الأحد، 29 مارس 2015

اجتماعيات النزاعات السورية قبل انفجاراتها العصبية المستولية تدمّر مقومات «الدولة ـ الأمّة» السوري


(المستقبل، 29/3/2015)
قبل نيف وستين عاماً انقضت على محاولة بلورة أو صوغ دولة ـ أمة «وطنية» سورية، ينسبها عامة السوريين إلى القومية وإلى العروبة، تعهد حكم البعثيين ثلثيها أو فوق الثلثين بقليل (انظر «نوافذ» في 25/11/2007، عجالة الكاتب في «سوريا حاضراً، ظلال مجتمع في المرآة»، 2005). ولم يقتصر الحكم على سوس الدولة، على معناها العثماني، وجني ثمار الاستيلاء والفتح، فتعداه إلى تنظيم الإقليم، والأراضي الإقليمية الوطنية، على صورة الجماعة المستولية. ويلاحظ مريم عبابسة وسيريل روسّيل ومحمد الدّبيّات أن السياسات البعثية أولت عنايتها المحافظات الساحلية، ومحافظات الجزيرة، وقدمتها على المحور التاريخي الذي يتوسط سوريا، من دمشق جنوباً إلى حلب شمالاً وبينهما حمص، وعلى النخب المدينية القديمة. فنشأت مدن جديدة بظواهر دمشق وحلب وضواحيها، وعلى ضفاف الفرات. واقتسمت الإقليم السوري ثلاثة محاور. الأول هو المحور التقليدي والتاريخي، والثاني يصل اللاذقية بطرطوس. والثالث يجمع الرّقة ودير الزور إلى الحسكة. وتغلب الصفة الطائفية المذهبية على المحاور الثلاثة. وغداة الاستقلال، في 1946، رعى الحكم دمج المحافظات، وربطها بعضها ببعض، اقتصاداً ومواصلات وإدارة وخدمات (إنارة، صحة، تعليم)، وضواها إلى المحور الوسطي السني، في المرتبة الأولى. ولكنه غذى كذلك ازدهاراً ساحلياً، وتولى استصلاح اراض زراعية في الجزيرة. وانتهج الحكم الاستقلالي سياسة زراعية حمائية بإزاء الخارج، ودعم المنتجات من الداخل. فلم تزدهر الزراعة وحسب، بل أقام نصف السكان السوريين بأريافهم، وبقوا فيها، ولم ينزحوا عنها شأن معظم السكان في البلدان الأخرى القريبة. فلم تزد نسبة سكان المدن عن 52 في المئة، في 2004. ويعود بعض السبب في انكماش المدن السورية، قياساً على حركة التمدين العامة، إلى عزلة الاقتصاد السوري وانغلاقه، وإلى ضعف الاندماج الاقتصادي في الشرقين الأدنى والأوسط.

المدن والأرياف

وتولى التأميم في 1963 إضعاف المدن السنية الكبيرة، حلب ودمشق وحمص وحماه واللاذقية، وشرذم بورجوازيتها وملاكيها ونخبها «الحرة». وأرسى الانقلاب البعثي الأول حكم الفريق الحزبي الجديد على محازبين وأنصار وناشطين معظمهم من جبل العلويين، ومن الجزيرة، إقليمَيْ المحورين الآتيين. وحملت تأميمات الصناعات والأعمال الصناعية المتوسطة، ثم مصادرة الأراضي الزراعية وتوزيعها على المزارعين والفلاحين، عامةَ المدن والأرياف على «مبايعة» الحكام الجدد. وأقوى روابط العامة المدينية والريفية بالفريق الحزبي الحاكم ليست اجتماعية في المرتبة الأولى بل عصبية، مذهبية ومحلية وأهلية. وتضافر على تقوية اللحمة العصبية هذه توزيع عوائد الدولة توزيعاً ريعياً على الأنصار الأهليين. فكان التوزيع المركزي هذا، على وجهيه: الأرض والوظيفة (في الإدارة والمرافق المؤممة)، ركن التوحيد والولاء «الوطنيين»، وهو كذلك ركن المراقبة والإلحاق. وعمدت السلطات الحزبية إلى توسيع التأطير الإداري، وتكثير المناطق والمراكز، وتذرّعت بهذا إلى زيادة عدد الوظائف وشراء ولاء الموظفين.

وخالف ضمور المدن الاجتماعي والاقتصادي المنزع الغالب إلى ترك الريف والنزوح إليها. وفاقمت صبغة النازحين المذهبية المشكلة. فالنازحون من الريف وقراه وأرضه إلى اللاذقية وطرطوس وحمص ودمشق والسويداء، أو إلى السلمية، هم علويون ودروز وإسماعيليون. ويقْدم هؤلاء على مدن، أي على أهالي مدن يتمتعون بزيادة سكانية، أو بـ»دينامية ديموغرافية» على ما يقال، تفوق متوسط زيادة القادمين، وتضيِّق عليهم نزولهم. ويأوي الوافدون إلى مناطق سكن تفتقر إلى تجهيزات الإقامة المتوسطة والمقبولة، وتنتهك الشرائط القانونية. فربع سكان دمشق وحلب، ونصف سكان الرقة ودير الزور، ينزلون محال أو مناطق «غير صالحة للسكن» العادي، وتفتقر إلى معظم مواصفاته او شرائطه. وفي السنوات 19981 ـ 1994، بلغ البناء غير المجاز قانوناً 66 في المئة من جملة أعمال البناء بدمشق، و75 في المئة بحلب. وفي الأثناء نشأت مناطق صناعية بجوار المدن هذه. فتعد منطقة الشيخ نجار 200 مصنع، ومنطقة دمشق 105، وتنتظر دير الزور ودرعا وحماه واللاذقية الواحدة منطقتها. ولكن المدن هذه تنفك تدريجاً، وينفك نموها الاقتصادي والسكاني من دوائرها المحلية وجوارها وريفها، وتنخرط في شبكات استثمار إقليمية وشرق أوسطية هي من ثمرات العولمة ودوائرها الموضعية وحواضرها المعلقة. فيؤدي الانفكاك والانخراط والجديدان والناشئان إلى تقطع أواصر المدن والأرياف بعضها ببعض، وإلى تصدع مسكتها ولحمتها. وقوة الأواصر هذه ومتانتها كانتا سمة التاريخ الإقليمي والاجتماعي السوري الثابتة والفارقة، ومعينه طوال القرن العشرين.

وعلى هذا، يجتمع ثلث الإنتاج الصناعي بدمشق، وشطر غالب من الخدمات والتجارة. وتتولى ثلاث مناطق حرة خدمة المركَّب الصناعي والتجاري والخدمي هذا. وفي الأثناء تعاظم عدد سكان دمشق وحزامها أربعة أضعاف في نصف قرن (1960 ـ 2004)، فبلغ 4 ملايين. ودمر اراضي الغوطة. فنزل المهاجرون من القلمون منحدر قاسيون. وانتشر مهاجرون آخرون، أقليات مذهبية أو قومية، على جهتي الطريق العريضة إلى عمان، والطريق إلى المطار، والطريق إلى حلب، وحاطوا «الحاضرة» جنوباً وشمالاً وشرقاً. وشفعت إحاطتهم هذه بإحاطة الفلسطينيين السابقة، ونزولهم مخيم اليرموك ومخيم فلسطين، وبينهما «مدن» تبالة ودويلة وجرمانة وغيرها. وتتخلل عشوائيات الهجرة والنزوح والمخالفة، بين قاسيون والغوطة، أحياء متوسطة الحال إلى ميسورة في المزة الجديدة ومساكن برزة. وفي قلب المدينة، ترسم شبكة الطرق الجديدة، ومجموعة الفنادق الفخمة، ومحطة سكة الحجاز، وأشغال تجديد معرض دمشق الدولي، وجهاً مختلفاً للمدينة الإقليمية.

ولا يقتصر التقطع الإقليمي الداخلي على دمشق وجوارها. فإلى الجنوب، حيث محافظات القنيطرة (الجولان) ودرعا (حوران) والسويداء (جبل الدروز أو العرب)، يقيم المزارعون والفلاحون السنّة، والمزارعون والفلاحون الدروز، بـ «بلادهم» وبضواحي دمشق وبدمشق نفسها، من غير ان يخالط بعضهم بعضاً أو يطووا خلافات الماضي القريب والبعيد ومنازعاته الطائفية والمذهبية، والقومية العرقية (الشركس و «العرب»)، والاجتماعية (التجار والزراع). وثأر البعثيون من «خانجية» حلب، تجار الحنطة والحبوب وأصحاب الأرض في سهلي انطاكية (قبل انتزاع «اللواء») وحلب ومزارعو القطن بأراضي الجزيرة المروية، فصادروا الأرض وقسموها، وانتزعوا معامل النسيج والدباغة والتبغ والمطاحن من ايدي اصحابها. وإلى اليوم، لم تلحظ خطط الأشغال العامة، وشق الطرق، وصل حلب بميناء اللاذقية، رئة سوريا الشمالية المتوسطية. فحلب لا تزال عقدة الطرق البرية التركية والعراقية والسورية، ومن ورائها اسواق جنوب أوروبا وحوض البحر الأسود والقوقاز، والساحة المالية الأقدر على المفاوضة مع أوروبا والخليج. واستعادت المدينة، واستعاد «خانجيتها» في حلة جديدة، مكانتها الصناعية في غضون سنوات قليلة أعقبت القانون 10/1991، خطوة «الانفتاح» الأولى. وتقيد نمو حلب عوامل بعضها طارئ مثل منافسة المنسوجات الصينية، وبعضها من صنع البعثيين وضعف تدبيرهم، مثل هزال العمل المصرفي، ودور السيولة في المعاملات المالية، وارتفاع الفوائد جراء ذلك وفشو الاحتيال. وشأن دمشق، يقتصر البناء القانوني على 25 في المئة من أعماله. وفيما شرق المدينة متروك لإقامة البدو المتحضرين، ينضبط غربها «الجديد» على مخطط مدني.

تغذية الضغائن

ونزل العلويون من جبلهم، في العقود الأربعة المنصرمة، إلى الساحل، بل الساحلين السوري واللبناني بين بانياس وطرابلس. وهم كانوا يتركونه للعمل في السهل الساحلي، والسهل الداخلي، وإلى الشرق من حماه على حدود بادية الشام وطريق قوافلها، ويعودون إليه في ختام المواسم الزراعية. ونزولهم «الجديد»، في عهد سطوتهم واستيلائهم، يتصل بإقامة دائمة. ومهد تجهيز خدمي يفوق المتوسط الوطني، لهذا الضرب من التوطن. فوصل الساحل الزراعي والصناعي والتجاري بالجبل، وأنشأ منهما وحدة حصينة وعلى حدة. وتقصد الاستثمارات الأوروبية والخليجية، التجهيزية والسياحية، هذه الجهة من البلاد السورية. وغلب العلويون على السنّة، وحلوا محلهم في المدن. وفي السهل الداخلي، أفلت حماه، «كرسي» أصحاب الأرض السنة، أفولاً لم يعقبه انبعاث على شاكلة حلب. وأجهز على المدينة خروجها، في 1982، على البعثيين «الجبليين»، وقمع هذا الخروج. فحرمت مصنع صلب أوكل إليه البعثيون إنشاء «طبقة عاملة» تقارع «البورجوازية» و»الإقطاعية» المحليتين، وتخضعهما. وسطعت حمص، القريبة والمختلطة. وجزيت ببناء مجمع صناعي بتروكيميائي، ومحطة تكرير للنفط، ومدينة صناعية (في 2002)، إلى طريق عريضة وواسعة (في 1992) ربطت السهل الداخلي بالجزيرة.

ولازم ضمّ الجزيرة ومحافظاتها الثلاث (الرقة ودير الزور والحسكة)، إلى «بلاد الشام»، وحدودها الاصطلاحية الفرات أو ضفته الغربية، تعريبُها. فهي بلاد الكرد أولاً، ثم الشركس الذين جنّدهم العثمانيون، وبلاد الأرمن الهاربين من الإبادة والقتل في 1915، والأشوريين العراقيين الناجين من مذابح الضباط العروبيين والمسلمين في 1932. فأقطع شيوخ العشائر أراضي نزلتها عشائرهم، وشيدت حصون و «قصور» عسكرية، أو كركولات، في قلب الديرات الكردية، ونشأت «المدن» الثلاث حول الحصون هذه، وفي ظلها. ولم يغلب التوطن على الجماعات المترحلة الكردية والعربية، إلا في اثناء الجفاف الكبير الذي اصاب أطراف البادية (1951 ـ 1954)، وصحبه ثم خلفه ازدهار زراعة القطن، وارتفاع اسعار محاصيله. فمال الشاوية، وهم بدو يترجحون بين العمل في الأرض وبين العودة إلى البداوة، إلى التوطن الثابت. ونجم عن ارتفاع أسعار القطن، واتساع الأراضي المزروعة والجديدة، ثراء بعض اهل العشائر وقيامهم على الشيوخ، ومنازعتهم المشيخة والصدارة الاجتماعية. وجمع حافظ الأسد في سياسة واحدة استيلاء الحزبيين البعثيين، ومعظمهم من الشاوية، على المواقع الإدارية والسياسية في محافظتي الرقة ودير الزور، من وجه، وطمأنة كبار الملاكين إلى دوام حالهم، وإلى وراثة أولادهم المواقع الإدارية والسياسية التي تحفظ المقامات والوجاهات، من وجه آخر. فأقام القديم على قدمه، والجديد على جديده، والضغائن والمنازعات على حالها. وعندما أغرق سد الأسد، بعد 1973، أراضي قبيلة الولدة قرى مجرى الفرات، تولى الحكم البعثي إنشاء 41 قرية عربية، انتظم منها «حزام عربي»، على الحدود التركية في بلاد كردية في معظمها، وعلى أرض يعود ملكها إلى ملاكين كرد. وتضافر الفساد الحكومي الحزبي والأهلي، وإرث المنازعات والخلافات القبلية الثقيل، على خنق تعاونيات مشروع الفرات، قبل ان يقضي بشار الأسد بطي المشروع بعد نزع دام ربع قرن. وعظم مكانة الجزيرة و»عروبتها»، وهي مصدر ثلثي إنتاج الحنطة، اكتشاف النفط، وابتداء استثماره في 1984. فلما أطلت، في 2004 غداة عام على سقوط صدام حسين واضطراب العراق، حركة كردية ومحلية برأسها، خاف الحزبيون «العرب»، وقتلوا عشرات المتظاهرين، وطاردوهم إلى حلب وجامعتها.

مرآة الصدوع والمنازعات

وعلى مثال الإقليم وأقسامه وموازناته واختلالاته يقرأ الباحث في السكانيات السورية، أو سكانيات السوريين، «يقين» المجتمع، و «تردده ومنازعاته وصدوعه» (على قول يوسف كرباج، كاتب مقدمة الباب السكاني أو الديموغرافي). فوفيات الأولاد العالية مرآة حال البلد الصحية، وتفاوت متوسطاتها بحسب الجماعات الأهلية مرآة تباين أحوال الجماعات واختلافها، من وجه أول، وتفاوت المتوسطات، من وجه آخر، قرينة على حال التماسك الوطني وحدوده وضعفه، وعلى تهميش بعض الجماعات بإزاء أخرى وأفولها. وإذا كان السكان السوريون لم يتردوا إلى الحال التي تنم بهشاشة التماسك الوطني وتصدعه، فحالهم لا تدل على التجانس السكاني المتوقع في مجتمع متماسك، وقليل التفاوت. ولا ينكر ان السوريين يسيرون بخطو بطيء على طريق «المرحلة السكانية (الديموغرافية) الانتقالية»، وهي مرحلة انتقال مستويات الوفيات والولادات من 45 إلى 50 في الألف إلى مستويات قريبة من 10 في الألف. وكانت النساء السوريات، إلى منتصف الثمانينات، مفرطات الخصوبة، وتلد واحدتهن، متوسطاً، 7.8 أولاد. وفي عقدين من الزمن نزلت الخصوبة المفرطة إلى النصف. ولكنها لا تزال بعيدة من التوسط العالمي، وهو «ختام» المرحلة الانتقالية، ويبلغ 2.1 ولدين متوسطاً (على ما هي الحال في المغرب والصين وتونس). والمتوسط المتواضع هذا ثمرة عولمة سكانية، على مثال وجوه العولمة الأخرى، والإحجام عنها. والإحجام ليس وليد «قرار» مدرك بل صدى معقد لأحوال كثيرة، وهو صورة ربما من صور التحفظ عن العولمة والحداثة والمعاصرة.

ولم يعدم السوريون تحصيل منافع الحداثة، في الأثناء. فمتوسط السن التي يسع السوري بلوغها قبل الوفاة، في 2004، هي 75 عاماً. ويفوق المتوسط هذا متوسط سن الآباء والأمهات 15 عاماً، و30 عاماً متوسط سن الأجداد. وكان ربع الأطفال يقضون قبل سن الخامسة، غداة الحرب الثانية. ويقضي اليوم 1.8 في المئة قبل السن هذه. وكان يفترض في السكان السوريين ان يتموا «انتقالهم» في ربع القرن الأخير. فسن النساء (الإناث) حين الزواج ارتفع تدريجاً، والأمية نزعت إلى الانحسار، ونزل الريف عن شطر متعاظم من سكانه للمدينة، وتحسنت صحة الأولاد وضاقت شقة التفاوت بين النساء والرجال. فلم يبق على هذا، إلا ان يلحق متوسط عدد الأولاد بالركب، وينزل إلى الرقم المتوقع والمرجو. وتخلف المتوسط عن الركب لعلة ثقيلة هي تخلف النساء عن دخول سوق العمل والإسهام فيه إسهاماً نشطاً، وعلى حين كانت النساء العاملات 10 في المئة من جملة النساء في سن العمل، في 1960.، رجعت نسبتهن إلى 7.9 نساء في 1981، واستقر متوسط عدد الأولاد الذين تنجبهم المرأة الواحدة على 4.4 أي ضعفي العدد «المناسب».

وقد يعزى العامل المعوق إلى حال سوريا الاقتصادية في منتصف ثمانينات القرن الماضي. فبعد عقد من الزمن بلغ متوسط النمو السنوي 9.4 في المئة، وغذت الخزينة السورية الهبات العربية وعوائد العاملين السوريين المهاجرين إلى الخليج، أدى تردي سعر النفط، في 1986، إلى تقلص سوق العمل، وأدت نهاية حرب الخليج، في 1988، إلى ضمور «الوساطة» السورية. وتعاظمت مديونية دول الخليج غداة حرب الخليج الثانية. وعلى رغم تأنيث شطر من اليد العاملة السورية، نزولاً عند الضرورة الطارئة، لم ينخفض متوسط عدد الأولاد، بين 1991 و2004 إلا من 4.20 أولاد إلى 3.58. ولم ينفع كثيراً في معالجة الحال هذه ارتفاع متوسط سن الإناث عند الزواج إلى 25.6 سنة (في 2001)، ولا إقبالهن على التعليم، وتمدينهن وإرسال أولادهن إلى المدرسة. فإذا بنخبة النساء، تعليماً وعملاً ويسراً، ينجبن، في 2001، أولاداً فوق ما كن ينجبن في 1991 (2.60 ولدين نظير 2.56 ولدين). والعلة هي نفسها، أي اقتصار عمل النساء على سُبع عمل الرجال، وعزلة المجتمع السوري السكانية.

والمقارنةُ بين انجاب الطوائف والأقوام مرآةُ علاقاتها. فسنّة سورية تعاظمت حصتهم من السكان عموماً من نحو 62 في المئة (1953) إلى نحو 72 في المئة (2004) في نصف القرن المنصرم. وينافس الكرد العلويين على المحل السكاني الثاني (8.1 في المئة و10.9 في المئة). وتقهقر المسيحيون من 13 في المئة إلى 5، جراء «سبقهم» وإدراكهم، مبكرين، تمام «المرحلة الانتقالية» العتيدة. وحملهم على هذا سلوكهم طريق الهجرة منذ منتصف القرن التاسع عشر العثماني، وهم عقدوا قبل الجماعات السورية الأخرى علاقات قوية بالغرب ومهاجره، ثم التأميمات الناصرية فالبعثية التي أجلت بورجوازيتهم عن مواطنها. ولا يبعد الدروز من العلويين، والجماعتان تتشاركان «امتلاك» بلاد هي وقف عليهما ولا يشاركهما فيها جماعة أخرى، ثباتاً على نسبة من السكان (3.1 في المئة فيما يعود إلى الدروز). والجماعتان تقتسمان المحافظات الأربع، اللاذقية وطرطوس والسويداء والقنيطرة، التي تشهد «انتقالاً» سكانياً متوسطاً أو طبيعياً. ولكن جملة سكانها تكاد لا تبلغ المليوني نفس، أو 11 في المئة من السوريين. وإلى السمتين هاتين، تشترك الجماعتان في هجرة عريضة إلى دمشق. فالعاصمة السياسية والإدارية هي عاصمة الجماعتين السكانية، وحاضرتهما، من غير ان تؤدي الحال هذه إلى انفكاك الجماعتين الرمزي من «بلادهما». ويلاحظ احد الباحثين، فابريس بالانش، ان علاقة العلويين بجبلهم لم تبق العلاقة الإقليمية الوحيدة، ولا الغالبة. وخروجهم من الجبل، وانتشارهم في المدن الساحلية وبعض المدن الداخلية (حمص ودمشق) يضطلع بدور «توحيدي» يتخطى البعثرة الغالبة إلى اليوم. وعلى قدر ما يتقلص ثقل السنة في المدن الساحلية، تقوى روابطهم بمدن الداخل. وعلى قدر ما يتدنى ثقل العلويين في دمشق، جراء الإجراءات الليبرالية الاقتصادية، تشتد أواصرهم بقراهم في جبلهم. فالمهد، أو محل الولادة على قول تذكرة الهوية اللبنانية، هو قوام الهوية العميقة.

ويبدو ان الجماعة العلوية ليست بمنجى من التقلص السكاني. ولعل السبب في استطالة حكمها، أو بعض السبب، هو طاقتها على «مفاوضة» الجماعات الأخرى على الصعيد السكاني، مصاهرة وجواراً واستدخالاً وشراكة. ووسعها التمدد في الجبل المطل على الساحل. فريف الجبل الساحلي أو الغربي علوي كله، إلى بعض الجزر أو الجيوب السنية والمسيحية. وكانت مدن الساحل، في عهد الانتداب، سنية (78 في المئة) ومسيحية (20 في المئة). فغلب العلويون على المدن: طرطوس (70 في المئة، في 1990)، وبانياس وجبلة (65 في المئة)، واللاذقية (55 في المئة). ويرجح ان يكونوا اليوم، في أعقاب 16 عاماً على الإحصاء هذا، بلغوا 80 في المئة. وعليه، ينزل 70 في المئة من جملتهم او مجموعهم في سوريا كلها، الجبل الذي اشتق اسمه منهم، والمدن التي استدخلوها وغلبوا عليها. فإذا جُمع إلى هذا تفوق تجهيز البلاد المتصلة هذه (على خلاف بلاد الدروز بدرعا وحوران) على غيرها من المحافظات السورية، لم يبعد ان يكون إنشاءُ معقل أو حمى أهلي سائق سياسة متماسكة الحلقات وبعيدة النظر (أو ضريرة، على حسب الوجه الذي يراها الواحد عليه).

«علة» النساء

وتنكص المدرسة نكوصاً فاضحاً عن توحيد البلاد السورية وجموع سكانها ومحافظاتهم وطوائفهم على نسبة تعلم متجانسة أو متقاربة. فثلث نساء الشمال أميات، شأن نصف نساء (إناث) الرقة. ولم يبلغ المرحلة الثانوية أو الجامعية من رجال (ذكور) حلب إلا 12 في المئة منهم، نظير 24 في المئة من رجال دمشق، مدينة وريفاً. ومن نساء حلب، 8 في المئة بلغن إحدى المرحلتين، نظير 23 في المئة من نساء دمشق. و10.4 في المئة من الإناث لم يجتزن عتبة مدرسة. وتبلغ نسبة من «لفظهم» أو لم يشرع الجهاز المدرسي أبوابه بوجههم، من اهل حلب، إناثاً وذكوراً، 11.4 في المئة، أي عشرة أضعاف نظرائهم بدمشق، ونصف نظرائهم بدير الزور 22.6 في المئة). ويجر تردي التعلم اقتصار عمل النساء بحلب على 6 في المئة من اللواتي هن في سن العمل، بينما تبلغ نسبة نساء جبل العلويين وجبل الدروز العاملات 20 إلى 30 في المئة من جملتهن. والشمال (السني) أضعف تجهيزاً بالماء والكهرباء والصرف الصحي من غيره من البلاد السورية. فنحو 20 في المئة من مساكن الحلبيين لا تبلغها مياه الشفه. وهذه لا تبلغ 1.4 في المئة من مساكن اهالي مدينة دمشق، و8 في المئة من مساكن ضاحية العاصمة. وتجري على نحو قريب من هذا فروق المداخيل.

وتتولى علاقات القرابة والإقامة إي الزواج والصهر والتوريث والحلف، الإقامة على الأبنية والمراتب، واستئنافها استئنافاً يحفظها على حالها ما أمكن، وتقييد جديدها بقديمها وإنزاله على حكم القديم. فإلى اليوم، وعلى رغم انقلاب الحياة المادية رأساً على عقب، لا يزال 40.4 في المئة من النساء السوريات يتزوجن في بني اعمامهن وأخوالهن ومن هؤلاء وأولئك، ولا يتعدينهم إلى دائرة قرابة او جوار أو «معرفة» وعمل أوسع. وتبلغ النسبة هذه في الريف 47.4 في المئة. وإلى اليوم، لا يزال زواج الأبناء الذكور، وفيئهم إلى «جناح» آبائهم، الطريق إلى توسيع العائلة. وبعض فرادة الجماعة العلوية يتأتى من إقامة الأزواج الذكور ببيوت زوجاتهم (8 في المئة بطرطوس و16 في المئة باللاذقية)، على خلاف التقليد الغالب على السنة (2 في المئة بحلب). وهذا كذلك فرق من الفروق التي ينكرها «السياسيون»، في العلن، على الجماعات التي يأتلف منها المجتمع ويتقطع، ويماشونها، ويماشون تقاليدها ومصالحها في «السر»، أي في القوانين والتشريع والسياسة الفعلية والبعيدة المدى. فلا غرو إذا كانت «المراوغة، وكان «التكتم» (ليلى هودسون)، من طريق الحجاب أو من طريق المحادثة الإلكترونية والرسائل المختصرة، بابي الشباب السوري إلى العلائق الشخصية والعامة.

ولا يشك المراقب، بعد الباحث «الحقلي» ومؤرخ الأربعين عاماً المنصرمة على وجوه التأريخ المتفرقة، في ان منزع الكتلة السورية الحاكمة والمتسلطة إلى «الأبدية» («إلى الأبد مع...»)، وإلى «تجديد» الرئاسات والولايات و»تمديدها» إلى رمق الرؤساء والموالي الأخير، على ما يعلم اللبنانيون علماً أليماً ومريراً ـ لا يشك في ان المنزع هذا يترتب على جمود المباني الاجتماعية، وتحجر الجماعات على مخاوفها وتحفظاتها والقلق الذي يبعثه فيها مستقبل غريب لم تعد العدة لاستقباله ومفاوضته ومحاورته. فتباعد الجماعات بعضها من بعض، وتحاجزها، واستيلاء بعضها على مقدرات بعض بالقوة والقسر. واتساع الفروق الأساسية بينها، والحؤول بينها وبين جهر خلافاتها وإدارة العلاقات السياسية على الخلافات وتدبرها وحلها، والاستعاضة عن هذا بالخطابة القومية والاستراتيجية وبالكذب الصريح، هذا كله، وغيره مثله، لا يعد ضحاياه إلى استباق تحولات العالم. فإذا اضطر «مجتمع» الجماعات هذه، وهو مجتمع على معنى الغلاف الخارجي وليس على معنى التفاعل والتواشج والتوارد، إلى السير في وجهة غير الوجهة التي سار فيها إلى يومه لم يدر اهله لِمَ اضطروا إلى هذا، ولم قدم هذا النهج على غيره.

طبابة الانهيار

ولعل الأعوام 1979ـ 1986 قرينة على صدق الزعم هذا. ففي غضونها انهار الناتج الداخلي (الإجمالي) السوري، وفقدت السوق سلعاً أساسية وحيوية، وتهدد الإفلاس الخزينة التي عجزت عن ايفاء الديون والقروض وخدمتها. وترتب هذا على انحياز حافظ الأسد إلى الحكم الخميني وسياسته الثورية، بإيران والمشرق الغربي. فانكفأ الدعم العربي الخليجي، وظهر على الملأ ان «ازدهار» السبعينات كان صدى من اصداء تعاظم الريع النفطي، وعوائد العمالة السورية في بلدان الخليج. ولم تنتج العوائد في الداخل أثراً دائماً وطويلاً يغذي بدوره تحسيناً بنيوياً. فالاقتصاد السوري، في عهده الكتلة العسكرية والأمنية والحزبية، «عالة» على البلدان العربية، وعلى اللبنانيين خصوصاً، على قول فيليب دروز ـ فانسان في فصله الذي وقفه على السياسة السورية الإقليمية. واعتياله هذا ليس مرده إلى فقر الموارد وشحها، بل إلى ضعف تثميرها وسوء إعمال علاقتها بالخارج وعلاقة الخارج بها (وضعف تدبير التفاعل، أو العلاقة بالخارج، لازمة فصول «سوريا حاضراً» ومباحثه).

وآذن بالانكفاء والتردي هذين قمع الحكم حركة مدنية داخلية نواتها المحامون ونقابات المهن، ودخول القوات السورية لبنان (وقمعها اللبنانيين «العروبيين» والفلسطينيين المسلحين ليس وجهاً من «عداء الديموقراطية»، على قول بعض المعارضة السورية، فالقول هذا قراءة «قومية» و»سوفياتية» أو تقدمية تشترك مع السياسة الأسدية في تناول الكيانات الوطنية تناولاً يغفل ديناميتها وبنيتها الداخليتين على ما مر وصفه، ويقدم عليهما، شأن التدبير الأسدي، القومي والاستراتيجي، معياري الانقياد والتراص). وتبعهما الدخول في الركب الإيراني، والمشي فيه. وتوج قمع انتفاضة حماه، في 1982، هذا الجزء أو الجملة من الوقائع والحوادث السورية. فلما انكمشت المساعدات العربية، وبعض انكماشها كان جراء أحكام الضرورة المالية، بادر الحكم إلى إجراءات «ليبرالية» في الزراعة. فأباح الاتجار الخاص بالمنتجات الزراعية وأولها القطن والقمح، وكان الاتجار بها حكراً على أجهزة الحكم. ورضي تسديد أثمانها بسعر السوق، وليس بالسعر الذي يعود على الأجهزة بعوائد تتصرف فيها على ما تشاء ويحلو لها. والإقرار بسعر تجاري مستقل عن احتياجات الإنفاق العسكري والأمني والمذهبي «الزبائني»، من أقسى الأمور على كتلة متسلطة لا تقر للمصالح الاجتماعية المخالفة بحقها في الاحتكام إلى معايير غير معيار الكتلة المتسلطة. ودعي القطاع الخاص إلى زيادة الصادرات. واستقبلت شركات النفط العالمية بالترحيب، وكانت إلى أمس قريب موضع تهمة محققة وأثيمة.

وتوج حافظ الأسد هذا الجزء من الحوادث والوقائع بانخراطه في التحالف الدولي الذي تصدرته الولايات المتحدة، وتولى إخراج صدام حسين من الكويت. وغداة الانخراط هذا صدر القانون رقم 10/1991. فـ «حرر» الاستثمار الخاص في ميادين اقتصادية ثانوية تعود على اصحابها بأرباح سريعة، ولا يصعب جعلها مواقع ريعية. واستأنفت المصادر الخليجية بعض مساعداتها وهباتها. وهاجرت العمالة السورية إلى بلدان الخليج، وإلى لبنان، بأعداد كبيرة. وكان «حل» المسألة اللبنانية، في 1989 ـ 1992 (1990)، من ثمرات «المرحلة الجديدة»، على قول سوفياتي وشيوعي سائر. فشهد الاقتصاد السوري غداة الانعطاف الاقتصادي والسياسي الضعيف هذا «طفرة» قوية رفعت متوسط النمو السنوي إلى 10 في المئة. ويسترسل بعض الباحثين، شأن سمير عيطة كاتب الفصل الاقتصادي العام من «سوريا حاضراً»، مع أحلامهم «الصينية»، وهي أحلام الكتلة المتسلطة. فيرون فيما يرى الرائي في المنام حافظ الأسد في صورة دينغ هسياو ـ بينغ، باني الرأسمالية الصينية المحدثة، فاتحاً باب السوق الداخلية بوجه المستثمرين السوريين والأجانب. وتغفل الرؤيا هذه، على معنى حلم المنام، الفرق بين كتلة حاكمة (سورية) عصبية وأهلية وبين كتلة (صينية) ضيقت الدائرة الأهلية للحمتها، وقصرتها على أقرب الحلقات. وتغفل الفرق بين سياسة (سورية) ترسي سلطتها على تضييق دائرة المنتفعين، وحصرهم في المقربين والخواص ونفي من عداهم من الدائرة هذه، وبين سياسة (صينية) لا تخشى ضم منتفعين جدد إلى دائرة تنزع إلى التوسع من طريق الأحلاف، وتقبل اقتسام العوائد.

فنجم عن القانون العتيد تراكم رأسمالي وخاص خطا خطواته الأولى، واقتصر على خواص أهل «الدولة» وعصبيتها، وعلى بعض من لا غنى عن وساطتهم وخدماتهم وعلاقاتهم بالمراكز الأجنبية. فلم يلبث الاستثمار ان ضمر، وتبدد شطر منه في فضائح مالية ذاع بعضها، وكتم بعضها الآخر. وتجددت دورة التردي في 1996. وآلت، في 1999، إلى نمو سالب. وبلغت البطالة مستوى بعث الخوف في الكتلة الحاكمة. واختصرت الموازنة العامة إلى 50 في المئة من حاصلها، ومعها رواتب الموظفين ونفقات الصحة والتعليم والخدمات العامة الأخرى. وكان على الإصلاحات التشريعية والبنيوية أن تنتظر عام 2004، وتسلك طريقها إلى الإنفاذ البطيء والمتردد. فعقدت اتفاقات تحرير المبادلات مع البلدان العربية، ومع تركيا، قبل إعداد الصناعات السورية للمنافسة. ورفع احتكار الدولة العمل المصرفي في 2001 ثم في 2004. وعهد إلى مصارف لبنانية برعاية خطوات الوليد الجديد والضعيف. وحرر التأمين في السنة التالية. ويعود حبو الحركة الاقتصادية، في المرتبة الأولى، إلى الفرق العظيم بين ثقل الأجهزة المركزية الساحق والمهيمن وبين ضآلة اداء هذه الأجهزة الحقيقي. فالمصرف الزراعي، على رغم شبكة وكالاته وفروعه المحلية الكثيرة (وهي وكالات توظيف وتنفيع)، وتكلفته الباهظة، لم يزد حجم قروضه وتسليفاته، في 2003، عن 135 مليون دولار. وتساوي القيمة هذه 1.7 في المئة من قيمة الناتج الزراعي الإجمالية. وكانت قيمة الصادرات الزراعية بلغت، في 2002، مليار دولار، وحصة الزراعة من الناتج الإجمالي 25 في المئة. وكان 65 في المئة من قيمة التسليف الرسمي الضئيل عينياً، قوامه الأسمدة والبذور.

شق «الشعب» على نفسه

وتوسلت الكتلة العصبية المتسلطة بالأرض، وبالإصلاح الزراعي، إلى استمالة الموالين والزبائن، وإلحاقهم بها واستتباعهم (جعلهم اتباعاً وموالي وخواصاً)، وحرفت الإصلاح عن غرضه، وهو إنشاء طبقة من صغار المزارعين المنتجين ومتوسطيهم. فملكت اقل من ثلث الأرض المصادرة (466 ألف هكتار من 1.5 مليون) 52 ألف عائلة، قيدت ملكيتها بـ8 هكتارات (80 دونماً). وأجرت 712 ألف هكتار إيجاراً استنسابياً من 24 ألف مستفيد، متوسط المساحة المؤجرة إلى المستفيد 30 دونماً (3.7 اضعاف متوسط حصة المالكين). والباقي ضم إلى ديوان «الدولة» الخاص، وباعته «الدولة» من خواصها. فالتوزيع والإيجار والبيع ادوات سياسية، أي عصبية وأهلية، خالصة. وخريطة الانتشار المذهبي الجديدة مرد شطر منها إلى السياسة الزراعية العصبية والأهلية هذه. وتنتخب السياسة هذه كتلة قليلة، ترصها رصاً، وتربطها بها ربط المدين بالدائن، والقن بالسيد، وتسلطها، من وجه آخر، على الكثرة الغالبة عدداً، والخاوية الوفاض، على الصورة الهرمية والمرتبية التي تنم بها اعداد المستفيدين من «الإصلاح» الزراعي وقاعدة الهرم المغيبة هي نحو 150 ـ 200 ألف عائلة (مليون نفس) لم تنتفع من التمليك، ولا من الإيجار، ولا الشراء، هي معين يد «عاملة» تصدّر إلى حيث تدعو الحاجة إلى شق الطرق والبناء وأعمال البنى التحتية، لقاء أجور زهيدة.


ويكاد هذا ان يكون غيضاً من فيض التحجير والتسلط العصبيين وشق «الشعب» على نفسه. ففي حقول أخرى مثل «السياسة الدينية»، أو التشريع المدني والتجاري، أو الثقافة والإعلام، إلى الإدارة والقوات المسلحة وأجهزة الأمن والجريمة والسجون والتربية والتعليم والمرأة والحياة المحلية والأسرة (على وجه الاختبار الشخصي) التي لم تتناولها مباحث «سوريا حاضراً»، تلبس «الأمة ـ الدولة» المفترضة، القومية والاشتراكية على الزعم الرسمي منذ 40 عاماً، مرقَّعة، أي لباساً ممزقاً ورثاً، مجموعاً قسراً وغصباً من رقع مختلفة النسيج واللون والمصدر، ويخاط بعضها إلى بعض عنوة، ويتستر خياطها على تمييزها وتلصيقها. ويدعو «الخياط» إلى الغفلة عن تولي «حزبه» أو فريقه السلطان المركزي كله، وانفراده به دون الجماعات السورية الأخرى، وتسويغه الانفراد هذا بذريعة بناء «أمة ـ دولة»، أو «شعب» متماسك وواحد من جماعات قومية ومذهبية ومحلية متفرقة وغالباً متنازعة. وطلب السلطان هذا تصريف الموارد على هواه تلافياً، على زعمه، لتمزق «الأمة» وتنازعها، وميلها مع أهواء جماعاتها ومصالحهم الضيقة والصغيرة. فإذا بهن في أعقاب 40 سنة من ولايته المطلقة، يباعد الشقة بين الجماعات، ويزرع بذور خلافات عميقة و»حيوية» أو عضوية بينها، ويرتبها «طبقات» على معيار الولاء الأعمى له، ويستبيح مشتركها. فتتطاول الخلافات والفروق إلى اركان الحياة البيولوجية، وإلى ثناياها وحظوظها، وإنتاج الموارد وتداولها وتوزيعها، وإلى الأماكن والإقامة بها وما بينها من مواصلات وجسور وقرب وبعد. وتتطاول أول ما تتطاول ربما إلى اللغة. وهذا عود على بدء.

الأحد، 22 مارس 2015

رحيل أولريخ بِكْ مفكر عولمة كوسموبوليتية عادلة داعية جمع الأجنحة إلى الجذور واقتسام أكلاف الكثرة ومنافعها



(المستقبل 22/3/2015)
 
حين تناول الألماني أولريخ بِكْ (Beck) (1944-2015) مسألة العولمة، في مطلع القرن الجديد، فكتب «السلطة ونقيض السلطة في عصر العولمة» (2002 باللغة الألمانية، و2004 بالفرنسية)، عالج موضوعه المترامي الاطراف من وجهين بارزين كانا خفيين أو كالخفيين: الوجه الأول هو السلطان والسياسة، حين كانت الاحصاءات الاقتصادية والمالية على وجه الخصوص تزعم وصف النظام الجديد وصفاً دقيقاً؛ والوجه الثاني هو ولادة هذا النظام، وهو بعد نطفة أو جنين، في ثنايا أزمة سياسية عاصفة تتهدد أركانه ومسارحه ومصائره بالفوضى العارمة. ولا يشك قارئ بِكْ، منذ قراءته صفحات عمله الاولى، في أن ملابسات الكاتب والكتاب الألمانية والتاريخية- تلك التي ترقى الى توحيد الرايخ الثاني في الربع الثالث من القرن التاسع عشر، فإلى الحربين العالميتين وتربع النازية على الرايخ الثالث، ونشأة جمهورية بون «الغربية» كانت السبب أو العامل الراجح في معالجة كاتب الاجتماعيات مسألة (مسائل) العولمة من وجهي السياسة وأزمتها في النظام الجديد.

النكران القومي

فهو يلاحظ، منذ أسطر عمله الأولى، أن الشعبوية اليمينية بأوروبا (ولا يلبث أن يضيف الشعبوية اليسارية الى الجناح اليميني الغالب)- وهي حركات قومية ضيقة تزعم تخليص الشعوب من الأخلاط والأغراب و»تطهيرها» من هجنتهم، ومداواة «أمراض» البطالة وهشاشة العمل وتردي الأجور وضعف مرافق الصحة والتعليم والسكن وانتفاخ نفقاتها وقلة الولادات وتفشي الجريمة بواسطة طرد الأجانب والمهاجرين من الاراضي الوطنية- عرض ناجم عن أزمة العولمة. فاستعادة «الاولوية الوطنية» في ميادين التوظيف والاستثمار والصناعة والمبادلات والنقد، وتوطين التمثيل السياسي والسلطات، على خلاف مصادرة البيروقراطية الاوروبية ورأسمالية أسواق المال والمصارف الاميركية السلطة والمصالح، هي أدوية الشعبوية، على وجهيها، للازمات المتناسلة منذ أواسط السبعينات الخالية على وجه التقريب. وتتردد في مقالاتها وأفعالها أصداء «الاشتراكية- القومية» (النازية)، وتتغذى من الازمة الاجتماعية العميقة التي هزت أركان مشروعية الدولة الوطنية في العقد الرابع من القرن الماضي.

فالزعم أن عمالة القوة العاملة الكاملة (أي الرجوع بالبطالة الى معدلها الهامشي والبالغ نحو 3-4 في المئة) جائز في اطار حمائية الدولة الوطنية بينما البطالة الجماهيرية تتفشى في أرجاء العالم ويتعاظم العمل الموقت والجزئي؛ وأن لا خطر يتهدد المعاشات التقاعدية حين يبلغ متوسط خصوبة المرأة الواحدة 1.3 طفلاً؛ وأن التعدد الثقافي ومحبة الشعوب بعضها بعضاً يقيلان المجتمعات المتنازعة والمتناحرة من عثراتها وعداواتها وحروبها؛ وأن علاج الكوارث البيئية والغذائية، تلك التي حصلت وتلك الموشكة على الحصول، هو بيد التقنية والصناعة اللتين كانتا السبب في الكوارث- هذه المزاعم، وغيرها مثلها، والسياسات والاجراءات التي تصدر عنها أو تترتب عليها هي ثمرة انكار الوقائع الكوسموبوليتية، والدوران في فلك الدولة الوطنية وهيئاتها وأبنيتها التي فاتت وطويت معظم مقوماتها السياسية، في المرتبة الاولى. فما أن تلمس المجتمعات افتقارها الى موازينها الأمنية السابقة أو القديمة، وذلك حين تتصدى للجريمة أو تعمد الى طرد الاجانب وطلاب اللجوء، حتى تضطر الى النزول عن حصرية بعض المرافق السيادية مثل البوليس ومراقبة الحدود سعياً في استعادة السيادة والأمن الوطنيين أو الداخليين.

والحق أن دارس اجتماعيات العولمة الراحل حدس في شعبوية اليمين الاوروبي، ثم في شعبوية اليسار حين الاقتراع على مشروع الدستور الاوروبي في 2005، «ظلامية جديدة» موضوعات نضالها الاثيرة هي مكافحة الأفول والانحطاط والسعي في تجديد القيم والجماعات (الأقوام) العصبية والأصلية. وهي موضوعات أو معانٍ سبق للحركات الفاشية والنازية والقومية الاصولية، بين الحربين الكونيتين، أن قدمتها وصدرتها، وأدارت عليها شواغلها وخططها الصناعية والعسكرية على حد سواء. وتشترك الشعبويتان في غايات يمينية، قومية وأصلية، وفي مناهج أو أدوات يسارية، مثل التنديد والنقد الضاربَيْن عرض الحائط بالمحرمات، والمشرعّيْن الباب في وجه الضغائن على الحداثة والباعثين هذه الضغائن. وهما تترتبان، على مقادير متفاوتة، على تعريف العولمة. فيذهب تيار الى تعريفها بتعاظم «التشابك» (والشبكات على أنواعها وأصنافها هي مرآة هذا التعاظم)، وما يترتب عليه من تعالقات، وتبعيات متبادلة، وتدفقات عالمية (مالية ومعلوماتية وسلعية)، وهويات وشبكات اجتماعية تعلو دوائرها الدوائر الوطنية والمحلية وتتخطاها.

ويرى تيار آخر أن ركن العولمة هو «إلغاء المكان بواسطة الزمن» (التزامن) على قول هارفي. فوسائط التواصل الجديدة، من طريق الشبكة العنكبوتية وفروعها و»تطبيقاتها»، توحد أجزاء الكرة الارضية ونواحيها، وتدمج أوقاتها وأوقات أهلها في وقت (متواقت) واحد. وعدد الناس أو الافراد الذين يتَّجرون على صعيد عالمي، أو يتولون أعمالاً تدعوهم الى الاقامة في أكثر من بلد واحد والى الانتقال بين بلدان كثيرة، أو تربط بينهم علاقات غرامية أو زيجات من غير أن يقيموا في بلد واحد، هؤلاء لا ينفكون يتكاثرون يوماً بعد يوم. والهويات والولاءات السياسية أقلعت عن الاقتصار على هوية وطنية واحدة أو ولاء مفرد. ولا ينكر بِكْ حقيقة كلا التيارين أو تعريفه العولمة. ولكنه يدعو الى حملهما، أو حمل الوقائع التي يصفها التياران، على انعطاف تاريخي. والقرينة البارزة على الانعطاف التاريخي هذا هو امحاء الفرق بين ما هو وطني وبين ما هو دولي داخل إطار (سلطة) سياسة داخلية عالمية غير واضحة القسمات بعد.

الحداثة الثانية

وعن هذا الفرق المتصدر تفرعت مفهومات الحداثة الأولى (منذ القرن الثامن عشر الى أواخر القرن العشرين)، الراجحة والغالبة، عن المجتمع والهوية والدولة والسيادة والمشروعية والسلطان والسلطة. وعليه، ينبغي السؤال أولاً عن كيفية تصور عالم أو دينامية عالمية أبطلت المسائل والمشكلاتُ المترتبة على الحداثة الجذرية والراديكالية أركانها السابقة، ومنطق فعلها العائد الى نظام الدول الامم، على نحو ما أبطلت فروقاً وهيئات أو مؤسسات تاريخية جوهرية. ولا يقتصر الفرق الباطل، أو المبطَل، على ذاك الذي بين الوطني والدولي، بل يتعداه الى الفرق بين الاقتصاد العالمي وبين الدول (الوطنية)، و(الفرق) بين حركات المجتمع المدني العاملة على نطاق عالمي والمنظمات الأممية وبين الحكومات الوطنية. وثمرةُ بطلان الفروق أو إبطالها هي سياسة داخلية عالمية يتعدى فعلها، منذ اليوم، الخطوط الفاصلة بين الدائرتين التقليديتين، وغدت مناطَ منازعة على السلطان لا يُعلم مآلها أو عاقبتها، ويتولى أصحابها المتنازعون المفاوضة على الحدود، وعلى القواعد الاولى والفروق الجوهرية.

وحين ينفك الوطني من دائرته (الوطنية)، ويخرج الدولي من مداره أو نطاقه (الدولي)، تفقد الواقعية السياسية إذا هي بقيت أسيرة دائرتها الوطنية، نفاذها وفاعليتها. وينبغي إبدالها بواقعية كوسموبوليتية، على ما يلخص أولريخ بكْ دعوة كتابه. وتولي الواقعية الكوسموبوليتية المكانة المتصدرة الى الاقتصاد العالمي، ودور أطرافه وأقطابه في بيئة دول متحالفة ومتنازعة. وتولي كذلك مكانة أولى استراتيجيات الحركات المناوئة للمدنية، شأن الشبكات الارهابية التي تُصْلي الدول والمجتمعات عنفاً مخصخصاً أو صادراً عن الجماعات والمصالح الخاصة. وعلى الواقعية الكوسموبوليتية الإجابة عن مسألتين: ما هي الاستراتيجيات التي يفرضها أقطاب الاقتصاد العالمي على الدول؟ وكيف يسع الدول، في مقابلة ذلك، استعادة قوة على المنازعة السياسية العالمية تقسر رأس المال العالمي على الانقياد الى نظام كوسموبوليتي يستبطن حرية سياسية، وعدالة شاملة، ورعاية اجتماعية وحماية بيئية، لا غنى عن التزام موازينها جميعاً.

فمنذ اليوم، تكاد لا تحصى أعراض الحداثة العمومية: من التغير المناخي ودمار البيئة والاخطار المترتبة على التغذية والتهديدات المالية الكونية الى الهجرات السكانية العريضة ومترتبات التقنيات المجهرية والجينية المتجددة وهجرة الاوبئة... ويؤدي إعمال التقنيات هذه الى السؤال عن أسس الحياة المشتركة، واختبار نتائج انقلابها رأساً على عقب في حياة كل إنسي (من التخصيب والولادة الاصطناعيين الى إعمال الخلايا الجذعية في التطبيب). ومن العسير تصور عالم آمن، غداة 11 أيلول (2001)، ما لم يكن هذا العالم مشتركاً، حقيقةً وفعلاً، يقر للغير بغيريته، وقادراً على إدراك التقاليد القومية والإتنية، والوطنية والدينية، وفهمها، وإفادتها من مبادلاتها وتشاركها هذه المبادلات.

وينبغي أن يقود إحصاء هذه الظواهر، وجمعها بعضها الى بعض، وتدبرها بعضها في ضوء بعض، الى تبديد إلفتها وبداهتها الوصفيتين والتقريريتين. فالدول والهيئات والوكالات والمنظمات التي تتعاقد على برامج وخطط سياسية، وتنوي التصدي لمشكلات وقضايا متشابكة مشتركة وعامة مثل تبييض الاموال وغسلها، أو تفشي السندات المالية المسمومة في أوصال الجهاز المصرفي والمالي العالمي أو السطو على الاتصالات الخصوصية، أو تعاظم التجارات المحظورة والمزورة من المخدرات والمواد المشعة الى السلاح والمعادن الثمينة والاعضاء البشرية- هذه الدول والهيئات لا تصدر مداولاتها ولا قراراتها عن (معرفة) بصيرة بأركان مشروعيتها. فهي لا تلم بالمعاني التي تقع عليها أو توضع تحت أسماء مثل «سياسة» أو «دولة» أو «سلطة» أو «إدارة»، شأن الجمهور. وآية هذا الاختلاط أو التخليط اضطلاع جماعات محلية وضيقة بنفوذ كبير على نطاق عالمي، وتولي أقطاب عالميين الحل والعقد في دوائر محلية ضيقة، وتملصهما كليهما من تسديد الرسوم المهنية المترتبة على أعمالهما.

وحَمَلَ عمومُ التشكك في الانشطة الارهابية دولاً ديموقراطية وقوى عسكرية على الاجازة لنفسها «رخصة صيد الارهابيين» من غير التزام الحدود الوطنية، ولا التقيد بمعاهدات تسليم المطلوبين وإجراءاتها القانونية والقضائية. وهذا يُشبِّه حال «سلم دهري» (لا نهاية زمنية له) قريب من حال «حرب دهرية»: فيبيح السلم الاجراءات والأحكام الاستثنائية على النحو الذي تبيحه الحرب، سواء بسواء. وفي الاثناء،لا تزال الحدود والفروق الاقليمية المتفرقة قائمة على رغم التباسها بعضها ببعض وتداخلها. فما معنى «السيطرة المشروعة» بهذه الحال؟ ويخلص أولريخ بك من هذا الى الافتراض أن العالم، أي «أهله»، يشهد تدميراً ذاتياً خلاقاً للنظام العالمي «المشروع»، الى اليوم، والمولود من ولاية الدول- الامم عليه. وانقلاب العالم من حال حال، أو من طور الى طور، «تطور شديد الالتباس»، ولكنه يضمر فيما يضمر «نظرة كوسموبوليتية». وعليه، فـ»صدام الحضارات» قد لا يكون تشخيصاً دقيقاً ولا وحيداً لمرحلة التدمير الذاتي الخلاق، وفوضاها العظيمة (على نعت توراتي وقرآني متضافر). وقد تعد المرحلة بولادة حضارة انسانية يرعى حضنُها تقاليد وروافد كثيرة المنابع، ومختلطة المياه.

وينبغي أن يبدد مفهوم «الكوسموبوليتية»، على النحو الذي يُعمَل في هذه السياقة، المعنى النخبوي الذي تتذرع به المطامع الامبريالية الى ترجيح كفتها، ليدل على معايير الكثرة وألوانها ومنازعها، والاقرار بها في السر والعلانية، وتضمينها الاوضاعَ الاجتماعية والاحوال التاريخية المتفرقة. وذلك على شاكلة فهم متعارَف ومشترك، شائع في دوائر واسعة من الجمهور، ويقوم منه (من الفهم) مقام الحدس. وإذا كان شعار السياسة الواقعية الوطنية أو «القومية» يقضي بـ»بلوغ الغايات الوطنية من طريق وسائل وطنية»، فشعار السياسة الواقعية الكوسموبوليتية هو :» سياستنا وطنية ويتوجها النجاح على مقدار كوسموبوليتيها». فالأطر والاحوال العالمية والمشتركة توجب مشتركات وجوامع تتقاسمها الامم والشعوب، على مقادير متفرقة ومتفاوتة، من غير شك، ولكنها تدعو الامم والشعوب الى التوسع في شركتها ومعالجتها. وموازنة السيادات الوطنية بعضها بعضاً، وإفضاؤها الى مقايضة المكاسب والخسائر على نحو تتبدد معه كلتاهما ويرسو الحساب على صفر، يكذبها التاريخ القريب. فلا الحرب الثانية انتهت الى مثل هذه الموازنة، ولا الحرب الباردة حققتها.

الاستقلال من طريق التبعيات

وإيجاب الروابط التعالقات بين السياسات والمجتمعات ينبغي أن يفضي الى محصلة موجبة وفائضة، والى تعظيم الاطراف كلها مكاسبها.

ففي عصر الازمات والاخطارالشاملة يضطلع انشاء شبكات التعالقات والأواصر (المتبادلة) بين المجتمعات ودولها بتوسيع هامش استقلال المجتمعات والدول الذاتي، ويحرر هذه من القيام منفردة بأكلاف معالجة باهظة لمفاعيل الازمات، وآثارها المتشابكة. وأصدق ما يكون هذا في الشأن الاقتصادي الذي تؤدي عولمته الى زئبقية ليس في وسع الدولة الوطنية، بالغاً ما بلغ سلطانها، احتواءها أو الإحاطة بها. وبحيال تداعي مفاعيل العولمة وتناسلها، حري بالذين تتطاول إليهم هذه المفاعيل، وهم المزدوجو اللغة و»البدو» (أو البادون والظاعنون) والمقيمون على سفر ورحلة وفي الثنايا بين الحدود، (حري بهم) ألا يقتصروا على جذورهم، وأن يجمعوا الاجنحة الى الجذور، والاختبارات الكثيرة الوجوه الى النازع البلدي والمحلي. فمن في مستطاعهم التقلب بين أظهر العالم على شاكلة مواطنين كونيين قد يضطلعون بدور قاسمٍ مشترك ثقافي بين مجتمعات غير متجانسة النسيج، على ما هي حال مجتمعات عالمنا اليوم. ويطرح هذا مسألة حقوق الانسان، في أحوال الاقليات والاجانب الهامشيين، على وجه يحتسب الوقاية من انفجار العنف والثأر من الخيبات والمهانات التي تلحق بالبشر. فعولمة مطالع القرن الواحد والعشرين يفرضها الأقوياء (أهل القوة)على الفقراء (أهل الضعف). والأقوياء هم السباقون الى قطاف ثمرات عولمة الحداثة الأولى، غير الكوسموبوليتية، وينسبونها الى انفسهم، ويصبغونها بصبغة رغباتهم ومصالحهم. والتسليم بهذا الأمر، على نحو التنصل من العولمة ونسبتها الى «النيوليبرالية» أو «الليبرالية المتوحشة»، على ما يصنع شطر من التيارات المعارضة، ليس قدراً لازماً.

وإذا بدا، الى اليوم، أن قواعد تفاعل الأقطاب الثلاثة الكبيرة والمؤثرة في مصائر العالم (الدول والمجتمع المدني العالمي ورأس المال) تقضي إما بربح قطب واحد من الأقطاب نظير خسارة قطب آخر وإما بخسارة الأقطاب الثلاثة من غير استثناء، فذلك عائد الى افتقار التشخيص الى الواقعية، والى الكوسموبوليتية، معاً. فيميل المراقبون، على اختلاف مواقعهم وتفرقها، الى تصديق منطق رأس المال، وزعمه لنفسه الاستقلال التام داخل اطار الاقتصاد «الكلاسيكي» والغايات السياسية. وكان هذا الزعم سُلّم ارتقاء «تحليل المبادلات والثروات»، في القرنين السابع عشر والثامن عشر الاوروبيين، الى نصاب «علم الاقتصاد». ومن هذا المنظور أغوت الايديولوجية النيوليبرالية الأنانيات الجامحة ودعتها الى منافسة من غير قيد ولا كابح، وأقنعتها بأن غلبة رأس المال وسلطانه لا بد أن تفضي، في آخر المطاف، الى عدالة عامة لا تستثني من توزيع العوائد المتعاظمة الفقراء المدقعين أنفسهم. وعلى هذا، فلا جدوى من التمسك بالدولة (الاجتماعية) ومرافقها التي تتولى بعض التوزيع والتعويض على «المحتاجين». وجزءٌ من رجحان كفة رأس المال هو تسلطه على إيجاب القواعد الناظمة للعلاقات الاجتماعية والسياسية. فالدول، أو الكيانات السياسية، لا تجاري منطق رأس المال الليبرالي الايديولوجي هذا. ولكنها تحجم عن اللحاق به حيث هو، وتزعم مقاومته ومقارعته من طريق تمسكها بالنطاق الوطني والتقليدي.

ويضطلع المجتمع المدني العالمي وفروعه الجمعية الكثيرة، بأدوار تتصدى لسلطان رأس المال ونازعه الى فرض منطقه على السياسة الداخلية العالمية. والسلطان النقيض الذي يملكه المجتمع المدني العالمي هو الإضراب المنظم، وكف العاملين عن العمل. ونظير الاضراب، يسع رأس المال صرف العاملين من العمل. ولا يزال هذا الضرب من جدل السيد والعبد سارياً في نواح كثيرة. ولكن «أوراقاً» جديدة طرأت على مقدرات رأس المال وموارده، أبرزها زئبقيته العالمية وحركيته المرنة. ويمثِّل أولريخ بِكْ على أثر زئبقية رأس المال الجديدة بسياسة فولكسفاغين، ماركة السيارات الالمانية المعروفة، في أوائل العقد الاول من القرن الواحد والعشرين. فبعثت الشركة العتيدة حماسة النقابات والمستشار الاشتراكي الديموقراطي غيرهارد شرودير ومديري الشركات، جميعاً، حين أعلنت خطة تقضي بإلزام العاملين الجدد العمل وقتاً أطول لقاء أجر أقل. ولم يلبث أصحاب العمل أن طلبوا «فتح» هرم الأجور، وسموا هذه السياسة «مرونة». ومعناها رمي أعباء المنافسة الشاملة وأكلافها على العمل والأجور. ولوحت فولكسفاغين، في خضم المفاوضات على اشتراطاتها، بصناعة مركبتها الجديدة، ميني- فان، إما في سلوفاكيا أو في الهند. ومصدر حماسة «الحزب العمالي» والنقابات حؤولهم دون نقل صناعة المركبة الى شرق أوروبا أو جنوب آسيا. (ووسم بِكْ آخر كتبه بعنوان يردد صدى إشاراته هذه، «لا لأوروبا ألمانية»).

والباعث على الخوف، في هذه الحال، هو تردي أجور العمال وتعويضاتهم الاجتماعية. وفي غمرة هذا الخوف يُغفل عن الخسارة التي مُنيَ بها عمال الهند وعمال سلوفاكيا، جراء إحجام الشركة الالمانية الكبيرة عن إنشاء مصنع جديد في واحد من البلدين، والتوسل بالتنقيل او التعهيد في سوق رساميل لا قيد على مرونتها او استقبالها الاستثمارات على أنواعها. وعلى خلاف موارد رأس المال وسلطانه، ينهض سلطان المجتمع المدني العالمي النقيض على «المستهلك السياسي». ويقوم سلطان المستهلك السياسي النقيض على امتناعه، ساعة يشاء وحيث يشاء، من الشراء. وليس في جعبة رأس المال، ولا في احتياطه الاستراتيجي، رد جواب على سلطان المستهلك النقيض. وليس في وسع أحد معالجة حلف المستهلكين وتعاهدهم على الامساك عن الاستهلاك والشراء من طريق الهجرة الى بلد آخر. فمجتمع الاستهلاك، اليوم، هو المجتمع العالمي القائم فعلاً. وليس بين المستهلكين وبين العاملين وجه شبه: فالأولون غير مقيدين باحتياجاتهم ولا بأوقات تلبيتها ومواضع هذه التلبية، بينما الآخرون غير مخيرين تقريباً في قبول «مقترحات» سوق العمل.

المستهلك السياسي والارهابي

وإذا قوّى المستهلك رابطته بشبكة أقرانه وامثاله، وبادر بعد التنسيق الى تعيين غايات دقيقة التعريف، أمكن تخففه من إكراه حاجاته الملحة وقيودها، وانتظامُه في سلك يتعدى الأطر الوطنية والمحلية من مقارعة المصالح والقوى المتكلتة والمناوئة. وشرط قيام السلطان النقيض تصدي مناضلين من المجتمع المدني لانجازه، وتبنيهم تحقيق وسائطهم. وليس هذا بالأمر اليسير. فالدعوة الى مقاطعة بعض السلع أو المنتجات تتوجه الى أفراد وليس الى منظمات أو أسلاك. وما يجمع الافراد، في عصر الفردية والحداثة الثانية، لا غنى له عن الاخراج المسرحي والاعلامي ولا عن إعمال الرموز الجامعة والعميقة. والأمران، الإخراج المسرحي والاعلامي وإعمال الرموز، لا يُبلغان من غير تكلفة باهظة. ويقع تمويلها على عاتق المستهلك السياسي. فهو من يقتطع قوته الشرائية بعض هذه التكلفة. ومن غير قوة شرائية يستحيل على المستهلك أن يسهم في الحملات التي تتولى تعبئة المجتمع المدني العالمي. وهو، المستهلك، يحصل هذه القوة من رأس المال، القطب الغالب والراجح في عملية التوزيع وسياسة المداخيل. وغلبة كفة رأس المال ، على هذا النحو، قيد على تمويل المجتمع المدني العالمي سلطانه النقيض، ومقارعته سلطان رأس المال.

ولكن القيد لا يبطل أصل المسألة، أي الحاجة الى اضطلاع المجتمع المدني بإيجاب سلطان جمهوري، وبإيجاب هذا السلطان من طريق أو نهج جمهوري. ويفترض النهج الجمهوري، على خلاف الاستبداد (« العادل»)، منازعة سلطان نقيض يلازمه ولا ينفك منه. ولا يستولي السلطان النقيض على السلطان إلا في معرض المنازعة وسياقتها. والسياقة هي قوام نظام الهيئات والابنية الذي يسوس المجتمعات، وتسوس نفسها من طريقه. ويرى بِكُ أن فكرة استيلاء المجتمع المدني على السلطة جديدة، ولم تختبر أو تمتحن بعد. وهو يسمي التناضح بين الدولة والمجتمع المدني، أو استطراقهما (على شاكلة الاواني المستطرقة التي يوحد اتصالها مستوى السائل فيها)، «الدولة الكوسموبوليتية». ويُفترض في أفكار هذه الدولة، وفي نظرياتها وهيئاتها أو مؤسساتها، أن تنشأ في سياقة تحررها من أطرها ومبانيها الوطنية، على نحو ما نشأ رأسمالٌ جديد في معرض عولمة المبادلات وزئبقية الاستثمارات وتنقيلها.

ولم تفت جدة المثال الرأسمالي وعولمة المجتمع المدني الجماعات أو المنظمات الارهابية. فأسرعت الى الاحتذاء عليها، وأفلحت في الارتقاء (الى) مرتبة أهل القوة العالميين، ونافست الدول والاقتصاد والمجتمع المدني على هذه المكانة. فانفكت من موجبات أو قيود المحل أو البلد، وتحررت من المثال المركزي وقسره، وبادرت الى الفعل على المستويين المحلي والدولي معاً. وبينما تتصدى جمعية غرينبيس لمقاومة الازمات البيئية، والتشهير بعواملها وأولياء هذه العوامل والمسؤولين عنها، وتندد «أمنيستي» (أو منظمة العفو الدولية) بانتهاكات الدول حقوق الانسان، تطعن الجمعيات غير الحكومية الارهابية في احتكار الدول العنف. والمنظمات الارهابية لا تقتصر على «الارهاب الاسلامي». ففي وسعها الشراكة مع كل الايديولوجيات، ومع كل الاصوليات. وينبغي تمييز رهاب حركات التحرر الوطني، المنغرسة في إقليم وفي إمة، من شبكات الارهاب العاملة على نطاق يتخطى حدود الدول وينتهكها، وتبطل في الاثناء مباني الحروب والجيوش الوطنية.

وصور التهديد الناشئة عن أفراد، وعن شبكات تحتية لم تبلغ مستوى الدول (على رغم أن بعضها حمل نفسه على «دولة»، وعلى «خلافة» أو امبراطورية في آن) تشغل مجتمع الدول وهي تشغله اليوم فوق ما شغلته مطلع العقد الاول.

والانتحاري الارهابي هو نقيض «المرء الاقتصادي»، الهاجس بالوقت والعمل والاستثمار والنتاج، ولا يبالي إلا بتعظيم خسائر العدو من غير إقرار بمعيار أخلاقي أو مادي. ويبعثه هذا على قسوة مطلقة. والعملية الارهابية الانتحارية فريدة: فصاحبها لا يقدم عليها أو يرتكبها إلا مرة واحدة، والسلطات لا تحتاج الى إثبات الجريمة وتحقيق نسبتها الى صاحبها، على خلاف الجرائم «العادية». فالجريمة نفسها، والإقرار بها، وقتل القاتل نفسه في العملية، متزامنة وتحصل في وقت واحد. ولا يستحيل أن تصدر دول، أو أجهزة عسكرية هي جزء من دول، الامرَ الى الانتحاري الارهابي بانجاز علمه، هذا بينما الارهابي الانتحاري هو ثمرة حال جديدة تصبغ الحرب بصبغة فردية. فيبادر الافراد الى شن «الحرب» على الدول، فلا تبقى الحرب شأنَ الدول ووجهاً من وجوه العلاقات الدولية. ويتوسل الارهابيون في عصر العولمة بالسلاح الجرثومي، على نحو لم يكن متاحاً للأفراد أو للمنظمات الصغيرة والفقيرة، وبسلاح نووي جيني في حجم صغير. فالتقانة المجهرية ولدت، أو في وسعها أن تلد أسلحة شديدة الفتك والضرر بتكلفة متواضعة.

وفي الاحوال كلها، خسرت الدول احتكار أسلحة الدمار الشامل. وتترتب على تعاظم سلطان الافراد العلمي والتقاني والعسكري بإزاء الدول، وقياساً عليها، مفاعيل سياسية «ثورية». فالحواجز التي حجزت طويلاً بين المجتمع المدني (وأفراده) وبين «العالم العسكري» لم تبق قائمة. وضعف هذه الحواجز يفضي الى عسكرة المجتمع المدني والزج به في دوامة عنف وبائي. وإذا تسللت العسكرة الى المجتمع المدني عمَّ التشكك في الافراد (المواطنين) وفي المجتمع كله، ووجب على المواطنين إثبات براءتهم من التهمة، وجاز لأجهزة الامن المبادرة الى مراقبة شاملة من غير علة أو ذريعة إلا الوقاية والاحتياط الأمنيين. وحيث يجوز التشكك في عموم المدنيين، والتوقي منهم، لا تستقيم ديموقراطية. ولا ريب في أن اضطرار الدول الى عقد أحلاف فيما بينها على محاربة مواطنين تشك في ولائهم، وتخشى خروجهم عليها، وقتلهم مواطنين آخرين، لا يؤاتي لا المواطنة ولا المساواة في الحقوق والواجبات.

قد يخلص قارئ الفقرات التي مرت، وهي توجز ببعض الدقة عُشر صفحات كتاب بِكْ، الى ان كاتبها يعوّل من غير تحفظ على انقلاب العولمة الى كوسموبوليتية سياسية وداخلية. والحق أن بِكْ، شأن استاذه ودليله يورغين هابيرماس لا يعوّل إلا على بصيرة معاصريه وإرادتهم وحريتهم، وعلى سعيهم في سبيل «بلوغ» المثال الكوسموبوليتي وأفقه. فهو لا يغفل، في ضوء حوادث سبقت نشره كتابه، مثل حرب كوسوفو في 1999 وحرب أفغانستان في أواخر 2001 وبينهما مهاجمة «القاعدة» نيويورك وواشنطن، عن احتمال انحراف ما سماه «انسانوية عسكرية» (وما عناه آخرون منذ 1991 وحرب الخليج الثانية بـ»واجب التدخل» العسكري والانساني في حروب أهلية وإقليمية أرهصت على وجوه مختلفة بصفحة الحروب المشرقية منذ 2011) الى مساندة عسكرية تمحو الفرق بين الحرب وبين السلم، وتعهد الى نفسها باستئصال «الشر» والتمكين لهيمنة دولة وطنية.

فالكوسموبوليتية الكاذبة تتوسل بخطابة السلم وحقوق الانسان والعدالة الدولية الى غايات وطنية أو قومية لا رادع لها. وبعض صيغ الكوسموبوليتية الكاذبة - ويمثل عليها بِكْ بمواطنه الالماني فيخته صاحب «الوطنية ونقيضها» (1806-1807)، فالاقربون أولى بالمعروف- يعلق إرادة بلوغ غاية الوجود الانساني على النوع الانساني نفسه وفيه، وينيطها بالوطنية الالمانية، وبتوليها بث الكوسموبوليتية بالأمة الألمانية أو «الدولة الاوروبية التي تتربع في ذروة الحضارة» (على قول فيخته). وهذا ضرب من المصالحة اللفظية والخطابية التي تجمع من غير فرق ولا تباين القومية والانسانية («الرسالة») تحت عباءة انبعاث الامة. وعلى هذا، ينبه صاحب «السلطة ونقيضها في عصر العولمة»، وعلى خلاف البرنامج الليبرالي الجديد وزعمه لنفسه القوة على انتظام ذاتي ومشروعية ذاتية، ينشأ الاطار السياسي العالمي عن البدائل التي يقترحها ويوجبها من داخل موازين العلاقات والمنازعات، وفي ثناياها. فالخطابة الكوسموبوليتية لا تنفك مسرح منازعة بين حركات تنزع الى الهيمنة وبين أخرى تعارض هذا النازع، وتسعى في لجمه وفي استيلاده صيغ حرية وعدالة عموميتين.

السبت، 7 مارس 2015

شمعة ضعيفة في تشييع (جيل) بشير هلال

8/3/2015 (المستقبل- نوافذ)
  يتمنى واحدنا أمنية (بل أماني) حارة ومحمومة لو وسعه أن يكتب في صديق أو صاحب قضى، ومضى على وجهه الى ملاقاة مصيره الإنسي، أن الصديق أو الصاحب كان «أسداً من آساد (الدين)»، أو شهيداً « في قافلة الوجود» ، أو آية من آيات الإبداع الانساني وولياً من أولياء «الشعب» و»التحرر»، وابناً باراً من أبناء الاقنومين في واحد. ويتعذر مثل هذا التأبين في حال بشير هلال، الصاحب الذي مضى قبل أيام الى ملاقاة «الوجه»، على ما تقول عربية غير قاطعة فيمن فقد وجهه، واستحال عليه من بعد التوجه على غيره وإليه، واستحال على غيره التوجه إليه وعليه، في آن مبهم مستغلق وبدهي معاً. وعلة التعذر، في معرض صاحبنا، ليس مردها الى صدق الأحكام في هذا المعرض أو الى كذبها. فقبل البت في الصدق أو الكذب، ينبغي البت في جوازهما وفي مناسبتهما «المادة» التي يُعملان فيها.

ففي «العالم» الذي أقام به الصديق الراحل، على ما أحسب، ولم أعرف منذ نحو الثلاثين عاماً انه غادره الى غيره، افتقرت الأماني التي تقدمت العبارات عنها، مثل القول في الواحد أنه أسد أو شهيد أو آية أو ولي أو ابن (يستوفي الكناية عن نسل الآباء)، الى ما صَدَقها، وإلى تحقيقها، أي افتقرت الى جمهور يحملها على الصدق والحقيقة. وجلي أن الجمهور المقصود بالجملة المتقدمة هو دائرة من الناس شاركها بشير هلال اعتقادها وتصديقها، وشاركته الاعتقاد والتصديق، على مقادير متفاوتة. ويكذب زعم بعض المراثي في الصديق الراحل. وهي صدرت عن بعض كبراء القوم وأعيانهم، حسباً ونسباً ومكانة وموارد ودوراً في الحوادث الجسام التي قلبت أركان العالم المشترك هذا رأساً على عقب. فهؤلاء، الكبراء، لا يزالون يركضون في ميدان يصول فيه الآساد والشهداء والآيات والأولياء والابناء المتحدرون من أصلاب الآباء العظام ويجولون. وذلك غداة خمسة قرون تامة على وراثة أذرع الطواحين التي يحمل إليها أهل الفلاحة والزرع من أراضي الجوار البخيلة غلال القمح والشعير والذرة سيوفَ العماليق ورماحهم وسلاحهم. وهم، الكبراء إياهم، يشاركون كبار قادة الميليشيات الاهلية و»رجال موتها» (على ما سمى أصحاب رفعت الاسد، ومجندو قواته وقوات شقيقه الخاصة، أنفسهم غداة 1982 ومآثرها في حماة، ميادينهم وبعض مآثرهم وأكاليل غارهم، على ما يذكِّرون بين الوقت الوقت وينوهون).

وتراءى لي قبل ثلاثين سنة يوم التقيت بشير هلال المخلِّف وراءه الحزب الشيوعي و»نضاله التحرري»، و»جبهته الوطنية»، وقواته «المشتركة» الفلسطينية اللبنانية، وحروبه الملبننة والاهلية التي حمله عماه الصفيق والأحمق والاحمر على المرحلة البورجوازية من ثورة عمالية واشتراكية أممية تحت لواء الكي جي بي السوفياتي-، أن ما أخرج بشير هلال من أسر هذه الخرافات، ورفع عن رأسه وصدره وكاهله ثقلها المهلك والمميت، هو طلب الإفاقة من نشوة الترهات الشيوعية والتقدمية، وصورها الفقيرة والخلابة. فكانت تسمية أعمال القتل والاغتيال والنهب والخطف أو الحرق والقصف والثارات والنكايات والمكائد المتبادلة، والجبهات المفتوحة على «نيات» ممولين وسياستهم وأرصدتهم واستثماراتهم، (كانت تسمية) بعض هذه بأسمائها العينية وأوصافها جزاءً أو ثمناً يعوض من يسمي بعض أكلاف الخروج من العالم المسحور والبذيء خسارته العظيمة أو جزءاً منها.

وأنا أتكلم عن التعويض جزافاً وتخميناً. ويبعثني عليه بعض ما أخبرني إياه بشير هلال، يومها أو بعدها بقليل، راوياً بخيلاً وساخراً بعض فصول نشاطه الحزبي من قبل. فهو عمل في دائرة الحركات المهنية والعمالية، و»تأطيرها» و»قيادتها» و»تنظيمها»، على ما أجمع على القول يومها حزبيون كان يحدوهم طموح محموم الى القيام في محور «الثورة» و»تناقضها الاساسي» المفترض. ودعاه الى هذا العمل ، ربما أو على ما أذكر، ما سلف من دراسته الجامعية بعض مواد حقوقية وقانونية. وحين أبديت اهتماماً حاراً بقدس أقداس ما حسبته وآخرين كثيرين غيري يوماً «تجربة عمالية» اختص بها الشيوعيون اللبنانيون، وانفردوا باستطلاع شعابها الخفية، وأوديتها العميقة والنائية، قبل أن يضلوا طريقها وينسوا أسرارها ويتحولوا جهازاً من أدعياء التصريف والتدبير- اعتذر بشير بكياسة حيية عن اضطراره الى احباط اهتمامي وحماستي. وقال أن ما أصوره أو أحسبه «تجربة»، على المعنى الفضفاض والكشاف الذي بدا أنني أسبغه عليه، لم يتخطَّ محاكاة بعض ما كان سبق لبعض الاصحاب و»الرفاق» أن حاول تجريبه واختباره قبل عشرة أعوام بجوار معامل أو مصانع «كبيرة» في الحازمية أو الشويفات أو تل الزعتر والدكوانة وعين السيدة أو البراد اليوناني والكرنتينا، الى جوار بعض ضواحي صيدا وبراداتها وتعاونيات البقاع وجمعياته ومزارعه.

وقال أن المحاكاة الخجولة هذه ولم أعلم إذا كان هو علم أن المثال المفترض كان يدين بمعظم مواده الى مثالات سابقة «هانية»- نسبة إلى اخبار رواها مهاجر من قبائل الهان المغولية عاد الى دياره ووصف روائع ما رأى على مسامع قومه فخرجوا غزاة في طلب «روائع الدنيا» بدت ابتكاراً مغامراً في أعين رفاقه ومحازبي حزبه. ولكنه هو كان يعلم من أين جاء بابتكاره. والحق أن خيبة بشير هلال كانت أعظم من خيبتي. فهو اعتقد، ولو على بعض اصطناع وقسر، وآمن بترتب خلاص أو شبه خلاص على اجتماع شرائط الحقيقة والصدق والعزيمة لجماعة من الناس، في المحل «الصحيح» من مجرى التاريخ، وفي الوقت المؤاتي.

وهذا الاعتقاد التمس مسوغاته وبراهينه من «علم» لا راد له، يقضي في المسائل المختلطة ومصادرها الحدسية بمنطق تحليلي بسيط. والتمسها كذلك، في وقت واحد، من ازدواج «العلم» يقينيات ذاتية وحميمية حارة تناسلت على عدد دوائر الاختبارات في «عالم الحياة». ورعى حلف من سموا «قيادات الشباب» في الحزب الشيوعي اللبناني، ونصبهم المؤتمر الثاني ولاة و»كوادر» عليه، ومثقفي الحزب الجهازيين و»المجددين» العصبويين، هذا الاعتقاد وآلاته ومسالكه.

وقامت وصاية الحزب الشيوعي، وهو نواة جبهة «وطنية» جمعت في مرقعة لا تستبعد خِرْقةً من غير نص على تقريب أو تبعيد، قامت وصايته الظاهرة على الحركة الفلسطينية الخابطة خبط عشواء، واللاجئة عنوة الى الحضن اللبناني المدبب، مقام الدليل الموثق (بالرعاية السوفياتية) على دور تاريخي ثابت وقاطع. وضمن الدور المزعوم والمشبِّه ركاماً لا يحصى من التخييلات والأكاذيب والصفقات من كل الضروب والفنون.

فكان الخروج من ركام التخييلات والأكاذيب والصفقات، ومن بنيان هذا الركام الغوطي، مغامرة ورهاناً مغريين بل ضرورين. وبدا، لوهلة أولى، أن الخروج لا يحتاج الى جزاء وثمن، و الى داع. فالتخفف من أثقال الكذب والالتواء والتلجلج، ومن أوساخ المواطأة على التزوير والقهر والقتل، وجد مسوغه الاخلاقي والجامع، والسياسي ربما من بعد، في نفسه، وقام مقام غاية سامية لا تتعداها غاية. والأرجح أن مثل هذا الجزاء الاخلاقي والذاتي طمأن بعض الشيء، ولبعض الوقت، كثيرين «منا»، بينهم على ما أحسب بشير هلال، وحل عقدة، على التقليل، من لسانهم أو ألسنتهم. وكان تكاثر الكتاب والخطباء والمنتدين ومحاوري برامج الكلام المتلفزة والاذاعية، وتعاظم أعداد المدونين والناشرين الحائطيين والمتزلجين والمغردين، من ثمرات حل عقد الألسن التي تضافر التجديد الآلي والالكتروني على تعهدها ورعايتها.

ولكن استعادة الروح الاخلاقية، وتولي التواصل والنشر الاجتماعيين خدمتها وجهرها، لم يؤديا الى إنشاء حيز سياسي فاعل، لاح أن بدايات الحركات «الربيعية» العربية ترهص بنشأته وإرسائه على مقادير متفاوتة. ففي الاثناء، أي بين أواخر ثمانينات القرن الماضي وبين أواخر العقد الاول من القرن الواحد والعشرين (وبعض معالمها تصدع الشيوعية السوفياتية، ونهاية الحرب الافغانية والحرب العراقية الايرانية، وقيام نواة دولة فلسطينية، وانبعاث دولة لبنانية أسيرة، واستجماع الاسلام السياسي والجهادي عوامل سطوته وتبلور حركاته، وبروز الصين قوة متصدرة في سياقة عولمة عشوائية ومتدحرجة ... على غير ترتيب ولا تبويب) خلَفت حركاتِ التمرد والتقوض الوطنية والمحلية المقيدة بكيانات ضعيفة حركاتٌ أهلية واقليمية وعالمية مسلحة. وجمعت هذه في مركَّب متنافر وفاعل، عصبيات الاهل المقاتلة وعصاباتها المنظمة الى أبنية بعض أجهزة الدول وإداراتها وبيروقراطيتها ومواردها، وإلى مرافق أحلاف إقليمية ودولية عسكرية واقتصادية وديبلومسية متشعبة. ودمجت أجزاء بعضها في بعضها الآخر. فولد دمجُها، على تباعد مستويات العناصر المندمجة وتضارب نزعاتها وحاجاتها، أزمات سياسية وأهلية واجتماعية وقومية وجغرافية متفجرة تتغذى ذيول بعضها من تلابيب بعضها الآخر.

وفي النطاق العربي والمشرقي، «الضيق» نسبياً، خَلَف البنيانَ الجبهوي الهشَ والداخلي، ومنظماته المتداعية والملحقة، بنيان أمتن بما لا يقاس من سابقه، «السوفياتي» التركيب اختصاراً. وتولت قوى فتية عامية، راديكالية وخلاصية أخروية، إحدى قدميها في لجج مجتمعات متصدعة والقدم الأخرى في قلب أجهزة الدول الإدارية والأمنية والاجتماعية، (تولت) تدمير البنيان القديم ومرافقه وبعض أهله وجماعاته. وتخلت هذه القوى عن ركام التخييلات والأكاذيب والصفقات الغوطي. وأسفرت، بعض السفور، عن وجوه فظة وغليظة، وسمَّت الهويات والمطامع والحاجات والوسائل والغايات بأسمائها الجارحة والقاتلة: فتركت الصراع الى الاستئصال، والرأسمالية الى امريكا، والهيمنة الى الاسلام وإيران، والاستغلال الى الاستضعاف، والانتصار الى الإمامة والوراثة، والقيادة الى العلماء المجاهدين والشرعيين والضباط، والمسألة القومية الى اجتثاث اليهود من الوجود... فالقتل والقتال هما المعيار والميزان في المجتمع والدولة جميعاً.


ولم يجفل «الجمهور» من نصب القتل والقتال أفقاً ومعياراً. فالدخول الصريح في سلطان العنف وملكه، على خلاف استظلال ركام التخييلات والأكاذيب والصفقات المواربة، «حرر» الجمهور العتيد من دعاوى جبهات التحرر، ودعاه الى «الفعل» وامتحانه القاسي ومعياره المميت. وبدا التحرير والدعوة صادقين. وهما صادقان، حقيقة وفعلاً. فهما لم يعدا بغير القتل والشهادة في الدنيا، وبالجنة والاسلام في الآخرة. وأنجزا وعدهما، وينجزانه غير هيابين الانقسام والخلاف الميدانيين والأهليين، ولا وباء الاقتتال الاخوي وحصاد طواعينه. ويعول التحرير والدعوة على ولادة ولاية شرعية عادلة، أو صنوها خلافة راشدة، من مشاهد الإحياء العميم والممعن، ومن «فعالياته» على قول خليجي عمَّ. وعلى هذا أغمض بشير هلال جفنيه، بعد «رفاق» سبقوه وقبل آخرين ينتظرون، ولا يعتدّ بَدَّلوا أم لم يُبدلوا.