الأحد، 19 ديسمبر 2010

مجتمعات عربية تحاول التهام دولها

المستقبل - 19/12/2010
في ختام سنة ونصف السنة تقريباً من العمليات الانتخابية العامة والتشريعية في لبنان (حزيران 2009) والعراق (آذار 2010) والكويت والبحرين (في النصف الأول من 2010) والأردن (تشرين الثاني) ومصر (كانون الأول الجاري)، في انتظار اليمن، يبدو جلياً ان المجتمعات والأنظمة السياسية العربية تعاني مشكلات متفاوتة الحدة مع هيئاتها البرلمانية المنتخبة. وهي تشترك في قصور الهيئات هذه عن الاضطلاع بدورها المزدوج: تجديد التعبير عن إرادات وميول الناخبين ومراقبة السلطات والإدارات الحاكمة ومحاسبتها. وهذه الدورات الانتخابية إما خلفت عراقيل وعقداً حالت وتحول دون تولي الفائزين، حلفاً أو كتلاً، مقاليد الحكم، على ما هي الحال في لبنان والعراق. وإما حصلت في ظروف ملتبسة وأنجبت مجالس تشريعية وتمثيلية ليس الطعن في صدق تمثيلها عسيراً، على ما هي الحال في الأردن ومصر. وتدخل انتخابات الدولتين الخليجيتين تحت باب ثالث. فالقانون الذي نظمت الانتخابات بموجبه يقيد تمثيل جماعات بينها وبين الحكم وبعض الجماعات خلافات وحزازات لم تحسم. وعلى رغم هذا، فالناخبون ومن يمثلون لا يسعهم الطعن في نزاهة العملية طعناً حاداً، فيما يسع الجماعات المعارضة التوسل بكتلها النيابية الى عرقلة أعمال الحكم، على ما هي حال الكويت، أو التربص به، على ما تصنع المعارضة البحرينية.
[العرض والجوهر
وقد تكون المقارنة بين أحوال البلدان الستة أو السبعة مقحمة أو مفتعلة. فأنظمتها الانتخابية متباعدة، والقواعد الناخبة والاجتماعية مختلفة، والقضايا السياسية المتنازعة متفرقة، ومواقع البلدان من المحاور والمسارح «الحارة» متفاوتة، الخ. ولكنها، على رغم هذا كله، تشترك، إلى عروبتها وإسلامها الحضاريين والجغرافيين المتصلين، في تأزم علاقات مجتمعاتها (أو جماعاتها) و «دولها» (أو أجهزة السيطرة والإدارة) معاً بمثال الدولة والحكم وانتصابهما فوق الجماعات. وتشترك كذلك في عسر فصلها مشكلاتها وقضاياها الوطنية والداخلية عن مشكلات عامة ومتشابكة، قومية ودينية سياسية، متأججة تتصدرها المسألة الإيرانية النووية والجغرافية السياسية، والانقسامات العصبية المذهبية والمحلية، والمسألة الفلسطينية، وتقسيم الثروات وتفاوته بين كيانات الإقليم وداخلها. وتعريف هذه المشكلات الواحدة على حدة من الأُخَر لا يصدق إلا على سبيل النظر. فاضطراب علاقات الجماعات والسلطات بمثال الدولة الوطني والجامع والمستقل هو أثر من آثار تشابك منازعاتها الوطنية مع القضايا الإقليمية (والدولية) الكثيرة. وتنوء الدول الوطنية بثقل هذه القضايا، وترتيبها على الجماعات وعلى أجهزة السيطرة والإدارة تبعات تتعدى السياسات الموضعية والجزئية الى بنية الدولة وهويتها ودورها الآن وفي المستقبل. وهذا ما لا تملك المداولة فيه، وبالأحرى بته وحسمه، أجهزة حكم ضعيفة النفوذ في جماعات مجتمعها وأهاليها المتماسكين على عصبيات لا تزال تتمتع، أو جددت تمتعها بمقدار كبير من المناعة والحصانة الداخليتين. ولا يحول ضعف نفوذ (على معنى النفاذ والتخلل) أجهزة الحكم في الجماعات، ونظيره عجز أجهزة الحكم عن تصديع الجماعات، لا يحول دون احتكار طاقمها مرافق الحكم والإدارة، وعوائد هذه المرافق، وتوليها توزيع العوائد وتصريفها.
وتتجدد المشكلات البنيوية والتاريخية العسيرة، على مقادير متفاوتة، في الاستحقاقات الظرفية أو الدورية كلها تقريباً. فلا تعدم دورة انتخابية واحدة بعث المسائل الجوهرية معاً وفي آن. فبعثت الانتخابات اللبنانية مسائل السيادة والدستور والوحدة الوطنية ومشاركة الجماعات في السلطة واستقلال الجماعات والكيان السياسي والحقوقي تالياً عن النفوذ الإقليمي ودوائره ومصالحه وعلاقته بالمجتمع الدولي. وإجراء الاقتراع بحسب قانون انتخابي قريب من رغبات الجماعات الناخبة، ومشاركة الناخبين في نسبة مرتفعة (نحو 45 في المئة) قياساً على الدورات الماضية ومن غير إكراه مباشر ولا تزوير، وإفضاء الاقتراع الى غالبية، أو كثرة، وأقلية نسبيتين هذه كلها لم تفصل في الخلاقات العميقة التي تتجاذب جماعات الناخبين اللبنانيين. وعلى نحو قريب بعض الشيء، لم تحسم الانتخابات العراقية الثانية، بعد انهيار سلطان صدام حسين و «عشيره» ورهطه، لا مسألة تكوين السلطة العراقية الوطنية (وتسمى المسألة «تقاسم السلطة»)، ولا حقوق الجماعات والأفراد (على مقدار أقل)، ولا مسألة ولاية العراقيين على بلدهم المفترض واستقلالهم عن الولايات المذهبية والقومية والأهلية التي تتقاسمها جماعاتهم مع جماعات وأجهزة سيطرة مجاورة وداخلية، ولا الرأي في الماضي الثقيل الذي أناخ على مصائرهم ولم ينهه إلا الغزو العسكري الأجنبي، الخ. وربما فاقم تجاذب الكتل وترددها وترنح معظمها أحوال الناخبين وجماعاتهم، على ما ظهر في الأشهر الثمانية أو التسعة الطويلة المنقضية بين إجراء الانتخابات وبين تكليف نوري المالكي والائتلاف الوطني المتناثر رئاسة الوزارة. ولكن التجاذب والتردد والترنح ليست إلا صدى لمثيلها وصنوها في جماعات الناخبين أنفسهم.
وحيث يفترض ان مسألة «تكوين السلطة» غير مطروحة، شأنها في الأردن ومصر، وربما في الكويت والبحرين على نحو مختلف، يؤدي القانون الانتخابي (الصوت الواحد المجزأ في المملكة الأردنية الهاشمية)، وتوكيل الإدارة الأمنية المصرية وحدها، من دون القضاء بالانتخابات والبت في طعون المرشحين، يؤدي الأمران الى مواقف وآراء وأحكام أشبه بتلك التي تشكك في مشروعية الدولة والهيئات والحكم في البلدان التي تعاني أزمات كيانية. ولعل مجلس الشعب «الوطني» أو «الموازي» المصري، ومزاعم اسمه تفوق بكثير حقيقته، كناية خطابية عن الانقسامات العميقة التي تنشب في الأجسام السياسية الوطنية المأزومة. وزعمُ المجلس «الوطني» يصدق على غير الوجه الذي يدعي اصحابه الصدق منه أو عليه. فهو لا يمثل إرادة المواطنين الغالبة والكاثرة ولكنه ينبّه الى خلو وفاض «خصمه» المفترض، أي مجلس الشعب الرسمي، من التمثيل. ويندد بـ «بطلان» (على قول المحكمة الإدارية العليا) الإجراءات الإدارية والأمنية التي رعت ولادة مجلس الشعب، أو ولدته ولادته القيصرية المشهودة والمحققة من 15 في المئة من الناخبين المقترعين و «المغرضين». ومقاطعة إسلاميي المملكة الأردنية وحركتهم دورة الانتخابات الأخيرة تعلق هيئة سياسية أساسية، هي مجلس النواب التشريعي والمراقب، على ناخبي العشائر، وعلى تمثيل أعيان العشائر مصالح أهلها المباشرة وحاجتهم الى الخدمات. وأما الرأي السياسي العام فمنوط، والحال هذه، بالإرادة الملكية. وتنبه المشاركة الضعيفة والضيقة، شأن تخلي الناخبين عن إعمال معيار سياسي أو مختلط في اقتراعهم، الى تعليق الإرادة السياسية، واقتصار الدولة على جهاز منافع ومصالح وروابط عصبية وجزئية، وعزوفها عن التمثيل على العروة الرمزية الوطنية.
[المعارضات والهوية
ويعظِّم دلالةَ أو دلالات المسألة، ونهوضَها علماً على انقسام اهلي وسياسي يتهدد أركان الدولة بالزعزعة والتصديع، اشتراكُ «المعارضة» في الدول الست، وفي الدولة السابعة (على وجهين متفرقين)، في صبغتها أو هويتها الإسلامية السياسية. وتخلط الهوية الإسلامية السياسية، إخوانية ام خمينية حرسية أم سلفية أم إمامية (بحسب البلدان وأمزجتها المتفرقة والمختلفة)، موقع المعارضة بالحكم وموقعه، ولا تميز تبعات الحكم والإدارة من تبعات الإسهام من خارج في انتهاج السلطة هذا النهج أو ذاك. وفي الأحوال كلها تعسر هوية «المعارضة» الإسلامية السياسية إرساء تولي الدولة الواحدة قيادة الكيان الوطني، والنهوض بوحدته. فالمعارضة الإخوانية في مصر تنازع في أركان الدولة المصرية وصفتها. وتذرع ا لحكم بشعار الإخوانيين، «الإسلام هو الحل»، الى إبطال ترشيح المرشحين، والحؤول بين المرشحين وبين تنظيم حملاتهم الانتخابية، وإهمال قرارات القضاء الإداري في إلغاء انتخابات دوائر كثيرة، وإلى اعتقال الألوف منهم، هذا التذرع لا تنكر حقيقته الوطنية والعامة كلها. فمنطق الشعار، غير الخفي ولا المضمر، يدعو الى ترتيب المصريين مرتبتين، مرتبة «المسلمين» المقبلين على الحل والراضين به، ومرتبة غير «المسلمين»، والحال هذه، وهذا ترتيب معياري ينتج نتائج دستورية وقانونية وإجرائية ملموسة، إلى نتائجه السياسية والمعنوية العريضة والجوهرية.
وحملُ الترتيب والنتائج على محمل الجد وهو لا يطعن في مدنية الدولة وحدها، وه ما ذهب إليه بعض المعلّقين المنتصرين للأجهزة الحكومية، بل يضعف صدقية فرق المعارضة المختلفة. وفي مرآة منطق الشعار الإخواني، وترتيبه المصريين ونتائج الترتيب، تبدو مساندة الإخوانيين محمد البرادعي، وترشحه الى انتخابات الرئاسة، وشروطه على الحكومة والدستور، ضرباً من المراوغة. وقبول فرق المعارضة وحركاتها وأحزابها مساندة الإخوانيين، والإخوانيون يجهرون سياستهم ومترتباتها المدمرة على وحدة الدولة المصرية والمصريين، لا يبعد ان يكون احتيالاً. وقد يكون سكوت محمد البرادعي، عشية الحملة الانتخابية وغداة دورتي الانتخابات، وبعد خذلان بعض «أنصاره» المزعومين دعوته الى المقاطعة، إيذاناً بتصدع حلف المعارضات من داخل، وجراء ما افترضه الحلف هذا من تكاذب وسكوت وطعن في الرابطة السياسية الوطنية.
وترتب الهوية الإسلامية السياسية على أصحابها، في مصر والأردن والعراق ولبنان، تبعات إقليمية وخارجية لا تتفق ووحدة الجماعات الأهلية، وانضوائها في كنف دولة واحدة. فهي تحمل إسلاميي أو إخوانيي مصر والأردن على الانضواء تحت لواء «إخوانهم» الفلسطينيين. وهؤلاء انشقوا عن «مواطنيهم» وشركائهم في الوطنية الفلسطينية، واستقلوا بدويلتهم، وتدريجاً بنظمهم الاجتماعية ورسومهم القانونية وأعرافهم، عنهم (وكانوا رواد التوسل بالانتخابات النيابية والتشريعية الى تصديع المجتمعات الوطنية وشقها). ويدعو الانضواء تحت اللواء الإخواني، الفلسطيني أو المصري، الى انعطاف حاد عن نهج داخلي (على شاكلة تخالف منطق «الإسلام هو الحل») وإقليمي (يقوم على بعض استقلال الكيانات الوطنية وتقييد التدخل في شؤونها ويستبعد الحرب الإسرائيلية العربية من أفقه) ودولي (يقر للمعايير الدولية والغربية وللمصالح الاقتصادية في تعريفها «النيوليبرالي» بالصدارة). ويرعى هذا النهج المثال الوطني المتماسك، على علاته الكبيرة وتفاوته السياسي والاجتماعي الحاد، ولا يفرط في «سلم» محبط يقود خلافه الى بربرية قربتها الحركات «الجهادية» حيث كلمتها فاصلة بباكستان وأفغانستان، وبعض مناطق آسيا الوسطى، وبعض فلسطين وبعض لبنان وبعض العراق وبعض إيران في بعض الأوقات من الأفهام والتصور والتوقع. ولا يرى خارج الأطر الاقتصادية والتجارية والمالية الدولية، على رغم نكساتها، احتمالاً، أو خارج الأطر السياسية والقانونية حماية وتحكيماً على حدهما الأدنى ربما.
[اللبننة المتجددة
والانضواء تحت اللواء الإخواني أو الخميني الحرسي يقود الى «لبننة» البلدان المنضوية، على معنى جديد للبننة طوره الحزب المسلح الخميني في لبنان، ومدته سياسات إقليمية حثيثة بآلات التطوير. وتقتضي «اللبننة» الجديدة إنشاء «مقاومات» سرية مسلحة، وحاضنات (أو حضون) أهلية عريضة تقتطع من ولاية الدولة الأرض التي تحتاج إليها، والسكان الشرفاء الموالين والمنقادين، والأجهزة الأمنية والتقنية والإدارية والديبلوماسية والقضائية والاقتصادية والتعليمية المناسبة والمطيعة المَرْضية. وعلى الدولة الرسمية، أي دول الكيانات الأعضاء، التضامن في المحافل الدولية مع «المقاومات»، والإلحاح باسمها في إنفاذ المعايير الدولية في الدول (أو الدولة الواحدة والمركبة) المعتدية، وفي حماية «المقاومات» وحقوقها في المقاومة صد العدوان. فيرفع هذا مصر الى مرتبة مسرح خلفي للطليعة الحماسية، فوق الأرض وتحتها، وقد ينزل النهج نفسه الدولة الأردنية منزلة «وطن بديل»، ويلغي الفرق، المتوهم والحق يقال، بين وطن بديل ووطن أصيل، والأوطان كلها أصيلة في ظل الخط المقاوم والجهادي، وكلها بديلة في الحضن الأميركي الصهيوني. ويوحد العراق المشرذم والمتنازع ولايةً مختلطة تحت السدة الشاهانية.
وهذا ما أنجزته «المقاومة» الخمينية الحرسية على بعض الأرض اللبنانية، وفي عدد متعاظم من إدارات الدولة ومرافقها وذلك انطلاقاً من الأبنية الاجتماعية الأهلية نفسها. وقلب الإنجاز العظيم والفريد هو مسخ مباني الدولة كلها، من ألفها إلى يائها وفي المجالات كلها، الى خادم ركام من المنافع المتنافرة والمهربة في قعر «الدولة» المزدوج. ولا يستقيم الاعوجاج العام هذا إلا اذا امحت الحدود بين الحكم وبين المجتمع (أو الجماعات المرتبة على مراتب من العلو والدنو واضحة وثابتة). فبعد ان أنشأت الجماعة «المقاومة» والمستولية جيشها وأمنها وإقليمها وماليتها وقضاءها عمدت الى تخريب نظير هذه المرافق الوطني أو الرسمي. فثبتت تراجع الجيش عن الحدود اللبنانية الإسرائيلية، الى أن أرجعته القوات الدولية إليها غداة عمليات 2006. وقتلت الطيارين الذين حامت طوافاتهم حول معاقل الجيش الأهلي. وأخرجت القتلة من السجن. وأخرجت بعض الموقوفين المستجيرين بـ «أهل البيت» وهم خطباء «القاعدة» على الملأ.
وهي تطلب الى الدولة التنصل من القضاء الدولي والمختلط «بقطع النظر عن الأدلة»، على قول أحد ألسنتهم الحادة. وتقدم الثأر لبعض أدواتها المظنونين الذين تعمدوا تشبيه المسؤولية عن اغتيال رفيق الحريري، واستدرجوا الظن الى تهمتهم بواسطة شهود متطوعين تقدمه على جلاء غموض الجريمة، وتخليص حبكتها الماهرة، وعلى إرساء السياسة العامة في لبنان على القانون. وفي الأثناء، تخول «المقاومة» وزراء خدمات إيداع عوائد وزارة الاتصالات في حسابات منفصلة لا تبلغها وزارة المالية. وتبيح مصادر الجبايات، وأبواب التجارة، لمواليها وأنصارها. وتحول، و «حلفاءها»، دون إقرار الموازنة العامة والمبادرة الى انتهاج سياسة إنفاق واستثمار ملحة. وتحكِّم في تسمية قيادات الإدارة والأمن والخدمات معيار «الأسلاب» الحزبي والغرضي، الى المعيار المذهبي الموروث. وتعطل خلافة القيادات الشاغرة ودوام أدوارها. وتنيط، على مثال إقليمي مدمر، القرارات بشبه إجماع يستحيل التدبير وتصريف الأمور معه. وتنصب بعض شطارها ومخرِّجيها سجانين «تشريعيين«.
ويقود الى هذا كله، وغيره مثله، السعيُ المحموم في إلغاء الحواجز بين (بعض) الجماعات الأهلية المستولية وبين الدولة، والسعي في دمج الدولة في الجماعة المستولية، وإلحاقها بها مرفقاً ثانوياً من مرافقها، بذريعة «المقاومة». ويشبّه السعي شبهاً قوياً إنجازات الدول الانقلابية وطاقمها الحاكم (وبعضها لا يزال انقلابياً على رغم انقضاء نحو نصف قرن على انقلابه الأول). فالجريمة الموصوفة في بعض «الدول» إذا ارتكبها نافذ ثري، وقريب من دوائر السلطة، يميل الناس الى ترجيح «براءة» المحرض على الجريمة ومدبرها وممولها، ويتوقعون تخفيف الحكم في المجرم. وإذا تصدع سد مائي، وانهارت مباني سكن، وغرق عبارون، وسقطت طائرة معطوبة ومثقلة بالأحمال، وأفلست «شركة» مالية وخلفت خسائر بمئات ملايين الدولارات، وسرق حراس قيادي بارز مصرفاً وقتلوا ما تيسر من حراسه، وترك مسؤول منتحر في بلد فقير 52 سيارة رسمية وراءه، - لم تخلف الحوادث الجسيمة التي يقتل بعضُها مئات من التاعسين، وتشكك كلها في حق المواطنين في السلامة والأمن واضطلاع الدولة بهذا الحق، أثراً في علاقة الدولة بالجماعات الأهلية ولا في علاقة «المجتمع» بالدولة. وبعض الحوادث يرتكبه أفراد تحميهم جماعاتهم الأهلية، أو يرتكبه من هم من «عصبية الدولة». وتحمي الجماعات الأهلية المسلحة، بسلاح أهلي أم بسلاح «أميري» لا فرق، منتهكي القوانين على اختلاف مجالاتها، المالية والأمنية والإدارية.
فالدولة «العربية» إذا كانت جهاز سيطرة ضعيف الجذور في الجماعات، واستقوت بكتل الموظفين والمنتفعين وأصحاب المصالح والفرص على مجتمع الجماعات وصدعته بواسطة كتلها وجماعتها العصبية الخاصة، هذه الدولة لا يضطرها شيء أو أمر إلى رعاية موازين التدبير السياسي والوطني، وإلى فصل المصالح العامة والمشتركة عن مصالح الكتل السلكية والعصبية الأهلية. واقتصرت وطنيتها، أو عموميتها، على نفاذ سلطتها الأمنية والإدارية في دائرة أراضيها. وجماعات المجتمعات «العربية» و «المعارضة»، ومعظمها ينتسب الى فرق إسلامية سياسية لا ترى الدولة إلا جهاز استيلاء وسيطرة، ووقفاً على المستولين وجماعتهم. وتسوس الجماعات المعارضة رعاياها، أو «مجتمعها الخاص»، وأجزاء الدولة والمرافق التي تستولي عليها وتقتطعها، بسياسة سلطانية وعرفية يفوق استبدادها وفسادها وتمييزها واطراحها القوانين والمساواة نظيرها الحكومي أو نظائرها أضعافاً. وهي تشق «شعبها» المفترض شقين متقابلين ومتناقضين لا سبيل الى التقائهما وائتلافهما: فتسلط على «الشعب» المفترض معتقداتها وتقاليدها وتواريخها وميولها وأهواءها وروابطها، الى مصالحها. وهذا ما لم تبلغه اجهزة السيطرة الرسمية في مصر والأردن والكويت والبحرين واليمن، على سبيل التمثيل. وبلغه صدام حسين وحده، وفي شخصه وأسرته. ويريد الجهاز الإيراني بلوغه منذ انفجار أزمته مع ولايتي محمد خاتمي، ومشى خطوات على طريقه منذ الانتخابات البلدية في 2002 وانهيار ائتلاف «المشاركة» ثم انتخاب محمود أحمدي نجاد عنوة مرتين.
وحين تخلص طواقم حاكمة، في دول عربية متفرقة، الى سوس انتخاباتها النيابية والبلدية، والمهنية النقابية في بعض الأحيان، بسياسة إدارية وتنفيذية و(جزئياً) أمنية، فهي لا «تعالج» مسألة اختلاف جهاز السيطرة، وكتله ومصالح هذه الكتلة، عن المجتمع وجماعاته المتفرقة. ولا تطمع في دمج «الشعب» في الدولة، على رغم مخايل أهلية كثيرة تلوح على وجه الدولة. فالدمج هذا يقتضي، في بعض ما يقتضي «ناصرية» مقاتلة ومستولية، وحزبية مستحوذة، وقطاعاً عاماً شاملاً، وتعبئة على الجبهات كلها، واستجابة جماهيرية تطيل حال التسليم بانتصار وشيك أو مرئي على خلاف ما يُلمس ويختبر. فهو، والحال هذه، يقتضي تاريخاً آخر غير التاريخ الجاري. والمعارضات الإسلامية السياسية العربية، الإخوانية والخمينية، تحسب أو تشبِّه الحسبان أن في مستطاعها «شراء» التاريخ الآخر، في صيغته الأسطورية، لقاء العمليات الحربية على بعض الحدود «العربية» الإسرائيلية، وهي تحسبها حدوداً إسلامية أميركية غربية، أو جهادية استكبارية. ويضطرها حسبانها، في الأحوال الهوامية القصوى، على ما هي الحال اللبنانية وبعض التجليات العراقية (المنقضية) الى مباشرة تصديع وتدمير عموميين يرميان الى التهام ابنية الدولة، وإذابتها في حامض الجماعة المنتشية بنزيفها ووحدتها وفرادتها. ولبنان «الإسلامي» والمعارض هذا يعيي علاجه محيطه العربي، على ما تدل الـ40 سنة المنصرمة والمنقضية على أزمته المتمادية. ولعل مرد الإعياء الى تمثيله، اجتماعاً وسياسة، على اعتمال عوامل شبيهة بعوامل أزمته في الكيانات العربية الأخرى، ولكنها عوامل مكبوتة. ويسعف لبنان على تحمل الأزمة ما يحول دون انفجارها في الكيانات الأخرى، واستقرارها فيها، هو استواء مجتمع لبناني على أركانه على هامش «السلطنة» وصدارتها «العظمى«.

الاثنين، 6 ديسمبر 2010

أحمد داود أوغلو يسبر "عمق" تركيا "الاستراتيجي ...الدولة السلطانية التقليدية والآسرة في غلاف اقتصادي ليبرالي

المستقبل 5/12/2010 -
بينما كان رجب طيب أردوغان، رئيس الوزراء التركي، يخطب الجموع القادمة من أنحاء عكار كلها، والملوحة بأعلام تركية كثيرة وأعلام لبنانية، من شرفة "قصر" يلدزلار (اسم مطعم كبير) في بلدة الكواشرة، مساء الأربعاء في 24 تشرين الثاني المنصرم، لاحظ مشاهد الشاشة الصغيرة إلى يسار الخطيب التركي، في أقصى الصف الأول المطل على الجموع المنتشية، رجلاً أليفاً يبتسم ابتسامة رزينة وبادية السرور، وينظر إلى الحشد العريض يسبره ويروزه و"يقيس" عمقه، إذا جازت اللفظة، وعمق حماسته وإقباله. وبدا الرجل مازجاً السرور غير الخفي بما يرى، بتقدير أو تقويم محله من خطة أوسع بكثير، فكأنه كان على علم بأن زيارة رئيس حكومته، وهو وزير شؤونها وعلاقاتها الخارجية منذ نحو السنتين ومستشار الرئيس منذ أعوام، إلى هذه الناحية من الأقاليم أو المحافظات اللبنانية، وإلى بعض سكانها الذين حلوا ربوعها قبل 500 عام (أم 800 عام؟) وهم يومها تركمان عرقاً ولغة ولا يزالون، حاملاً بيد عشرات المدارس وسيارات الإسعاف وباليد الأخرى "أخوة" رفيق الحريري وسعد الحريري "الغالية"، على قوله كأن وزير الخارجية العتيد، أحمد داود أوغلو، كان على يقين من ان هذه الزيارة لن تعدم جزاء لبنانياً بالحماسة والإقبال. وهو استبقها وأعد لها، على تواضعها، في إطار تناوله "العمق الاستراتيجي"، عنوان أو وسم العمل التحليلي الجامعي الذي تناول فيه "موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية" (الصادر في التركية في 2002، و2010 في العربية عن الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، ومركز الجزيرة للدراسات، الدوحة، بترجمة محمد جابر ثلجي وطارق عبد الجليل).
[الطريق الرومانية
ولا يخفى أثر المستشار السابق والوزير الحالي في خطابة رئيس الوزراء، وهو أحد مؤسسي حزب العدالة والتنمية المنشقين عن حزب الرفاه وزعيمه نجم الدين أربكان "الإسلامي المتشدد"، وفي عباراته وصوره، عدا أثره في سياسته وأفكاره. ففي بلدة الكواشرة وقف أردوغان خطيباً. وذكر بالإجراء الإداري الذي ألغى العام الماضي التأشيرات على المسافرين وجوازاتهم. وأشار بالإجراء إشادة غنائية وعاطفية: "وبهذا أنهى الشعبان قرناً من الهجران، وتعانقا بعد فراق". وهو لم يقل ان "الدولتين" ألغتا الحاجز الإجرائي والإداري والأمني الذي تقضي به سياسات وأحوال غالبة عموماً على علاقات الدول بعضها ببعض. فنسب الإجراء إلى الشعبين، إمعاناً في الحرارة والتقريب. وأرخ لما سماه "هجراناً"، مستعيراً مصطلح غناء أم كلثوم الغرامي وشاعرها أحمد رامي، بانهيار السلطنة العثمانية، وجلائها عن ولاية بيروت والأقضية الأربعة والجبل (بعد إلغاء المتصرفية في 1916) في 1918- 1919. فـ "الفراق" و "الهجران"، غداة خروج الولايات السابقة من سيادة اسطنبول إلى انتداب أوروبي وكيانات وطنية أو أهلية فاستقلال في إطار دول وطنية، يكني بهما رئيس الوزراء التركي عن تاريخ (قرابة) القرن المنصرم منذ ختام الحرب الأولى. ونحوُ القرن هذا هو تاريخنا اللبناني الماثل والمشترك والزاهر والمضطرب معاً.
وهو سند الأولوية ("أولاً") المرجوة والمزمعة. و "الغازي"، على ما سماه أنصاره ومستقبلوه فجراً في مطار أنقرة وهو عائد من دافوس مغضباً وتاركاً شمعون بيريس من غير محاور ولا مُطارِح، على علم بهذه الحال. فهو قال بصيدا (في 25 تشرين الثاني): "يجب ان نسير معاً إلى المستقبل على قاعدة أساسها (اللبنانية)". ورهن سطوع "نجم" لبنان في المنطقة، بحسب استعارته الأثيرة في رحلته، بالنجاح في إرساء القاعدة هذه. فـ "اللبنانية" هي علاج "الألوان" الكثيرة، و "المذاهب والأديان على مر التاريخ"، التي زخر بها لبنان ويزخر. وهي جامع الأشتات والشتيت ("شتى")، على نحو ما جمعت مائدة رئيس الوزراء اللبناني في السراي الكبير، العثماني التحدر على ما لم يفت أردوغان التنبيه، ممثلي 12 مذهباً دينياً، إلى وزير واحد و6 أعيان سياسيين. والوجه الآخر للفراق والهجران المزعومين هو "التحدث اللغة نفسها (...) لأن قلوبنا موحدة والأحاسيس متلاحمة فيما بيننا (...) وقيمنا آتية من الحضارة نفسها، وانصهرنا في البوتقة نفسها حتى وصلنا إلى هذه المرحلة"، (من خطبة صيدا).
وعلى هذا، فـ "قاعدة اللبنانية" و"أساسها" الواحد والجامع، وهما قاعدة وأساس سياسيان، لا ينفيان "الحضارة" الواحدة، أو "عامل الثقافة"، على ما يسمي أحمد داود أوغلو الرابطة القومية التركية والإسلامية معاً بين المركز التركي وبين الأطراف البلقانية والقوقازية والشرق أوسطية. ويجهر أردوغان، ووزيره، إرادة تخطي ضدية الوطنية (اللبنانية) و "الحضارة"، أو تباينهما، من طريق اللجنة الاستراتيجية العليا للتعاون والتنسيق، تارة، ومجلس التعاون العالي المستوى، تارة ثانية، والقمة الرباعية بين رؤساء الوزراء في تركيا وسوريا والأردن ولبنان قريباً، ثم القمة الرباعية بين رؤساء الجمهورية (والعاهل الأردني) في أيار 2011. وينتقل الزائر التركي، على خلاف سلفه الزائر الإيراني قبل أسبوعين، من حرارة "الأحاسيس" و "القيم" و "اللغة" إلى حرارة المصالح التجارية والاستثمارية والسياحية والنقلية بيسر قد يرى فيه قارئ "العمق الاستراتيجي" بعض روح الأستاذ أوغلو. فشفاء الفراق والهجران المتخلفين عن نشوء الدول الوطنية، وخروجها من عباءة السلطنة، فالخلافة السلطنة العثمانيتين، ليس "العناق" المفضية شدته أو كثرته إلى الاختناق، على قول طيب ومتفائل لرئيس الوزراء الراحل صائب سلام في عز الحروب الملبننة، أو ليس العناق وحده، على ما يريد بعض الجوار العربي أو الإسلامي الظن، وقد يظن فعلاً. وإنما يأتي الشفاء أو العلاج من جمع الغنائية الاستراتيجية، التجارية والمالية والنقلية، إلى الغنائية القيمية والحضارية والثقافية التاريخية.
فبعد ان زف الوزير التركي "الأول" بشرى هجر الهجران، وفراق الفراق، أراد التمثيل على روعة الحصاد والجنى، فقال: "واليوم يستطيع الراكب (المسافر) أن يخرج من اسطنبول ماراً بأنقرة، ومنها إلى أضنة. وبدخوله الأراضي السورية يمر باللاذقية بيسر، ومنها يبلغ طرابلس، ثم بيروت. كل هذا في طمأنينة وهدوء وراحة بال". ويغالب الخطيب ترك متعة الرحلة الهانئة والسعيدة وراءه، والانتقال إلى ذكرى صبرا وشاتيلا الأليمة، وتناول سياسة تركيا في المسألة الفلسطينية الإسرائيلية، فيصف الرحلة نفسها على الوجهة والخط المقابلين: "واليوم ايضاً يستطيع الأخوة من بيروت وصيدا وبعلبك ان يخرجوا من لبنان إلى الأراضي التركية، ويمروا بالمدن التركية من أضنة وأنقرة واسطنبول بكل راحة". ويمدح رجل الدولة (-الأمة؟) التركي سلام السلطنة، وأمن طرقها، واتصال هذه الطرق على مثال "الطريق الرومانية" الامبراطورية المسكونية (في إطار الأرض المسكونة أو المعمورة) والجامعة.
فالجغرافيا، جغرافيا المواصلات، سياسية، والجغرافيا السياسية استراتيجية، وبعضها تخالطه الحرب على أصنافها المريرة كلها، والسيطرة والإكراه. والمسالك أو الطرق، هي صنو الممالك، أو السلطنات، في وسم كتاب ابن خرداذبة، البلداني الجغرافي، وغيره من البلدانيين الجغرافيين المصنفين كتبهم بالعربية وصنوهم في الحال والواقع. وغير بعيد من منبر رجب طيب أردوغان كان أرمن لبنانيون، وأكراد لبنانيون، وبعض اليونانيين المقيمين بلبنان، يذكرون الزائر، ووزير خارجيته، بأن "الطمأنينة والهدوء وراحة البال"، والرحلة المتصلة من غير تأشيرة، قد تشترط مراجعة الوجه التاريخي والسياسي من العمق الاستراتيجي، من غير افتئات على سياسات تحتسب العمق هذا ولا تنكره. ولكنها تنكر على "عمق" الممالك السلطاني والإمبراطوري منزعه إلى الافتئات المعنوي والمادي على تواريخ الجماعات المغلوبة، وعلى حقوقها وأركان دوامها.
["شراء" الحرب بالاقتصاد
والحق أن حمل الزيارة اللبنانية على فكرة تعزى إلى أحمد داود أوغلو ليس ثمرة رجم في الغيب (الماضي)، أو تكهن في حاضر ماثل بعد مثوله وغداة مثوله. ففي أحد فصول كتابه البارزة، وقد يكون أبرزها، وهو الفصل الثاني الموسوم بـ "المناطق البرية القريبة: البلقان والشرق الأوسط والقوقاز" من الجزء الثاني الموسوم بـ "الإطار النظري: الاستراتيجية المرحلية والسياسات المرتبطة بالمناطق الجغرافية"، والكتاب نشر في 2002 على ما ينبغي التذكر وهو عام بلوغ حزب التنمية والعدالة الحكم، يذهب "الأستاذ" الجامعي إلى ان تطوير المواصلات، وتعظيم التجارة الحدودية وبرامج التبادل الثقافي، وتيسير انتقال القوى العاملة والاستثمارات، جديرة بـ "تجاوز" المشكلات التي قد تسببها بعض النخب المركزية (أو المتصدرة والغالبة الكاتب) في الأنظمة البيروقراطية الإقليمية"، على قول صاحبنا مكنياً عن الديكتاتوريات القومية العسكرية والمستولية، وعن توسلها بالأكراد وقضيتهم في الحرب على تركيا. ويمثِّل من لم يكن وزيراً بعد، ولا مستشاراً نافذاً ومقرباً ممن لم يكن بعد رئيس وزراء، يمثل على مقالته فيقترح إنشاء "بنية" أو هيكل اقتصادي تجاري وجمركي وضريبي، سوقي وقانوني إداري، ينجم عنه "تكامل شمال سورية، ومدينة حلب حاضرته"، أو مركزه، مع الخطط والأعمال الزراعية بجنوب الأناضول والمنشآت الصناعية بعينتاب ومرعش.
ولا ريب في ان القارئ لا يزال يذكر "الاحتفال" السياسي والاقتصادي الكبير الذي دعا إليه رئيس الجمهورية التركي عبدالله غول (أو غل)، في أواخر صيف 2009، وأقامه بحلب وفي صحبته 11 وزيراً تركياً وقعوا مع الرئيس السوري ووزرائه عشرات الاتفاقات والبروتوكولات. وكان المهرجان تتويجاً لاختبار تعاون البلدين الجارين طوال السنتين السابقتين، 2007 2009. وبلغت تجارتهما في الأثناء ملياري دولار، أو حوإلى 8 أضعاف إلى 10 أضعاف قيمة مبادلاتهما في العام السابق. ويرسي مدرس الاستراتيجيات التركي مقترحه، قبل 5 أعوام من المبادرة إليه و7 أعوام من تتويجه وإجرائه، على إعمال وسائل النقل والتجارة الحدودية، وإنجاز "التكامل الإقليمي" وانتهاج "سياسات اقتصاد ليبرالية على الحدود (القائمة) بين سهول تركيا وسوريا". ويتوقع المخطط، والمستشار فالوزير من بعد، ان يترتب على إنشاء قنوات المواصلات وطرقها بين حلب وبين عينتاب ومرعش الصناعيتين وجنوب الأناضول الزراعي والمائي، وعلى رحلة الناس والسلع في المجاري الواسعة، "القضاء على الإرهاب" (الكردي) بوسائل غير عسكرية. فهو يدعو إلى معالجة مسألة استراتيجية، جغرافية سياسية، ناجمة عن اضطراب المسالك (الأراضي الإقليمية) وعلاقتها بالممالك (الكيانات السياسية الوطنية)، بطبابة مسالمة وناعمة "تشتري" التخلي الإقليمي البيروقراطي عن مساندة الأعمال الحربية والمسلحة، الكردية في هذه الحال، لقاء تعظيم المواصلات والمبادرات والعوائد والاستثمارات.
ويمهد الأستاذ لعلاجه الموضعي وهو ينصبه مثالاً لمعالجات تشبهه وتتناول العراق وإيران وآسيا الوسطى والقوقاز وأحواض إيجه والبحر الأسود وقزوين والخليج والمتوسط بمناقشة موضعية ومفصلة بعض الشيء لعوامل المشكلة القريبة. فيلاحظ (أو يقرر) انه ليس في مستطاع تركيا إرساء علاقاتها بجيرانها الذين هم منها بمنزلة الجسور البرية إلى الجوار الحيوي، الذي يأهله إما أتراك (في البلقان والقوقاز وآسيا الوسطى) وإما مسلمون (في الشرق الأوسط القريب وشبه جزيرة العرب)، على ركن مستقر وثابت إذا تواترت الأزمات بينها وبين الجوار القريب والأبعد. فيستحيل على تركيا الاضطلاع بسياسة فاعلة ومؤثرة في صوغ حلول للقضايا العالقة وهذا هدف تسعى فيه استراتيجية عقلانية على خلاف سياسة "بيروقراطية" غايتها الأولى إبقاء القضايا العالقة على تعليقها لعل هذا يرعى دوراً صغيراً ومزمناً في البلقان بينما المشكلات التركية اليونانية والمشكلات التركية البلغارية على تأزمها وترديها. واليونان وبلغاريا هما محورا العلاقات البلقانية، إلى صربيا الساعية في الاستقرار، والعروة بين البلقان وأوروبا في شطريها الجنوبي والشرقي. ولا يسهم تردي الأحوال بين تركيا وبين كل من أرمينيا وإيران وجورجيا في إصلاح ذات البين مع القوقاز وروسيا من ورائه. وتضر روابط تركية حميمة بإسرائيل بروابط تركيا بإيران وسوريا والعراق.
ولا ينكر المحلل التركي أن حبس العلاقات بالدول المجاورة في دائرة ما يسميه بصيغة غامضة (لعل السبب في غموضها هو الترجمة العربية التقريبية والمضطربة) "المراحل الطويلة والصعبة للأنظمة البيروقراطية" وهو ربما يعني التسويف والتعليق اللذين يغلبان على سياسة بعض هذه الدول و "ديبلوماسيتها" الأمنية والمراوغة هذا الحبس يقتضي إخراجها من الإطار السياسي، أي الأمني والعسكري، إلى أفق أوسع تتضافر على رسمه واستقراره العوامل الاقتصادية والثقافية (على معنى "الحضارية" أو الدينية الذي مر) والاجتماعية، أو علاقات المجتمعات والشعوب بعضها ببعض. ويندد أحمد داود اوغلو بنازع تركي، في بعض الأوقات، تفتق في أواخر القرن الماضي عن اقتراح إنشاء جدار إلكتروني يحجز جنوب تركيا عن سوريا "للوقاية من إرهاب حزب العمال الكردستاني". ويقود توقي إرهاب "الكردستاني" وبؤرته السورية يومذاك، ومدافعة امتداد الحرب الأهلية في العراق إلى الأراضي التركية وإلى الأتراك على تفرق أقوامهم، والاحتماء من الدعوة الإيرانية ومفاعيلها الإيديولوجية التحريضية، تقود هذه مجتمعة إلى انكفاء تركيا على حياضها و "بيضتها"، وإلى نزف مواردها وضعفها.
والعلاج، على ما مر، هو ازدواج السياسة، وطبابة الشق الأمني والعسكري السياسي بالشق الاقتصادي و "الثقافي" والمجتمعي أو "الشعبي". و "عقلانية" الطبابة أو المعالجة هذه تفترض علو منزلة العوامل الاقتصادية والثقافية، ورجحانها في ميزان الجيران وميزان البلد والدول الأبعد. أي ان هذا يفترض القبول على وجه من الوجوه بنهج قريب من "نهاية التاريخ"، في شقه الاقتصادي والرأسمالي الليبرالي ومن دون شقه السياسي الديموقراطي، على ما يفعل أوغلو متحفظاً ومندداً بفرنسيس فوكوياما ("صاحب" الفكرة ومحدثها، ويؤوِّل أوغلو فوكوياما في ضوء أواخر التسعينات وربما ما بعدها، أي 11/9/2001). ويفترض من وجه آخر قد يبدو على نقيض الوجه الأول، الاستدلال بصمويل هينتينـ(غـ)تون، وتقديمه كفة العوامل الثقافية والحضارية على كفة العوامل "العقلانية"، الاقتصادية والتقنية والعسكرية والأخلاقية، في ميزان العلاقات والمنازعات الدولية. ولا ينكر أوغلو إيجاب الأستاذ الأميركي الراحل ثقلَ العوامل الثقافية والحضارية والتعويل على هذا الثقل، ورئيس حكومته توجه اولاً إلى تركمان عكار اللبنانيين وتركمان إربيل وجوارها مكانتهم متصدرة، ولكنه يعرف حق المعرفة ان عامل التقريب والربط هذا ينقلب عامل تبعيد و "هجران" حال عرضه على "الألوان" (اردوغان، أعلاه) القومية والمذهبية والوطنية والبلدانية التي تتحدر من الأبنية السلطانية والامبراطورية، على وجهيها: وجه السيطرة ووجه التبعية.
والتمثيل على جدوى العلاج المقترح بـ "الصفقة" التركية السورية، وهو تمثيل متأخر زمناً عن صدور "العمق الاستراتيجي"، مشكل. ولا تبدو "الصفقة" مصدقاً لنهج "شراء" العداوة الأمنية والعسكرية "البيروقراطية" بالتجارة والمواصلات والكهرباء والأسواق الزراعية (قبل أنابيب النفط والغاز وشبكاتهما وربط البحور والأحواض)، إلا إذا أُغفلت الوقائع التي يتعمد الأستاذ الجامعي إغفالها. فالجدار المكهرب على طول 800 كلم بين تركيا والجارة العربية الجنوبية إنما كان مدار مناقشة قبل 1998. ففي السنة هذه، طُرد عبدالله أوجلان من ملاذه خشية قتله فيه، بعد ان تسللت الاستخبارات التركية إلى جوار الملاذ. وتعقبته الاستخبارات الإسرائيلية في أوروبا، قبل ان يلوذ بكينيا، وقادت الحليف التركي إلى الملجأ الافريقي. ووسع سند أوجلان "البيروقراطي" الأمني إباحة مواقع في سهل البقاع اللبناني، في كنف "السيادة" الوطنية والدولية وحمايتها. وكان العراق في لجة حربه الطاحنة مع (وعلى) إيران الخمينية، على جبهته الشرقية المديدة (1200كلم) التي اضطرته إلى إخلاء جبهته الشمالية وزاويتها الغربية، على شطريها المتصلين: التركي والسوري المناوئ. فـ "عالج" صدام حسين الخلل الفادح بالسلاح الكيماوي وبتسييب الشمال والغرب على مصاريعهما في وجه قوى الهلال المزركش، الإيراني التركي- الكردي السوري.
وفي السنة العتيدة، 1998، أرجفت القوات المدرعة التركية على الجارة العربية الجنوبية، وحشدت 60 ألف جندي من أضخم جيش "أطلسي" على مرأى من الجارة ومسمع منها. وكانت السنة "الميمونة" على تركيا، فاتحة حبس مياه دجلة والفرات في سدود مشروع "الغاب" الأناضولي عن العراق وسوريا معاً، والتقتير المحسوب في صرفها. وفي ختام السنة، وقع البلدان اتفاق أضنة، أو تفاهم أضنة. وتولى المفاوضة ضباط استخبارات. وبطرفة عين هدأت الحملة "الجيوبوليتيكة" العارمة والصاخبة على فكي "الكماشة"، التركي والإسرائيلي، المطبقة على سوريا، في الصحافة "اللبنانية". وخرج البلدان، والعروبي على وجه الخصوص، ناضجين ومؤهلين لمقايضة السياسة الأمنية باللوحة الفوكويامية الزاهية التي رسمها أحمد داود أوغلو، غداة أربع سنوات على 1998 وأوجلان والحشد العسكري وإعمال السدود الأناضولية واتفاق أضنة، توفي في أثنائها مؤسس "النظام" وحاكمه الأول. ولزم إنهاء بروتوكول تعاون 2007 خمس سنوات من المفاوضة والاختبار والتجريب والتخمين ("المراحل الطويلة والصعبة للأنظمة البيروقراطية"؟) وتقليب الأيدي والراحات وضرب الأخماس بالأسداس.
[التجمير
وعلى هذا، يجمع رأي الوزير المفوض، وهو رأي عملي، الصدق في وصف النتيجة وتوقعها إلى التكتم والتستر على سيرورة إنتاجها وبلوغها. وقد يكون الوجه الثاني من لوازم الديبلوماسية، ليس مزاولة وممارسة وحسب وإنما إعداداً كذلك. فلا يستقيم ان يتفاخر من كان، مذ ذاك على الأرجح، مستشاراً على نحو من الأنحاء بإعمال الطاقم السياسي الخصم، والذي سبق طاقمَ أصحابه الموشك على الانتصار وتولي الحكم والسلطة تدريجاً، وسائل إقناع واحتجاج تخالف الوسائل التي دعا الوزير (لاحقاً) ويدعو إلى توسلها وإعمالها. وهي وسائل جنى أصحاب أوغلو ثمراتها من غير ان يضطروا إلى رعاية "نضجها" بالوسائل غير المحببة التي عمل عليها طاقم الخصوم، ومال إليها من غير شك.
ولكن إغفال صاحب "البعد الاستراتيجي" ما يغفِل لا يترتب على الرغبة في قطاف الثمرة من غير التعرض لشوكها ونسيان الشوك، وحسب. فهو يدرج خطته الموضعية في سياقة تاريخية مفصلة ودقيقة هي مرحلة أو حقبة ما بعد الحرب الباردة، وأثرها في موقع تركيا ودورها في دوائرها الجغرافية والاقتصادية والعسكرية. فهو يذهب إلى ان الحرب الباردة، ودوران منازعاتها على قطبين محوريين، "جمدت" أو جمرت النزاعات، وضبطتها على مصالح القطبين وألزمتها التخلي عن بواعثها ودواعيها الداخلية والصدوع بتقسيم مناطق النفوذ ودوائره بينهما، وإهمال العوامل "العميقة" الصادرة بحسب المدرِّس الكاتب عن هويات الجماعات وتواريخها ومحالها من تيارات التبادل العريضة والهجرات والفتوح. فالحرب الباردة، وهي الواقعة الاستراتيجية الأبرز في النصف الثاني من القرن العشرين و"علاج" بعض مخلفات النصف الأول من القرن نفسه وحربيه "العظيمتين" وأنظمته الكلِّيانية (الشمولية أو التوتاليتارية)، يرى إليها الباحث التركي والمسلم انحرافاً عن سوية الموازين الجغرافية السياسية ومعاييرها المقبولة و"الطبيعية".
وهو يمثل على رأيه هذا بدوائر المصالح والعلاقات التركية، على نحو ما تبدت في مرآة التاريخ السلطاني العثماني (القرن الرابع عشر القرن العشرين) بل في مرآة الفتوح السلجوقية في القرن الحادي عشر (م)، في البلقان والقوقاز وآسيا الوسطى والشرق الأوسط. ويلاحظ ان الحرب الباردة سجنت الدور التركي، مسالكه وممالكه، في قفص الحلفين الكبيرين، الأطلسي ووارسو، وعزلته عن دوائره الأورآسيوية القريبة. فالقوقاز، على سبيل المثل، بتركمانه وأذرييه وشيشانه ومسلميه (من البلوش والشاش والصغد وغيرهم من الأقوام)، امتنع من استجابة نفوذ اسطنبول، وبالأحرى أنقرة، ولزِم أقوامهم، المتحاربون والمتآلفون على التوالي أو معاً وفي آن، حدود الكتلتين العظميين. وانقطع بعضها من بعض، وأدار بعضها الظهر على بعضها الآخر، وكأن الأقوام هذه أو هؤلاء، لم تعرف جواراً من قبل، ولم تسافر قوافلها على طرق الجيران، ولم ترع قطعانها في مراعيهم، ولم تحارب في ميادينهم منذ "فجر" التاريخ. والسلم البارد هذا جمَّد النزاعات والمبادلات معاً. فلما طوى تصدع السلطان السوفياتي القسمة الباردة، أشعل الانهيار النزاعات والخلافات في القوقاز. ويعزو أوغلو اشتعالها إلى "تدخل القوى الدولية الكبرى"، ويحصي الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا واليابان. ويهمل موسكو وبكين وطهران، والقيادات الشيوعية البيروقراطية المحلية، والحركات الإسلامية الناشئة والمتجددة التي أبصرت هيلين كارير دونكوس أعراض انبعاثها وتململها في منتصف السبعينات. ويهمل شبكات المافيا والتجارة غير المشروعة بالمخدرات والنفط والسلاح والفيزياء النووية وعصابات صغار أسياد الحرب المختلفة عن الأنقاض السوفياتية وقاعها الصفصف.
فالتزاحم على الموارد الجوفية الاستراتيجية، وعلى استثمارها ونقلها ورعاية أمن نقلها وتوزيعها وأسعار، "أحيا" النزاعات القومية (الإثنية)، وحرّك المطامع والمصالح والثارات والضغائن معاً. فـ "التأثير المتبادل"، على ما يسميه أوغلو، لا يينع وتتفتح أكمامه، بحسب الاستعارة الصينية أو الماوية القديمة، من غير احتدام الخلافات. والمواصلات والأسواق لا تعصمها رأسماليتها الليبرالية من إنشاب الأظفار والأنياب والسلاح والأعمال الأمنية والتهويل. فلا يستقيم إنكار التجمير الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي رعته الحرب الباردة، ونعي تقطيعها أوصال الدوائر والشبكات الجغرافية والأهلية والدينية السابقة، والطعن في تدخل القوى الأجنبية والرأسمالية القوية، ومديح "التأثير المتبادل"، معاً وفي آن. فالكاتب الاستراتيجي يأسى لـ "خسائر" تركيا في أذربيجان، واحتلال القوات الأرمينية خمس الأراضي الأذرية، ولانفجار يوغوسلافيا السابقة وما ألحقه بالقوميين المسلمين والألبانيين في البوسنة الهرسك وكوسوفو (ومقدونيا على قدر أقل). وهذا مفهوم ومعقول. ولكن مثار أساه ليس ما نزل في أهل هذه البلدان وإنما عجز الدولة التركية عن الحؤول دون "خسائرها" الفادحة. وهو يعزوها، ضمناً، إلى قيود الحرب الباردة، وحلف الأطلسي، على القوات التركية، تسليحاً وقراراً. فيندد بافتقار القوات التركية إلى سلاح جو يسعه بلوغ الأجواء الصربية، ونجدة البوسنيين المسلمين وألبان كوسوفو من غير انتظار حرب الأطلسي على الصرب في 1999. ويلمح إلى ان القيد الأطلسي، و "البارد"، هو السبب في افتقار سلاح الجو التركي إلى آلات الردع المرجوة. وهذا أقرب إلى روايات الخيال العلمي الارتجاعية والارتكاسية منه إلى الموازنة السياسية.
[الازدواج
ولا يخفى الكاتب المدرِّس أن آسيا الوسطى والقوقاز والبلقان والشرق الأوسط هي مناطق اختلاط قومي و "ثقافي" حضاري وعصبي عز نظيره في مناطق ودوائر أخرى من "الكتل" العالمية. وهي موطن امبراطوريات وسلطنات وممالك "فيديرالية" و"كونفيديرالية" (ائتلافية) فوق ما هي موطن بنى سياسية متماسكة ومركزية. وقلما شهدت أو عرفت هذه الدوائر أبنية سياسية أو دولاً (-أمماً) تجمع الحدود المستقرة إلى القوم أو الشعب المتجانس. ويحمِّل أوغلو أوزار التفاوت أو التنافر إلى التقطيع الاستعماري، الذي أصاب تركيا أي السلطنة العثمانية، منه البلايا. ويوكل إلى "الثقافة السياسية" الاستراتيجية المرجوة التي يرجوها هو، وإلى التأهيل الديبلوماسي المناسب، مهمة تعويض آثار التقطيع الاستعماري. ولا يشك في ان حقبة ما بعد الحرب الباردة، و "السيولة" التي تتيحها، باب بل بوابة عريضة على لمِّ شمل ما قطعته الحدود الاستعمارية، ورعت الحرب الباردة تحجيره وتثبيته. وينم هذا برأي مزدوج ومتدافع في "الغرب"، على شاكلة الرأي الصيني الرسمي اليوم. فهو، على هذه الشاكلة، يريد الثأر لتركيا العثمانية وتمزيقها في حروب البلقان والحرب العالمية الأولى، ثم في معاهدة سيفر طبعاً والحروب والحرب والمعاهدة هي في مثابة حرب الأفيون ومنزلتها في الرواية التاريخية الصينية-. ولكنه ينتظر من "الغرب" نفسه موارد الثأر المرتقب والمأمول. فلولا تدخل القوى الغربية والآسيوية في القوقاز وآسيا الوسطى، وفك الطوق السوفياتي و "الاشتراكي" عن بلدانهما، و "رميها" في حلبة الأسواق، لما وسع أهل السياسة والتدبير والتجارة والصناعة والمال والإيمان بأنقرة، أو غيرها من العواصم القريبة أو البعيدة، تخيل خرائط المواصلات والأنابيب والبحور والمصارف والبورصات التي تنتشي بها الرؤوس والقلوب والجيوب منذ اليوم. وخطر عَرَض حرب الأفيون، أو عرض معاهدة سيفر، أو "سايكس - بيكو"، هو صرف الساسة والنخب والجمهور عن الاضطلاع بمسؤولياتهم عن تواريخهم وحوادثها ومآسيها ونهضاتها.
ولعل رأي احمد داود أوغلو في ألمانيا، الفريديريكية (نسبة إلى فريدريك الثاني في الثلث الثاني من القرن الثامن عشر) والبسماركية والهتلرية والجمهور غداة الحرب، مرآة التنازع العميق الذي يتعاور "استراتيجيته" المقترحة. فهو يحجم عن تقويم السمة الامبراطورية التي وسمت التاريخ الألماني، ودعت معظم الألمان إلى افتراض دور خاص لألمانيا، وطريق خاصة إلى الدور العظيم، على حدة من الدول الأمم والشعوب الأوروبية "الجمهورية" والعامية المبتذلة. ويحجم عن تسميتها باسمها السياسي والتاريخي. فإذا انتهى إلى تناول ازدواج السياسة المقترحة (على تركيا)، ونجاعة انتهاج سياستين متوازيتين: واحدة تقضي بمعالجة مسائل الأمن في إطار إقليمي وثانية تشتري الأمن والجوار المسالمين بمنافع اقتصادية و "ثقافية" متبادلة، انتخب ألمانيا، ألمانيا بون الأطلسية والأوروبية والفيديرالية قبل ألمانيا الموحدة، مثالاً. فذكّر بحروبها بوسط أوروبا وشرقها (وأغفل الجبهات الغربية الفرنسية والبلجيكية، والبريطانية، في الحربين الأولى والثانية)، وبـ "الأرضية النفسية السلبية" التي خلفتها هذه الحروب في العلاقات الألمانية الأوروبية. ونوه بانتهاجها "السكتين": الأمنية والاقتصادية. وخلص إلى مديح "النتائج العظيمة" التي جنتها ألمانيا، وقدم عليها جميعاً "المارك الألماني كأداة سيطرة جديدة على الدول التي كانت دخلتها الدبابات الألمانية...".
ولا تتستر الرواية الداودية الأوغلوية الساذجة والكاشفة بعض الشيء على النازع الغازي والفاتح الذي يتقنّع بقناع العمق الاستراتيجي وإذابة المسائل الأمنية والشائكة في حامض الاقتصاد الليبرالي والمصالح المتبادلة. فهذا لا يخفى على القارئ، على نحو ما لا تخفى عليه دلالة الكنايات "الثقافية" و"الحضارية" والاقتصادية نفسها، وما تبطنه من موازين قوى، وبعث أمجاد، وتصوير وقائع وحوادث مريرة وفظيعة بصور زاهية. ولكن الأقنعة هذه تسفر عن إنكار حاد للعوامل السياسية الديموقراطية ودورها في الانعطافات الاستراتيجية. فألمانيا حقبة بعد الحرب لم تقتصر على صك المارك، قبل "التضحية" به في اليورو، ولقاء احتمال أوروبا شطراً ثقيلاً من أكلاف توحيد ألمانيا ومساواة المارك الشرقي بالمارك الفيديرالي، ولقاء دمج ألمانيا، داخل حدود ثابتة لا تمس مع جيرانها، في أوروبا فيديرالية. فألمانية الفيديرالية صرفت طاقتها ومواردها إلى بناء ديموقراطية دستورية واتحادية لا امتياز فيها، ولا خصوصية ولا "رسالة" إلى الإنسانية، ولا قانون يعلو قانون محكمة كارلسروه والمحكمة العليا الأوروبية. وهي صنعت هذا في إطار أطلسي، شأن إطار تركيا. وانتهت إلى الإقرار بأن 8 أيار 1945، يوم استسلام الرايخ الهتلري، هو يوم تحريرها وليس يوم انتصار الحلفاء وحسب. وإذا كان عَرَض معاهدات فرساي هو قرين عرض معاهدة سيفر، وبمنزلته، فألمانيا دخلت أوروبا الفيديرالية بعد ان قبلت النزول عن 16 في المئة من أراضيها "التاريخية"، البسماركية. وهذه كانت "ألمانيا الصغيرة"، على ما نعى عليها آباء "نخب" الرايخ الثالث. والحق ان "عمق" وزير الخارجية التركي "الاستراتيجي" تخالطه أضغاث "عروبية تطفو حيناً وتختفي حيناً. وحين تزعم بعض برقيات "ويكيليكس" ان ديبلوماسياً أميركياً وصف وزير خارجية رجب طيب أردوغان بـ "الخطير" فلعلها تبالغ قليلاً.

الاثنين، 22 نوفمبر 2010

تحقيق «الكتب» النقدي والتاريخي مدخل الى تأويلها

المستقبل، 21/11/2010

حين يجمع بعض قراء «الكتاب»- من غير تعريف أو نسبة- ومفسريه وشارحيه ومؤرخيه المحدثين، في ضوء مصائر معتقديه ومعتقداتهم وأفكارهم وفلسفاتهم وسياساتهم وأحوال عمرانهم، على الاقتصار على «الكتاب» وتناوله في نفسه، يبدو المنهج في نظر شطر من المؤمنين ومن القراء الدارسين قريباً من البداهة. وهو، أي المنهج، يُحمل على عودة محمودة الى الاصل الاول المجرد من زوائد ونوافل أقحمتها عليه، عنوة وعدواناً، اغراض وأهواء لاحقة لا شأن للنص الديني الناصع بها. وعلى هذا، فالنواة الاولى، الثابتة والصحيحة، هي ركن عقل مستقيم لم يستدخله التواء مصالح الملك والسلطان وسرّهما بعد، ولم يحرفه عن حقيقته، وتالياً عن الحقيقة. ويذهب بعض القراء هؤلاء، من المفسرين والشارحين والمؤرخين، الى أن العودة الى الاصل والمرجع في نفسه هو علاج شطط عظيم أدخل «السياسة» وشرورها في «الدين» المطهر والبريء. وهذا المذهب، على معنى المقالة والرأي، يتقاسمه مثقفون مصلحون يلبسون لباس النقد الفكري والثقافي والتاريخي معاً وجميعاً. وبعض مقالاتهم شقت طريقها الى مدارس الفقه والشريعة وحصون المحافظة والتقليد. ويقول طلبة علوم دينية وشرعية في هذه المدارس ان المقالات المجددة تصل بينهم وبين عصر الحداثة بصلة لا يعهدونها ولا يأنسونها في دروس مدرسيهم.
وثمرات هذا الرأي لم تتعدَّ بعد «وعد الازاهير»، على قول الشاعر الفرنسي، ولم تبلغ، في ميزان النقد، ما بلغه ايذان مطالع القرن العشرين المصرية، قبل انقطاعه ونضوبه المفاجئين، على نحو ظهوره المباغت. وقد يعزى الانقطاع الى رد الجواب المهوٍّل والمهدد، والى استجماع علل «وجودية»، عُلق عليها دوام الامة وتماسك كيانها، حُشدت في النقض على موضوع المقالة النقدية المبتدئة، والنقد «حدودي» تعريفاً، وأَبطلت جواز الموضوع في الاساس وأطفأته. وفي الاحوال كلها، ليس الايذان المصري، الفقهي الاجتهادي عن يد محمد عبده والادبي الفقهي اللغوي عن يد طه حسين، هو مرجع المقالة النقدية المعاصرة. فهذه ولدت في ثنايا التأويل، وعلم أصوله، وغلبته على شطر من الدراسات الفلسفية. ويدين التأويل ببعض مطالبه وموضوعاته الى الدراسات التوراتية والانجيلية، وإلى الاعمال النقدية والتاريخية النصية التي تناولت «الكتاب المقدس» في عهديه او جزئيه المفترضين (وهما مفترضان في الدراسات هذه أو بعضها وبمنأى من اعتقاد الدارسين). ولعل انصراف التأويل الى المعنى الكتابي، وحمله علمه على علاقة المعنى بكاتب النص، وصفته وزمنه ومخاطبيه، وعلى صيغ النصوص وتعاقبها وتواردها وتوارثها الآثار أو «الأثر» على قول ابن خلدون في تعريف مطلب علم التاريخ، لعل هذه من القرائن على ملابسة التأويل، ومعاملاته ونظرياته أو فلسفاته، الدراسات الكتابية، التوراتية والانجيلية. وهي من القرائن على صدور التأويل، معاملات وأصولاً، عن هذه الدراسات.
وعلى هذا، فوصل الانقطاع النقدي «العربي» بالتهويل والتهديد الفكريين والاجتماعيين الظرفيين، وهما حقيقة ثقيلة لا تنكر وطأتها، لا يستوفي وحده علل الانقطاع، ولا يلم بعلل «استئناف» المقالات النقدية اليوم، إذا جاز وصف هذه بالاستئناف. فالحق أن موضوع الدراسات الكتابية، التوراتية والانجيلية، فالقرآنية المحدثة، ليس واحداً، ولا يجوز تناولهما (على ما يُرى من بعد) على مثال واحد أو مشترك، ولا حملهما على معنى متقارب. وليس الرجوع من (علم) أصول التأويل الى ارادة فهم «الكتاب» من طريق حمله على نفسه، والنأي به من تفسيره بالسنة ومن مساواته بها، إلا دليلاً على الفرق بين الموضوعين. فاستقرار التأويل أو معظم أصوله وبعض معاملاته، في الثلث الثالث من القرن السابع عشر على يد باروك سبينوزا الهولندي (1670) ثم ريشار سيمون الفرنسي (1678)، كان ثمرة إعماله في الدراسات الكتابية، وولد منها ومن انجازاتها وحلولها بعض المشكلات التي اعترضها. واستقلت أصول التأويل بنفسها، وطرقت مطالب وأبواباً غير كتابية، توراتية وإنجيلية، وابتكرت مناهج تناسب مطالبها وأبوابها الجديدة، قبل أن تلتقي طرقها طرق الدراسات الكتابية مرة ثانية وثالثة ورابعة.
ودليل ثان على الفرق بين الموضوعين هو ترجمة «كريتيك»، أي المنهج الموسوم بـ»كريتيك»، بالمنهج النقدي، على معنى اللفظة السائر، وهو تمييز المعاني وأدائها ومراتبها بعضها من بعض، أو على معنى أقرب الى الاستعمال الفلسفي وهو تعريف دوائر القبول والصحة وتمييزها من دوائر الابطال والرد. والكلام على «كريتيك» في باب الدراسات الكتابية يقصد به التحقيق النصي على أنواعه، المادي النسخي والفقهي اللغوي، والاسلوبي والمصدري، والادبي الفني، الخ. وحين يقال في طباعة عمل أو طبعته أنها محققة، فالمراد أو المعنى أن الناشر، أي متعهد العناية بالنص المنشور والتدقيق به، تولى تحقيق نسبته، وصحة نقله، وتمام النقل وطرقه و»تخريجها» على قول علماء الحديث، وشرح غامضه، وقارن صيغه بصيغ أخرى قريبة سابقة أو معاصرة أو لاحقة، وخمَّن في مصادره أو وثقها، وجلا مبانيه وأجزاءه وروابطها... وهذه تمهد الى تناول المعنى مستوياً على «عرش» لا يُدرك منه، ومن الاستواء عليه، إلا «تلويحاته»، على قول السهروردي. فالتحقيق، على الوجه هذا، هو مقدمات التأويل. وهذه المقدمات لا تعد العدة لسجن المعنى أو إثباته واحداً ومحفوظاً ومحكماً من غير لبس ولا تشابه. واشتراط هذه الشروط يخالف التحقيق وعلله. فالشرط يفترض أصلاً ومبنى ناجزاً وحاضراً كذلك الذي أنكر الغزالي جوازه في رده على «الباطنية» الاسماعيلية وفروعها الامامية وتأويلها الرمزي. ونشأ التحقيق عن خسارة مثل هذا الاصل وعن تقرير استحالته على الانسيين.
[الحرف
وحمل التحقيق النقدي على معارضة معنى، سبق وافترض ناجزاً في مرآة مصائره التاريخية والسياسية المنكرة، بمعنى آخر يجمع فضائل الرسالة والتحول والاستنارة، على ما تأخذ به الافكار النقدية «العربية» المعاصرة - يغفل عن حقيقة نشأة التحقيق والتأويل الكتابيين وتاريخهما عن مترتباتهما المنهجية والفلسفية. ولعل هذا سبب آخر في مراوحة النقد الديني ووقوفه ولزومه التقرير الابتدائي والافتتاحي. وقد يكون هذه السبب، الداخلي، أقوى أثراً في عقم النقد وانقطاعه، وأوفى تعليلاً من تهويل رد الجواب وتهديده، على رغم أثر هذين وعواقبهما.
وصدارة التعليل والفهم الداخليين هي ما يثبته ويقرره صاحب المنعطف التحقيقي والتأويلي في الدراسات الكتابية والتوراتية (والانجيلية)، سبينوزا في كتابه «رسالة في اللاهوت والسياسة» (نقلها حسن حنفي عن الفرنسية الى العربية وقدم لها). والحق أن المنعطف هذا تضافر عليه ثلاثة اجتمعوا في وقت واحد تقريباً، هم لويس مايير («الفلسفة تؤول الكتاب المقدس»، 1666) صديق باروك سبيوزا ومراسله وناشره، وسبينوزا نفسه (1670) وريشار سيمون الفرنسي («التاريخ المحقق للعهد القديم»، 1688). وفرقت الثلاثة مشاربهم ومعتقداتهم، وجمعهم منهجهم الدراسي التحقيقي والتأويلي التاريخي، وركنه تقدم حرف النص المحقق على ما عداه. وأول ما عداه هو التأولي المَثَلي أو البياني القَصَصي الذي غلب على الكنيسة الكاثوليكية وأساقفتها وأحبارها طوال القرون التي سبقت القرن الخامس عشر او نصفه الثاني.
ويرد مؤرخ تناول «الكتاب المقدس» وعهديه على وجه التحقيق، بيار جيبير اليسوعي الفرنسي (باريس، غاليمار، 2010)- حرفياً «الابتكار النقدي للكتاب المقدس، القرن الخامس عشر القرن الثامن عشر»- الانعطاف الذي خرجت به الدراسات الكتابية، التوراتية في المرتبة الاولى، من سكونها التأويلي، عشية الثورة البروتستانتية اللوثرية وقبيلها، الى لورنتزو فالّا، الروماني الايطالي المولود في 1407 (م) بروما والمتوفي بها في 1457. وفالّا كتب، في 1440، مقالة في عهد قسطنطين المنحول، أثبت فيها أن «العهد» هذا، وزُعم أنه يعود الى القرن السابع الميلادي، وهو يستخلف بابوات روما على ولايات الكنيسة او ولايات الامبراطور البيزنطي، منحول من ألفه الى يائه، ولا تستقيم نسبته الى كاتب عاش في القرن السابع، ويقتصر علمه على عصره هذا. وهو من أوائل (أعمال) النقد التاريخي، على معنى تحقيق النسبة. ولا شك في أن التحقيق الكتابي التوراتي احتذى عليه لاحقاً. وباكورة أعمال التحقيق هذا الطعن في نسبة أسفار الشريعة الخمسة الاوائل ( التكوين والخروج والاحبار والعدد وتثنية الاشتراع) من التوراة، وهي «أم» التوراة إذا جازت الاستعارة، الى كاتب واحد هو موسى (بن عمران) النبي.
ولكن لورنتزو فالّا، الطاعن في صدق نسبة العهد القسطنطيني الى أحد خلفاء الامبراطور المتنصر الاول، ليس هو من طعن في صدق نسبة الاسفار الخمسة الى موسى، على منهج قريب من تحقيقه التاريخي. فهو من أبطل أو دعا الى ترك قراء «الكتب»، على ما كان العرب يقولون في غير كتابهم، على معانيها الاربعة المتوارثة منذ الآباء، وقصر القراءة والتأويل على هذا. وآذن بالعودة الى نص الكتاب اليوناني وفيها التوراة «السبعينية» التي نقلها بعض يهود الاسكندرية، في القرن الاول قبل الميلاد، الى لغة الجالية اليهودية في العاصمة الثقافية ومقارنة النص اللاتيني المأذون العائد الى جيروم (القرن الثاني) بالنصوص اليونانية «الاصلية» (وهذه تكشفت عن نصر عبري «أصلي» هو محل مناقشة لم تهدأ ولم تحسم). وأدرج الفقيه اللغوي، واللاهوتي من وجه آخر على حدة، تدقيقه في الفروق بين الكتب المقدسة، في لغتيها «الاصليتين»، في سياقة سعي ديني وروحي في «حقيقة المسيح»، لا تبلغ الا من طريق «الحقيقة اليونانية»، أو في من طريق جلائها في اليونانية، فيما يعود الى الاناجيل الاربعة والى أعمال الرسل. ونبه الدارس الى مكانة اليونانية هذه من بعض «التحريف» الذي أصاب النص اللاتيني المأذون قياساً على «الاصل» اليوناني، وبعض الهنات أو الضعف في العبارة.
وإنكار الكمال على النص المأذون كان جرأة كبيرة. ومهد الطريق الى هذه الجرأة وسوغها استنفاد التأويل المَثَلي أو القَصصي البياني أغراضه غداة تجدد الدراسات اللغوية والادبية في عصر النهضة، الايطالية أولاً. والتأويل القصصي البياني وجه من وجوه «معارف» قوامها العلامات والتوقيعات. فالطبيعة في مرآة هذه المعارف «كتاب» يقرأ «العلماء» حروفه وسطوره وصفحاته في ضوء ارادة معنى خفية وظاهرة. والقول ان الطبيعة، والخليقة عموماً، كتاب ليس (لم يكن) مجازاً ولا استعارة. وعلى نحو ما تقرأ النصوص والكتب وتفهم (العلوم الالهية) على «حروف«، على قول بعض المتصوفة، تفك رسوم الخليقة والحوادث على حروف أو صور كذلك. والانقلاب من مباني معارف او معايير فهم الى مبان ومعايير أخرى مختلفة، فتبدو المعارف السابقة طلاسم تستغلق على الفهم، هذا الانقلاب يعصى التعليل الوافي. ولا تستوفي «القطيعة في أصول المعارف» تعليله. والحق ان إعمال فقه اللغة المقارن في عبارة الاناجيل وكتابتها، على معنى ضيق وعيني، افترض انفكاكها من المعاني الاربعة ودلالاتها التصويرة التعبيرية واستواءهما مستقبلتين بنفسهما، ومدينتين بالمعاني التي تؤديانها الى استوائهما هذا وقيامهما بأود الدلالة على جاري حال اللغة.
فكانت الفروق اللغوية، بين لغتي النص وعبارتيه وفي بعض صيغه، الذريعة الى حمله على التحقيق، والى تناوله في نفسه، إسوة بغيره من النصول، وتوقع جلائه حقيقته من طريق مباشرته على هذا النحو «العاري»، على قول كلود ليفي - ستروس في جماعات الانسيين المثقلين بالعلامات والروايات والقوانين. وأدخل لورنتزو فالا الفروق، وهو لم يطرحها، ولم يقلل شأنها، ولم يدع الى اهمالها، ولم يكن يملك سطوة لا يملكها إلا أهل السلطان الجامع- في بنية النصوص وكيانها، إذا جازت العبارة. فمالت النصوص، والحال هذه، من جهة مصدرها (الالهي) المفترض، وكمالها في نفسها وتعاليها وهما صنو كمال المصدر وتعاليه، الى جهة المخلوق، السامع والفاهم والمدون والناسخ وحافظ المدونات والنسخ ومتناقلها ومتوارثها. والجهة هذه، جهة «الانسان»، على خلاف جهة المصدر المفترض، «نسية» و»ضعيفة»، على قول قرآني ملح ومعرِّض. وهي الموكلة بالحفظ والذكر، وبحملهما، على زعم الانسانوية الغربية. وهذا يغلب كفة الضعف والنسيان والفهم الحاضر المقيم والجائز على ما ليس كفة، ولا تصح فيه المقارنة ولا العلاقة أصلاً، ويجتمع فيه التمام والجبروت والدوام والعقل والضرورة من غير زمن.
[المعرفة القَصصية
وأثبتت طبقات «المحققين» «النقاد» - والطبقة على معنى الوقت - من فالّا الى ريشار سيمون وبينهما غوتنبرغ (صاحب المطبعة) ومارسيل فيتشينو وإيراسموس ولوثر ودانيال بومبرغ وسيباستيان كاستيليون وكالفن ومايسيوس وسكاليجير (صاحب لفظة «التحقيق» على معنى الطبعة المحققة او النقدية) فميرسين (مراسل ديكارت) وجان موران ولوي كابِّل وهيغو غروتيوس وفالتون وايزاك دولابيرير ثم لويس مايير وسبينوزا وريشار سيمون (في احصاء بيار جيبير، موقتاً)، ثبتت طبقات المحققين هذه طوال قرنين ونصف القرن مقدمات التحقيق النقدي العامة والمشتركة والمنهج الذي قامت عليه وافترضته تدريجاً. وعلى هذا، وسع المؤرخ الدليل المعاصر، أي بيار جيبير، القول حين التطرق الى سبينوزا أن الغرض الفلسفي الذي دعا الرجل الى تناول التوراة تناول المحقق، وهو على قول سبينوزا نفسه «تبديد اعتقاد الخرافات» أو المعجزات وانتهاك «سنن الطبيعة»، هذا الغرض لا يطعن في سوية الكاتب المنهجية أو استقامتها. فموضوع «الرسالة في اللاهوت والسياسة» ومدارها هو امتناع بعض اجزاء التوراة من الفهم بواسطة «دليل الفطرة» (أو نور العقل الطبيعي). والحوادث والوقائع (القصص) التوراتية، أي المعجزات، لا تنزل على النظر الطبيعي وميزانه، ولا تعقل من طريقه. ويقضي هذا، بحسب صاحب «الرسالة»، بإخراج معرفة هذه «الاشياء» من النظر الطبيعي، وقصر معرفتها على الكتاب وحده، على نحو ما يجب أن يكون الحاكم في معرفة «الطبيعة، ومصدر هذه المعرفة، «الطبيعة» نفسها (وترتيبها ونظامها).
والمعرفة «القَصصية» ضرب أو نوع من العلم قائم بنفسه ورسومه وعلله. وهو في منزلة متأخرة عن العلم العقلي بالاسباب الطبيعية التي تترتب عليها النتائج ترتباً محكماً ولازماً، على ما يرى سبينوزا في بعض أعماله الاخرى مثل «الرسالة في إصلاح الفهم»، أو في كتابه الجامع والكبير «الاخلاق». ولكن ترتيب المعرفة الحسية والصورية المتخيلة، أي «القَصصية»، على هذا النحو وفي مرتبة أدنى من المعرفة بالبراهين «الهندسية»، لا يدعو، في معرض التحقيق، الى انكارها او إلى نفيها من العقل. وهذا من معاني النقد الوليدة والجديدة. والقياس على المعرفة العقلية والبرهانية يستقيم في ميزان كلي وجامع. وهو يبلغ، إذا بلغ، على شرط تضمينه مراتب المعرفة الدنيا واضطلاعه بتفسيرها. وهذا ما يتصدى سبينوزا له، ويريد استيفاءه ويوجبه. وهو يخلص منه الى أن التوراة هي الدليل الى فهمها، و»تعريف موضوعات ما تتناوله وتتكلم عليه». ويدرك التعريف من طريق متعرجة تقضي باستقائه (التعريف) من مواضع وأخبار متفرقة، يُحمل بعضها على بعض، ويقرن بعضها ببعض، من غير اطراح المعاني الحرفية والعينية المباشرة. والفروق المتأتية من الروايات والنقل والتدوين والنسخ والترجمات- وهذه فشت وتكاثرت على نحو لا سابقة لها مع البروتستانتية والمطبعة وإرادة جعل الكتب في متناول «الحمقى» او العوام السُذج من غير المتأدبين والعلماء ليست حواشي مطرحة ومهملة، بل هي من آثار الزمن، أي التاريخ، في الكتب و»عواديه»، على قول العرب. والتحقيق النقدي يقر بالتاريخ وفعله وملابسته طوايا الكتب وأركان فهمها و»تلقيها» أو قراءتها وتلاوتها وتأويلها.
ودعا هذا «زجَّاج» أمستردام (فهو كانت حرفته جلي زجاج العدسات)، وداعية «الانوار الراديكالية»، أو الجذرية والغالية على قول مؤرخين معاصرين، الى دراسة العبرية، وكتابة موجز في نحوها وصرفها، حرصاً منه على تمييز «رطانة» الترجمات الى اليونانية واللاتينية بالعبرية، على رغمها ورغم المترجمين. فالبيان المحكم والمبنى اللغوي يسبق التوجه على النص بالسؤال عن غموضه و»متشابهاته»، وما أشكل ويشكل على فهم الناس منه ويتباين بل و»يتناقض» (شأن بعض الانساب وتقديم بعض الحوادث أو تأخيرها بحسب راويها أو مدونها). ويرمي التحقيق الناقد الى تناول أسفار الانبياء وكتبهم، وجلاء سيرهم وعاداتهم وسننهم، وأحوال أوقات مبعثهم والقوم الذين بعثوا اليهم وفيهم ومشاغلهم، واللغة التي خاطبوا بها الجمهور. وينبغي تعقب حظ كل كتاب من الشيوع والصيت وإلى من وقع، والوجه الذي فهم عليه، و»الحروف» أو الصيغ التي قرأ عليها وتلي، ورأي من عدّوه في الكتب المقدسة وأدخلوه فيها. ولما جمعت هذه الكتب في كتاب أو مدونة واحدة و»جسم» متصل، لم يكن بد من تناول الجمع هذا وملابساته وإجرائه (والخلافات التي ثارت جراءه وذيولها).
فتحقيق الكتب، اليوم، وفي كل عصر، وتأويلها أو فهمها، هما في صلب ايجابها على الوجه الزمني التاريخي والانسي، والحاكم في تلقيها واستقبالها تالياً في إنشائها «المصحفي» (قياساً على الواقعة الاسلامية). ويعتور كمال التحقيق المنشود ما يحول دون بلوغه. فاللغة العبرية تمتنع على الخالفين من اهل العصور «الامية» او غير النبوية من الاحاطة التامة. وبعض الامتناع مرده الى صيغ التصريف والتمييز والحال، وإلى انتفاء علامات الاعراب والوقف وأحرف العلة. والتاريخ، وهو الذريعة الى المعرفة، مشكل على قدر ما هو لازم ولا غنى عنه. فمطلب الاحاطة بالحوادث كلها محال. وبعض كتب التوراة والاناجيل لم ينقل في لغته الاصلية. فبين النقل وبين «السماع» أو التلقي فجوة تحجز دون فهم الكتب فهماً مستوفياً ومحققاً. وتقود الملاحظات الجوهرية صاحب «الرسالة» الى التسليم بدليل الفطرة والطبع في تناول النقل، شأنه في المسائل الطبيعية والنظر العقلي فيها. (ولا تخفى اصداء المقالة «الاصلاحية» أو البروتستانتية، القوية يومذاك، ولكن سبينوزا يصدر عن ديكارت ومنهجه وطريقته، وأنصار الكنيسة الكاثوليكية السلفيون طعنوا في ديكارتية خصومهم الاصلاحيين من أنصار الكنائس والشيع البروتستانتية الكثيرة والمعاصرة).
ويُبطل هذا، إذا أقرّ وسلّم به، اختصاص القضاء بالنقل والمنقولات، وفي فهمها وتأويلها. وهو اختصاص تنسبه «الكنائس» والاجهزة الى نفسها و»علمها»، وتنفي العوام و»الجاهلين» منه. وإبطال سبينوزا الاختصاص الكنسي والجهازي البيروقراطي هو الوجه «السياسي» من «الرسالة في اللاهوت والسياسة»، ثم من «الرسالة في السياسة» وحدها. ويبلغ الوجه السياسي من طريق التحقيق وموجباته ومعاييره، واستيفاء الموجبات هذه. وتترتب على التحقيق ومعاييره نتائج فلسفية جوهرية لا تزال تتردد في المقالات المعاصرة، ليس أقلها أثراً وتردداً ارتفاع الاصل واحتجابه، وانتصاب الاثر دليلاً أو معلماً من غير الاستقواء بأصل مؤثر ومأثور، وملابسة الحادثة الحاضر المتجدد وإلزامها مستقبليها الفهم عنها من غير ضمان تقليد موروث وراسخ الفهم.
ويرد بيار جيبير، في معرض إثباته جدة حمل سبيننوزا الكتب ليس على تاريخها وحسب بل على تاريخية كيانية، القول السائر والمتواتر أن حوادث التاريخ هي مجلى الخطاب النبوي اليهودي وموضوعه ومطلبه وأن التجسد هو محور المسيحية وعليه مبناها. ويرد ما يخلص من القول هذا الى نفي الجدة والتجديد السبينوزي والسيموني من بعده. فالحمل على تاريخية بنيانية وكيانية يدعو الى الاقرار باستحالة علاج أعراض التاريخية هذه، وهي التشابه والنسبية والتبدل وغيرها مما تدفعه العقائد الجمعية القوية.
[«خسارة» الاصول
ويبني ريشار سيمون على نيف وقرنين من عمل التحقيق والتأويل. وهو لم يقرأ «رسالة» سبينوزا إلا بعد فراغه من تحقيق تاريخه. وردَّ على «الرسالة» في «رسالة في الالهام» (1686)، غداة أعوام على «تحقيقه» هو، و16 عاماً على طباعة «رسالة» سبينوزا، بعد عامين من وفاة صاحبها. ويفترض عمل ريشار سيمون، وهو راهب كاثوليكي، انجاز طبقات المحققين الاوروبيين الذي سبقوه منذ لورنتزو فالّا، وتخللهم بعض «المجان» الفرنسيين في أواخر القرن السادس عشر. فيذهب الى تأخير كتابة الكتب وتدوينها عن أصحابها (الانبياء) الذين تنسب اليهم وتسمى بأسمائهم. فكتابها ومدونوها هم جامعوها المتأخرون وقتاً وزمناً، ومحترفو الكتابة والتدوين، وهم كتبوا ما كتبوه وجمعوا ما جمعوه، في ضوء آثار محفوظة سابقة أشبه بالمصنفات والمراجع، أو الارشيف. ورجح التحقيق أن يكون عُذرا (إسدراس على مايكتب في بعض اللغات الاوروبية)، صاحب «الاسفار التاريخية» أو الاخبارية، آخر الكتاب الجامعين. وقر الرأي عموماً مذ ذاك على أن الكتب المقدسة هي ثمرة «دورات» (انقلابات)، على غرار دورات الاجسام الفلكية وحركاتها، لم تنقطع منذ «نص موسى بالعبرية الى يومنا»، على قول سيمون. ولا يتيسر فهم الكتب حاضراً، وهو حاضر كل جيل من الاجيال أو قرن من القرون، إلا بمعرفة أحوالها وأوقاتها ومحالها وأطوارها. وتقترن الاحوال والاوقات... بالترجمات. فهذه وجه من وجوه أحوال الكتب والنصوص، وصيغة من صيغها «الاصلية»، وذلك على معنى يفقد معه الاصل امتيازه الكينوني، ويستوي اصولاً مستأنفة لا الى غاية او ختام، أو يستوي أثراً عن أصل أو عين (على نحو القول «صار أثراً بعد عين») متخلفً عن اثر، على خلاف سيرة المعاني الدينية واللاهوتية.
وينبه بيار جيبير، وهو الراهب اليسوعي على ما مر القول وتقدم، الى ان ريشار سيمون، الراهب الكاثوليكي، جمع محاماته عن حجية الكتب، أو «سلطانها» وصدوع المؤمنين بمصدرها، الى التزامه منهج التحقيق التاريخي النقدي التزاماً صارماً لا توسط فيه ولا مساومة. والازدواج هذا، وهو ركن «الخروج (الاوروبي) من الديانة والتدين» على قول مارسيل غوشيه، يهوّن جيبير من وطأته. فيكتب أن إعمال قواعد التقصي التاريخي العامة في تحقيق الكتاب تصيب بـ»قدر من النسبية قداسة الكتاب وربانيته، في وقت من الاوقات، على التقليل، وعلى وجه من الوجوه». فالتحقيق موضوعه النقل ومسنده وطرقه. والانبياء، أصحاب الكتب، على هذا هم كتاب أو كتبة. وهم «عمال» (موظفون) في ديوان الكتابة الوطنية في «جمهورية العبريين». ولا يقدح عملهم في حجيتهم «أنبياءَ ملهمين يوحي اليهم روحُ الله». وتتطاول مقالتهم الى ما لحق بالنصوص السابقة من تغيير أو «تحريف» في أثناء نسخهم إياها أو قراءتهم.
ويريد المحقق في مقالته هذه، أي إثباته نبوة متصلة و»متوارثة» او مستأنفة نبياً عن نبي، تقر للمستأنف الخالق بجواز بعض ما جاء به السالف أو السلف، يريد تقييد أثر الاقرار بجمع الكتب جمعاً مركباً أو «ملفوقاً» («وهو أن تضم شُقة الثوب الى أخرى فتخيطهما»، على قول ابن منظور) في مصدريتها أو حجيتها. فالكتب المحفوظة جزء من محفوظات خزانة «الجمهورية»، وهي «موجز»ها. وهذا تعليل التباين في بعض الانساب، والاختلاف في رواية بعض الاخبار، تقديماً وتأخيراً وتعليلاً واضافة افعال الى أصحابها، وتكرار أخبار أخرى. ولا يحط هذا من «ربانية« المصدر أو الوحي. والتحقيق، على وجه الدقة، ليس موضوعه هذه الربانية، وهي ليست شاغله. وإنما شاغله هو صنيع البشر بما أوحي الى بعضهم. وهذا الصنيع يصدق فيه وعليه ما يصدق في عموم صنيعهم. ومن باب هذا الاصل من أصول علم التحقيق، على ما يسميه جيبير، يتصل الاستئناف «النبوي» الى أصحاب التأويل المعاصرين. ويلاحظ ريشار سيمون أن مجمع ترانت الكاثوليكي الاصلاحي، وهو انعقدت دورته الاولى في 1545-1549، بعث مُؤوِّلين جدداً وكثراً على نحو لم تعهده الكثلكة من قبل، على رغم إناطة المجمع التأويل، رداً على البروتستانتية، بمرجع كنسي «مقدس». فما ابتدأه «الكاتب» موسى انتهى، يومها، الى ريشار سيمون، وإلى أشد قرائه سذاجة.
ويلزم عن الحال هذه أن الانسانية أو البشرية، على معنى اعيانها وأفرادها وجماعاتهم ولغاتهم وعمرانهم، هي مستودع «الربانية». ويلحق الوديعة، والحال هذه، ضياع الاصول «الاولى» وتحريف التناقل والنسخ والرواية، والاقتصار على الاثر المتغير، والتأويل المتجدد والمختلف. والتحقيق، وبغيته هي السعي في حقيقة معنى الكتب، هو خادم هذه الحقيقة ومصائرها الزمنية والدنيوية كلها. وحين أراد مؤرخ تحقيق الكتب المقدسة في أواخر القرن التاسع عشر وطوال القرن العشرين، فرانسوا لابلانش، تناول أحوال التحقيق ومآلاته في الوقت هذا، وسم تأريخه بـ»أزمة البداية» (باريس، 2006)، أو الاصل أو المصدر، كناية ربما عن ضياعها أو خسارتها. والشاهد على «الازمة» تعليق دول الاتحاد الاوروبي مسألة أوروبا المسيحية.

الجمعة، 5 نوفمبر 2010

الحروب الأهلية والإقليمية والإيديولوجية...أقدار تسوس الشعوب بالنسيان والكذب و "الأمن"

المستقبل - 17/10/2010
على عتبة إغلاقه بابه على نحو الألف صفحة التي أرخ بها لأوروبا غداة الحرب الثانية («ما بعد الحرب»، 2005 في الإنكليزية و2008 في الفرنسية)، واستبقت مرضه ووفاته (1948- 2010)، يلاحظ طوني جُودْت، المؤرخ البريطاني الأميركي، أن أوروبا نهضت وقامت غداة الحرب العالمية المدمرة على النسيان، أو على ذاكرة تعمدت إغفال أجزاء مهمة وراجحة من الماضي، ليس الماضي القريب النازي والشيوعي، أقلها ثقلاً ودلالة وأثراً. وغداة 1989، وتصدع الأنظمة الشيوعية بأوروبا، أرادت أوروبا تعويض النسيان هذا، فرفعت للتذكر نصباً بل أنصاباً، وشاءت هذه الأنصاب هيئات ومؤسسات تستظلها سياساتها. وعلى نحو ما لم تدم سياسة الإغفال المتعمد، والسكوت عن أعمال الإبادة وانتهاك الدول الحقوق داخل الحدود الوطنية وخارجها والسطو على الأراضي الإقليمية، وقهر إرادات الجماعات والشعوب، فالأرجح ألا تدوم سياسة الذاكرة.
ولا ريب، على قول جُودْت، انه كان على الفرنسيين إثبات نظام فيشي (القومي) والميليشياوي والمتعاون والمتعصب على السامية (واليهود) على ما كان عليه حقيقة، قبل المضي قدماً، وعلى البولنديين النظر في مترتبات نفيهم شطراً من مواطنيهم من رابطتهم الوطنية المشتركة، وترك هذا الشطر سائغاً للقمع والإبادة الفاتحيْن الألمانيين. وابتدأ البولنديون والأسبان منذ وقت قليل مناقشة الحوادث التي أفضت، من طرق متفرقة ومتضافرة، إلى الحرب وملابساتها الأهلية الداخلية، وإلى النظم السياسية التي نجمت عنها. واقتضى «هضم» الألمان أو استيعابهم ماضيهم النازي الثقيل و «الضخم» 60 عاماً كاملة توالى، في أثنائها، الإنكار والإشاحة والتهوين والمناقشة فالإجماع. وانتهت الأعوام هذه إلى الإقرار بالمسؤولية عن هذا الماضي، وإعلانها، وترجمة الإقرار والإعلان إلى مؤسسات سياسية وطنية، ديموقراطية، تحظى بإجماع عريض.
وفي الأحوال الثلاث هذه لم تتولَّ الذاكرةُ الاستعادة والمحاسبة، والإنشاء السياسي، على مقتضى هذه وتلك، بل تولاهما التاريخ على معنى التأريخ وعلى معنى مضي الزمن. وفظاعة الماضي، في صورة حروب أهلية أم في صورة استيلاء وفتوح أم في صورة إبادات، تحمل على الإنكار، وتسوغ رواية صيغ محرفة ومقبولة. والمؤرخ وحده يسعه من طريق إعمال تدينه بدين الوقائع والبراهين والشهود الصارم، على قول جوزيف يروشالمي، مغالبة الإنكار والتحريف. والتاريخ، على خلاف الذاكرة، يقود إلى تبديد السحر والهالات التي تجلل هامات الأنصاب الكبيرة والمقدسة. وعلى هذا، فالتاريخ مربٍ قاس، ولا تطيق الشعوب قسوة دروسه وتربيته في أحوالها كلها، المؤاتي منها وغير المؤاتي. ولا يشك جُودْت، في ختام تاريخه وفي تناوله بعض سياقاته ومنعطفاته البارزة، في اضطلاع المراجعات القاسية والمتناقضة التي تولتها الشعوب الأوروبية بدور حاسم في توحيد القارة الأوروبية. والخلاف بين روسيا، أو معظم الروس حكاماً ومجتمعاً، وبين بقية أوروبا، شرقها ووسطها وغربها، على فحص التاريخ الأوروبي وتقويمه على مثال قول فلاديمير بوتين ان انهيار الاتحاد السوفياتي هو «أعظم مأساة شهدها القرن العشرين» هذا الخلاف هو مثال على حواجز تأريخية عالية وصفيقة تحول دون إنجاز مصالحة وتقريب بين روسيا والأوروبيين. وما قرَّب شعوب أوروبا بعضها من بعض، وجمعها تحت راية اتحادية، تدين شعوب أوروبا بجزء منه إلى قبولها الاضطلاع بالمسؤولية عن الحروب الداخلية والقارية، وعن الانتهاكات والفظائع التي لازمت الحروب هذه.
و «درس» المؤرخ البريطاني الأميركي الراحل هو تخصيص لما ذهب إليه منذ مطالع القرن التاسع عشر الأوروبي بعض من أعملوا عقولهم ومقالاتهم في «علم التاريخ» الجديد، يومها. فتنبهوا إلى ان ما لم يُعقل ويُتدبر من حوادث التواريخ الوطنية الكبيرة «حكمه ان يتكرر»، على قول أحد هؤلاء. وتكراره، أو تكرار سياسات تنزع إلى الاستيلاء والعنف أو إلى التناحر المزمن أو إلى المهادنة المائعة واليائسة، إنما هو ثمرة استرسال مع منازع وميول قوية العلاقة بأحوال الجماعات ودواعيها إلى الفعل، وصوارفها عنه. وهذا الاسترسال هو ربما اسم آخر لسياسة النسيان والتواطؤ عليه.
[سياستا التاريخ والنسيان
وفي بعض ما يؤرخ له جُودْت ويرويه من حوادث ما بعد الحرب الثانية، وغداتها المباشرة، ما يحمل الحوادث الجسيمة على «أقدار»، على ما قال (من كان) بونابرت إلى غوته في إيطاليا. والتدبر والتعقل وسياسة التأريخ والتذكر تبدو، في الرواية والتأريخ هذين، ضعيفة الأثر، على خلاف ما يذهب إليه المؤرخ في خلاصاته العريضة. والترجح بين الرأيين، حمل الحوادث على «أقدار» أو احتساب تدبرها والتأريخ لها عاملاً في مسيرها إلى هذه الجهة أو تلك، يلازم أحوالنا (نحن اللبنانيين والفلسطينيين والعراقيين والسوريين...) وآراءنا وأهواءنا في صبحنا ومسائنا، وفي الأوقات كلها بين هذا وذاك. فـ «الأقدار» تنزل على الناس نزول ما لا راد له، تعريفاً. ولكن ما أراده نابليون، جنرال الثورة الفرنسية يومها وقائد «جيش إيطاليا» الفرنسي والثوري والجماهيري (أو العامي، على وجه الدقة)، بـ «الأقدار» هو صنع قوى اجتماعية وتاريخية لجبة ومرئية وليس صنيع إرادة خفية ومحتجبة.
وقد لا ينجم عن تولي القوى الاجتماعية والتاريخية صنع الحوادث، وإعلان هذه القوى «برامج» ولوائح مطالب ورغبات ومنازع، تبصرٌ بالحوادث ينفض عنها الغموض والتشابه، ويوكلها إلى البصيرة والعقل. ولكن الأمرين، التولي والإعلان، ينتزعان التحري عن علل الحوادث، ومصادرها ومآلاتها، من التكهن فيما لا يُدرك، ولا يبلغه التعليل، ويدعو احتجابه إلى الكهانة و «الكهنة». وعلى هذا، فقد يُنزل التحري عن العلل، والمصادر والمآلات، الحوادث الدنيوية و «العالمية» من الغيب إلى الشاهد، من غير ان يزيدها ذلك وضوحاً وجلاءً. فإرادات القوى الاجتماعية والتاريخية المتنازعة، والمولودة من «الثورة الديموقراطية» والزمنية المدنية على أنحاء ووجوه متفرقة ومختلفة، تتقنع بأقنعة قدرية (أي جبرية في المصطلح الكلامي والتراثي). وهي تنسب أفعالها، الجماعية و «الشعبية» ولو صدرت عن «إمام» قائد وملهم، إلى قصد وفعل إلهيين غيبيين. ولعل هذا يكني عن غموض الأفعال والحوادث التاريخية، على رغم زمنيتها ومدنيتها وعاميتها.
وإفضاء سياسة التأريخ والتذكر، وتدبرها وتعقلها، إلى مفاعيل سياسية وتأريخية كبيرة مثل الإسهام في إنشاء الاتحاد الأوروبي بعد تمهيد الطريق إليه والإقرار بالتبعات عن الانتهاكات الداخلية والإقليمية هو ثمرة «الثورة الديموقراطية» نفسها، ونضوجها وبلورتها هيئات تقر من غير مواربة بالانقسامات والمنازعات وضعف الهويات، على خلاف سياسة النسيان و «أقدارها» العامية والجماعية، «الإلهية»، وفي التاريخ الأوروبي الذي تقصى طوني جُودْت حوادثه ووقائعه بعد الحرب الثانية، وختم تقصيه بتأمله في سياستيه، شواهد كثيرة وقوية على أشباه ترجحنا (نحن اللبنانيين والفلسطينيين...) المزمن وأمثاله.
فالفصل الأول من هذا التاريخ يتناول فيما يتناول، البلدان التي خرجت من الحرب ممزقة ومتناحرة ومتعادية ومزعزعة على نحو لا ترجو معه لا سلماً ولا أمناً أهليين أو إقليميين، وبالأحرى ازدهاراً ورخاء. وسطا ستالين، الشيوعي السوفياتي، على عدد من هذه البلدان، ومعظمها قريب من «البلاد» الروسية وحزامها الإمبراطوري القريب. وبعضها قضى قربه الجغرافي من البلاد الروسية، وتوسطه بين غرب أوروبا وبين وسطها وشرقها، ووقوعه تالياً على طريق صد الاتحاد السوفياتي الغزو الألماني النازي ورده على أعقابه إلى قلب أوروبا الألماني قضى باستيلاء القوات السوفياتية عليه. فأفضت حقبة ما قبل الحرب، ومنازعاتها وخلافاتها، من طريق الحرب وانقلاباتها وانتهاكاتها، إلى حقبة ما بعد الحرب وثاراتها وعدوانها وفرضها الوقائع بالقوة والقهر. وفي غضون نيف و40 سنة، تصورت السياسة في صورة أقدار قاهرة «يقسمها» تاريخ فولاذي هو ثمرة صنع البشر، ومرآة توليهم الصنعَ هذا، وإحاطتهم بأسراره وخفاياه، وإنزالهم إياه من وراء الستر والغيب والكهانة إلى الأرض وصفحتها الجلية والواضحة.
وما صنعه البشر (البلدان والمجتمعات والدول) بعضهم في بعض لا ريب وقع على الضحايا وقوع الغاشية. فـ «التطهير العرقي» فشا في أنحاء ونواح كثيرة من أوروبا، وبلادها الشرقية والجنوبية على وجه الخصوص، وحمل البقية الباقية الضئيلة من اليهود البولنديين على ترك وطنهم في أعقاب مذابح كانت غاشية الحرب الرهيبة على البولنديين جميعاً، يهوداً وغير يهود. وغادر إيطاليون الأراضي اليوغوسلافية، حيث يقيمون منذ قرون، خوفاً من انتقام الصرب والكرواتيين «المتحدين». وهرب مئات الألوف من الأقليات القومية المحلية التي تعاونت على هذا القدر أو ذاك مع الألمان الفاتحين والمحتلين، في أعقاب القوات الألمانية المرتدة والمتراجعة. وكان في الهاربين مجريون من شمال ترانسلفانيا خافوا عودة أراضيهم إلى رومانيا، وأوكرانيون توقعوا انتقام السلطات السوفياتية. وكان نحو مليون بولندي، في أثناء الحرب والاحتلال الألماني، طردوا من أرضهم وبيوتهم في غرب أوكرانيا. وطرد نصف مليون أوكراني إلى الاتحاد السوفياتي.
وفي غضون 6 أشهر، خلت البلاد التي كانت ملتقى طوائف دينية كثيرة ولغات وجماعات أهلية، ومختلطها، من خليطها، وحلتها شعوب متجانسة أو أهلية (من أهل أو «عرق» واحد). فتخففت بلغاريا من 160 ألف تركي، و«أرجعتهم«، وهم ولدوا على أراضيها ويقيمون بها منذ اجيال ويتوالدون ويعملون، إلى تركيا. وبادلت تشيكوسلوفاكيا المجر 120 ألف سلوفاكي كانوا يقيمون بالمجر لقاء 120 ألف مجري يتحدرون من شمال حوض الدانوب ويقيمون بسلوفاكيا. وحل 400 ألف من سكان جنوب يوغوسلافيا محل 600 ألف ألماني وإيطالي كانوا ينزلون شمال البلاد ورحلوا حين انتهت الحرب، وانسحبت القوات الألمانية والإيطالية المحتلة من أراضي يوغوسلافيا. وحمل ملايين الألمان على الرحيل، جماعات، عن أوطانهم اليوغوسلافية والمجرية والتشيكوسلوفاكية والبولندية والبلطيقية والسوفياتية الغربية، والهرب إلى ألمانيا، «عقاباً» شعبياً وحكومياً على تواطئهم مع إخوتهم وبني قومهم وجلدتهم على أهل مواطنهم، وعلى استقوائهم بهم.
وماشت الدول الكبيرة، العظمى، أهواء الشعوب. فجارى البريطانيون رغبة التشيكيين في ترحيل ألمان السوديت، وتابع الروس والأميركيون البريطانيين والتشيكيين على أرادتهم ورغبتهم. وزف الرئيس التشيكوسلوفاكي بشرى حل «المسألة الألمانية في بلاد(ه)» على غرار «المسألة الكردية» أو «مسألة الأقليات الدينية» أو «المسألة الانعزالية» في بلاد غيره حلاً حاسماً، ولم يقل «نهائياً» أو «أخيراً»، «يلغي» المسألة، ويستأصلها «إلى الأبد»، على قول أصحاب الحلول الحاسمة في شرقنا. فطردت الدولة المؤتلفة من شعبين كبيرين، والمتحدرة من إحدى الديموقراطيات القليلة في وسط أوروبا «النمساوية»، 3 ملايين ألماني، في غضون 18 شهراً. ونجم عن الترحيل موت نحو 267 ألف نازح.
والتقى النازحون وهم في طريقهم إلى «وطن أم» هو بؤرة قومية عصبية فاتحة ومستولية وغاصبة، إخوة لهم في القومية المدمرة نازحين من بلدان أخرى قريبة: من المجر (623 ألفاً) ورومانيا (786 ألفاً) ويوغوسلافيا (500 ألفاً) وبولندا (1.3 مليون)، إلى ألمان نازحين من أراضٍ ألمانية شرقية استولت عليها موسكو وضمتها: سيليزيا وبروسيا الشرقية وبوميرانيا الشرقية وبراندبورغ الشرقية. واجتمعت روافد هؤلاء ببولندا، في طريقهم إلى ألمانيا. فأحصي 7 ملايين ألماني لجأوا من الشرق الأوروبي وهم يقصدون محجة الجرمانية، وبؤرتها وقلبها النابض. وأنجز ستالين وعده، أو وعيده الألمان، فرد بروسيا الشرقية إلى العرق السلافي الذي تتحدر الأرض منه، على زعم طاغية عموم الروسيا ومقسِّم مقاديرها ومقادير بلدان الجوار الشقيقة. ولاحظت مراسلة «نيويورك تايمز»، آن أوهير ماكورميك، في تشرين الأول 1946، أن ملابسات النزوح الهائل وغير المسبوق تجعله «جريمة في حق الإنسانية لا ريب في ان التاريخ لن يعدم جزاءها بقصاص فظيع«.
ويخالف طوني جُودْت تفاؤل المراسلة المعاصرة والمعولة على عدالة تاريخية تلقائية تنصف «المظلومين» من «المجرمين». فيلاحظ ان «التاريخ« لم يجز الجريمة بقصاص يكافئها. ولكنه، أي «التاريخ»، فعل خيراً من هذا. فاستقبل «المجتمع الألماني» 13 مليون نازح وطريد، ودمجهم في أبنيته ومرافقه وهيئاته. وكان هؤلاء شطراً من ألمان وغير ألمان، بولنديين ومجريين ورومانيين وأوكرانيين...، تواطأوا مع القوات المستولية وبيروقراطيتها على قتل أعداد غفيرة لا تقل عنهم، من اليهود ومواطنيهم في أوطانهم الكثيرة بين ألمانيا غرباً وغرب روسيا شرقاً والبلقان جنوباً. وعلى خلاف الدمج الألماني، استقبل الاتحاد السوفياتي «عائديه» ومعظمهم من الجنود الأسرى في معسكرات الجيش الألماني، ومن مواطني بلدان مثل جمهوريات البلطيق ضمها ستالين إلى إمبراطوريته، وهم عدوا 5.5 ملايين عائد في إحصاء 1953 استقبلهم بقتل واحد من خمسة منهم، أو بسجنهم في معسكرات الاعتقال والأعمال الشاقة، أو بنفيهم إلى سيبيريا، أو بعزلهم الاجتماعي والسياسي.
[الحرب الأهلية والعالمية
والحق ان أعمال الطرد والترحيل والتهجير والنفي، غداة نهاية المعارك الحربية، كانت من بعض وجوهها الفصل الأخير من حروب أهلية مزقت مجتمعات وسط أوروبا وشرقها غداة الحرب الأولى، وفي أثناء النصف الثاني من ثلاثينات القرن العشرين على وجه الخصوص. وحين أناخ الاحتلال الألماني والإيطالي والروسي بأثقاله على بلدان شرق أوروبا وجنوبها، وهي نهب لحروبها الداخلية، انحاز المحتلون إلى جماعة من الجماعات الأهلية المتقاتلة والمتناحرة، ونفخوا في اقتتالها واحترابها. وكانت ذريعتهم، حين يضطرون إلى إعلان ذريعة، هي تلك التي تتردد أصداؤها في جنبات المشرق العروبي، وتذهب إلى ان الفصل الجديد الإقليمي أو الدولي من الاقتتال ليس إلا تتمة حرب أهلية سابقة ومقيمة. فعندما دخل الألمان بلجيكا، وهي معترك نزاع اهلي بين جماعتي الوالون والفلامند اللغويتين و «العرقيتين»، اخرجوا الفلامند من المعتقلات واستبقوا الوالون.
ومزق الاستقطاب الأهلي، في ختام سنوات الاحتلال والحرب، فرنسا وإيطاليا اللتين تنامت فيهما مقاومة شعبية للاحتلال متأخرة. وفي كلا البلدين كانت مقاومة الاحتلال الألماني والنظامين المتعاونين، القومي المحافظ في فرنسا والفاشي في إيطاليا، وجهاً من الحرب الأهلية فيهما. وتأخر ظهور الحرب الأهلية إلى حين اشتداد ساعد المقاومة الداخلية، ومكافأتها المتعاونين عدداً وقوة. وتعمد الإيطاليون، بعد الحرب، التستر على وجه المقاومة هذا، تبرئة لها من الولوغ في انقسامات وعصبيات ضعيفة النسب والأود السياسيين. وأراد ديغول، الفرنسي، انتشال صورة فرنسا، الواحدة والمتكاتفة في الشدة والضرّاء، من تناحر الفرنسيين وميولهم و «حروبهم» الفئوية المزمنة (بين «الإكليركيين» والعلمانيين المتطرفين، وبين الملكيين «الرجعيين» والجمهوريين الأقحاح، وبين الطبقات القديمة و «الشعب«...).
وتوسلت الكتل الأهلية والقومية في بعض بلدان شرق أوروبا وجنوبها الشرقي بالاحتلال الألماني إلى إرساء كيانات قومية منفصلة ومستقلة. فأعلن السلوفاكيون والكرواتيون «دولتين» على حدة. وبسط ألمان بولندا سيطرتهم على سائر البولنديين مستظهرين بالاحتلال. وانتهز الأوكرانيون الفتح الألماني، وتذرعوا به إلى رفع لواء دولتهم. واقتتل الأنصار الأوكرانيون والأنصار البولنديون بغاليسيا الشرقية (البولندية) وأوكرانيا الغربية في حرب جمعت مناهضة النازية إلى مناهضة الشيوعية السوفياتية. واختلطت الحرب الإيديولوجية بالنزاع الأهلي (القومي والطائفي) وبالحركة الاستقلالية اختلاطاً ضيَّع معانيها جميعاً، وحال بين الأهالي وبين تبين هذه المعاني، على مثالنا «المشرقي» والعروبي السائر والمشهود.
وبلاد البلقان هي المسرح الذي تصورت فيه الحرب العالمية في صورة حرب (حروب) أهلية «ناصعة»، إذا جازت الصفة، وصفيقة المعاني. فقاتل الأنصار الصربيون والكرواتيون والبوسنيون المسلمون والمقدونيون والسلوفينيون الاحتلال الألماني والاحتلال الإيطالي، وانحاز بعض الأقوام إلى الاحتلال المزدوج، وقاتل بعض آخر الشيوعيين المحليين من قومهم ومن الأقوام الأخرى. فقتل أنتي بافليتش، الكرواتي ونصير الألمان وظهيرهم، فوق 200 ألف صربي ومن تطاولت إليهم يده من المسلمين. وقتل أنصار ميخايلوفيتش الملكيون، ومعظمهم من الصرب، الكروات والمسلمين. وانحاز مسلمو البوسنة إلى الألمان طلباً للحماية. وقاتل الشيوعيون، وراء تيتو، قوات ميخايلوفيتش الصربية، في الجبال والشعاب الوعرة، وأفنوهم، و «استولوا» على بلاد محتلة وجريحة، ويفتك الجوع في أهلها، على قول ميلوفان دجيلاس، مساعد تيتو قبل الانفضاض عنه. وانتهت حرب العمال والفلاحين على البورجوازية إلى حروب أهلية في الحروب الأهلية.
وإلى الجنوب، كانت «حرب» اليونان فصولاً من الاجتياح والاحتلال والمقاومة وعمليات التأديب والحرب الأهلية. فاقتتل الشيوعيون والملكيون، غداة «السلم» الدولي، 3 أعوام، 1946- 1949، اقتتالاً شرساً وباهظاً. وكان للقوات البريطانية دور مباشر راجح فيه، وللمساعدة «الأممية» السوفياتية دور فاعل وعبثي في آن: فمصير المقاومة الشيوعية الأهلية عُلقت على إرادة ستالين وحسابه، والإرادة والحساب هذان كانا رهن رأي الطاغية في يوغوسلافيا وحوادثها وفي مصير البلقان فوق ما كانا رهن «إنجاز» المقاومة نفسها. وقادت الحرب الأهلية، وهلي لابست حرباً استقلالية أو حرب تحرير وحرباً اجتماعية وإيديولوجية، قادت الحزب الشيوعي إلى إرهاب القرى، وتدمير طرق المواصلات، وشرذمة الأهالي عصبيات متناحرة، وتقويض المراتب الاجتماعية المحلية وأبنية المراتب وعلاقة بعضها ببعض وعلاقتها جميعاً بالدولة الوطنية.
فانجلت المعمعة العامة، وغاشيتها وعمايتها المظلمة، عن رسم اجتماعي برزت خطوطه تباعاً. ونهضت الجماعات الأهلية المحلية على أنقاض الأقليات القومية التي هُجرت، أو أثخن فيها القتل وكانت الأقليات هذه مصدر الطبقات المتوسطة، والمهن الحرة و «المثقفين» عموماً وحلت محلها. وفي أحيان كثيرة استولت على منازلها وأثاثها ومكاتبها ومحالها. وانقلبت أعمال القتل والتهجير والسطو، في مرآة حقبة ما بعد الحرب واستتباب الأمر «للطبقات» الأهلية الجديدة، أفعالاً وطنية، وسجلاً شريفاً من سجلات المقاومة البطولية. وغالباً ما بعثت القوات السوفياتية المحتلة أصحاب الثارات والعصبيات الأهلية والاجتماعية و «السياسية»، في البلدان التي حررتها من النازية، على الإمعان في ثاراتهم، وتحصيل ما يحسبونه حقوقاً بأيديهم. ودعتهم، مواربة أو صراحة، إلى ازدراء الإجراءات والطرق القانونية. فزكت أعمال التهجير والاحتلال والسطو التي كان الاحتلال الألماني ابتدأها، وتعهد معظمها، وأقرتها. وأشركت، من هذه الطريق، السكان وعموم الأهالي في ما ارتكبه الاحتلال الأول وتابعه عليه الاحتلال الثاني.
[«القضاء» الأمني والبوليسي
وهذا كله، وغيره مثله وشبهه، لم يحل لاحقاً بين الدول الأوروبية، وجماعاتها المستقرة فيها أو المنتشرة في نواحيها المختلطة، وبين الدخول في نظام إقليمي مستقر وقائم على المساواة والاستقلال والحقيقة، وموازنة سياسة النسيان بسياسة التأريخ والتذكر. ولا ريب في أن الأمر اقتضى عقوداً طويلة من إعمال السياسة الثانية في السياسة الأولى. وهو اقتضى، كذلك وعلى الخصوص، دوراً أميركياً، ديبلوماسياً واقتصادياً وعسكرياً، رائداً وراجحاً. ولولا الدور الأميركي هذا في إنهاض ألمانيا، وردها إلى مكانتها في قلب أوروبا ديموقراطية، وفي أَوْرَبَة الإعمار الأوروبي، وتجديد بناء دول القارة وحمايتها ولجم نزاعاتها السياسية لما نهض القطب الأوروبي الغربي وتماسك، ولما وسع مجتمعات وسط أوروبا وشرقها وجنوبها وبعض شمالها المشي على هدي مثال، و «العودة» إلى الحضن الأوروبي الذي سعت موسكو، القيصرية والإمبراطورية والشيوعية معاً، إلى إخراجها منه، ولا تزال تسعى في إضعافه وتصديعه على رغم حاجتها الماسة إليه.
ويلاحظ جُودْت التناظر المقلوب بين الدورين الأميركي والسوفياتي حين يقارن بين مجموع الهبات التي قدمتها الولايات المتحدة إلى أوروبا، في إطار خطة مارشال، وبين قيمة المصادرات والمنهوبات والتعويضات التي فرضها الاتحاد السوفياتي على البلدان المحررة والمستعبدة في آن. فبلغت استثمارات خطة مارشال (1949- 1952) العينية الإنتاجية في مرافق الإنتاج والتبادل الأوروبية، الغربية قسراً بموجب إرادة ستالينية همايونية، 14 مليار دولار. وبلغت قيمة ما جبته موسكو قهراً وتعسفاً، وفرضته على دول شرق أوروبا إما من طريق المصادرة والسطو وإما من طريق معاهدات واتفاقات تفضيلية على نحو فاحش في أعوام ما بعد الحرب إلى موت ستالين (1953)، نحو 14 مليار دولار. وبينما يممت مجتمعات غرب أوروبا، وبعض شمالها وبعض جنوبها، شطر التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المشهودة، دخلت مجتمعات شرق أوروبا، طوال عقود أربعة ونصف العقد، في غيبوبة لم تستفق منها إلا عشية تصدع السجن الروسي السوفياتي وسجانه «الفظ»، على قول الشاعرة اللبنانية.
والحروب المتشابكة والملتبس بعضها ببعض، على شاكلة حروبنا «المشرقية» المعاصرة والمتطاولة، ومترتباتها ونتائجها الاجتماعية والسياسية العميقة والباقية، لم تحجب وحدها وقائع التاريخ، ولم تحل وحدها دون تبين معاني الحوادث المتعاقبة. والاضطلاع بالمسؤوليات عنها، وإرساء المصالحات الوطنية والإقليمية على تبين المعاني والاضطلاع بالمسؤوليات. فأنشأ الاحتلال السوفياتي، المقنع والسافر، جهازاً قضائياً وأمنياً ودعوياً إيديولوجياً معاً، أسهم إسهاماً بالغاً في تحوير معاني الحوادث وتحريفها. ولم يقتصر الجهاز القضائي الأمني والدعوي على التحريف والتضليل الموضعيين، أي في القضايا والأفعال المقصودة مباشرة. فتطاولت آثاره إلى عموم التخاطب بين أهل المجتمعات، وإلى فهمهم بعضهم عن بعض و«كلهم» (المتصدع والمشرذم) عن المجتمعات الأخرى، «العدوة«.
وفي ختام تناوله لأبرز «المحاكمات» القضائية المزورة التي توسلت بها الاستخبارات السوفياتية إلى تزوير الانتخابات النيابية، وتشويه الحياة السياسية، وقتل المعارضين الوطنيين، والتمكين للاستيلاء الروسي وأدواته الحزبية المحلية بالمراوغة والقوة في بلغاريا وبولندا والمجر وتشيكوسلوفاكيا وشرق ألمانيا يرى طوني جُودْت ان أدوار «القضاء» الأمني والبوليسي السوفياتي لا تقل عن سبعة. فالدور الأول لمحاكمات تثير النعرات على «اليهود» و «الغرب» والعملاء «الكلاب» و «المنحطين» و «الحثالة» وهي نعوت سبق إليها «القضاءُ» الشيوعي «القضاءَ» الإيراني وزميله الإقليمي وصحيفة «الوطن» وموقع فيلكا ومحطة المنار وإذاعة النور وعلي عمار وميشال عون ووئام وهاب وناصر قنديل ومصطفى حمدان وجميل السيد... تسويغه من نفسه، وهو مماشاة الغرائز العدوانية، والميل معها. والدور الثاني هو تربية عامة و «شعبية» من طريق التمثيل على قوة السلطة المتعسفة ونفوذها، والدلالة على «المسؤولين» عن إخفاقاتها. وتتولى المحاكمات، ثالثاً، - وتقوم «المعطيات والقرائن» في حالنا مقامها «تعبئة الرأي العام البروليتاري» («الوطني») على الأعداء وذلك من طريق إماطة الستر عن «هوياتهم المستعارة» (على قول روبرت فوغلير، أحد المتهمين التشيكيين).
وأصحاب «الهويات المستعارة» يحمَّلون، رابعاً، اللوم على عثرات القوة المتسلطة. وتنفي المحاكمات الخلافات وجوازَها عن الحكام، خامساً. فالخلاف غير جائز في دوائر السلطة، ولا في المجتمع الذي تسيطر عليه. وما يراه سائر الناس وسوادهم خلافاً، أو رأياً، إنما يتستر على بدعة لا يجوز الاجتهاد فيها، والنقاد هم أعداء، والأخطاء جرائم. وجماع هذا هو «ثقافة الريبة». وتصدر هذه «الثقافة»، سادساً، عن قلق عميق وراسخ الجذور في شعور «شرقي» بالدونية بإزاء الغرب ونفوذه وغوايته وثرائه. ودور المحاكمات هو مداواة القلق، وتحقيق الارتياب، والإدانة المهينة ورد التهمة بأقبح منها. و «تستبق» المحاكمات، على قول خطيب الجماعة الأهلية والأمنية، سابعاً، حرباً لا يشك القاضي الأول، وهو الأمين العام (ستالين)، في حتمها. وهي جزء من الإعداد للحرب، تعبئة وتأليباً وتقسيماً وإرهاباً. فإطار القضاء الأمني والبوليسي هو حرب الجماعة المستولية والفاتحة والحاكمة (وقد تسمي نفسها، «معارضة») على «رعيتها» و«شعبها».

الجيوش الأهلية وبيوت المال والقضية القومية المركزية... تقوّض الدولة الوطنية و«تبربر» مجتمعها

المستقبل - ا31/10/2010
يفتتن أهل القلم والصحافة، وهم في الحالين واحد، بنعي الدولة (اللبنانية، من غير تردد ولا شك)، وزف بشائر تلاشيها وتقلصها وانقباضها الى «المواطنين». ويتوقعون ربما أن يهلل المواطنون المفترضون للخبر إما بإطلاق النار وقطع الطرق غير الآمنة، وإما بالدعوة الى ولائم تبدد فيها ثروات اقتضى جمعها أعواماً سماناً مصدر سمنتها تعاظم أسعار مواد أولية وخامات وتخمة مدخرات وصناديق في مهاجر قريبة أو بعيدة، أو في حواضر تنهض الى بسط سلطانها، ويدها، على مقلدي سننها ومعتقداتها والمائلين مع أهوائها و«برامجها». ويقيس أهل القلم والصحافة والرأي والتحليل ولو اقتصر هذا على نقل تقطيب حاجب أو ترديد تهديد، صِدقَ خبرهم في ميزان لا يخطئ هو إثبات الجماعات الخاصة، أو الأهلية، حقوقها: في التسلح، والسيطرة على ديراتها بسلاحها ورجالها، والتحكيم في خلافات الأهل بأعرافها و«قوانينها»، والامتناع من الجباية العامة ما وسعها، والانتحاء بمواصلاتها واتصالاتها ناحية على حدة، وإنشاء الأحلاف والعداوات على ما يحلو لها. وهذا، وغيره مثله، لا يستقر ولا يدوم ما لم تحصنه الجماعات الخاصة أو الأهلية بنسب معنوي (أو أدبي) ودموي مستقل، وبـ«ذاكرة» تصلها وتصل خبرها بمبتدأ صلة دقيقة ووثيقة لا تتسع لفرق قليل يتسلل منه خبر منحول أو شاهد زور. و«الشاهد» الأجنبي، ومن ليس ابن عم هو أجنبي على قول الجازية في «تغريبة بني هلال»، لا شك على الدوام أنه كاذب ومدخول ويحاذي الجنون، على مذهب عقلاء القوم وحكمائهم.
[حد الحدود
وإذا وقع قارئ صحيفة عربية على أخبار معظمها مرويٌّ عن وكالات أجنبية، نسباً وذرية وعرقاً طبعاً ولغة وبلاداً وديناً وهوى، قرأ أخباراً كاذبة، أو يفترض فيها الكذب، ولاحظ إجماعها على التعلق بالدولة، أو بتلاشيها وتقلصها وانقباضها. والأمران، المصدر الأجنبي وافتراض الدولة (والقياس عليها)، هما سبب قوي وراجح في توقع الكذب. فالأمين العام للأمم المتحدة، الكوري الجنوبي بان كي - مون، يحصي تقريره الثاني عشر في مصير القرار 1559 الذي مهد لجلاء القوات السورية عن لبنان وندد بدور قيادتها السياسية في قسر اللبنانيين على «اختيار» رئيس لا يريدونه وذكر ببنود اتفاق الطائف ونصه على حل الجماعات العسكرية والأمنية والأهلية... - يحصي ما أنجز من مواد القرار العتيد وما لم ينجز. وفي الباب الأخير ينبه أمين عام الهيئة الدولية الى أن حدود الدولة اللبنانية على الجهة السورية، وهي جنوبية وشرقية وشمالية، لا تزال مبهمة، ويعوزها الرسم الواضح. فلا يعرف اللبنانيون، وهم يقاتلون في سبيل استعادة بعض أراضيهم المحتلة، أيَّ أرض يحررونها تعود إليهم، وإلى دولتهم في حدودها الدولية، وأي أرض يقاتلون في سبيل تحريرها وتعود، حرة، الى جارهم العربي القريب والمتخفف من أعباء استعادة أرضه، على أصناف الأعباء الكثيرة (ولعل أثقلها الانقسام الداخلي على شن الحرب على العدو المحتل، وامتحان القوة الوطنية على احتمال مثل هذه الحرب. والأحمال الثقيلة هذه ينعم بها اللبنانيون).
والمنازعة على الحدود ورسمها تتصل بالحق في التصرف بالأراضي التي تحف الحدود. ففي بعض وديان البقاع الشرقي، وهي من الأراضي المتنازعة، «منشآت شبه عسكرية... أقامتها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين القيادة العامة وفتح الانتفاضة»، وينزلها مقاتلو المنظمتين، ويتصرفون فيها على هواهم. ويزعم الأمين العام أن المنشآت، وهي قواعد عسكرية، تزيد الأراضي الحدودية «تشعباً» و«تجزيئاً»، وتتحدى «سيطرة القوات المسلحة اللبنانية على الحدود»، وتعرقل ترسيم الحدود. ويلاحظ أن المنظمتين الفلسطينيتين العسكريتين والأمنيتين تشدهما «صلات إقليمية» الى سوريا. فيدعو سوريا، بديهة، الى «المساعدة» على حل المسألة. ولا ريب في أن الحدود البرية السائبة، من غير «إدارة» ولا «سيطرة» في لغة الهيئة الدولية، شأن المال السائب في المثل الأهلي أو الشعبي، تدعو الى «الحرام» وتحض على ارتكابه. وحرام السيادة («احتكار استخدام القوة في أنحاء البلد»، ومباشرة الحكومة الوطنية «السلطة الحصرية» على الأنحاء هذه وسكانها) المنتهك كثير: احتلال إسرائيل الجزء الشمالي من بلدة الغجر المختلطة (اللبنانية السورية) وأرضاً شمال الخط الأزرق، وطلعات الطيران الإسرائيلي وجوبه الأجواء اللبنانية، وبث إسرائيل شبكات التجسس في الأراضي اللبنانية والاتصالات والأجهزة وبعض المرافق.
والحرام الذي تنتهكه إسرائيل، شأن بعض الحرام الحدودي، خارجي، إذا صحت العبارة. وهو في متناول تشخيص وتعيين مرئيين وملموسين. والحرام الذي ينتهكه الداخل، وأشباه الداخل الملتبسة التباساً حميماً بخارج مقحَم على الداخل بالإكراه حيناً وبالاستمالة والانعطاف الرحمي أحياناً، هذا الحرام يدعو إليه شيوعُ السائب. فثمة «ميليشيات مسلحة لبنانية وغير لبنانية» يسكت التقرير عن تسميتها ثم يسميها. وثمة «حوادث مسلحة» لا ريب أنها من فعل «الميليشيات المسلحة» إياها، ويجيزها بلوغ السلاح المسلحين المنظمين في جيوش أهلية وخاصة هي الميليشيات العتيدة. ويدعو الأمين العام الى التسمية حادثةٌ هي «الأخطر»، جرت الى الاقتتال بالسلاح الثقيل، في منطقة برج أبو حيدر الآهلة بالسكان، «حزب الله» و«الأحباش»، على ما يسميهم التقرير. ويعطف التقرير الحادثة المعروفة والمشهودة على (إطلاق) النار والانفجارات في «وادي البقاع الشرقي» ومنظماته الفلسطينية المسلحة والحميمة العلاقة الإقليمية القريبة. ويعطفها على «أجزاء الأرض الحدودية»، اللبنانية السورية، السائبة والوعرة، وعلى «نقل الأسلحة غير المشروع عبر الحدود البرية» المشتركة وغير المعلمة ولا المرسومة.
واستعملت بعض المنظمات الأهلية والعسكرية اللبنانية سلاحها الأهلي والمهرَّب «عبر الحدود البرية» السائبة في منع القوة الموقتة للأمم المتحدة («اليونيفيل») من «الحركة الحرة في منطقة عملياتها»، جنوب نهر الليطاني «وبعض الحوادث كان خطيراً ويبدو، في جوهره، مصمماً ومتعمداً». والحوادث تترتب على وجود الجيوش الأهلية (وهذه، جنوب الليطاني، جيش أهلي واحد) ودوامها «خارج سيطرة الحكومة» وتفوّق قوتها ومواردها على «قدرات القوات المسلحة اللبنانية»، وعلى تسلحها من طريق التهريب، وضعف «تعاون الدول المجاورة» وإحجامها عن ترسيم الحدود. وينفرد الجيش الأهلي بـ«استراتيجية ردعية» ترمي الى ردع القوة العسكرية الإسرائيلية، على ما لا يخصص التقرير قصداً، على قدر ما ترمي الى ردع القوات المسلحة اللبنانية (الجيش) والجماعات الأهلية والسياسية الوطنية الأخرى والأرجح أن السكوت عن التخصيص مرده إلى حدّيْ الردع الداخليين هذين ويتواطأ الجيش الأهلي في شأنه الردعي مع «دول» مجاورة هي دولة واحدة، ومع دولة أخرى زار رئيسها محمود أحمدي نجاد قرىً من الجنوب تمثيلاً على «دعمه القوي» الحزب الأهلي المسلح.
ويتوسل الجيش الأهلي الى غرضه بـ«التكتم» على موارده، وبتعظيم «ترسانته»، معاً. والأمران يقتضيان منافسة «الحكومة» على ولاء المواطنين، والتغلب عليها، وشل جيشها، والحؤول دون التزامها عهودها الخارجية والداخلية، والتواطؤ مع الجوار عليها من وراء ظهرها. وفي السياق المسلح والأهلي نفسه أدى التكهن في قرار المحكمة الخاصة بلبنان المتوقع في قتلة رفيق الحريري المفترضين، أدى الى تعاظم «التوتر الداخلي»، وتردي «المناخ السياسي». وتضافرت زيارة الرئيس الإيراني، وآراؤه في «جبهة الشعوب» و«تغيير المعادلة في المنطقة» و«اقتلاع إسرائيل» وشق المحكمة الخاصة بلبنان اللبنانيين، على تفاقم التوتر والتردي.
[السيطرة الحصرية
والشطر الأخير من رصد التقرير الأممي أعراض الانقسام، والخروج على الدولة، لا يصرح به التقرير بل يكني عنه كناية من طريق سوق الحادثة وروايتها في أعقاب الحادثة السابقة. فتجيء رواية الحادثة اللاحقة، وهي زيارة أحمدي نجاد بعض قرى الجنوب وإعلانه آراءه، مجيء مصدق الحادثة السابقة، وهي الخلاف على المحكمة، وسندها ورافد حصادها المسموم. وعلى رغم هذا، أي إحصاء أعمال العنف وآلاته والأحوال الباعثة على الأعمال وتخزين الآلات، ينيط الأمين العام بـ«العملية السياسية في قيادة لبنانية» وفروعها هي اجتماعات الحوار الوطني ومناقشتها استراتيجية الدفاع الوطني وسلاح الميليشيات، وعمل حكومة الوحدة الوطنية اللبنانية، والتزامات الزعماء اللبنانيين في الدوحة، والحوار الوطني، والتقارب اللبناني السوري، والقمة الثلاثية، والانتخابات البلدية علاج «قيام الميليشيات خارج سيطرة الدولة وتهديدها «تطلعات لبنان الديموقراطية والسلام الأهلي(...) وسيادة لبنان واستقلاله السياسي(...) واحتكار الحكومة استخدام القوة المشروعة».
ولا يعدو تقرير الأمين العام للأمم المتحدة، و«كاتبه» مراقب إنفاذ قرار مجلس الأمن 1559، التذييل الظرفي والنسج التفصيلي على نواة التعريف الأوروبي «الحديث» للدولة. فذهب الألماني نوربرت إلياس، في كتابه «دينامية الغرب» (1939)، على خطى مواطنه ماكس فيبر، الى أن «سمة ما يسمى مجتمعاً حديثاً في غرب أوروبا على وجه التخصيص، هو مرتبة عالية وواضحة من الحصرية». فتُنتزع آلات الحرب والقتال من أيدي الأفراد والجماعات الأهلية أو الخاصة («الرعية»)، وتوقف على السلطة المركزية. وتقصر كذلك جباية الضرائب على المداخيل والممتلكات على «سلطة المجتمع». وتستعمل الموارد المالية المجتمعة من صناديق الحكم المركزي في الحفاظ على الاحتكار العسكري والأمني. وهذا بدوره يضمن الاحتكار المالي الضريبي. فالاحتكاران متلازمان، ولا يقوم واحدهما من دون الآخر، وهما وجهان من موقع حصري أو احتكاري واحد. وغاية الدينامية التاريخية هذه، أو السيرورة التاريخية، هي «تمكين جهاز سيطرة متماسك، على رغم فروقه واختصاصاته، من ضمان فاعلية الحصرية العسكرية والمالية وإرسائها على صورة هيئة أو مؤسسة ثابتة». فإذا استتب الأمر للجهاز هذا، تركت النزاعات والخلافات السياسية والاجتماعية السعي في إبطال حصرية السيطرة، وقصدت المسالك المفضية الى جهاز الحصرية الإداري، وإلى توزيع منافعه وأعماله واقتسامها.
ويفترض التعريف الغربي والحديث، وهو في الأثناء نصب ميزاناً عاماً أو أممياً حاكماً في هيئات دولية مثل منظمة الأمم المتحدة ومجلس أمنها وأمانتها العامة، شروطاً ومقدمات يصدم بسطها أو توضيحها مضمرات الثقافة أو الذهنية السياسية الشائعة في مجتمعاتنا (العربية، على معنى اللغة، وعلى معنى الأبنية الاجتماعية والسياسية الأهلية والعصبية). ومن شروط التعريف ومقدماته أن الدولة (الوطنية) جهاز سيطرة، وليست أسرة أو عشيرة أو أهلاً. ورأس الجهاز حاكم مسلحٌ وجابٍ وليس أباً يلم الأبناء والأحفاد تحت جناحيه. والجهاز الحاكم بلغ مكانته ومرتبته بعد منازعة أصحاب السلطان القوي من هم أضعف منهم، وأقل حيلة، على أسباب القوة وهي سببان أو مصدران أو موردان: السلاح والمال. ولم تبلغ المكانة المهيمنة من طريق الاستمالة و«التراضي». وهي لم تبلغ، ولم تستقر من غير منازع، إلا بعد أن استقل جهاز الهيمنة عن أصحاب السلطان المتغلبين أنفسهم، وجعلهم، هم وأولادهم وأحفادهم، أسوة بالمغلوبين في المنازعة على وظائفه وعوائده، وفي تداول هذه وتلك.
فما قدر المتغلبون على انتزاع السلاح من خصومهم، وحصره في أنفسهم وأقربائهم وأهل مذهبهم وحلفائهم، وقدروا على الاستحواذ على الجبايات وصرفها الى منافعهم ومصالح أنسبائهم وأصهارهم ومحازبيهم ما قدروا على الأمرين وهم محافظون على روابطهم الأهلية العصبية والخاصة ويستقوون بها، لم ينشأ جهاز سيطرة واحد، ولم يمتنع المغلوبون من القيام على جهاز السيطرة الأهلي والفئوي ومن إبطال حصريته. ولم يقصروا معارضتهم ومنازعتهم على المسالك الى جهاز السيطرة الحصرية. وأدى ذلك الى تسلحهم وقتالهم، وإلى جبايتهم المال من «بيته» الشرعي، أو من خزائن «الأنصار». واستوى المتغلبون الموقتون والمغلوبون الموقتون، في ميزان الدولة ومشروعيتها، واحداً. فالجماعتان أهل. ولا يقدح في أهليتهما تربع بعض الأهل في قمة السلطة، المسلحة والمالية، بعد إضعافه منازعيه، ومصادرتهم على موارد القوة المادية والمعنوية، على ما يسعى قوميو الأهل ومتدينوهم ومذهبيوهم.
ويقتضي إرساء السيطرة وجهازِها العام والمشترك (غير الأهلي ولا الفئوي)، أي إرساء الدولة على مثالها الغربي والحديث، انتزاع دواعي العنف الأهلي والخاص من طريق الاستحواذ الحصري على آلاته وسلاحه، من طريق إرساء حصرية السلطة على جهاز أو مؤسسات وهيئات مشرَّعة المداخل على الجماعات المتنازعة والمتفرقة. والاقتصار على احتكار آلات العنف، والتربع في قمة جهاز القمع والقهر والمصادرة المغلق في وجه الجماعات المتنازعة وأفرادها، يفضيان الى تغذية العنف، ويبطلان مشروعية السيطرة ويرسيانها على ميزان قوى قائم وظرفي.
[التمدين والتهذيب
والحق أن للسيطرة على العنف الخاص والأهلي وإطفاء مصادره وجهين، ليس إنشاء جهاز السيطرة الحصري أولهما وقتاً وزمناً، على زعم نوربرت إلياس. فالفصل الأول، أو المرحلة الأولى من إطفاء مصادر العنف الخاص والأهلي، وذلك قبل «جمع» السلاح من الأفراد والجماعات الأهلية وحظر تسليحها وتعبئتها المسلحين في جيوش خاصة تمولها بيوتُ مال وصناديق متفرقة، الفصل الأول هو ما يسميه إلياس «تمدْين العادات والسنن»، أو حملها على المدنية. وهذا، التمدين أو الحمل على المدنية، سيرورة طويلة يبتدئ الباحث الألماني بها الوجه الأول، الاجتماعي النفسي، من التأريخ للدولة (والتأريخ السياسي والجهازي هو موضوع «دينامية الغرب»، وهو الوجه الثاني). فالدولة، على المعنى الغربي والحديث السائد والمراد في المقالات المعاصرة، هذه الدولة لا تستقر على المعنى هذا، وعلى الأدوار المترتبة عليه والمنوطة به، إلا إذا تولت، وتولى «مجتمعها» قبلها، تهذيب عاداته وسننه. فكبت أفرادُه فورة مشاعرهم وميولهم التلقائية و«الفطرية»، المتخلفة عن سنن اجتماع عصبي يميل مع الجماعة، ويتوق الى الذوبان فيها ويقدم كتلتها المرصوصة على رغبات الأفراد وحريتهم وإرادتهم واستقلالهم بأنفسهم وقيامهم بها.
وسبيل التمدين، على مثاله الغربي، هو تفريق الأفراد والآحاد، وفرط لحماتهم العصبية الجامعة والموروثة من قراباتهم الدموية والنسبية («الآباد والأجداد» في وثيقة الجماعة الأهلية المسلحة)، ومن جوارهم وإقامتهم و«دين آبائهم». وسبيل التمدين هذا هو سبيل أو سيرورة إنشائهم افراداً، وعلى صورة أفرادٍ آحادٍ، أو «ذرات» (تُفترض) منفصلة، وينجم اجتماعها الى غيرها من الأفراد الآحاد عن عقد حر وإرادي (يفضي، في نهاية المطاف، الى تعريف الأمة السياسية بـ«استفتاء كل يوم»، على قول إرنست رينان الفرنسي). وسيرورة التمدين تتولى تفتيت الجماعات المتماسكة بالقرابة الدموية والمصاهرة والإقامة والحيازة والعداوة والعملُ والمعتقد، وبهوية تدمج العوامل هذه كلها في رواية تصل مطلع «نشيد الخلود» و«قصيدته» بختامها، على قول محمد مهدي الجواهري في رثاء الحسين بن علي. وينبه تأريخ نوربرت إلياس الاجتماعي والنفسي الى أن الهوية الوطنية الجامعة والمشتركة، أو لحمة المواطنين في دولة وطنية (دولة أمة)، ليست تتويجاً مباشراً لهويات أهلية قرابية ومحلية واعتقادية مذهبية، نسميها «طائفية» استعجالاً واختصاراً - ، وإنما هي ثمرة مركبة تلي انفراط لحمة الجماعات، وتصدع هذه وتذررها «ذرات» أو أفراداً «راشدين» يحكمون في الأمور برأيهم وفهمهم وعقلهم. ويزيد تأريخ إلياس النفسي والاجتماعي: ويحكمون في العادات والسنن والأفعال بـ«أجسادهم» المنفصلة، وبرغباتها وميولها التي تأدبوا بأدب كبتها وقهرها ومراقبة انفعالاتها الظاهرة ولجم عنفها التلقائي.
وفي ضوء التأريخ النفسي الاجتماعي هذا، وتنبيهه على شرط انفراد الجماعات الأهلية وتذررها أفراداً «قبل» استواء اللحمة الوطنية المشتركة لحمة جامعة، تبدو مراثي اللبنانيين و«العرب» العروبية والمتسلطة في اندثار الرابطة الوطنية أو «القومية» في لبنان والعراق والأردن وإيران «الحركة الخضراء»... مراوغة واحتيالاً. فأصحاب المراثي يصدرون في مراثيهم عن جماعاتهم العصبية، وميولهم وأهوائهم «الفطرية» وتخلقهم بأخلاق جماعاتهم وتطبعهم بطباعها. وتدعوهم هذه، الجماعات العصبية وميولها وأهواؤها، الى التسلح المستقل، المادي والمعنوي (التسلح بالهوية الأهلية المنفصلة)، وإلى شهر السلاح على هيئات الدولة ومرافقها وإداراتها، وعلى الجماعات الأهلية والوطنية الأخرى. وتقاتل الجماعات الأهلية المسلحة الأعداء المحتلين وهم عدو واحد على زعمها قتالاً عصبياً وأهلياً تقصره على نفسها وعلى «نظائرها» ولاءً ولحمات عصبية، وتقصي عنه الجماعات الأخرى. وذلك بإعمال العنف والقتل والاغتيال والترهيب والمصادرة (على ما يشهد تاريخ علاقة «المقاومة الإسلامية» بـ»المقاومة الوطنية اللبنانية» وبـ«أمل»، ويشهد تاريخ علاقة «القاعدة» العراقية بالجماعات المسلحة المحلية، وتاريخ علاقة الجماعة الحوثية اليمنية بـ«الشباب المؤمن»...) في الجماعات المنافسة على «التحرير» وعلى الحكم معاً، وعلى التحرير سبيلاً الى الحكم والسلطة معاً، ومن غير اقتسام.
وحين يستوقف اقتتال «حزب الله» و«الأحباش» («المشاريعيين») بالسلاح الثقيل في ديرة أو ميدان برج أبي حيدر وفروعه وامتداداته الأبعد فالأبعد: البسطة الفوقا والنويري والمصيطبة ورأس النبع وبربور والمزرعة والبربير الى الطريق الجديدة والمخيمات الفلسطينية القريبة أمين عام الأمم المتحدة بان كي - مون فهو يقيم بل يوجب رابطاً وثيقاً بين حرب الجيوش الأهلية المسلحة والأمنية على العدو المحتل وبين منازعات الأفراد (الخلاف على موقف سيارة، على ما قيل) و«المنظمات» المتعصبة (أهل الشيعة وأهل السنة، أهل بيروت وأهل «الجنوب»، الأصليون والطارئون...). وتنكر الجيوش الأهلية المسلحة والأمنية الرابط هذا، وتنفيه، وتندد بمن يوجبه أو يقيمه.
فذهب بيان «حزب الله» ورده في 20 تشرين الأول على تقرير بان كي - مون وتيري رود لارسن الى أن التقرير يغفل عن أن «الحزب»، أي الجيش الأهلي، هو «منذ زمن بعيد، في صلب المعادلة السياسية اللبنانية من خلال وجوده في البرلمان وفي الحكومة». وعلى هذا، فالحزب الأهلي المسلح هو «من» الدولة («المعادلة السياسية» في الرطانة السائرة)، ويباشر «الحق في المقاومة» بوكالته عن «اللبنانيين»، وعن «الحكومة» (وهذه تكني عن الدولة، المصطلح المستبعد وغير المستحب والممتنع على كتاب «الأمة القلقة» وألسنتها). وإذا نبه أمين عام الهيئة الدولية الى تلازم قتال العدو، حين تتولاه جماعة عصبية مسلحة، واقتتال الجماعات الأهلية الوطنية أو اللبنانية (والعراقية والفلسطينية والسورية والأردنية...)، لم يشك أصحاب البيان في صفة التنبيه «الكيانية الصهيونية». ولا شكوا تالياً في انحيازه الى «الكيان الصهيوني» على «أسطول الحرية» والأسرى الفلسطينيين، في معتقلات الاحتلال الصهيوني، وتواطئه على «حصار» أكثر من مليون ونصف مليون مواطن فلسطيني محاصرين في غزة «حتى الموت جوعاً» ومليون ونصف مليون مواطن فلسطيني «آخرين مهددين بالطرد من أرض آبائهم وأجدادهم في الأراضي المحتلة عام 1948 من خلال السعي لإقرار مبدأ يهودية الدولة الصهيونية العنصرية»...
ويقتضي التسليم بمكانة السلاح الأهلي والخاص أو صفته السياسية والوطنية، والقومية والإسلامية استتباعاً، إما الإغضاء عن المنازعات الأهلية والفردية التي يجر إليها السلاح هذا والمنافسة على عوائده وريوعه، وإما احتساب المنازعات وضحاياها في كلفة «مقاومة» الاستكبار والاستعمار والغرب وشياطينه و«ثقافته التلمودية» على ما كان يُقال. والحق أن التخيير بين الإفضاء وبين الاحتساب نظري وصوري. فالجمع بين الرأيين والتنقل بين الرأي والرأي متاحان. والالتجاء الى ساحات «المظالم« العربية والإسلامية، وافتراضها ساحة واحدة ومتصلة، على كثرة الدول والجماعات (الشعوب) الوطنية التي تتولاها، والاحتجاج بها على الطعن الدولي والأممي في العنف الأهلي الناجم عن التسلح العصبي هذه كلها (الالتجاء...) توسع نطاق العنف والقتال والاقتتال الى أطراف قصية هي أطراف الأمة القومية أو الدينية المفترضة. وغالباً ما يحصى غزو الجيوش الأميركية والغربية العراق، بعد أفغانستان، وتهديد إيران النووية، في مسح ميدان المعركة العريض والمترامي.
[السلطنة
ولما كانت الجيوش الأهلية والعصبية تقاتل عدواً واحداً أو مشتركاً، معظمه مقنع بأقنعة وطنية وأهلية منافسة، وذلك في ميدان متصل المسارح والساحات ويتستر العدو على اتصاله ووحدته، ترتب على هذا تكاثر بواعث العنف، ودواعي انتهاك التمدين. ويلاحظ صاحب «دينامية الغرب» أن اتساع ميدان المنافسة بين الجيوش الأهلية والخاصة يؤدي الى تأخير الحسم وبروز جهاز السيطرة الحصري والمشترك. وكان فريدريش انغلز لاحظ أن الحروب في نطاق امبراطوري مركب، على شاكلة الامبراطورية الجرمانية المقدسة (امبراطورية شارلمان وخالفيه)، وكثير البؤر الأهلية، هذه الحرب تصرف العنف الى الخارج، وتحول دون إعماله في تصديع الأبنية الأهلية، وفرط مُسكاتها ولحماتها، والتمهيد لاتصال الأجزاء الوطنية في دولة تنهض على مواطنين وليس على رعية أو رعايا، ولا على «حكومة وحدة وطنية» تقوم على حق النقض، أو برلمان يتولى رئيسه تعطيله وشله والإزراء به، أو على «معادلة سياسية» يتربص بها الاجتياح المسلح. ولا يزال سراب «المثال» الألماني، شأن سراب «المثال» الروسي والسوفياتي، يداعب مخيلة قيادات عربية و«غزاة» وشاهات وخانات غير عرب.
واستقوى التسلح الأهلي، وشقُّ جهاز السيطرة الحصري الوطني والضعيف، بتجدد المسألة الفلسطينية في 1967، وخروج المنظمات الفلسطينية المسلحة من مخيمات اللجوء، وخوضها المنازعات السياسية والأهلية الوطنية والمحلية في صف المعارضات. فعزز الأمران، التسلح وانقسام جهاز السيطرة، النزعات والحركات الأهلية، العصبية والعامية («الشعبية» أو الجماهيرية)، من وجه أول. وحملا الكتل والحركات الأهلية، من وجه ثان لازَمَ الوجهَ الأول، على الانخراط في سياق عروبي سلطاني أو امبراطوري. وقدم السياق الصراع الإقليمي و«القومي» المفترض، وخليطه المتشابك والمُعَمّي، وإطاره على أطر المنازعات الوطنية، وعلى إواليات تعريفها وسوسها.
ونفخ تقديمُ الصراع الإقليمي على المنازعات الوطنية في المنافسة المختلطة والمتشابكة على قيادة السياق العروبي السلطاني. وأجج السياق العروبي السلطاني المنازعات الأهلية المسلحة في الدول، وبين الدول، وأدخلها في صلب الحروب والخلافات الإقليمية، وسوغ سوسها وتدبيرها على المثال الأهلي المسلح. وهو مثال يعول على الاستدخال واصطناع الموالي وتسليحهم والرشوة و«قلب الجبهات» وتعليق الحسم وابتذال القضايا الكبيرة (مثل «العلمانية»). وهذه عوامل نكوص عن تمدين العادات والسنن وعن تهذيبها. ولعل نصب «المسألة الفلسطينية» على رأس المسائل السياسية الأخرى كلها، وعلى صورتها الصوفية الجامعة والمنفلتة من التعيين، إنجاز بارز من إنجازات البنية السلطانية وإنشائها السياسة «العربية» على مثال اللبننة وقبلها الأردنة والفلسطنة وبعدها العرقنة وغيرها... على ما قيل في بعض الأوقات ويُقال.
فاستقرت في معاملات المجتمعات اليومية رسوم عنف أو قسر أهلي وخاص تنتهك حصرية عنف السلطة المشروع. وإذا كان تعلق «حرب» برج أبو حيدر بين «جيش» «حزب الله» وبين «جيش» «الأحباش» بتسلح الجماعات المذهبية وأدوارها الإقليمية، واضحاً وملموساً، على ما نبه تقرير أمين عام الأمم المتحدة الدوري في القرار 1559، فأصداء التسلح الأهلي وتردداته اليومية، ونتائج منازعاته الدولة على إنفاذ «قوانين» المسلحين وإراداتهم، لا تحصى. فيوم إذاعة تقرير بان كي - مون ( 18 تشرين الأول، صحف 19)، روى تقرير أمني، فيما روى، أن دورية قوى أمن داخلي أرادت إزالة خيمة قرميد استحدثها أحدهم (ح.ع.) عنوة ببئر حسن لم تجزها البلدية، وينتفع منها الرجل. فتجمع «عشرات الأشخاص»، وأحاطوا الدورية، وحالوا بينها وبين إنفاذها مهمتها، واضطروها الى الانسحاب. وتشبه هذه الواقعة عشرات الوقائع الأخرى. وأدى تواترها وشمولها دوائر كثيرة من المعاملات مثل الكهرباء («التعليق» أو السرقة) والمياه والبناء «على أراضي الغير» عنوة والتعدي على الأملاك العامة وإقامة مواقف سيارات خاصة وبيع بضائع وسلع مهربة أو منحولة وإقامة مرافئ خاصة...، إلى «تخطيط» مدني عشوائي صبغ إنشاء المدينة بصبغته وصبغة كتله الأهلية. واضطلع التواتر هذا بدور راجح في تجديد القيام على قوى الأمن والجيش: غداة 1982 1983، وطوال سنوات الاضطراب التالية و«حروب» «أمل» و«حزب الله» الفلسطينية والأهلية، ثم في 2002 (على رفيق الحريري) وغداة حرب صيف 2006 مباشرة... وسبق هذه الفصول كلها إجلاء الجماعات المسيحية النازلة في ظواهر بيروت وبين سفوح الجبل وبينها، وحملها على الهجرة والهرب والالتجاء إلى كتلها الكبيرة.
ويروي خبر آخر، في اليوم نفسه، أن رئيس مصلحة تسجيل السيارات بالتكليف ألغى امتحانات رخص السَّوْق (أو السواقة) في عاليه والأوزاعي وجونيه، وحصرها بالدكوانة. ودعا الموظف الإداري والأمني الى قراره هذا تولي بعض فروع المصلحة إعفاء ثلثي المتقدمين الى رخص السوق من الفحص والامتحان العمليين، وتيسير الفحص الإلكتروني عليهم. وعلى هذا، تستبيح اللجنة الترخيص بسوق السيارات لمن لم يتدربوا، ولم يؤهلوا. والاستباحة تستجيب رغبات مكاتب تعليم السوق وأصحابها. وهؤلاء يضمنون سلفاً لطالبي الرخصة، لقاء مبلغ «مقطوع»، الرخصة الموعودة. وإذا عمدت مصلحة تسجيل السيارات الى التزام شروط الترخيص، ندد أصحاب مكاتب «التعليم» بقطع المصلحة أرزاقهم، واعتصموا دفاعاً عن خبزهم. ولا يبعد ان يقطعوا الطرق تحت لواء حقهم «الشرعي» في الخبز، وأن يتبرع أهلهم المسلحون برد قوى الأمن على أعقابها، وتذكيرها بالشاي الذي أشرَبَه ضابط إحدى الثكن الحدودية، غداة وقف الأعمال القتالية في آب 2006، ضباطاً إسرائيليين (يفترض أن «المقاومة» هزمتهم ومنعتهم من وطء ذرة واحدة من تراب الجنوب...).
وتعطيل إجراءات السلامة العامة وهي قد تفضي في حال سير السيارات الى القتل الذريع على الطرق، وتفضي في حال البناء من غير ترخيص الى انهيار الأبنية على ساكنيها بالقوة الأهلية المسلحة، يطلق العنان للتسلح، ويبيح للمسلحين تحصيل أسباب كسب و«جباية» خاصة أو ريعية. وذلك من وجوه تعطل المساواة بين المواطنين، وتقدم بعضهم على بعض، وتدعو ضعفاءهم الى الالتحاق بأقويائهم، والانخراط في صفوف أتباعهم وأنصارهم، والتكسب من مالهم ومرافقهم وبيوت «عطائهم»، والقتال في جيوشهم الخاصة. ولا يسع جهاز سيطرة حصري، يلجم المنافسة داخله ويقيدها بقواعد عامة، الاستواء والتماسك. والدعوة المشهورة والقديمة: «اعملوا دولة قبل أن تطالبونا بالانضمام إليها»، هي ثمرة شيوع الجيوش الأهلية والخاصة وشرط دوامها.