الأربعاء، 28 أكتوبر 2009

استيلاء «الحرس الثوري» على الدولة في ايران يزج بها في منطق امبراطوري متصلب


الحياة 27 /10/ 2009
ضمَّنت الحركة البلوشية، «جند الله»، عمليتها الإرهابية الأخيرة، في 18 تشرين الأول (أوكتوبر)، بإيران «رسالة» سياسية تتصل بأحوال إيران العامة، الداخلية والخارجية. ففي أعقاب 5 أشهر على عملية المسجد الشيعي بزاهدان، في 28 أيار (مايو) من العام الجاري، وهي قتلت نحو 30 مصلياً من الجمهور، اختار الانتحاري البلوشي عبدالوهاب محمدي ساراواني تجمعاً لقادة الحرس الثوري والباسيج (الأمن «الشعبي») ورؤساء عشائر محليين، من السنّة البلوش والشيعة، وأودى بنفسه وبعشرات من هؤلاء. والذين قتلهم الانتحاري البلوشي اختارهم، أو اختارتهم قيادة «جند الله» التي يتربع عبدالمالك ريغي في مشيختها وقيادتها. فغداة الانتخابات الرئاسية في الوقت الفاصل بين عمل مسجد زاهدان الإرهابي وبين العملية الانتحارية في مدينة بيشين، أوكلت الحكومة الإيرانية الى الحرس الثوري إدارة محافظة سيستان - بلوشستان وحكمها مباشرة.
وعسكرة الإدارة المدنية الحكومية في المحافظة الحدودية، المتاخمة بلدين خطرين هما باكستان وأفغانستان المضطربتان،جزء من بسط الحرس الثوري نفوذه المحلي، بعد خروجه «منتصراً» من المعركة الرئاسية التي خاضها على النحو الذي خاضها عليه، تهديداً وترهيباً وانتهاكاً وتزويراً. ومشاركة عدد من أعلى ضباط الحرس رتبة، على الصعيدين الإيراني الوطني والمحلي، في مصالحة مذهبية، أهلية وعشائرية، قرينة على الدور الجديد الذي يضطلع به ضباط الباسدران في الإدارة المحلية والمدنية. وقرينة أخرى، أمنية وقبيحة على دور الحرس في المحافظة الحدودية، هي عدد القتلى المحليين الذي خلفه تدخل الإدارة الحرسية فيها. ففي البيان الذي أذاعه موقع «إسلامي» غداة العمل الإرهابي، أحصى «جند الله»، في أثناء العام الجاري، مقتل «مئات من شباب محافظة (سيستان - بلوشستان) في غارات أو تحت التعذيب أو إعداماً». و «جريمة» مئات القتلى هؤلاء هي «أنهم من السنّة والبلوش»، على قول البيان، والاغتيال والإعدام والتعذيب من وسائل الجهاز الأمني الأثيرة.
ويتولى الحرس في المحافظة السنية، الى مهمات «سياسية» وإدارية وأمنية، مهمات اقتصادية. ففي أثناء تعزيته أهالي الضحايا ذهب علي لاريجاني، رئيس مجلس الشورى ومنافس محمود أحمدي نجاد سابقاً وشقيق رئيس السلطة القضائية الجديد الذي ناصر السلطة الحرسية النجادية بعد تحفظ قصير، ذهب الى أن «هدف الإرهابيين الإخلال بالأمن والاستقرار» في المحافظة الشرقية الجنوبية. وهذا لهجت به ألسنة القيادات الحرسية والسياسية كلها. ولكن لاريجاني زاد على التعليق الشائع ملاحظة انفرد بها، فقال: «وهذا يدل على انهم لا يريدون أن تتطور المحافظة على الصعيد الاقتصادي». وخلص من هذا الى أن «الحرس الثوري سيرد، ويفرض الأمن في المنطقة بقوة أكبر من القوة السابقة». ويكاد يكون تصريح رئيس مجلس الشورى «وشاية» مزدوجة، أمنية واقتصادية. وتولي الحرس الثوري، وهو قوة عسكرية وأمنية استخباراتية وسياسية حاكمة، وظيفة اقتصادية في محافظة تقطنها أقلية قومية ومذهبية مقهورة وفقيرة، وهي باب واسع من أبواب تهريب المخدرات من البلدين الجارين المضطربين، قد يكون التولي هذا إجراءً يعظِّم ثقل الحرس في السيطرة على المحافظة وأهلها، ويجمع في يده مقاليد الأمر كلها. ويتفق هذا وتعاظم ثقل الحرس الاقتصادي على صعيد إيران كلها، ووضع يده على مرافق وموارد عامة أهمها مناقصات القطاع العقاري والبناء والمنشآت والنقل، الى قطاع الصناعات الحربية.
وحال وقوع العملية الإرهابية لم يتستر الحرس الثوري على صدارته الأمنية والديبلوماسية السياسية. فأذاعت وزارة الداخلية الخبر، واقتصرت على وصف الحادثة، وإحصاء عدد الضحايا، ووعدت بالقبض على «منفذي العمل الإرهابي». ولم يذهب الرئيس الإيراني نفسه أبعد من تقرير وزارة الداخلية. فطلب الى «السلطات الإيرانية (...) ضبط المسؤولين عن الهجوم ومعاقبتهم (على ارتكابهم) جرائم في حق الإنسانية». واعتدال أحمدي نجاد الحقوقي والقانوني مدعاة دهشة. ففي الأثناء كان الحرس الثوري يذيع بياناً ينسب الى «قوى الاستكبار العالمية»، أي الولايات المتحدة وبريطانيا، «تحريض عملائها» على المقتلة. وثنَّت قيادة القوات المسلحة، فحمَّلت «إرهابيين يساندهم الشيطان الأكبر أميركا وحليفتها بريطانيا»، بالاسم، المسؤولية عن الواقعة. واقتفى «السياسيون» آثار البيانين العسكريين. فسمى علاء الدين بُروجردي، رئيس لجنة الشؤون الخارجية الشوروية النافذ، الولايات المتحدة. و «اعتدل» علي لاريجاني، رئيس مجلس الشورى، فاقتصر على تحميل «نتيجة أعمال الولايات المتحدة» التبعة. وانتهز الفرصة ليزين كلامه بصورة خطابية حاسمة، فقال: «أوباما قال إنه يرغب في مد يده الى إيران، وها هو يحرقها في العمل الإرهابي هذا».
وغفل قادة إيران الحرسيون، ورجالها السياسيون، في نشوة انتقامهم اللفظي من «الشياطين» التقليديين، والتنديد بهم، عن محل التهمة الأول والبارز، وهو الجار الباكستاني، على وجوهِ جوارهِ الكثيرة، الجغرافية والمذهبية والقومية والأمنية الاستخبارية. فلم ينتبهوا الى مترتبات الجوار الكثيرة، وذرائعه، إلا تالي يوم العمل الإرهابي. ودار على مستوى الرئيسين، الباكستاني والإيراني، حوار حاكى «الحوار» السوري - العراقي غداة «الأربعاء الأسود» ببغداد في 19 آب (أغسطس)، وقبل «الأحد الأسود» في 25 تشرين الأول. فقال أحمدي نجاد ان «إقامة عناصر إرهابية معادية لإيران بباكستان لا مسوغ له ولا مبرر». وشأن نوري المالكي، طالب الرئيس الإيراني زميله الباكساني باسترداد البلوش الإيرانيين المقيمين بباكستان. وسكت أحمدي نجاد عن أفغانستان، وعن طالبان وزيرستان وقندهار الذين جردت عليهم إسلام آباد قبل يوم واحد حملتها الكبيرة والحاسمة. وبدا، في اليوم الثاني على الهجوم الانتحاري، أن سفير باكستان بطهران لم يعد الى سفارته منذ ان اضطر الى تركها، ومغادرة طهران الى بلاده، غداة جريمة زاهدان ومسجدها في 28 أيار. وآذن هذا طبعاً بالشك في مسؤولية «عناصر» باكستانية.
ولكن قادة الحرس، على مراتبهم، وأنصارهم المباشرين من الساسة، عوضوا الغفلة عن إسلام آباد في اليوم الأول، فزعموا، على شاكلة محمد علي جعفري، جنرالهم العام، أن في حوزتهم «وثائق» تثبت تنسيقاً بين «جند الله» وبين أجهزة استخبارات أميركية وبريطانية وباكستانية. ووعد بإرسال «أدلة» على مسؤولية عبدالمالك ريغي، قائد «جند الله»، عن الهجوم. وهو قال لتوه انه يملك «وثائق» تدين من هم وراء ريغي وفوقه. فإذا به يتواضع في الجزء التالي من مهمته، ويقصر «أدلته» على الرجل الذي أعلنت منظمته فور ارتكابها المقتلة مسؤوليتها عنها. وكرر قائد قوات الحرس البري، محمد باكبور (وهو خسر نائبه في التفجير الانتحاري، الجنرال شوشتري)، تهمة قائده العام. وأضاف إشارة سياسية لم يسبقه أحد اليها، ولم يكررها أحد بعده. فقال ان «أعداء الجمهورية الإسلامية الإيرانية لا يمكنهم قبول الوحدة في البلاد». وهذا تعليق أو ذيل على الانتخابات الرئاسية التي شقت الإيرانيين وفرَّقتهم، وقسمتهم على دور الباسدران، واستيلائهم على الجمهورية، واستتباعهم المرشد «الفقيه». فتوسل القائد الحرسي بالمجزرة التي أصابت سلكه العسكري والأمني الى تنصيب السلك ولياً على الإيرانيين الذين قسمهم سلكه.
وعقّب بيجان فروزشي، نائب سيستان - بلوشستان في مجلس الشورى، على تلويح باكبور بـ «رد ساحق قاس ومدمر» على المنظمة البلوشية المذهبية والقومية الإرهابية. فزعم انعقاد «إجماع» على تولي قوات الحرس الثوري والباسيج الرد هذا، وعلى «إجراء عمليات (الرد) في الأراضي الباكستانية». ويتخطى التصريح المرتجل والمهوِّل «صلاحيات» وزراء الخارجية والحرب (الدفاع) والاستخبارات والأمن القومي، الى «صلاحيات» رئيسهم وهو رئيس الجمهورية، في نظام تختلط فيه الصلاحيات اختلاطاً ذريعاً. ويسع فروزش قول ما قال، وتوريط النظام في مزاعم ونوايا وخطط تصمه بالخفة في أحسن الأحوال وبالعدوانية الخطرة في شرها، بينما الوزراء ساكتون. وبعضهم منشغل بمفاوضات فيينا في رعاية الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وحفز سكوت السياسيين المفترضين، وهم ظهروا في المناسبة موظفين في مراتب ثانوية يتولى مراتبها الأولى لفيف ضباط وقادة أجهزة لا يُسألون، حفز الضباط على الكلام على المثال غير المسؤول نفسه.
فتوالى على الكلام قائد القوات المسلحة حسن فيروزآبادي، وقائد «قوة القدس» في الحرس الثوري (وهي صاحبة اليد العليا في العراق ولبنان وغزة وربما في اليمن) قاسم سليماني، ونائب القائد العام لقوات الحرس حسين سلامي، ويد الله جواني، رئيس المكتب السياسي في الحرس، ومحسن رضائي، أحد آباء الحرس، ومسعود جزائري، مساعد رئيس هيئة أركان القوات المسلحة. وحين خرج وزير الخارجية منوشهر متكي عن صمته، في اليوم الثالث على الحادثة، نوه بـ «حدود الصداقة» التي تجمع باكستان وإيران. ولكن قادة الحرس عادوا، في الأثناء، الى التنديد بـ «ملف الولايات المتحدة وإسرائيل الإرهابي» (فيروزآبادي) و «أعداء الأمة الإيرانية» (سلامي)، بينما كان مندوب إيران الدائم الى الأمم المتحدة يطلب الى الهيئة الدولية إدانة الهجوم. وهذا ما بادر اليه مجلس الأمن، مجمعاً، بعد يومين.
وحمل قادة الحرس بعض الجمهور الإيراني من أنصارهم الخلَّص - وهؤلاء شيعوا قتلى الهجوم في الزي العسكري فحيوا في الذين سقطوا المقاتلين المحترفين وليس المواطنين - حملوهم على تحقيق تهمتهم، وتوسيعها جزافاً. فتظاهر مئات من الطلاب الجامعيين في 20 تشرين الأول إنكاراً، على قولهم، «للأعمال الإرهابية في محافظة سيستان - بلوشستان والاعتداءات المتواصلة على المسلمين (الزيديين الحوثيين) في اليمن»، على مقربة من سفارة المملكة العربية السعودية بطهران. وجمعوا الولايات المتحدة وبريطانيا والمملكة و «الكيان الصهيوني» و «الإرهابيين» في حزمة واحدة. ونسوا باكستان وأفغانستان وطالبان والبلوش والأحوازيين (جبهة تحرير الأحواز) العرب والأكراد من أنصار «بيجي» الذين يقاتلونهم في شمال العراق الشرقي. وصادف «النسيان» هذا، شأن الغفلة عن باكستان وأفغانستان في اليوم الأول، اغتيال شرطيين في مدينة إيرانشهر بمحافظة سيستان - بلوشستان إياها، يوم التظاهر. والاغتيال هذا هو الحلقة الثانية - من اضطرابات المحافظة. وفي 25 من الشهر نفسه، اغتال مسلحون محافظ المحافظة العتيدة بباكستان. والحرسيون والباسيج ينددون بمفاوضيهم، ويسكتون عن أعدائهم المباشرين.
واستوقف الشطط والتخبط هذان بعض الصحافة التركية. فطهران تنتظر زيارة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان قبل نهاية تشرين الأول. وعلق أردوغان على الحادثة تعليقاً قريباً من تعليق الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف. فدعا الى التعاون على مكافحة الإرهاب. وربطت «يني شفق» «الإدعاءات» الإيرانية في «تورط أجهزة استخبارات غربية وأميركية» في العمل الإرهابي البلوشي، بمسعى (حرسي) يرمي الى عرقلة التقارب التركي - الإيراني. ونوهت الصحيفة بعدد الاتفاقات الكبير الذي تؤذن زيارة أردوغان بتوقيعه، ويترتب عليه خطو إيران خطوات على طريق «الاندماج في المجتمع الدولي» من طريق تركيا، وعلاقاتها الدولية ومكانتها، على قول الصحيفة. وتستدل الصحيفة على صدق رأيها في المسعى الحرسي الموارب بالقول إن إلقاء الشبهة على الأجهزة الغربية والأميركية يصيب دولاً، منها تركيا بل أولها تركيا، تربطها علاقات متينة بالولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل.
وسبق للحرس الثوري أن ألغى، عنوة، عقد بناء مطار رسا على شركة تركية في نهاية ولاية خاتمي الثانية، وتولى هو، عنوة كذلك، إنشاء المطار. وتذرع بالعلاقات التركية الإسرائيلية الى تسويغ الإلغاء، والى الاستيلاء على المرفق. وعلى هذا، فالتهمة الأمنية التي يلوح بها الحرس الثوري الحاكم في الشاردة والواردة، ويرفعها وكلاؤه في «حركات التحرر» العربية الى مرتبة العقيدة السياسية و «الدينية»، حجر أساس في بنيان السياسة الإيرانية، الداخلية والخارجية، التي تقودها دوائر الحرس وقياداته المستولية الكثيرة. ويصيب الدوائر هذه عَرَض التسلط الإمبراطوري. ويقود العَرَض «أمراء» الجيش العقائدي الحاكم وموظفيه الى جمع حروب الاستيلاء والسيطرة التي يخوضها على جبهات داخلية وإقليمية كثيرة في جبهة واحدة يتولى «الأمراء» قيادتها. فالمسألة البلوشية جزء من المسائل القومية والمحلية المتخلفة عن شكل «الدولة»، وهو السلطنة الجامعة ولايات شبه مستقلة. والولايات هذه، وبالأحرى المتطرف منها شأن بلوشستان، تربطها ببعض ولايات الدول المجاورة، حيث يقيم قوم واحد ومتصل، روابط أقوى من روابطها الوطنية والسياسية المفترضة.
والحق أن «جند الله» ليسوا منظمة انفصالية، ولا استقلالية ذاتية، على خلاف نظيرها البلوشي الباكستاني العلماني. وهي حركة طائفية ومذهبية أولاً، وتطالب بالمساواة القانونية والأمنية بين السنّة (وهم بلوش في الولاية الحدودية هذه) وبين الشيعة. وهؤلاء بعضهم سكان محليون، وبعضهم الآخر من الغالبية، وعلى وجه الخصوص الموظفون الكثر. وتستمد الحركة الأهلية المحلية من التربة البلوشية عوامل تنشيطها وتجديدها. فهم قوم (شعب عرقي) مقسَّم بين ثلاثة كيانات سياسية متنازعة على مقادير متفاوتة، ومنذ زمن سحيق. وتُعمِل السياسة الإيرانية شيعةَ قوم الهزارة، حول مدينتي فرح وشنداند، في أغراضها الأفغانية، على نحو ما تعمل شيعةَ باكستان في أغراضها الباكستانية. والإعمال هذا أهلي وانفصالي، وتقايض به طهران حصص نفوذ حيث تسنح لها الفرصة. وهذه تسنح حين ترتخي الدولة الوطنية، وحيث ترتخي. وتوازن السلطنة الإيرانية الحرسية بين مضار ارتخاء الدول الجارة، وارتداد فوضاها عليها حركة انفصالية وإرهاباً متفشياً وتهريباً وفساداً، وبين فوائدها، نفوذاً وصفقات وفساداً.
ويقيم بلوش إيران (وباكستان وأفغانستان) في بلاد متصلة تجمع الصحراء، الفقيرة بالاتصالات في البلدان الثلاثة، الى تضاريس الجبال. ففي معظم بلوشستان، على جهتي خطوط الحدود، يبلغ علو السهوب الصحراوية 500 متر الى 3 آلاف متر. وتغذي الأرض ونتؤها المنازع الاستقلالية، وتزيد عاملاً جغرافياً قوياً الى عوامل الهويتين، القومية والطائفية، والقهر الأقلوي والفقر والتهميش. ويتشارك البلوش الأحوال هذه مع أقوام رقعة جغرافية شاسعة يختلط فيها الطاجيك بالهزارة والبشتون، ويحفها شمالاً الأوزبك والتركمان. وانتشار الحركات «الطالبانية» في الدائرة هذه يتغذى من روافد مشتركة لا تعف عن البلوش، وتخلط البنية القبلية والقروية والقومية والطائفية بالعزلة والطرفية الجغرافيتين ومقاومة السلطة المركزية وقهرها «الأجنبي».
فتهمة الحرس الثوري الدولة الباكستانية، أو بعض أجهزتها الاستخبارية العسكرية المتواطئة مع طالبان الأفغانية على محاربة كابول ورعاتها الأطلسيين والأميركيين، تهمتها بتدريب «جند الله» وتمويلهم وتسليحهم (على قول الخبير حسن رضائي) وقيادتهم، جائزة ومتناقضة معاً. ومصدر جوازها هو تصدع الدولة الباكستانية وضعف تماسكها. والتهويل على باكستان (وليس على أفغانستان) بالحرب، وإعمال «حق الملاحقة» والمطاردة داخل أراضيها، ضرب من هذيان العظمة وفصامها، وعرض من أعراض الداء الحرسي.
وهذه الأعراض تتفرع عن أصل امبراطوري مشترك. فتُحمل المسائل الناجمة عن نزاعات كتل السلطة، والخلاف السياسي الأهلي، وسوء الإدارة السياسية العامة، والتلكؤ في التصدي لمخلفات السلطنة في سوس الأقليات، والانخراط في تطييف القضايا الإقليمية وإنشاء الولايات في قلب الدول الوطنية، الى التدبير الاقتصادي البائس - تحمل المسائل هذه كلها على مسألة واحدة هي صدارة الحرس الثوري النظام السياسي والأمني والعسكري الإيراني. وينزع الحرس الى اختزال سياسة بلد كبير ومعقد ومحوري مثل إيران في قيامه على «الاستكبار»، وبسط قبضته الفظة على دوائر الدولة والمجتمع الإيرانيين. والانتخابات الإيرانية الأخيرة أثبتت أن القبضة هذه أصابها التآكل إصابة قاتلة.

هاني درويش... من الفحص عن أسباب فشل اليسار المصري الى كتابة الكارثة

المستقبل - الاحد 25 /10/ 2009
يكتب هاني درويش، من القاهرة، مرثية مزدوجة في والدين أو أبوين: واحد "مات منذ أشهر دون صخب" هو والده الطبيعي، وآخر هو "رئيس تحرير(ه)" على رأس صحيفة "البديل"، محمد السيد سعيد، نائب رئيس مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية ("نوافذ" عدد "المستقبل" في 18/10). ويجمع الكاتب وفاة الاثنين في باب مشترك، عضوي وجارح، هو باب "المجزرة"، كناية عن وفاة الاثنين بمرضين قاتلين في مستشفيين حكوميين قاصرين، تجهيزاً وطاقماً معالجاً، عن تولي علاج مثل الأمراض المعقدة هذه. وباب مشترك آخر يجمع بين الرجلين الراحلين هو "رومانتيكيتهما". وهذه تكني عن معانٍ كثيرة يحصي ابن الوالدين، المتنازع بين الإكبار والتعظيم وبين الاستضعاف والنقمة، حباتها عند منعطفات روايته، ومقارنته ومرثاته الراحلين وابنهما المتيتم والمتروك على ترجحه وحيرته.[بطن مصرومقال هاني درويش هذا حلقة في مقالات له أقرأها في "نوافذ" منذ بعض الوقت. وقد يكون لقاؤنا في لبنان، في اثناء زيارته بيروت قبل نحو عامين، من دواعي القراءة المتصلة والمواظبة. ولكن الداعي الأقوى، على ما أحسب، هو تناوله أحوال المصريين المعاصرين، على اختلاطها وعشوائها وتشظيها وأطوارها، من غير خشية المراكمة المطنبة ولا النثرية المسترسلة في اللحن المعنوي قبل اللغوي وفوقه، أمكنَةُ سَلْكُ الأحوال في خيوط ووجوه وأنحاء أم عصاه السلك واستحال عليه. ويصدر الكاتب المصري في ما يكتب، في ملحق "المستقبل" الأحدي، عن هوى إحصائي ملحمي وهوميري، على شاكلة لوائح ما تحويه بطون المراكب الكبيرة والراسية على شاطئ طروادة "الحسنة التحصين". والمركب الكبير والعظيم الذي يجول صاحبنا في بطنه، ويكتب لوائح "موجوداته" هو مصر، أو القاهرة، قاهرة المعز التي جاءها والده في منتصف ستينات القرن الماضي، على وجه التخصيص.و"الموجودات" التي يحصيها، مُلحّاً وقلقاً وخائفاً ان يفوته شيء منها أو ان يغفل عن بعض معانيها، هي الأشياء والسلع والماركات والاستعمالات والصور والإيقاعات وحركات الأجساد والأوقات والطرق والمهن والقيافات والأفكار والرغبات، ما حصحص منها وما لا يزال في الأرحام وما ذبل وذوى، والحسرات والمخاوف والحسابات والكلمات، وغيرها. ولوائح الكاتب المصري، والكاتب هو غير "المثقف" صغيراً ام كبيراً، تتعقب بلهف بوليسي (على معنى تعهد الحياة المدنية، وهو معنى اللفظة في أوروبا القرن السابع عشر) أحوال "الموجودات" المصرية، وظهورها وأفولها وما بين الظهور والأفول من حياة قليلة وضئيلة، على الأغلب. وهو لا تثنيه الضآلة عن التعقب المحموم، بل تبعثه على العناد والإمعان. وكأن هوى التعقب والإحصاء انفك من موضوعاته وذرائعه، وجرى على غاربه وحده لا يلوي.وهذا أقرب الى ظاهر الأمر، ويغفل عن باعث الهوى ومحركه، عن هوى الهوى، على قول فلاديمير يانكيليفيتش. ولا يترك الكاتب قارئه الى عناء السؤال المبهم والغامض. فيكتب، في مرثية الأبوين، ان السؤال الجامع الذي يبحث عن اجوبته هو: "ما أسباب فشل اليسار (المصري؟) التاريخية". والسؤال، معنى وألفاظاً، يطلب بل يشترط، جواباً عنه وتحقيقاً، روايةً. وتنم صيغة السؤال "التقليدية" بشكل الرواية المتوقعة وصورتها. فيتبادر الى ذهن قارئ السؤال ان على الجواب الشافي سرد أو تركيب السياقات التي تضافرت افكارها وأبنيتها وقواها الاجتماعية ومواقفها وأوقاتها ومنازعاتها ومقالاتها ووجوهها الفردية أو الشخصية وأخلاقها، على إخفاق طائفة من الناس، وموقع وقوام، في تصدر حوادث حاسمة، واستثمارها في "نصرة المستضعفين"، على ما يلخص راثي الأبوين "القيمة البسيطة" والجامعة التي ينتهي إليها، على ما يرى، "كل رصيد الإبداع البشري"، وينبغي ان "يحوَّل" إليها، وإلى حسابها.وأحسب، أنا قارئ مقالات هاني درويش على صفحات الصحيفة منذ نحو عامين، ان جوابه لم ينتظر خياطه حلة السؤال المعلنة والأخيرة. والجواب المتوقع ليس نهراً هادئاً يجري من منبعه الى مصبه. فهو أقرب الى عود على بدء لا يكف عن التنقيب عن البدايات الكثيرة، المظنونة وغير الثابتة، والحاسر بعضها عن بدايات كاذبة أو منحولة وعقيمة. والعود هذا عود من حاضر مضطرب ومتعثر، ينوء تحت عبء اسئلة أقوى إلحاحاً من إثبات البدايات المفترضة، ويجدد الطرق الى البدايات، ويتوه في شبكتها، ويقف في بعضها.ولعل "فضيلة" صاحبنا هي التي تدعوه الى مغالبة الإحباط، والمضي على أعماله الهرقلية والمتناسلة، وعلى التصدي الجزئي والمبعثر لسؤاله الأوديبي النسبي والتاريخي. والإحصاء المحموم، أو كتابته على النحو الذي يكتبه صاحبه عليه، وجه بارز من وجوه مغالبة الكاتب الإحباط، وعامل راجح من عوامل حمل القارئ على تصديق السؤال، والاقتناع بجديته وجدواه. وقد لا يكون سؤال هاني درويش وصحبه سؤالي (وهي حاله)، ولا أشاركه في وضع "نصرة المستضعفين" المحل الذي يضعها به، من غير ان يضعف هذا الإقبال على قراءته، ولا حمل السؤال على محمل الجد. وهذا ربما قرينة تخطي الكتابة المعاني التي تطفو عليها، او تتلألأ، وبرهان على إعمالها في المعاني هدماً وإنشاء وتسويغاً وإضعافاً، فتخرج (المعاني) مخرجاً لا يشبه كثيراً إرادة المعنى التي نفخت فيها، ويلوِّح بها الكتّاب، أو بالأحرى المثقفون، عادةً على رؤوس الأشهاد، ويتداعون الى الاصطفاف والحرب تحت ألويتها. و "اليساريون" هم اساطين تجريد المعاني من الكتابة والرواية، والمقاصد من السيرورات.ويرد هذا الى جمع صاحبنا بين كتابة لوائحه المحمومة وبين ثقافته" اليسارية. فيحسب القارئ (وهو انا في المعرض هذا) ان الصفات التي يصف بها الكاتب "بطليه" اليساريين دليل أو مرشد واف الى المحجة المنشودة. فهما كانا "نقيين"، وكانا "ضعيفين" وبطَّنا ضعفهما بالنقاء، وجمعا "ليبرالية لا شك فيها" الى تحرر من الإسار "الستاليني"، واصطبغا بـ "صبغة" إنسانية"، وطابقا بين "النظرية والسلوك الشخصي"، وخجل الاثنان خجلاً "مشبعاً بعدم مسايرة الحياة الواقعية"، وانتصرا للمستضعفين، واعتقلا، وأحبا "تراب" مصر، وتخلت عنهما "الدولة" ولم يتخليا عن "أوهامها" وأوهام "حماها" و "ميريها"، واعتصما بـ "خيلاء الفئة الناجية" اليسارية قبل خلعها وتركها، وقبلا الخلاف العائلي والمهني. والاثنان، على هذا، ضحيتان وأبوان ونبيان ضعيفان ألهمهما الأبناء الضعف والتمرد عليه.وبعض قسمات محمد السيد سعيد أقرب الى مهنة الابن الصحافي من الوقائع الأبوية، وأدعى الى التمثيل والاقتداء والإعجاب، مثل "تحمله تناقضات كل الطرق المؤدية الى مفترق طرق يساري بامتياز"، ووقوفه "موقفاً أسطورياً مصدقاً نظرية غرامشي في المثقف العضوي"، و "انتحاره بين يدي الرئيس" المصري حين رفع صوته بالدعوة الى "تحول ديموقراطي"، وخروجه من "حضانة" النظام وإعلانه "معارضته الإله"، إلخ، ولا يطعن هذا في الشبه القوي بين الأبوين، ولا في رغبة الابن في شبههما.[ المثقف والكاتبفهل تقود الصفات هذه، صفات الرجلين وصفات أفعالهما، "ابنهما" الى محجة أو غاية يرتضيها؟ ومن أي طريق؟ويضمر السؤال شقاً روائياً، إذا جازت العبارة. فالغاية المرضية والطريق إليها يكنيان عن الحبكة التي قد يتراءى للراوي الكاتب، ولغيره، ان رسومها وصورها تصلح منوالاً مثالياً (يتمثل في الذهن) ينسج عليه خيوط حياته وسيرته ويشبكها، ويروي في ضوئها (ضوء الرسوم) حوادث حياته ويعقلها. وأدخل هاني دوريش الحبكة المرجوة في باب سؤاله عن "أسباب فشل اليسار التاريخية". وهو يكتب ما يكتب، إصعاداً من مرثاته هذه الى مراثيه في أذواق المصريين الموسيقية وأزيائهم وأثاثهم ومدارسهم وأمراضهم ومساكنهم ومنتجعاتهم السياحية... وعلى النحو الذي يكتب، تحقيقلً للسؤال، وتقليباً للأسباب على وجوهها. وتناول "غيبوبات" الوالد الراحل، وصحواته ليلاً "في عنابر مستشفى صيدناوي للتأمين الصحي"، وخطبته المرضى والممرضين، وتحريضه إياهم على طلب حقوقهم المهضومة في وسط سحب التبغ وأصداء نشيج المرضى، وحداء المريض في نزعه الأخير وبين شدقي الغيبوبة "للسد العالي وحائط الصواريخ (على القنال) والانفتاح" - تناول هذا كله جزء أو بعض من بسط السؤال، ومن تعقب الأجوبة.ولكن بسط السؤال وتعقب الأجوبة على هذا النحو، إذا صدق ان ما يرويه الكاتب هو جزء منهما، لا يدخلان في باب الحبكة أو تحته. والرواية الإحصائية والمحمومة، وهي تحاكي حمى الناس والأفعال والأقوال والتصورات، تخرج من الحبكات كلها، وعليها، وتخلط الرسوم والسياقات بعضها ببعض. فماذا يزن "التحول الديموقراطي" وأوراقه، بقيت في جيب محمد السيد سعيد، على ما أمر الرئيس مبارك، أم حشرها الرئيس في جيبه أو جيب أحد مرافقيه - في كفة نزع الوالد في عنابر مستشفى صيدناوي، و "تخريفه"، و "نسل بوله من قسطرة في ممرات المستشفى"، وشرائه حذاء "كلاركس" لابنه بـ 400 جنيه فيما هو "يوفر ثمن الأوتوبيس بالمشي نحو ساعة بين مباني القاهرة العتيقة"؟وكيف قياس "تناقضات كل الطرق المؤدية الى مفترق طرق يساري بامتياز" في صدد إخفاق "البديل" "اليومية اليسارية المصرية" التي روى هاني درويش في مقال سابق نزعها وانهيارها المأسويين والتافهين - على حال محمد السيد سعيد، و "نقائه" و "ضعفه" و "معادلته الصعبة" و "انتحاره" و "نفيه" وراتبه الضئيل و "خجله"، وقبوله "حصاره" بأسئلة الصحافيين ومطالبتهم لأنفسهم بـ "أسعار" مناسبة، وفوق هذا كله قياساً على تركه السفر الى العاصمة الفرنسية، وطلب العلاج الناجع ربما فيها، دفعاً للوحدة ("مينفعش أبقى لوحدي") وترفعاً عن التماس إعالة من لا يطيق السفر والعلاج إلا معهم؟ففي الحوادث هذه كلها تظلل المعاني الواضحة والناتئة والمتداولة مثل اليسار والصحيفة اليومية و "أسعار" الصحافيين وأنواعهم والفساد والمثقف العضوي والنقاء والرومنتيكية والأبوة والناصرية وعمال سكك الحديد والزنازين والنقد الثقافي المتحرر من النزعة الإيديولوجية وديموقراطية التعليم الجامعي و "ببغاوات" تعليم الدول "القومية القوية"، والإحصاء هذا من مقال واحد إحصاء ناقص تظللها ظلال كثيرة وكثيفة مصدرها قاع "روسي" دوستويفسكيّ أو أميركي فولكنري (فوكنري). والظلال هذه، على شاكلة السحب الحبلى بالبروق والرعود والأعاصير والفيضانات، تنقلب من وسائل ايضاح بيانية، تُظهر القناعة بالانزواء في هامش الرواية أو الصورة، الى موجة متدفقة تجتاح متن المقالة العقلاني والمتماسك، وتتخلل شقوقه الكثيرة وثناياه العميقة.وترتسم "مصر" هاني درويش في الشقوق والثنايا هذه، أو هي تخرج منها، من الشقوق والثنايا، شخوصاً ووجوهاً يولد بعضها من بعض ولا تستقر على سمت، وأجساداً مبرحة وملتوية قوضها التعذيب والتجاذب، وأصواتاً ناشزة، ورغبات بائسة تترجح بين طلب الأهرامات "الخالدة" وبين بلوغ منيتها واستيفائها في مضغ علكة أو تعليق "بوستر". ومزيج المعاني "اليسارية" الواضحة وكتابة الظلال السحابية، لا يقر على قرار. وهو يقضي في مقالات الكاتب الى "نوافذ" بـ "طياحة"، على ما سمى العامليون (اللبنانيون من بعد) حربهم على والي عكا الظالم في أوائل القرن التاسع عشر، يقضي فيها بطياحة مترنحة ومحمومة.فإذا تناول الكاتب موضوعه، ونوى معالجته معالجة ثقافية ("يسارية")، وأراد تغليب المعاني المضبوطة والمنقادة على صخب الشياطين المحبوسة في القماقم، لم يأمن خروج الشياطين وعبثها في المعاني فساداً وتحويراً وتكذيباً. فالأسئلة "اليسارية" والنقدية تفترض قعراَ قريباً في متناول النظر والقلم والفهم والعلاج (وقول هذا ليس من باب الاستخفاف ولا المديح بل من باب التقرير). وقد يكون دخول تلاميذ مصر، وهم يعدون عدد "الشعب العراقي"، المدارس في وقت تشغل فيه مسألةُ وباء "اتش واحد" ("انفلونزا الخنازير" التي حمل اسمها الجهاز الإداري المصري على استئصال الحيوان البريء من مصر) وانتشاره البالَ، وتمتحن الجهاز الإداري الوطني الواقعة هذه قد تكون مثالاً على طياحة الكاتب. فلا يكاد التشخيص يخطو خطواته الأولى، ويتكئ على بعض الأرقام، وعلى مذكرات إدارية، حتى تتلبد السماء المدرسية المصرية بغيوم آتية من سراديب العدد والعادات والعاهات الأصيلة والزمانات البيروقراطية والنفعية القديمة والمحدثة. فتسد الأفق وتحجبه. وإذا بالمسألة المدرسية والصحية نذير بقيام الساعة عن يد المسيح الدجال والسفياني الأعور واليماني الأعرج، مجتمعين. وما هذا شأنه، ومن هذا شأنه (على شاكلة الأبوين الراحلين)، لا علاج لأمراضه وأحواله، ولا طريق الى العلاج، وربما الى التشخيص.ولعل المزيج هذا، او الانقلاب الكارثي من حال الى حال، قرينة على "مشكلة" كتابة ومشكلة كتّاب ومجتمعهم معهم. فكأن كاتب المقالة الصحافية، التشخيصية والتقريرية والعلاجية، لا يسعه الاقتصار على مقالته هذه إلا إذا حجز بينها وبين ملابسات موضوعه بحاجز "يساري" مصري، على المعنى الذي تقدم. فيدعوه اقتصاره، والكاتب (أي هاني درويش في المعرض هذا) يراه قصوراً أو كسلاً، الى معالجة صحافية لا يرضاها إلا إذا رضي بموقع الداعية، العضوي على طريقته. وإذا هدم هذا الحاجز ورفضه، لم يتصل بحال "عضوية" أعمق أو بموقع عضوي أقوى كشفاً.ففي روايات درويش، أو اخباره في مقالته وآخرها مقاله في "ابويه" ومرثيته فيهما، قد يكون الفرق بين "المثقف العضوي" وبين المثقف التقني والتنفيذي عظيمة على الوجه الأخلاقي ولكنه ضئيل على الوجه العملي. وهو يميل الى تقديم التقويم الأخلاقي على التقويم العملي. ويسكت ربما عن أمرين هما في صلب مقالاته وكتابتها: الأمر الأول هو إفضاء المعيار الأخلاقي الى "رومنتيكية" لازمة، أحسب انه يقصد بها دونكيشوتية متخلفة عن فروسية كتبية وانصرافاً عن تناول الطور الحالي للسؤال الأخلاقي. والأمر الثاني الذي يشيح الكاتب عن فحصه هو ارتماء كتابته في الطياحة المحمومة، وتخطيها المعاني الى لجة لا قرار لها، ولا شراكة عضوية أو تاريخية فيها. فإما عقلانية دونكيشوتية وأخلاقية من غير يد، وإما الطياحة المحمومة و "ليل النقع". أهي حال مصر؟ وحالنا؟

الخميس، 22 أكتوبر 2009

المسألة الفلسطينية عصية على المعالجة السياسية في حلّتها العروبية والإسلامية والإيرانية الغالبة

الحياة- 21 /10/ 2009
في يوم واحد، «انتصر» الفلسطينيون، على ما أجمعوا وأجمعت الصحف ووسائل الإعلام، فصادق مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان بجنيف على تقرير القاضي غولدستون، رئيـس «مهـمة الأمـم لـتـقصـي الحقائق عن حرب غـزة»، ومـهد الطريق الى رفع التقرير الى مجلس الأمن. وفي اليوم إياه، اضطرت مصر الى إرجاء توقيع الفريقين الفلسطـينيين الرئيسيين المتقاسمين «السـلطة الفلسـطينية» في الـضفة الغربية وغزة وثيقة مصالحة «تاريخية» أعدتها الجارة العربية طوال أشهر طويلة ترقى أوائلها الى اعوام. وعزا البيان المصـري الإرجـاء الى «تـداعـيات تـقـرير غولدـستون»، أي الى الـخلاف الـذي انتهى الى «الانتصار» المفترض.
وغداة يومين على «الانتصار» والانقسام، في 18 تشرين الأول (اوكتوبر)، ندد مصدر مصري بـ «التسويف والمماطلة وعدم قدرة الحركة (حماس) على الحضور الى القاهرة في الموعد المحدد بدعوى موقف السلطة الفلسطينية من تقرير غولدستون...». وخرج «مصدر» فلسطيني حمساوي عن ذريعة التقرير الأممي، والتلويح التحريضي بالذريعة، الى إثبات مسألتين جوهريتين اساساً للخلاف هما إغفال وثيقة المصالحة المصرية (وهي مصرية – فلسطينية على قول المصريين و «فتح») النص على «حق المقاومة وضمان إنهاء الحصار الظالم على غزة»، أولاً، وضمان «تفعيل الاتفاق (و) تشكيل القيادة الموقتة التي تمثل المرجعية العليا (...) في كل قرار سياسي وخصوصاً في المفاوضات مع إسرائيل»، ثانياً (صحف 19 تشرين الأول).
وعلى هذا، فالانتصار في «حرب» تقرير غولدستون التي شنتها «حماس» وسورية وقطر على السلطة الفلسطينية و «فتح» ومصر أدى الى «هزيمة» هذه هزيمة مزدوجة، وإلى «انتصار» تلك انتصاراً مزدوجاً. فحمل حلفُ الأولى حلف الثانية على الرجوع في موقفه الأول، أي إرجائه مناقـشـة تقرير الـقاضي الـجنوب افريقي في مجلـس حقوق الإنسان الى الدورة القادمة، وألزمه طلب مناقشـة التقرير من غير إبطاء. ولم يشفع إقرار المناقـشة، وانــتهـاؤهـا الى الاقـتـراع على الـتقرير إيجاباً (وبعض المقترعين بالامتـناع ســوغوا اقـتراعهم بمـساندة محمود عبـاس وسـياسـته)، للـسـلطة الفلسطينية، ولم يقوها، ولم يضعف حجج مناوئيها ولا كسر شوكة المناوأة والتهمة. وردت «حماس» السلطة وأنصارها على أعقابهم، وأكرهتهم على تجديد طلب المناقشة فوراً، وعلى الـتـعبئة الديبلـومـاسـية في سبيل إقرار التقـرير وإحالته على مجلس الأمن، من غير لقاء أو مـقابل، وهـو إقـرار المـصـالحة ووثـيـقتـها الـقـاهـريـة.
ولم يحل هذا، وهو كان متوقعاً وثابتاً، بين قيادات منظمة التحرير والسلطة و «فتح» وبين خوض حرب التقرير الأممي من غير هوادة، على نحو ما لم يحل بينها وبين الابتهاج بـ «انتصارها»، والترحيب به، وحمله على انتصار «القضية الفلسطينية وعدالتها (...) وحقوق شعبنا الفلسطيني الثابتة»، على قول أحد الناطقين الرسميين. ولم يذهب اسماعيل هنية، «صاحب» حرب غزة على الدولة العبرية والسلطة الفلسطينية و «الأميركيين» معاً، مذهباً آخر. وأجمع هنية وأحد إخوته في «حماس»، طاهر النونو، على شكر «الدول المصوتة على التقرير». وهي، إلى روسيا والصين وكوبا وفنزويلا، أعلام حقوق الإنسان في غروزني وأوروماتشي وثويداد دي سانتياغو، «أشقاء» الجامعة العربية والاتحاد الافريقي والمؤتمر الإسلامي، على ما يتوقع وينبغي. وتمسكت مصر، متصدرة الجامعة العربية والساعية الأولى في مصالحة فصائل الفلسطينيين، بإجراء التصويت فوراً ورفض تأجيله... ساعتين، على ما اقترحت فرنسا.
وقد يبدو تشابك السياسات والمواقف «بيزنطياً»، كناية عن عبث بعضهم واستماتة بعض آخر ومراوغة بعض ثالث. ولكن البيزنطية الفعلية لا تتستر على حقائق السياسات التي تتناول المسألة الفلسطينية، إذا كان جائزاً بعد حمل القضايا الفلسطينية الكثيرة والمتضاربة على «مسألة» مفردة. فالسلطة الفلسطينية، أي طاقم حكم «فتح» برام الله، ومعها مصر ومعظم دول الجامعة العربية والاتحاد الافريقي والمؤتمر الإسلامي وبعض الدول الغربية، سيقت سوقاً الى تحقيق غولدستون ولجنته. والحق ان السوق الثانوي والفرعي هذا ترتب على سوق سابق، مأساوي وأصلي، الى حرب الأيام الـ22 في غزة. فتعمدت «حماس»، ووراءها «الجهاد»، يومها استدراج القوات الإسرائيلية الى حرب غير متكافئة بين جيش نظامي شاكي السلاح والعتاد وبين حفاة يقاتلون بالمقلاع، على قول الصحافي الألماني جوزيف يوف.
وهذه الـحرب لا يـمكن إلا ان تـكون «ظالمة» ووحشية». ولم تتهيب «حماس» ظلمها ولا وحشيتها حين بادرت الى الاستدراج إليها، وألزمت العدو خوضها على نحو ما يعرف العدو خوض هذا النوع من الحروب. وعلى نحو ما لا تعرف القوات الإسرائيلية خوض الحروب على نحو آخر، تجهل «حماس» خوض الحرب النظامية.
فهي، «حماس»، قاستها على نتائجها السياسية المرتجاة، أولاً.. والنتائج السياسية المرجوة هي إحراج منظمة التحرير، وإظهارها مظهر المتواطئة على «شعبها»، وتثبيت شق الفلسطينيين صفين وشعبين: واحداً فتحاوياً متخاذلاً وأميركياً وآخر حمساوياً مقاتلاً و «إسلامياً»، الى إحراج الصف العربي المفاوض، وحليفه الدولي، وتوريطهما في مساندة السلطة الفلسطينية المتحفظة والعاجزة عن مد يد المساعدة، ثم في محاربة الحزب المقاتل والمقاوم. وهذه السياسة المعقدة والمكيافيلية وجه او جزء من استراتيجية إيرانية تسعى في دمج المسألة النووية الإيرانية في المسألة الفلسطينية وإخراج المسألتين مخرج كتلة متماسكة، على رغم الفرقين المذهبي والقومي، وفرق المصالح واختلافها. وأفلحت الاستراتيجية الإيرانية في إنشاء منظمات مسلحة أهلية في مستطاعها شن هجمات غير متكافئة على العدو القوي والمحتل، وإحاطة نفسها بحزام واق وأهلي متين صنعته من طريق رعاية جماعاتها، والوصاية ثم الاستيلاء عليها، وفكها من «دولها» الوطنية الهشة، واتخاذها إقليماً أو ولاية لها.
ويفترض بلوغ الاستراتيجية الإيرانية غاياتها تجريد المسألة الفلسطينية، في فلسطين نفسها وفي الساحات والميادين العربية والإسلامية، من ملابساتها وأثقالها المحلية والوطنية، ومن أدوارها ودلالاتها المتضاربة والمتنازعة. ويتأتى هذا التجريد من طريق إناطة القتال في سبيل «فلسطين» بأحزاب وحركات وتيارات وإعلام وقفت نفسها ومناضليها وبرامجها على قتال إسرائيل والولايات المتحدة، في بلدانها وفي الميادين الإقليمية والدولية. ويحيل هذا الأحزاب والحركات... الى آلات صماء وضريرة في حرب مقاليدها بيد أجهزة خفية لا رقابة عليها ولا حسبة.
وحين خاضت «حماس» حربها على سكان الجنوب الإسرائيليين كانت على يقين من ان مقاومة منظمة التحرير، وسلطة رام الله الذاتية، الحربَ هذه مستحيلة، وأن التحفظ عنها متعذر. وكان هذا يقين «حزب الله» الخميني حين شن عمليته، «الوعد الصادق»، على الدورية الإسرائيلية في 12 تموز (يوليو) 2006. وهذا محصلة تجريد المسألة الفلسطينية من ملابساتها السياسية والوطنية، وثمرة إناطتها، كلاً وجميعاً، بمرجع يحتكرها وهي على هذه الحال من التجريد. وعلى رغم فداحة الخسارة التي أوقعتها الحرب الإسرائيلية، وأداء قيادة «حماس» المعيب في أثناء العمليات، خرجت «حماس» «منتصرة»: فهي لم تستأصل، وهذا متعذر ويفترض كلفة إنسانية لا يسع دولة من دول المجتمع الدولي، ديموقراطية أو مستبدة، قبولها أو السكوت عنها، على ما لا يكف هنري كيسينجر (وهو من هو «واقعية»!) عن التذكير.
وهي جرّت القوات الإسرائيلية الى ارتكاب ما لا يحتمل دوامه، ودوام النظر إليه بعين آلات التصوير الماثلة واليقظة. وقسرت العدو الساعي في الردع، أي في الحؤول دون تكرار الاستدراج، على انتهاك ضوابط الحرب وقيودها. فإذا «ربح» العدو الردع الذي يريده ويطلبه، وهو ربحه أو ربح معظمه على الجبهة اللبنانية قبل نيف و3 سنوات وعلى الجبهة الفلسطينية طوال الأشهر المنقضية من 2006، سدد ثمناً سياسياً وديبلوماسياً ومعنوياً مرتفعاً لقاء مربحه. وتقرير غولدستون هو بعض الثمن هذا. فالقوات النظامية المحاربة تقاتل من غير قناع يستر هيكليتها ومراتب الأمر والتنفيذ فيها أو يموه المسؤوليات. وهذا على خلاف قتال «قوات التمرد»، و «حماس» مثال تام لها وعنها. وغفلة القاضي ريتشارد غولدستون عن الفرق، ودهشته لاقتصار التنديد على القوات الإسرائيلية ولتبني «حماس» التقرير الذي يحسب القاضي اليهودي والصهيوني الميل (على ما قال هو نفسه) انه يدينها كذلك، تدعوان (الغفلة والدهشة) الى العجب. فلقاء شكوك تقرير لجنة التقصي في بعض أعمال «حماس» العسكرية، كسبت الحركة الفلسطينية «الإسلامية» عواطف «شعبية»، على قول رجب طيب أردوغان، ثمينة وجياشة. واستمالت حركات إسلامية عربية، إخوانية، كان تشيع «حزب الله» وسنده الإيراني يحملها على التحفظ.
وفوق هذا، أثبتت «حماس»، وصفُ حلفائها معها، أن «المسألة» الفلسطينية في حلتها العروبية والإسلامية والإيرانية الغالبة ممتنعة من معالجة سياسية مركبة تحتسب الملابسات والخلافات الوطنية والإقليمية. فعسر تصدي السلطة الفلسطينية برام الله للمراوغة الحمساوية والردع الإسرائيلي معاً وفي آن، أوقع السلطة وحلفاءها في مأزق فعلي لم تخرجها مناقشة التقرير منه. والشرطان المتأخران، والسابقان والثابتان، أي الحق في شن حروب إرادية والإبقاء على قبضة «حماس» على غزة، قرينة على غور الاستعصاء وتعقيده. فما لم تتطرق المناقشة والخلاف الى تجريد المسألة الفلسطينية، وإناطتها بـ «أحزابها» الموقوفة عليها، يكاد يستحيل على أطراف المسألة، الفلسطينيين قبل العرب، الخروج من الشقاق الإسلامي الإيراني والعروبي. وإحجام محمود عباس ومصر، في المرتبة الأولى، عن التمسك بإرجاء مناقشة تقرير غولدستون، وشرح الخطة التي تقتضي الإرجاء وتعوض «مكاسب» المناقشة الفورية، علناً، الإحجام هذا دل على التفوق الإيراني في خوض المعارك الخاسرة، وعلى ضعف فلسطيني وعربي وإسلامي اصيل عن المعالجة السياسية والإقرار بمشروعية ا لانقسام والمنازعة والكثرة الوطنية والمحلية

الاثنين، 19 أكتوبر 2009

اقتصاد إفلاس صلاح عز الدين... السياسي والاجتماعي والثقافي

المفاصلة العصبية تصيب الجماعة الأهلية المنكفئة بفصام "المقاومة" وفتنتها
المستقبل 18 /10/2009 -
حال إذاعة الصحافة المكتوبة خبر توقيف المباحث الجنائية المركزية "رجل الأعمال" أو "المستثمر المالي" اللبناني صلاح عز الدين (47 عاماً)، وإيداعه التحقيق، وكانت "السفير" اليومية السباقة الى الخبر في 31 آب المنصرم، رُبطت حادثة التوقيف، ومن ورائها إفلاس الرجل وعجزه عن تسديد تعهداته والتزاماته وشيكاته، بـ "جماعة" المودعين المستثمرين، وبمصادرهم الأهلية والمذهبية الطائفية والمحلية. وفي أول الأمر، اقتُصر على التلميح والكناية غير الخفيين. فكتبت الصحيفة اليومية ان "الحاج صلاح عز الدين"، من معروب قضاء صور، "تعرض للإفلاس"، أي وقع عليه الإفلاس الغاشم والأعمى وقوع الكارثة الطبيعية على ضحيتها. وهو "تعرض" لما نزل به "بعدما كان آلاف المواطنين في الضاحية الجنوبية والجنوب والبقاع... استثمروا مبالغ طائلة في مشاريعه المتعددة". ورابطة "بعدما"، الزمنية والسببية، بعد إثبات الحجية والمعروبية والصورية، هي للدلالة على اجتماع الرجل، "أحد كبار المتمولين ورجال الأعمال"، وائتلافه، اسماً وعملاً ودوراً، من جماعة "المواطنين" غير المعرفين بوطن، والمحمولين على "بلادهم" ونواحيهم و"دساكرهم"، على قول ناشر الصحيفة، في مقالات (افتتاحيات) سابقة كثيرة. وأسماء البلاد هذه لا شبهة في نسبة أهلها ولا في هويتهم وتعريفهم. فهم، أولاً وآخراً وما بين الأول والآخر، "شيعة"، إماميون إثناعشريون، على ما تقول كتبهم فيهم. و"الحاج" على ما يقول الأهالي "السيد" من غير تخصيص فيعرف المقصود من بين مئات أمثاله لقباً، أو يقولون "المرجع"، أو كانوا يقولون "البك" ولا يزال بعضهم يقول "الأستاذ" هو عَلَم على جماعته، سميت باسمها من غير مواربة أو تورية ام أشير إليها ببلادها.[البيئةوما أوحت به الصحيفة اليومية السباقة، على بعض الاستحياء والخفر ومن غير إرادة تعمية، قالته "الأخبار" مباشرة ومن غير استعارات، بقلم رئيس تحريرها وتوقيعه المأذون. فكتب ابراهيم الأمين في الفاتح من ايلول ان صلاح عز الدين "يمثل" "وسطاً اجتماعياً". والأرجح ان الكاتب يريد القول: اهلياً أو مذهبياً طائفياً، فترك الأهل، أهل المذهب والطائفة والبلاد، الى الاجتماع، اللفظة المعتدلة والمجردة ظاهراً، و"العلمية" على ما يحسب ويكتب في آخر فقرة "رابعاً" من مقالته. وينسب الصحافي "المستثمر المالي" المفلس الى "وسط اجتماعي" أولاً، ثم الى الوساطة بين الوسط هذا وبين "حزب الله"، المنظمة الأهلية والعسكرية والأمنية المعروفة. وكأنه استثقل الوساطة، بعد "التمثيل"، في وصف رابطة الرجل ووسطه الاجتماعي بالمنظمة الأهلية المقاتلة، فحمل الرجلَ على "وسيط لصيق بحزب الله"، على قوله هو، وعلى "شريك"، نقلاً عن شائعات "قوية".ولا يلبث "الوسط الاجتماعي" ان يرتقي الى طور جديد، أعلى من الأول. فيمسي هو نفسه "منظومة اجتماعية"، في ختام الفقرة الأولى من المقالة، أو "بيئة"، للدلالة على التماسك، وضوي الأجزاء بعضها الى بعض، وقرينة على جمع الفعل الناظم والقصدي والإرادي في "المنظومة"، الى الطبيعة والطبائع التلقائية والمركوزة في المادة نفسها على ما تتبدى في "البيئة" ("بيئة متدينة ومتمسكة بأصول وشرائع..."، "البيئة التي عاشت تاريخاً طويلاً من الحياة البسيطة"، هذا الى وصف أهلها بـ"كل أنواع التواضع في الحياة ومتطلباتها" وبالثبات في "موقع المضحي بالحياة الفانية" والإقامة على "طقوس تسيطر على حياتهم الاجتماعية"... وكأن جماعة الأهل فصيل أو قوم من الأقوام الأولى).وعلى هذا، يجمع الصحافي النظم، والناظم، أو الصنع (والصانع؟)، الى الطبع المفطور على أحوال لا يد له فيها. وينبغي العودة إليها، الى أحوال الطبع والفطرة، إذا شاء الحزب مقاومة ما لن يعتم كاتب أردني، ناهض حتر، أن يسميه "نيوليبرالية متوحشة" (الأخبار، 15/9)، على مثال مناهضي العولمة المالية ومتظاهريهم منذ سياتل قبل عقد الى بيتيرسبرغ قبل ايام. وفي الأحوال كلها، فـ "الكارثة"، على قول حسام عيتاني (الحياة، 7/9)، أصابت "وسطاً اجتماعياً وسياسياً محدداً"، فـ "جاءت (أزمة المرحلة الحالية من عولمة متوحشة) على شاكلتنا (فتداخلت) المصالح المالية بالانتماءات الطائفية والسياسية".وقسمة الجماعة الأهلية/ السوق العالمية، حُملت على الإنكار والتنديد أم حملت على الوصف التقريري، لم تلبث ان غلبت على تعليقات الرأي وعلى التقارير والتحقيقات على حد سواء. وجمعت مقالات كثيرة الوجهين معاً أو ترجحت بينهما. ولا ريب في أن تناول المقالات التقريرية الحادثة طوال نحو اسبوعين جلا وجهاً منها بارزاً. والوجه هذا لم يجله تقديرُ الأموال التالفة والهالكة، ويحسب ناهض حتر أن "كبار الرأسماليين (أو) قلة من الرأسماليين المحليين والأجانب (نهبوها)". ولا جلاه ترجحُ التقدير بين 400 مليون دولار على ما ذهب إليه حسن نصر الله في خطبته المالية الأولى، وبين ملياري دولار على ما هذى بعضهم أو خمن (وقدر مراسل موقع "الشفاف" ببيروت في 19 ايلول الخسارة بنصف عوائد لبنان السنوية من المهاجرين، وهي 6 مليارات دولار، أي بـ3 مليارات). فهذه التقديرات، شأن تلك التي تتناول عدد المستثمرين المتضررين وتترجح بين المئات وبين الألوف، ينتظر تحقيقها النائب العام المالي، على ما ذهب إليه "حكماء" الصحافيين، وقراره الظني في ختام استجواب استغرق أشباهه وأمثاله "سنوات طويلة"، على قول فاتن قبيسي (السفير، 2/9)، مصابِرة وصابرة.والوجه المجلو يستخلصه المراقب من رواية صحافيي التقرير والتحقيق ملابساتِ كتابتهم تقاريرهم وتحقيقاتهم. فأهالي معروب البلدة التي ولد فيها المستثمر الموقوف ونشأ، وعاد إليها من هجرته الى "الضاحية"، وبنى قصره "على بعد مئات الأمتار من وسطها (وسيّجه) بالأشجار والجدران التجميلية (قرب) ملعب كرة القدم الذي أسهم في إنشائه بنسبة 75 في المئة" (حسين سعد، السفير، 5/9) اهالي معروب هؤلاء اجابوا الصحافية الزائرة، والمستطلعة أحوالهم وآراءهم في ابن بلدتهم، بـ "ضبط ألسنتهم والامتناع عن التحدث عن إعلان ابن بلدتهم إفلاسه" (آمال خليل، الأخبار، 1/9). فهم بين "انهيارات عصبية" نزلت ببعضهم وألزمتهم المستشفيات وبين "الترفع" عن الكلام على ابن بلدتهم، الخلوق والخيِّر والمؤمن و"صاحب الأيادي البيضاء".ومن رضي الكلام الى الصحافية الزائرة، أو زميلها، غداة نشر الصحيفة الأخرى الخبر، كتم اسمه، واشترط إغفاله. وبعض من ارتضوا الكلام غفلاً من غير اسم، لا بد ان صفاتهم عرَّفتهم لكثرة ما رددوها على مسامع الصحافيين، وكتبها هؤلاء وتناقلوها. فهذا باع منزله قبل 5 سنوات، وانتقل الى سكن بيت استأجره، وأودع ثمنه "مكتب عز الدين" (ويزيد صحافي آخر أو صحافية: "في صور") وذلك، وهو جار الأول، عاد من مهجره و"غربته"، غداة 15 عاماً على تركه بلدته الى افريقيا، استثمر "جنى" المهاجَرة والمكابدة في استثمارات الرجل. وثالث جمع 700 ألف دولار من أشقائه وشقيقاته، ورغب الى "الحاج" بـ "قبولها" في أحد مشروعاته. وروى حسن نصر الله، في خطبة 7/9، على مسامع المتحلقين الكثر حكاية رابع، "أخ" مسؤول سمع الأمين العام انه "استثمر بمبلغ مليون دولار"، فتولى "شخصياً" على قوله "سؤال هذا الأخ عن حقيقة الأمر"، فقال له "مباشرة" ان المبلغ مقسم بين اخوته "المعروفين بالعمل التجاري"، وأن أحد أبنائه "يستثمر نحو سبعين ألف دولار أميركي"، وأنه هو، المستجوَب والمسؤول والأخ، "لا يملك أي قرش". وخامس وسادس وسابع...["قانون السكوت"فيستقبل المودعون المنكوبون سؤالهم الكلامَ، واستيضاحهم أحوالهم وملابسات "شراكتهم" في "أعمال" صاحبهم ورأيَهم فيه وفي إدارته المالية، بالسكوت الواجم، أو بصنو السكوت، وهو اشتراط التستر على أسمائهم. فـ "قانون السكوت"، على ما يسمي الصحافيون والدارسون إحجام "بيئة" الأهل والعصب والنسب عن إجابة اسئلة القضاء والشرطة الجنائية والجندرمة عن الجرائم والجنح التي ترتكبها العصابات الأهلية أو "القومية" الصقلية بإيطاليا أو الكورسيكية بفرنسا "قانون السكوت" هذا، أو الـ "أوميرتا"، هو حصن "البيئة" المنكفئة على نفسها، وسورها، وحمايتها من الدولة وقانونها وقضائها وسلطتها وأجهزتها وأسلاكها، ومن سوق الدولة الداخلي والرأسمالي ومعايير هذا (أو هذه) السوق "المتمدنة".ويعود "قانون السكوت" الى سعي الشركاء و"الأخوة"، على ما يسمي أهل المافيا وحركات التحرر والروابط والجمعيات الدينية والطرق الصوفية بعضهم بعضاً، في حماية أنفسهم من الشهرة والعلانية. فيردون الافتضاح، ويحولون بين أمرهم وبينه. وتعلل "الأخبار"، الصحيفة "اللصيقة" بالحزب الخميني مقدار التصاق صلاح عز الدين به (على قول رئيس تحريرها) kانفسهم من الشهرة واقلة الدعاوى التي رفعت على المستثمر المفلس، واقتصرت الى 10/9 على دعوى جزائية واحدة رفعها النائب الحزب اللهي حسين الحاج حسن، بـ "خوف بعض المودعين من التصريح بأسمائهم والقيمة الحقيقية للأموال التي أودعوها لدى عز الدين" (11/9). وفي 14/9، رفع ثلاثة آخرون، هم غالب دهيني ومحمود الحاج ومحمد دبوق، دعاوى تحرير شيكات من غير رصيد. ويُفترض ان إحالة القضية الى قاضي التحقيق الأول في جبل لبنان يقفل باب الدعاوى الجزائية، والنيابة العامة التمييزية هي وجهتها. والغرض من الشكاوى، مذ ذاك، هو إثبات الحقوق وحفظها.واقتصار عدد المدعين بواسطة وكلاء يشتركون في استجواب المظنون، قرينة على تقديم مئات أو آلاف "المصابين" بما سماه حسن نصر الله، في مجمّع النسيم بحانويه في 13/9، "مصيبة"، طريقَ الجماعة وطبابتها العاجلة، على مثال صرف تعويضات حرب تموز 2006 امام عدسات آلات التصوير التلفزيونية، على طريق القضاء وطبابته الآجلة، والمرجأة الى أجيال آتية من المودعين. فالمودعون المنكوبون والمصابون يلزمون الصمت، ويمتثلون لقانونه الأهلي و"القومي"، بموجب الرابطة التي ألفت بينهم، وجمعتهم، وأشركتهم في "استثمارات" ابن معروب المؤمن واللصيق بـ "بيئة" الحزب "التي تحميهم امنياً وسياسياً وحتى اقتصادياً"، على قول الحزبي المحلي الأول في "جموع المودعين الذين غص بهم" مجمع حانويه حين دعاهم صاحبهم الى "حضرته"، وكلمهم من "الشاشة العملاقة" المنصوبة للمناسبة ولمثيلاتها (فاتن قبيسي، السفير، 14/9).وتتحدر رابطة المودعين من روابط كثيرة أخرى سابقة على الإيداع، وعلى شراكة مولودة من توقع الربح المجزي والمضمون والسريع. وبعض من أولوا "الحاج"، المظنون فيه الاحتيال اليوم، أموالهم، ومنهم من رجا عائداً من "تجارة الذهب" قدَّره بـ80 في المئة "بعد 3 أشهر وقبل العودة الى أستراليا" (على قول مودع أودع 500 ألف دولار، الى داني الأمين، "شؤون جنوبية"، تشرين الأول)، هؤلاء أولوه قبل أموالهم ثقتهم ومحبتهم وأخوّتهم، وشاطروه الإيمان والقيم والتشيع، على قول بعضهم. فيروي احد المصابين، ومصيبته تبلغ 8 ملايين دولار على قوله الى جعفر العطار (السفير، 9/9)، أنه ادى في 1986 "فريضة الحج مع الحاج صلاح" في "حملة السلام". والحملة كانت "الأفضل". وهو، "الحاج"، "كان نشيطاً وذا أخلاق حميدة (و) يتمتع بدماثة عالية تقربك منه تلقائياً". وهذه، النشاط والأخلاق والدماثة، ثم اللقاء في المسجد تارة وتارة أخرى "في الأفراح والأتراح"، كانت مقدمات الإقدام على الشراكة الاستثمارية.[الاعتقاد والتجارة المثلثةوشفعت عمليات عز الدين التجارية، وأطراف العمليات هذه، بما مهدت الطريق إليه الأخلاق والصلاة والتعازي والتبريكات. فالعمليات التجارية التي انتهى العلم بها الى المصاب "الكبير" مدارها على النفط الإيراني وليس على نفط آخر. ولا بد ان هذا كذلك قرب صاحبنا من صاحبه "تلقائياً". فإذا "شغّل" الحج العتيد أمواله في شراء نفط خام من ايران، خارج شبكة التوزيع المشروع والمعلن، أسدى خدمة للثورة الإسلامية يجزى عليها خيراً في الدنيا والآخرة". ومتّن المشتري، وهو الحاج نفسه، رابطته بجماعته عموماً وبميسوريها المودعين والمجاهدين خصوصاً. ورفد الرابطة هذه بمقومات نفعية الى المقومات الاعتقادية. ويتولى التاجر اللبناني بيع الخام الإيراني من بلدان متفرقة وتجار آخرين في سوق رمادية أو سوداء. وذلك بحسب المستطاع والمتاح والأوفر ربحاً حلالاً، وبحسب الفائدة التي تجنيها الولاية الحرسية الإيرانية من التستر على مصادر عوائدها ومداخيلها. وإذا بإخوة الإيمان والتقوى شركاء في حماية حصن الإسلام المحاصر، وفي رد كيد العدو إلى نحره.ويرتقي العمل الإيماني الى مرتبة أعلى مع شراء "المحروقات" على وجه التخصيص، وهي المادة الحيوية والضرورية التي يلوح الاستكبار الأميركي بالحؤول بين الإيرانيين وبين شرائها من الخارج على رجاء إثارتهم على ولايتهم العادلة و"المحبوبة"، على قول كيم إيل - سونغ. وما ان يشتري الحاج المادة هذه خلسة، وينسبها الى بلد غير إيران، وتجار غير ايرانيين، ويعفي الدولة الإيرانية الحرسية من تكلفة الشراء، ويموه على البائع صفة الشاري الإيراني، حتى يسلمها خلسة الى سلطات البلد الذي يحظر بيعها منه (ومن سلطاته). ويتولى أهل الثقة والإيمان، من اللبنانيين ومن غيرهم وأولهم الثري القطري الذي تمحضه الأخبار اللبنانية المتداولة 150 الى 180 مليون دولار هي سهمه في "شغل" عز الدين، يتولون خدمات التهريب والاختلاس والتستر والمراوغة لقاء تجارة تنهض على المضاربة، "الأداة" الإسلامية "الشرعية"، على ما لا يشك الشيخ سعد الله خليل مفتياً "نهار الشباب" ومراسلته سلوى بعلبكي (في 1/10).فالمضاربة مباحة ومستحبة "لأن الله يريد مجتمعاً منتجاً وحيوياً" يضطلع فيه أمثال صلاح عز الدين بالتجارة المثلثة، ويوزعون "الأرباح بينهم وبين العملاء وفقاً لنسب محددة مسبقاً". وأما الفائدة فمراباة مكروهة لأن "المصارف لا تعطي مردوداً منصفاً للمودعين في حين ان أرباحها خيالية". وقياساً على 25 50 أو 80 في المئة يقبضها المضاربون، لا تتعدى فوائد المصارف 6 أو 7 أو 12 في المئة، على ما أسر بول مرقص الى دانيال ضاهر (الحياة، 16/9). ويضطلع رافد الاجتهاد الفقهي والشرعي بطمأنة من يريد الكسب الحلال والربح الاستثنائي وغير العادي معاً ومن غير تعارض أو تنابذ. وعلى مثال سياسي إيديولوجي سائر وغالب، فأقرب السبل الى تسويغ العمل المتنازع، ونفي الشبهة أو التنازع عنه ومنه، هو نصبه نقيضاً لما يتداوله "العدو"، ويقره هذا ويأخذ به. وعلى هذا، نأخذ "نحن"، أهل الحق والمضاربة "الإسلامية"، بالاقتسام العادل للأرباح المتواضعة، الناجمة عن تجارة عينية (نفط، ذهب، ألماس، خردة، العقارات، وبعض بورصة،...)، و"نية" إنتاجية (سعد الله خليل) وليس عن إتجار بالمال وبـ "مجرد ودائع في حسابات توفير أو حسابات جارية وقروض وخدمات مصرفية" (على قول فؤاد مطرجي، المدير العام لبيت التمويل الإسلامي)، على شاكلة النيوليبرالية المتوحشة والمخربة. وهذه تتحدر من رأسمالية مرابية، فلا يُفهم، في ضوء علم المراجع وفقههم الاقتصادي العظيم، كيف عمرت هذه الرأسمالية العالم، وبلغت الصين، فيما "تأخر المسلمون"، على زعم شكيب ارسلان، أحد أوائل "إسلاميي" القرن العشرين ومعاصر دعوة حسن البنا، ويتأخرون تحت لواء مراجعهم ومنارات علمهم.ويمضي المصاب بمصيبة 8 ملايين دولار على روايته "الاقتصادية" الملتبسة التباساً حميماً، أو "حميمياً" على قول زميلاتنا الصحافيات، بالإيمان والصلاة والزيارات والأفراح والأتراح، فيقول ان ثقة أهل الثقة في صاحب حملة الحج، لقاء 7 آلاف دولار "الحجة" الواحدة، أصابته هو بدوره، و"أعمته" بعماها. وفي تلك السنة، 2002، اتفق مع أشقائه على "جمع مبلغ من المال"، وإيداعه مضاربة صاحبه وتجارته، وربما مرابحته ومشاركته وإجارته، وكلها "إسلامية" ومنزهة عن الإثم الرأسمالي، على رغم رأي ناهض حتر وفتواه في فساد الأصل الفكري للإسلام السياسي وفي "تناقض" الإسلام هذا ودعاته وأصحابه. وهذا النهج في "اتفاق" الأشقاء وأبناء العمومة والخؤولة والأعمام والأخوال والأصهرة وأهل البلدة الواحدة وأصحاب المعاملات في صندوق الضمان الاجتماعي والمقيمين في حي واحد و"المعارف" على اختلاف أوجه المعرفة النهج هذا يلحم بين هؤلاء، ويقوي عروة النسب والجوار و"البيئة" بعروة التجارة والإنتاج "الاجتماعي"، على خلاف عروة الرأسمالية الليبرالية.[صناعة إخوان الصفافعروة الرأسمالية لا تقوم إلا بالاقتصاد المجرد، والمال العاري من كل آصرة إنسانية، على خلاف الأواصر والروابط الغنية والمتشابكة التي يقتضيها اتفاق الأشقاء والأخوة على جمع الحصص أولاً، وإيداعها وفاض المضارب المرابح المشارك التقي الورع ثانياً، والتعاقد وإياه على "مادة" تشغيل الأموال وموضوع التشغيل، ثالثاً. والباب الثالث مدعاة نظر وتأمل. فبعد النفط، وتجارته المثلثة والمعقدة، دعا ناظر مدرسة النجاح في الشياح سابقاً (وصلاح عز الدين كان هذا الناظر في يفاعته) شركاءه وإخوانه الى المداولة في الحديد: "عرض علينا اذا كنا نود تشغيل أموالنا في الحديد"، المعدن الخسيس قياساً على النفط والذهب والماس الأنغولي والكونغولي والجنوب افريقي. و"اقترح" الرجل على إخوان الصفا "جمع كسر الحديد في الجزائر ثم توضيبه لشحنه الى الصين". وصارح "المحدث" إخوانه بأن "أرباح هذا الموضوع أكثر من (أرباح) النفط بنسبة ثلاثة في المئة". فوافقوا على "الاقتراح"، "لأن العملية بدت مقنعة"، أولاً، ولأن زيادة 3 في المئة على الربح لا تزدرى، على ما يقر المصاب.وتتناول اللوحة او الرواية صناعة "الجماعة" الاستثمارية المالية على مثال عصبي، ودمج مقومات الرابطة، أو الآصرة الأهلية والاعتقادية، ومشاعرها وأهواءها وقيمها، في بنيان الجماعة الاستثمارية والاقتصادية المفترضة. وما يُفترض فيه، على منطق اقتصادي مجرد وغالب في عالم اليوم، أن ينشئ كتلة من المساهمين وأصحاب الحصص وحَمَلة أوراق الشطور والأبعاض، المقتصر تعريفهم، وتعريف رابطتهم، على أسهمهم وحصصهم وأوراقهم، أي على مصالحهم وإدارة هذه المصالح، ينقلبون، في سياقة الشراكة العزالدينية، إخوة وأقرباء "رحم" وأهلاً، متكافلين متضامنين، ويتقاسمون ايماناً واعتقاداً وغايات تلحم بينهم بلحمة معقدة. ويدعو إخوة الإيمان والاعتقاد الى الالتحام ما يفيض عن المصلحة، ويتخطاها الى رص الجماعة وشد عصبها، ويمزج دنياها "الفانية" بدينها وآخرتها الباقيين. وما يرويه الحاج الغفل المصاب بمصيبة مقدارها 8 ملايين دولار، شأن ما يرويه زميل له في المصاب "لا تتجاوز" مصيبته (على ما كان قال حسن نصر الله حين قصر الخسارة على "حدود" 400 مليون دولار) 700 ألف دولار، إنما هو وصف دقيق لإنشاء ما يسميه أهل الرياضيات "حوض اصطياد (الطريدة)" والاستيلاء عليها.فالطرق والسبل المفضية الى صلاح عز الدين، من تعرّفٍ وتعارف وقبول واختبار ومداولة وتعاقد وتعاهد واقتسام، هي أقرب الى شعائر التسليك الصوفي، والدمج في الطريقة، منها الى إجراءات العقد الاقتصادي والمصلحي. وهي، السبل والطرق هذه، لا تعقد بين شركاء عمل بل بين مريدي "شيخ". وتتوسل الى قصدها، المضمر بعضه والمدرك والمعلن بعضه الآخر، بتحريك عوامل الضوي والتسليم والذوبان، على مقدار ما تتوسل بعوامل الكف والصد وإماتة السؤال والفضول. والوسائل كثيرة وعلى أنواع. ومنها التمثال أو النصب المرئي والظاهر على الملأ الذي بناه الرجل لنفسه. فهو رجل الخير والمعروف، وصاحب الحقيبة المليئة بالمال يوزعه على السائلين المحتاجين. وهو باني المسجد والحسينية والملعب والمدرسة. وهو صاحب حملة الحج ودار نشر الكتب "الإسلامية" ومحطة تلفزيون الأطفال "الإسلامية". وإذا نزلت بأهله ضائقة عامة، كتلك التي نزلت بهم في صيف 2006، كان "أول" من مد إليهم يد العون والمواساة، بعد "الحزب" و"السيد" اللذين لا يسبقهما ولا يتقدمهما احد.ومن هذا شأنه يُسكِت، ويلقم أفواه السوء حجراً ويخرسها. وفي عبارة أقل خطابة وتزويقاً، أدى التمثال العام والمشهود الذي رفعه "الحاج"، وتصور فيه لأنظار الناس من جماعته ومشاعرهم وأفهامهم، الى استباق التدقيق والمسألة والتحقيق، وإلى شل المحاسبة والاستقواء بالمصلحة، ورد اشتراط ضمانها وحفظها. فرضي المودعون وبعضهم اهل كار وخبرة وهو زين لهم انه المتفضل والمنعم عليهم حين يقبل ودائعهم المتواضعة، ودعاهم الى جمعها في صرر من مئة ألف دولار الواحدة اختزالاً لحساباته البسيطة و"الحرفية" أرضاهم بشيكات من غير تاريخ هي وثيقتهم الوحيدة والضعيفة. فهم كانوا يخجلون من الحط بآصرتهم الإخوانية والروحانية بتوأم "سيد المقاومة" الروحي، على ما قيل في الرجل بألفاظ أخرى ولكن بالمعنى هذا، الى علاقة مادية محض تفترض ضمانات وأصولاً رأسمالية. فهم لو فعلوا هذا، لأشبهوا أهل الربا والفائدة المصرفية والربح الحرام، ولما خالفوا في شيئ الجماعات الجشعة والمستهلكة والرخوة والآفلة الأخرى، ولما صنعوا "بيئة المقاومة" (على قول قاسم عز الدين، السفير، 5/9) و"اقتصادها الحقيقي".[إحصاء اليقظةوعلى نصب الملأ هذا زاد الرجل مهاتفاته شركاءه وإخوانه وإيهامه إياهم انه يخص واحدهم بتلفونه هذا. وبعض اتصالاته الخاصة كان من أرقام خارجية هي أرقام منزله أو قصره في مدينة بروفنشال، "والله"، على قول احد المحظوظين هؤلاء. ويقول آخر صار "صديقاً"، على ما حسب وظن، ان صديقه كان يدعوه الى سمر "على نفس أرجيلة، كل يوم". وفي الأثناء، أي في ثنايا سحب التنباك العجمي وتضاعيف قصص ألف ليلة وليلة و"السبع بحور" وقصور الجن وطائر الرخ، كان سمير الأرجيلة يحصي رحلات البواخر المحملة نفطاً بين الموانئ العصية والمحجوبة. ولم ينتبه السامع النديم واللبيب الى ان البواخر الآخذ بعضها بتلابيب بعضها الآخر، والمتعاقبة مرة كل ثلاثة أشهر، اقتصرت على باخرة واحدة في أثناء 5 سنوات مديدة. واقتضى إحصاء اليقظة خسارة 700 ألف دولار هي ما جمعها المودع السمير بعد "طرد" موظفي شركة كان يملكها ويديرها وتصفيتها، على خلاف أوامر فقه المجتمع المنتج ونواهيه. ويخلص المودع السابق، واليقظ المرير الحالي، الى أحكام عمل راشدة ومتنورة، على معنى التنوير التاريخي. الأول: "لا تثق في احد جراء ثقة الناس فيه". وهذا حكم ينقض قانون الجماعة وفتنتها ومحاكاتها بعضها بعضاً. والثاني: "فكر أنت وقرر بنفسك ولنفسك". وهذا حكم الرشد الفردي والليبرالي، بعد الخروج من فتنة جماعة الأهل ووطأتها.ولا ريب، لا أرتاب، أنا الموقع أدناه أو أعلاه، في ان الوباء أو التأخيذ السحري الذي تقدم بعض وصفه، ومادته مقالات عشرات الزملاء في الصحف المتفرقة وبعض المواقع، لا يتم وصفه (تماماً تقريبياً) إلا بمقارنته بما يقوله أهل الاقتصاد المصرفي والرأسمالي. فالمأخوذون المسحورون من اهل الجماعة العزالدينية، ومثقفوهم وكتّابهم وصحافيوهم لا يشكون، غداة الواقعة وانجلاء السحر وربما "الاحتيال" المتعمد على ما يظن بعض الناس ويدعي القضاء، في ان سبب "المصيبة" إنما هو الاقتصاد المصرفي والمالي الرأسمالي الليبرالي، وتسلل عدواه ورغباته الى قلب "بيئة المقاومة". وإفلاس الرجل قرينة على فساد النظام، وعلى سلامة الجماعة واستقامتها الاجتماعية والسياسية والأخلاقية قبل استسلامها لغواية النظام وأوهامه وأحابيله وإوالياته. فليست الجماعة، وإجراؤها (إجراء بعضها) تدبيرها الاقتصادي والمالي المفترض على مثالات سياسية واجتماعية وأهواء عصبية وأهلية، المسؤولة عن الواقعة. فالمسؤول هو الاقتصاد المصرفي والمالي وأزمته الأخيرة، على رغم انتفاء الشبه بين الأزمة المالية الورقية، أو "أزمة التوريق وتوريق التوريق" على قول رئيس جمعية المصارف اللبنانية باسطنبول، وبين تداعي "الهرم" التقليدي الذي رفعه صلاح عز الدين، وتداعت الجماعة "كالبنيان المرصوص" الى إيداعه لبنات هرمه.وعلى الجهة المقابلة، جهة الاقتصاد المصرفي والمالي اللبناني، المشترك تفادياً لوصفه بالعادي أو المعياري، لاحظ رئيس جمعية مصارف لبنان، جوزف طربيه (الحياة، 4/9)، أن أعمال صلاح عزالدين "معزولة كلياً عن القطاع المصرفي"، وأن ضحاياه، أو معظمهم، هم "من اهالي بلدته ومعارفه والأقارب الذين انجذبوا الى العائدات المرتفعة التي كان يدفعها على أموالهم" وودائعهم. وتشخيص طربيه المبكر ثاقب ونفاذ. فهو انتبه الى ان شرط الوباء العزالديني لا يصدر إلا عن العزلة والانكفاء اللذين أصابا شطراً من شيعة لبنان، وحملاهم على طلب الاستثناء، وعلى توهم الاستثناء هذا في مطالهم ومتناولهم لا لعلة إلا انهم هم. وهذا ما يسمّونه وجهاً "إلهياً" من مصائرهم. ويعتقدون "إلهيته" لأنه آية انتخابهم واصطفائهم وخطر شأنهم، على ما يقال لهم ويصدقون. وهو آية استوائهم الجماعة المظفرة والمنتصرة والفاتحة والقوية التي يتغنى "سادتهم" بها، ويمدحها سادة سادتهم في طهران ودمشق.ولم يكن يقدّر للوباء ان ينتشر إلا "خارج النظام المصرفي اللبناني" و"نشاطه الكثيف". والقانون، على ما ينبه طربيه، "يحظر على شخص ليس له صفة المصرف المرخص ان يتلقى ودائع الجمهور". وعلى هذا فعلاقة الرجل بـ "أهالي بلدته ومعارفه وأقاربه" ليست علاقة مصرفية، على خلاف ما يذهب إليه ألسنة الجماعة وكتبتها. فهي علاقة "انجذاب"، على قول المصرفي الحصيف، وعصبية، و"مشاركة". ويخرجها هذا من أحكام أو "إطار" قانون النقد والتسليف. و"المشاركة" بمنأى من القانون وأحكامه وإطاره لا ينهى عنها القانون، وهو لا علم له بها ويجهلها، على رغم حرص بعض ألسنة الجماعة العزالدينية والحزب اللهية على إنكار الأمر (محمد زبيب، الأخبار، 8/9، يندد بـ"فضائح لا تحصى ولا تعد" سبقت إفلاس عز الدين، وينسبها الى "عدم وجود أي رقابة فعلية على النشاطات المالية... وعدم وجود أي حماية جدية للناس").ويقيد الرئيس المصرفي الإباحة القانونية بشرط واحد هو "أن تعي الشريحة التي تورطت في (العمل الحر) الأخطار" التي تتهددها. ويجزم بول مرقص (الحياة، 16/9)، في ضوء النصوص القانونية التي يُفترض "المواطن" على إلمام بها ولا يفترض في "احد" الجهل بها، بأن "المسؤولية المعنوية تقع على الدائنين". فـ"الناس (الدائنون) أقرضوا (صلاح عزالدين) على المكشوف، وركنوا الى وضع الشخص المالي، ولم تحصل غالبيتهم على ضمانات عقارية". وهذا اختيارهم وإرادتهم. ولا يسع القانون، أي الدولة وسلطاتها وأجهزتها، حماية الناس من أنفسهم، على خلاف ظن سادة الأجهزة وسلاطينها ومفتيها ورعيتها. وحين تسترسل جماعة من الناس مع أهوائها، وتستخفها أحلامها ومزاعمها في استطاعتها ومقدورها، فقد ترتطم بالواقع من غير ان يكون ارتطامها محتوماً.والجماعة العزالدينية حسبت أن في وسعها تعاطي التجارة في عالم رأسمالي من غير التقيد بضوابط العلاقات الاقتصادية الرأسمالية، ولا مماشاة تجريد هذه العلاقات الأعمالَ المالية والتجارية من التباسها بالقرابة والمكانة والميل والعصبية. والحق ان السياسة والاجتماع اللذين تصدر عنهما الجماعة هذه، ويمثل الحزب الخميني المسلح عليهما، تدعوانها دعوة حثيثة الى التعويل على الالتباس هذا. وإذا كانت القرابة والمكانة والعصبية تصلح آلات ورافعات في رص الجماعة، وإعدادها للحرب المستميتة و"مجتمعها" والتخفف من معايير الحياة المشتركة وثقافتها الرخوة ومساوماتها، فهذا في جبلة السياسة أو بعض أطوارها. وسوس الاقتصاد والدولة بسياسة المفاصلة الاجتماعية والثقافية والسياسية في نهاية المطاف، على ما يرضى شطر من شيعة لبنان (وغيرهم بديهة)، بذريعة "المقاومة" و"مجتمع الحرب" و"الحياة بكرامة" و"التأله"، يقود الى دخالة فادحة، وإلى هجنة تشتبه معها العلامات، وتعشي العقل والقلب معاً و"تعميهما"، على قول أحد المصابين. وليست الأنباء والأخبار والشائعات عن أدوار الموساد واللجنة المالية الأميركية لمراقبة أموال المنظمات الإرهابية وبعثة الباسدران للتحقيق والتعويض والنيوليبرالية المتوحشة إلا من بنات العماية هذه

السبت، 17 أكتوبر 2009

أقلمة نزاعات «الفضاء» العربي والإقليمي المفرطة يترتب عليها انفجار أزمات وطنية مستعصية ومديدة


الحياة 14 /10/ 2009
مع نزول طائرة العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز بمطار دمشق في السابع من الشهر الجاري، قالت المستشارة الإعلامية والسياسية للرئيس السوري ومضيف الملك الزائر، بثينة شعبان، ان العلاقات السورية - السعودية «تسير في تطور ممتاز». وهذا مقدمة لبيت القصيد: «هناك نية قوية لخلق فضاء وجو عربي يحاول أن يستفيد من الطاقات العربية لرفع كلمة العرب على الساحة الإقليمية والدولية». ولفظتا «نية» و «يحاول» وإن كانتا قرينة على الحذر والتواضع بإزاء المشروع الكبير والعسير، في ضوء الماضي القريب والبعيد، إلا انهما لا تلجمان طموح العزم، ولا تقيدان عرضه واتساعه.
وإعلان المستشارة السورية لا يقتصر على النية، فيما يعني سياسة بلدها ورئيسه. فسورية سبقت الى «التنسيق(...) مع الصديقتين تركيا وايران لخلق فضاء اقليمي، عربي إسلامي، يستطيع أن يواجه التحديات الكبيرة التي تعترض الأمتين العربية والإسلامية». وعلى هذا، تكمل القمة السورية - السعودية السياسة الإقليمية والدولية التي ينتهجها الرئيس السوري، وترمي الى بناء حلف شرق أوسطي «متوسط»، من غير جناحيه، المغاربي أو الشمال افريقي والجنوب آسيوي.
وتشبه «الخطة»، أو مدونة النوايا هذه، فكرة التوازن الاستراتيجي التي صاغها الرئيس السوري الراحل في العقد بين حرب تشرين (أوكتوبر) أو غداتها بقليل وبين تولي غورباتشوف قيادة الاتحاد السوفياتي في منتصف الثمانينات الماضية. وفي الأثناء، وقبل طي الفكرة وترك الكلام فيها، توالت مفاوضات كمب ديفيد الثلاثية ثم معاهدته المصرية - الإسرائيلية، وقيام جبهة الصمود والتصدي وانهيارها، وانفجار الحرب الإيرانية - العراقية، والحملة الإسرائيلية على المنظمات الفلسطينية المسلحة في لبنان وإجلاؤها عن أراضيه وإجلاء القوات السورية عن بيروت والجبل ثم عودتها، إلخ. ووجه الشبه بين المشروعين هو ارتسامهما في الإرادة والذهن السياسيين السوريين، ونهوض دمشق على رعاية ارتكازهما، وجمع موارد الإرتكاز هذا، وافتراضها في نفسها القوة على جمع الموارد والقدرة عليه. ويندرج المشروعان في اطار يكاد يكون واحداً هو «الوقوف في وجه التحديات وما يتعرض له المسجد الأقصى ومدينة القدس والفلسطينيون من اعتداءات اسرائيلية». وهذه عبارة ظرفية وحادثة عن «القضية الفلسطينية»، قلب العلاقات العربية والإسلامية، وقلب «فضائها» تالياً، الأمس واليوم.
والفرق الظاهر والبارز بين المشروعين، على رغم عسر المقارنة بين مشروع اختبر وطوي وبين آخر لا يزال وليداً و «نية» و «محاولة»، هو تعويل المشروع السابق على القوة العسكرية والديبلوماسية السوفياتية، وعلى تصدي محور عربي مشرقي الى محور عربي آخر يعول صراحة على سياسة القطب الأميركي، بينما يبدو المشروع الحالي أقرب الى اطار اقليمي، فرعي وعريض معاً أو متوسط العرض. ويعلن المشروع الحالي وجهاً ديبلوماسياً ظاهراً، هو قفاز حرير أو بمنزلته، تقوم الديبلوماسية التركية النشطة عنواناً عليه. وهو يبطنُ انجازات السياسة الإيرانية، وبعضها موروث من السياسة السورية أو يستأنف انجازات سورية، في لبنان وفلسطين والعراق والخليج و «الشارع» المشرقي عموماً وأفغانستان، الى الانجاز النووي المحوري والدور النفطي، انتاجاً ونقلاً وتوزيعاً.
وبدا، يومها، ارتكاز التوازن الاستراتيجي السوري معقولاً على الصعيد الديبلوماسي، في وقت أو ظرف عربي تصدرته المسألة الفلسطينية، وأطبقت القبضة السورية فيه على معظم روافد المسألة، ودارت المنافسة السورية - العراقية - المصرية عليها في المرتبة الأولى. ويبدو الارتكاز السوري، اليوم، أصعب بكثير. فـ «الصعود» المزدوج، الإيراني والتركي أضعف النطاق العربي عموماً، ومكانةَ المسألة الفلسطينية وقوتها على الجمع والمنافسة، وأدرجها أداة في برامج ومسارات متشابكة، وعقَّد بنية المشكلات والمعالجات والتوازنات. وجر الإرهاب المنظم والمعولم القوة العسكرية الأميركية، والغرب عموماً، الى قلب المشرق العربي وأطراف الشرق الأوسط. وكثَّر نهوض الصين، الى «العودة» أو «الصحوة» الروسية، أقطاب الخريطة الاقتصادية والاستراتيجية، ومصالح الأقطاب.
وبمعزل من الدعوى السورية، أدت العوامل الفارقة التي حصيت للتو الى أقلمة القضايا الوطنية الداخلية، والقضايا الإقليمية الفرعية والمشتركة، على نحو عميق. فربط التدخل العسكري الأميركي المباشر في العراق (في اطار الحرب على الإرهاب، والخوف من الانتشار النووي «المارق»، والسعي في إرساء الغلبة الديموقراطية على العلاقات الدولية ودوائرها المتحفظة) وتجديدُ الخمينية الإيرانية في صيغتها الحرسية النووية، ربطا المسائل العربية الإقليمية عموماً، والمسألة الفلسطنية خصوصاً، بمحاور ونزاعات ومصالح تتجاوز الفضاء أو المسرح العربي الى مسارح عريضة مجاورة.
وتجلو المحاور والنزاعات والمصالح هذه المسائل العربية الإقليمية، والوطنية الداخلية، في حلة إقليمية مختلفة عن الحلة المعروفة والمعهودة. وحين ذهب الرئيس الأميركي الجديد، في مطلع ولايته، الى أن حل المسألة الفلسطينية - الإسرائيلية «مصلحة (أميركية) وطنية»، احتج لرأيه بأن حلها ينتزع من السياسة الإيرانية، ومن أذرعها وأقنعتها العربية والمحلية، بعض ذرائعها القوية. ولم يستأنف الرئيس السابق، جورج بوش الابن، الدور الذي اضطلع به سلفه، بيل كلينتون، في معالجة المسألة نفسها إلا حين تعاظم خطر الإرهاب في العراق على تماسك العراق وعلى جيرانه العرب، وأرادت السياسة السورية التملص من القيود الإقليمية والدولية عليها في لبنان.
فنَفَذَت العواملُ الاقليمية «الفضائية» الى ثنايا الأزمات الوطنية الداخلية، وفشت في أرجائها من غير حاجز عربي أو مصفاة عربية. ويكاد يقتصر الدور العربي على كسر مناعة الكيانات الوطنية، واضعاف تماسك الكيانات هذه في وجه العوامل أو الرياح الإقليمية الملتبسة بالنزاعات الدولية. والحربان الإيرانيتان على أراضٍ عربية، في لبنان (2006) وفلسطين (2008 - 2009)، قرينة متضافرة على التحاق المسرح السياسة المحلي الأهلي والعسكري، بالمسرح الإقليمي الدولي، فغداة حربي أفغانستان والعراب تخففت ايران من تهديدي طالبان وصدام حسين لقاء مرابطة قوات أميركية وغربية أطلسية على طول آلاف الكيلومترات من حدودها الغربية الجنوبية والجنوبية الشرقية. وامتحنت ولايتا خاتمي «الإصلاحي» والمنكفئ على الداخل الإيراني، والأزمة الاقتصادية الداخلية المتطاولة، «الجمهورية الإسلامية»، ومتانة طبقتها الحاكمة، وتلاحمها، امتحاناً قاسياً.
فجمع أحمدي نجاد، نيابة عن أجهزة القوة الإيرانية، التهديد الأميركي والإسرائيلي ويأس العامة الإيرانية الضعيفة والفقيرة في «برنامج» قومي - ثوري وعامي واحد، مولته طفرة أسعار الطاقة الجديدة. ورجع عن توقيع البروتوكول النووي الإضافي، وهو يخول الوكالة الدولية للطاقة الذرية تفتيش المنشآت الإيرانية من غير إخطار، وغذى «الوكالات» الإيرانية في العراق ولبنان وفلسطين إمدادات كثيفة. ولم يزدرِ رافد «القاعدة» حيث وسعه. ولم يخفَ على السوريين، ما يمكن أن يجنوه من الانعطاف الإيراني أو يستبقوه من دور أفل، وسورية تتوسط «ولايات» إيران و «فتوحها» العربية: العراق ولبنان وفلسطين. فلم يحل جسر عامي 2005 - 2006 حتى اشتعلت الساحات الثلاث، وقام بعضها على بعض، وأثمن على مقادير متفاوتة ومدمرة كلها.
ولعل «خير» وأثمن ما حصلته إيران العربية والنووية معاً من انعطافها القومي - العامي والحرسي هو إرساؤها النزاعات الأهلية الوطنية (في الكيانات الوطنية) على ركن متين. والعراق هو، ربما موقتاً، إخفاقها الوحيد، والأرجح انها عوضته في اليمن وربما في القرن الأفريقي. ففي «الولايات» هذه، أثمر الانعطاف تتويجاً لسياقات ومسارات سابقة، بعضها قديم. فتبلورت كيانات فرعية، أهلية محلية وعسكرية أمنية، خرجت من «قمصان» دولها الضعيفة وإهابها، وناصبت دولها وسلطاتها «الأميركية» («الصهيوأميركية»: على قول اسماعيل هنية... «القومي السوري» البليغ) العداء والحرب.
فحلت الثنائية القطبية، الإقليمية والدولية، الساحات الوطنية وأبنتيها السياسية الأهلية والإدارية، وقسمتها ومزقتها. وأبطلت عمل مؤسساتها وهيئاتها. وانقادت حركات إسلامية اخوانية، في الأردن وسورية ومصر، بعض الوقت، للتجربة والاختبار الإيرانيين. ولو قيض السلاح والاعتزال الجغرافي والأهلي، على شاكلات جنوب لبنان وغزة فلسطين وصعدة اليمن ومدينة الصدر البغدادية، لتفاقم الأمر (هذا إذا فات الوقت) وعظم. فالمصالحة والحوار يتصدران السياستين اللبنانية والفلسطينة منذ 2005 - 2006. وترجمة صدارتهما انهيار اللحمة الوطنية في البلدين وتولي الوسطاء، على أصنافهم ومراتبهم، أعباء المؤسسات والهيئات المتداعية. وأصابت حروب الاختيار الإيرانية الأدوار الإقليمية الوسيطة. فجرّت حرب غزة تركيا، وهي ندبت نفسها الى التوسط، الى اضعاف موقعها ودورها الوسطيين. وحملت الجبهة الفلسطينية «السنية» حزب العدالة والتنمية «الأوروبي» على ما لم تحمله عليه الجبهة «الشيعية» قبل سنتين. وما أخفقت السياسة الإيرانية في نيله من تركيا، من طريق التحريض الإسلامي والمذهبي، نالته، أو نالت بعضه في طريق «الشارع» الإسلامي. ويتهدد هذا، إذا استمر، وحدة الدولة التركية، والإجماع المدني والعسكري على شرعتها السياسية والوطنية.
وعلى هذا، فوعود «الفضاء العربي الإسلامي» قد تكون مرة.

الاثنين، 5 أكتوبر 2009

استيلاء طهران و«أجهزة القوة» فيها على قميص فلسطين وكوفيتها... يرتخي


الحياة، 29 /9/ 2009

تجرأ المتظاهرون الإيرانيون في «يوم القدس»، الواقع هذه السنة في 18 أيلول (سبتمبر)، على الذريعة التي حملت مؤسس الجمهورية الإيرانية الإسلامية على تخصيص يوم الجمعة الأخيرة من شهر الصوم للقدس الفلسطينية، وأنكروا على اليوم العتيد علته ومسوغه. فهتفوا الهتاف الذي تخاف الأسماع العربية والإسلامية طرقه، وبلوغه العقول والأفهام: «لا غزة ولا لبنان، شهادتنا في سبيل إيران»، «لا غزة ولا لبنان، أرواحنا فداء إيران». وبعض من كانوا في وسط المتظاهرين وحشودهم في طهران التقطوا صوراً يُرى فيها بعض المتظاهرين وهم يطلبون الى رافعي لافتة تحيي الحزب الخميني في لبنان جمعها ولفها. وقد يكون السكوت المطبق على الحادثة، وعلى الهتاف المزدوج، قرينة على قوة الصدى الذي خلفه الهتاف، وآية على عمق المشكلة التي صدر عنها وأخرجها الى العلن.
والحق أن الدعوة الى «إيران أولاً»، أو تقديم إيران والإيرانيين، قولاً أو خطابة وفعلاً، على الســياسات الإقـــليمية الإيــرانية الخمينـــية التي أرادت، الاستيلاء الســـياسي على الدول والمجتمعات العربية من طريق «حيازة» القضية الفلسطينية، تصيب السياسات الإقليمية الخمينية والنجادية في الصميم. فالقميص الفلسطيني، أو الكوفية الفلسطينية، هو سُلَّم القيادة الإيرانية «الإسلامية»، وذريعتها «الشرعية» الى الاستيلاء على السياسات العربية، وذلك باسم زعم هذه السياسات أن فلسطين هي قضيتها المركزية أو قضيتها المقدسة. وجــمع داعيـــة الـــثورة على الشاه، قبل قيامه بقم في 1963 ونفيه الى تركيا، إيران و «فلسطين» في شعار مشترك لحمته الإسلام. فضمن خطابه الى محمد رضا بهلوي إنذاراً بقطع علاقة طهران بإسرائيل، وحمل هذه العلاقة على أعظم المنكرات.
ويترتب التشديد هذا على نشدان توحيد المسلمين، و «التقريب بين مذاهبهم»، تحت لواء إيران «المسلمة» أي الإمامية. فروح الله خميني هو حفيد العالم الميرزا أحمد مجتهد الخونساري، داعية التقريب الأول في العصر الحديث ومناهض احتكار التبغ. ولكن سياسة مؤسس الجمهورية وافكاره وخططه لا تمليها الوراثة. فإيران الإمامية والمتشيعة استثناء في «العالم» الإسلامي الذي يغلب عليه أهل السنّة غلبة ساحقة. والعرب الإماميون قلة ضئيلة في العالم العربي السني في معظمه. فليس في وسع «الأمة الإيرانية»، وإمامها أو مرشدها، الطموح الى استنهاض إيران والإيرانيين، وهو شرط قيادة «الأمة الإسلامية»، وانتزاع هذه القيادة بشقيها الإسلامي والعربي، إلا من طريق إسلام يجمع، على رغم الانقسام المذهبي، على قضية واحدة.
وتأخر إعلان خميني يوم القدس وإنشاءه الى 1987، أي الى عشية خاتمة الحرب العراقية - الإيرانية. ففي أعقاب سبعة أعوام من الحرب المدمرة، خرجت معظم الدول العربية، القريبة والبعيدة، من تحفظها عن صدام حسين، وأسفرت الولايات المتحدة ومعظم الدول الأوروبية عن مساندتها الديكتاتور والسفاح والعراقي في الحرب الإقليمية الطويلة. وكانت جبهة لبنان يومذاك ثانوية، والفلسطينيون المقاتلون فصائل في المنفى، وأرضهم كلها تحت الاحتلال، والحليف السوري أسير ضيق الجبهة اللبنانية واحتلال الأراضي الفلسطينية. فحاول خميني الخروج من الحصار من بابين: الأول باب الإسلام. فدعا الحجاج الإيرانيين الى البيت الحرام الى الانتفاض على «الشيطان» الأكبر، الأميركي، والأصغر، الإسرائيلي، والتضحية بالنفس في هذا السبيل.
والباب الثاني خصَّ فلسطين. فأعلن الجمعة الأخيرة من رمضان «يوم القدس العالمي». وبعد أشهر قليلة، في شباط (فبراير) 1988، أفتى بإهدار دم سلمان رشدي، الروائي الهندي - البريطاني، جراء تطاول مزعوم على «الإسلام» ونبيه، وعلى خميني نفسه و «التهامه» الإيرانيين، على قول رشدي الذي هو العالم المنفي سابقاً، ورئيسة الوزراء البريطانية، بتصوير ساخر. وتوسل بالفتوى الى إبراز «حزب» إسلامي متشدد وصلب، ينازع الدول المسلمة والبارزة الأخرى على الصدارة والقيادة الإسلاميتين. فتوحيد المسلمين المفترض كان الغرض منه إخراج إيران المتخبطة في حرب متعاظمة الوحل والخسائر، من عزلتها.
وليست فلسطين خميني قضية استراتيجية تشق العرب، دولاً وشعوباً، وتدعو بعضهم الى قتال بعضهم الآخر، وتبيح قيام بعض الجماعات على دولها وقتالها، وقتال الجماعات الأخرى، وتجمع جماعات أهلية متفرقة تحت لواء دول إقليمية وتسلمها الى استخبارات الدول هذه أداة طيعة، وحسب. ففلسطين هذه، الى هذا كله، انتهت رمزاً راعفاً للضحية «الحسينية»، على ما يصور التشيع الإمامي الإيراني نواته الشعائرية والاعتقادية الخلاصية. والجمع بين الضحيتين يبعث في الأمة الإيرانية مشاعر وأهواء لا تنفصل حوادثها السياسية عنها، وتلابس الحوادث الداخلية الكبيرة ملابسة حميمة.
وعلى هذا، فإنكار المتظاهرين الإيرانيين المعارضين هذا الوجه من السياسات الخمينية والنجادية «العالمية»، على معنى اليوم العالمي، والاسلامية والأقليمية العربية، يتطاول الى ركن أساس من أركان الثورة ونظامها الاعتقادي والسياسي. وهو (الإنكار) منعطف في مسارها، على وجهين، رمزي واستراتيجي. فرفض افتداء فلسطين في ساحتين، غزة ولبنان، تستثمر فيهما السياسة الإيرانية العلل والمسوغات والمال والنفوذ والخبرات - على أن يعود عليها الاستثمار هذا تمكيناً وسلطاناً عريضاً وحصيناً - هو (رفض الافتداء) في مثابة رد الثورة الخمينية الى حدودها الوطنية، وتقييدها بقيود «بلد واحد»، على قول ستاليني مأثور. والهتاف يدعو الى مراجعة تصدير الثورة وحماية نظامها «الغادر»، على قول أبو الحسن بني صدر، إما بواسطة الجماعات الإمامية في المجتمعات العربية أو الإسلامية (باكستان وأفغانستان) أو بواسطة الجماعات «الفلسطينية» الإسلامية والمسلحة في البلدان العربية.
وهذه المراجعة كان محمد خاتمي باشرها على قدر نفوذه المتواضع في «أجهزة القوة» والقمع والحرب الإيرانية، وعلى قدر إعادته النظر في «الوهم الإصلاحي» الذي بقي أسيره. وهتاف المتظاهرين في يوم القدس (المفترض) بطهران يتجاوز المراجعة الخاتمية المتلعثمة الى التشكيك في صدق سلطة تنتصر للضحية الفلسطينية الضعيفة باسم التراث الإمامي والحسيني، الإيراني القومي. ويأتي التشكيك في أعقاب التزوير والقمع الانتخابيين. فلأجل إنقاذ حكمها وطاقمها من الناخبين والمقترعين، عمدت السلطات الإيرانية الحرسية الى قتل متظاهرين إيرانيين وإيرانيات عزّل واغتيالهم، والى سجن الألوف منهم في ظروف قريبة من ظروف الاعتقال في سجني مقر النهاية وتدمر. ويقترب عدد القتلى تدريجاً من الرقم الكربلائي، 76 قتيلاً (وهو الى اليوم 72، بالأسماء والسن والظروف التي لابست القتل، بعد أن استقر وقتاً على 69 قتيلاً).
وللأعداد في ميزان الإيرانيين الاستعادي التاريخي والمعياري الأخلاقي ثقل راجح. وعندما أراد روح الله خميني، في «موقعة» 1963، البرهان القاطع على ظلم محمد رضا بهلوي وعلى «مظلوميته»، هو وأنصاره، أحصى قتلى الظلم الشاهنشاهي فإذا بهم 76 قتيلاً لا ينقصون واحداً ولا يزيدون (فيما أحصت الشرطة، وهي شأن «الباســــيج» و «الباسدران» والمزيج الذي تولى قمع التـــظاهرات الانتخابية الأخيرة ليست ثقة ولا شاهداً عدلاً، 5 قتلى الى 9). وإصرار الجنرال والمهندس الحرسي، الرئيس الإيراني، في نيويورك على أن القتلى «لم يكونوا غلطة» ارتكبتها أجهزة قمع الإيرانيين التي تأتمر بأمره وأمر أوليائه، بل «مسؤولية سياسيي (المعارضة) والسياسيين الأميركيين والأوروبيين»، وقصر العدد على 32، مردهما الى خشية ساسة إيران الخمينيين من ظل المظلومية أو «المقتولية»، في الرطانة الدعاوية، الكربلائية على الحوادث والوقائع الجســـيمة. وإصرار أحمدي نجاد في خطبة الجمعية العمومية الرابعة والستين للأمم المتحدة على مشروعيته الرئاسية، وعلى المظلومية الفلسطينية، ثمرة ملاحقة الظل هذا الرئيس الذي «انتخبه 45 مليون إيراني» الى نيويورك، «عاصمة» العالم ومقر البرجين القتيلين.
وخوف القيادة الحرسية، بمن فيها المرشد ومن عيَّنهم في مجالس الخبراء والأمناء (على الدستور) والتشخيص وقيادات أجهزة القوة والقضاء، من الظل الكربلائي يسوغه التاريخ الإيراني الحديث منذ خلجاته الإصلاحية الأولى. فناصر الدين شاه القاجاري، صاحب «دار الفنون» (في خمسينات القرن التاسع عشر) قتل وزيره الإصلاحي، أمير كبير، وطرد مشير الدولة. وجريمتهما ميل مفرط الى الإصلاح، وإلى «الغرب». وقتل الشاه بيد الملا ميرزا رضا كرماني. وارتقى هذا سلم المشنقة وهو يتلو آيات من الكتاب. وأدى قصف القوات القاجارية مجلس الشورى في 1908، وإلغاؤهم الدستور في 1911، وثورة القبائل القريبة من الحدود الروسية عليهم، الى انهيارهم، واستيلاء رضا خان على الحكم. وعندما قام محمد مصدق وحسن مدرس، في 1925، على رضا شاه، ونددا، ونواباً آخرين، بإقرار مجلس الشورى انقلاب رضا واستيلائه، نفى الشاه المستولي محمد مصدق، وسجن حسن مدرس وقتله في سجنه. ويقول المؤرخ الذي يروي الوقائع هذه، جان - فرنسوا كولوزيمو، معقباً على فعلة رضا شاه: «فقضى بسحق الطاقات الفكرية والمعنوية التي لا تقوم طموحاته (السياسية والعسكرية، والاقتصادية) إلا بها، على طموحاته».
ويصدق مثل هذا، حرفياً، على صنيع الشاه محمد رضا (بهلوي)، في 1951 - 1953 في حركة محمد مصدق، زميل حسن مدرس والناجي بحياته في 1925. فبناء إيران «عظيمة» - على مثال «حديث» ينكره الخمينيون، وربما إيرانيون كثر، ولكن الخمينيين الجدد استبقوا منه نواته النووية والعسكرية والاستخباراتية والقمعية، وزادوا الدين عليه - هذا البناء لا غنى له عن «الطاقات الفكرية والمعنوية» الإيرانية. ومعظم الطاقات هذه هي، اليوم، في صف محمد خاتمي ومير حسين موسوي وكروبي و (مع الأسف) هاشمي رفسنجاني. وتحصنُ محمود أحمدي نجاد وأجهزة القوة، وعلي خامنئي والمجالس المعيّنة، بجماهير الحرس، وملايين الباســـيج «المســـتضعفين»، وتحريضهم على أصحاب الامتيازات من الطبقات الوسطى وأبنائها الجامعيين (منذ 1999 وقتل طالبين في الحرم الجامعي بطهران)، لن يعدم تجديد الأثر نفسه. وهو انفضاض طاقات إيران الفكرية والإنسانية عن دولتها، واقتصار الدولة الوطنية على جهاز قوة يرهب المواطنين فوق ما يخيف الجيران والمنافسين والخصوم.
وهذا ليس بعيداً من فلسطين. فالحكم الذي يقتل متظاهريه وناخبيه، ويعاقبهم بسرقة أصواتهم، وكم الأفواه، وحظر الإعلام والكذب، عقاباً على اقتراعهم لجناح آخر من الحكم، هذا الحكم سعى ويسعى في الاستيلاء على معنى فلسطين مفترض، ويتوسل باستيلائه الأول على استيلاء ثان على السياسات الوطنية والإقليمية العربية. وسار «حزب الله» في لبنان على خطى الاستيلائين تحت لواء الطاقم الخميني بإيران. واقتفت «حماس» أثر الحزب «اللبناني». وحمى الحزبان نفسيهما من مواطنيهما وإخوتهما بالقتل والقصف والخطف والتخويف. وهما يحميان نفسيهما، باسم فلسطين، بالتلويح بالوسائل نفسها. ويسكت الفلسطينيون عمن يبتزونهم، ويبتزون العرب والمسلمين، باسم «قضيتهم» والظلم الواقع عليهم، بينما يقتل المبتزون مواطنين عزل تحصيناً لسلاحهم، ومنظماتهم الأهلية المسلحة والأمنية. وعلى نحو حط الحركة الشيوعية، وأحزابها اللينينية والستالينية والبريجنيفية، بالاشتراكية الى منظمات بوليسية بيد موسكو، تحط الخمينية الحرسية بفلسطين الى درك مسألة بوليسية وأمنية تعالج بالاغتيال والخطف والتعقب والكذب.

تاريخ الديانات السياسي قرينة على تبديد السحرمن العالم... أم على عودة الدولة المقدسة؟


المستقبل - 4 /10/ 2009 -
حين زار البابا الكاثوليكي، يوحنا بولس الثاني، وهو الكاردينال كارول فويتيلا البولندي وحبر فرصوفيا (وارسو) الى حين انتخابه الى حبرية روما، بلده الأم، بولندا، في 1979، خرج الى استقباله، والترحيب به، نحو ثلث الشعب البولندي. وكان البولنديون ينعمون بـ «ديموقراطية شعبية» منذ 1945، يسوسها بيد غليظة شيوعيون محليون اشتركوا مع رفاق أماجد في تصفية المقاومة البولندية الداخلية، البورجوازية، «عميلة» لندن، حيث كان يقيم قادتها وديبلوماسيوها بعيداً من موسكو والوطن الاشتراكي، واستخباراته وقتلته. وهؤلاء اغتالوا، في غابة كاتين، القريبة من الحدود البولندية الألمانية، 12 ألف ضابط بولندي (في 1941). واستبقوا، في ذروة الموجة النازية والألمانية الكاسحة، انبعاث جيش وطني، بورجوازي وأوروبي، على حدودهم الغربية وخاصرتهم الطرية. فلم يأمنوا الانبعاث هذا، واغتالوا من طاولتهم أيديهم، في الحال، عسى ولعل. ولم يخرج المؤمنون وحدهم الى الاستقبال والتهليل بل خرج من توسموا في مواطنهم، أول بابا كاثوليكي غير ايطالي منذ أربعة قرون، القوة على إيقاظهم من الاستسلام لجبروت القهر والخوف واليأس. وكان سلاح فويتيلا كرازة ايمان عنيد وواثق، ومعرفة عميقة بركاكة الشيوعيين الحكام، وهزال معتقدهم، وتآكل دولتهم وسلطانهم.[«انبعاث» الدين؟ولم تلبث الزيارة ان أعقبتها زيارات. وسرعان ما أثمرت هذه، منذ الزيارة الأولى، ولادة اتحاد «التضامن» («سوليدارنوسك») النقابي، في 1980، في غدانسك، ميناء البلطيق. وقامت زهرة الطبقة العاملة وريحانتها في المراكز الصناعية الثقيلة والكثيفة، على «حزبها» الذي ندبته، موضوعياً وتاريخياً على ما يفترض، الى تمثيلها وإدارة مصالحها العامة والعليا، في تنسيق وثيق مع الفلاحين والأنتلجينتسيا. وأنكرت عليه سياسته ومزاعمه وجدارته. وطلبت، من غير التواء ولا تلعثم، تولي تمثيلها وحقوقها بيدها هي، من غير وساطة حزبية. ونصب المضربون الصلبان على أبواب المصانع، الى جنب المواقد. وصلوا راكعين خاشعين، في ظلها، تحت سماء غائمة ومكفهرة. فلم يرجع «التقدميون»، اشتراكيين أو غير اشتراكيين، من دهشتهم، وإنكارهم على طبقة عاملة صناعية، في بلد أوروبي متقدم، نكوصها الديني والغيبي هذا، وانحدارها على سلم التاريخ ومراحله.وكان سبق الزيارة البابوية الأولى الى بولندا، في صيف 1979، استقبال الإيرانيين، على نحو «بولندي»، عودة أحد مراجع تقليدهم الإمامي الإثني عشري من منفاه، في شباط 1979، الحاج آغا آية الله «عظمى» روح الله الخميني. وسبق هبوط طائرة المنفي، قادمة من باريس، بأيام قليلة إقلاع طائرة شاهنشاه ايران، محمد رضا بهلوي، الى غير عودة. واختلط في جموع المستقبلين الغفيرة المعممون على مراتبهم والعامة والطبقات الوسطى من تجار البازار والموظفين والمتعلمين والطلاب، وعمال النفط ومصافيه، والمهاجرون الجدد الى أحزمة طهران وغيرها. وحمل الناس القادم من المنفى على إمامهم العادل والمتواضع ومقدمهم، وصاحب جمهوريتهم الإيرانية (والإسلامية؟ تحوم شكوك على وصل الصفة الثانية)، جمهورية عدالة الإسلام، على ما حسبوا، والمساواة من غير قسر ولا «ثورة بيضاء» متعسفة ومستعجلة، ولا إذعان للمصالح الأجنبية الطاغية. فالحاج آغا هو وارث حركة المشروطة، أو الثورة الدستورية الأولى في العالم الإسلامي في 1905. وهو متمم محمد مصدق، مؤمم النفط الإيراني في 1951، وسنده (الموقت) آية الله الكاشاني. وقبل هذا وذاك وبعدهما، الفقيه هو نائب إمام الزمان، المهدي من آل محمد، المبعوث ليملأ الأرض عدلاً بعد ان ملئت جوراً وظلماً. وبين ليلة وضحاها، انقلب الإيرانيون على ما بدا ان إيران سائرة إليه، وميممة نحوه لا محالة، وهو «العلمانية»: مصادرة الأرض الزراعية على كبار ملاكيها (وفيهم بعض كبار العلماء المعممين والأوقاف التي تتولى نظارتها وإدارتها هيئات علماء مدرسين ومدبري أضرحة) وتوزيع بعضها على الفلاحين والمزارعين، ومساواة المرأة بالرجل في الأحوال الشخصية (إلغاء المحاكم الشرعية) والتعليم والعمل، وحظر الحجاب، والتشريع من غير قيد الاحتكام الى الشرع، الخ.ولا يعتد بالمتحفظين، على رغم عددهم ودورهم في إضعاف حكم الشاه وانفضاض الإيرانيين عنه. فهم ، المتحفظون، معظمهم الغالب من النخب الاجتماعية والثقافية المدينية. والثورة هي اولاً ثورة العامة المؤمنة والمحافظة والمشتكية قهر من ليسوا منها، وترى اختلافهم ومباينتهم انسلاخاً وارتداداً وعدواناً. وتديُّن العامة الحقيقي سوغ ظهور الإسلام الإمامي وبروزه من غير منازع، على نحو وقدر ما سوغ استيلاء الجهاز الإكليركي أو السلك العلمائي على مرافق الحكم والإدارة وموارد الثروة الوطنية. فلما آذن قائد الثورة بانعطافه «الإسلامي»، ورمى ورقة التين الوطنية والليبرالية والثورية (بازركان ويزدي وبني صدر و«مجاهدي خلق» وغيرهم)، خيّر المتحفظين والمترددين بين المشي في ركابه وبين نفيهم الى طبقة «المنافقين» العريضة. فرضخ شطر راجح للتخيير، وشطر عريض ممن لم يرضخوا كان نحو العقد من الحرب العراقية ـ الإيرانية ذريعة مديدة لتصفيتهم أو قمعهم وإسكاتهم أو انزوائهم في منفى داخلي واسع. فالحرب الإلهية، والشهادة سلاحُها غير المكافئ الأمضى، ورثت الثورة الإلهية المستمرة.[سلسلة الأسباب والمسبباتوعلى رغم الفروق العميقة بين حركة «التضامن» البولندية وانتفاضة الإيرانيين الخمينية، تشترك الحركتان في انضوائهما تحت رايتين دينيتين أو «روحانيتين»، على ما ذهب إليه أحد أبرز المثقفين الفرنسيين المعاصرين في تناوله قيام الإيرانيين على الشاه وسلطانه. والرايتان تلهمان دعوة الى «الخروج» على «سلسلة الأسباب والمسببات» وقيدها. وحال غزوِ القوات الروسية السوفياتية جار الامبراطورية الأفغاني في آسيا الوسطى، في العام نفسه 1979، اندلعت مقاومة أهلية رفعت، بدورها، لواء الجهاد الإسلامي. وليس ثمة ما يجمع قادة المقاتلين الأفغان السنّة والقبليين والقوميين، من باشتون وطاجيك وأوزبك وهزارة، الى أشباههم الإيرانيين، معممين وحاسرين، للوهلة الأولى أو الثانية أو الثالثة. فلا مصادر الإلهام واحدة أو مشتركة، ولا تاريخ الجماعات متقارب، ولا أبنية الجماعات وأغراضها وغاياتها ووسائلها. ولكن الداعي القوي الى طرد غزاة الشمال، وتطهير بلاد الأفغان من «رجسهم»، ولم شتات الأقوام والبطون والوديان وتعريف هوية تعلّق الاقتتال وتشبك المتقاتلين المقاتلين في حرب على «الكفار»، هذا الداعي والفيصل هو الإسلام. ومكانة الملالي و«العلماء» من اهل الحل والعقد والشورى متواضعة قياساً على نظيرها الإيراني، من غير شك. ولم يسع امراء الحرب وقادتها في رفع مكانة الملالي القلائل، غير ان «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، من طريق الملالي أو غيرهم، بدا ركناً من أركان حرب مديدة وقاسية. والإسلام، على صوره ورسومه، هو ركن هذا الركن ومعينه. فالجماعات تأتي نفسها، وتتعرفها، وتعرفها بواسطة ما يستوي مرجعاً قائماً بنفسه وبعيداً من الجماعات وخارجها. وعلى هذا، فالجهاد الأفغاني «إلهي» شأن «الجهاد» الإيراني، من غير النسبة والإضافة الإيرانيتين أو الجهر الإيراني.وقيام البولنديين على السلطان الشيوعي الزمني والعلماني القاهر، على بعد الشقة بينه وبين الخروج الإيراني وبينه وبين الجهاد الأفغاني، تماسك (قيامهم) بالتعويل على المرجع القائم بنفسه «هذا»، وعلى لائحته المسوِّغة كسر سلسلة الأسباب والمسببات والواعدة بكسرها وفكها وفضها. فإذا جمع الى هذا، وهو كثير، مضي الكاتب الروسي الأرثوذكسي ألكسندر سولجنتسين على «بشارته» بالخلاص من طريق «قديسيه»، إيفان دينيسوفيتش أو ماتريونا أو بعض مرضى جناح السرطان، بينما الجيش الأحمر يذر قرنه في أرجاء العالم (الثالث على الخصوص)، تحقق ما يشبه اليقين بانبعاث الدين، أو الديانات، في الهزيع الأخير من قرن صنع أهلوه بأنفسهم، وبعضهم ببعض، وفي أرضهم ودنياهم، ما لا يصنع، إبادة ودماراً وتحكماً وتفريقاً ونزفاً. وذهب كثر الى تصديق «نبوءة» كاتب فرنسي جهوري الصوت زعم ان القرن الواحد والعشرين لن يكون إلا دينياً («أو لا يكون»، على هوى اللغة الفرنسية واسترسالها اللذين لا يلزمان العربية نقلاً ولا ترجمة)، وما استهلته خاتمة السبعينات أتمته الثمانينات على نحو فاق وعود الأولى. فنهضت المجتمعات المدنية في دول شرق أوروبا ووسطها، وتخففت من نير بيروقراطيات كليانية زعمت لنفسها القوة على تدبير وجوه الاجتماع، وحياة الأفراد، كلها. وصمدت إيران الخمينية على جبهات القتال، وسلاحها القاطع فتيان وشبان يركضون على حقول الألغام وفي أعناقهم مفاتيح الجنان. وتوالت حملات الجيش الأحمر على الولايات الأفغانية من غير ثمرة إلا تعاظم قبضة المنظمات وأجهزة الاستخبارات الحزبية والإقليمية على الأهل في ديراتهم، أو في المهاجر وأحزمتها على الحدود الأفغانية ـ الباكستانية، والحدود الأفغانية ـ الإيرانية.وفي الأثناء، كان ينصرف مدرس وكاتب فرنسي، مارسيل غوشيه، من المتتلمذين على كلود لوفور، أحد رواد نقد الكليانية السوفياتية في ميزان الديموقراطية الليبرالية وتاريخها وأصولها (وليس في ميزان النقاء والإحياء الماركسيين والثوريين على مثال رائج)، الى التفكير في انصرام التدين، والاعتقاد الديني، وأفوله، على زعمه. ووسم كتابه في «المسألة» الدينية المعاصرة بميسم استعاره من احد آباء اجتماعيات الدين والتدين، الألماني ماكس فيبير. فحمل العصر على «تبدد السحر (الديني) من العالم»، وارتفاعه عنه. وعليه، يخلف عالم المؤمنين «المسحور»، على قول يرقى الى الفلاسفة الألمان في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر، عالم صارم طلّق أهلوه الكنايات والمجازات، وقصروه على ما يسعهم معرفته واختباره واحتسابه منه ومن أحوالهم وأحوال دنياهم. فلم يبق العالم ولا دنيا الناس، على رغم قول الشاعر، «غابة من الرموز»، ولا كتاباً من العلامات المتصلة والمتواردة منذ البدء وأرحامه الى المنتهى وسدرته. والأغلب ان البشرية تجهل مسالك صنعها التاريخ ووجوه الصنع هذا، ولكنه صنيعها، وعليها تبعاته.[التعريف بالمفارقةوتاريخ الحداثة، وهو أوروبي في معظم فصوله المتأخرة، طويل ومديد. ومدار التاريخ الطويل والمديد. ومدار التاريخ الطويل والمديد هذا على «الخروج من التدين»، على قول مارسيل غوشيه الذي جرى مجرى الشعار في الخمس وعشر سنوات المنقضية، ودعا عدداً من الباحثين، فيهم لوك فيري وريجيس دوبريه وأوليفييه روا وآخرون، الى المناقشة والمجادلة. وتاريخ الحداثة، على الوجه المقترح، لا يقتصر على الأفكار والمعتقدات والمعارف والمباني السياسية والاجتماعية والمعاشية. والأدق القول انه لا يتناولها وهي على الحال الظاهرة هذه من البعثرة والرصف. فهو يتناول انعطافاً اناسياً عريضاً حدّاه الزمنيان القرن السادس عشر الى أواخر القرن العشرين. وذلك قياساً على تاريخ البشرية المديد منذ «الحقبة المحورية»، على قول كارل ياسبرز، في القرن السادس ـ القرن الرابع ق.م. الى «الثورة الديموقراطية» في العصر الحديث. ففي الحقبة المحورية أرست الأديان الكبيرة ومذاهب الحكمة، البوذية الكونفيشيوسية والزرادشتية واليونانية واليهودية، في بؤر التمدن الكبيرة وجوارها، علائق الجماعات بداخلها وخارجها، وتعريف الجماعات نفسها، ورسوم مصائرها، وتوقيع أزمانها وأوقاتها، على المفارقة. فالجماعات والنوع البشري من بعد، هويات ومباني ومصائر وأوقاتاً، لا تقوم بنفسها أو رأسها، أو أودها، على معنى القوَّامية والإعالة والتماسك واحتمال التبعة والصدور (عن مصدر) ـ وذلك على خلاف زعم مشترك وشائع منذ «الثورة الديموقراطية» على امتداد قرونها الخمسة ـ بل تقوم بغيرٍ مفارق على أنحاء كثيرة ومتفرقة. وعلى هذا، فمدار تاريخ الديانة السياسي، أو التاريخ السياسي للتدين، على ما يصرح العنوان الفرعي ويخصص، منذ الحقبة المحورية العتيدة الى الثورة الديموقراطية الحديثة والمعاصرة، إنما هو تاريخ الخروج من المفارقة، والتعويل على غير مفارق في تعريف «النفس» وفك علامات الكون والعالم، الى قيام «النفس» المحايثة هذه بأودها كله، أولاً وآخراً وما بينهما.وعموم الرسم التاريخي وعرضه، على ما هو جلي، لا ينفيان التعقب الدقيق والمرحلي، ولا التخصيص والتبيين. فهما، العموم والعرض، يقتضيان هذه، الدقة والمرحلة والتخصيص، من غير ان يشيح التأريخ عن نظم السياقات الجامعة وإرسائها على مقدمات وأصول «ضرورية»، ليس من تلقائها بل في ضوء بسط السياقات وتركيبها. ومن المقدمات والأصول هذه إيجاب مقاصد تسعى الجماعات (المجتمعات) في بلوغها، وترتب أجزاءها وعلاقات أجزائها بعضها ببعض ورسومها ومراتبها في ضوئها، منذ «القدم». فالقصد، وهو كفء المعنى، لم يطرأ تدريجاً على الإنسان «العاري» (كلود ليفي ـ ستروس) والرازح تحت أثقال الضرورة والعوز والقصور عن الفهم. والحق ان المحدثين والمتأخرين، ومتعقبي أخبار الأمم (الجماعات) وطبقاتها، لا علم لهم إلا بمجتمعات تتضافر مبانيها على أداء قصد، مضمر على الأرجح، يصل بين هذه المباني، ويسوقها سياقة متماسكة على نحو أو آخر. ولم يترتب على الضرورة والعوز والقصور، وهي حقائق استشعرها اهل المجتمعات هذه وليست وليدة أحكام متأخرة زمناً، ذمُها أو انكارها وحملها على مبدأ سالب خالص. فتألَّفت المجتمعات «الأولى»، على ما يقول متحف فرنسي في فنون الأقوام هذه، القصورَ والحاجة والضعف، وأدرجتها وجهاً حميماً من وجوه عقلها حالها، او كينتها وعالمها، وارتضائها هذه الحال. فتصوّر العالم ثابتاً ومرتباً على مراتب لا تحول ينزل من يتصورونه على هذا المثال منازل مناسبة، فلا يراها هؤلاء ضرباً لازباً وقاهراً، ولا يرون «حريتهم» قياماً على المثال الموروث وثورة وتقوضاً. وتعهد الشريعة، وأوامرها ونواهيها، دوام أحكام العمل ومعاييره لا تحول بين معتقديها وبين الصدوع بها صدوعاً لا يشوبه القسر الخارجي و«الآلي».ولعل تعريفَ الدينِ الجامعَ هو قبولُ بل اختيار الجمع، على قول غوشيه، بين مِلك النفس وبين خروجها من مِلك صاحبها معاً، وتركُ السعي في التغلب على الطبيعة والتشريع بحسب الرأي، في سبيل قصد آخر هو التمكين من هوية تامة التعريف ومنيعة من كل أطرافها. وعلى هذا، فالمجتمعات الآبدة هي مجتمعات كاملة المدنية. والفروق الظاهرة بين مجتمعاتنا «التاريخية» وبين المجتمعات الآبدة هي انتفاء الدولة وسر الهوية ودور الدين. فحيث يضطلع الدين بالأدوار كلها، وفيها (أو بينها) دور الدولة من بعد، تنهض علامة فارقة لا ريب فيها. والدولة هي مصدق العلامة هذه، والحادثة العظمى في تاريخ العمران البشري، والقرينة على إنشائه إنشاء جديداً من غير قياس. فثمة زمن ما قبل الدولة، وهو دام عشرات الألوف من السنين، وغلب عليه الدين، ودافعَ الدولةَ وقاومها وحال دون استقرارها، على ما ذهب إليه بيار كلاستر، الأنَّاس الذي يدين له صاحب «تبديد السحر من العالم» بنواة تاريخه هذا. وثمة زمن ما بعد الدولة، ويقتصر على نحو خمسة آلاف سنة، وفي غضونه قارعت السياسة (الدولة مدارها) الدين.[الأصل السابق والمنقطعوعلى الضد من ظن غالب، ليست الديانات «الكبيرة»، أو الديانات «المسكونية» والعالمية، المثال التام للدين وعنه. والأرجح أنها، في مرآة التأريخ المقترح وميزانه، المراحل التي قطعها التدين في مسيره الى الغروب والأفول. وأعظم ديانات التوحيد، وأوسعها انتشاراً، إنما هي ديانة الخروج من التدين، على ما مر القول، أي المسيحية. ووجها التدين والسياسة يُحملان على وجهي اختبار البشر الزمني. فالبشر إما يأتون بعد انقضاء الأمر، وقراره على حال لا يد لهم فيها، وقصاراهم القناعة والصدوع، وإما ينتصبون مصدراً وابتداءً و «منبعاً»، على قول الكاتب، فلا قَبْلَ لهم ولا سابق يدينون له بأنفسهم وبمعاني الخلق. ويدعوهم هذا الى الفعل، وإلى تغيير ما في أنفسهم وما يحوطهم. فإما التسليم بترتيب مقسوم ومقدر، هو دَيْن خالص، وإما الاضطلاع بالمسؤولية عن ترتيب هو ثمرة إرادة أفراد يُزعم سبقهم الآصرة التي تشد بينهم، ويقوم اجتماعهم بها. وما على البشر، في الحال الأولى، إلا اتباع التقليد الثابت رداً لدَيْن الأصل، والاقتصار على حفظه وذكره، وقيام النفس مقامها من الأوقات والمنازل. ويستتبع هذا ضرباً من الاجتماع يضمر، بدوره، علاقة بالزمن تتولاها النفس ولاية تخصصها، وتستوفي تخصيصها. ويأتلف الرسم الاجتماعي هذا من عمارة «الأرض» (الطبيعة)، وجمع الجماعات على عرى دون غيرها، ومن سوس الجماعات بسياسة تلابس رابطة اجتماعها، وسرح تفكير وتدبر تجيل فيه نظرها ورأيها ومقالاتها. ويقضي سبقُ أصلِ الترتيبِ الترتيبَ نفسه، وانقطاعه من الترتيب اللاحق، بغلبة الدين على صور الترتيب (الاجتماع) كلها. والدين هذا قوامه حمل مقادير الاجتماع والنص عليها وتصريفها على الغير (الأصل المفارق)، وإخراجها من يد أهل الاجتماع، وتوكيل التقليد الموروث والثابت بها وحده. وإذا استوى الأصل المفارق ذاتاً، واعتزل خليقته وتربع فوقه وتعالى، لم ينجم عن استوائه في ذاته وتعاليه تعاظم تمكينه وإطلاق هذا التمكين. فهذا أصل يكلم البشر، ويوحي إليهم، ويأمرهم وينهيهم، ويوكلهم بتأويل كلامه، ويجيز لهم تقدير المباحات والمحظورات ومناقشتها والاجتهاد فيها. وعلى هذا، فليست يد الدين مطلقة في تدبير البشر وتصريف شؤونهم، بل يعود شطر من التدبير والتصريف الى البشر أنفسهم، وإلى ولاية بعضهم على بعض. ولكن الطاعة لا تذهب الى أهل الولاية أو الولاة. ولا يسع هؤلاء طلب الطاعة لأنفسهم. فهم يتولون من الناس طاعتَهم الأصلَ، وخروج الناس من مِلك أنفسهم الى مِلك بارئهم، ولا يتولون الاضطلاع بالأمر، ولا يأمرون من تلقائهم.فإذا اضطلع وسيط بين الأصل وبين الخلق بالوساطة، وقام ناس من الأصل وشرائعه وناموسه مقام «الوكلاء»، انعقد الاجتماع في «طوره» هذا على وجهي الوساطة: وجه الاتصال بالأصل، وهو الدين، ووجه الانقطاع من الناس والعلو عليهم وحكمهم، وهو السياسة والدولة. والوجهان متنازعان، على خلاف «الطور» الأول وقراره على انقطاع من الأصل والابتداء لا وَصْلة بعده ولا التئام. فآصرة الحكم والسياسة والأمر تنهض على طرف يباين الصدور الخالص المفترض عن ماض وتقليد موجبين بنفسيهما ومن غير انتصاب وسيط قاهر. ويتصور نصاب الوسيط القاهر في صورة أنصاب وأشراف (نسباً وعترة)، أو في صورة شرائع وحكماء. وقدمت الديانات الشرقية الآسيوية مثال الكون المتصل الغفل والمنطوي على إغفاله وفراغه، فيما قدمت الديانات الأخرى، والديانة اليهودية العَلَم عليها، مثال حمل الألوهة على ذات، وشطر الكون مادة وروحاً. ويتحدر تاريخ الغرب وبلورة السياسة في صيغة المجتمع ـ الدولة، من طريق المسيحية والثقافة اليونانية، من الشعبة الثانية هذه.والرسم العام والعريض هذا، على مثال الرسوم المتزاحمة في أعمال مفكري القرنين الثامن وعشر والتاسع، لا ينكر ذهنيته، أو فكريته. وهو يترتب على فعل أول وموجب، ينزل على منطق متماسك الحلقات، ولا يدين للظروف والملابسات بأصوله. فالديانات الأولى، المنقطعة من الأصل من غير وصلة ولا وساطة، تتفرع على سمات أو مقتضيات محكمة التسلسل الداخلي. ولا فرق بيِّناً بين المجتمعات الأولى التي سبقت الحقبة النيوليتية، واتخاذ الزراعة معاشاً، وبين تلك التي جاءت بعد الحقبة. وتتوسط التسلسل الداخلي هذا حلقة الدَّيْن. ويحمل الدَّينُ الحاضر كله، وقتاً وحياة وكائنات، على هبة أو اعطية مصدرها ابتداء خارج الأوقات والأزمان. واعتقاد الابتداء والدَّين يحكم في المجتمعات الأولى بالثبات على حال لا تحول ولا تزول، وبمدافعة التحول والزوال عن حال الى حال، أي برفض التغير. وليس معنى إرادة الثبات على حال واحدة حقيقةَ هذا الثبات وصدقه، ولا جواز التخفف من التاريخ والبرء فيه. ولكن الإرادة هذه هي وليدة التدين، ومرآتها الصافية. وإنكار التاريخ، أي الانقلاب من حال الى حال وظهور فروق حقيقية بحسب الأحوال، هو جوهر البنيان الديني.ويضمن الانقطاع من الأصل والابتداء انقطاعاً تاماً ألا ينتصب أحد، فرد أو جماعة، بموجب صلة بالأصل أو وساطة مصدراً مستأنفاً للناموس أو الشريعة. فيستوي «الخلق» سواسية مثل أسنان المشط، من غير استثناء ولا شواذ. وتحول السواسية الصارمة دون علو ناس على ناس، وتبطل «المفاضلة» بين الناس، على قول بعض الأثر الإمامي، كما تبطل تصريف أهل الفضل فضلهم سلطاناً على العامة والجمهور وشرفاً. وإبطال السلطان، وانفصاله واختصاصه، وجه من وجوه مدافعة نشطة تتولاها المجتمعات الأولى من طريق مبانيها الاعتقادية والأسطورية والشعائرية والمعاشية التقنية. ولعل القرينة على تعمد الإبطال والمدافعة، من غير ان يستتبع تقرير التعمد غائية أو جهراً وقصداً مدركاً، هي الرئاسة أو المشيخة، وقصرها على القول والمكانة، وإخلاء وفاضها ويدها من قوة الابتداع، أمراً وإنفاذاً. ويحول دون الابتداع، من وجه آخر، إدخال عالم البشر الأحياء والأموات تحت الطبيعة، وباباً منها، من غير انقطاع ولا فرق. وتتولى الديانة، على أحد وجوهها، الإدخال هذا، وردم الفرق بين الكون الطبيعي وبين عالم الإنس، على رغم انسلاخ الآلة المصنوعة واللغة من الكون الطبيعي، وإضمارهما الانتحاء من الطبيعة، والخروج عنها.[التوقيف والاتّباع والحربويترتب على إخراج العلل المحدثة من الخلق وحوادثه إبطال المنازعة القاطعة بين «الخلائق»، وإنكار قيام المنازعة منهم مقام الركن والأساس. فاليقين بأن ما بين البشر ليس من صنعهم أو وضعهم، وبأن السنن التي يجرون عليها توقيف يُتعبدون به، على قول الغزالي، يجعل (اليقين) المنازعةَ محالاً وخُلفاً. والتدين أو التعبد حين يقضي بسبق أصل الجماعة، وبسمو مكانته، إنما يقضي، حكماً، بصدارة الأصل، واستقلاله بنفسه وبخلقه عن إرادات الأفراد الآحاد الذين تأتلف الجماعة ومجتمعها منهم. وسبق الجميع (الجمع أو الكل) الأفراد الآحاد، وتعاليه ومفارقته، يعرّف المجتمعات الجميعية، على الضد من المجتمعات الفردية (ومثالها المتطرف المجتمعات الغربية «الحديثة»)، على معنى فصله الفرنسي لوي (س) ديمون في أعمال تناولت المراتب والطبقات الهندية و «الإيديولوجية» الاقتصادية الأوروبية ومساواتها المنتجين بعضهم ببعض، معاً.وتقوم المجتمعات الجميعية بتبعيتها المطلقة لابتداء تدين له بخلقها، وباتباعها سنناً وتقاليد وسيراً غير مخلوقة، ولا تملك الحياد عنها. ولا يجوز الخلاف على الأمرين، لا على التبعية للابتداء ولا على اتباع السنن والتقاليد والسير المحفوظة. وإذا جازت الحرب بين الجماعات، وفيها، وجب ان تندرج كلها في الأوامر والنواهي الدينية، وأن تصدر عنها، وعن معيار مبادلة متكافئة. ومن هذه الطريق تتفادى الحرب «تمزق المعنى»، على قول الكاتب. وتحكم المبادلة المتكافئة، في هدأة السلم وحروب الثارات، الوفرة والتبديد، وتستأنف استواء الخلق على حاله السوية بعد انحراف مقدر ومعلوم، وتجدد ارتكانه الى علله الأولى والأخيرة، الدينية والاجتماعية معاً. ونظام الحياة، أو آدابها، في إطار يجمع وحدة الجماعة الى ثبات نظامها وقيام ركنها خارجها في واحد، هو نظام الجماعة وقانونها الذي يلابس معاملاتها من غير فرق بين المعيار وبين الوقائع أو الإنّيات. فلا صبوة الى مثال يُخرج الناس من إهابهم وصوابهم، أو عن طورهم، ولا يدعو داعٍ الجماعة الى الانحراف عن سنن السلف.[الدولة والانقسامفإذا انقلب المحدث أو الأصل المفارِق من خارجه ومفارقته وتعاليه الى وسط خلقه، ووسّط بينه، من غير ان يغادر «محله»، وبين خلقه وسائط هي جسره الى خلقه، أو سُلّمهم إليه، تفتق الانقلاب هذا عن بنية جديدة ومختلفة للاجتماع البشري. فالوسيط، وهو الملاك (من ملأكة أو رسالة، بحسب تفسير الطبري عن شيوخه)، ليس من طبائع الخلق، ولا من جبلتهم. وجبلته «النورانية»، بحسب الأثر المتشيع الإمامي في خلق الأئمة، أو «إنسيته الكاملة» بحسب التصوف السني، ترفعه فوق مرتبة البشر وسوادهم. وعلى هذا، فالانقسام الذي باعد الخلق من الأصل، وحفر هاوية بينهما، اغتنى (إذا جاز القول) بانقسام في الخلق نفسه. ونسبَ الانقسامُ بعض الخلق الى علو الأصل ومفارقته، فيما أبقى معظمه على مرتبته الدنيا. وتولت الديانات «الكبيرة»، «المحورية»، الأمرين المتدافعين: تنزيه الأصل عن ملابسة الخلق وتوسيط «ظل» الأصل بينه وبين الخلق معاً.ونشأت الدولة، أو السلطان المفارق، عن انقسام البشر أو الخلق، وترتيبهم على مرتبتين أو طبقتين مصدرهما ملابسة أو محايثة الأصل رابطة البشر وآصرتهم. فمذ ذاك، انتصب في قلب الشاهد المرئي والماثل، محلاً أم سلكاً وهيئة أم فرداً وصلباً، ما يَكْني عن الغيب، ويقوم منه مقام مجازه من غير شبه. والذين يكني بهم الغيب عن نفسه يفترقون عن أشباههم ظاهراً، ويبينون منهم، افتراقاً وبيناً من غير قياس، أي على قدر افتراق الأصل وبينه. ويُوكل الى هؤلاء دعوة الناس الى سلطان الحق، وإلزامهم بإقامته. وسندهم في الدعوة والإقامة هو انه هو الحق ومن عند الحق. ويضمر هذا انتقالاً من حق منزّل، أنزل على الناس ووجدوه ناجزاً، على ما حسب أهل الديانات الأولى، الى حقٍ مُرادٍ يدخل فيه الناس طوعاً أو كرهاً، وتقتضي إقامته دخولهم وصدوعهم وإيمانهم. ولا ينفك الانتقال هذا من تغيير يطرأ على الحق، أي من تاريخ يطاوله ويصيبه. وأول ما يتطاول إليه التغيير هو دائرة المؤمنين وعددهم، واتساع الدائرة وقتاً بعد وقت. فمع دولة الحق ينبسط أفق الفتوح الإمبريالي أو الامبراطوري، وينزع الى عمومية كونية تلم بالأرض وأقطارها. وسلطان الوسطاء، أو القلة المنتخبة، بالإنابة عن الآلهة (الأصل المفارق) هو ابتداء سلطان عموم الناس وسوادهم على الحق المنزّل والممتنع من متناولهم. فافتراض إرادة الدخول في الحق ودولته وسلطانه، أو احتساب هذه الإرادة لا يستقيم من غير حمله الحق على بواعث الإرادة و «أسبابها»، وعلى استجابتها وأوقات الاستجابة.ومذذاك، ومن غير رجوع، والناس على مراتب، شأنهم مع آلهتهم. والترتيبان متصلان ومتلازمان. والمراتب هي حلول الفرق بين الآلهة وبين البشر في قلب الآصرة الاجتماعية ونسيجها، وانتشاره في وجوه العمران كلها. وتكرر المراتب رابطة المجتمع بمبتدئه المنفصل ومحدثه حين يلتقيان، وحيث يلتقيان وينعقد الشاهد على الغيب، ويتربع السلطان. وتتولى المراتب عقل الجسم الاجتماعي الى علته وسببه، وتجديده وحفظه. وهذا ما كانت الشعائر تتولاه من الجسم الاجتماعي قبل الدولة وحدوثها. وعقل الجسم الاجتماعي إلى علته وسببه، وعطفه عليهما، لا ينتهي الى وصلة كاملة، ولا يردم الفرق، وإلا عادت الحال الى ما كانت عليه في الديانة الأولى. فعروة الشاهد المرئي والغيب الخفي مشكلة على الدوام، شأن علاقة المراتب بعضها ببعض. فما يتجسد من الأعلى في الأدنى يفيض عن الظاهر المرئي، وينم بقوة الغيب ودوام غيبه وإلحاحه. وهذه، فيض الغيب وقوته ودوامه، هي ذريعة لاهوت و (علم) كلام في الغيب، أي فيما يفيض منه عن التعيين الأسطوري والفهم البشري. وملابسة الغيب السلطان المنفصل والمفارق يترتب عليها، هذه المرة، جواز التفكير في الغيب وتعاليه، على خلاف حاله في البناء الديني الأول. والثورات الدينية التالية، على معنى الأطوار والأحوال، هي ثمرة جواز التفكر والتدبر والتصفح.ويجلو التفكر، أي جوازه، القطب الذاتي من آصرة المؤمن بالغيب، وآصرة الرعية بالسلطان (العبد بالسيد)، ويخرج القطبَ من سباته أو من إذعانه المسترسل. ولا يؤمَن إفضاء التفكر الذاتي الى دينامية ذاتية تقود بدورها الى التشكك في سلطان الحق على الهيئة التي يتصور عليها. ويدعو التشكك «صاحب» سلطان الحق، أو «نائبه» على القول الإمامي المعروف، الى إرساء فعله، أو «إرادته» و «خطوطه» على القول العثماني، على إرادة عالية وهمايونية تمسك البيت السماوي والأرضي ان «يتداعى» وينهار. ومن هذا الطريق، يبطل أو يقيد سلطان الماضي على الحاضر، ويتخصص الفاعلون، ويخرجون من إغفال أنصاف الآلهة أو الأبطال الذين يملأون أساطير الأولين وقصصهم الى ضوء التعريف والتسويغ. ويطاول التعريفُ الأصل المفارق، فيستقر على اسم وهوية وصفات. ويطاول التسويغ والتعليل إرادته وأفعاله وعلمه، واشتباك هذه بحوادث العالم. وتغلب الدينامية الذاتية على قطبي الانقسام السياسي الإلهي، وعلى مسالكهما، وتنقلب الديانة تاريخاً، أي تحل التاريخَ، فتمسي مادته مادتها، ومادتها مادته.وتتعهد الحرب (الأولى) تشطير المجتمعات. ويسوق مثالُ الوحدة الضاوية والتامة التشطير والانقسام المتصلين. فيقضي المثال بطرد أجزاء من المتجمعات المتحاربة، وقد يقضي بتدميرها، ولكنه لا يتولى ضمها أو دمجها واستيعابها. وهذا خلاف منطق الدولة ونازعها الأصيل والمتمكن الى التوسع والضم والتذويب. فعلاقة السلطة تحول دون استقرار قطبيها، الأعلى والأدنى، على حال ثابتة، وتحمل القطب المهيمن على طلب هيمنة أعلى وأعظم. والملك حقيقة وفعلاً هو ملك الملوك، والشيخ هو شيخ المشايخ، وآية الله ولو عظمى هو آية آيات الله العظمى (على ما قيل في محمد باقر الصدر أو في روح الله خميني). وعلى المنطق نفسه، يتسيد ملك الملوك، أو الخاقان، على المشرق والمغرب، وعلى البرين والبحرين، ويتوق الى جباية خراج السحابة أينما أمطرت. فالأرض كلها، أو «الأرضين» على قول عربي شاع الى منتصف القرن الماضي، هي حد فتوحه المترامية.والجامع (البشري) العام والكوني، وما يلم بـ «الناس كلهم»، طرأ على الفكر من باب الممالك «العظيمة». فكان منعطفاً إنسانياً وثقافياً، وميزاناً وُزن العالم، وحوادثه وجهاته واختباراته، في كفتيه. وحمل المنعطف هذا الديانات والأفكار على احتسابه، واحتساب عنفه وفتوحه ونازعه الى الجمع والتوحيد، في ثنايا مبانيها. والحق ان أفق الجامع العام والكوني، أي أفق السيطرة الامبريالية والكونية، شطر التجربة الدينية شطرين متباعدين: واحداً يومياً ومحلياً يُعنى بأحكام عمل اليوم والليلة ومثاله السنن والسير، وآخر عينه على ذرى الكون والعالم وتقلبات أحوالهما ومصائرهما. وانشغلت «الحياة الروحية»، وما يسمى الصوفية في أقاليمنا، بالتوفيق بين الشطرين، و«الإصعاد» من الأول الى الثاني، والتماس الإيذان بهذا في ذاك واحتجابه فيه. ويعول التدين على جمع الشطرين والوجهين في واحد، وهو يتولى الجمع هذا، على نحو ما يتولاه منطق الدولة وسريانه في مباني الاجتماع التي تضمره على انحاء متفرقة.ويتألق الجمع تألقاً مشهوداً في «الأنبياء» ودعاة الديانات الكبيرة و «المحوربة». ويدخل الأفراد، أي من هم على حدة من الجمع الغفل، تاريخ الحوادث وذاكرة المجتمعات، في معية ديانات الحقبة المحورية وظهورها وانتشارها. ويشتبك القديم والمحدث في التجديد الديني هذا اشتباكاً قوياً ومعقداً، ويلد في سياقة سيرورة واحدة انقسام الغيب والشاهد وحمل الألوهة على ذاته. ويضمر الانقسام والحمل هذان، وهما أفضيا الى مثال الواحد وفكرته، الجذور الروحية للعقل. فعلى خلاف الكثرة المرسلة والأسطورية، وعالمها الناجز والماثل كله، يفترض ازدواج الخلق، وتصور «صاحبه» في صورة مفردة، نظاماً تتماسك به المثنوية (الازدواج)، وتستدل به الأفهام الى مسالك الجمع بين دفتي الخلق. وهي مسالك المفارقة «الجديدة» والمفضية الى ولادة العالم التاريخي الحديث في غمرة مخاض دام 25 قرناً تقريباً.