طريقه الى المعتقل. وهو نبه إلى أن التسليم بمراتب المعتقل، والسلطان الذي أنشأه، من أركان إرادة العبودية المضمرة. ونبه، في موضع آخر، إلى أن سكوت المعتقلين، حين اعتقالهم فجراً أو غلساً، عن الصراخ وتأليب الجيران على البوليس الحزبي والشيوعي، أسفر عن اطمئنان هؤلاء إلى مسوغ وظيفتهم وأدائها على الوجه الإداري والتنفيذي الأعمى.

فما تشترك فيه السوريات الثلاث، وهن يتشاركنه منذ بداية الحركة مع الآلاف من السوريين والسوريات، هو نصبهن القول الحر (ومعياره الصدق)، وتداوله والمداولة فيه، علماً على استقلال المرء (والمرأة) بالرأي والإقبال على المداولة فرداً مجتهداً ومختلفاً. ولا يدرك هذا إلا من طريق الاقرار بالمنازعة والعبارة عنها علناً، والمداولة فيها وفي موضوعاتها. وطلب الوحدة واستعجال "تجاوز" الخلافات في أطر تمثيل وتكليف مشتركة ثم واحدة، وإسكات الفروق بين الجماعات الأهلية والمحلية والقومية والطبقية والسياسية، قرائن على إلحاح نازع السلطان الواحد على "الرعايا"، سياسيين ومثقفين. والسوريات الثلاث داعيات سياسة، ومزاولات سياسة من نوع آخر.

الاثنين، 26 سبتمبر 2011

منطقة الفنادق ووادي أبو جميل... ذهاباً وإياباً

المستقبل - الاحد 25 أيلول 2011 - 
تشيد، اليوم (منذ نحو العقدين)، أعلى المباني، وأغلاها سعراً، وأقربها مطلاً على البحر وحجباً له عن المقيمين في المباني المنتشرة على منحدرات بيروت وشرفاتها ومصاطبها، غرباً وجنوباً وشرقاً وجنوباً، في دائرة سُميت، في أثناء الحروب المتعاقبة، "منطقة الفنادق" (عطفاً على "نوافذ"، "المستقبل" في 18 أيلول 2011). وقصدت التسمية دائرة أوسع من تلك التي جمعت فندق سان جورج وفينيسيا وهوليداي إن، في تدرج متصل من "العراقة" الفائتة إلى الحداثة السياحية والسوقية، وبعض فروعها القريبة في كتلة واحدة نواتها الزيتونة وجادة الفرنسيين. ووادي أبو جميل و"وطاه" البحري إلى جوار المرفأ الغربي. وتشترك أجزاء الكتلة، وهي سفوح "التلال" التي تعلوها وتطل عليها من الزيدانية والظريف غرباً إلى القنطاري وكركول الدروز والبطريركية وزقاق البلاط وطلعة الاميركان شرقاً، تشترك في قرابتها بالأجانب الكثر على أصنافهم، وفي مقدمهم الاميركيون، حول جامعتهم ومستشفاهم، والفرنسيون، حول المرفأ والهيئات السياسية وآداب المعاشرة. وتشترك، من وجه قريب، بالهجنة والجوار المختلط الذي تسوّغه علّو المرتبة الاجتماعية. وتشاطرت الدائرة وتقاسمتها، على مقادير متفاوتة، جماعات أهلية، طائفية ومذهبية وبلدية كثيرة، بعضها نزلها باكراً فكان هناك يوم كانت مدينة (داخل) السور حية. وبعض آخر تأخر نزوله إلى انعقاد الأمر إلى الانتداب ومصالحه المشتركة، من ترامواي إلى كهرباء وماء، والمرفأ قبلها جميعاً. فحملته الهجرة إلى هناك.

فلم تكد "الحرب"، على ما بدت في مستهلها الكاذب والمخادع، تنفجر حتى كان الاستيلاء على "منطقة الفنادق"، أو "تطهيرها" أو تخليصها أو التحصن فيها ومنها، في رأس المقاصد الحربية المتدافعة والمتناقضة، الرمزية والأدبية والمادية الملموسة. فهي، في حسبان المقاتلين المسيحيين وأهلهم، تتمة المرفأ والجميزة وفوش واللنبي والوادي، أي الحصون المتقدمة التي عمرها وأحياها بعد ركود النشاط الاقتصادي والاجتماعي، وجددتها المثاقفة. وهي جسر النواة السكنية الجغرافية إلى أحياء مختلطة يتصدرها رأس بيروت، وتتصل من طريق شارع سبيرز، وشارع ميشال شيحا وشارع كليمنصو فالقنطاري وميناء الحصن بوادي أبوجميل وما يليه إلى الشرق. فالمرابطة بها حماية أمامية للمرفأ، حبل السرة مع الخارج على خلاف المطار الممتنع و"البعيد" والقائم في ديرة العدو. وهي كذلك عَلَم على اتصال بيروت في عهدة المقاتلين. وأعالي الفنادق، وأولها وأعلاها هوليداي إن، منصة مراقبة وقنص وقصف، نظير برج المر، في وسعها شل المقاتلين الفلسطينيين والعروبيين المسلمين، وتعظيم كلفة سيطرتهم على الأحياء القريبة.

وأما المقاتلون العروبيون الفلسطينيون الكثيرو المصادر والولاءات والتسلح، والمسلمون اللبنانيون الأهليون، و"الوطنيون" على زعمهم من يساريين وقوميين مختلطين- فتصور لهم بقاء الدائرة هذه بيد "الكتائب" استمراراً على استدخال العدو الأهلي والأجنبي الغريب والمستولي، والأثرياء الذين بدلوا جلدهم، "منطاقَهم" الوطنية، أي ديراتهم ومرابعهم وحماهم العائلي المتخيَّل. ودعا المقاتلين العروبيين إلى الحؤول دون تحصن المقاتلين المسيحيين في هذا الشطر من السهل الساحلي اتقاء القنص والقتل والشلل الناجم عنهما، ودعتهم إليه إرادة قطع أواصر الجماعات المختلطة بعضها ببعض، ورغبة بعض القيادات الفلسطينية (مثل "فتح" والجبهة الشعبية) والعروبية اليسارية في جمع سكان مختلطين تحت جناحها المشترك. وهي دواع ونوازع متضاربة. وحسم التضارب والتنازع مبادرة منظمة مسلحة فلسطينية "سورية" مشتركة (على معنى "القوات المشتركة" لاحقاً وهي اسم على مسمى فلسطيني)، شأن "الصاعقة" و"القيادة العامة"، إلى مهاجمة أحياء بيروت المختلطة، سكناً، والتجارية والسياحية، مرافق وموارد. وحمل هذه المنظمات، السورية الولاء، على شن "جولاتها" داخل أحياء السكن المختلط، في أطراف الصنايع ورمل الظريف والبطريركية وزقاق البلاط والقنطاري وكليمنصو، ومن بعدها في الفنادق والأسواق، استيلاء "فتح" وحلفائها ومواليها المحليين على جبهة طريق الشام والخط الأخضر (لاحقاً)، بين الضاحيتين الجنوبيتين الكبيرتين، وحشد المنظمة الفلسطينية المسلحة الأم، والمتنقلة الولاءات العربية غير السورية، أنصارها ومسلحيها وحلفاءها على الجبهة هذه، وحلقاتها المتفرقة.

فكان على "سوريي" المنظمات الفلسطينية المسلحة، ولبنانيي بعض المنظمات الأهلية البلدية والأهلية، السنّية والناصرية ("المرابطون" و"الاتحاد الاشتراكي"...)، إشعال حربهم الخاصة على جبهة فرعية ظاهراً. وأغرى بإشعال هذه الجبهة، الداخلية والاجتماعية والطرفية، تهديدُ الحرب عليها جماعات مسيحية ميسورة، وحملها هي وأحزابها المفترضة على نشدان الحماية من "الدولة" التي ترعى هذه الحرب وتغذيها، ومقايضة "الحماية الموضعية" نفوذاً وغنائم. ولا ريب في أن اجتياح أحياء الأثرياء و"الخواجات" المفترضين، ومصادرتها (على قول نايف حواتمة و"أبو ليلى" العراقي تيمناً بلينين وعميله الجورجي "كوبا" ستالين)، وحمايتها (على معنى الحزب "القومي الاجتماعي" حين تقاضى 600 ألف دولار لقاء جلائه عن مبنى احتله نحو ربع قرن في منتصف التسعينات) من احتلال مهاجرين ومهجرين غفلٍ من تعريف سياسي منظم و"ممسوك" على المعنى الأسدي والعمّالي المعروف لا ريب في أن اجتياح هذه الاحياء شبَّه على المقاتلين الأشداء، المتيمين بالعروبة التقدمية وبمناهضة الامبريالية، جمع النافع الى الاخلاقي والنضالي.

وعلى هذا، تعاقبت الجولات الأولى، وأغار عوام "ضحايا الضحايا" (إدوارد سعيد) من المخيمات الاقليمية، وعوام أهل الضواحي السنية، من الطريق الجديدة ونازحي البقاع الغربي وإقليم الخروب وكفرشوبا وشبعا، على دار السباء أو السبي هذه. فأجلوا السكان، واستولوا على ممتلكاتهم ومنازلهم، وحطموا المرافق السياحية والفندقية التي خلفها روادها، وأنزلوا بأرض الأنقاض والطلول والنفايات والخرائب هذه مهجَّري الضواحي الشرقية ومخيماتها، وبعض أقاربهم من بعدهم. وكان هؤلاء، بعد جلاء "فتح" على الخصوص وتشتت انصارها ومواليها المحليين، مادة الجماعة الخمينية والحرسية المسلحة، هم وأهلهم وأبناء عمومتهم وخؤولتهم. وحين وضعت الحروب الداخلية، في أعقاب تغيير أقنعة وجلود كثيرة، أوزارها، آل تقاضي أثمان التهجير وتعويضاته إلى من لم يكن لهم ناقة ولا جمل في انفجار حرب النهب والسلب والسطو بأرض السباء والخلاء هذه.

وانقلبت ارض السباء أو الدائرة العقارية التي تخلفت عنها ونواتُها الفنادقُ القديمة المتجددة وبعض الفنادق الجديدة، وذراعاها الساحليان العريضان إلى المرفأ شرقاً وإلى الروشة غرباً، والشرفات والمنحدرات المطلة عليها، ولسان "سوليدير" المولود من أكوام النفايات المجتمعة طوال 15 عاماً ولم يفتأ الناس في أثنائها "ينفون" القمامة والأوساخ والقاذورات والردم انقلبت واحة عمران وعمارة متعالية ومتنطحة. ولم يقتصر الامر على دائرة الاعمار المبرمج، فتخطاها إلى الجهات الأخرى وروافدها ووصلاتها وفروعها. وفي نهاية المطاف، الموقتة، بيع المتر المربع المبني في بعض هذه شقق هذه النواة بـ15 ألف دولار أميركي. وبلغت مساحة الشقة الواحدة في المباني العالية ألف متر مربع. وهذه الأسعار النيويوركية أو اللندنية تنسب إلى "مرحلة دبي من (مراحل) الرأسمالية"، على قول الأميركي مايك ديفيس.

ويترتب على انقلاب القاع الصفصف في دار الحرب واديْ ذهب، على ما سمي مهْجر وادي أبو جميل حين إخلائه من المهجرين وتعويضهم "أتعاب" إقامتهم القسرية في رعاية جماعتهم المسلحة والحرسية، وهو عم "ذهبه" شركة الاعمار وجماعة المقاولين في الدائرة العقارية كلها أصولاً وفروعاً، يترتب على الانقلاب لون من الاقامة بالمدن اجتماعي خالص إذا جازت العبارة. فسكان المباني هذه، في طول الدائرة وعرضها المتسعَيْن، لا رابطة بينهم غير إقامتهم الخالصة أو المحض. وهم لم ينزلهم منازلهم الفسيحة والمشرقة والمضيئة والهانئة إلا بلوغ مداخيلهم، وهي ريوع وعوائد فوق ما هي أجور ومرتبات بديهة، العتبة التي بلغتها. وهذه العتبة فردية، ولا تبلغها الجماعات والأسر إلا في أحوال سياسية واقتصادية قليلة. وعلى هذا فهم ينزلون شققهم ودورهم وطبقاتهم أفراداً وأسراً ضيقة ونواتية، أي طبقة اجتماعية مجردة. ولا يقدح في هذا شراء والدٍ سياسي ورجل أعمال وابنيه ثلاث شقق أو طبقات معاً في مبنى واحد، هو المبنى الذي مر الكلام عليه (الالف متر المربعة، الـ15 ألف دولار للمتر الواحد...). فهم الاستثناء أو هم مثاله إذا تكرر.

والشراء والبيع في هذا المرفق لا يقتصران على الاستعمال وقيمه، أي على الوجه المتصل بالحاجات وتلبيتها. وهما يحتسبان التبادل َوالسوق والربح كذلك، على شاكلة "تجارة" الاسهم والعملات. وبعض المباني المُعْلَمة لا تزال خالية، وقد انقضى فوق العقد على إنشائها وتمامها وإضاءتها، على رغم بيع بعض شققها وطبقاتها. وتعاظم ثمنها يطمئن مشتريها إلى أن سلعتهم غير خاسرة، واحجامهم عن السكن المادي والعيني قرينة حصافة تجارية حقيقية. وينزع هذا أو هو يؤدي فعلاً إلى ارساء المتصرفين في سلعة السكن والإقامة على صفتهم الطبقية المجردة، والمتخففة من روابط "طبيعية" تقيد السيولة السوقية والسهمية والنقدية، وتشد السلعة إلى شرائط مادية تحصر قيمتها بتوافر هذه الشرائط وبدوامها.

وعلى خلاف هذه الحال، وعلى طرف نقيض منها، أعاد الاعمارُ الاهالي المهجريَّن والمهاجرين النازحين الذين التحقوا في أثناء العقد ونصف العقد (1976- 1992) بمن سبقوهم إلى الاقامة بـ"الفنادق" والقنطاري وو"الوادي" وكليمنصو، إلى الضواحي الجنوبية الممتدة والمتوسعة والمنتصبة قطباً سكنياً أهلياً ورمزياً وسياسياً بإزاء بيروت "القديمة". وأتاحت العودة، وهي التحام بالأهل أو ببعض اجزائهم وليست إقامة مستأنفة في مكان واحد ، تكتيلاً طوعياً ومقصوداً جمع أهلاً واحداً في دائرة متصلة على هذا القدر أو ذاك. وكان تناثر الضواحي من قبل، بين النبعة وسن الفيل وعين السيدة وتل الزعتر من ناحية والشياح والغبيري وصفير والرمل العالي من ناحية ثانية، فرّق الأهل الواحد في "مدن" متباعدة. وإذا صدرت، اليوم، نشرة "اجتماعية منوعة شهرية، وسُميت باسم "الضاحية" ("توزع مجاناً")، تناولت في صدر موضوعاتها "آل شمص عائلة بفروع كثيرة تتوزع في أكثر من 70 بلدة" و"شباب النبعة... التهجير حولهم نجوماً في الضاحية". فروابط الدم والاسم والجوار تتقدم تعريف الجماعات، وهي مناط لحمتها وتفرقها، والعامل الاقوى أثراً في أطوارها. وهذه الروابط هي شرائط "طبيعية" سابقة، وقيد ملزم على الانتقال والإقامة، والشراء والبيع، وعلى جواز اكتساب شيء من الأشياء، مثل بيت السكن، صفة السلعة المجردة، أو انتفاء هذه الصفة وامتناعها.

وعلى هذا، سلكت الجماعتان اللتان ربطت الحروب "اللبنانية" بينهما، في هذا الموضع من بيروت، برابطة المجابهة و"التناقض"، عل قول شيوعي سابق ومتحول، طريقين شتى، سلعياً طبقياً مجرداً واستعمالياً أهلياً مجسماً. ولا يبدو أن الخيط انقطع. فعلى الشاطئ الصخري بين "الدروندي" ("مقهى الشرق" سابقاً و"الحاج داود" في وقت اسبق وأول)، شرق خليج عين المريسة ومرسى صياديها، وبين "الريفييرا" بجل البحر، إلى الجنوب الغربي من حرم الجامعة الاميركية تستحم جماعات من السابحين القادمين في معظمهم من الضواحي، وتجمعها نشرة "الضاحية" في مفرد على شاكلة منظماتها الأهلية الغالبة.

وقبل حوالي الشهر تصدرت افتتاحية رئيس تحرير صحيفة يومية "ملية"، أي شعبية باللغة الفارسية مثل "فولك" الألمانية العرقية، كتبها صاحبها بحبر وجودي ولغة سفيرية سلمانية، وروى فيها "عودة" كادحي حي السلم في ختام نهار منجمي رأسمالي وبريطاني، إلى مياه المتوسط الدافئة. ويلوم رئيس التحرير العتيد، وغير المؤسس، كادحيه على تركهم أرصفة كورنيش المنارة، والمباني المطلة، من غير الاستيلاء عليها أو، على التقليل، تحطيمها. فهي موئل "قناص" أبدي لا يزال يملأ غرف هوليدي إن، ويتناسل في عشرات المباني الشاهقة التي تحجب البحر عن أهل المدينة وتتعاظم أسعارها مع كل أزمة مصرفية أو سهمية أو نقدية أو سيادية. وتقصر عشرات "القيادات العامة" ويقصر عشرات "أحمد جبريل" الفلسطيني العروبي الأسدي القذافي عن قنصه، على ما كان قال محمود درويش مجنِّساً (على مثال "حاصر حصارك).

الثلاثاء، 20 سبتمبر 2011

بيروت السفح والسهل والميناء جدار على البحر وجدار على الجبل


المستقبل، الاحد 18 أيلول 2011  
منذ نحو ثلاثة أشهر أو أربعة أتجنب الوقوف الثابت بإزاء النافذة الصغيرة التي يطل منها المطبخ على البحر الأبيض المتوسط وعلى الجبل القريب والمتواري شمالاً. ويُرى في البعيد مرفأ بيروت وجسور التحميل والتفريغ المعدنية وبطون الاهراءات الحجرية المكورة وأجزاء من مقدمات السفن ومؤخراتها وسطوحها وصواريها من غير أشرعة. وفي أقصى المرفأ يرى بعض سوره أو سنسوله ميمماً صوب البحر، ومبتدئاً إبحاراً يتولاه غيره ولا طاقة له هو به. والداعي إلى تجنب الوقوف والنظر المتمعن ليس ما يتراءى في البعيد، وأحدس فيه وأتذكره من وراء سطوح المباني القريبة والبعيدة وبيوت المصاعد والأدراج المدببة والمكعبة وجدرانها الواطئة وخزانات مياهها ولواقطها النحيلة والمائلة في اتجاهات كثيرة. فبين المرفأ وبين ظهر الصوصة أو تلة البطريركية، على الطريق من زقاق البلاط أو برج المر – على تسمية مادية يفهمها سواقو دراجات "الدِليفري" فوق ما يفهمون أحجية "حي ذي طابع تراثي"- إلى كركول الدروز الدارس ("كان كركول الدروز" على قوم زعيم طللي)، بين هذه وذاك حجابات صفيقة ومتدافعة من مبان لا تستقر صفحاتها أو واجهاتها ولا صورها الجانبية على قرار أو رسم. وتجتمع المباني والأسطح وظهورها النازعة إلى العلو والمتنابذة على التستر على المرفأ اجتماعَ الأهل على التستر على عيب أو على الثأر من عيب. فلا يرى منه، ولا من البحر القريب، إلا نتف يستعين المقيم منذ عقد ونصف العقد بالذاكرة المريرة والمجهدة على سلكها في صورة.
  ولكن ما لن يعتم، على وجه اليقين، أن يتوارى وراء مبنى حديث يضاهي مبنى ظهر الصوصة علواً يبدأ في منخفض عنه يبلغ طبقتين أو ثلاث على التقدير، ليس المرفأ، ولا شطر الشاطئ بين المرفأ وبين السان جورج أو لسان "سوليدير" في البحر، ولا الجزء المتوسط من زقاق البلاط شرق مدرسة مار يوسف الظهور، بل هو الخلاء الذي يلي البطريركية، المدرسة والكرسي، إلى الشمال. ولا يحول بيني، بإزاء نافذة المطبخ أو من شرفته، وبين قرميد مدرسة الحريري الثانية ومدرسة مار يوسف الظهور المتلألئ وأشجار الأولى القليلة والداكنة الاخضرار. فالقرميد والأشجار في وسط المنحدر وعلى جيد التلة – على ما كان قال الأعمام الأدباء ويقول أولادهم إلى اليوم حين يكتبون في بلدتهم ويتذكرون – أمرهما غريب. فهما، شأن مبنى البطريركية الذي بني على شاكلة سرايا عثمانية او دير جبلي وهو سبق انشاء السراي الكبير والقريب في أوائل القرن العشرين، وشأن ليسيه (ثانوية) عبد القادر الفرنسية من قبل، من بقايا بيروت قديمة وآفلة مع أفول أسر الأعيان (آل بيهم) والخواجات وسكنهم المنفصل والفسيح على شرفات المدينة الأهلية وخليطها، و(مع) طي أحياء السفراء الغربيين (البريطاني على بوابة رمل الظريف الشرقية الشمالية والألماني في "فيلا" عبد القادر الجزائري) ومدارس الجاليات والارساليات والطوائف (الأرمنية إلى الفرنسية والرهبانية الانثوية). فلم يبق قرميد إلا على مباني المدارس الواطئة، أو بعضها المتجدد عن يد رفيق الحريري التعليمي والمدرسي البلدي. ولم يبق شجر إلا في أرجائها.
  وسطوح القرميد المتبقية والقليلة صائرة الى التواري عن مطل النافذة والشرفة المعلقتين في الطبقة الثامنة من المبنى القائم في ظهر الصوصة، على مقربة من ذروة كركول الدروز وتلته العالية، والمتوجهتين على البحر وإليه. وحين يشهق المبنى الجديد علواً، ويحجب جداره المتصل والأخرس أحمر القرميد وأخضر السروات الداكن والصنوبرات الفاتح والمضيء، فيسدل كذلك جزءاً جديداً من حاجز هائل على البحر. ويصل الجزءَ هذا بأجزاء كثيرة تخرج تباعاً من اماكن مبعثرة، منذ أوائل سبعينات القرن الماضي، وربما قبلها بعقد من السنين. وتتضافر، وكأنها متواعدة ومتواطئة، على رفع حاجز يحجز بين المدينة، وأحيائها وشوراعها وأهلها، وبين بحرها وشاطئها. فإذا لم يقم الواحد في شقة من شقق المباني التي يأتلف منها الحاجز تباعاً، استحال عليه استقبال البحر ولو من بعيد. ولم يسعفه قيام المبنى الذي يسكن إحدى شققه في موضع مرتفع من التلال المحيطة بقصعة بيروت، والمطلة على سهلها الضيق بين مصب النهر شمالاً وشرقاً (أو الجميزة والرميل، تقريباً) وبين جل البحر وسفح المنارة القديمة جنوباً وغرباً (وصولاً إلى الرملة البيضاء تبعيداً).
  وينقض هذا أو يخالف بعض دواعي الرسم الذي جرى عليه إنشاء المباني والتوسع العقاري الى أحياء بيروت "المحدثة"، أي تلك التي اختطتها حركات النزوح والسكن والإقامة والجوار في أواخر القرن التاسع عشر غداة تشغيل مرفأ بيروت في ثمانيناته وغداة شق طريق بيروت – دمشق في أواخر ستيناته وعمارة الأشرفية والشطر الشرقي من المدينة في أعقاب استقرار المتصرفية والفراغ من حروب الغرضيات والفتن. فالأحياء المحدثة بنيت وارتفعت على التلال والمصاطب والبسط والأبراج والحصون والقناطر والرؤوس والطلعات المطلة على البحر وشريط السهل الساحلي الضيق. وهذا ما تشي به الأسماء القديمة ومعانيها المطوية: تلة الاشرفية او جبلها وتلة الدروز وتلة الخياط وتلة الزيدانية (أو رملها) والمصيطبة والبسطة التحتا والبسطة الفوقا وبرج أبي حيدر وميناء الحصن والقنطاري وراس بيروت وطلعة جنبلاط وطلعة العكاوي... فبناء البيوت على منحدرات التلال و"الجبال" والروابي المُصعِدة من السهل والمخلِّفة وراءها منبسطاً أو سفحاً تجتمع فيه مياه السيول المنحدرة، أخرج الأهالي من مدينة السور والمستنقع وبحر الأمواج الهاجمة. فأشرفوا على الشاطئ والبحر، وعلى الجبل إلى الشرق. وحمل الأعيان والأثرياء والميسورون الشرفة (البلكون) وعمارتها على معناها الحرفي. وكان هؤلاء سبقوا عامة الأهالي إلى رفع منازلهم وأعمدتها وشرفاتها وشبابيكها وصفحاتها الملونة وأدراجها وقرميدها على أطراف التلال وحروفها، واستقبلوا بها البحر والشاطئ.
  وعلى هذا، فسدُّ البحر بحاجز متسلسل من المباني العالية والمنتشرة في ثنايا بيروت قبل أن تنيخ بكلكلها على أمتار قليلة من الماء، يخالف معنى المدينة الذي يفهمه أهلها، وينكره، وينتهك رسم توسعها المضمر، وينقلب على أركانها البيئية وعلاقاتها بالعناصر والتضاريس التي نشأت عنها مسارحها وإيقاعاتها. وما كان في الستينات وأوائل السبعينات، عشية اندلاع الحروب الملبننة، استثناء سياحياً ومجتمعاً في دائرة الزيتونة – ميناء الحصن وفنادقها، شاع وفشا بطيئاً في التسعينات، وهجم في نصف العقد الأخير من غير قيد ولا كابح. فطوال عقد 1960 وسنواته شذ فندق فينيسيا وحده بجوار نصب فندق سان جورج أو معلمه المعماري والتاريخي، عن تواضع بالم بيتش واكسلسيور وريجيس وبيفرلي وحلقة المرابع المتصلة حول "خليج" عين المريسة. وانتصب الفندق الجديد، على خلاف جاره البحري ومينائه ونادي التزلج المتفرع عنه، مرفقاً برياً وعالياً يبلغ عدد طبقاته ثلاثة أضعاف عدد طبقات المنافس العريق بإزائه. وإذا كان المنافس شيد على النحو الذي شيّد عليه في عقد 1930 تيمناً بمثال متوسطي مشرقي فرنسي إيطالي، لازوردي (كوت دازور) جنوبي وبندقي"مشبِّه"، وشاءه أصحابُه ومعماره، مرشح الحزب الشيوعي إلى دائرة بيروت الأولى ورئيس حركة أنصار السلم في لبنان، مقصداً أو نادياً للأعيان المختلطين والأثرياء القدامى والجدد ومحترفي السفر العابر الغربيين، تخلى صاحب الفندق الجديد نجيب صالحة، احد أوائل وجوه الهجرة التجارية إلى المملكة العربية السعودية، والشركة التي أنشأها وصممت فينيسيا، عن أضعف طمع في الفرادة أو العراقة المقلِّدة. فاحتذى الفندق الأنيق والناحل والملون بلون الحجر الرملي الفاتح، على حاله اليوم بعد عقد ونصف العقد على انبعاثه وتكاثره، على مثال راج في أنحاء العالم، وقدم البساطة والخدمة العملية على المعايير الأخرى.
  وسَنَد المبنى العالي (يومها) ظهره إلى مصطبة مستوية بين قصر القنطاري (وهو تركته رئاسة الجمهورية في 1958 إلى صربا بضاحية جونيه الكسروانية قبل نزولها بعبدا) وبين مخرج وادي أبو جميل إلى دور آل الداعوق وسور حديقة القنصلية الفرنسية ومدخل عين المريسة فالجامعة الأميركية إلى آخر شارع بلس والمَطَل على كورنيش المنارة. وعلى جهتي الطريق هذه – وهي شريط عريض إذا أدخلت فيه الطريق الموازية الأولى، من كنيسة مار الياس المارونية ومبنى بنك البحر المتوسط إلى مركز جيفينور (كليمنصو)، وألحقت الطريق الموازية الثانية من برج المر وقصر القنطاري إلى مركز أريسكو، غير بعيد من المصرف المركزي، فالحمرا إلى السادات- تسابقت على الارتفاع والعلو، طوال نصف قرن تحتسب فيه أعوام الحروب الساخنة الخمسة عشرة (1975-1990)، عشرات الأبراج والمراكز والبنايات. فانقضى عقد كامل بين تشييد فينيسيا وبين انتصاب الهوليداي إن بظهره. وما أضمره الفندق الأول من ابتذال سياحي وعملي قريب، على بعض التستر والحياء الجماليين، أدل به من غير تحفظ الفندق الثاني. فبلغت طبقاته ضعفي عدد طبقات فينيسيا، وهو شيد على مرتفع. واشتطت واجهته عرضاً. واختارت إدارة "السلسلة الفندقية" التي بنته عمارة صناعية. فلم تبقِ أثراً للأعمدة، أو لأقواس النوافذ والشرفات، أو للألوان المتوسطية. فانتصب على حد المصطبة، وظهره إلى البحر وهو يبعد عنه ثلاثين متراً، مارد متجهم من غير قسمات، تعلو طبقاته بعضها بعضاً كأنها فم واحد، كثير الشفاه الممطوطة والجافة، حل محل الوجه كله وتولى العبارة عنه.  
وكان المبنى المقحم إيذاناً مبكراً بشريط متقطع ومتراصف من المباني التي تشبهه، حجباً للبحر وحجزاً بين الشاطئ وبين المباني على منحدرات التلة الغربية الشمالية العريضة من بيروت. وكان مركز ستاركو، بقلب أبو جميل، جدد مباني المكاتب بجوار فينيسيا وفي سنة قريبة من تاريخ بنائه. ولم تبلغ طبقاته العشر، إلا أنه علا المباني حوله، ويعود معظمها إلى عهد الانتداب بين الحربين. فلم يلبث مركز جيفينور، بين فينيسيا وبين الهوليداي إن وقتاً، أن انتصب على مقربة من مستشفى الجامعة الأميركية، غير بعيد من القنصلية الفرنسية. وهما معلمان تاريخيان أجنبيان شيدا، حين شيدا، في جهة طرفية من بيروت، أرضاً وجهة وسكاناً ومرتبةً اجتماعية. وكان السبَّاق إلى رفع المباني التجارية والمكتبية إلى نحو الـ50 الى 60 متراً، وإلى العمارة بالزجاج والألمنيوم. واليوم، حين أنظر من الشرفة الغربية إلى البحر، وقد استحال أفقاً وراء ركام المباني المتكأكئة والمرصوصة، أرى إلى يساري في طرف المنظر ثلاثة حروف، الجيم والفاء والياء، مضاءة بالأبيض، هو زاوية مثلث زاويتاه الأخريان اسم مبنى ليبرتي تاور جنوباً وأريسكو سنتر (بالضوء الأحمر) شرقاً. وعلى طول طريق الترامواي القديمة، من الهوليداي إن فمحطة الداعوق ومدرسة الإدارة العليا (وارثة القنصلية الفرنسية)، يبرز سنةً بعد سنة مبنى جديد لا يقل عدد دوره عن الـ15 – 20 دوراً.
وفي موازاة صف المباني هذه، على كورنيش المنارة بين عين المريسة وحرم الجامعة الأميركية، ارتفعت في السنتين الأخيرتين سبحة مبانٍ كانت حبتها الأولى، قبل نحو العقد، بناية الأحلام، وبلغت اليوم الست. وفي الأثناء تخففت عين المريسة الخلفية، وراء كورنيش المنارة، من بقية البيوت القديمة الواطئة، وكانت زينة هذه الجهة من الشاطئ لعين المسافر القادم من البحر، وراحة جسم المقيم ونفسه. وترتفع يوماً بعد يوم إلى جنب الطريق الضيقة، أبراج يكاد يتسع الواحد منها إلى سكن حي كامل. وعلى الجهة المقابلة، على الطريق المفضية إلى المرفأ، بإزاء فينيسيا، يتوسط فندق فورسيزنز كوكبة من المباني المعلقة. وهي مقدمة مبانٍ تشيَّد وراءها، على المنحدر من "تلال الوادي" (وادي أبو جميل سابقاً) إلى كورنيش المرفأ، وبين ستاركو شرقاً ومركز بنك المتوسط غرباً.
 فإذا خرجتُ إلى شرفة الشقة الجنوبية – وهي كانت إلى سنتين ونصف السنة تطل على بيوت أثرية من طبقة واحدة، وتستظل أشجاراً معمرة وباسقة تحف قصراً متهاوياً ومقفراً، وخَلَفها مبنى جديد من 13 طبقة بينه وبين الشرفة 5 أمتار – ووجهت وجهي إلى الشرق، حجب الجبل أو كاد صف من المباني يتصل من الصيفي والتباريس شمالاً وشرقاً، حيث برج الغزال منذ عقدين وبرج التباريس منذ سنتين، إلى اليسوعية وفرن الحايك ومار متر والأشرفية (التلة نفسها). وخط "الجبهة" الصفيقة هذه يتوسط الأشرفية، على معناها الواسع، على طول الحرف الفاصل بين منحدريها، الشرقي إلى السيوفي والغابة والجعيتاوي، والغربي إلى الناصرة والسوديكو واليسوعية. وبرج رزق هو شيخ هذا الصف، ونظير برج المر ومعاصر بناء لم يكتمل ولم يبلغ غايته بعد نحو 4 عقود من ابتدائه. فإذا دار العمران دورته، ومضت اسعار العقارات على تعاظمها، ألفى ساكن تلال المدينة النازل بين سفح الجبل وبين شاطئ البحر نفسه بين جدارين أو سورين: واحدٍ يسدل على البحر وآخر يحجب الجبل.  

الأحد، 4 سبتمبر 2011

العلاج بـ"المقاومة"... واشتراكاته المميتة

المستقبل - الاحد 4 أيلول 2011
لم يغب عن أحد أن الحركات الوطنية والمدنية الديموقراطية العربية والإقليمية (إذا جُمعت إيران "الخضراء" إليها، ولم تستبعد منها وجوه من الرغبات والنزعات التركية...) سكتت عن مسائل "قومية" واستراتيجية ثقيلة وراهنة، وأطنبت في تناول المسائل الداخلية، الدستورية والاجرائية الإدارية والاجتماعية. وفي أحيان كثيرة، ظهر الإطناب، شأن السكوت والعزوف، في الأفعال فوق ظهوره في الأقوال. فمشاهد ساحة التحرير بالقاهرة والفصول التي سبقتها وأدت إليها، ومسيرات المدن والبلدات والأحياء السورية وشعاراتها، وملابسات نشأة المجلس الوطني الانتقالي الليبي ببنغازي ومسيراته العسكرية من بنغازي في الشرق والزاوية في الغرب ومبادراته على الجبهة الديبلوماسية، ودور بلدة بوزيد في بلورة الحركة التونسية هذه كلها أسفرت عن اشتراك الحركات في وطنية مدنية عامة ومسالمة (ما وسعها الأمر)، وإمساكها عن إعلان الانتساب الحاد والمقاتل إلى قطب إيديولوجي أو اعتقادي من الأقطاب القائمة والكامنة.

وبعضهم ينسب هذه الحال إلى الخبث والنوايا المبيتة، أو إلى تكتيك قد يكون أكثر نجاعة من خطط العسكري الفذ والممثل المسرحي الفريد المتحدر من قذاذفة سرت وسبها. ولا يعدم هذا التعليل حججاً. وليس أقل الحجج وزناً قوة التيارات الاسلامية في البلدان والمجتمعات المتحركة، وقِدَم تراثها في التنظيم والتعبئة، وبداهة تواطئها مع النزعات الشعبية الأولية، وتوسلها بشبكة المساجد والجمعيات الأهلية المتفرقة وتوافر الموارد المحلية والعربية لها... وإذا صح أو صدق هذا الاحتجاج في تعليل نهج بعض التيارات الاسلامية في مراحل متأخرة من الحركات المدنية الديموقراطية تواقتت و"انتصارها" أو بشائره الظاهرة، فإنه لا يصلح في تعليل قيام هذه الحركات ونهوضها أو "خروجها" على الطواغيت.

ولكن الأقرب إلى الملاحظة المباشرة والسطحية ربما هو افتقار الحركات المدنية هذه إلى "سياسة"، أي إلى نهج في تدبير ولاية الدولة والجماعة الوطنية السياسية على علاقات الداخل ونزاعاته، وعلى علاقات الخارج ونزاعاته. فهي تبدو حركات غير سياسية، قياساً على جهرِ الجماعات الحاكمة المستولية، وبعض الجماعات الأهلية المستعلية على أهلها ومجتمعها و"دولتها"، ملابستها وحدها السيادة والقوة والصراع والمناعة و"الصمود" والمكاسرة، إلى آخر المصطلح الخطابي الحربي والقومي الديني. فمن الانقلابات العسكرية العربية الأولى، في النصف الأول من القرن العشرين، إلى خلايا "القاعدة" والمنظمات "الجهادية" المتفرقة في أواخره، وبين هذه وتلك منظمات التحرير الوطني العسكرية والأمنية الكثيرة كان تحصيل القوة، ومكافأة قوة العدو وحلفائه، مسوغ هذه كلها. وهو لا يزال مسوغ دوامها للذين يتربعون في سدتها، والتمسك المستميت، بمقاليدها. وحَسِب أهلُ القوة، على شاكلة نائب رئيس سوري سابق، أن معارضيهم قاصرون عن "إدارة مدرسة ابتدائية". فالأحرى أن يقصروا عن هذا "الشأن العظيم" (على قول بعض المعصومين في الولاية) و"الكينوني"، على قول بعض مريديهم الذين يتصدون اليوم لإنفاذ خطة الكهرباء (اللبنانية) وقطع الموازنة واختصار السنة السجنية وتعقب مخالفات البناء وجمع القرائن على اغتيال اسرائيل "آباء" أنصارها ومريديها.

وتسلطت "الدولة"، وهي اختصرت في أجهزة القوة والانفاذ وقياداتها إذا لم تُصرف هي وفكرتها من العمل وتبطل هيئاتها ومؤسساتها وأجسامها أصلاً (على ما فعل القذافي وأصَّل الأمر نظرياً)، تسلطت على الاجسام الأهلية والاجتماعية والموارد والهويات وشاراتها، وسطت عليها. واصطنعت بدائل لها وأقامتها محل الجماعات، وألحقتها بأجهزتها، وحالت بينها وبين الفعل والنماء وحالت بين الأفراد وبين حرياتهم واختباراتهم. وحملت سيرةَ المصادرة والتسلط والقهر على ضرورات مراكمة القوة والاعداد لحرب فاصلة. وقد تدوم الحرب الموعودة قروناً. وقد لا تقع، وينهار بيت العدو العنكبوتي أو يعجل فرج صاحب الزمان في انهياره. وفي الاثناء لا مناص من "السير على تعبئة" أو "كبكبة"، على قول الطبري في الخوارج خصوصاً. والتعبئة أو الكبكبة تعني الاستثناء والطوارئ والأحكام العرفية والحق في القتل من غير إنذار وفي التهيئة من غير احتياط، تقي وقوانين الأحزاب والإعلام المتعسفة من جهة الحاكم والمسؤولة من جهة الرعية، وامتيازات "أبواب العزيزية" وأسوارها العالية، والثأر الدهري من مظالم من "حكمونا" دهراً بالتعسف والقتل ورميهم بالامبريالية والعمالة والكيل بمكيالين والخروج على القانون والحق إلى قيام الساعة. وهذا نظام حرب أهلية دابة وأحياناً منفجرة، حصنه عصبية جماعة مستولية ومهددة على الدوام.

وهذه كلها إذا اجتمعت، على ما حصل في غير مجتمع عربي في نحو نصف القرن الأخير، ترتب عليها تصديع الدولة الوطنية وأبنيتها السياسية والحقوقية والإقليمية (حدودها والتزاماتها الجغرافية) والإدارية التقنية. فتذهب الطبقات الحاكمة الصعبية العشائرية والبيروقراطية، إلى أن مراكمة القوة تسوغ انتهاك الحدود والقيود التي تقوم الدولة عليها، وتفترضها على وجه الحاجة والضرورة كثرةُ الجماعات وتنازع المصالح والهويات الجزئية. ويؤدي ترك الجماعات والطبقات الاجتماعية والافراد نهباً لجماعة خاصة وأهلية متسلطة إلى حمل دفاع الجماعة أو الفئة أو الفرد عن نفسها (أو نفسه) إضعافاً لقوة "الدولة"، وتواطؤاً عليها مع العدو الكثير الوجوه والأقنعة. وعلى هذا، فعدو "الدولة" العشائرية والبيروقراطية الأول والعنيد هو مجتمع الجماعات الكثيرة، الدينية المذهبية والمحلية والعصبية القرابية والقومية، والمصالح المهنية والسلكية والطبقية، والانتماءات الطوعية الحزبية السياسية والجمعية والفردية الثقافية الذوقية. والكثرة هذه لا "علاج" لها بالدولة وأبنيتها التمثيلية والقانونية والسيادية، وعلانيتها وإقرارها بالمنازعة والخلاف والتحكيم والاقتراع. و"العلاج" الثاني هو الارهاب أو "الاستئصال"، على قول جزائري سار وذاع في أعوام الحرب الأهلية (1992 1999).

ولم يشك أهل القوة المستولون، وهم من العسكر ومن شُعَبه الأمنية، أو من أحزاب تصل متعسكرة ومن جماعات ضعيفة وهامشية وفقيرة على وجوه الفقر كلها، لم يشكوا في أن تقييد السلطان المرسل بالدولة الوطنية وأبنيتها وقوانينها، وبالمنازعات الاجتماعية وعلانيتها وكثرة الجماعات والمواطنين، يقضي بشلل السلطان. ولا يترك للولاية والقيادة والاستيلاء إلا حصة ضئيلة لا تليق بهم ولا تمكنهم من حماية سلطانهم وعصبيتهم، ولا من اضطلاعهم بالمهمات القومية والسيادية العظيمة التي يريدونها لأنفسهم وأولادهم وعصبيتهم وأنصارهم و"أمتهم".

فيسعى السلطان العصبي والبيروقراطي المرسل في تصدر المعارك والساحات "القومية"، إما من طريق تفريق الجماعات الوطنية والمحلية الهشة واستعداء بعضها على بعض، وإرهاب بعضها وشراء بعضها بالواسطة. فيستدخل مباشرة او مواربة الكيانات الوطنية القلقة والمترجحة. والقلق والترجح حالها كلها. ويؤلب الجماعات الواحدة على الأخرى، والكل على الكل أو الأجزاء على الأجزاء. ويغذي المنازعات والشبهات بالاغتيال والتسليح والتكتيل والعزل والحماية. فينبغي أن يظل أفق الحروب الأهلية، وليس الحرب الواحدة و"الجامعة"، ماثلاً وقريباً، وتبقى جذواتها حية. وينبغي ألا تنفك المنازعات الأهلية من خيط يربطها بجبهة "الحرب على الغرب" وامبرياليته وصهيونيته وصليبيته وعدوانه الشرس على الوطن والأمة والسيادة والوحدة. وكل تحفظ عن القيادة وحكمتها هو خروج وحرابة، على قول بعض قضاة طهران الحرسيين والميدانيين وحسبان ضباط الجهاز الأسدي وأبنائهم وأبناء مواليهم. فتماسك الكتلة الأهلية "القومية" والاقليمية، ومرآتها جبهة أحمدي نجاد نصرالله "بشار"، رهن أعمال التصديع الداخلي والتأليف الاصطناعي المديدة هذه.

وما صنعته أنظمة حزبية وعسكرية وأمنية في بلدانها ومجتمعاتها ودولها من "فوق"، من مناصب الدولة وقمم الأجهزة العالية والنافذة والمتسلطة، صنعت مثله على صورة أتم وأبدع، بواسطة القوى والجماعات والمنازعات الأهلية والمحلية في الجوار الفلسطيني واللبناني والعراقي. فرفعت القوى والجماعات انجازها على انقاض الحروب الداخلية المتشابكة بالحروب والنزاعات الاقليمية. وتولت أذرع "المقاومة" ("الاسلامية")، كل واحدة في دائرتها المتخلفة عن دولتها الوطنية المفترضة، ما سبق أن تولته الأجهزة العشائرية البيروقراطية في اطار "نظامها" (الصدامي، الاسدي، القذافي...) المزعوم. فكتلت جماعاتها الأهلية كتلة مرصوصة ومستقلة في سياق انشاء جبهة ثابتة ومشتعلة مع الاحتلال، وفي سياق اشتباكات فرعية مع أعداء الداخل والحلفاء الفاترين، والجماعات المتحفظة. ودعا تسليحها وعسكرتها وهيمنتها على قرار الحرب الجماعات الأخرى إلى الانكفاء والتحاجز ونشدان الحماية.

ففشت "طائفية" عصبية حديثة، بل شديدة الحداثة والبيروقراطية والتنظيمية والشبكية. وجمعت في حزمة واحدة الروابط المباشرة والدموية إلى شاغل الاضطلاع بالخلاص الكوني. وشبكت مدخل الشارع الضيق بجادات العولمة وطرق التموين الحيوية، على قول الجنرالات الجويين والبحريين الايرانيين في وصف مناوراتهم. واستخلصت "المقاومة" من الاقليم المتصل ديرات ومضارب وحارات ومسالك استقلت بها وحدها، وألحقتها بمراكز اقليمية، ودمجتها فيها. واستدخلت أبنية الدولة وهيئاتها وإداراتها وأجهزتها، واقتطعت حصصاً منها معاييرُ عملها ووظائفها هي معايير ولاء "المقاومة" ومهماتها. فاستحال إجماع الحد الأدنى العملي. وما ابتدأته الأجهزة المستولية في "الدولة" من تصديع الدولة الوطنية، وتشطير جماعاتها وأقاليمها، وتحاجز مواطنيها واستعدائهم على الحكم وفكرته، تولت "المقاومة" وجيوشها الخاصة وجماهيرها التي تعيلها وتحشدها وأحكامها العرفية وحروبها الماثلة والوشيكة، استتمامه وتتويجه وإنزاله من ذرى السلطة إلى زوايا الجماعات المعتمة.

وترث الحركات الوطنية المدنية والديموقراطية الدمار الفظيع والثقيل الذي خلفته "سياسة" الأجهزة المستولية، وأحالت دولها ومجتمعاتها إليه. ومفهوم الولاية أو السيادة هو في منزلة الركن من الاستيلاء وسياسته. فمن طريقه وذريعته نفي المجتمع وجماعاته من الدولة، وتدبيرها، واستعدي بعضها على بعض، واختصرت الرابطة السياسية في التعصب على "الخارج" والحرب على "العدو" والولاء للجهاز المتسلط. وقوضت أبنية الكيان الوطني السياسي، وحلّت في مدى لا ناظم له غير علاقات القوة والعنف. وحملت الحدود والقيود الجغرافية والقانونية والوظيفية على تعسف لا مسوغ له غير احتيال الطاغوت على المستضعفين، وتحكم الامبريالية في الجماهير والشعوب. ولعل هذا النهج في رأس الدواعي إلى نشأة الحركات هذه، والقرينة الأقوى على جدتها وحداثتها وسياسيتها. والانعطاف لا يزال في بواكيره.