الاثنين، 26 سبتمبر 2011

منطقة الفنادق ووادي أبو جميل... ذهاباً وإياباً

المستقبل - الاحد 25 أيلول 2011 - 
تشيد، اليوم (منذ نحو العقدين)، أعلى المباني، وأغلاها سعراً، وأقربها مطلاً على البحر وحجباً له عن المقيمين في المباني المنتشرة على منحدرات بيروت وشرفاتها ومصاطبها، غرباً وجنوباً وشرقاً وجنوباً، في دائرة سُميت، في أثناء الحروب المتعاقبة، "منطقة الفنادق" (عطفاً على "نوافذ"، "المستقبل" في 18 أيلول 2011). وقصدت التسمية دائرة أوسع من تلك التي جمعت فندق سان جورج وفينيسيا وهوليداي إن، في تدرج متصل من "العراقة" الفائتة إلى الحداثة السياحية والسوقية، وبعض فروعها القريبة في كتلة واحدة نواتها الزيتونة وجادة الفرنسيين. ووادي أبو جميل و"وطاه" البحري إلى جوار المرفأ الغربي. وتشترك أجزاء الكتلة، وهي سفوح "التلال" التي تعلوها وتطل عليها من الزيدانية والظريف غرباً إلى القنطاري وكركول الدروز والبطريركية وزقاق البلاط وطلعة الاميركان شرقاً، تشترك في قرابتها بالأجانب الكثر على أصنافهم، وفي مقدمهم الاميركيون، حول جامعتهم ومستشفاهم، والفرنسيون، حول المرفأ والهيئات السياسية وآداب المعاشرة. وتشترك، من وجه قريب، بالهجنة والجوار المختلط الذي تسوّغه علّو المرتبة الاجتماعية. وتشاطرت الدائرة وتقاسمتها، على مقادير متفاوتة، جماعات أهلية، طائفية ومذهبية وبلدية كثيرة، بعضها نزلها باكراً فكان هناك يوم كانت مدينة (داخل) السور حية. وبعض آخر تأخر نزوله إلى انعقاد الأمر إلى الانتداب ومصالحه المشتركة، من ترامواي إلى كهرباء وماء، والمرفأ قبلها جميعاً. فحملته الهجرة إلى هناك.

فلم تكد "الحرب"، على ما بدت في مستهلها الكاذب والمخادع، تنفجر حتى كان الاستيلاء على "منطقة الفنادق"، أو "تطهيرها" أو تخليصها أو التحصن فيها ومنها، في رأس المقاصد الحربية المتدافعة والمتناقضة، الرمزية والأدبية والمادية الملموسة. فهي، في حسبان المقاتلين المسيحيين وأهلهم، تتمة المرفأ والجميزة وفوش واللنبي والوادي، أي الحصون المتقدمة التي عمرها وأحياها بعد ركود النشاط الاقتصادي والاجتماعي، وجددتها المثاقفة. وهي جسر النواة السكنية الجغرافية إلى أحياء مختلطة يتصدرها رأس بيروت، وتتصل من طريق شارع سبيرز، وشارع ميشال شيحا وشارع كليمنصو فالقنطاري وميناء الحصن بوادي أبوجميل وما يليه إلى الشرق. فالمرابطة بها حماية أمامية للمرفأ، حبل السرة مع الخارج على خلاف المطار الممتنع و"البعيد" والقائم في ديرة العدو. وهي كذلك عَلَم على اتصال بيروت في عهدة المقاتلين. وأعالي الفنادق، وأولها وأعلاها هوليداي إن، منصة مراقبة وقنص وقصف، نظير برج المر، في وسعها شل المقاتلين الفلسطينيين والعروبيين المسلمين، وتعظيم كلفة سيطرتهم على الأحياء القريبة.

وأما المقاتلون العروبيون الفلسطينيون الكثيرو المصادر والولاءات والتسلح، والمسلمون اللبنانيون الأهليون، و"الوطنيون" على زعمهم من يساريين وقوميين مختلطين- فتصور لهم بقاء الدائرة هذه بيد "الكتائب" استمراراً على استدخال العدو الأهلي والأجنبي الغريب والمستولي، والأثرياء الذين بدلوا جلدهم، "منطاقَهم" الوطنية، أي ديراتهم ومرابعهم وحماهم العائلي المتخيَّل. ودعا المقاتلين العروبيين إلى الحؤول دون تحصن المقاتلين المسيحيين في هذا الشطر من السهل الساحلي اتقاء القنص والقتل والشلل الناجم عنهما، ودعتهم إليه إرادة قطع أواصر الجماعات المختلطة بعضها ببعض، ورغبة بعض القيادات الفلسطينية (مثل "فتح" والجبهة الشعبية) والعروبية اليسارية في جمع سكان مختلطين تحت جناحها المشترك. وهي دواع ونوازع متضاربة. وحسم التضارب والتنازع مبادرة منظمة مسلحة فلسطينية "سورية" مشتركة (على معنى "القوات المشتركة" لاحقاً وهي اسم على مسمى فلسطيني)، شأن "الصاعقة" و"القيادة العامة"، إلى مهاجمة أحياء بيروت المختلطة، سكناً، والتجارية والسياحية، مرافق وموارد. وحمل هذه المنظمات، السورية الولاء، على شن "جولاتها" داخل أحياء السكن المختلط، في أطراف الصنايع ورمل الظريف والبطريركية وزقاق البلاط والقنطاري وكليمنصو، ومن بعدها في الفنادق والأسواق، استيلاء "فتح" وحلفائها ومواليها المحليين على جبهة طريق الشام والخط الأخضر (لاحقاً)، بين الضاحيتين الجنوبيتين الكبيرتين، وحشد المنظمة الفلسطينية المسلحة الأم، والمتنقلة الولاءات العربية غير السورية، أنصارها ومسلحيها وحلفاءها على الجبهة هذه، وحلقاتها المتفرقة.

فكان على "سوريي" المنظمات الفلسطينية المسلحة، ولبنانيي بعض المنظمات الأهلية البلدية والأهلية، السنّية والناصرية ("المرابطون" و"الاتحاد الاشتراكي"...)، إشعال حربهم الخاصة على جبهة فرعية ظاهراً. وأغرى بإشعال هذه الجبهة، الداخلية والاجتماعية والطرفية، تهديدُ الحرب عليها جماعات مسيحية ميسورة، وحملها هي وأحزابها المفترضة على نشدان الحماية من "الدولة" التي ترعى هذه الحرب وتغذيها، ومقايضة "الحماية الموضعية" نفوذاً وغنائم. ولا ريب في أن اجتياح أحياء الأثرياء و"الخواجات" المفترضين، ومصادرتها (على قول نايف حواتمة و"أبو ليلى" العراقي تيمناً بلينين وعميله الجورجي "كوبا" ستالين)، وحمايتها (على معنى الحزب "القومي الاجتماعي" حين تقاضى 600 ألف دولار لقاء جلائه عن مبنى احتله نحو ربع قرن في منتصف التسعينات) من احتلال مهاجرين ومهجرين غفلٍ من تعريف سياسي منظم و"ممسوك" على المعنى الأسدي والعمّالي المعروف لا ريب في أن اجتياح هذه الاحياء شبَّه على المقاتلين الأشداء، المتيمين بالعروبة التقدمية وبمناهضة الامبريالية، جمع النافع الى الاخلاقي والنضالي.

وعلى هذا، تعاقبت الجولات الأولى، وأغار عوام "ضحايا الضحايا" (إدوارد سعيد) من المخيمات الاقليمية، وعوام أهل الضواحي السنية، من الطريق الجديدة ونازحي البقاع الغربي وإقليم الخروب وكفرشوبا وشبعا، على دار السباء أو السبي هذه. فأجلوا السكان، واستولوا على ممتلكاتهم ومنازلهم، وحطموا المرافق السياحية والفندقية التي خلفها روادها، وأنزلوا بأرض الأنقاض والطلول والنفايات والخرائب هذه مهجَّري الضواحي الشرقية ومخيماتها، وبعض أقاربهم من بعدهم. وكان هؤلاء، بعد جلاء "فتح" على الخصوص وتشتت انصارها ومواليها المحليين، مادة الجماعة الخمينية والحرسية المسلحة، هم وأهلهم وأبناء عمومتهم وخؤولتهم. وحين وضعت الحروب الداخلية، في أعقاب تغيير أقنعة وجلود كثيرة، أوزارها، آل تقاضي أثمان التهجير وتعويضاته إلى من لم يكن لهم ناقة ولا جمل في انفجار حرب النهب والسلب والسطو بأرض السباء والخلاء هذه.

وانقلبت ارض السباء أو الدائرة العقارية التي تخلفت عنها ونواتُها الفنادقُ القديمة المتجددة وبعض الفنادق الجديدة، وذراعاها الساحليان العريضان إلى المرفأ شرقاً وإلى الروشة غرباً، والشرفات والمنحدرات المطلة عليها، ولسان "سوليدير" المولود من أكوام النفايات المجتمعة طوال 15 عاماً ولم يفتأ الناس في أثنائها "ينفون" القمامة والأوساخ والقاذورات والردم انقلبت واحة عمران وعمارة متعالية ومتنطحة. ولم يقتصر الامر على دائرة الاعمار المبرمج، فتخطاها إلى الجهات الأخرى وروافدها ووصلاتها وفروعها. وفي نهاية المطاف، الموقتة، بيع المتر المربع المبني في بعض هذه شقق هذه النواة بـ15 ألف دولار أميركي. وبلغت مساحة الشقة الواحدة في المباني العالية ألف متر مربع. وهذه الأسعار النيويوركية أو اللندنية تنسب إلى "مرحلة دبي من (مراحل) الرأسمالية"، على قول الأميركي مايك ديفيس.

ويترتب على انقلاب القاع الصفصف في دار الحرب واديْ ذهب، على ما سمي مهْجر وادي أبو جميل حين إخلائه من المهجرين وتعويضهم "أتعاب" إقامتهم القسرية في رعاية جماعتهم المسلحة والحرسية، وهو عم "ذهبه" شركة الاعمار وجماعة المقاولين في الدائرة العقارية كلها أصولاً وفروعاً، يترتب على الانقلاب لون من الاقامة بالمدن اجتماعي خالص إذا جازت العبارة. فسكان المباني هذه، في طول الدائرة وعرضها المتسعَيْن، لا رابطة بينهم غير إقامتهم الخالصة أو المحض. وهم لم ينزلهم منازلهم الفسيحة والمشرقة والمضيئة والهانئة إلا بلوغ مداخيلهم، وهي ريوع وعوائد فوق ما هي أجور ومرتبات بديهة، العتبة التي بلغتها. وهذه العتبة فردية، ولا تبلغها الجماعات والأسر إلا في أحوال سياسية واقتصادية قليلة. وعلى هذا فهم ينزلون شققهم ودورهم وطبقاتهم أفراداً وأسراً ضيقة ونواتية، أي طبقة اجتماعية مجردة. ولا يقدح في هذا شراء والدٍ سياسي ورجل أعمال وابنيه ثلاث شقق أو طبقات معاً في مبنى واحد، هو المبنى الذي مر الكلام عليه (الالف متر المربعة، الـ15 ألف دولار للمتر الواحد...). فهم الاستثناء أو هم مثاله إذا تكرر.

والشراء والبيع في هذا المرفق لا يقتصران على الاستعمال وقيمه، أي على الوجه المتصل بالحاجات وتلبيتها. وهما يحتسبان التبادل َوالسوق والربح كذلك، على شاكلة "تجارة" الاسهم والعملات. وبعض المباني المُعْلَمة لا تزال خالية، وقد انقضى فوق العقد على إنشائها وتمامها وإضاءتها، على رغم بيع بعض شققها وطبقاتها. وتعاظم ثمنها يطمئن مشتريها إلى أن سلعتهم غير خاسرة، واحجامهم عن السكن المادي والعيني قرينة حصافة تجارية حقيقية. وينزع هذا أو هو يؤدي فعلاً إلى ارساء المتصرفين في سلعة السكن والإقامة على صفتهم الطبقية المجردة، والمتخففة من روابط "طبيعية" تقيد السيولة السوقية والسهمية والنقدية، وتشد السلعة إلى شرائط مادية تحصر قيمتها بتوافر هذه الشرائط وبدوامها.

وعلى خلاف هذه الحال، وعلى طرف نقيض منها، أعاد الاعمارُ الاهالي المهجريَّن والمهاجرين النازحين الذين التحقوا في أثناء العقد ونصف العقد (1976- 1992) بمن سبقوهم إلى الاقامة بـ"الفنادق" والقنطاري وو"الوادي" وكليمنصو، إلى الضواحي الجنوبية الممتدة والمتوسعة والمنتصبة قطباً سكنياً أهلياً ورمزياً وسياسياً بإزاء بيروت "القديمة". وأتاحت العودة، وهي التحام بالأهل أو ببعض اجزائهم وليست إقامة مستأنفة في مكان واحد ، تكتيلاً طوعياً ومقصوداً جمع أهلاً واحداً في دائرة متصلة على هذا القدر أو ذاك. وكان تناثر الضواحي من قبل، بين النبعة وسن الفيل وعين السيدة وتل الزعتر من ناحية والشياح والغبيري وصفير والرمل العالي من ناحية ثانية، فرّق الأهل الواحد في "مدن" متباعدة. وإذا صدرت، اليوم، نشرة "اجتماعية منوعة شهرية، وسُميت باسم "الضاحية" ("توزع مجاناً")، تناولت في صدر موضوعاتها "آل شمص عائلة بفروع كثيرة تتوزع في أكثر من 70 بلدة" و"شباب النبعة... التهجير حولهم نجوماً في الضاحية". فروابط الدم والاسم والجوار تتقدم تعريف الجماعات، وهي مناط لحمتها وتفرقها، والعامل الاقوى أثراً في أطوارها. وهذه الروابط هي شرائط "طبيعية" سابقة، وقيد ملزم على الانتقال والإقامة، والشراء والبيع، وعلى جواز اكتساب شيء من الأشياء، مثل بيت السكن، صفة السلعة المجردة، أو انتفاء هذه الصفة وامتناعها.

وعلى هذا، سلكت الجماعتان اللتان ربطت الحروب "اللبنانية" بينهما، في هذا الموضع من بيروت، برابطة المجابهة و"التناقض"، عل قول شيوعي سابق ومتحول، طريقين شتى، سلعياً طبقياً مجرداً واستعمالياً أهلياً مجسماً. ولا يبدو أن الخيط انقطع. فعلى الشاطئ الصخري بين "الدروندي" ("مقهى الشرق" سابقاً و"الحاج داود" في وقت اسبق وأول)، شرق خليج عين المريسة ومرسى صياديها، وبين "الريفييرا" بجل البحر، إلى الجنوب الغربي من حرم الجامعة الاميركية تستحم جماعات من السابحين القادمين في معظمهم من الضواحي، وتجمعها نشرة "الضاحية" في مفرد على شاكلة منظماتها الأهلية الغالبة.

وقبل حوالي الشهر تصدرت افتتاحية رئيس تحرير صحيفة يومية "ملية"، أي شعبية باللغة الفارسية مثل "فولك" الألمانية العرقية، كتبها صاحبها بحبر وجودي ولغة سفيرية سلمانية، وروى فيها "عودة" كادحي حي السلم في ختام نهار منجمي رأسمالي وبريطاني، إلى مياه المتوسط الدافئة. ويلوم رئيس التحرير العتيد، وغير المؤسس، كادحيه على تركهم أرصفة كورنيش المنارة، والمباني المطلة، من غير الاستيلاء عليها أو، على التقليل، تحطيمها. فهي موئل "قناص" أبدي لا يزال يملأ غرف هوليدي إن، ويتناسل في عشرات المباني الشاهقة التي تحجب البحر عن أهل المدينة وتتعاظم أسعارها مع كل أزمة مصرفية أو سهمية أو نقدية أو سيادية. وتقصر عشرات "القيادات العامة" ويقصر عشرات "أحمد جبريل" الفلسطيني العروبي الأسدي القذافي عن قنصه، على ما كان قال محمود درويش مجنِّساً (على مثال "حاصر حصارك).

الثلاثاء، 20 سبتمبر 2011

بيروت السفح والسهل والميناء جدار على البحر وجدار على الجبل


المستقبل، الاحد 18 أيلول 2011  
منذ نحو ثلاثة أشهر أو أربعة أتجنب الوقوف الثابت بإزاء النافذة الصغيرة التي يطل منها المطبخ على البحر الأبيض المتوسط وعلى الجبل القريب والمتواري شمالاً. ويُرى في البعيد مرفأ بيروت وجسور التحميل والتفريغ المعدنية وبطون الاهراءات الحجرية المكورة وأجزاء من مقدمات السفن ومؤخراتها وسطوحها وصواريها من غير أشرعة. وفي أقصى المرفأ يرى بعض سوره أو سنسوله ميمماً صوب البحر، ومبتدئاً إبحاراً يتولاه غيره ولا طاقة له هو به. والداعي إلى تجنب الوقوف والنظر المتمعن ليس ما يتراءى في البعيد، وأحدس فيه وأتذكره من وراء سطوح المباني القريبة والبعيدة وبيوت المصاعد والأدراج المدببة والمكعبة وجدرانها الواطئة وخزانات مياهها ولواقطها النحيلة والمائلة في اتجاهات كثيرة. فبين المرفأ وبين ظهر الصوصة أو تلة البطريركية، على الطريق من زقاق البلاط أو برج المر – على تسمية مادية يفهمها سواقو دراجات "الدِليفري" فوق ما يفهمون أحجية "حي ذي طابع تراثي"- إلى كركول الدروز الدارس ("كان كركول الدروز" على قوم زعيم طللي)، بين هذه وذاك حجابات صفيقة ومتدافعة من مبان لا تستقر صفحاتها أو واجهاتها ولا صورها الجانبية على قرار أو رسم. وتجتمع المباني والأسطح وظهورها النازعة إلى العلو والمتنابذة على التستر على المرفأ اجتماعَ الأهل على التستر على عيب أو على الثأر من عيب. فلا يرى منه، ولا من البحر القريب، إلا نتف يستعين المقيم منذ عقد ونصف العقد بالذاكرة المريرة والمجهدة على سلكها في صورة.
  ولكن ما لن يعتم، على وجه اليقين، أن يتوارى وراء مبنى حديث يضاهي مبنى ظهر الصوصة علواً يبدأ في منخفض عنه يبلغ طبقتين أو ثلاث على التقدير، ليس المرفأ، ولا شطر الشاطئ بين المرفأ وبين السان جورج أو لسان "سوليدير" في البحر، ولا الجزء المتوسط من زقاق البلاط شرق مدرسة مار يوسف الظهور، بل هو الخلاء الذي يلي البطريركية، المدرسة والكرسي، إلى الشمال. ولا يحول بيني، بإزاء نافذة المطبخ أو من شرفته، وبين قرميد مدرسة الحريري الثانية ومدرسة مار يوسف الظهور المتلألئ وأشجار الأولى القليلة والداكنة الاخضرار. فالقرميد والأشجار في وسط المنحدر وعلى جيد التلة – على ما كان قال الأعمام الأدباء ويقول أولادهم إلى اليوم حين يكتبون في بلدتهم ويتذكرون – أمرهما غريب. فهما، شأن مبنى البطريركية الذي بني على شاكلة سرايا عثمانية او دير جبلي وهو سبق انشاء السراي الكبير والقريب في أوائل القرن العشرين، وشأن ليسيه (ثانوية) عبد القادر الفرنسية من قبل، من بقايا بيروت قديمة وآفلة مع أفول أسر الأعيان (آل بيهم) والخواجات وسكنهم المنفصل والفسيح على شرفات المدينة الأهلية وخليطها، و(مع) طي أحياء السفراء الغربيين (البريطاني على بوابة رمل الظريف الشرقية الشمالية والألماني في "فيلا" عبد القادر الجزائري) ومدارس الجاليات والارساليات والطوائف (الأرمنية إلى الفرنسية والرهبانية الانثوية). فلم يبق قرميد إلا على مباني المدارس الواطئة، أو بعضها المتجدد عن يد رفيق الحريري التعليمي والمدرسي البلدي. ولم يبق شجر إلا في أرجائها.
  وسطوح القرميد المتبقية والقليلة صائرة الى التواري عن مطل النافذة والشرفة المعلقتين في الطبقة الثامنة من المبنى القائم في ظهر الصوصة، على مقربة من ذروة كركول الدروز وتلته العالية، والمتوجهتين على البحر وإليه. وحين يشهق المبنى الجديد علواً، ويحجب جداره المتصل والأخرس أحمر القرميد وأخضر السروات الداكن والصنوبرات الفاتح والمضيء، فيسدل كذلك جزءاً جديداً من حاجز هائل على البحر. ويصل الجزءَ هذا بأجزاء كثيرة تخرج تباعاً من اماكن مبعثرة، منذ أوائل سبعينات القرن الماضي، وربما قبلها بعقد من السنين. وتتضافر، وكأنها متواعدة ومتواطئة، على رفع حاجز يحجز بين المدينة، وأحيائها وشوراعها وأهلها، وبين بحرها وشاطئها. فإذا لم يقم الواحد في شقة من شقق المباني التي يأتلف منها الحاجز تباعاً، استحال عليه استقبال البحر ولو من بعيد. ولم يسعفه قيام المبنى الذي يسكن إحدى شققه في موضع مرتفع من التلال المحيطة بقصعة بيروت، والمطلة على سهلها الضيق بين مصب النهر شمالاً وشرقاً (أو الجميزة والرميل، تقريباً) وبين جل البحر وسفح المنارة القديمة جنوباً وغرباً (وصولاً إلى الرملة البيضاء تبعيداً).
  وينقض هذا أو يخالف بعض دواعي الرسم الذي جرى عليه إنشاء المباني والتوسع العقاري الى أحياء بيروت "المحدثة"، أي تلك التي اختطتها حركات النزوح والسكن والإقامة والجوار في أواخر القرن التاسع عشر غداة تشغيل مرفأ بيروت في ثمانيناته وغداة شق طريق بيروت – دمشق في أواخر ستيناته وعمارة الأشرفية والشطر الشرقي من المدينة في أعقاب استقرار المتصرفية والفراغ من حروب الغرضيات والفتن. فالأحياء المحدثة بنيت وارتفعت على التلال والمصاطب والبسط والأبراج والحصون والقناطر والرؤوس والطلعات المطلة على البحر وشريط السهل الساحلي الضيق. وهذا ما تشي به الأسماء القديمة ومعانيها المطوية: تلة الاشرفية او جبلها وتلة الدروز وتلة الخياط وتلة الزيدانية (أو رملها) والمصيطبة والبسطة التحتا والبسطة الفوقا وبرج أبي حيدر وميناء الحصن والقنطاري وراس بيروت وطلعة جنبلاط وطلعة العكاوي... فبناء البيوت على منحدرات التلال و"الجبال" والروابي المُصعِدة من السهل والمخلِّفة وراءها منبسطاً أو سفحاً تجتمع فيه مياه السيول المنحدرة، أخرج الأهالي من مدينة السور والمستنقع وبحر الأمواج الهاجمة. فأشرفوا على الشاطئ والبحر، وعلى الجبل إلى الشرق. وحمل الأعيان والأثرياء والميسورون الشرفة (البلكون) وعمارتها على معناها الحرفي. وكان هؤلاء سبقوا عامة الأهالي إلى رفع منازلهم وأعمدتها وشرفاتها وشبابيكها وصفحاتها الملونة وأدراجها وقرميدها على أطراف التلال وحروفها، واستقبلوا بها البحر والشاطئ.
  وعلى هذا، فسدُّ البحر بحاجز متسلسل من المباني العالية والمنتشرة في ثنايا بيروت قبل أن تنيخ بكلكلها على أمتار قليلة من الماء، يخالف معنى المدينة الذي يفهمه أهلها، وينكره، وينتهك رسم توسعها المضمر، وينقلب على أركانها البيئية وعلاقاتها بالعناصر والتضاريس التي نشأت عنها مسارحها وإيقاعاتها. وما كان في الستينات وأوائل السبعينات، عشية اندلاع الحروب الملبننة، استثناء سياحياً ومجتمعاً في دائرة الزيتونة – ميناء الحصن وفنادقها، شاع وفشا بطيئاً في التسعينات، وهجم في نصف العقد الأخير من غير قيد ولا كابح. فطوال عقد 1960 وسنواته شذ فندق فينيسيا وحده بجوار نصب فندق سان جورج أو معلمه المعماري والتاريخي، عن تواضع بالم بيتش واكسلسيور وريجيس وبيفرلي وحلقة المرابع المتصلة حول "خليج" عين المريسة. وانتصب الفندق الجديد، على خلاف جاره البحري ومينائه ونادي التزلج المتفرع عنه، مرفقاً برياً وعالياً يبلغ عدد طبقاته ثلاثة أضعاف عدد طبقات المنافس العريق بإزائه. وإذا كان المنافس شيد على النحو الذي شيّد عليه في عقد 1930 تيمناً بمثال متوسطي مشرقي فرنسي إيطالي، لازوردي (كوت دازور) جنوبي وبندقي"مشبِّه"، وشاءه أصحابُه ومعماره، مرشح الحزب الشيوعي إلى دائرة بيروت الأولى ورئيس حركة أنصار السلم في لبنان، مقصداً أو نادياً للأعيان المختلطين والأثرياء القدامى والجدد ومحترفي السفر العابر الغربيين، تخلى صاحب الفندق الجديد نجيب صالحة، احد أوائل وجوه الهجرة التجارية إلى المملكة العربية السعودية، والشركة التي أنشأها وصممت فينيسيا، عن أضعف طمع في الفرادة أو العراقة المقلِّدة. فاحتذى الفندق الأنيق والناحل والملون بلون الحجر الرملي الفاتح، على حاله اليوم بعد عقد ونصف العقد على انبعاثه وتكاثره، على مثال راج في أنحاء العالم، وقدم البساطة والخدمة العملية على المعايير الأخرى.
  وسَنَد المبنى العالي (يومها) ظهره إلى مصطبة مستوية بين قصر القنطاري (وهو تركته رئاسة الجمهورية في 1958 إلى صربا بضاحية جونيه الكسروانية قبل نزولها بعبدا) وبين مخرج وادي أبو جميل إلى دور آل الداعوق وسور حديقة القنصلية الفرنسية ومدخل عين المريسة فالجامعة الأميركية إلى آخر شارع بلس والمَطَل على كورنيش المنارة. وعلى جهتي الطريق هذه – وهي شريط عريض إذا أدخلت فيه الطريق الموازية الأولى، من كنيسة مار الياس المارونية ومبنى بنك البحر المتوسط إلى مركز جيفينور (كليمنصو)، وألحقت الطريق الموازية الثانية من برج المر وقصر القنطاري إلى مركز أريسكو، غير بعيد من المصرف المركزي، فالحمرا إلى السادات- تسابقت على الارتفاع والعلو، طوال نصف قرن تحتسب فيه أعوام الحروب الساخنة الخمسة عشرة (1975-1990)، عشرات الأبراج والمراكز والبنايات. فانقضى عقد كامل بين تشييد فينيسيا وبين انتصاب الهوليداي إن بظهره. وما أضمره الفندق الأول من ابتذال سياحي وعملي قريب، على بعض التستر والحياء الجماليين، أدل به من غير تحفظ الفندق الثاني. فبلغت طبقاته ضعفي عدد طبقات فينيسيا، وهو شيد على مرتفع. واشتطت واجهته عرضاً. واختارت إدارة "السلسلة الفندقية" التي بنته عمارة صناعية. فلم تبقِ أثراً للأعمدة، أو لأقواس النوافذ والشرفات، أو للألوان المتوسطية. فانتصب على حد المصطبة، وظهره إلى البحر وهو يبعد عنه ثلاثين متراً، مارد متجهم من غير قسمات، تعلو طبقاته بعضها بعضاً كأنها فم واحد، كثير الشفاه الممطوطة والجافة، حل محل الوجه كله وتولى العبارة عنه.  
وكان المبنى المقحم إيذاناً مبكراً بشريط متقطع ومتراصف من المباني التي تشبهه، حجباً للبحر وحجزاً بين الشاطئ وبين المباني على منحدرات التلة الغربية الشمالية العريضة من بيروت. وكان مركز ستاركو، بقلب أبو جميل، جدد مباني المكاتب بجوار فينيسيا وفي سنة قريبة من تاريخ بنائه. ولم تبلغ طبقاته العشر، إلا أنه علا المباني حوله، ويعود معظمها إلى عهد الانتداب بين الحربين. فلم يلبث مركز جيفينور، بين فينيسيا وبين الهوليداي إن وقتاً، أن انتصب على مقربة من مستشفى الجامعة الأميركية، غير بعيد من القنصلية الفرنسية. وهما معلمان تاريخيان أجنبيان شيدا، حين شيدا، في جهة طرفية من بيروت، أرضاً وجهة وسكاناً ومرتبةً اجتماعية. وكان السبَّاق إلى رفع المباني التجارية والمكتبية إلى نحو الـ50 الى 60 متراً، وإلى العمارة بالزجاج والألمنيوم. واليوم، حين أنظر من الشرفة الغربية إلى البحر، وقد استحال أفقاً وراء ركام المباني المتكأكئة والمرصوصة، أرى إلى يساري في طرف المنظر ثلاثة حروف، الجيم والفاء والياء، مضاءة بالأبيض، هو زاوية مثلث زاويتاه الأخريان اسم مبنى ليبرتي تاور جنوباً وأريسكو سنتر (بالضوء الأحمر) شرقاً. وعلى طول طريق الترامواي القديمة، من الهوليداي إن فمحطة الداعوق ومدرسة الإدارة العليا (وارثة القنصلية الفرنسية)، يبرز سنةً بعد سنة مبنى جديد لا يقل عدد دوره عن الـ15 – 20 دوراً.
وفي موازاة صف المباني هذه، على كورنيش المنارة بين عين المريسة وحرم الجامعة الأميركية، ارتفعت في السنتين الأخيرتين سبحة مبانٍ كانت حبتها الأولى، قبل نحو العقد، بناية الأحلام، وبلغت اليوم الست. وفي الأثناء تخففت عين المريسة الخلفية، وراء كورنيش المنارة، من بقية البيوت القديمة الواطئة، وكانت زينة هذه الجهة من الشاطئ لعين المسافر القادم من البحر، وراحة جسم المقيم ونفسه. وترتفع يوماً بعد يوم إلى جنب الطريق الضيقة، أبراج يكاد يتسع الواحد منها إلى سكن حي كامل. وعلى الجهة المقابلة، على الطريق المفضية إلى المرفأ، بإزاء فينيسيا، يتوسط فندق فورسيزنز كوكبة من المباني المعلقة. وهي مقدمة مبانٍ تشيَّد وراءها، على المنحدر من "تلال الوادي" (وادي أبو جميل سابقاً) إلى كورنيش المرفأ، وبين ستاركو شرقاً ومركز بنك المتوسط غرباً.
 فإذا خرجتُ إلى شرفة الشقة الجنوبية – وهي كانت إلى سنتين ونصف السنة تطل على بيوت أثرية من طبقة واحدة، وتستظل أشجاراً معمرة وباسقة تحف قصراً متهاوياً ومقفراً، وخَلَفها مبنى جديد من 13 طبقة بينه وبين الشرفة 5 أمتار – ووجهت وجهي إلى الشرق، حجب الجبل أو كاد صف من المباني يتصل من الصيفي والتباريس شمالاً وشرقاً، حيث برج الغزال منذ عقدين وبرج التباريس منذ سنتين، إلى اليسوعية وفرن الحايك ومار متر والأشرفية (التلة نفسها). وخط "الجبهة" الصفيقة هذه يتوسط الأشرفية، على معناها الواسع، على طول الحرف الفاصل بين منحدريها، الشرقي إلى السيوفي والغابة والجعيتاوي، والغربي إلى الناصرة والسوديكو واليسوعية. وبرج رزق هو شيخ هذا الصف، ونظير برج المر ومعاصر بناء لم يكتمل ولم يبلغ غايته بعد نحو 4 عقود من ابتدائه. فإذا دار العمران دورته، ومضت اسعار العقارات على تعاظمها، ألفى ساكن تلال المدينة النازل بين سفح الجبل وبين شاطئ البحر نفسه بين جدارين أو سورين: واحدٍ يسدل على البحر وآخر يحجب الجبل.  

الأحد، 4 سبتمبر 2011

العلاج بـ"المقاومة"... واشتراكاته المميتة

المستقبل - الاحد 4 أيلول 2011
لم يغب عن أحد أن الحركات الوطنية والمدنية الديموقراطية العربية والإقليمية (إذا جُمعت إيران "الخضراء" إليها، ولم تستبعد منها وجوه من الرغبات والنزعات التركية...) سكتت عن مسائل "قومية" واستراتيجية ثقيلة وراهنة، وأطنبت في تناول المسائل الداخلية، الدستورية والاجرائية الإدارية والاجتماعية. وفي أحيان كثيرة، ظهر الإطناب، شأن السكوت والعزوف، في الأفعال فوق ظهوره في الأقوال. فمشاهد ساحة التحرير بالقاهرة والفصول التي سبقتها وأدت إليها، ومسيرات المدن والبلدات والأحياء السورية وشعاراتها، وملابسات نشأة المجلس الوطني الانتقالي الليبي ببنغازي ومسيراته العسكرية من بنغازي في الشرق والزاوية في الغرب ومبادراته على الجبهة الديبلوماسية، ودور بلدة بوزيد في بلورة الحركة التونسية هذه كلها أسفرت عن اشتراك الحركات في وطنية مدنية عامة ومسالمة (ما وسعها الأمر)، وإمساكها عن إعلان الانتساب الحاد والمقاتل إلى قطب إيديولوجي أو اعتقادي من الأقطاب القائمة والكامنة.

وبعضهم ينسب هذه الحال إلى الخبث والنوايا المبيتة، أو إلى تكتيك قد يكون أكثر نجاعة من خطط العسكري الفذ والممثل المسرحي الفريد المتحدر من قذاذفة سرت وسبها. ولا يعدم هذا التعليل حججاً. وليس أقل الحجج وزناً قوة التيارات الاسلامية في البلدان والمجتمعات المتحركة، وقِدَم تراثها في التنظيم والتعبئة، وبداهة تواطئها مع النزعات الشعبية الأولية، وتوسلها بشبكة المساجد والجمعيات الأهلية المتفرقة وتوافر الموارد المحلية والعربية لها... وإذا صح أو صدق هذا الاحتجاج في تعليل نهج بعض التيارات الاسلامية في مراحل متأخرة من الحركات المدنية الديموقراطية تواقتت و"انتصارها" أو بشائره الظاهرة، فإنه لا يصلح في تعليل قيام هذه الحركات ونهوضها أو "خروجها" على الطواغيت.

ولكن الأقرب إلى الملاحظة المباشرة والسطحية ربما هو افتقار الحركات المدنية هذه إلى "سياسة"، أي إلى نهج في تدبير ولاية الدولة والجماعة الوطنية السياسية على علاقات الداخل ونزاعاته، وعلى علاقات الخارج ونزاعاته. فهي تبدو حركات غير سياسية، قياساً على جهرِ الجماعات الحاكمة المستولية، وبعض الجماعات الأهلية المستعلية على أهلها ومجتمعها و"دولتها"، ملابستها وحدها السيادة والقوة والصراع والمناعة و"الصمود" والمكاسرة، إلى آخر المصطلح الخطابي الحربي والقومي الديني. فمن الانقلابات العسكرية العربية الأولى، في النصف الأول من القرن العشرين، إلى خلايا "القاعدة" والمنظمات "الجهادية" المتفرقة في أواخره، وبين هذه وتلك منظمات التحرير الوطني العسكرية والأمنية الكثيرة كان تحصيل القوة، ومكافأة قوة العدو وحلفائه، مسوغ هذه كلها. وهو لا يزال مسوغ دوامها للذين يتربعون في سدتها، والتمسك المستميت، بمقاليدها. وحَسِب أهلُ القوة، على شاكلة نائب رئيس سوري سابق، أن معارضيهم قاصرون عن "إدارة مدرسة ابتدائية". فالأحرى أن يقصروا عن هذا "الشأن العظيم" (على قول بعض المعصومين في الولاية) و"الكينوني"، على قول بعض مريديهم الذين يتصدون اليوم لإنفاذ خطة الكهرباء (اللبنانية) وقطع الموازنة واختصار السنة السجنية وتعقب مخالفات البناء وجمع القرائن على اغتيال اسرائيل "آباء" أنصارها ومريديها.

وتسلطت "الدولة"، وهي اختصرت في أجهزة القوة والانفاذ وقياداتها إذا لم تُصرف هي وفكرتها من العمل وتبطل هيئاتها ومؤسساتها وأجسامها أصلاً (على ما فعل القذافي وأصَّل الأمر نظرياً)، تسلطت على الاجسام الأهلية والاجتماعية والموارد والهويات وشاراتها، وسطت عليها. واصطنعت بدائل لها وأقامتها محل الجماعات، وألحقتها بأجهزتها، وحالت بينها وبين الفعل والنماء وحالت بين الأفراد وبين حرياتهم واختباراتهم. وحملت سيرةَ المصادرة والتسلط والقهر على ضرورات مراكمة القوة والاعداد لحرب فاصلة. وقد تدوم الحرب الموعودة قروناً. وقد لا تقع، وينهار بيت العدو العنكبوتي أو يعجل فرج صاحب الزمان في انهياره. وفي الاثناء لا مناص من "السير على تعبئة" أو "كبكبة"، على قول الطبري في الخوارج خصوصاً. والتعبئة أو الكبكبة تعني الاستثناء والطوارئ والأحكام العرفية والحق في القتل من غير إنذار وفي التهيئة من غير احتياط، تقي وقوانين الأحزاب والإعلام المتعسفة من جهة الحاكم والمسؤولة من جهة الرعية، وامتيازات "أبواب العزيزية" وأسوارها العالية، والثأر الدهري من مظالم من "حكمونا" دهراً بالتعسف والقتل ورميهم بالامبريالية والعمالة والكيل بمكيالين والخروج على القانون والحق إلى قيام الساعة. وهذا نظام حرب أهلية دابة وأحياناً منفجرة، حصنه عصبية جماعة مستولية ومهددة على الدوام.

وهذه كلها إذا اجتمعت، على ما حصل في غير مجتمع عربي في نحو نصف القرن الأخير، ترتب عليها تصديع الدولة الوطنية وأبنيتها السياسية والحقوقية والإقليمية (حدودها والتزاماتها الجغرافية) والإدارية التقنية. فتذهب الطبقات الحاكمة الصعبية العشائرية والبيروقراطية، إلى أن مراكمة القوة تسوغ انتهاك الحدود والقيود التي تقوم الدولة عليها، وتفترضها على وجه الحاجة والضرورة كثرةُ الجماعات وتنازع المصالح والهويات الجزئية. ويؤدي ترك الجماعات والطبقات الاجتماعية والافراد نهباً لجماعة خاصة وأهلية متسلطة إلى حمل دفاع الجماعة أو الفئة أو الفرد عن نفسها (أو نفسه) إضعافاً لقوة "الدولة"، وتواطؤاً عليها مع العدو الكثير الوجوه والأقنعة. وعلى هذا، فعدو "الدولة" العشائرية والبيروقراطية الأول والعنيد هو مجتمع الجماعات الكثيرة، الدينية المذهبية والمحلية والعصبية القرابية والقومية، والمصالح المهنية والسلكية والطبقية، والانتماءات الطوعية الحزبية السياسية والجمعية والفردية الثقافية الذوقية. والكثرة هذه لا "علاج" لها بالدولة وأبنيتها التمثيلية والقانونية والسيادية، وعلانيتها وإقرارها بالمنازعة والخلاف والتحكيم والاقتراع. و"العلاج" الثاني هو الارهاب أو "الاستئصال"، على قول جزائري سار وذاع في أعوام الحرب الأهلية (1992 1999).

ولم يشك أهل القوة المستولون، وهم من العسكر ومن شُعَبه الأمنية، أو من أحزاب تصل متعسكرة ومن جماعات ضعيفة وهامشية وفقيرة على وجوه الفقر كلها، لم يشكوا في أن تقييد السلطان المرسل بالدولة الوطنية وأبنيتها وقوانينها، وبالمنازعات الاجتماعية وعلانيتها وكثرة الجماعات والمواطنين، يقضي بشلل السلطان. ولا يترك للولاية والقيادة والاستيلاء إلا حصة ضئيلة لا تليق بهم ولا تمكنهم من حماية سلطانهم وعصبيتهم، ولا من اضطلاعهم بالمهمات القومية والسيادية العظيمة التي يريدونها لأنفسهم وأولادهم وعصبيتهم وأنصارهم و"أمتهم".

فيسعى السلطان العصبي والبيروقراطي المرسل في تصدر المعارك والساحات "القومية"، إما من طريق تفريق الجماعات الوطنية والمحلية الهشة واستعداء بعضها على بعض، وإرهاب بعضها وشراء بعضها بالواسطة. فيستدخل مباشرة او مواربة الكيانات الوطنية القلقة والمترجحة. والقلق والترجح حالها كلها. ويؤلب الجماعات الواحدة على الأخرى، والكل على الكل أو الأجزاء على الأجزاء. ويغذي المنازعات والشبهات بالاغتيال والتسليح والتكتيل والعزل والحماية. فينبغي أن يظل أفق الحروب الأهلية، وليس الحرب الواحدة و"الجامعة"، ماثلاً وقريباً، وتبقى جذواتها حية. وينبغي ألا تنفك المنازعات الأهلية من خيط يربطها بجبهة "الحرب على الغرب" وامبرياليته وصهيونيته وصليبيته وعدوانه الشرس على الوطن والأمة والسيادة والوحدة. وكل تحفظ عن القيادة وحكمتها هو خروج وحرابة، على قول بعض قضاة طهران الحرسيين والميدانيين وحسبان ضباط الجهاز الأسدي وأبنائهم وأبناء مواليهم. فتماسك الكتلة الأهلية "القومية" والاقليمية، ومرآتها جبهة أحمدي نجاد نصرالله "بشار"، رهن أعمال التصديع الداخلي والتأليف الاصطناعي المديدة هذه.

وما صنعته أنظمة حزبية وعسكرية وأمنية في بلدانها ومجتمعاتها ودولها من "فوق"، من مناصب الدولة وقمم الأجهزة العالية والنافذة والمتسلطة، صنعت مثله على صورة أتم وأبدع، بواسطة القوى والجماعات والمنازعات الأهلية والمحلية في الجوار الفلسطيني واللبناني والعراقي. فرفعت القوى والجماعات انجازها على انقاض الحروب الداخلية المتشابكة بالحروب والنزاعات الاقليمية. وتولت أذرع "المقاومة" ("الاسلامية")، كل واحدة في دائرتها المتخلفة عن دولتها الوطنية المفترضة، ما سبق أن تولته الأجهزة العشائرية البيروقراطية في اطار "نظامها" (الصدامي، الاسدي، القذافي...) المزعوم. فكتلت جماعاتها الأهلية كتلة مرصوصة ومستقلة في سياق انشاء جبهة ثابتة ومشتعلة مع الاحتلال، وفي سياق اشتباكات فرعية مع أعداء الداخل والحلفاء الفاترين، والجماعات المتحفظة. ودعا تسليحها وعسكرتها وهيمنتها على قرار الحرب الجماعات الأخرى إلى الانكفاء والتحاجز ونشدان الحماية.

ففشت "طائفية" عصبية حديثة، بل شديدة الحداثة والبيروقراطية والتنظيمية والشبكية. وجمعت في حزمة واحدة الروابط المباشرة والدموية إلى شاغل الاضطلاع بالخلاص الكوني. وشبكت مدخل الشارع الضيق بجادات العولمة وطرق التموين الحيوية، على قول الجنرالات الجويين والبحريين الايرانيين في وصف مناوراتهم. واستخلصت "المقاومة" من الاقليم المتصل ديرات ومضارب وحارات ومسالك استقلت بها وحدها، وألحقتها بمراكز اقليمية، ودمجتها فيها. واستدخلت أبنية الدولة وهيئاتها وإداراتها وأجهزتها، واقتطعت حصصاً منها معاييرُ عملها ووظائفها هي معايير ولاء "المقاومة" ومهماتها. فاستحال إجماع الحد الأدنى العملي. وما ابتدأته الأجهزة المستولية في "الدولة" من تصديع الدولة الوطنية، وتشطير جماعاتها وأقاليمها، وتحاجز مواطنيها واستعدائهم على الحكم وفكرته، تولت "المقاومة" وجيوشها الخاصة وجماهيرها التي تعيلها وتحشدها وأحكامها العرفية وحروبها الماثلة والوشيكة، استتمامه وتتويجه وإنزاله من ذرى السلطة إلى زوايا الجماعات المعتمة.

وترث الحركات الوطنية المدنية والديموقراطية الدمار الفظيع والثقيل الذي خلفته "سياسة" الأجهزة المستولية، وأحالت دولها ومجتمعاتها إليه. ومفهوم الولاية أو السيادة هو في منزلة الركن من الاستيلاء وسياسته. فمن طريقه وذريعته نفي المجتمع وجماعاته من الدولة، وتدبيرها، واستعدي بعضها على بعض، واختصرت الرابطة السياسية في التعصب على "الخارج" والحرب على "العدو" والولاء للجهاز المتسلط. وقوضت أبنية الكيان الوطني السياسي، وحلّت في مدى لا ناظم له غير علاقات القوة والعنف. وحملت الحدود والقيود الجغرافية والقانونية والوظيفية على تعسف لا مسوغ له غير احتيال الطاغوت على المستضعفين، وتحكم الامبريالية في الجماهير والشعوب. ولعل هذا النهج في رأس الدواعي إلى نشأة الحركات هذه، والقرينة الأقوى على جدتها وحداثتها وسياسيتها. والانعطاف لا يزال في بواكيره.