الاثنين، 21 فبراير 2011

الحركة المصرية المدنية والديموقراطية في مرآة لغتها


المستقبل، 20/2/2011
منذ اليوم الأول أو ربما الثاني لاعتصامهم في ميدان التحرير بالقاهرة، في 25 يناير (كانون الثاني)، سمّى المصريون المعتصمون والمتظاهرون فعلهم هذا، أي خروجهم إلى التجمع والتظاهر وطلبهم إلى "النظام" ورأسه أن يرحل، "ثورة". وقالوا "ثورة 25 يناير" من غير تردد ولا تلعثم، ربما تيمناً بما كانت آلت اليه قبل 11 يوماً الحركة المدنية والديموقراطية التونسية، وراء الحاجز الليبي الأفريقي وصحرائه. فشاءت التسمية بتاريخ الاعتصام المصري الأول اختصار الأسابيع التونسية، منذ حرق محمد البوعزيزي نفسه إلى تنحي الرئيس السابق ولجوئه مستجيراً بمجير عربي، والابتداءَ من حيث انتهى أهل تونس وشعبها. فيجمع اسمُ "ثورة 25 يناير" مطلع الحركة، وخطوتها الأولى ورجاءها واستقبالَها الزمن الآتي واحتمالاته الكثيرة والمتضاربة، إلى خاتمتها المأمولة والسعيدة. فهي، على هذا وإذا صح هذا، منتصرة وظافرة وغالبة منذ باكورة أيامها وإيذانها.
[الثورة
وقد تكون التسمية بيوم الحركة الأول رداً ضمنياً على "ثورة 23 يوليو" (تموز 1952). وهي الاسم الرسمي لانقلاب فريق من ضباط الجيش المصري الملكي على نظام القصر الحاكم منذ قرن وثلث قرن (يومها، في 1952) وخديوية محمد علي باشا، نائب السلطان العثماني قسراً على مصر. فـ"ثورة 25 يناير"، اسماً وصيغة، هي النظير الصوري والشكلي واللفظي لاسم المبتدأ التاريخي والرمزي الذي أراد طي صفحة طويلة من تاريخ مصر والمصريين وابتداء صفحة جديدة بريئة من معاني الصفحة السابقة وشاراتها، وهي الظلم والفساد والاحتلال والفقر والضعف. وإلى 11 شباط حَكَمَ حسني مبارك الدولة المصرية والمصريين وسندُه هو "ثورة "23 يوليو". فالفريق المتنحي قسراً مولود من "جمهورية" مصر، ومن نظام السياسة وموازين القوى والهيئات والمراتب الذي صنعته الثورة العتيدة. وهو وارث بعض مباني هذا النظام ومداميكه وأسسه منذ خطوة الثورة الاولى وفاتحتها.
واسم الوليد التاريخي الجديد يحاكي الاسمَ القديم، ويقوم بإزائه صنواً له ونداً، وينسخه ويمحوه معاً وفي آن. فهو مدعو إلى القيام محله علماً على زمن وعهد جديدين ومختلفين مأمولين. وكثُرٌ المصريون الذي قالوا من ميدان التحرير بالقاهرة، منذ تعيين حسني مبارك اللواء عمر سليمان نائباً لرئيس الجمهورية إلى حين تلاوة "السيد النائب" بيان "التخلي"، أن تولي النائب العسكري صلاحيات الرئيس العسكري هو قرينة على دوام النظام العسكري الثابت وإزمانه منذ ستين عاماً (وبعضهم ضبط الحساب ودقق فقال 58 عاماً، والعام الجاري لا يزال وليداً). والمصريون هؤلاء أنفسهم قالوا أو زادوا أن ثورتهم "مدنية"، و"لا ينفع" أن يتولى الجيش الحكم خلفاً لنفسه. وتلتمس القيادات المتفرقة والمتضافرة معنى مشتركاً هو ارادة الانقطاع من تاريخ مضى وطوي، والعزم على ابتداء تاريخ آخر أولُ تعريفه بعد مصريته وثوريته أو جدته، أنه مدني وشبابي وسلمي وتلقائي وعمومي. والنعوت هذه، وهي من باب النسبة والاضافة، كثيرة المعاني. وتستخرج معانيها أو تصاغ وتخصص من طريق مقارنتها بالمعاني الظرفية والسياقية التي "ترد" عليها، وتناقشها، وتتخفف أو تتحرر منها ومن ملابساتها.
[الشعب
فالثورية أو الثورة، على ما تقدم، تقوم مقام النظير والضد والطي من سلف "يوليو" الثقيل والمُعْلِم. والمدنية تُتِمُّ معنى الضدية، وتثبت مضمون التفرق وصورته الحسية الظاهرة والمائلة. وهي تنسب "الثورة" إلى المدنيين، من غير العسكريين بديهة وطبعاً، ومن غير أهل الدولة والسياسة والقوة كذلك، وربما أولاً. وتتصل النسبة أو الصفة المدنية بالنسبة المصرية والنسبة التلقائية والعمومية الجمهورية. فالجمهور المصري، أو "الشعب"، تعرفه مساواته، أفراداً وجماعات دينية اعتقادية وجغرافية واجتماعية، وانتفاء المراتب منه، على خلاف الجيش، وهو جسم أو سلك على حدة، وعلى خلاف الدولة والسياسة والوظيفة والادارة، وأهلها أو اهاليها. وترد صفة أو نسبة المدنية، والفئات الاخرى المتواطئة والمتصلة، على نازع العسكريين المصريين، وغير المصريين، إلى حصر جماعتهم وأنسبائهم ومتعلقاتهم في سلك أو جسم منفصل وقائم بنفسه. فإما يتعالى على جمهور المدنيين العاميين أو هو يزعم القيام محلهم ومقامهم، ويدعي العبارة عنهم، والنطق بخفايا مكنوناتهم وطويتهم، و"التسلط" أو الاضطلاع بالسلطان عنهم وعليهم.
[المدنية
وتبدو النسبة المدنية إنكاراً صريحاً لسجل التاريخ السياسي العسكري الذي دوَّن تاريخ المصريين، دولة ومجتمعاً، في أثناء الستين عاماً المنصرمة. فالمدنية تريد نقل "التاريخ"، أو الفعل التاريخي، والثورة آيته والعَلَم عليه، من الاختصاص السلكي او "المهني" به إلى عموميته المدنية وأسوته أو مساواته الجمهورية والعامية والاجتماعية. ولعل انكار "البطولة" أو القيادة أو الامتياز (بالعلم أو "الوعي" أو الاستشراف) على نواة الداعين إلى الاعتصام والتظاهر والاحتجاج وهو انكار خص به الداعون أنفسهم قبل أن يعموا به سواهم ويستثنوا "الشهداء" منه- وجه من وجوه نقد المراتب والسلطات العسكرية والادارية والسياسية والتقنية، ووجه من وجوه النقض عليها، معاً. فالفعل التاريخي يفترض قوة ودالة وعلماً ودراية يُحمِّلها إياه "صناع" التاريخ ومحترفو صناعته وأهل العلم بهذه الصناعة ("الطليعة" أو "التنظيم الطليعي" على ما سمى جمال عبد الناصر العيون والارصاد الحزبية والامنية في صفوف الادارة والهيئات والحزب نفسه). وهذه، القوة والدالة والعلم والدراية، ليست من صفات العامة أو العوام المدنيين والجمهور. ولم يُعطَها ويُخَصّ بها الا الخواص والنخب، او القادة و"القيادة" على ما تسمي الشلل أو الطغمات الحاكمة والديكتاتورية في الجوار المشرقي نفسَها (وهي، أخيراً، "دوائر القرار"، أو "الدوائر"، في الجماعات المذهبية المسلحة و"المقاومة").
ونهض وينهض إلى اليوم وإلى اجل غير معلوم، في بلداننا ومجتمعاتنا، شطر غالب من دالة الولاية والسلطان والحكم، على الاختصاص بالفعل التاريخي و"الثورة". ونسبت البلدان والاوطان والجماعات والحقب، في عصر الجماعات والشعوب و"الجماهير"، إلى آباء أبطال. فقيل مصر عبد الناصر وسوريا الاسد وعراق صدام وايران الخميني، على سبيل المديح والتعظيم. وأوكل إلى هؤلاء تجسيد الامم، وانبعاث القوة في اجسادها الواهنة ودولها الضعيفة، وتوحيد روحها المتفرقة والمبعثرة في الانانيات العصبية الصغيرة والضيقة (بعثرة أجزاء الإله الفرعون في أراضي مصر قبل انبعاثها في أوزيريس). وكانت أسلاك القوة وأجهزتها ووزاراتها وقادتها هي الرواق المؤدي إلى رأس الدولة وكرسي السلطان، وهي المنصة والرافعة إلى الرأس والكرسي هاتين.
[الشباب
ومعظم المعاني الاخرى، التي نسبتها الحركة إلى نفسها او حملت نفسها عليها، المعنى الشبابي والمعنى السلمي والمعنى التلقائي والعمومي، تتضافر على بسط المعنى الوطني المصري والمدني وجلائه. فالشباب المبادر والمعتصم والمتظاهر هم شباب، وحركتهم شبابية، على وجه التقرير المادي والحسّي والوصف الاحصائي الكمي. ولا ينفك هذا الوجه من اعلان الابوة التاريخية "والثورية" للصفحة الجديدة التي يريد الشباب ابتداءها ، وبادروا اليها. فهم من هذا الوجه، الشبابي، يتخففون من المسؤولية عن زمن ما قبل "الثورة"، وعن السكوت عن الطغيان والفساد والركود والتسليم للتعسف والقهر. فهم إما كانوا لم يولدوا بعد، قبل 30 سنة، أو كانوا في سن لم يبلغوا فيها رشدهم وتكليفهم السياسي والاجتماعي. فما "يتفتح في جناين مصر" اليوم، على النحو المصري المدني و"الثوري" الذي يتفتح عليه، إنما يولد ولادة طبيعية وتلقائية من تربة متجددة لا عهد لتاريخ مصر بها منذ آلاف السنين سبعة آلاف سنة على قول الموغلين المتطرفين، أو أربعة على قول "المعتدلين"، أو مئتين على زعم المقللين والمقرِّبين.
واختصار الزمن يقرب الحركة المدنية الديموقراطية من القائمين بها، والمبادرين إليها، من الشباب. ويجعلها وديعة بين أيدي أصحابها وصانعيها، ماضياً وحاضراً و(يرجون) مستقبلاً. وعليه، فهم لم يرثوها من "الهوية المصرية" البالغة من العمر 4 آلاف سنة، على تأريخ الرئيس المتخلي في خطبته الثانية. ولم تتحدر إليهم، على زعم سائر ومضمر، من أيدي آبائهم الذي أوكلوا "ثورتهم" المفترضة قبل ستين عاماً إلى "البطل. فأسرع إلى تقمص الثورة والنهضة و"الاخوة المواطنين" والدولة والكرامة جميعاً، وإلى جمعها وحلِّها في "دوره" و"بطولته" و"فلسفته"، وفي سلكه العسكري وضباطه. ولا ينافي هذا الوطنية المصرية ولا يخالفها. فالحركة المدنية الديموقراطية وطنية مصرية، هذه المرة، على معنى "التفتح"، والولادة الارضية، والانتساب إلى الفعل الارادي والحر. ويخالف هذا الهوية الثابتة او "عبقرية المكان"، وميراثها الثقيل وسندها القوي والمقيد معاً.
وما "يستحقه" المصريون ومصر معهم، على قول جهير تواتر على ألسنة المعتصمين والمتظاهرين، ولم ينالوه، وحجب عنهم طوال الستين سنة المنقضية - ما يستحقونه هو تثمير موقع مصر "العبقري" (نهراً وبحراً وبراً وشرياناً قاريين)، وتماسك مجتمعها العريق، ودالة صنيعها الحضاري (وظلاله البربرية) على أمم إقليمها، وعدد سكانها ومواردهم. وهذه العوامل قد تُحمل على ريع يعود على "أصحابه" بعوائد مياه النيل وقناة السويس (5 مليارات دولار) والسياحة (7-8 مليارات) والنفط والغاز وتحويلات اليد العاملة الفائضة والمهاجرة والمساعدات العسكرية الاميركية. وحظ التثمير والانتاج والعمل الحي من العوامل الجغرافية السياسية والاستراتجية هذه قليل وضئيل. وهي توكل إلى "اصحاب" الدولة السيطرة على التوزيع والمكافآت والاعالة. ويقتضي التثمير المرجو حرية المصريين الراشدة، والاقرار بها من غير مراوغة ولا تجسيد اجماع بواسطة علاقات سياسية يتولاها مواطنون متفرقو الاهواء والمصالح والمنازع، ولا يجمعون إلا على دستورهم وقواعده المحكِّمة في اتفاقهم وخلافهم، وفي تقسيم سلطات دولتهم وتعاونها، إلخ. على صورة المعتصمين المتظاهرين ومثالهم. وهذا الحال هو عنوان كرامة وقوة لا تشبهان الكرامة والقوة الريعيتين والناجمتين عن انتصاب "البطل" سلطاناً مطلقاً والشعب رعيةً منصاعة.
[المراسلة
وتقرير المعنى الشبابي ينسب الحركة المدنية الديموقراطية إلى الآلات والوسائل والتقنيات التي توسل بها الشباب (سناً) إلى بث دعوتهم، وإلى تأليب المصريين على التعسف والعنف القاتلين. فالمداولة والمحاورة والمراسلة من طريق المدونات الاجتماعية الرقمية، وهي العمدة في التأليب الشبابي، لا تشترط مركزاً، ولا إدارة، ولا برنامجاً. وقبل هذه كلها وبعدها لا تشترط "أعلين" أو ولاية ومرتبة. فهي تدعو دعوة ملحة إلى تناسل "المراكز" وتوالدها بعضها من بعض، من غير التحجر على "مركزية" أم، أو مرجعية تقليد أو اجتهاد أو علم وفهم. فتوسعُ التبليغ والاتصال، وتعاظمُ أعداد المبلغين (على الوجهين) والمنخرطين التلقائيين أو العفويين، لا يعود على "المبتدئ"، وهو حكماً واضطراراً جميع وكثير، بمرتبة تتقدم على الآخرين، وتلحقهم بها. والامران، التوسع والتعاظم، يجريان على صورة الاغصان الملتفة التي يشجر وينجم بعضها من بعض، فلا يتميز فيها أول من آخر، ولا موصول من منقطع.
ومثال الأغصان الملتفة والمتكبكبة يحول بين المراقب (الامني الاستخباراتي أو المنخرط الناشط) وبين توقع جهات التوسع والتعاظم ومظانهما ومواقعهما وجمهور هذه وتلك. ولا ريب في أن تعذر التوقع، بدوره، يخلط الزمن الآتي وأوقاته وحوادثه ووقائعه خلطاً مقلقاً ومفاجئاً، على خلاف ما يريد جهاز السلطان الامني وعلى الضد من رغبته وسعيه وتخطيطه. وبينما دأبُ النظام الامني هو الحجبُ (على ما صنعت الادارة الحزبية الصينية في أثناء الحركة المصرية وسبقتها "الادارات" المصرية والسورية والايرانية) تنزع المداولة والمحاورة والمراسلة الالكترونية والرقمية إلى "الانفجار" والتعالق والتكاثر. ولعل الالتفاف الشجري هذا هو أشد ما يخشاه السلطان الحاكم بقوة الاجهزة، وتخويفها وارهابها وبقوة التجسيد الجامع والمانع. فالالتفاف الشجري المولود من مدونة "6 أبريل" ومن مدونة "كلنا خالد سعيد" وهي الموقع الذي وقفه وائل غنيم الغوغلي على المدون خالد سعيد، قتيل جهاز الامن المصري قبل عام جزاء أعماله التدوينية التي انقلبت، على زعم قتلته وقادتهم، قطعة حشيشة ابتلعها خالد سعيد وغص بها غصة مميته الالتفاف هذا يخرج على استواء التوقع الزمني الامني والاستخباراتي وعلى استقامته. وقد يلد خروجه المفاجآت والحوادث غير المرتقبة، والمنعطفات الداهمة.
[الذاتية
وهذا شأن الكثرة، كثرة متداولي الرأي والمتحاورين والمتراسلين. فمفاعيل الكثرة متنقلة ومتداعية. وتلملم النثرات من كل حدب وصوب، وتجمع الاصداء المترددة في أفق لا يتكلف الجمع والتنضيد والترتيب، ولا يشترطها. وما خُشي أن يقود إلى "فوضى" مرسلة ولا قيد عليها، وهي خشية تلازم دعاوى أهل "التنظيم" ومحترفيه وبيروقراطييه المحلَّفين، قاد حقيقة وفعلاً، إلى تماسك وانضباط ذاتيين مشهودين. والتماسك والانضباط الذاتيان ظهرا وتبلورا في خضم الامتحان الامني والاهلي القاسي الذي فرضه على المعتصمين قمعُ قوى الامن ثم انسحابها، وهجوم عصابات البلطجة الرثة واللصوص على المعتصمين المتظاهرين، وعلى أهل المدينة ومرافقها. وقد يكون هذا قرينة على أن الحركة الوطنية المدنية والديموقراطية المصرية، والشبابية على المعاني المتقدمة، تتحدر من مصادر يفترض بعضها وربما معظمها نظماً دقيقاً لعلاقات متداولي الرأي والمتحاورين والمتراسلين بعضهم ببعض. وتفترض هذه المصادر في "الشباب" دراية شكلية واجرائية قد لا تكون أضعف أثراً من التنظيم الصناعي في "الطليعة" العمالية. ولكن الاقتصار في التحري عن المصادر على الانترنت والمدونات والمواقع والمنتديات والشبكات يبخس المصادر الاخرى حقها من التأثير.
فشطر من المعتصمين والمتظاهرين الذين انتظموا صفوفاً وخطوطاً ومتاريس في وجه عصابات الامن الداشرة، وعصابات المرتزقة والمسجونين الرثة، هم من الاداريين وأهل المهن الحرة والطلاب العاملين في مرافق مكتبية وصناعية معقدة، واعتادوا التنسيق والاستباق واحتساب الطوارئ في أعمالهم. وشطر آخر، هم بعض الشطر الاول، له باع طويلة في الانشطة الحزبية والجماعية، وما تقتضيه من تخطيط ومبادرة ومدافعة وردع وحماية. ومشاركة الاخوانيين وناشطي المنظمات غير الحكومية واليساريين والناصريين وبعض الامنيين والعسكريين الذين انضموا إلى الحركة المدنية الديموقراطية، كانت (المشاركة) مدداً مادياً وتنظيمياً حاسماً. ولكن المصادر الاجرائية التعليمية، إذا جازت العبارة، لا تطغى على المصادر المعنوية و"الاخلاقية"، على ما نوّه الصحافي الفلسطيني محمد هواش. وليس محقاً ولا منصفاً القول السائر أن شباب الحركة المدنية الديموقراطية لم يروا من أهلهم، ومن الجيل السابق، ولم "يرثوا" تالياً إلا الخنوع والتسليم أو التعلق بالحزب الطليعي المستبد والتعويل عليه.
فاحتجاجات القضاة على التزوير الانتخابي (وتنحيتهم عن اللجان جزاء تنديدهم)، وحركة "كفاية" وتظاهراتها الشجاعة، ومبادرة أيمن نور إلى انشاء حزب مستقل وترشحه إلى انتخابات الرئاسة وحيداً أعزل، وسعي بعض الاخوانيين في انشاء حزب وسطي وميل بعض آخر إلى الانكفاء على دعوة غير سياسية وضميرية، ورفض محمد البرادعي الترشح قبل الغاء مواد الدستور المتعسفة، ويقظة نازع مطلبي في صفوف العمال والعاملين في مرافق الوكالة والمراقبة والخدمات العينية، إلى الجمعيات غير الحكومية وفرق الابحاث المستقلة هذه وغيرها مثلها غلَّبت معايير النزاهة والاستقامة والعدالة والمسؤولية الفردية والجماعية على احتساب الفرص، وتحكيم معايير التكتيل المصلحي وموازين القوى والمنافسة على النفوذ والحصص والانخراط "الواقعي" والاستدخالي في الابنية القائمة. والارجح أن جنوح السلطان العسكري الامني والاوليغارشي ("الاعمال") إلى انتهاك القوانين وتفصيلها على مقاسات مواليه وزبائنه، وإلى استعمال الجماعات الهامشية والرثة في المضاربات والاستحواذات والعمولات غير المشروعة، وفي القمع والتأديب والاغتيال، هذا الجنوح حمل مصريين كثيرين على تقديم الادانة الاخلاقية وأحكامها القاطعة على الادانة السياسية النسبية و"المتزنة". وتوسلُ أجهزة السلطان المنفرد والطاغي بـ"الجماهير"، وتعبئتها الحاشدة في مساندة سياسات "الرياس" والقيادات والمرشدين وتخويف المتحفظين والمعارضين والمعتدلين و"الاعداء"، هي من السنن الناصرية والبعثية والخمينية ومن مناهج التيارات الشعبوية والاهلية المتسلطة الراسخة. ولعل هذا في جملة ما حمل قيادات الانظمة والتيارات والجماعات القومية والمذهبية على التلويح بتأييد الحركتين المدنيتين التونسية والمصرية، بعد تأويلهما تأويلاً شعبوياً "مناهضاً للامبريالية" وإسلاموياً، ضمناً او علناً. ويخلط هذا التأويل خلطاً متعمداً بين المنازع الشعبية الوطنية والمدنية، وهذه المنازع تقر بكثرة الجماعات وتفرق مصالحها وبرامجها في اطار الشعب الواحد والدولة الدستورية الواحدة، وبين تجييش الجماعات الهامشية والرثة "المؤطرة" وإخضاع الشعب (وجماعاته الكثيرة) بواسطتها وبإرهابها، على ما يُرى هنا وهناك منذ عقود.
وتصدي المتظاهرين المعتصمين للمشادات والاشتباكات الداخلية بين المتظاهرين أو بعض كتلهم وأفرادهم، بالهتاف "سلمية! سلمية!" كناية عن التزام الحركة فض المنازعات من طريق الاحتكام إلى المحاورة والاحتجاج بالكلام والمنطق، يترتب على مدنيتها وشبابيتها وعموميتها الشعبية. وهو علامة على مجافاتها المنازع التسلطية والحزبية والثأرية الاعتقادية والاجتماعية. فالحركة ليست جبهة مختلطة تحشر في كتلة موحدة المتظلمين والمهمشين وسواقط الجماعات والطبقات المتفرقة، وتعول على إذابتهم ومحو خصائصهم واحتياجاتتهم المتباينة والمتنازعة، وتنصيب سلطان يجسدهم على هذه الحال من الذوبان والانكار والانتشاء. والمثال هذا سبق ان نصبته الناصرية والبعث والخمينية والمنظمات القومية والاهلية المسلحة فخاً سطت بواسطته على الجماهير المنقادة إلى دعاوى هذه الحركات وتلويحاتها.
والدعاوى والتلويحات هذه ليست سراباً كلها. فعلى خلاف الحركة المصرية المدنية والديموقراطية، وعلى الضد من تواضعها وقصرها موضوعاتها على المسائل الداخلية وعلاقات المصريين بعضهم ببعض ومحكوميهم بحكامهم قدمت الحركات الدينية والقومية القضايا "العظيمة" والصراعات الاقليمية والدولية ومعضلات الهويات والمصائر التاريخية على المشاغل والمشكلات الركنية مثل موقع الدولة من المجتمع، وتنازع كتل المصالح المتفرقة، والتمثيل على منازعاتها في هيئات، والتحكيم في الخلافات والمنازعات، وتقييد السلطات ومراقبتها من غير شلها، وتنمية الموارد وسياساتها، وغيرها. وناطت حل المشاغل والمشكلات هذه بمكانة الدولة من "صراع الامم". وفي نهاية المطاف عَجِب جمال عبد الناصر من استعصاء تسيير مستشفى القصر العيني على المنتصرين بيسر، على زعمه، في معركة السويس. فالتعبئة تحت لواء قومي أو ديني عصبي، واختصار الامة او الشعب في قيادة و"بطل"، والدعوة إلى الانصهار والذوبان في مقاومة "الموت"، على قول شكيب أرسلان وخميني وخلفائه في الدول الغربية، هذه جميعاً تنفي السياسة من داخل الكيان الوطني، أو الامة، وترفعها نصباً ووثناً يسحقان الشعب وجماعاته. والحركة المصرية بعد الحركة التونسية قامت على النصب والوثن هذين، وسعت في تحطيمهما لعل ينهض على انقاضهما "دين" الانسانية الراشدة.

الخميس، 10 فبراير 2011

من كراهية الأميركان إلى إسقاط الطغيان؟

المستقبل - 6 /2/ 2011
بعد ساعات قليلة من اعلان الرئيس المصري (السابق قريباً، على الارجح) تعيين رئيس جهاز الاستخبارات العامة، وزير خارجية الظل، اللواء عمر سليمان نائباً له، هتف متظاهرون فيما كانوا يهتفون:» لا مبارك ولا سليمان احنا كرهنا الاميركان). وبدا الشعار هذا ناشزاً. ففي أثناء الايام الاربعة المنصرمة، 25 كانون الثاني 29 منه، لم يخرج إلى العلن، لا كلاماً ولا قولاً ولا صورة أو هيروغليفاً أو رمزاً، ما يدل على رأي في سياسات مبارك و»نظامه» الخارجية والاقليمية. وتتصدر السياسات الخارجية والاقليمية المصرية قضايا كبيرة وراجحة، مثل الميل والحلف الاميركيين، ومعاهدة السلام مع الدولة العبرية، إلى توجه الاقتصاد المصري شطر مجموعات احتكارية تنسب إلى «ليبرالية» السوق الحرة الغربية، وهي على نقيض منها.
وفي ضوء السياسة الناصرية والنظام الناصري اللذين يتحدر عهد حسني مبارك الطويل من جهازهما وطاقمهما، يبدو إغفال المسائل السياسية الخارجية والاقليمية، وفي القلب منها السيطرة الخارجية (الاستعمار) والمسألة الفلسطينية «القومية»، غريباً ومستهجناً، ويدعو إلى السؤال والفحص. وكان حرص السياسة والنظام الناصريين، في العقدين تقريباً اللذين تولى في أثنائهما زعيم الانقلاب السلطة مباشرة ووحده، على ربط نهجه واجراءاته ببعد اقليمي (قومي) ودولي، و»شعبي» جماهيري، ظاهراً.
والحرص هذا كان وجهاً طاغياً من أوجه المناهج الناصرية، وموضوعاتها السياسية، من مساندة العمليات «الفدائية» الفلسطينية الاولى بغزة ومفاوضات شراء السلاح «التشيكي» وإنشاء كتلة عدم الانحياز بباندونغ إلى حضانة حركة التحرر الوطني الجزائرية وتأميم قناة السويس والتحريض على الاستعمار البريطاني في الجزيرة العربية ومحاربة حلف بغداد والوحدة المصرية السورية وتمويل السد العالي وبناء الاتحاد الاشتراكي على مثال سوفياتي غداة التأميمات على المثال نفسه وحرب 1967 في ختام هذا المطاف. فهذه الاجراءات والسياسات أُخرجت إخراجاً جماهيرياً «شعبياً، وقومياً عروبياً، مناهضاً للاستعمار والامبريالية والرأسمالية والليبرالية والديموقراطية. وجمعت هذه كلها في باب واحد أو مشترك. ولما أراد أنور السادات تقويم نتائج «الاعمال» الناصرية في ختام عقدين من الزمن، عَزَل مبادراته وانعطافاته الكبيرة، وهي حرب تشرين الاول 1973 والانفتاح الاقتصادي (1976) ومعاهدة كامب دايفيد (1979)، عن الركنين الناصريين، الاقليمي والعروبي (المناهض للغرب) والجماهيري الشعبوي والاجتماعي، وأبقى من المناهج الناصرية على الاستبداد بالسلطة، والنهج الاستفتائي المباشر والقومي. ومضى على اضعاف الوسائط السياسية والاجتماعية، الحزبية و»الجمعية» بين أجهزة الدولة وبين المجتمع، ولجم الحياة العامة والمشتركة وحرياتها الحيوية والفاعلة. فكان وارث الاساليب الناصرية في الحكم والادارة، من غير مضامينها التعبوية والاعتقادية الايمانية، ووعودها التوسعية العروبية والامبراطورية و»رسالتها» الباهرة والمحفزة.
وطوال 3 عقود رمادية، وسع الرئيس المصري الثالث (في ستين عاماً) رعاية «العزلة» السياسية والانكفاء على داخل «عام» خاو ومتسلط، وعلى مجتمع ضعيف الموارد والاود والحراك. وأدى تربع جماعة قليلة من المقاومين والوكلاء وأهل البطانة والحاشية في قمة الهرم الاجتماعي الشاهقة إلى استقطاب حاد. وغذى الخواء والتسلط السياسيان والاعلاميان الاستقطاب الاجتماعي، وفاقم عوراته. فولدت العقود الثلاثة المباركية طبقة اجتماعية حاكمة ومالكة، واستوت في سدة السلطة الاقتصادية من غير مخاض سياسي واجتماعي وثقافي، نظير حيازتها. فهي تدين برئاستها ومكانتها الاقتصاديتين إلى الجهاز المتسلط والفوقي الموروث من المداميك الناصرية، جيشاً وأمناً حصينين ولجبين، وحزباً كرتونياً، وادارات قاصرة ومترهلة، وانتخابات صورية، واعلاماً منصاعاً ومتملقاً وكذاباً.
ولجأت إلى حضن الحركة الاخوانية الملتبسة والمتداعية والحركة هي من مصادر الناصرية ومناهجها السياسية والايديولوجية جماعات الظل المعارضة. فحال الدولة المصرية في عهد حسني مبارك، وفسادها «الغربي» وخلو وفاضها من السياسة والدَّالة، بدت مسوغاً مقنعاً لعلل المعارضة الاخوانية اللصيقة بالآداب والاطر الاجتماعية والشعبية المحلية وبالمعايير الاخلاقية المحافظة أو الشكلية، والموازية لجسور الجماعات و»مواصلاتها» وعلاقاتها الاسلامية الداخلية والاقليمية والعالمية.
وما عدا الاخوانيين، وربما بقايا الناصريين، بدا أن جماعات المعارضة المصرية المتفرقة تتحاشى منذ بعض الوقت، غداة حرب غزة، على وجه التقدير، وإعلان محمد البرادعي انخراطه المتحفظ في السياسة الداخلية من بابها الرئاسي الدستوري، الخوض في المسائل الاقليمية والاستراتيجية «الكبيرة»، والانحياز إلى آراء حاسمة فيها. ورجح الميل هذا انخراط الشباب المصري، ومعظمه ولد في عهد الرئيس «الناصري» العسكري الثالث، في لون من السياسة التواصلية والافقية «الاجتماعية» انقطع من الاطر الناصرية المنصرمة، وهو لم يشهدها. وكان أهل هذا الجيل من الشباب طلَّقوها وأداروا الظهر لها. ورجح التحاشي هذا، من باب آخر، استقرار الدور المصري الاستراتيجي والجغرافي السياسي، على موازنات سالبة أو وقائية «معتدلة» (بإزاء الاسلام السياسي، وإيران النووية وأذرعتها، وبإزاء بعض الخليج الدعاوي والمتهور، وبعض النزعات الاميركية الطائشة...). وذلك على نحو ثقيل ومقيِّد لا يحمل على المبادرة.
ولا ريب في أن هذه العلل لا تستوفي دواعي انصراف الحركة الديموقراطية المصرية اليوم، غداة الحركة الديموقراطية التونسية مباشرة، إلى معالجة القضية السياسية الداخلية، وتقديمها على المسائل الاقليمية والاستراتيجية. فمصر، دولةً ومجتمعاً، تجمع في كتلتها وبنيتها وموقعها القاري وتاريخها، وجهي الامة المتماسكة والمفصل الاقليمي والدولي. وترجيح السياسات «الناصرية» وجه المفصل الاقليمي والدولي على وجه الامة الداخلي، في ذروة الحرب الباردة وإبان طي الامبراطوريات الاستعمارية وصرمها وفي سياق الصراعات العربية الاسرائيلية المتناسلة، هذا الترجيح أنسى بلدان الشرقين الادنى والاوسط، وربما أنسى المصريين أنفسهم، مكانة وجه الامة المصرية الداخلي والسياسي. وصرف الانتباه والاهواء عن معنى حكم الامة نفسها وتدبير المجتمع شؤونه الكثيرة والمتنازعة، من طريق هيئات ومرافق وإدارات ومنظمات معقدة، ولا مثال مستقراً ومعلوماً لعلاقات بعضها ببعض.
فكان الاقرب إلى متناول المتظاهرين المصريين الانقياد إلى مألوف لغوي رتيب ومكرر وقريب المتناول، والهتاف:» لا مبارك ولا سليمان احنا كرهنا الاميركان»، على ما تقدم. فكراهة أو كراهية «الاميركان» تبدد وصف المنازعات الداخلية، وتشخيص الخلافات الحقيقية والضاربة جذورها في كثرة الجماعات، وتباين المصالح والميول، وعسر العبارة عنها والتأليف بينها. والكراهية هذه تختصر التعقيد السياسي والاجتماعي والثقافي في اعتقاد وهوى ثابتين، يوهمان بأدوار جغرافية سياسية تبدو فاعلة وعظيمة في ميزان القتل والقتال. وهو ميزان ذو شأن. وعلى رغم قوة استدراج «كراهية الاميركان»، عاد المتظاهرون عن صيغة الهتاف، وعدلوا عنها في اليوم التالي (الاحد 30/1) إلى «لا مبارك ولا سليمان- يسقط يسقط الطغيان«.
فحل اسقاط الطغيان محل كراهية الاميركان. وصياغة البرنامج على هذا النحو، في ضوء أطوار الحركات السياسية العربية والشرق أوسطية في نصف العقد الاخير، قد يكون مرآة انعطاف سياسي وثقافي عميق يتطاول إلى أركان الحركات هذه واختباراتها. في حالة المسألة السياسية في عصر الديموقراطية العالمي والمتفاوت، وفي اطار الدولة الوطنية الغالب، إلى مناهضة مراكز قوى السيطرة الخارجية و»نهبها» الثابت والمؤبد، يبررها أمران: التنازع على المحل الاول في اطار ثنائي واحد أو فرعي (الشرق السوفياتي والغرب الاطلسي أو الغرب الديموقراطي والمروق الارهابي، أو الشرق الاوسط الاسلامي والشرق الاوسط الاميركي...)، واستتباع الطبقات الحاكمة جماعاتها الاهلية ومجتمعاتها وتجنيدها في حروب «تحرر» لا نهاية لها من القطب العالمي المسيطر.
ودعا الامران الدول الكبرى، الديموقراطية، إلى اهمال المسألة السياسية، ودعا الانظمة الحاكمة ومعظم مجتمعاتها إلى مسايرة هذا الاهمال ومماشاته. والاهمال والمسايرة وجهان يتصل واحدهما بالآخر، ويسوغ واحدهما الاخر. ولعل البرهان الاقوى على هذا هو مزاعم علي لاريجاني، رئيس مجلس الشورى الايراني، و»رفيقه» احمد خاتمي، خطيب الجمعة في مسجد طهران وأحد رؤوس المحافظة الحرسية الخمينية، ووكالتهما الحزب اللهية في لبنان. فهؤلاء يدارون انصراف المصريين، بعد اللبنانيين والتونسيين والايرانيين «الخضر»، إلى معالجة المسألة السياسية الداخلية، ومعنى حكم الامة والمجتمع نفسهما ومدافعتهما الطغيان والاستبداد العرفيين والاستثنائيين (وما يستجران من فساد وانحلال ومهانة وفقر وركود)، يدارون هذا بإلحاق الحركة المصرية والحركة التونسية ذيلاً بإيران الخمينية.
فـ»ثورة الاحرار» في تونس ومصر لا تستحق صفتها على لسان رجال يتربعون في سلطة تحميها خناجر الحرس الثوري والباسدارن وقمعهم الحركة الخضراء، واغتيالات سجن إيفين وكهريزاك، واعدامات مدعي عام طهران الثوري وأموال الريع والخمس المسروقة - إلا لقيامها على «الديكتاتورية العميلة». وأما الديكتاتورية المذهبية العنصرية «تديناً» وقومية، فبراء من العمالة. فالديكتاتورية العنصرية تضع نفسها في موقع المنافسة على زعامة الشرق الاوسط «الاسلامي» وإرهابه. وبراءتها من العمالة، المفترضة، تبرئها حكماً، على زعم لاريجاني وخاتمي الخطيب وأنصارهما المحلَّفين والمتعاقدين، من الديكتاتورية.
والحق ان هذا قريب من الرقية والحماية من السحر. فما يحمل حراس السجن الايراني «العظيم» على مديح الحركتين الديموقراطيتين الطريتين قيامهما على عتبة ذكرى انتصار الثورة الاسلامية في ايران (وهي) ثورة عظيمة ربما لم تحدث مثلها خلال القرون الاخيرة»، على قول علي لاريجاني. ومعنى هذا ان الاتفاقات التنجيمية اللاريجانية والخامنئية، أي مصادفة التوقيت، هي قرينة (على قول الوكيل المحلف في لبنان) بل بيِّنة مفحمة على قرابة الحركتين التونسية والمصرية بنظام القمع والقهر في ايران ولبنان. ويستمد كلام التنجيم الحرسي والباسيجي بعض المعقولية والاحتمال من ثقل الاخوانيين في الميزان السياسي المصري، وهم نظير طغيان السلطة في المجتمع ورد جزء من المجتمع المكبل و المنكفئ على الاستبداد والتعسف.
ويلتقي التعويل الايراني مع التخوف الاسرائيلي. والرأيان يشتركان في وزن الحركة المصرية في ميزان «ناصري» أو اقليمي قومي، وفي إرادة اغفال المسألة السياسية ، أي مسألة الطغيان. وتتصدى الحركة الناشئة للمسألة السياسية الديموقراطية في سياق عربي وشرق أوسطي عريض تعود بداياته إلى انتخاب محمد خاتمي رئيساً على ايران «الاسلامية» في 1997، وانشقاق حزب «العدالة والتنمية» عن حزب أربكان المحافظ، وإلى انتشار الاندية المستقلة في السنة الاولى من عهد الاسد الثاني، وقيام اللبنانيين على سياسة «التعريب» والحزب اللهية الاسدية في 2004 2005، وعودة الايرانيين في 2009 إلى الانتفاض على طغيان الحرسيين والباسيج و»الآيات». وتوج التونسيون، ويتوج المصريون، موقتاً حلقات السلسلة الذهبية والكريمة هذه. ويحارب «كارهو الاميركان» الساعين في «إسقاط الطغيان» بواسطة السلاح الناصري التقليدي، أي تقديم الموقع من النزاع الثنائي الدولي المفترض، على رغم فوته وانصرامه، على موجبات حكم الامة والمجتمع نفسهما بنفسهما، على رغم الحاحه.

حلف القمصان السود وتماثيل الشمع طليعة حركة التحرر من الغزو والمذهبية وعنفهما

المستقبل - 30 /1/2011
يبدو، إذن، أن الطائفيين المذهبيين السنّة وشركاءهم الطائفيين المذهبيين الموارنة، وقد انضم اليهم بعض الطائفيين المذهبيين الدروز (مثل مروان حمادة)، فقدوا صوابهم واعتدالهم ووسطيتهم التي انتقلت كلها الى حمى الدستور مع السيد نجيب ميقاتي، وأسلموا قيادهم لغرائز الشارع الطائفية والمذهبية النيرونية والأميركية الفيلتمانية (وبعض اللبنانيين، المزعومين على الارجح، يسمون جيفري فيلتمان، السفير الأميركي السابق في لبنان، «جيف»، على ما لم يفت أمير الجماعة الخمينية المسلحة في أربعينية الحسين بن علي البعلبكية الحاشدة التنويه الانيق والخفي، بعدما علا صوت «الممثلين» الامويين اليزيديين والقتلة بشتم بقية عترة النبي وأهله، وأنحت السياط على رؤوس النساء والبنات وظهورهن، وهن يولولن:» يا أبي! يا حسين!» إمعاناً في الظلم والاذلال).
وعلى خلاف الوطنيين المستقيمين والثابتين واللبنانيين الرسوليين المسالمين والديموقراطيين الاقحاح، ترك المذهبيون العنان لنزعاتهم الثأرية المنحطة، وتقاليدهم المتأصلة منذ 5 شباط 2006، يوم حرقهم مبنى السفارة الهولندية بالاشرفية، على رأسهم سعد الحريري وبيار فرعون وغازي يوسف والطبيبان مجدلاني وحوري، بينما كان اللبنانيون الرسوليون والدستوريون، المسيحيون والشيعة والمير الارسلاني، عشية الحادثة، يتهيأون لتوقيع تفاهمات حضارية فريدة. وهذه التفاهمات العظيمة شقت طريق الانتقام والردة الى حرب صيف 2006 الغادرة (الفيلتمانية)، والى طعن المذهبيين اشرف مقاومة اسلامية وعربية ووطنية ولبنانية وجنوبية وبقاعية وكسروانية ومتنية وبعلية محسنية عالية في الظهر. فحرضوا الأميركيين والصهاينة على خطف جنود إسرائيليين وقتلهم داخل الاراضي المحتلة، وعلى قصف المطارات والمرافئ ومراكز الاتصالات اللبنانية، ودلوا الطائرات الإسرائيلية الى مجسمات «غوغل» والاهداف الحيوية التي ينبغي قصفها، ويستحيل نهبها بواسطة الموازنة وأبوابها الفاسدة وقطع حسابها ومهمتها. وقتلوا جبران التويني. وفتحوا باب المحكمة الدولية، واستدرجوا شهود الزور اليها. وأحرجوا الوزراء الشيعة وأخرجوهم، وحالوا بينهم وبين حيازتهم الثلث المعطل على نحو استرجاعي، حين ألفوا الحكومة، وبل حين اشترطوا الثلث، عداً ونقداً وليس تقسيطاً، في نص المادة الدستورية التي صاغها يومها (في 1990) أستاذ علوم سياسية «وديعة».
واستفزوا شاحنات الرمل، ودواليب «ميشلان» و»بيريللي» المطاطية، في 23 و25 كانون الثاني 2007، فَقَطَعت هذه الطرق، واحترقت، وحاصرت التجار والمسافرين والموظفين والساعين في الرزق، وأودت بالزيادين الجانيين على نفسهما. ولو لم يتول المسودون اليقظون، وقبعاتهم وقمصانهم وسراويلهم، ردع شاحنات الرمل، ودواليب الماركتين المسجلتين الاوروبيتين، لتمددت هذه، وحاصرت الناس، وخنقت الاقتصاد. واجتاحت الاراضي اللبنانية كلها، ودمرت مبنى المجلس النيابي على رغم حراسة رئيس المبنى، وحرصه عليه الحِرص الانساني العميق على «دارته» الطيبة في عين التينة، بحسب صحافي « النهار» المعتمد والمقيم. ولحالت بين النواب وبين الاجتماع الشرعي والدستوري، وأباحت تصريف فؤاد السنيورة الاعمال السوليديرية من غير رقابة استشارية نزيهة غير مناقِصة. ولولا الجرائم الـ14 آذارية والحريرية هذه لما اضطرت الاسلحة الخفيفة ومضادات الدروع الحِرفَية، الى الخروج من غمدها وخدرها المطمئنين في جيوب بيروت الوادعة والحالمة بفلسطين وأولى القبلتين والصحن العمري وجنة غزة، والى مصادرة 10 بنادق وقتل 121 اختصروا، اختصرهم مناضل متهكم وحكيم في سبعة ورآهم قليلين ولا يليقيون بثأر والدي مجيد. ولما حُملت سيارات الدفع الرباعي على ترويع العقال الموحدين عند منعقد الطرق المتسلقة من وراء الباروك وتلك المُصعِدة من سفوح عاليه وجوار الغرب والشحار.
وهذا فتح الطريق الى محجة الدوحة الشريفة وميثاقها الامين والشفاف، وعهودها المتينة، في رعاية الشرق المقنّع والغرب السافر، ومن بعدها الى انتخابات نيابية عقد الانتصار المؤزر فيها للدستوريين المسالمين والوطنيين، والمرجأ 19 شهراً فقط، وذلك، أي الانتصار المرجأ، أحلّ 11 نائباً، هم أقل من عشر اعضاء المجلس، من الشجعان الديموقراطيين والليبراليين وكارهي الحرب الاهلية وغرائزها المذهبية، من عهودهم غير الموثقة والخفيفة. والتحلل الرجعي هذا لا يؤاخذ صاحبه عليه ولا يدان. وحفظ النفس والمنافع يبيح المحظورات. وارتكاب هذه في ختام زيارات ومفاوضات ليلية، قبل أن يبين الخيط الاسود من الخيط الابيض، يطويه انبلاج الصبح، وانفجار الفجر على فضائح المذهبيين، وفسادهم، واختلاسهم 11 مليار دولار لا يغلط مقرر لجنة المال في جمعها وطرحها الشفهيين والارتجاليين على شاشات «الجديد» والـ»أن.بي.أن» و»المنار» والـ»أو.تي.في» مجتمعة. ولا يغلط المقرر في الاعمال الحسابية كلها، على رغم نظرات المذيعات الناقدة، وعلومهن النافذة في شؤون المال والضريبة وأبواب الصرف والجباية والتدوير والامضاء، وفحصهن الوثائق والاصول على الهواء.
ويمتزج الهزل المسرحي المقنَّع والمتجدد والمتمادي منذ نحو أربعين عاماً بجد مأساوي لا يقاس بعدد القتلى والجرحى والمفقودين والمسجونين واللاجئين والمهاجرين ومرضى الاعصاب، فحسب. فضحية المزيج المروع هي الجد نفسه، جد الحياة الفردية والعامة، وجد السياسة، وجد التاريخ. فمن نكد الدنيا على الاحرار وأنصاف الاحرار وأرباعهم وربما أكثر (أي اقل في ميزان الحرية) من اهل الاحزاب والعصبيات والغرضيات اللبنانية، ان يُدعوا دعوة حثيثة، تحت تهديد الاقتتال والقتل والاغتيال والكذب على رؤوس الاشهاد الصحافية والمواقع الالكترونية والاجتماعية والشبكات التلفزيونية، الى تصديق الهزل المسرحي والرتيب هذا، أو الى مناقشته وحمله على محمل الجد. فيُرد، على سبيل المثل، على «حجة جيف» الملهَمة والمفحِمة، شأن حجج صاحبها كلها. أو يُرد على معاقبة أو مُتوالية 5و6 شباط (2006)، النبيهة والكشافة والمستشرفة، على منوال اشارات ذي القيادتين السياسية والعسكرية المظفر. ويُناقَش مدير (دمى) الغاء الطائفية السياسية من طريق اطراح اقتراع المهاجرين، وتخفيض سن الاقتراع الى 18 عاماً أو 16 عاماً او 14 عاماً، وزيادة عدد المجنسين المقيمين في وطنهم الاول والقريب والمترددين على وطنهم الثاني في مواسم الانتخاب. وتُصدَّق أو تُكذَّب دعوى الخارج لتوه من متحف الشمع الباهت والمائع في الوسطية والحوار والتوافق. ويُستفهم عن معنى الانقلاب من لقاء ديموقراطي هو غطاء استزلام غرضي، الى سراب نضال وطني لم يكن يوماً غير تسليم صاغر ولفظي.
فهذه كلها، الرد والمناقشة والتصديق والتكذيب والاستفهام، في مثابة قبول مسرح الظلال القاتمة الذي ارتضينا، أحراراً ونصف أحرار وربع أحرار وقاصرين وعبيداً مطيعين، اعتلاءه منذ نحو 40 عاماً عروبية خانقة وثقيلة.
وعلى هذا، وفي مرآته، قد تبدو حركة التنديد بانقلاب 11 نائباً انتخبوا بشطر راجح من أصوات الاستقلاليين السياديين، على حلفائهم وناخبيهم وعهودهم، طائفية مذهبية، وسنية في المرتبة الاولى. وهي قد تتصور فعلاً في صورة محاكاة متشنجة ويائسة لأعمال وعروض تلامذة الحرس الخميني الرياضية الحالكة والمتقنة. ففي أثناء الاربعين سنة المنصرمة، منذ 1970 على وجه التقريب، انتقلت «الطائفية اللبنانية» - او ما وصم بهذه الوصمة، واقتصر على لبنان وعلى مسيحييه قبل أن يصيب سنته (في لبنان وسوريا وبعض الخليج) ويبرأ منه الشيعة وبعض الموارنة أخيراً - انتقلت من طور الى طور ضعيف الصلة بالاول.
فهي كانت عصبية نخب متنامية تتنافس على الحصص والشطور والمكانات في اطار هوية ملتبسة أو غائمة يعرَّفها التخلي المتبادل عن الانخراط في اقطاب القوة المتقابلة («الغرب» و»الشرق»)، فوق ما يعرفها انتساب وجودي وشعبي محموم وعارم. وانتصر الانتساب، على الشاكلة الوجودية المحمومة، مع «الزحف» العروبي. وهذا غذته الانكسارات امام إسرائيل، والاخفاقات الوطنية الداخلية، السياسية الديموقراطية والاقتصادية والاجتماعية، ولم تغذه انجازات حركات سياسية شعبية متعاظمة. وكانت سوريا، في وسط المشرق، بؤرة الانعطاف العروبي، واستبدال الحركة السياسية الشعبية بهوية متشجنة وفارغة من محتوى ديموقراطي واجتماعي وايجابي، تتولاها حفنة من الضباط الاستخباريين والمذهبيين. وتسترت الهوية القومية الخاوية والعاجزة على استيلاء مذهبي واقلوي متسلط. فكانت الهوية الممتلئة بالثارات والضغائن والخوف حصن الاستيلاء ومسوغه وركنه، في الداخل الوطني والجوار القريب على حد سواء.
فلم يشهد المشرق العربي، وجواره المتصل به، نزاعات مذهبية دامية كتلك التي يشهدها منذ استيلاء الجماعات المذهبية والحزبية والامنية العروبية على بعض دوله واقاليمه. فالجماعات المستولية تحصنت بأجهزة الحكم الامنية والعسكرية والادارية والاعلامية، وبموارد الدولة العامة، وحاربت الجماعات الاهلية المعارضة من موقعها هذا. وهي سعت في كسر الجماعات الاهلية، وفي سحقها وافقارها وعزلها. وكان تجريم «الطائفية»، المنبعثة من أنقاض السياسات القومية والمذهبية المستولية، جزءاً من حربها الفعلية والمدمرة، الايديولوجية والامنية والسياسية والاقتصادية، على الجماعات الاهلية والوطنية الاخرى. وحملت المجتمع كله، باسم الدولة المزعومة والغاصبة، على «حرب وجود»، أفقها الماثل والمخيف استئصال المجتمع، على معنى ازالته عن موقعه المواجه والمعارض والمقيِّد، وإلغاء قوته على المواجهة والمعارضة والتقييد، وضمه مكبلاً ومستكيناً و»مقاوماً» الى جهاز من اجهزة الاستيلاء والقهر.
وعلى هذا، «عُرِّب» لبنان تعريباً ساحقاً قُصد به الطعن المدمر في مسيحييه. وهم هيكل دولته، ونواة مجتمعه، وركن انفصاله النسبي والجزئي عن داخلية اهلية وعصبية مكبلة ومقيَّدة. ومشى التطييف المحموم والقسري في ركاب تعريب مستميت، بينما كانت تستكمل الاجهزة البوليسية والمذهبية القومية سيطرتها على دولها وحركاتها «الوطنية» ومجتمعاتها، وتشد قبضتها عليها. وقضت السيطرة، على المثال الجديد وغير المسبوق، بألا يبقى بين الاجهزة البوليسية والمذهبية المستولية، على العراق وسوريا و»فلسطين» وبعض لبنان، وبين «الصهيونية - الامبريالية» أو صورة العدو المطلق، موضع او محل لكيان وطني او حركة سياسية او جماعة أهلية، أو جماعة رأي. وألزمت هذه جميعاً بالانضواء طوعاً او كرهاً، في الحرب الايديولوجية المشبوبة، والمتخيلة، بين جهاز الاستيلاء المذهبي القومي وبين «الصهيونية - الامبريالية» الاسطورية.
والاستيلاء المفترض على لبنان توجه تآكل قوة جماعاته المسيحية، ومحاصرتها بجبهة متراصة من الجماعات الطائفية والمذهبية الاخرى، وهجرة أجزاء متعاظمة منها وانكفاء جماعات أخرى وتفشي الانقسامات في صفوفها وبروز قيادات هزيلة ومغامرة. وخسرت الجماعات هذه الحرب القومية والايديولوجية الضارية التي شنت عليها، وأخرجتها من الكيان الوطني، ودمغتها بالهجنة والانحراف، واختصرتها في مصالح جماعتها الضيقة والمتقوقعة. واليوم، حل دور السنة في عملية الاستبعاد والتهجين والتطييف والاعدام. فإذا بالحركة السياسية الوطنية العريضة التي نشأت على اغتيال العروبة المذهبية والامنية رفيق الحريري، تُزم وتُقزم وتُعلّب في وكالة من وكالات «القاعدة» وقتلتها وانتحارييها. فتُبدد، في هذه العملية، اختبارات اللبنانيين وتجاربهم في الائتلاف والروابط السياسية والموازنة بين الحقوق وبين القيود، ويُبدد سعيهم في طي ثاراتهم ونازعهم الى ارساء حياة سياسية فاعلة على استقرار وامن يحفظان كراماتهم - يُبدد هذا كله في مكيدة استخباراتية وأمنية تليق بعبقرية مزور نقود ومنتحل صفة واسم ووجه.
ولا ريب في أن «استمرار» 14 آذار - الرجاء الواثق، والرغبة الحية، والوعد بالتغلب على النفس قبل التغلب على الغير، وترك الثارات والضغائن، وتحمل التبعة كاملة عن تاريخ مضطرب ومتنازع - لا ريب في أن الاستمرار هذا هو جوابنا عن الاربعين سنة الثقيلة التي ترزح على الصدور والعقول والالسنة، وينهض الآل والاهل والخالفون علماً أسود عليها