السبت، 20 ديسمبر 2014

صحافيان فرنسيان يرويان بعض الفصول «السود» من العلاقات الفرنسية – السورية الأمنية ...الانخراط مع النظام اقتصر على خدمة احتياجاته البوليسية

المستقبل 21/12/2014
جرى التضليل الأمني والبوليسي، المسمى إعلاماً وصحافة عربيين وملتزمين، على التهليل لصحافيين غربيين يتحفظون عن سياسات أميركية وأوروبية شرق أوسطية. وغالباً ما يصاحب التحفظ العملي والأخلاقي تنبيه الى قصور هذه السياسات عن احتساب وجوه من أحوال الانظمة المحلية تعود على البلدان والمجتمعات الاميركية والاوروبية ببعض المنفعة، أو بدفع بعض الاخطار و»المفاسد»، في لغة الفقه. وعلى هذا، حظي معلقون مثل باتريك سيل وسايمون هيرش، ونعوم شومسكي على نحو مختلف، ومحامون قطعيون مثل جاك فرجيس، ومتخيلو مؤامرات عميقة وكونية مثل الذين قلبوا هجمات 11 أيلول 2001 تجهيزاً تقنياً (و»فنياً) من صنع وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية والموساد الاسرائيلي، هؤلاء حظوا بتصديق عربي واسلامي رفع أحكامهم الى سدة القول الفصل والصادق. ويسعى التضليل الامني والبوليسي في ضم نماذج متأخرة، زمناً، من صحافيين متحفظين أو مشككين يتعاطون التحقيق في الوقائع السورية والايرانية الاقليمية واللبنانية، الى الكوكبة المصطفاة من الأعلام الذين تقدم ذكرهم. وفي عداد القافلة الهزيلة الاخيرة الصحافيان الفرنسيان كريستيان شينو (من «راديو فرانس انترنسيونال») وجورج مالبرونو (من صحيفة «لوفيغارو» اليومية). وهذان نشرا في الاسابيع الاخيرة منتخبات من مراسلاتهما الى «صحيفتيهما»، يعود بعضها الى الاعوام الاولى من العقد السابق، في كتاب وَسَماه بـ»الطرق الى دمشق- ملف العلاقات الفرنسية السورية الاسود» (دار روبير لافون، أيلول 2014 ويعود الترخيص بطباعة الكتاب الى حزيران من العام).

«والطريق الى دمشق» عبارة فرنسية سائرة او اصطلاحية تكني عن ادراك الايمان الهارب منه. وذلك منذ توجه بولس الرسول، حواري المسيح، الى دمشق غداة تعليق الوالي الروماني السيّد «ملك اليهود»على خشبة، هرباً من الندم الثقيل على محاربة صاحب بشارة الخلاص من وَلَد داود، وممسوح المشيئة الابوية، وإيلام أنصاره والمؤمنين به. وفي الطريق من بيت المقدس الى دمشق، قاصداً انطاكية اليونانية والرومانية، وقع الايمان بصاحب البشارة في قلب اليهودي المتعنت والهارب وقع الصاعقة الخاطفة والحارقة. ومذذاك صارت «الطريق الى دمشق»، العبارة، علماً على إدراك المصير المحتوم والمرسوم، أي الإيمان بالمخلص بعد نكران شديد، الهاربَ منه الى «الاميين»، من غير أصحاب الكتب. ومنذ توسط قائد استخبارات سلاح الجو والقوة الجوية السورية، حافظ الاسد، شطراً من السياسة الاقليمية الاوسطية وبعض روافدها الرافد اللبناني والفلسطيني والكردي والارمني والعراقي- وإعماله فِرَقاً مسلحة وإرهابية في مسارح هذه السياسة وجوارها البعيد، دلت الكناية على معانٍ أخرى تميل الى الدلالة على التسليم بإرادة المتربع في سدة السلطان بدمشق وبوسائل إقناعه وشرحه.

فالعبارة «السورية» والاقليمية، حين تنتزع من ملابساتها البولسية ومصائر الرسول الكنسية والمسكونية، لا تخلو من غمز مهين بمن يسلك «هذه» الطريق الى دمشق بعد صدوف عنها. وحين يروي الصحافيان الفرنسيان، اليوم، بعض فصول «سود» من سجلات السياسة الفرنسية، في عهود فرانسوا ميتران وجاك شيراك ونيكولا ساركوزي وفرانسوا هولاند، واستخباراتها المتعاقبة، ومعاهداتها مع «الدولة» السورية الامنية، فهما لا يوحدان هذه الفصول على سوية واحدة من التسليم أو «الايمان» بما سبق إنكاره ومحاربته. فإذا عاد فرانسوا ميتران ونيكولا ساركوزي، بعد قطيعة ونفرة واغتيالات، الى بعض التعاون الامني مع الاجهزة السورية لقاء «اعتدال» سوري نسبي في المسألتين اللبنانية (تعليق اغتيالات الاستقلاليين بعد ولوغ فاحش) والفلسطينية (ترك ياسر عرفات يخرج من بيروت وطرابلس) لم يسلك جاك شيراك هذه الطريق.

وكانت مفاوضة جورج بوش الابن على محاصرة تحكم بشار الاسد في لبنان وتصديعه دولته وهيئاته، من طريق قرار مجلس الامن 1559 وإدانته تجديد ولاية إميل لحود ودعوته الى مصادرة سلاح الميليشيات الاهلية، ذروة سياسة تنكبت السير على الطريق المهينة. ولم يدعه حرصه، في 2006، على حماية اللبنانيين من الرد الاسرائيلي الشرس على الاستدراج الايراني والحزب اللهي، ومن التوسل الايراني والسوري بالنكبة الانسانية والسياسية الى تصديع الدولة والاجتماع اللبنانيين، الى مجاراة الدعوات الامنية السورية، واستجابة طلباتها التجهيزية، إلا في حدود ضيقة.

والى اليوم لم يرجع الرئيس الفرنسي الرابع في مناهضته سياسات التخريب والارهاب الاسدية والعمياء. ولا يكذّب تحفظُ بعض الديبلوماسيين والاستخباريين الفرنسيين عن بعض القرارات الفرنسية «المستعجلة»، مثل استدعاء السفير إريك شوفالييه من دمشق في 2012 أو تصدر الدعوة الى الاقتصاص من القصف الكيماوي على الغوطة في صيف 2013، (لا يكذب) هذا المنحى ولا يبطله. وميل بعض اجهزة الاستخبارات الاوروبية، الاسبانية والالمانية والبرتغالية والبريطانية والفرنسية ربما، الى طلب عون اللواء علي المملوك «صاحب» ميشال سماحة والنائب عن دولة العائلة أو العصابة على «الجهاديين» الاوروبيين المتسللين الى الاراضي السورية والعراقية، و»العائدين من سوريا» غداً، ليس صدوعاً (بعد!) بالاشتراطات السياسية السورية. والاشتراطات السورية، وهي توجز في فتح السفارات من جديد واستئناف علاقات ديبلوماسية تقر بمشروعية النظام المدمِّر، سرعان ما تقوَّض التعاون الامني المزمع.

ويهلل أصحاب السلطان الامني والبوليسي في سوريا لاحتياج الاوروبيين الى معلومات استخبارية عن مواطنيهم المنخرطين في المنظمات «الجهادية» الاسلامية، وبعضهم يزمع العودة الى بلاد إقامته أو عاد فعلاً وارتكب القتل، وقتال دولها، وترويع أهلها. ويرى اصحاب السلطان الى الاحتياج الاوروبي، وجهره، دليلاً على صدق تشخيصهم للزلزال السياسي والعسكري الذي يضرب انظمتهم المتهاوية والمريضة بالاستبداد والتعسف والفساد والتفاوت والتزوير، وقصره (قصر التشخيص) على المنظمات الارهابية «السنية». فهم يخيِّرون الدول الاوروبية، وأجهزتها الاستخبارية التي تتولى مكافحة الارهاب، بين إرهابهم (إرهاب أصحاب السلطان الامني والبوليسي السوري)، وبين الارهاب الاسلامي و»الجهادي» الضخم والشامل. ويميل بعض الاستخباريين الفرنسيين، وهم مصدر أو مصادر الصحافيين شينو ومالبرونو، الى حصر مضار أو أذى الارهاب السوري («والايراني») الاقليمي الرسمي في نتائجه المباشرة مثل الرهائن المحتجزة أو السياسيين الاصدقاء والجنود الذين اغتيلوا او الخدمات التقنية التي خسرتها الصناعة الوطنية. وهؤلاء يحملون انجازاتهم أو إخفاقاتهم على المهمات التفصيلية المناط بهم تولي حلها. وهذا أصل من أصول المهنة الاجرائية.

وهم، والصحافيون والاعلاميون الذين يتعقبونهم ويقتفون خطوهم ويعتقدون معتقدهم الامني المهني والجزئي، يلوحون عند كل إخفاق، وكل إنجاز، بمردود «سياسة أخرى» كانت لو انتهجت لانتجت نتائج مختلفة وايجابية باهرة. فهم، أهل الاستخبار وأهل الاعلام «الامني»، يعزون الى السياسات المعيارية المتشددة، والى تمسكها الجزئي غالباً بحقوق الانسان ومناهضتها الغلو البوليسي في خنق الحريات وقمع المعارضين، إخفاقَ التنسيق الاستخباري، والعجزَ عن الحؤول دون حصول عمليات انتحارية أو اغتيالات «اسلامية» في الداخل أو الخارج. و»ملف» شينو ومالبرونو «الاسود» لا ينفك يلوح بمثل «السياسة الاخرى» أو البديلة هذه، شأن صحافيين أو إعلاميين آخرين كثر يشخصون مكمن الدواء، المفضي الى أعمال انتحارية وإرهابية واغتيالات، في حمل القيادة السياسية أحكاماً معيارية على محمل الجد.

والحق أن عمل الصحافيين الاستقصائيين يجمع التلويح الاستخباري المهني بـ»السياسة الأخرى»، غير المعرَّفة تعريفاً ملزماً ولا دقيقاً، الى الاقرار الموارب وتوريةً بسراب السياسة المزعومة وخوائها، وحتم إفضائها الى انقياد السياسة (الفرنسية في هذا المعرض) الى رغبات السلطان الامني والبوليسي الهاذية والقاتلة. والمهللون المحليون لبعض تلميحات الكتاب الى العلاقة القوية التي ربطت جاك شيراك ورفيق الحريري واحدهما بالآخر وتسليم شيراك بآراء الحريري في أحوال الشرق الاوسط، والى دور مروان حمادة وجبران تويني في «اعترافات» زهير الصديق، واضطلاع هذا بمحل «الشاهد الملك» وجره ديتليف ميليس الى تهمة الضباط الاربعة وسجنهم هؤلاء يغضون عن عمل التحقيق الصحافي الفعلي الذي قام به الصحافيان، ودعاهما الى البرهان على استحالة انتهاج اركان الانظمة والاجهزة البوليسية السورية سياسة غير الابتزاز والترهيب والاغتيال والتدليس. (ولا يبرأ هذا الشطر من التحقيق من بعض الإغفال: فزهير الصديق، الكاذب، جزء من كوكبة شهود زور، على ما سموا، تولوا إشاعة الكذب والاختلاق «المعقولين» في التحقيق المتعثر والبطيء والعسير، وحضَّ التحقيق على التسرع وأوهم ببلوغ الغاية قبل الايعاز الى الكاذبين بالعودة عن اختلاقهم. فشهود الزور جواب القتلة الثاني، أو خطة باء، على افتراض التحقيق يسر الكشف عن الجريمة. وفي شهادة مروان حمادة الثانية أمام المحكمة الخاصة بلبنان، ظهرت خيوط جواب ثالث، أو خطة جيم، حين سأل أحد محامي الدفاع عن بدر الدين الشاهد عن مخابرة هاتفية بعد محاولة اغتياله من هاتفه الى هاتف بدر الدين المظنون. وهذا تحقيق قول رستم غزالة الى حمادة: الاغتيال إما من صنع اسرائيل وإما من صنعك أنت، ولا متهم ثالثاً، فإذا أقررت بذلك أكمل وزير العدل الدعوى وإلا فلا دعوى ولا ملف دعوى ولا محكمة).

فهما حين يتناولان مسألة أولى هي إعداد بشار الاسد الى خلافة أبيه، والمسألة متصلة بدور فرنسي «شيراكي» تقني واستخباري، يقعان تلقائياً على الدور السياسي البوليسي الذي يدور، ولا مخرج منه. وهما يؤرخان لتجدد «الحرارة» في علاقات البلدين، أي رئيسيهما، بانتخاب جاك شيراك في 1995، الى كرسي الرئاسة. وكان شيراك الذي شغل مرتين من قبل، في عهدي جيسكار ديستان الليبرالي الوسطي وميتران الاشتراكي، منصب الوزير الاول، خلص من اختبارات السياسة الفرنسية في الشرق الاوسط، مشرقاً ومغرباً، وأدواره فيها (فهو من ابتدأ تعاوناً فرنسياً- عراقياً أدى الى بيع صدام حسين مفاعل تموز...)، الى ان «مهمة» هذه السياسة الاولى في هذه المرحلة هي استواء سوريا، أي حافظ الاسد، «بلداً عادياً» لا يلبث أن «يندمج في المنطقة»، على قول جان كلود كوسران، سفير فرنسا في دمشق يومها، وأحد مستشاري ميتران من قبل. وحال اضطلاعه بالرئاسة أوفد هيرفيه غيمار، وزير الدولة المالي، الى دمشق وكلفه مناقشة سداد الديَّن السوري، وتوسط لدى كادموسو، مدير صندوق النقد الدولي، وأوصاه بمفاوضة دمشق على اجراءات التعاون المالي.

وعندما توفي الاسد الاب، حسِب شيراك أن فرص نجاح «برنامجه» السوري الاندماجي تعاظمت، وأن الخالف الابن والشاب ألين عريكة من أبيه، وأسلس قياداً. ولم يشك الرئيس الفرنسي في أن دينه على سياسة الاسد، ودوره في صوغ مخرج لدورة قتال اسرائيل و»حزب الله» في نيسان 1996 كان راجحاً، ليس ضئيلاً. فكان الرئيس الغربي الوحيد الذي طار الى دمشق فالقرداحة ليشيع الراحل الى مثواه. ويقول الصحافيان أن مساعدي شيراك، الى شيراك نفسه، اختلقوا، تصديقاً لتوقعهم وأمانيهم، حكاية الرئيس الشاب المتعلم والمنفتح والمتحرر من أخلاق الثكن العسكرية وأجهزة الاستخبار (وهذا ما نبّه اليه الابن نفسه في حديث أدلى به الى مالبرونو ونشرته «لوفيغارو» في 3 أيلول 2013). وحرص شيراك على إحاطة المستخلف، قبل خلافته الفعلية، بعناية أبوية، إنفاذاً لوصية أوصاها إياه الاب، على زعم الرئيس الفرنسي في الجزء الثاني من مذكراته.

وفي الأثناء، كان الشاب الغر والقليل الخبرة والمتشاغل الالكتروني قطع دراسته اللندنية وعاد، غداة مقتل أخيه في حادثة سير أوائل 1994، الى جوار أبيه. فعهد إليه هذا بالاشراف على بعض القطاعات السرية والامنية العسكرية من الاتصالات الجديدة. وولاه إدارة الشعبة «21» واختصاصها التجسس على اتصالات السوريين الجارية. ويلاحظ الصحافيان أن شراء جهاز «فاكس» عادي في سوريا يقتضي التماس إجازة من الاجهزة البوليسية، وأن دمشق العاصمة تفتقر الى دليل هاتف (شأن موسكو السوفياتية في حكم ستالين «العظيم» وخالفيه، و»استغنائها» عن خريطة مترو). وكان بشار الاسد وثيق الصلة بوكيل كبرى الشركات الفرنسية العاملة في قطاع الاتصالات، ألكاتيل، في سوريا. فجمعه هذا بأركان الشركة الفرنسيين. ففاوضهم على إدخال الهاتف الخليوي الى السوق السورية. ومهد لجعله في متناول العموم باختباره في حلقة ضيقة هي الحرس الجمهوري من طريق نظام
GSM مغلق. وفازت الشركة بعقدها الاول على هذا النحو. وكان عقدها الثاني أمنياً كذلك. وبموجبه جهزت موظفي أمن الدولة بهواتف لاسلكية تتلقى المخابرات وترد جوابها في آن، على خلاف التخابر من طريق هواتف لا يسعها القيام بالامرين معاً، على ما كانت الحال. وربطت هواتف أمن الدولة بأحدث مبتكراتها التكنولوجية، وهو شبكة خلوية ضيقة المداخل.

وتولى ولي العهد، وهو في طور التأهيل «السياسي»، ملفاً أمنياً ثالثاً. وكان الطيارون العسكريون السوريون اشتكوا تعذر اتصال الطيارين حال تجاوز التشكيل الجوي 3 طائرات، وعزوا العطل الى شبكة الاتصال الروسية. ففاتح الابن المتدرب شركة ألكاتيل بالأمر. وحال مبادرة الابن الى الخوض في المسألة، وهي توصف بـ»البالغة الحساسية» وتتعلق بإجراء يعرض سلاح الجو وسلامة طياريه لأخطار داهمة، أدرك الفرنسيون، وهم تقنيون من وجه واستخباريون من وجه آخر، أن مفاوضهم هو الرئيس المقبل. وقوَّى الاستنتاج تولية الأب الحاكم ابنه الشاب والقليل الخبرة، في 1998، ما تواطأ إجماع سياسي وصحافي وأمني وضيع على تسميته، على جهتي الحدود، بـ»الملف اللبناني» (وهذا ما أخجل بشار الاسد في مقابلاته الصحافية «اللبنانية» الاولى، فأنكر التسمية، فلما آل الامر إليه صنع ما صنع). و»الملف اللبناني» هو العَلَم على الجوهر الامني للسياسة السورية الاسدية، وهو «انجازها» الفظيع والمدمر من غير ريب. والمسألة اللبنانية، على الوجه أو المقلب الفرنسي، هي عصارة سياسة فرنسا «العربية» في صياغاتها المتعاقبة منذ شارل ديغول في أدواره وأطواره المختلفة.

ولما كانت سياسة الاب تصرِّف شؤون «الولاية» اللبنانية (وهذه ليست لغة الصحافيين) بواسطة الثلاثي عبد الحليم خدام وحكمت الشهابي وغازي كنعان، وحدسَ هؤلاء في المستخلف خصماً إن لم يكن عدواً، وجاراهم بعض أعيان الجماعات اللبنانية على حدسهم أو رأيهم، باشر الابن الخالف عهده على الولاية أو البكلربكوية بإعفاء الثلاثة من وظائفهم أو إقالتهم منها. والاقالة هذه من بواكير «التجديد» الذي اضطلع الخالف «الشاب» والمولج بالمهات الفنية «الثورية» التي عهد بها والده إليه، بها. وهو ترجمها في الداخل استقداماً لبعض الخبراء السوريين المنفيين طوعاً في الخارج إلى ادارته البيروقراطية. فدعا غسان الرفاعي وعصام الزعيم ونبراس فاضل الى تولي مناصب وزارية أو استشارية.

وبينما كان الجنرال ألان بلليغريني، قائد قوة القبعات الزرق غداة 2006 من بعد، يركب أجهزة هواتف «حصينة» أو محمية تصل جاك شيراك ببعض السياسيين اللبنانيين (وبعضهم شأن إميل لحود، الرئيس «اللبناني السوري»، رفض الحصانة)، أوفد الرئيس الفرنسي مدير مدرسة الادارة الفرنسية (
ENA) ماري فرانسواز بيشتيل، وجاك فورنييه، مساعداً الى دمشق، وانتدبها الى انشاء المعهد الوطني للإدارة على مثال «المدرسة» الفرنسية التي يزعم الكاتبان ان بشار الاسد كان منبهراً بها (وهذا ما يجوز فوق الشك فيه، في ضوء فصل الرواية التالي). وأرفق الخبيران الانشاء الاداري بتقرير إصلاحي «شامل» على ما يحب السوريون الحزبيون القول والظن. ويغامر شينو ومالبرونو بالكتابة، على هدى حسبان بيشتيل أن محاورها «صادق»، أن «شاغل بشار الاول هو إرساء ادارة عليا عامة محايدة، مستقلة وفاعلة» (ص84). وفي الجملة التالية يرويان عن الخبيرين تشاؤمهما وإحباطهما حين عاينا «قبضة الاجهزة الاخطبوطية على الادارة». وأسر إليهما عصام الزعيم، وزير التخطيط السابق، استعظامه خفاء جواسيس الاجهزة الامنية في وزارته عليه، هو الوزير. ويسر الى الصحافيين المحققين، بـ»واقعية» مقززة ونموذجية، أنه لا يرى غضاضة في بث الجواسيس في الوزارة شرط أن يُعلم الوزير، وحده من غير شك، بهم.

والفصل الآخر من التعاون الفرنسي السوري يتناول إعداد الدولة الفرنسية كفاءات تقنية صناعية وزراعية، على منوال الخبرة التقنية والالكترونية والادارية التي حسب الرئيس الديغولي الاخير أن «الدولة» السورية تحتاجها أو تفتقر إليها، وفي وسعه هو أداؤها واستمالة الحاكم الفرد السوري من طريقه، وخدمة الصناعة والسياسة والتقنية الفرنسية وحماية الدولة اللبنانية، وفيها صديقه رفيق الحريري (وينقل الصحافيان، بين سذاجات كثيرة أخرى، رأي كريم بقرادوني، «حميم» إميل لحود، في الحريري الأب، وفي افتقار «سنيته السياسية»، على قول الحميم العتيد، الى «الحياد». وهما يغفلان في تعريف الرجل، ومن تعريفه، سلالة الذين خدمهم، على ما جرت العادة في صكوك التجارة المعروفة). وأثمر التعاون «مركز البحوث والدراسات العلمية». ويوم كتب صحافيا راديو فرانس انترنسيونال و»لوفيغارو» كتابهما ثم نشراه لم تكن الصحف أذاعت خبر اغتيال خمسة من باحثي المركز ودارسيه، أوائل تشرين الثاني، وهم 4 سوريين وإيراني، على ما قيل، ولا أذاعت سكوت المصادر السورية النظامية عن الخبر. ويعزو وصف الصحافيين المركز في ضوء بعض مآلاته، صدقهما ودقة تقصيهما.

ويروي أحد وسطاء العلاقات الثنائية أن صورة المركز التي ضمنتها أجهزة الاستخبارات الفرنسية ملفها في الصناعة الكيميائة السورية الاسدية، غداة قصف قوات سورية «نظامية» الغوطة الشرقية أواخر آب 2013، تعود الى 1976، غداة 4 أعوام على إنشائه. وحين إنشائه، يقول الوسيط، كان مؤلفاً من 3 مجمعات: المجمع المركزي وكان يعمل فيه مهندسون نازيون لاجئون الى سوريا، ويعمل في الثاني خبراء من ألمانيا الشرقية، وفي الثالث خبراء من ألمانيا الغربية. ومات الخبراء النازيون، وتبدد الألمان الشرقيون حين انهيار الجدار و»الشرق» معه. وبقي الألمان الغربيون والفرنسيون. وأنشأ الفرنسيون، في 1976، المعهد العالي للعلوم التطبيقية. واستقبلوا في مدارسهم التقنية العليا، عشرات الطلاب السوريين. ويلاحظ أحد السفراء الفرنسيين السابقين في سوريا أن استقبال بوليتكنيك ومدرسة المناجم ومدرسة الدراسات العليا التجارية طلاباً سوريين كان ليكون أمراً اعتيادياً لولا أن «رائحة فاسدة»، على قول الروائي المصري، فاحت من الاصرار الرسمي على إلحاق الطلب في دوائر بحث «حساسة»، مثل الذرة والكيمياء.

ولم يفت سفير فرنسا في دمشق (في 1993)، جان كلود كوسران، وهو مدير جهاز الاستخبارات الخارجية لاحقاً، ملاحظة عودة المتخصصين بفرنسا الى سوريا، وتوجههم الى «البحث» في برامج كيميائية وجرثومية. ونبهت سابقة تعاون صدام حسين مع بعض مختبرات الصيدلة الفرنسية الكبيرة، مثل «ميريو»، وحذو حافظ الاسد وابنه على مثال صدام، المراقبين الفرنسيين الى الاخطار المحدقة ببرامج تعاون دراسية وصناعية من هذا الصنف. وفي الاعوام 1982-1986 استوردت سوريا مواد صيدلانية قفزت نسبتها من مجمل وارداتها من 13.11 في المئة الى 23 في المئة، حين كان الانتاج الوطني يتعاظم بدوره. وانتقل مركز البحوث الى إدارة مدنية تولاها عمر أرمنازي، بعد ادارة الجنرال عادل ملحجي. وأحاط أرمنازي 4 ضباط من الرتب العالية، أحدهم «العالم» الكبير اللواء علي المملوك.