السبت، 27 يوليو 2013

"البوابة التاسعة" تتحرى أحوال ساحات عربية في تونس والكويت وأبوظبي وبيروت...لقاء الجماعات والأمكنة والحوادث يجلو المدن على صورة اجتماع حي

المستقبل - 28/7/2013

 في الاشهر الثلاثين الاخيرة، منذ انتصاف كانون الاول 2010 في تونس، والساحات وأسماؤها تملأ آذان أهل (اللغة) العربية، أو تصمها إذا جاز التخلي عن التهذيب وسمْته. فمن دوار "7 نوفمبر" على جادة الحبيب بورقيبة التونسية الى ميدان التحرير بالقاهرة، ومن جادة أو طريق السبعين في صنعاء الى ساحة بنغازي الليبية قبل الساحة الخضراء بطرابلس الغرب وساحة اللؤلؤة في المنامة، وقبلها ساحة الحرية أو الشهداء ببيروت وساحة أو جادة أزادي (الحرية) بطهران، الى ساحات فرعية في عواصم المحافظات (سيدي جابر والقائد ابراهيم بالاسكندرية ...)، وأخيراً وليس آخراً ساحة تقسيم باستانبول فميدان التحرير بالقاهرة ثانية وكوكبة الساحات الأخرى - تلك التي شهدت بداية تظاهرة واعتصام مثل ساحة الارادة في الكويت وتلك التي آذن الاعتصام فيها، وهي ساحات البلد بدرعا والعباسيين بدمشق والساعة بحمص والعاصي بحماه وهنانو بحلب والتحرير بدير الزور بفض جموع المعتصمين وتفريقهم بالرصاص والاعتقال والحصار والقنص والقتل والتجويع والتشريد والنزوح والنفي تتدافع وتتآخى أسماء الساحات ومشاهدها واحتفالاتها ومواقعها وملامحها في أذهان أهل المجتمعات العربية (وغيرهم). ويجتمع من تدافعها وتآخيها ما يشبه مشهداً واحداً متصلاً ومتقلباً على وجوه لا تحصى. وهذا المشهد يذكر ببعض الرسوم والتصاوير التي زينت كتباً أوروبية روت فصول الخلق والتكوين في صفحة واحدة أو صفحتين متصلتين، أو تلك التي حاكت الفصول نفسها على بوابات الكنائس أو زجاجها الملون.
"الخلق"
وخطرت هذه ببال رئيس تحرير مجلة "البوابة التاسعة/ مقالات المدينة وأخبارها"، فادي طفيلي وأصحابه، وهذا ما لا شك فيه، أم ألمت ببالهم وطوفت به، فالعدد الثاني، الموسوم باسم مقتضب يتصدر الغلاف ويتوسطه:" الساحة"، يردد أصداء فصول "خلق" الساحات العربية وتكوينها السياسيين والاجتماعيين الرمزيين والمعنويين معاً وجميعاً. وسرعان ما يدرك قارئ "الساحة" / "البوابة التاسعة" أن مقالات العدد (وهو الثاني من المجلة البيروتية)، رغماً أو طوعاً، تتناول الساحات المتفرقة على وجه كائنات تاريخية واجتماعية حية تمور بالحركة والصخب، مجازاً وحرفياً، فوق تناولها على وجه أمكنة أو "جثة"، على ما كان أهل العربية يقولون ("وإنما المكان جثة"، على ما كتب سيبويه في "الكتاب"). فكأن تاريخ الثلاثين شهراً الاخيرة، وغير المنقطعة، حمل المجلة وكتابها على النظر الى (مادة) الساحة، من (باب) المدينة، نظراً سياسياً واجتماعياً- فالموضوع يحتمل معالجة وصفية تقريرية، موضعية أو مورفولوجية وطوبوغرافية، لعلها الأقرب الى العادات الجغرافية المألوفة والسائرة. ولكن التاريخ السياسي المعاصر- وهو في معرضنا تاريخ حركات عامية وديموقراطية، المساواة العمومية والحرية ركنان من أركانها على تفرق مصائرها واختلافها لابس الساحات، وخالطها. "فاشتملت منه" على حوادث جسيمة، وحبلت بمنعطفات عادت فولدتها في بعض هذه الساحات. وميدان التحرير القاهري عَلَم على أحوال الملابسة والمخالطة والاشتمال والحبل والولادة هذه. وعلى نحو ما ولد "أخوة" لميدان التحرير، هم محمد محمود وماسبيرو والاتحادية، ولدت ضرائر، على المثال القرابي والنسبي العربي، هي ساحة رابعة العدوية وساحة النهضة وميدان رمسيس. والقابلة، القانونية، أو الزائفة والمقلدة، هي حركات الجموع السياسية.
ومقالات "البوابة التاسعة"/ "الساحة" العربية كلها، وهي معظم مواد تتعقب الافعال والحوادث العامة (العامية والعمومية) والمشتركة التي وَلَدت الساحات على النحو الذي ألفناه منذ حوالي 30 شهراً، وبلغ ربما ذروته في الاسابيع الثلاثة أو الاربعة الاخيرة (إذا جمعنا، على ما ينبغي، ساحة تقسيم وحديقة غيزي الى سيرتنا أو ترجمتنا السياسية المصرية). فالساحة، عَلَماً وشارة ووقتاً، تؤرخ خروج بادرة سياسية عامة الى العلن. والخروج، في هذه السياقة، يحفظ من معانيه القديمة معنى الابتداء والانقطاع من حال متصلة ومقيمة، ومعنى الانكار والاحتجاج على سلطان غالب. وربما كانت مقالة لاريسا تشومياك في "مشاهد من السلطة: تجليات الاعتراض في تونس بن علي" (ص 49-61) تمثيلاً واضحاً وحاداً على سيرورة إيجاب الساحة أو ابتكارها واقعة عامة ومشتركة وليس مكاناً أو موضعاً فحسب.
البداية ... التونسية
والقرينة هي أن دوار أو ساحة "7 نوفمبر" والاسم يتيمن بتاريخ "ثورة" زين العابدين بن علي رئيس الاستخبارات، على الحبيب بورقيبة الرئيس المزمن والعجوز الذي أصيب بأعراض الشيخوخة- لم يستوِ بؤرة التظاهر والاحتجاج إلا في ختام حركة نقَّلت البؤر الواحدة تلو الأخرى. وتشترك البؤر المتعاقبة هذه في جمعها سمتين أو حالين: فهي عامة أو مشرَّعة على عموم المواطنين، وفي وسع هؤلاء التردد إليها، ولا يسعهم إذا مروا بها إلا الوقوع عليها، وهي من وجه آخر "في قبضة السياسة"، أي السلطان، ومسرح "دعاية سياسية للحكومة" أو دعوة الى الصدوع بالولاء لصورة بن علي، ولما سمي، منذ تقرير خروتشوف الى مؤتمر الحزب الشيوعي السوفياتي العشرين (في خريف 1956)، "عبادة الشخصية" أو "عبادة الفرد". وتحصي لاريسا تشومياك مظاهر سطو رئيس الاستخبارات السابق على صفحات دوائر العلانية العامة والمشتركة: جدران المباني العالية والمطلة على المفترقات والجادات والساحات، ولوحات الاعلانات، والحدائق. ومن هذه، تسللت الصور الرتيبة و"الرئيسة" الى الكتب المدرسية ومسيرات الأعلام الرسمية، والى الانتخابات، وبطاقات الانشطة الثقافية والسياسية.
فرغبة بن علي وجهازه، ومن غير شك رغبة معمر القذافي والأسد الاب والاسد الابن وحسني مبارك وقبله الرئيسان العسكريان وعلي عبدالله صالح وبومدين الجزائري ومرشدي "الأمة"...، هي جمع موضوعات الرغبات والنزعات الجمعية وربما الفردية المتفرقة في "موضوع" أو غرض واحد، وفرض "الموضوع" لازمة تلح على الرعايا من الجهات كلها، ولا فكاك لهم منها. ويذكر هذا بإلحاح صورة انيتا إيكبيرغ الطاغية، في دعاية جدارية تحسِّن شرب الحليب من ماركة صناعية واستهلاكية، على فتى شريط فيلليني "اماركورد" ("الحبل المر"، أو حبل المشنقة): الفم الشره، والاسنان المفترسة في حلة بيضاء مميتة، والصدر العريض عرض اللجة الهائلة والعميقة، والاغنية الطقطوقة التي تتردد على مسمع الولد وتؤرقه ولا يطيق سماعها ولا فراقها والصمم عنها... وربما لم تبلغ مزاعم "الرؤساء القادة" وأجهزتهم الشيقة حد الطمع في مضاهاة "عمق" النوازع الجنسية، وقوة تشبثها وهيمنتها، ولكن تواضعهم لم يدعهم الى القناعة بشطر من المسارح العامة، والنزول الى الناس ومشاغلهم المشتركة والحيوية عن مسارح أخرى يتولون هم شغلها بصورهم وكلماتهم وغواياتهم.
وقبل التجمهر السياسي الصريح، واعلان الجمهور ("الشعب") إرادة رحيل الطاغية وإخلاءه مكاناً أو متسعاً يسع غيره الاضطراب فيه واقتسامه، يقصد الجمهور "مسرحاً بديلاً" يضطلع بالتمثيل على عام مشترك، أو عمومية مشتركة، جمهورية وعامة، ولا يكون مرآة أخرى ورتيبة "للواحد" الكامن وراء كل صفحة منبسطة، ولم تحلّها بعد صورة أو عين "بالفعل" سبقت الواحد المتربص الى التعيين، إذا تجرأت على السبق أو جاز لها أن تتجرأ. والمسرح البديل في حال تونس، هو ملعب كرة القدم. وعلى خلاف صفحة الجدار الفسيحة والمشرفة كلها على الملأ، من غير بقية تسرها وتطويها عن الارصاد أو الأعين الفاحصة، يسع ملعب كرة القدم وجمهوره التفرق مسارح وجماهير. وهو ذريعة الى تأليف الاناشيد والاغاني، والانقسام "أحزاباً" وروابط وشيعاً، والتستر بالنفخ في حماسة اللاعبين على انتقاد المتسلطين والمتنفذين والمجسدين في اسمهم وصورتهم الكل السياسي والاجتماعي.
والمقارنة بين الساحات والمفترقات والحدائق والجادات، حيث يتربع الاسم والصورة غير منازَعين تحت بصر الرقيب المهيمن والواحد، وبين ملعب كرة القدم، حيث تتيح الكثرة والهتافات والانقسامات (على منافسي الدوري الثنائي، النادي الافريقي والترجي التونسي) الاستعارة والتورية والكناية، هذه المقارنة تبرز الدلالة المسرحية للساحة الديموقراطية على نحو ما تبرز المبنى الطغياني والخانق للاسم الواحد والصورة الواحدة. ففضيلة كرة القدم في الدول الديكتاتورية ومجتمعاتها هي مسرحتها الانقسام وكثرة الادوار في الفريق الواحد. فلا لعب، على المعنى المسرحي وعلى المعنى الرياضي، إلا بقيام فريق بإزاء فريق آخر وعلى خلافه. ويقتضي لعب الفريق الواحد تولي اللاعبين، وهم كثير أو كثرة، وظائف متفرقة ومختلفة على رغم تضافرها على انجاز مهمة جامعة. وعلى هذا، فاللعب هو تربية على تقسيم العمل وعلى الجواز والاحتمال والحد، وتأديب بأدب المنازعة وأضدادها وجمالياتها وجزائها. فتربية الطغيان تزعم أن الفرق على وجوهه الكثيرة: فرق الفرد والفرد، وفرق الدولة والمجتمع، وفرق الحاكم والمحكوم، وفرق العام والخاص، وفرق الديني والسياسي، وفرق القانون والعرف، وفرق النافع واللذيذ... يضر بالإجماع المفترض ولا يؤمن من ألا يفضي الى التناحر.
الكويت و"الإرادة"
وتذهب مقالة ليّان الغصين، "الفضاء العام وتحولاته" (في دفتر من 24 صفحة على حدة أغفل ترقيم الصفحات، وقرن النص المكتوب على الصفحية الى يمين القارئ بصفحة مصورة كاملة الى يساره ما عدا الصفحات الثلاث قبل الاخيرة أو "الرابعة") الى الربط بين حركة سياسية اجتماعية كويتية دابة، أقرب الى التململ منها الى العبارة المبتورة والمتحصصة، وبين إيجاب ساحة الارادة "السياسية". وتصل الديوانيات، وهي مجالس ضيافة واستقبال ومداولة عائلية وبيتية، من جهة، وعامة مشرَّعة على الاختلاط (الأسري)، من جهة أخرى، الوجهين. وتشبه كويت الغصين تونس تشومياك شبهاً غير مباشر. ففي وسع السلطة الاميرية الكويتية سن قانون يحظر اجتماع 30 شخصاً معاً في مكان عام، غير منزلي أو بيتي. وينصب هذا الحظر بالجماعة التي تعدّ 30 شخصاً وتقصد التجمهر علانية على غرض مشترك، "خصماً" للسلطة يحق لهذه مقاضاته وتهمة اشتراكه أو جمهرته بالعدوان على العام والمصلحة العامة التي تتولى السلطة تمثيلها ورعايتها والصدور عنها.
وفي مرآة المقالة تبدو الكويت، أي عمرانها المديني والمعماري السكني المحدث (منذ 1952 والتخطيط البريطاني)، على طرف نقيض مع اجتماع العشرات او المئات من مواطنيها متظاهرين، ومسيرهم جماعة أو فريقاً مخالفين السلطة، ومطالبين بحقوق أو بتلبية احتياجات قد تنكر السلطة حقيقتها ومساغها. فالعمران المديني والمعماري هذا استقر، عن يد سلطة الوصاية البريطانية أولاً، على صورة تنبذ اجتماع "الثلاثين"، وتحول دونه. فليس في المدينة، أو "نسيجها العمراني، أرصفة وقف على المشاة من غير اصحاب السيارات والمركبات الآلية وسواقيها وركابها. وعلى هذا فالسير على الاقدام أو الرقص أو التريض أو المواعدة على ما تحصي الغصين، متعذر أو مميت وهو محظور قانونياً. وبين دوائر السكن، وبينها وبين دوائر العمل من مكاتب ومتاجر، أو دوائر الترويح، مسافات طويلة. ولا يُتصور اجتيازها "في المناخ الجاف" والحار الذي يتسلط على الكويت، شأن أمصار شبه جزيرة العرب وحواضرها وبواديها الاخرى. ويحول الطريق السريع الذي يصل دوائر الاقامة والعمل والترويح بين السكان وبين الالتقاء والاجتماع والضوي بعضهم الى بعض: فهو، أي الطريق، ذو اتجاهين واحدهما مغلق على الآخر ويستحيل الانتقال أو العبور من الواحد الى الآخر، ويستحيل تالياً على الناس الالتقاء وبالأحرى التجمهر. وشبكة الطرقة "دائرية وملتفة"، وعازلة. والبناء في هذه الدوائر يقدم ناطحات السحاب (او الابراج) على اصناف البناء الاخرى. والبيوت التقليدية، الطينية والواطئة والمتحلقة على صورة خلايا، جرفت لتخلي المحل للأبراج.
فيلتقي "الناشطون الكويتيون والفنانون" والاحتجاج حكر على قلتين أو جماعتين أقليتين تعريفاً وقد تضاف جماعة ثالثة هي "المثقفون" ورابعة هي "المهندسون"- في ساحة الاراداة، أو في مراكز تجارية تواتي عروضاً علنية، أو في "نسخ حديثة" عن الديوانية ومجلسها. والحق أن رواية ما تصنعه هذه الجماعات، وما تنوي صنعه، ومسرح أو مسارح صنعها، مشوشة. ولا يفهم قارئ المقالة، وهذه حالي، حقيقة ما يحصل على وجه الدقة. فالسيدة ليَّان الغصين تكتب: "ويتمسك الفنانون والمهندسون والمثقفون بحقهم في النزول الى الامكنة العامة والحضور فيها". وهذا واضح، وما يتمسك به هؤلاء هو فعل ظاهر ومادي، ومن نتائج فعله أو انجازه انتهاك نواهٍ سبق للسلطة أن نصت عليها وألزمت السكان "المواطنين" بها. ولكن التمثيل على الفعل المفترض لا يتناول فعلاً ظاهراً ومادياً بل "(اقتراح)... نسخة حديثة عن الديوانية... (على) مهرجان التصميم الدولي". وهذا ليس "نزولاً الى الامكنة العامة"، ولا "حضوراً فيها"، على خلاف الزعم. والقول ان اقتراح النسخة الحديثة عن الديوانية "(يشرك) العالم كله في الحفاظ على إرث الكويت" يعظم الامر، ويوهم بمساواة اقتراح أو "فعل" ثقافي وجمالي، ولا مشاحة في دلالته، "نزولاً" و"حضوراً" عامين ومشتركين.
والقول، في الفقرة نفسها، أن "فنانين من أمثال عليا فريد وأسيل اليعقوب يغيرون وجه الكويت، ويزرعونها بمعالم وتضاريس خيالية تجافي (أم تنكر أو تخالف؟) الواقع مجافاة تدعو الى اشكال جديدة من المشاركة في المكان العام" القول هذا "يجافي" حقيقة الحال، ويحمل التخييل، و"زراعته" وغشيانه الصور، على إنجاز "اشكال جديدة من المشاركة". وبين الامرين، التخييل والمشاركة، فرق ينبغي ألا يستهان به بذريعة صدور التخييل، أو اقتراح رسوم مدينية جديدة، عن أبنية رمزية وحاجات اجتماعية غير اعتباطية، أو بذريعة مماشاة الاقتراح قصداً شريفاً، ولا يطعن أحد، ولا ينبغي لأحد أن يطعن فيه، وهو "المشاركة في المكان العام". فبين "تخيل" عليا فريد وأسيل اليعقوب "المعالم والتضاريس " التي ترعى مشاركة عامة وبين تبني الكويتيين الخطط التي تضمن حقهم في المشاركة ومشاركتهم في إلزام السلطة بها، فرق كذاك الذي بين "تأويل العالم" وبين "تغييره"، في العبارة الثورية و"المادية" المعروفة. فقد يؤدي "توثيق مراحل التطوير العمراني الكويتية وتحليلها، و(رصد) أثر التغيرات المدينية في الوعي العام"، الى "(تغيير) أسس الالتزام السياسي في أقدم أمة في الخليج"، وقد يبقى التوثيق والرصد أثراً بعد عين، على قول بدوي قديم. وحملُ ما تراه نخبة جواباً شافياً عن مسائل حقيقية وملحة إذا لم تماش جماعات "عامية" هذه النخبة، ولم تدمج برنامجها في برنامج النخبة ولم توحد الجماعتان برنامجيهما على نحو أو آخر. هذا الحمل قوي الشبه بديكتاتورية متنورة وعقلانية. والتنوير والعقل، شأن العصبية الدينية الجامعة أو الهوى القومي والعرقي، لا يؤمن جنوحهما الى القسر والتعسف إذا هما غفلا عن "حقوق" أو علل غير متنورين ولا عقلانيين. وإكراه غير متنورين وغير عقلانيين، أو من يفترضون كذلك، على ما لا يريدون قسراً، باسم مصلحة "حقيقية" لا يقرون بها ولا يدركونها على هذا النحو، يسلط الضوء على بعض تناقضات التنوير والديموقراطية المولودة جزئياً منه.
وتدور بقية مقالة الغصين في فلك "أهمية الحفاظ على إرث الكويت الثقافي"، أو "الوقوف على ظاهرة هدم العمران الحداثوي" الذي شيد في اربعة عقود هي عقود 1940 1980، أو الطعن في برج الحمراء، أحد "صروح الاستهلاك المعولم". والرابط بين هذه الافكار وبين بعض مثالات الافعال المدينية غير الاستهلاكية (مثل المشي في السوق وارتياد "العشاق" الممرات الاسمنتية والمنشآت الرياضية حول المناطق السكنية وانتخابها "مكاناً لمواعيدهم السرية"...) غامض. ولا يخلص القارئ من هذه جميعاً الى دلالة الدور الذي اضطلعت به ساحة الارادة في تظاهرات الكويتيين، في 2006، على قانون الانتخابات وقصره اقتراع الناخب على مرشح واحد، وتقييده بهذا المرشح، عوضاً عن المرشحين الخمسة الذين طالبت بهم حملة "نبغيها خمسة". ولساحة الارادة سمتان فارقتان: فهي تشرف أو تطل على البحر، وعلى طريق الخليج الساحلية، شارع آل سالم، وتقوم قبالة مبنى البرلمان الكويتي. والبعد البحري " الملاحي" هو القاسم المشترك. وسمتها التاريخية الثالثة هي وراثتها ساحة الصفاة الداخلية، قلب مدينة الكويت في عهد ما قبل النفط. وعلى هذا، فتوسط الساحة الجديدة الاحتجاجات والحركات السياسية، واضطلاعها بدور قطب "المواعدات" العامة والعلنية (قضية البدون ودمجهم في المواطنة الكويتية، تنحية رئيس الوزراء الشيخ ناصر آل محمد آل الصباح "المفروض" بإرادة أميرية على رغم افتقاره الى سند نيابي برلماني...)، هو نظير تولي مجلس الامة الكويتي تمثيل عموم المواطنين، أو الجماعة الوطنية، بإزاء الحكم والحاكم. فهل يخرج الكويتيون من طريق السمات الثلاث أو بواسطتها من بعثرة وتفريق تضافرت على دوامهما الطرق الملتفة والدائرية والطريق السريع ذو الاتجاهين وطول المسافات بين دوائر السكن وبناء الابراج؟
أنقاض الخطة
وتبدو هذه، في مرآة محاورة تود رايس عبد الرحمن مخلوف، المهندس المعمار ومخطط أبو ظبي الاول (ص 62-77)، قدراً لا طاقة للبلدان الناشئة هذه ولأهلها على مقاومته. فحفيد شيخ الأزهر، وهو في العقد العاشر من عمره اليوم، يسر بصوت خافت أن خطته لم يبق منها شيء، وقد "تكون شبكة الطرق بقيت على حالها، ولكنها صارت أوسع". فمن خلفوه على التخطيط والعمارة تركوا البناء من طبقتين أو دورين، وأوصوا ببناء الابراج محلها. وذهب أدراج رياح "الحداثة" المفترضة اقتراح الرجل تشييد وحدات سكنية قوام الواحدة منها سبعة منازل حول فناء داخلي يجمع أهل البيوت، وهم أقارب، ويصلون فيه صلاة العشاء ويتزاورون. وتستقل الوحدة السكنية بمرافقها المشتركة، المدرسة للأولاد والمسجد للمصلين. فهذه "اندثرت". وانتقلت عدوى ما سماه مايك دايفيس "مرحلة دبي الرأسمالية" الى .... دبي، وكانت دبت في أبو ظبي. ولكن عقدة في لسان عبد الرحمن مخلوف تحول بينه وبين الاعراب عن رأيه في العدوى "الغريبة" التي دبت أولاً في الكويت، وانتشرت في أرجاء "المجتمعات" النفطية حين انفجر النفط في عروقها.
ويحقق صمت عبد الرحمن مخلوف افتراض التوارد أو التعالق بين "إرادات" الجماعات السياسية وبين تبلور ساحات عامة في المدن هي مسارح فعل هذه الإرادات، ومجلس هذا الفعل، وبعض معناه. فكل ما يقوله مخلوف ويرويه لا يخرج عما دار بينه وبين أمير أبوظبي وحده. ويختصر الامير، واعتباراته المخالفة اعتبارات المخطط المدني (في شأن السوق الذي حسب المخطط أنه المرحلة الاخيرة من الخطة وأمر الامير بالابتداء بها)، "أبوظبي"، "دولة" و"شعباً". فلا غرو ولا غرابة إذا تبددت صورة المدينة وخطة خِططها، في خريطة الطرق أو مجسمها، وفي الابراج و"ناطحات السحاب". وإذا كان الكلام على مدينة الكويت، "أقدم أمة خليجية" يتداعى كلاماً على البدانة والمواعدة والمشي وشراء أصوات المنتخبين في الديوانيات وتكلفة الأسهم النارية في ذكرى انقضاء 50 عاماً على الدستور والبعد الملاحي للشارع الساحلي... ويترك جانباً أموراً كثيرة أخرى مثل الانقسامات والمرتبية والعصبية والاجتماعية والمذهبية الجغرافية. فالكلام على تخطيط أبوظبي، ومن بعدها دبي، يقتصر على "إرادة" الحاكم وأعوانه والمشيرين عليه. وهذه الارادة لا يبدو منها، في معرض محاورة المعمار الكبير، إلا محوها أو إغفالها أبنية المدينة وصور اجتماع سكانها أو أهلها. فلا مدينة على معنى جغرافي أو مكاني خالص. والرأي هذا هو الوجه السالب لرأي موجب: تفترض المدينة عاملين متنازعين ومختلفين هما مجتمع (أو جماعة أفقية العلاقات والروابط) و"أمير" أو سلطة ودولة. فإذا اقتصر الامر على قطب صاحب الأمر أو وليه وحده انحلت خطط السكن والزيارات والصلاة والتدريس والمشي والمواعدة في "المسافات الكبيرة" والطرق السريعة و"الاستهلاك المعولم" وأبراجه.
بيروت "عالكولا"
وربما عثر سؤال طارق أبي سمرا (ص 23-35) عما حال بين عقدة طرق "عالكولا" (نظير "عالصور" البيروتية القديمة وإنما على معنى آخر: "بعد الكولا؟"، على ما يلاحظ الكاتب)، وهي ليست "محلة" ولا ساحة ولا محطة سفر(يات) ولا ضاحية بل ثنايا تأخذ من هذه الأحوال كلها بطرف أو ثنية- وبين الاستواء ساحة، على بعض جوابه: لم يكن المكان يوماً مسرح منازعة إنشائية"، إذا جازت العبارة، أو تأسيسية بين ما شبَّه مركزاً أو بؤرة وبين جماعة أو مجتمع أو أهل اجتماع. وتضافر الطرفية (المكانية والأهلية)، والوصلات أو المحطات والبوابات، وجزئية الجماعات المتقطعة والملحقة بـ"مراكز" أو مرافق نائية، لعل تضافر هذه الاحوال والسمات فاقم التفلت من المركز(ين) ومن قطبية المنازعة فلم يجتمع "جسم" المكان المتخلع في معنى متماسك من غير مشهد رمزي او حادثة "أولى"، فتعقد هذه بين الحوادث المتفرقة، الناس والمرافق والمصادر ومقاصد السعي، على مسرح منازعة متجددة الفصول والأدوار من غير ان تنفك واحدة، على سبيل التورية والاستعارة. وقد تتفرق "عالكولا" ساحات أو زوايا أو تنأى الواحدة فيها بحالها، شأن المجمع السكني الضخم الجديد والقوي الشبه بالعمارة "التوربو" في بلغراد (صورة ص 22، وصورة ص 17 البلغرادية) ووارث قصة المعمل المندثر، عن قريناتها او تندمج في كتلة من كتل الطريق الجديدة.
القاهرة وميدانها
وحين يؤرخ خالد أدهم لـ"نشوء ميدان التحرير" في القاهرة، وتقلبه بين "منعزل مائي، (و) طرف، ثم مركز" (ص 36-37)، يدعو القارئ أول ما يدعوه الى ملاحظة تجدد فصول المنازعة وأدوارها وانعقادها على قطبين وعلى مسرح أو ميدان. ففي 21 شباط 1946 "تقاطر عشرات الآلاف (من المصريين) الى وسط (القاهرة)... وعندما بلغ المتظاهرون (ميدان الاسماعيلية، التحرير من بعد) اتجهت نحوهم أربع مركبات عسكرية، وأصلتهم نيران رشاشاتها، فقتلت 23 متظاهراً". وسمى المتظاهرون اليوم المشهود، "يوم الجلاء" تيمناً بجلاء القوات البريطانية الذي يستبقونه، على نحو ما يستبقون اليوم "الرحيل" أو "النصر" أو "الكرامة". ولا يشك خالد أدهم في ان ميدان التحرير "كرسته ثورة 1952 (...) مركز المدينة الرمزي والسياسي المركزي للمدينة". والنعوت الاربعة، العمراني والرمزي والسياسي والمركزي، وهي على صيغة النسبة، تعيد وتبدي معنى واحداً على وجوهه: المعمارية الاجتماعية، والتاريخية الانشائية، والقطبية المشتركة، والمرتبية.
وتعقُّب أحوال المكان الخالص أو المحض، على النحو الذي يتعقبها عليه المؤرخ، حجة على ان الساحة لا "تولد" ساحة أو غير ساحة ("عالكولا" مثلاً) بل تصير ساحة، على مثال المرأة ومنوالها في سيرة سيمون دي بوفوار التاريخية والاناسية "الجنس الثاني". فأول أمره كان الميدان العتيد "مفازات من الوحل منتشرة بين سبخات واسعة في مستنقع كبير" وبعيدة من الكتلة الحضرية والسكانية القائمة الى الشرق. والى منتصف القرن التاسع عشر، توسعت المدينة على محور شمالي جنوبي، وقيدت تلال المقطم توسعها الى الشرق وأراضي الطمي وسماح النيل تمددها الى الغرب. وحرر انحراف مجرى النيل صوب الغرب، في القرنين الثالث عشر والرابع عشر (م)، أرضاً حملت من الماضي القريب والقديم الوحول والاستنقاع قبل أن يهذبها الاستعمال والاستصلاح البشريان و"المدنيان". والتمدين جاء على صورة السلطان والملك. فبنى ابراهيم، نائب السلطان على مصر، القصر العالي بين النيل وبين المدينة "الملكية" والاسلامية وزرع الارض. وحين خلف سعيد ابراهيم شيد قصر النيل، غير بعيد من القصر العالي. وخلف الجيش المصري وثكنه ووزارة حربه على قصر سعيد، على ما يليق بالقوة المسلحة وبحراستها "القصر" من المدينة، والفصل بين الاثنين. وبنى اسماعيل قصراً ثالثاً، الاسماعيلية، في الارض المستصلحة. وأباح هذه، على عرضها ورخصها، للمقاولين والباشوات والوزراء وقادة الجيش. فأخرج توسع المدينة من محور الشمال الجنوب، وقدم قطب الغرب عليه مفتتحاً الصفحة المحدثة، "الاوروبية" و"الكولونيالية"، عليه. فانقلبت المدينة من قاهرة أولى، بلدية وأهلية، الى "قاهرة ثانية"، بورجوازية وسياحية وإدارية سياسية. وعلى هذا، حل مبنى البرلمان محل الثكن العسكرية التي اخرجت من المخطط، على ما ينبغي في دولة حديثة لا يستوفي "جسد الملك"، لا الزائل الفاني والفردي ولا الرمزي أو الصوفي السلالي الباقي، تمثيلها أو التمثيل عليها.

وأقامت القاهرة "الجديدة"، وهي عصور وطبقات، على إدارة ظهرها الى النيل، والشخوص الى الاسماعيلية والقاهرة. وانتظر الميدان الاسماعيلي نحو قرن من الزمن، الى 1951 وغداة إخلاء الجيش البريطاني المحتل ثكن قصر النيل، لتتوسطه شارات إنشائية، مثل "المجمع" الوزاري والاداري، على صفة مركزية "ثقافية وسياسية". ونافست الميدان على الصدارة السياسية الرمزية ساحات أو ميادين أخرى مثل ميدان الاوبرا. والقرينة على "ميدانية" الأوبرا السياسية هي قصد "التظاهرات العامة" المكان، وانتخابه محجة ووجهة وموئلاً. ورفد كورنيش النيل، والفنادق الجديدة التي رعت السلطة "الوطنية" والعامية (الناصرية) تشييدها، الاسماعيلية التحرير بروافد جمهور عريض، ونازعها عليه وعلى استقطابه واستقباله. ونهضت الفنادق الكبيرة، سميراميس فشيبيرد فهيلتون، أقرب فأقرب الى النيل، والى الاهرام مما يلي النيل، علامات على دمج القاهرة البلدية والاهلية بالقاهرة المحدثة، الرأسمالية والوطنية، و"توحيد(هما)" على "مجرى النيل... الذي يربط البلاد بأسرها"، على قول خالد أدهم غير المقنع ولا المتماسك. فهو "يطير" على زعمي من تعاقب حلقات عمرانية واجتماعية وسياسية الى خلاصة "رمزية" مجردة مسوغها "احلام الماء"، على ما كان باشلار قال في الصور الشعرية السابحة في المادة الأولى الاسطورية. والملاحظة على موقع الميدان بين أحياء سكنية الى الشرق، هي امتداد القاهرة "الكلاسيكية"، وبين مبان رسمية تطوقه من الجهات الاخرى، أو "بين المدينة (مجتمعها) والدولة" تقيد الطيران ببينية عمرانية عامة وضعيفة الدلالة على هذا النحو. فالسعي في الاختصار الرمزي، والرغبة فيه، يدعوان ربما الى نهب الوقت والمسافات والمسارات والبيانات. وهو ما تدعو اليه الساحة حين تتألق في حادثة أو حوادث تاريخية غالباً ما يلابسها الفعل (المنازعة) والموت المأساوي (الرد على طلب الاقتسام) و"الاسطوري". ولكن التحجير على ألق الحادثة في بنية ثابتة يمزج ضربين او وقتين من التاريخ والتأريخ ويتعسف.

السبت، 6 يوليو 2013

[ نشر محاورة فارس ساسين ميشيل فوكو في ايران وحركتها السياسية الدينية (1979) كاملة] حمل فوكو الحركة على "روحانية سياسية" انقياد لتشبيه متجدد

المستقبل، 7/7/2013
في صيف 1979، رغب جامعي لبناني، فارس ساسين، انتهى لتوه من كتابة اطروحة في الفلسفة بباريس ويزمع العودة الى بلده والعمل فيه، في مقابلة ميشيل فوكوـ "العلم" الفكري السياسي، ومحاورته في رأيه في ايران، 6 أشهر غداة عودة روح الله خميني الى طهران، ونحو سنة كاملة على التقوض على الشاه واحتشاد التظاهرات اللجبة. وسبق المحاورة الطويلة (ص 34-56 من مجلة "روديو" الفرنسية، شباط 2013، وكان نشر فارس ساسين صيغة عربية للمحاورة في "النهار العربي والدولي، 26/8/1979، هي معظم الصيغة الأصلية الفرنسية) تردد فوكو الى إيران، مرتين على قوله، وقضاؤه نحو 5 أسابيع في طهران وقم وعبادان. وسبقها، على وجه أخص، مبادرته الى الكتابة والكلام في الموضوع مرات كثيرة، تحقيقاً ووصفاً وتأملاً وتحليلاً. ولم يتستر "المفكر" الذائع الصيت على انعطافه الى الانتفاضة الايرانية على محمد رضا ميرزا (بهلوي). وذهب يومها الى أن قيام الايرانيين على طاغيتهم، على غير مثال أوروبي وغربي – حزبي وإيديولوجي ومركزي ومرتبي وتمثيلي بحسب تعريفه- وهم ثابتون على "إسلامهم"، ومجمعون على الخروج من الطغيان والفساد والانحراف والتبذير والغطرسة الى "حكومة اسلامية" ومن طريق هكذا "حكومة"، وراضون بالموت في هذا السبيل، ذهب الى ان القيام على هذا النحو يشبه بعض ما عرفته اوروبا في القرون الثلاثة أو الاربعة، بين الثاني عشر والسادس عشر، من "روحانية سياسية".
(في مناسبة انتخاب حسن روحاني نشر الثوريون السوريون هذا الرسم)

 وألهبت العبارة، وإيحاءات المديح والثناء التي تنم بها ومسايرتها ظاهراً مقاصد بعض قادة الثورة المعممين الدعاوية والمعلنة وإرادتهم "إفحام" أصحاب الميول الغربية والليبرالية من جمهور الثورة وإسكاتهم، المناقشات والردود. وهي لا تزال تتردد أصداؤها الى اليوم: حين تطبع محاضرات ميشيل فوكو في الـ"كوليج دي فرانس" في 1978 و1979، وهي تناولت مسألة الحكومة وأطوارها وصيغها ومعاملتها المحكومين "الاحياء" وأقواتهم وصحتهم وإقاماتهم الاقليمية ومواصلاتهم والمذاهب الليبرالية الجديدة في تنظيم الدول واسواقها... وحين يعمد روائي بوليسي وخبير أمني الى مديح الجماعة الشيعية المسلحة في لبنان وخطيبها والانحاء باللوم على رئيس وزراء الدولة العبرية، فيتذرع بسابقة ميشيل فوكو، ويرجو الرفق في النقد واحتساب الفرق بين "علمه" الضئيل وعلم قدوته "المحيط"... وحين يتذكر أخيراً أحد أصحابنا سعي "علماء" الإمامية الايرانيين وحرسييهم في صبغ الانتخابات الرئاسية الدورية، وتحت مراقبة مجلس خبراء الدستور البوليسية والتفتيشية، بصبغة "الملحمة" الشاهنامية والفيروز أبادية، وحملهم العمل الأمني والقمعي الحقير على صنو الخلاص المهدوي...

قيد الظروف
  ويعود المثقف الفرنسي العَلَم في محاورته الطويلة (مع) فارس ساسين، وأجوبته عن أسئلة محاوره النشطة والمستدرجة (من غير تعمد الايقاع أو التسلط على محاوره، على خلاف تهمة سيمون دي بوفوار بيير فيكتور أو بينّي ليفي ومحاوراته سارتر "المسن" أو "الشيخ" قبل وفاته في 1980) الى "الروحانية السياسية" العتيدة ومحلها من مقارناته ومشاهداته ومفهوماته السياسية والتاريخية والفلسفية. وفي أعقاب 34 سنة على المحاورة، تفجأ هذه قارئها في لغتها الأصلية، ومن غير "تهذيبها" أو تشذيب بُنَيَّاتها، وبعض "صغائر" مجرياتها وحوادثها الهامشية، بحيوية أصدائها، ودوام هذه الحيوية. فهي راهنة ومعاصرة، على معنى منقطع من الصحة والإصابة أو الحقيقة. وأزعم، على ما أحاول البرهان فيما يلي من العجالة أن مقالة فوكو فيما رأى وسمع وعلم بإيران، ومن حركة الايرانيين، سداها ولحمتها غفلة ثقيلة ومعمية عن تاريخ الايرانيين، ووقائعه وحوادثه المعاصرة (1978و1979). فهو أراد التحري الصحفي (أو الصحافي) والخبري عن حادثة كبيرة و"ماثلة" على نحو معقد، شأن الحوادث الكبيرة، وسبق له أن وصف الصحافة المعاصرة بـ"البطولة". فإذا به، على خلاف نهجه في التأريخ، يُسلِّم لمصادري الحادثة و"علمائها" وأصحابها بـ"معنى" الحادثة المفترض – وهو مفترض حرفياً.  ولكن هذا التسليم، إذا صح الوصف أو التقرير، لا يقتصر على الحال المنكرة أو المستنكرة ولا على المقالة نفسها. وإعلانه أو جهره من أين أُتي وحُمل على قول ما يقول، وأشكل عليه وشبِّه له، "درس جميل"، على قول محاوره اللبناني اليوم، في جلاء عوامل الرأي والحكم ("ملكة" الاحكام أو الأقضية) في المسائل الانسانية و"الزمنية"، والسياسية منها في منزلة عالية. وسرد الرجل مراحل استواء رأيه على ما استوى عليه، وتقييده الاستواء بقيود كثيرة، من حيث إلمامه بما يتكلم فيه ومصادر هذا الإلمام ومن حيث الوقت الذي أتيح له وموقع الوقت من صيرورة الحوادث الايرانية والمعايير التي يقيس بها وعليها. هذه كلها تنبه على ملابسات الرأي السياسي عموماً وشبهاته. ولا تحمل الملاحظة العامة هذه على اختصار المسألة في "تخطئة" الرأي أو "تصحيحه" و"تحقيقه". فليس في التخطئة أو التصحيح، غداة 35 سنة على انقضاء الحادثة، موضوع الرأي، ما يُعتد به أو يُستقوى، ولكان متحف الآراء أو متاحفها الباردة هي المحل الذي يليق بالرأي هذا. ولكن هجوم الحوادث المعاصرة واليومية، من وقائع الحركات التونسية والمصرية والليبية والسورية الى الانتخابات الرئاسية الايرانية الاخيرة وتظاهرات 30 يونيو (حزيران) المصرية وما تلاها، على المحاورة وإقحامها بعض أصدائها وإيحاءاتها في سطورها، قرينة على خلاف هذا الزعم. والاقتصار على المحاورة، دون المقالتين التاليتين اللتين تتناولانها في عدد المجلة نفسه ودون مقالات فوكو نفسه في الحوادث الايرانية وملاحظاته عليها، اقتضاه تعقب عوامل المعاصرة او الراهنية، في رطانة العصر.
 فأول ما يشغل صاحبنا، وأشد ما يشغله، هو تقييد مقالته أو رأيه في الثورة الايرانية يومذاك بملابساته وظروفه "الفوكوية" (الفوكالدية"، على نحت الصفة الفرنسية). فما دعاه، هو، ميشال فوكو صاحب مقالة "الروحانية السياسية" في انتفاضة الايرانيين انتفاضة رجل واحد على الشاه ونظامه وإجماعهم على خلعه، من غير قيادة مركزية سابقة ولا إيديولوجية ثورية  غربية" ماركسية أو ليبرالية ديموقراطية- الى طلب شهود حوادث الثورة من غير وسيط، ورصدها ووصفها عن كثب، ليس إلا جملة وقائع ثانوية ومبعثرة. فهو لا يزعم، على ما كان وسعه الزعم غير مكذَّب، أنه أراد اختبار ولادة علاقات الأمر والسلطات والتقليد من رحم الخروج والتقوض والاجتماع الحاشد في المشاهد والحج، أو إجهاض هذه الولادة. فيتحاشى "شد الغطاء الى جهته"، على قول فرنسي سائر، أو تسويغ فضوله ورغبته في المشاهدة والمحاورة بافتراض رابطة بين الحوادث وبين مقالاته هو، فتنوه (الرابطة) بسبقه "النظري" أو باستشراف مقالاته مشكلات العصر وقضاياه الحارة، على ما يرغب كثيرون. وحين يسترسل المحاوَر في شرح تناوله السلطة والسيطرة على وجهيهما، وجه التسلط ووجه جوابه والرد عليه الذي يضطره الى تغيير جلده وتقنياته وخططه ومقاصده ( في ص 46-47 على الخصوص وبعض الذيول والاصداء في الص 50 و51 و52)، لا يبعد عن التسويغ، ولا عن الكناية عن نفسه ومقالاته. ولكنه حين يسأل من غير مداورة عما دعاه الى الرواح الى ايران، ولبس مسوح الصحافي والمخبر الشاهد، يقتصر جوابه على التعلل بقراءة كتاب ارنست بلوخ "الرجاء أصلاً". و وما يسأل عنه فوكو فعلاً هو تشخيصه ظاهرة غريبة تجمع، على نحو غير متوقع وممتنع (أو بدا ممتنعاً) "روحانية" غير متخلصة من أصدائها وأعلاقها "الشرقية" والصوفية أو المسيحية الثورية وغير الجهازية-  بين الحلاج بحسب ماسينيون وتيريز الإبلاوية على ما "رواها" جورج باتاي- الى "سياسة" لا تتنكر لرغبات الجماعة، أو الأمة على معنى الاجتماع الأصيل و"المنصهر" (سارتر) ولا تنصب عليها سيداً آمراً وحاكماً.
 والتعلل أو التذرع بكتاب الماركسي الألماني الذي شغلته الثورات البروتستانتية الدينية والاجتماعية قبل عمله الجامع بعقود – فكتب في ثورة الفلاحين "اللوثرية" التي قادها توماس مونزير كتاباً متوهجاً- هو أقرب الى التنصل منه الى التعليل. فهو يقول (ونقل هذ الجزء من المحاورة الى العربية ملخصاً في "صحافة العالم"، "الحياة" اللندنية، 19/6/ 2013، بتوقيع فوكو ومن غير اشارة الى صيغة المحاورة) إنه قرأ كتاب بلوخ، وتأريخه غير الدقيق في "ميزان العلم التاريخي" (لـ) ما يرهص منذ القرون الوسيطة الاخيرة، القرون 12 الى 16، بفكرة الثورة ومثالها. وهذه الفكرة حضنتها حركات دينية جماهيرية. فاستجابت جماعات عريضة دعوات غير مأذونة، لم تأذن بها المراتب الكنسية الرسمية الى مباشرة رسوم الخلاص الآخر منذ اليوم، وفي الحياة الدنيا والفانية.
 ومثَّلت الحركات الدينية على رسوم الخلاص بإلغاء المراتب الكهنوتية، والاستغناء عن الوساطة، وتقديم المساواة  أو الأخوة بين المؤمنين، وإعلاء مكانة الإلهام والانتشاء و"الجذب" الفردية. وأوَّلت الوعد بالقيامة والبعث الأخرويين شراكةَ (جماعة) المؤمنين وأخوتهم ومساواتهم، وذوبان وجداناتهم في وجدان جامع واحد. فترتفع الحجب عن الضمائر والسرائر، ويتقاسم الأخوة ما يملكون ويحوزون، ويتخففون من أثقال الدنيا وممتلكاتها التي يتفاضل الناس بها ويتفاوتون على مراتب تفصل بينهم، وتفرقهم، وتجرهم الى الاقتتال. وقدم تأويلُ المسيحية على هذا الوجه أجزاء الرواية الانجيلية التي تجلو التقاسم والشراكة والأخوة في صور بهية، مثل وليمة قانا وتكثير الخبز والسمك والنبيذ، أو العشاء الأخير عشية التعليق على خشبة الصليب، أو "مشهد" القيامة والفصح وسلام المؤمنين بعضهم على بعض وتهنئتهم بعضهم بعضاً بالقيامة "الحق" والمتجددة، إلخ. وهذه كلها تنصب الرجاء، وليس الأمل، أصلاً وركناً، وليس مبدأ (على خلاف زعم الترجمة العربية "مبدأ الامل"، وهي أقرب الى "مبادئ" الحزب السوري القومي الاجتماعي، وكشافة النجادة والنهضة، منها الى تأويل بلوخ...). وكان فرانتز روزينزفايغ، قبل غيرشوم شوليم وإرنست بلوخ، ذهب في كتابه الموسوم بـ"نجمة الخلاص" (1925) الى أن مسيحانية انتظار الخلاص اليهودية تتعدى الاقرار بأبعاد الزمان الثلاثة، ماضي الخلق وحاضر التبليغ وآتي "المملكة"، الى إيجاب هذه الأبعاد وتحقيقها في حياة البشر واجتماعهم ومعاملاتهم أو عمرانهم.
نسب الثورة
وما يستوقف الكاتب الفرنسي، العقلاني والعلماني الدهري على ما وصف نفسه غير مرة، هو شجرة نسب الثورة وفكرتها و"الحق" فيها، على ما وسم محاوراته الطويلة مع بيني ليفي (بيير فيكتور "اليساري البروليتاري" والماوي يومها، على ما مر أعلاه) غداة ربيع 1968 وحركاته الشبابية. فحين تكشف الرجع الأخير أو الصدى الآفل للتقليد الثوري (الفرنسي) المتحدر من 1789 و1793 و1848 و1871 عن "نهاية" الثورة وأفول فكرتها في "احتفال" 1968، وكانت الأحزاب الشيوعية الماركسية فاللينينية والستالينية زعمت ان هذا التقليد وديعة فيها وفي "البروليتاريا" التي تمثلها وتقودها، قام الاحتفال العتيد قرينة على استقرار الرأسمالية على "مرحلة"، على قول بيانات الأممية الثالثة، ليس ما بعدها إلا هي في صورة متناسلة ومتجددة في "نيو" حلة فرضيات، 20 عاماً قبل بشارة الأميركي – الياباني فرانسيس فوكوياما، غداة تداعي جدار برلين والستارة الحديد ببلوغ "التاريخ" ختامه وغايته. ولعل "تذكر" أحد أعلام ربيع 1968 الفرنسي، العَلَم على بنيانية آسرة ثم العلم على ما بعد هذه البنيانية، عنيت ميشيل فوكو، نسباً دينياً بروتستانتياً ومبتدعاً ، للـ"ثورة" التي أبرقت وأرعدت بباريس، وبعض جامعاتها وضواحيها، ولم تمطر ولم تخلف ذرية سياسية، لعل هذا التذكر، غداة عقد تام على الانعطاف الفكري الذي كان فوكو أحد وارثيه وخازنيه وألسنته البليغة، ترجيح للفكرة الآفلة، وتنسم لها واستشراف لهبوبها من ناحية غير ("الغرب"). ويخلف غيرُ ("الغرب") هذا، الايراني والاسلامي الشيعي، غيرَ ("غرب") آخر ماوياً شرقياً فلاحياً متمرداً على المدن والتقنية والمراتب، قريباً زمناً من الدور أو الوقت الايراني "الثوري".
ويدعو الى التقريب والمقارنة استهلال صاحب "تاريخ الجنون" و"تاريخ الجنسانية" محاورته اللبناني "الشرقي القادم اليه من وساطة كاتبين مصريين "مسلمين" وماووين، وسائله عن السبب في "انهمامه" بإيران، بإثبات رأيين متلازمين: نسب الثورة السياسية (الشعبية) الديني في الغرب، واطراح الثورة الايرانية الشعبية وهيئاتها وتمثلاتها الدينية "الاديولوجية الثورية الغربية" وحزبها السياسي ومنظماتها. ويفرع الفيلسوف الفرنسي على هذين الاصلين فروعاً متضافرة. فهو ينفي عن الاسلام الايراني رده، على ما فعل معاصرون كثيرون بعضهم إيرانيون، أو حله في "مجرد وسيط" أو سند تعرب الجماهير المنتفضة من طريقها عن حاجاتها الاجتماعية بعد أن أعيتها الحيلة، وسدت عليها منافذ العبارة ومسالكها الحديثة أو الغربية. والاسلام الايراني الشيعي على ما "رأى" الشاهد البارز، عامل قائم بنفسه. وآية هذا إقبال "ملايين وملايين من الناس" على مجابهة جيش وشرطة قويين وقاتلين. ويعزو الشاهد الإقبال غير الهياب على المجابهة والموت الى "قوة سياسية ودينية معاً" تبعث على الثورة والموت، وإلى "معتقد ديني صادق وعميق"، يُوْدعه الثائرون لغتهم و"مصطلح" ثورتهم. و"يذكر" هذا المعرض الشاهد الاوروبي بحركات القرن الخامس عشر والقرن السادس عشر الدينية: القوة على القيام والخروج ، والبعث على الموت، والتوسل بالمعتقد لغة ومصطلحاً متعارفين وسائرين.
والى القوة (على جبه الموت) واللغة المشتركة، ينسب المؤرخ الى المعتقد الديني الإجماع أو الإرادة المجمعة، الواحدة و"العامة"، التي تنفخ في الحركة الايرانية. ويرى أن الارادة المجمعة أو الجامعة هي صنو جماعة تامة الحضور، من غير تمثيل ولا انتداب ولا تفاوت أو مراتب. وتصيب الحيرة الشديدة صحافي الواقعة أو الحادثة الايرانية المرتجل حين يسأله محاوره عن موضوع الإرادة المجمعة أو فُرادها. فيقر بأنه لا يعرف، قبل أن يغامر بجواب "جريء" بل بالغ الجرأة، سنده الوحيد الى حدس الرجل، القياس على السوابق الأوروبية، البروتستانتية أو "البدع" المهدوية والخلاصية التي سبقتها ومهدت الطريق الى فك الدنيا وعالمها من الآخرة، والى "الخروج من الدين" الى حالة زمنية خالصة، أو "رفع السحر من العالم"، على قول بعضهم. فيقول، قياساً على السابقة المعمدانية، أن الايرانيين أرادوا وهم يخرجون للتظاهر كل يوم ويغامرون بأنفسهم ودمائهم، بل أجمعوا على إرادة خلاص أخروي وديني او هو أشبه بالخلاص الأخروي والديني. ويقرأ الفيلسوف والمؤرخ الذي قلب مناهج التأريخ رأساً على عقب حين حمل موضوعاته (الجنون والجنس والسجن والسلطات والحياة والأمكنة والزمان والحقيقة والصداقة...) على شبكات أفعال وقوى ومعارف وردود ومراوغة واستجابات وتحريف، هو نفسه يقرأ إرادة الخلاص الأخروي والديني في "قاع دماغ" الايرانيين المنتفضين أو "في مرمى نظرهم ومحطه" (ص 37).
 ويكاد الرجل يعتذر عن جرأته الجامحة في اكتناه الخفي والدقيق على الإثبات والتعيين، فيقول أن هذا، اي إرادة الخلاص الأخروي والديني، هو ما "تتماسك به إرادة الايرانيين، صورةً وقوةً، ولا تتماسك برفضهم النظام القائم وقرفهم من فوضاه وفساده وتبديده وشرطته ومذابحه. وكأنه يسوغ زعمه لنفسه – وسلاحه في هذا المعرض هو سابقة أوروبية استطالت أربعة قرون ومشاهدة "عارية" ومباشرة دامت 4 أسابيع من سنة واحدة لم تتم من عمر الثورة- سبرَ ما يريده الايرانيون إرادة حدس وليس إرادة جهر وبصيرة، فيعرضه على امتحان "التماسك" واختبار الاجماع وقوة الخروج الى (طلب) الموت. ولكن بعض التردد في الجزم، في مضمون الانتظار، على منعطف ص37 الى ص 38، لا يلجم اندفاعة المؤرخ وحماسته. فيذهب الى ان داعي الايرانيين الموجب، أو "الايجابي" والجامع الى الثورة هو إرادتهم "اجتماعاً مشتركاً ومتقاسماً لا يتصور في صورة سياسية". ومرة رابعة أو خامسة يعرِّف صاحبنا الاجتماع المتقاسم والمشترك، غير السياسي وغير الافلاطوني (على ما كان ذهب اليه اندريه غلوكسمان قبل وقت غير بعيد)، بخلاف أو مخالفة "البنيان السياسي على الصورة الغربية". ويدلف فوكو من هذه الضدية أو ينزلق مستجيباً دعوة فارس ساسين الحيية والمراوغة المقنعة بإغفال الأسماء و"أحزابها" الى الرضا بتشبيه الحركة الايرانية ومنازعها المضمرة بالحركات الدينية التي ناهضت نشوء "الدولة"، أو السلطة المنفصلة عن المجتمع (أو الجماعات)، في مجتمعات أو أقوام لم تعرف الكتابة. فيقول "نعم، نعم، نعم" (ثلاثاً!) و"(صحيح) بإطلاق" (أو "صحة مطلقة"، مرتين) أن "صور المساواة" الاجتماعية والمتقاسمة التي يسعى فيها الايرانيون، ويسميها بعض قادة الثورة "حكومة اسلامية"، "قد تصدق تسميتها بما يقرب أن يكون مجتمعاً من غير دولة"، على قول ساسين حذراً، ومحرِّفاً وسم عمل بيير كلاستر (شريك كاستورياديس وكلود لوفور ومارسيل غوشيه في اصدار مجلة "ليبر"، والثلاثة من أشد نقاد ميشيل فوكو "السياسي" وأحدَّهم احتجاجاً)، ومعناه العميق. فالمجتمع "من غير" دولة قد يحمل على القصور عن الدولة، وبلوغ "مرحلتها" وطورها، وأما كلاستر فأراد مجتمعاً ينقُضُ على الدولة، ويقوم مقام نقيضها أو غيرها، ويحول حجُّه الديني الخطابي والروائي والفعلي ورحلته الى المصدر الالهي والاندماج به، دون قرار بنيان الدولة على مراكمة وتفاوت (تفاضل) أو فرق وبطولة.
 ويسلمِّ فوكو بما سمعه من ثلاثة، شريعتمداري وبازركان وكاظم سامي، من أن الاسلام – وهو "دين ودولة" على نحو "مفرط"، على قول ساسين منبهاً محاوره الى جراءة قولته – لا يتهدد "الأشكال الدقيقة والمتعقلة والمتوازنة" التي تعقل بها الديموقراطية الغربية السلطة" ولا يضيرها، ويلقي بالتبعة عن الرأي المشكل على الثلاثة. ولكنه يخلص من هذا الى مقارنة ليست أقل إشكالاً وإبراماً من السابقة، بين حال الغليان الايرانية في خريف 1978 و"الكالفينية" (نسبة الى جان كالفان، 1520 – 1524، البروتستانتي الفرنسي – السويسري، الجنيفي). وتلوي المقارنة "الجريئة" عنق الوقائع. فينسب الى "الروحانية السياسية" التي أوجبها أو أثبتها لتوه علة ما تتماسك به الانتفاضة المستميتة والعامة والجامعة على الشاه، و(علة) انتظار قسمة اجتماع من غير مراتب ولا أمر ولا توكيل، "صورة روحانية كاملة (تنهض على) علاقة فردية بالخالق وبالقيم الروحية". ويحدس فوكو من مقارنته "العظيمة" هذه، والقائمة على تحريف تاريخي على جهتيها (الكالفينية والتشيع الإمامي الإيراني عموماً ويومها)، مبالغةً أو غلواً. فيستدرك قائلاً إن الكالفينية لم تكن "النعيم على الارض"، وأنها قادت الى "محارق"، وأنه هو لا يصبو الى هذه الروحانية... ولكنه يعود من استدراكه أو تحفظه الى مديح الحركات الثورية، حركات التغيير الاجتماعي والسياسي في بلدان العالم الثالث "على ما تسمى" فيصفها بـ"الحرّى" أو "المحمومة"، ويثني على "ضربها بذورها في (تربة) تراث ثقافي" خاص وببلدي، وعلى تركها "محاولة محاكاة الغرب والنسج على منواله" و"جرحها" هذا الغرب كان ماركسياً أم ليبرالياً. وهو يعزو هبة الشعب الواحد، وثورته المشتركة والنشطة على النظام، الى الاسلام. فالإسلام "أجاز الخروج و"أتاحه"، وجمع الشعب كله عليه، وأشركه فيه، وهو مجلى التعارف ومرآة التخاطب بين "أجزاء" الشعب الواحد وبين الشعب نفسه، وأداة بلوغ الثورة أقاصي الأرياف النائية... (ص 41).
صناعة الإجماع

ولعل هذا التداعي الوجداني والضميري "الجوهري"، أو الفينومولوجي على معنى تقني، هو ما حمل فوكو، معمِل معول الهدم في المثال "الانساني" والذاتي السارتري والمؤذن بامحاء الانسان وصورته على شاكلة ذوبان تمثال من رمل وتبدده على افق البحر، على الإقرار المنتشي في المحاورة نفسها بأنه يقترب من سرعة خاطفة و"ضوئية" من سارتر ورؤياه الى الحرية (ص51)، ومن فيخته و"أناه المطلقة" وتكاثر أدوار الأنا على نحو مراتب مراقبة لا إلى غاية أو نهاية. وهو انتهى الى الاقرار المنتشي هذا من طريق مديح الانتفاضة سريانها في الشعب كله، ومن طريق إطراء علي شريعتي ومعارضته إسلاماً أو تشيعاً علوياً أصيلاً وفطرياً بتشيع سلطاني ومرتبي وحبري (إكيلركي)، و(طريق) إعلاء شأن "معيوش الثورة (ص42) وتقديمه على التعليل المعقلن و"النسبي" وإعمال "المعيوش" الثوري والذاتي في تفسير أو فهم "انقطاع" الواحد من نفسه أو "نكرانه"، على قول سارتر في حرية الوجدان أو الوعي، حاله المنقضية، وإرادته أن يكون غير ما كانه لتوه وانقلابه عليه لا لعلة غير إرادته أو عزيمته (ص45)... وتقريب فوكو مقالته في الثورة الدينية و"الاسلام" و"العالم الثالث" والثقافات غير الغربية، وفي الغرب نفسه في وقتيه الديني الروحاني على عتبة الأزمنة الحديثة والسياسي الزمني والدهري في أثناء هذه الأزمنة، تقريبه هذه المقالة من سارتر ورؤياه الى الحرية يكني عن تقرب أعرض وأعقد تكاد مسألة الحرية تتسر عليه.
فما تستعيره مقالة فوكو في الحركة الايرانية من مقالة سارتر في حركات 1968، وهو حقيقةً سارتر "نقد العقل الجدلي" (1961) فوق ما هو صاحب "الكون والوجود" (الانساني – العادم) (1944)، يتناول "ولادة الجماعة في حال انصهار" ومثالها تظاهرة 14 تموز 1789 الى الباستيل أو اجتماع سواقط الأرياف والضواحي أو مستضعفي الأرض في البلدان المستعمرة في جيش تحرير شعبي، وتخطيها الوجدانات المنفصلة والمغلقة في وجدان مشترك وفاعل. ويتناول الاستعارة، من وجه آخر متصل بالاول ، المقالة في "العملي المتجمد"، إذا جازت العبارة. ويعني بها سارتر ما يقوله فوكو، في المحاورة (ص 45-46) في "إواليات السلطة"، وسعيها في التحجر على الانماط ونواهيها المتماسكة والمتعنتة، وحملها على طبائع لا تتغير ولا تحول. وعلى هذا، فالانقطاع من سلسلة العلل والمعلولات، والخروج عليها، يستقيم فهمه من طريق "جماعة منصهرة" تنفض عنها قيود "العملي المتحجر" وأثقاله، وترضى الموت مثلاً دون انصهار وجداناتها الفردية في وجدان مشترك وجامع ويقظتها عليه. وهذا "سر" الإجماع الذي يسميه فوكو "إرادة عامة وواحدة"، باسم "غربي". وهذا ما يقول أنه رآه رأي العين في وضح النهار بطهران وقم وعبادان وليس خيالاً بواسطة غَلَس الظلام، على قول الأخطل في الرباب الغامضة.
 وهذا، أي رأي العين والبديهة، هو ما نبه صاحبنا في أعماله كلها الى "كذبه" البنيوي، والى تستره العنيد على إواليات فعل واصطناع واستدراج وتطويع حين يستعرض نفسه في صور الأصل والابتداء والتلقائية والشركة المحض. فهو حين يحتج للدين (التشيع الإمامية الايراني) بالعمومية، وبلوغ أطراف الأرياف وأقاصيها، يبدو وكأنه يسوِّي الاسلام بالجماعة كلاً وجميعاً، ويوحِّد وجدان الجماعة، وأفرادها، في الدين أو المعتقد الديني. ولا شك في أن الدين رابطة عامة، وتنزع الى الاحاطة بـ"كل" المجتمع أو الجماعة، على ما نوَّه إميل دوركهايم وشدد في أواخر القرن الاسبق. وما يرى إليه أو فيه فوكو فضيلة يختص بها الاسلام ينسيه ان التشيع الإمامي، قبل محمد رضا بهلوي وفي أثناء عهده وبعده ، هو مذهب الدولة الرسمي، على ما لم يفت الدستور الايراني الخميني النص، ومذهب الشطر الغالب من "الشعوب الايرانية". وفي صيف 1978 وخريفه، كان للمذهب ورجاله وعلمائه ومعتقديه في إيران 183 ألف معمم. وهذا الجيش اللجب من الدعاة كان يتولى تدبير عشرات آلاف النوادي المهدية والحسينية في مدن إيران وأريافها وبواديها ونجوعها. ولا تضاهي مبانٍ اجتماعية اخرى مباني التشيع الايراني انتشاراً وتأطيراً وسعة. فمكافأة "الشعب"، أو القيام بهيئات متصلة ومتماسكة كفواً له، سمة أولى من سمات الإوالية المذهبية الإمامية في إيران. وتشبيهها الانغراس في "وجدان" الشعب العام والواحد أو صدورها عن عمومه ووحدانيته، ليس من باب مختلف عن أبواب التشبيه الجوهري التي عرضها صاحبنا على مشرحته.
 وحين يقارن الحركة الايرانية وهي تخطو خطواتها الأولى بالبدع وبالحركات البروتستانتية الاوروبية، وذلك على وجه التقريب والشرح على قوله مرات كثيرة، ينسب الى الحركة الايرانية، والى تيارها الديني البارز على الخصوص، ما ليس فيها، ومن المحال أن يكون فيها. فالخروج الديني الاسلامي على الحاكم الظالم، والإمامي الاثنا عشري لا يشذ عن الحال، ليس خروج "أفراد" تربطهم بالله رابطة فردية أو شخصية، على ما يترتب على التشبيه بالكالفينية و"دولتها" في الثلث الثاني من القرن السادس عشر. فهم في خروجهم وانتظارهم، شأنهم في عمل نهارهم وليلتهم، جماعة منصهرة يتبارى أفرادها في نفي ذواتهم وفرادة عبادتهم أو رغباتهم أو تقواهم أو اعتقادهم، وفي إماتتها. ومحل "الامام" أو صاحب الزمان من الجماعة المهدية قرينة على "ذوبان" مادتها في كتلة واحدة. ومكانة شفاعة "اهل البيت" من الاعتقاد الامامي دليل آخر على صدارة الجماعة. وباطنية "علمها" وتأويلها دليل ثالث. وهذه كلها، الإمامة الكينونية والشفاعة الباطنية سمات "كاثوليكية" عميقة تناهض التذرير الفردي "البروتستناتي"، وترص الشيعة وراء "كنيستهم" و"اكليروسهم" و"أسرارهم" رصاً وإلباً واحداً ومجمعاً.
 وقيام الايرانيين على طاغيتهم (البهلوي) لا يشبه حركات البدع الدينية في القرن الثاني عشر الاوروبي والقرون التالية. فإيران 1978-1979 أمة في إطار أو كنف دولة أو كيان سياسي متماسك. والحركات الدينية  الأوروبية التي يُلمع إليها الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي كانت حركات بلدية أو محلية طرفية وأهلية، مسارحها إمارات ودوقيات. وحركات الاصلاح البروتستانتي، في القرن السادس عشر والقرون التي تلته الى يومنا، أقامت على بلديتها ومحليتها و"جمعيتها" (أو رابطتها)، وعلى كونفيديراليتها وبعدها من الدولة المركزية، أو من السلطنة والامبراطورية. فنشأت "مدن" أو "امارات"، ذاتية التدبير والحكم، وأقامت على انتظار الخلاص الأخروي والديني وهي على "جزئيتها" السياسية وشرذمتها الادارية، وفردية نخبها وطبقتها المتوسطة. ولا أثر للكونفيديرالية، أو للروابط والجمعيات "الراعوية" في الحركة الايرانية.
 ويهمل فوكو، في تسليمه لهواه الاتحادي الجامع، منازعات الانتفاضة الايرانية وصراعاتها الداخلية الدامية منذ مطالعها وبداياتها. فالمهديات والحسينيات لم تكن الهياكل الاجتماعية الوحيدة، بل رفدتها النوادي الرياضية والعائلية والمهنية تحت مراقبة الجسم "العلمائي". وتولى النوادي محاسيب وأزلام هم نواة جيش من البلطجية والشبيحة والشطار والزعار في لغة المدن العربية والاسلامية الوسيطة. وبعض هؤلاء قتلة لا يتورعون عن إسداء خدماتهم لقاء "أجر" كثير الصور والأصناف والأشكال، وتمجيد الموت من سننهم الثابتة. واستثمار الموت في الدعوات الى الخروج على "الظَلَمة" آلة من آلات التشيع الايراني "الثوري". وآية ذلك الفاقعة في صيف 1978 (في آب) هي حريق صالة سينما في ... عبادان (!)، ومقتل 400 انسان أو نفس في الصالة. فهذا الحريق هو فعلة أقدمت عليها بعض جماعات البلطجية الثورية والخلاصية. فالإقبال على التضحية بالنفس يسوِّل لمادحيه "تقنية" تكثير فرص بذل النفس، وطلب الموت، والانصياع له انتصاراً للثورة. وكانت شاعت في ذلك الصيف عبارات الخميني "العظيم": الموت لنا عادة" و"ليقتلونا فشعبنا سيعي أكثر"، وغيرها مثلها. ولم تنتظر الجماعات الخمينية الموت بيد الطاغية، أو بعض أجهزته الأمنية، فبادرت الى القتل، ونسبته الى الأجهزة الرسمية الشاهنشاهية، ودعت الجمهور الى اعتياده وطلبه. ولعل الاصطناع الاعظم هو تحصيل الإجماع من مسالك وطرق وتقنيات بالغة التعقيد والمهارة والفاعلية، وتضاهي تقنيات البوليس والتشريط و"البانوبتيك" (أو المراقبة المركزية والمشرفة) وإيجاب السريرة (النفسية) والمعيارية العامة وغيرها دقة واحتساباً وانتاجية. ويعود تحصيل الاجماع الى اسماعيل، الشاه الصفوي الأول. فأمير الحرب التركي والسني والصوفي، الفتي، كان في خيرة من أمرين: إما أن يدخل في ولاية السلطان العثماني وفتوحه، ويذوب فيها، وإما أن ينشئ أمة فارسية متجددّة يحجز التشيع الإمامي بين كثرتها السنية وبين سلطنة بني عثمان. وفي غضون عقدين أو ثلاثة صنع الشاه اسماعيل أمة فارسية إمامية ومتشيعة "جديدة". وتوسل الى صنيعه بتقنيات ردد روح الله خميني صداها في محاضراته في "الحكومة الاسلامية"، وأعملها وخلفاؤه من بعده في بعض أعماله الكبيرة. وأبرز هذه التقنيات الحج أو الزيارة الى "العتبات" والأضرحة والأفنية. فحمل الشاه المؤسس الايرانيين أفواجاً أفواجاً على التوافد الى العتبات والأضرحة، وزيارتها، والاقامة في ربوعها وجنباتها الأشهر الطويلة، ورفع الاسواق، وتلاوة الأدعية، والتبرك، والاختلاط، والتعارف، وإقامة مجالس العزاء وإحياء الموالد المعروفة والمجهولة، الى الاحتفال الكبير و"المليوني" قبل اللفظة أو العبارة في العشرة الاوائل من محرم واتباعها بالاربعينية ومولد المهدي والشعبانية... فالمواكب والمحامل، والشعائر، هي الشارة العظيمة على المسير الإمامي، وعلى صهره الأشياع وموالي أهل البيت، أو من ينوب منابهم، في "أمة" لحمتها إجماع لا يشذ عنه مؤمن صادق التقوى والاعتقاد. ولا تزال صيغة الزيارة، أو الحج الى العتبات مواكب وأفواجاً، على ما يرى في العراق منذ سقوط صدام حسين وفي إيران منذ 1979 وعلى ما شُهد في ضريح حجر بن عدي بجوار ضريح السيدة زينب أخيراً، فرضاً على التلامذة والطلبة، شيعة أو سنة.

  وهذه السيرة تتصل فصولاً الى آتٍ لا يُعلم ختامه.